الخميس، 31 ديسمبر 2015

ثنائية الموت والحياة في مجسمات أياد حامد-عادل كامل





في النحت العراقي المعاصر

ثنائية الموت والحياة في مجسمات أياد حامد

عادل كامل
     لم تمتد سلطة الملك السومري جلجامش(1) ابعد من السنوات التي أمضاها في الحكم، تاريخيا ً، ولكنها سرعان ما تحولت هذه السلطة، أيا ً كان طابعها، إلى معضلة ذات منحى يخص المشكلات الانطولوجية، تناقلتها الأجيال، من سومر إلى بابل والى أشور والى زماننا الحاضر، كي لا تفقد أهميتها أو أسئلتها ذات الطابع الإنساني العميق، بل لتتخذ من واقعيتها مجالا ً أسطوريا ً لموضوعات الفلسفة، والآداب، والفنون.
    فهل كان أياد حامد (1970 ـ 2015)، المنشغل بدراسة جدلية الحياة ـ الموت، منحازا ً بقصد ومعرفة، أم بنسق منح لا وعيه، مع لا شعوره، تأكيدا ً بان المعادلة ليست مشكلة معزولة عن دلالات الحياة ذاتها المهددة بالانتهاك، والغياب..؟
    ففي مجسماته ثمة موضوعات لا تكف أن تتخذ أشكالها بدينامية  تلخص أكثر أفكاره عمقا ً؛ دينامية لا تكتمل فيها الحركة، وأحيانا ً يكتفي بتصويرها مقيدة، وفي الغالب، تفصح عن عالم غير مستقر. إنها لا تنحاز لبنيتها إلا بحدود انفتاحها نحو الخارج، كعلاقة جدلية بين ما هو ذاتي، وبما سيشكل سمة للنحت بأبعاده الموضوعية. على أن ثيمات أياد حامد ـ هذه ـ هي واحدة من سمات جيل ظهر في أعقاب حقبة الستينيات في العراق، جيل نشأ في خضم  صراعات حادة، ومتعاقبة، لم تترك له إلا أن يتشبث بالحلم، ورمزيته، ومنحاه التعبيري، معادلا ً للصدمات، والمحن، وفي الوقت نفسه، راح يجسدها بنماذج نحتية أكثر علاقة بعالمه الداخلي...، صحيح قد لا تبدو مأساة الحروب مباشرة، ومشخصة، ولكن من الصعب استبعادها، أو عزلها عن نماذجه النحتية. فلم يصر الموت قضية، بالأحرى انساق النحات، على العكس، ببلورة اتجاه سمح لفنه أن يقترن بـ: الإنسان ـ المدينة، من ناحية، وبالبحث عن عالم مازال يتشكل، ينمو، ويتدفق، من ناحية ثانية.


 



    لقد جاء رحيله المبكر صدمة تلاشى صداها، بفعل العنف، وغرائبية الواقع، وفوضاه، التي انتشرت كوباء كامن راح يعمل عمل الطاعون، وعمل الأعاصير، والنكبات، إلا أن  مجسماته ستحافظ على مدى إخلاصه لمفهوم الفن، ولفن النحت تحديدا ً. فالنحات سيعيد نسج المسار المعقد للملحمة القديمة، ملحمة جلجامش، من غير سرد، وبعيدا ً  عن تمثلها أو استنساخ نماذجها المتحفية المعروفة، إلا أن لاوعيه العميق سيحافظ على صلة ملغزة وحيوية تعيد بعث أسئلة الملحمة، المعنية بما تتضمنه الحياة من دلالات، وليس بما توارى في الموت، بل عمل على تمثل الحضور بوصفه الحكمة غير القابلة للهدم، أو النسيان. فالنحات لم يجد مأواه في الماضي، كما لم يقم بدفنه في الحاضر، بل سمح للجدلية أن تعيد القراءة، وكأنها تغادر ماضيها، وتغادر حاضرها، كي تكّون مجالها المستحدث، الخاص بأحد أكثر دلالات الفن: المجال الحيوي، برمزيته، وبمعالجاته الجمالية.




    فثمة تنويعات لموضوعاته تفصح عن مسعاه، غير الذاتي، ولكن غير العام أيضا ً، سمح ببناء علاقة متجانسة ومتوازنة بين (أناه) وبين (الأنا) الجمعية، بين عالمه الداخلي والعالم المزدحم بالمتغيرات، والقسوة، والمتناقضات، مما  منح هذه الوحدة سمة من سمات أسلوبه، وهو يتكون عبر زوايا رؤاه المتنوعة، والمتداخلة، ولكن ليس بالخروج على المنجز الدينامي للنحت الحديث في العراق، فنراه:
أولا ً: فثمة معالجة للإنسان الفرد، الوحيد، المعزول، والمنقطع عن العالم، من ناحية، حيث يدفع النحات بهذه الشخصية نحو ذروتها: الصراع، وليس الركون إلى السكينة، أو الانغلاق. فالحركة تغدو واحدة من أكثر سماته الأسلوبية صلة بالعلاقة  ما بين الذهني، والواقعي، ما بين الخيالي والمباشر. فالنحات لا يتخيل، ولا يستمد من المنحى الافتراضي أشكاله النحتية، بل يسمح لها أن تغدو مزيجا ً  انصهر عبر تنصيصات سمحت للنسق الحديث بالنحت أن لا يغادر النص النحتي، من ناحية ثانية.








ثانيا ً: لم يعد (المربع) رمزا ً للقيد، رمزا ً شخصيا ً، ولكن النحات  يستثمره كعلامة مقترنة، مكملة، ومناقضة لباقي الأجزاء. فالمفهوم الهندسي للمربع لا يمثل التكامل، خاصة عندما يضعه على واحدة من زواياه، وليس مستندا ً إلى احد أضلاعه، بل تشخيصا ً للصراع بما يمثله القيد من تحديات للذات ـ وللحياة نفسها.





ثالثا ً: لا جديد في اختيار الحصان، أو الثور، في النحت العراقي الحديث...، إنما القديم ـ عند أياد حامد ـ يؤكد مدى عنايته بمنح الذات هويتها الايكولوجية ـ الاجتماعية، بحرصه على الذاكرة الثقافية ـ الشعبية، في سياقها المنبثق، والمتجدد. إنها علاقة صراع، متعدد التأويل، كالصراع مع الزمن، أو مع الطبيعة ( بوضع الحيوان طرفا ً إزاء النوع البشري) ـ وهو لا شعوريا ً يذكرنا بصراع جلجامش ابن المدينة، مع انكيدو المنحدر من البرية ـ فضلا ً عن أن ثيمة الصراع، بحد ذاتها، تفصح عن عاطفة النحات، ورهافته، في اختيار المجال العضوي للتعبير عن الصراع المستمد من الواقع، وقد غدا  موضوعا ً حرص على إعادة بناءه، فنيا ً وجماليا ً.

   إن تجربة أياد حامد النحتية، تلخص مدى عنايته بمعضلات الإنسان المعاصر التي تؤكد مكانة رؤيته للتشخيص، وليس للتجريد، أو حتى للاختزال، وقد نفذها بالبرونز، بوصفه الخامة المناسبة لاختياراته، كأحد أهم مميزات رؤيته، وأسلوبه، ولكن ليس بمعزل عن تجارب جيل حرص أن تكون جذوره ضاربة في العمق، من ناحية،  معاصرة بقراءتها المتوازنة مع تيارات الحداثة، من ناحية ثانية، بل واحدة من علاماته. فالماضي ـ في تجربته الخلاقة ـ  ذهب ـ عبر الحاضر ـ ، نحو المعضلة، التي هي: الحياة، وليست هي: الموت. فكما حافظت ملحمة جلجامش على ديمومتها، استمد أياد حامد اشتغالها هذا، عبر المجسمات، ولكن بسرد مكتوم، خاص بالنحت، سمة لروح زمنه، وربما، لسنوات قادمة ما دام (المستقبل) لا يتحقق إلا بفعل صياغته، جماليا ً، ووفق حداثة لم تغب عنها معضلات عالمنا اليوم، وما يواجهه من: تهديدات، وانتهاكات، مازالت تشكل تحديا ً، وفي الوقت نفسه، استجابة للبناء، وليس للتقويض.  

1 ـ ينتمي الملك جلجامش إلى سلالة أوروك الأولى، وعدد ملوكها اثني عشر ملكا ً حكموا (2310 سنوات)، وهو الملك الخامس، الذي حارب أجا ملك لكش، ويقدر زمن حكمه في نحو عام 2675 قبل الميلاد، وقد حكم 126 عاما ً بحسب السنة السومرية. انظر: د. فرج البصمجي [كنوز المتحف العراقي] وزارة الإعلام ـ مديرية الآثار العامة ـ بغداد 1972 ص86

ليست هناك تعليقات: