مؤيد الراوي ... الخلاص المستحيل
عادل كامل
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لم اعد أتذكر من أوشى بمؤيد الراوي، كي يتم حجزه، لفترة قصيرة، بعد أن تدخل عدد من زملائه، وفي مقدمتهم فاضل العزاوي، على إطلاق سراحه، مع إن فاضل العزاوي، والراوي، ذكرا اسم هذا المخبر...، المهم إن الشاعر والرسام شفيق الكمالي ـ وزير الثقافة أو الإعلام ، هو من أسهم في تحريره من الحجز ...، فأقام العزاوي حفلة في بيته احتفاء ً بهذه المناسبة، لكن صديقنا جان دمو، بعد أن ثمل، قال ساخرا ً:
ـ حررتم الرجل من السجن، كي تخرجوه إلى السجن الأكبر!
لم أر مؤيد الراوي بعد تلك الأمسية، فقد سافر إلى بيروت، ولا أتذكر من اخبرني ـ بعد أشهر قليلة ـ إن الراوي قال له: لم يبق تروتسكيا ً في بغداد إلا عادل كامل!
لم اصدم، بل ذعرت، مع إن اسم تروتسكي لم يكن يشكل تهمة، كما هو اسم ماركس، أو لينين، أو ستالين، أو فهد، أو سلام عادل، فالذين تصفحوا "الثورة المغدورة" و كتاب تروتسكي حول الإرهاب والشيوعية، وبعضا ً من مقالته حول الفن والأدب، قلة قليلة...، ولا اعتقد إن أحدا ً من العاملين في الأجهزة الخاصة كان على معرفة بها..، أو تعنيه مثل هذه المعرفة! وأنا بدوري لم أبد إلا إعجابا ً، بفكرة الثورة الدائمة، المفهوم ـ الذي لم أتخل عنه، مع نفسي في الأقل ـ فلا يمكن أن ينفصل عن قوانين الطبيعة، والمجتمعات، وصيرورة التاريخ...الخ، فمادام الخلود، بوصفه ذروة ـ وهو يعني بالعربية: السكون، الجمود، والموت ـ فان ديمومة الحركة ليست عشوائية، أو محض تراكمات مصادفات، وإنما ـ كي تصير تاريخا ً ـ فإنها بانتظار من يمنحها شرعية أن تسهم في تقليص المسافة بين حدود المتضادات: الثراء الفاحش إزاء الفقر المدقع، المدينة الريف، الإسراف في العنف إزاء المهادنة، التفاؤل المطلق إزاء اليأس التام، الإفراط في التشدد إزاء الفوضى، الاجتهاد في اختراع الممنوعات والمحرمات، إزاء الانفلات، الإرهاب إزاء المرونة، الغباء إزاء العقل...الخ، إنما كان تروتسكي قد أغواني ـ بفعل غيفارا ً الذي قدمته هوليود ببذخ فاق وعينا ً لمفهوم الثورة الدائمة ـ كان السبب كي أتذوق مرارة تجربة لم ادعها تمتد أكثر من زمنها....، كي أدرك إننا كنا إزاء صعوبات كان مؤيد الراوي قد اكتوى بجمراتها أيضا ً.
كان الراوي، نموذجا ً متقدما ً لجماعة أنتجتها كركوك، لأسباب عديدة، ومنها إنها مدينة نسجتها وبنتها تنويعاتها الثقافية، الدينية، القومية، كما كان لنشوء شركات النفط الأثر في منح المدينة مبررات أن تكون رائدة بالانتقال من ظلمات القرون الطويلة إلى ما كان يحدث في مدن العالم من حداثات، وتقدم...
فظهرت جماعة كركوك، قبل 1964، ولكنها سرعان ما واجهت مصيرها، خاصة بعد نكسة حزيران 1067، بإعلان حضورها المتمرد، والشروع بكسر قيود بلغت ذروتها، فكان لهذه الجماعة أثرها المباشر، في البيئة البغدادية المتعطشة للتجديد، في مجالات الفنون، والشعر، والوعي النقدي قبل ذلك. فالعالم لم يعد قديما ً فحسب، بل كابوسا ً.
لم تقو الجماعة ـ بأفرادها ـ إلا الرضوخ لصدمات حتمت الاحتماء بعالم آخر، غير بغداد أو كركوك، فتفرقت، تاركة ما أنجزته للتاريخ.
إن مؤيد الراوي ـ ومعه زملاءه ـ سكنه الحلم ذاته الذي رواد السومري، رمز العدالة وضحيتها، فصار اسمه "العادل المعاقب" في نص دوّن قبل خمسة آلاف عام، وليعاقب بذنب لم يقترفه. فالجماعة عملت على نقل الحلم من الرأس، نحو الواقع، والعمل على قهر المستحيلات، كالتجديد والإبداع بوصفهما إرادة واعية لمواكبة العالم الحديث، لكن هذا التوجه سرعان ما اصطدم، بالثوابت، ولكن ليست الاجتماعية، النفسية، والاقتصادية، الرمزية فحسب..الخ، بل بفعل العوامل التي ستبقى تبرهن إن دور (الطليعة) لن تمتلك إلا قدرها، إزاء مجتمعات لم تتخط اقتصاد الموجة الأولى، اقتصاد الطبيعة، البرية، وعصر الأصوات. ولقد كان الراوي، في كتاباته المبكرة، ومنها حول جماعة المجددين، وجواد سليم، والتشكيل العراقي عامة، قد إدراك إن العالم قد تخطى عصر: الأيديولوجيات، المعتقدات، القوميات، وكل ما يفضي بالتعصب إلى العنف، والعنف المقابل، وكل ما يفصل التنمية عن الحرية، والحرية عن بناء عالم أفضل. وهذا ما جعل مصائر زملاء الراوي، تصطدم بالكابوس، وحتم على الجميع ـ إن أرادوا البقاء على قيد الحياة ـ فلا مناص من البحث عن كوكب آخر، أو العثور على عزلة مشرفة*.
لكن مؤيد الراوي سيرحل، مبكرا ً، حتى لو كان قد بلغ الـ 74، مما يحتم على العدالة ـ وأنا أجد صعوبة حتى بالتعرف على معناها في حدها الأدنى ـ أن تتخذ من إبداع الراوي وحياته ،شهادة تناسب انجازه، الفني والجمالي، ليس بوصفة حالة ذاتية، وإنما بوصفة علامة لجيل تم نفيه، وعزله، وتركه يغيب. وهي إشارة لفتح ملفات إن لم تقم بها المؤسسات المعنية بحقوق البشر، أو حتى بحقوق الحيوان، داخل البلد أو خارجه، فان أكثر المواهب رهافة ستلقى المصير ذاته، وكأن بلده صار شبيها ً بأسطورة سيزيف، لا الصخرة توجعت، ولا المعاقب تخلى عن حمل الصخرة!
_______________
ـ تكونت جماعة كركوك من: فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي، أنور الغساني، صلاح فائق، جان دمو، جليل القيسي، يوسف الحيدري، الأب يوسف سعيد،
ـ إصداراته الشعرية:
1 ـ نزهة في غواصة ـ 1970 لم تحصل موافقة الرقابة على نشرها.
2 ـ " احتمالات الوضوح " بيروت ـ 1974
3 ـ ممالك ـ دار الجمل ـ برلين 2010
4 ـ سرد المفرد ـ دار الجمل ـ برلين 2015
* نموذج غير معروف كتبه مؤيد الراوي، يوضح مدى اهتمامه بالرؤية الفنية:
القاعدة التي ينطلق منها المجدد •
مؤيد شكري الراوي
ظل الفنان العراقي قاصراً عن أداء مهمته دون ((جواد)) وخلال سنوات طويلة ألحقت بالفن خاصية التحريك دون أن يكون لهذه الخاصية من وجود غير الجانب الإعلاني وهو يستعرض الخواص الأكثر إثارة الناس، عندما تقوم من خلال سيكولوجية رديئة تقر واقعهم القائم دون تغيير أو تشذيب، وفي الجوهر كانت المحاولات تلك خاضعة لرؤى مقطوعة الجذور عن إدراك طبيعة القطاعات البشرية وأساس علائقها وجوهر تكوينها.
بهذا فقد الفن معنى الإدامة. وكان ينهض على أرضية هشة، سرعان ما زاغ فألقى ظهره للجمهور، ولم يأت الابتعاد من خلال تعميق مفهوم الفن الحقيقي – المفهوم الذي يمتنع عن التشبث بالعواطف الآتية والانفعالات اليومية، بل جاء من خلال القحط الذي أصاب الفن عندما أنسلخ عن الناس.
أن حركة الردة – الفنية – عمدت إلى الركوع أمام جمهور جديد يقيم كل شيء تقييماً تجارياً بحتاً، وهذه الحركة خانت نفس الفنان قبل كل شيء ودفعته على سلالم المهنة لينتهي صانعاً مجرداً.
من هنا فقد الفن العراقي معناه وتحول إلى مجرد أشياء: لون وخط وتركيب سقيم يعرض في الظاهر بضعة ملامح عراقية فجة، أو ينقل طريقة غريبة تلحق بمشاهدات إقليمية دون حرارة.
* * *
لقد ولد التجريد تمرداً على الخطوط البائسة للفن وتثبيتاً للمفهوم الذي ينطلق من العصر بكل أبعاد إنسانية وموقفه: الإنسان الباحث عن أزمته في كل حركة وجودية، ومن كل انتماء يحدد عمق الموقف وانفتاحه على الكون.
وعلى خلاف الآخرين، يحاول المجدد أن يطرح نفسه ككائن واحد لصيق، دوماً بالتجربة، دون أن يحدث انفصالاً بين مفهوم وآخر، ويدق إسفيناً بين حياته كفرد وحياته كفنان يعيش رؤى خاصة.
أن الفن العصري قد للفن العراقي وسائل تعبير غنية، ووضعه على أعتاب التمكن من تحليل نظرته إلى الأشياء وإعادة بناءها وفق مفهومه الخاص. فالتمكن بالتكنيك وضبط الشكل ومختلف القضايا الحرفية الأخرى إزاحة عن الأتباع وطرح عنده قاعدة للخلق دون أن ينفصل عن ذاته وعن أرضه وجعل من هذه الخامات البنائية وسيلة لتجسيد الرؤى ومحاولة لخلق فن غير متمسح.
بيد أن المجددين يجمعون قطب الذات والآخرين تحت محور واحد، دون أن تغطى الوصولات الانتهازية لتبرر موقعهم. على خلاف مفاهيم أرستقراطيي الفن الذين عاشوا دوماً في مياه الآخرين.
أن الزمن الحالي يلح جذرياً ليكون الإنسان نفسه، وينظر إلى وسائله بحرية واحترام، بهدمها وبعيد بنائها تحت شروطه الخاصة. لا أحد يعرض على الفنان شرطه القبلي. وليست ثمة وسائل محددة وقسرية تضعه على طريق معين. أن الفنان يبدع داخل ملابساته الخاصة ويبدع عندما يحل أزمته بحرية وبجرأة دون أن يكون ظلاً للآخرين وللقوالب. )
ملف كامل عن تجربة الفنان على الرابط التالي
http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N
عادل كامل
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لم اعد أتذكر من أوشى بمؤيد الراوي، كي يتم حجزه، لفترة قصيرة، بعد أن تدخل عدد من زملائه، وفي مقدمتهم فاضل العزاوي، على إطلاق سراحه، مع إن فاضل العزاوي، والراوي، ذكرا اسم هذا المخبر...، المهم إن الشاعر والرسام شفيق الكمالي ـ وزير الثقافة أو الإعلام ، هو من أسهم في تحريره من الحجز ...، فأقام العزاوي حفلة في بيته احتفاء ً بهذه المناسبة، لكن صديقنا جان دمو، بعد أن ثمل، قال ساخرا ً:
ـ حررتم الرجل من السجن، كي تخرجوه إلى السجن الأكبر!
لم أر مؤيد الراوي بعد تلك الأمسية، فقد سافر إلى بيروت، ولا أتذكر من اخبرني ـ بعد أشهر قليلة ـ إن الراوي قال له: لم يبق تروتسكيا ً في بغداد إلا عادل كامل!
لم اصدم، بل ذعرت، مع إن اسم تروتسكي لم يكن يشكل تهمة، كما هو اسم ماركس، أو لينين، أو ستالين، أو فهد، أو سلام عادل، فالذين تصفحوا "الثورة المغدورة" و كتاب تروتسكي حول الإرهاب والشيوعية، وبعضا ً من مقالته حول الفن والأدب، قلة قليلة...، ولا اعتقد إن أحدا ً من العاملين في الأجهزة الخاصة كان على معرفة بها..، أو تعنيه مثل هذه المعرفة! وأنا بدوري لم أبد إلا إعجابا ً، بفكرة الثورة الدائمة، المفهوم ـ الذي لم أتخل عنه، مع نفسي في الأقل ـ فلا يمكن أن ينفصل عن قوانين الطبيعة، والمجتمعات، وصيرورة التاريخ...الخ، فمادام الخلود، بوصفه ذروة ـ وهو يعني بالعربية: السكون، الجمود، والموت ـ فان ديمومة الحركة ليست عشوائية، أو محض تراكمات مصادفات، وإنما ـ كي تصير تاريخا ً ـ فإنها بانتظار من يمنحها شرعية أن تسهم في تقليص المسافة بين حدود المتضادات: الثراء الفاحش إزاء الفقر المدقع، المدينة الريف، الإسراف في العنف إزاء المهادنة، التفاؤل المطلق إزاء اليأس التام، الإفراط في التشدد إزاء الفوضى، الاجتهاد في اختراع الممنوعات والمحرمات، إزاء الانفلات، الإرهاب إزاء المرونة، الغباء إزاء العقل...الخ، إنما كان تروتسكي قد أغواني ـ بفعل غيفارا ً الذي قدمته هوليود ببذخ فاق وعينا ً لمفهوم الثورة الدائمة ـ كان السبب كي أتذوق مرارة تجربة لم ادعها تمتد أكثر من زمنها....، كي أدرك إننا كنا إزاء صعوبات كان مؤيد الراوي قد اكتوى بجمراتها أيضا ً.
كان الراوي، نموذجا ً متقدما ً لجماعة أنتجتها كركوك، لأسباب عديدة، ومنها إنها مدينة نسجتها وبنتها تنويعاتها الثقافية، الدينية، القومية، كما كان لنشوء شركات النفط الأثر في منح المدينة مبررات أن تكون رائدة بالانتقال من ظلمات القرون الطويلة إلى ما كان يحدث في مدن العالم من حداثات، وتقدم...
فظهرت جماعة كركوك، قبل 1964، ولكنها سرعان ما واجهت مصيرها، خاصة بعد نكسة حزيران 1067، بإعلان حضورها المتمرد، والشروع بكسر قيود بلغت ذروتها، فكان لهذه الجماعة أثرها المباشر، في البيئة البغدادية المتعطشة للتجديد، في مجالات الفنون، والشعر، والوعي النقدي قبل ذلك. فالعالم لم يعد قديما ً فحسب، بل كابوسا ً.
لم تقو الجماعة ـ بأفرادها ـ إلا الرضوخ لصدمات حتمت الاحتماء بعالم آخر، غير بغداد أو كركوك، فتفرقت، تاركة ما أنجزته للتاريخ.
إن مؤيد الراوي ـ ومعه زملاءه ـ سكنه الحلم ذاته الذي رواد السومري، رمز العدالة وضحيتها، فصار اسمه "العادل المعاقب" في نص دوّن قبل خمسة آلاف عام، وليعاقب بذنب لم يقترفه. فالجماعة عملت على نقل الحلم من الرأس، نحو الواقع، والعمل على قهر المستحيلات، كالتجديد والإبداع بوصفهما إرادة واعية لمواكبة العالم الحديث، لكن هذا التوجه سرعان ما اصطدم، بالثوابت، ولكن ليست الاجتماعية، النفسية، والاقتصادية، الرمزية فحسب..الخ، بل بفعل العوامل التي ستبقى تبرهن إن دور (الطليعة) لن تمتلك إلا قدرها، إزاء مجتمعات لم تتخط اقتصاد الموجة الأولى، اقتصاد الطبيعة، البرية، وعصر الأصوات. ولقد كان الراوي، في كتاباته المبكرة، ومنها حول جماعة المجددين، وجواد سليم، والتشكيل العراقي عامة، قد إدراك إن العالم قد تخطى عصر: الأيديولوجيات، المعتقدات، القوميات، وكل ما يفضي بالتعصب إلى العنف، والعنف المقابل، وكل ما يفصل التنمية عن الحرية، والحرية عن بناء عالم أفضل. وهذا ما جعل مصائر زملاء الراوي، تصطدم بالكابوس، وحتم على الجميع ـ إن أرادوا البقاء على قيد الحياة ـ فلا مناص من البحث عن كوكب آخر، أو العثور على عزلة مشرفة*.
لكن مؤيد الراوي سيرحل، مبكرا ً، حتى لو كان قد بلغ الـ 74، مما يحتم على العدالة ـ وأنا أجد صعوبة حتى بالتعرف على معناها في حدها الأدنى ـ أن تتخذ من إبداع الراوي وحياته ،شهادة تناسب انجازه، الفني والجمالي، ليس بوصفة حالة ذاتية، وإنما بوصفة علامة لجيل تم نفيه، وعزله، وتركه يغيب. وهي إشارة لفتح ملفات إن لم تقم بها المؤسسات المعنية بحقوق البشر، أو حتى بحقوق الحيوان، داخل البلد أو خارجه، فان أكثر المواهب رهافة ستلقى المصير ذاته، وكأن بلده صار شبيها ً بأسطورة سيزيف، لا الصخرة توجعت، ولا المعاقب تخلى عن حمل الصخرة!
_______________
ـ تكونت جماعة كركوك من: فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي، أنور الغساني، صلاح فائق، جان دمو، جليل القيسي، يوسف الحيدري، الأب يوسف سعيد،
ـ إصداراته الشعرية:
1 ـ نزهة في غواصة ـ 1970 لم تحصل موافقة الرقابة على نشرها.
2 ـ " احتمالات الوضوح " بيروت ـ 1974
3 ـ ممالك ـ دار الجمل ـ برلين 2010
4 ـ سرد المفرد ـ دار الجمل ـ برلين 2015
* نموذج غير معروف كتبه مؤيد الراوي، يوضح مدى اهتمامه بالرؤية الفنية:
القاعدة التي ينطلق منها المجدد •
مؤيد شكري الراوي
ظل الفنان العراقي قاصراً عن أداء مهمته دون ((جواد)) وخلال سنوات طويلة ألحقت بالفن خاصية التحريك دون أن يكون لهذه الخاصية من وجود غير الجانب الإعلاني وهو يستعرض الخواص الأكثر إثارة الناس، عندما تقوم من خلال سيكولوجية رديئة تقر واقعهم القائم دون تغيير أو تشذيب، وفي الجوهر كانت المحاولات تلك خاضعة لرؤى مقطوعة الجذور عن إدراك طبيعة القطاعات البشرية وأساس علائقها وجوهر تكوينها.
بهذا فقد الفن معنى الإدامة. وكان ينهض على أرضية هشة، سرعان ما زاغ فألقى ظهره للجمهور، ولم يأت الابتعاد من خلال تعميق مفهوم الفن الحقيقي – المفهوم الذي يمتنع عن التشبث بالعواطف الآتية والانفعالات اليومية، بل جاء من خلال القحط الذي أصاب الفن عندما أنسلخ عن الناس.
أن حركة الردة – الفنية – عمدت إلى الركوع أمام جمهور جديد يقيم كل شيء تقييماً تجارياً بحتاً، وهذه الحركة خانت نفس الفنان قبل كل شيء ودفعته على سلالم المهنة لينتهي صانعاً مجرداً.
من هنا فقد الفن العراقي معناه وتحول إلى مجرد أشياء: لون وخط وتركيب سقيم يعرض في الظاهر بضعة ملامح عراقية فجة، أو ينقل طريقة غريبة تلحق بمشاهدات إقليمية دون حرارة.
* * *
لقد ولد التجريد تمرداً على الخطوط البائسة للفن وتثبيتاً للمفهوم الذي ينطلق من العصر بكل أبعاد إنسانية وموقفه: الإنسان الباحث عن أزمته في كل حركة وجودية، ومن كل انتماء يحدد عمق الموقف وانفتاحه على الكون.
وعلى خلاف الآخرين، يحاول المجدد أن يطرح نفسه ككائن واحد لصيق، دوماً بالتجربة، دون أن يحدث انفصالاً بين مفهوم وآخر، ويدق إسفيناً بين حياته كفرد وحياته كفنان يعيش رؤى خاصة.
أن الفن العصري قد للفن العراقي وسائل تعبير غنية، ووضعه على أعتاب التمكن من تحليل نظرته إلى الأشياء وإعادة بناءها وفق مفهومه الخاص. فالتمكن بالتكنيك وضبط الشكل ومختلف القضايا الحرفية الأخرى إزاحة عن الأتباع وطرح عنده قاعدة للخلق دون أن ينفصل عن ذاته وعن أرضه وجعل من هذه الخامات البنائية وسيلة لتجسيد الرؤى ومحاولة لخلق فن غير متمسح.
بيد أن المجددين يجمعون قطب الذات والآخرين تحت محور واحد، دون أن تغطى الوصولات الانتهازية لتبرر موقعهم. على خلاف مفاهيم أرستقراطيي الفن الذين عاشوا دوماً في مياه الآخرين.
أن الزمن الحالي يلح جذرياً ليكون الإنسان نفسه، وينظر إلى وسائله بحرية واحترام، بهدمها وبعيد بنائها تحت شروطه الخاصة. لا أحد يعرض على الفنان شرطه القبلي. وليست ثمة وسائل محددة وقسرية تضعه على طريق معين. أن الفنان يبدع داخل ملابساته الخاصة ويبدع عندما يحل أزمته بحرية وبجرأة دون أن يكون ظلاً للآخرين وللقوالب. )
ملف كامل عن تجربة الفنان على الرابط التالي
http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق