الخميس، 27 مارس 2014

تشكيل -فالنتينوس كارالامبوس ثلاث حضارات لخزف ينبثق من المهارة والجمال-عادل كامل

تشكيل
فالنتينوس كارالامبوس
ثلاث حضارات لخزف ينبثق من المهارة والجمال



عادل كامل







     كلما دار الحديث عن نشأة الخزف الفني الحديث في العراق، يرد اسمي الخزاف الانكليزي (أيان أولد) والخزاف فالنتينوس كارالامبوس، القبرصي المولد، والذي حصل على الجنسية العراقية منذ العام 1980.. فكلاهما وضعا الأسس المبكرة لمشروع فن السيراميك، في أبعاده التقنية الحديثة.  إن هذه الحقيقة لا تتقاطع مع دور الموروث الخزفي العراقي وجذوره التراثية: الموروث الخزفي الذي سبق عصر الكتابة بقرون، بل ليبرهن ـ الموروث ـ على شيء يجدد قانون انبعاثه وتجدده مرة أخرى وفي عصر مختلف. إن الأشكال تستكمل دورة اكبر في وجودها، لا بصفتها محض أجزاء، وإنما لأنها حلقات في سلسلة تحولات مترابطة في اتساعها. على أن هذه المفارقة تنطبق على أسلوب فالنتينوس أصلا ً، فهناك ثلاثة مصادر متداخلة لتبلور هويته الفنية أو توقيعه الفني الخزفي.. [1] الأصل القبرصي بمرجعياته اليونانية وبتراث البحر الأبيض المتوسط  [2] دراسته في انكلترا وتعرفه على تيارات الحداثة الأوروبية والانكليزية المتشددة بتطرفها من ناحية والمتزمتة في تقاليدها من ناحية ثانية.. [3] تعرفه على خزف وادي الرافدين والشرق بشكل عام، والإسلامي منه تحديدا ً.



     إنها فرصة استثنائية يندر تكررها، إلى حد ما، في التشكيل العراقي، إلا عند جواد سليم، حيث توفرت له روافد (جذوره العراقية ودراسته في فرنسا وروما ولندن) غذت ريادته الإبداعية ووسعت من رويته الخلاقة وصقلتها. فالنتينوس، الصامت، حد الكتمان، هو ثمرة طبائع البحر المتوسط، والخلق الانكليزي الرصين، والقلق العراقي المشحون بالأسى، والغضب، والتجدد، وقد وحدها سحر الابتكار ونزعة البناء. انه ثراء معالجة الطين في تركيب كامل الأناقة والدقة والرسوخ. فالخزاف اختار هذه المعالجة للوحدة الخفية بين المهارة وذروتها في الرهافة، بين القاعدة كشرط للتباهي بالمنجز الفني وعمله بما يكتم في سياق التكوين وباثاته. إن فن الخزف، هنا، مثل حوار الروافد، عبر أداة المبدع؛ بالأصابع وما تمتلكه من جذور دفينة، الأمر الذي أبعده عن التطرف والغلو.  لقد أدار مساره لثورة الفن الحديث، وللحداثة، لا استعلاء ً، أو تكبرا ً، بل ـ وهذه حسنة نادرة ـ علم ذاته الأشياء المناسبة لطبيعته وخلقه وما يطمئن إليه، مثل فائق حسن، في


الرسم العراقي، لم يغامر إلا في حدود وعيه لشخصيته. فالنتينوس لم تبهره فنتازيا المتغيرات، وموجات الصخب. كان يعمل في محترفه، منسيا ً تقريبا ً، تلك التي أصبحت أثارا ً تحمل ثلاثة محيطات مختلفة: تاريخه الشخصي، وأسلوبه الذي هو توقيعه في الأخير من خلال ثلاث حضارات( يونانية وأوربية وشرقية). فمنذ تم تكليفه بإدارة فرع السيراميك، بمعهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1957 وإدارته لفرع الخزف في أكاديمية الفنون الجميلة، جعل رسالته ـ لطلابه ـ مماثلة لرسالته: إن الخزف  لا يبلغ ذروته إلا بالحرفة، لكن بالحفاظ على جماليات الفن وسحره.  لأن الخزف، في عمله، فن مهارة، وهو ـ لأسباب لا تحصى ـ أرقى أشكال العمل اليدوي ببلوغ  هذه الذروة. إن إرشاداته لطلابه تشبه عمل (البنّاء) البغدادي: فن الحرفة، حيث ترتقي الحرفة بالمهارة درجة تتقدم على الإتقان، نحو جماليات اللعب، وكلاسيكيته الساحرة. إن الكلمات ذاتها ـ عند المبدع ـ تعدل هفواته، بهذه الصرامة، مع مزيد من التأني، علم طلابه، الذين لهم امتياز الريادة في الخزف المعاصر في العراق خلال نصف القرن الأخير. هكذا سيشارك سعد شاكر أفق تحولات الطين، وفي حدود ميتافيزيقته السحرية، المقننة، البصرية، والمرئية كفاية، تاريخ مرحلة التأسيس. فقد كف أن يكون مغامرا ً، مع تقدير عميق لا يشبه إلا ولاء الحرفي لأزمنة كامنة في وجودها المتجدد، في سياق التوحد بالمنجز الخزفي كمشروع يتوازن مع ما اكتنزه من الموروثات، والمستحدثات. وهنا يحق للمتابع اكتشاف عظمة المنجز بصفته منجزا ً لسلسلة من التحولات الذهنية ـ والتاريخية، عبر الطين. فلماذا (الحداثة) إذا لم تكن خاصة ومشغولة ببهاء الامتلاء؟ بهذا المنطق صنع حدود الرؤية الجمالية ولدقته منطلقات الإتقان والمهارة، حيث توحدا لصياغة أسلوبيته في التركيب، لكن بدمج لم يلغ حرارة متوازنة بين مرجعياته وشخصيته التأملية. موجها ـ في هذا السياق ـ طلابه ، دون إبعاد الفن عن الحرفة وعن التشدد فيها، ولا فصل الفن عن موقعه في باثات النص الخزفي.. هذه (الحداثة) كانت متقدمة في مرحلة سيادة الخزف التقليدي، والشعبي، لكن في زمن كان جواد سليم وفائق حسن علامتان لحداثة مبكرة في التشكيل العراقي، دون إهمال العقل النقدي لمحمود صبري، وبعد ذلك، كانت أسماء تبحث عن حل: كاظم حيدر، إسماعيل فتاح، ومحمد مهر الدين مثلا ً، فوسط حداثات أوروبية متنوعة المصادر (فرنسية/ ايطالية/ انكليزية/ واقعية اشتراكية) كان فالنتينوس يتمسك بالنوع الموحد لثمرات الجذور، في سياق جلال النمو الشرعي للمبتكرات، وبحوار عميق ورصين منح الأشكال منطقها البيئي، والداخلي، مع تقدير دقيق وجليل لحركة الزمن أو ما يسمى باختلاف المؤثرات والاتجاهات والأساليب. كان فالنتينوس على وعي مضاف بغريزته وشخصيته في منح الابتكار شرعيته، ومصداقيته، لا كطرف مغاير، وإنما ليوضح ريادته المتمردة، بوضع القواعد، والأسس، وأصول العمل الخزفي، وليس هدمها أو قلب مفاهيم الجمال بحسب آليات الحداثة وتشعباتها الراديكالية. هذا هو امتياز كل كلاسيكية لا تبالي بالضجات والمتغيرات العابرة أو البراقة. فالفنان لم ينشغل بـ [لماذا] ـ كما تبنت الحداثات نزعة الشك ـ وإنما كان قد منح [المنجز/ النوع] أسئلة تبنيه لقضايا الوجود، فنيا ً، بزخرفات يونانية، وأشكال انكليزية لهيئة السيراميك، وحرارة غير معلنة لعناصر الموروث الرافديني، لتأتي خزفياته، وجدارياته، وفخارياته، وحدة متماسكة لروافد غير متجانسة نسبيا ً. فقد اشتغل على بلورة منظور جمالي أخفى بنية المتضادات، والاختلافات، والتقاطعات، لصالح كلاسيكية الحداثة، ووضعها في سياقها المزدهر. وحدة متجانسة وكأنها، في سياق تاريخ تداخل الحضارات، لا تصادماتها المهلك، جعل المسرة والنبل والصفاء قيمة لكل بناء مأخوذ بالدهشة الجمالية ولغزها الفني، مع الاحتفاظ بأسئلة الفن الخزفي، بعيدا ً عن الاستعمال، والعابر، والتعليمي، والاستهلاكي، لصالح: أسرار تحولات الطين، وأشكاله كعلامات لعصور تتوحد في زمن النص الجمالي ورمزيته غير المعلنة.  



ليست هناك تعليقات: