السبت، 1 مارس 2014

قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل





قصص قصيرة جدا ً



عادل كامل
    [ رد البسطامي على قول رجل قال " أعجب من عرف الله كيف يعصاه" بكلمات " بل عجبت ممن عرف الله كيف يعبده!"  وذات مرة اختصر موقفه من الحج كما يلي:
حججت أول مرة فرأيت البيت
وحججت الثانية فرأيت صاحب البيت ولم أر البيت
وحججت الثالثة فلم أر البيت ولا صاحب البيت." والشبلي أجاب على سؤال وجه إليه:
ـ ألا تعلم انه رحمن؟
ـ بلى! ولكن منذ عرفت رحمته ما سألته ان يرحمني."
وقال الجنيد البغدادي " لا يبلغ احد درجة الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صدّيق بأنه زنديق"]

[1] حلم
   شاهد، عبر التلسكوب العملاق، مجرة تصطدم بأخرى، تتداخل، تنصهر، تتوهج، ثم لا اثر لهما. ابتعد قليلا ً وشاهد، في المختبر الذي يعمل فيه، أوراق النباتات تعزف لحنا ً عبر ذبذبات اعتاد سماعها ليشاركها الرغبة بالتطلع إلى الفضاء.
  لم يكن اكتشافا ً جديدا ً، لا اكتشاف اختفاء المجرتين، ولا الإصغاء إلى موسيقا النباتات، بل لأنه وجد انه فقد الرغبة للنطق بكلمة، مثلما وجد الصمت مستحيلا ً.
  فعاد يتأمل في البعيد: فراغات مشغولة بومضات حمراء وأخرى زرقاء، ومديات تمتد تتخللها ذبذبات مجرات لم يرها من قبل.
 تراجع مرة ثانية، فوجد جسده النحيل محاصرا ً بالأوراق، والأغصان، وثمة وخزات ناعمة راحت تلامسه، شاهدها تومض، وتشع، بلورية، وقد كف عن المقاومة تماما ً، لأنه كان قد ترك الموسيقا تتوغل بعيدا ً في مكان ما طالما لم يجتز عتبته.
[2] طيف
ـ انهض، انهض.
   بصعوبة رفع الرجل المسن رأسه من الوسادة، وتمتم:
ـ الم أخبركم ان الله وحده يحق له ان يوقظني!
    أعاد رأسه ودثره بالغطاء: الله وحده يحق له ان يفعل ذلك، فمادام هو الذي تركني أؤدي دور الميت، فلماذا لا يدعني ارقد بسلام!  فجأة دار سؤال بخلده: ماذا لو كانت هذه إشارة رقيقة بعثها سبحانه وتعالى كي لا يدعني أسرف في تجاهل ما يحدث في هذا العالم.
    بهدوء مد أصابعه وبحث عن مصدر الصوت. لم يجد إلا أصابعه تلامس قمة رأسه:
ـ هو أنت...، أيها الأحمق؟
ـ لا...، أنا هو من طلبك للموت!
ـ لكنني لست في زنزانة، ثم أنني لم اعد طائشا ً كي أضحي بحياتي، كما ان القانون لا يلاحق من تخلى عن أحلامه!   
ـ أنا ملك الموت؟
ـ لا تمزح، منذ متى رق قلبك بالرحمة؟ منذ متى أصبحت شفافا ً؟
[3] مسافة
   بلا مبالاة سأل نفسه: إذا كنت كلما ابتعدت عنه أجد نفسي اقترب منه، فلماذا لا اقلب المعادلة واذهب إليه مباشرة، فلعله يسمح لي بالابتعاد؟
ـ سيدي، ها أنا عندك.
ـ لم أطلبك.
ـ لكنني كنت، كلما ابتعدت عنك، أراك تقترب مني.
ـ لكن ما الذي حدث كي أراك أمامي؟
ـ قلت لنفسي: اقترب، اقترب، أقترب لعلك تكف عن الابتعاد!
ـ أيها الأحمق، إن اقتربت أو ابتعدت فانا لا اختلف كثيرا ً عنك، فانا كنت أظن انك هو من يلاحقني، فقلت: قف. وها أنا أراك تواجهني، فماذا تريد مني؟
ـ هل حقا ً أصبحت لا أميز بين الوهم والواقع، ولم اعد أميز بين من ابحث عنه وبين من يبحث عني؟
ـ لا تكترث...، فأنت كلما ابتعدت لا تمتلك إلا ان تدرك انك بين يدي ّ، لأن المسافة مهما اتسعت أو ضاقت فلا مناص انك لا تمتلك ان تغادرها!
[4] حفلة
ـ الم تكن هو أنت من قطع رأسي..؟
ـ غريب!
ـ كنت اعتقد انك هو من فعلها بي..
ـ والآن؟
ـ خذ رأسك، فانا منذ سنوات ابحث عنك، والآن أرجوك اعد لي رأسي!
ـ يا لها من خاتمة.
ـ تقصد: الحفلة بدأت؟
[5] أهداف
ـ حدد الهدف، صوب، ارم.
ـ سيدي، لا أرى هدفا ً.
ـ ألا ترى الأرض مترامية الأطراف أيها الأعمى!
ـ ضد من أصوب؟
ـ أي هدف متحرك.
ـ كلها متحركة.
ـ صوب، وعندما لا تجد هدفا ً، ارم!
ـ فعلت ذلك، سيدي.
ـ حسنا ً فعلت، لقد أصبت الهدف!
   فلم ير إلا جسده يترنح، يتلوى، ثم يكف عن الحركة.
[6] معلومات
    للمرة الأولى اعترف لنفسه، انه، بعد عقود طويلة، لا يمتلك أدلة أو إجابات أو أفكار تثبت انه يعرف شيئا ً عن نفسه. كان عليه ان يدوّن المعلومات الواردة في الاستمارة الخاصة بالجرد السكاني:
1 ـ صنف الدم لأفراد العائلة حتى الجد الرابع.
2 ـ عناوين السكن منذ الولادة، والمدارس التي درس فيها.
3 ـ الدول التي سافر إليها وأسباب السفر.
4 ـ عدد ساعات النوم، والطعام المفضل لديه.
5 ـ الأمراض التي أصيب بها، وهل يعاني من أمراض وهمية.
6 ـ هل يمارس الرياضة، وما أنواعها، وعدد الساعات.
7 ـ أرقام الحامض النووي لأفراد العائلة الأحياء منهم والأموات.
8 ـ بصمات العيون، والأصابع، لأفراد العائلة.
9 ـ الدين، الطائفة، والاهتمامات الثقافية.
10 ـ موقفه الصريح من العولمة وما بعد الحداثة ومن الموروثات.
11 ـ الأحزاب، الجمعيات، والمنظمات العلنية والسرية التي انتمى ـ ينتمي لها.
12 ـ الفرق الرياضية (كرة قدم/ ريشة/ سلة/ طائرة/ العاب أخرى) التي يشجعها؛ دوليا ً، إقليميا ً، محليا ً.
13 ـ موقفه من نظريات: التطور، الدورات، الارتدادات، وغيرها.
14 ـ هل يؤيد تشريع قانون للحد من زيادة السكان؟
15 ـ عدد الزيجات، وهل يؤيد إقامة علاقات حرة، وعلاقات مع كائنات غير بشرية، وما هو صنفها.
16 ـ هل يرغب ان يموت بعد الأوان، أو قبل الأوان، أو في اللحظة المدوّنة في ألواح القضاء والقدر.
17 ـ هل يشعر بالسعادة انه ولد، وعاش، ومات، أم انه لم يختر شيئا ً من ذلك.
18 ـ هل يؤمن ان الحرية هي التي تصنع الأحرار/ أم ان الأحرار هم الذين يصنعون الحرية، تعريف موجز للحرية رجاء ً.
19 ـ المواقع والفضائيات والصحف والإذاعات التي يفضلها ويتابعها.
20 ـ متى يتوقع ان تنهي الحياة فوق الكوكب الأزرق، وهل يفكر بالهجرة إلى كوكب آخر.
     رفع يده وبحث عن رأسه، فلم يجده، ولكنه شاهد أصابعه تمسك بالقلم وهي تدوّن فقرة جديدة:
ـ الموما إليه لم يولد بعد!
[7] وردة الخلود
ـ سيدي، سيدي، عثرت على الوردة التي سرقتها الأفعى من جلجامش.
ـ وردة الخلود؟
ـ نعم، سيدي، لأن الأفعى لم تستخدمها، وتركتها عند نبع الماء، ومنذ ذلك الزمن حتى يومنا هذا مكثت الوردة تعيش هناك.
ـ وماذا افعل بالخلود؟
ـ سيدي، سيدي، كي تبقى بطلا ً ظافرا ً مقداما ً خالدا ً إلى ابد الآبدين.
ـ تقصد....، ان أبقى أعاقب برؤية الضحايا، والراحلين، وأنا افقد اعز من أحب، الواحد بعد الآخر؟ وأضاف:
ـ انظر إلى وردة الخلود، وحدها خالدة! لأنها وحدها لم تمت، فهي في نهاية المطاف عاشت موتها الخالد!
[8] أسرار
   عندما اكتشف الجرذ سر تمتع احد الجرذان بالسطوة والهيمنة على الجحور والممرات من غير ان يقع في شراك العدو، وجد انه أينما ذهب وولى وفر فانه سيلقى حتفه، ووجد ان تستره ومكوثه في جحره لزمن طويل افقده امتيازه فغدا بلا مبالاة ينتظر نهايته. جاره أيضا ً اكتشف السر، ولكنه قرر إفشاءه. فقال الجرذ له: انك تستطيع ان تتحول إلى هر، ولكنك عندما تصبح هرا ً فانك ستواجه مخالب الكلاب، وعندما ستكون كلبا ً فان الذئاب لن تدعك طليقا ً، وعندما تصبح ذئبا ً فان هؤلاء الأوغاد البشر الذين يفكرون بمغادرة الكوكب لديهم خطة بإبادة الجميع، فما جدوى ان ترتكب حماقة تودي بحياتك؟ أجاب الآخر بحزن عميق: وما جدوى ان أعيش أحمق حتى نهاية العمر؟ قال وهو ينظر إلى تراب الأرض: لو كنت عرفت لماذا خُلقت هذه الحشرات، وهذه الديدان، وهذا النمل...، لذهبت واشتغلت مساعدنا لقائدنا الجرذ الذي افلح بسرقة أسرار عدونا!
[9] موقف
    فكر، في الحرب، أما ان يقتِل ْ وأما ان يقُتل، وفي السلم، لا احد يفعل ذلك، لأن الجميع يرحلون بهدوء، إنما بانتظار من سيوقد حرائق الحرب!
ـ تقصد إنها دورة؟
ـ لو كنت عرفت السر، فهل كنت استطيع النطق به؟
[10] انتخابات
   قال المرشح لزميله قبيل الانتخابات:
ـ يا صديقي، علينا ان نعيد قراءة رواية غوغول ..!
ـ  تقصد ان نقوم بشراء النفوس الميتة، كي نحصل على المزيد من الأصوات في الانتخابات القادمة؟
ـ اجل.
ـ أيها الأحمق، لقد تم الاستحواذ على نفوس القارات، وتم توزيعها، بحسب القوائم، فهل سندخل بنفوسنا الميتة المنافسة؟
ـ اجل، لأننا سنحصل على أعلى الأصوات.
ـ آنذاك لن يدعونا لحظة إلا وقد فقدنا حتى هذه الأصوات الميتة!
[11] نشوة
   لا يعرف متى حدث الأمر، بل لم يفكر كيف وجد كيانه برمته داخل بصلة لها جذور غائرة في الأرض، وسيقان تشاهد ما يحدث أمامها على امتداد الأفق. لم يكترث لمرور السابلة، حتى عندما كانت أقدامهم تدك رأسه، ولا لتنفس الغبار، أو ما يتركه الليل من رنين. بل كان منتشيا ً بالقليل من أشعة الشمس تأتيه من وراء الغيوم، ومن مسافات بعيدة...، إنما، بعد ان وجد انه يرقد تحت تل من الأنقاض، وجد كيانه يتسلل عبر الجذور بحثا ً عن شقوق تسمح له برؤية ومضات النجوم ممتزجة برذاذ المطر، وكان ذلك وحده يساعده بالامتداد عميقا ً في الأرض، كي لا يقنط، أو يهن، أو يكف عن استعادة ذكرى رؤية ذبذبات الفجر التي طالما سمحت له بالرقص، بعيدا ً عن أقدام المارة، وبعيدا ً عن ضوضاء المدن.
[12] وصية
ـ لا تدع أحدا ً ينتظرك، ولا تتعلم ان تنتظر احد، تدّرب ان تذهب ابعد من الحاجة، فلا تأخذ ما ليس هو لك، ولا تعطي ما هو ليس لهم، آنذاك لا تعرف أهو الطريق أخذك معه أم أنت أخذت الطريق معك وذهبت.
   قال الابن بعد ان سمع كلمات والده:
ـ إذا كانت هذه هي وصيتك لي فلماذا لم تعمل بها؟
ـ لأن الذنب يا بني إن لم يرتكب يغدو كالوجه إن لم يبصر ويرى حقيقته في المرآة، فإنها آنذاك هي التي ستبصر فيه!
[13] حكاية
    كانت جدته تحكي له، قبل الذهاب إلى النوم، فتقول: الصخور، هي الأخرى، تمتلك أجنحة، وتطير، من مدينة إلى أخرى. فهي مخلوقات وديعة، ورقيقة!
   لكنه لم يعد يرى شيئا ً مما كانت تتحدث به جدته، بعد ان نجا من الموت، وبعد ان تحول منزله، وبعد ان تحولت منازل الآخرين، إلى أعمدة من الدخان، والغبار.
  أين أنت ِ الآن يا جدتي؟  يقينا ً إنها لم تكن تقصد هذه الحجارة، ولا هذه الصخور، التي اشتعلت فيها النيران، وتحولت إلى أكوام من الأنقاض.
     إنما شعر بقوة ما ساعدته على الفرار، بعيدا ً عن منزله، ومنازل الآخرين، وعن المدينة التي رآها تحولت إلى أكوام من الحجارة، والمخلفات.
ـ أنا أفقت من النوم، فهل علي ّ ان أغادر أحلامي، يا جدتي العزيزة...؟
    عاد يرى أعمدة الدخان ترتفع عاليا ً، وقد حجبت عنه زرقة السماء، فلم تعد أصابعه النحيلة قادرة على رؤية ما كان يحدث أمامه، بعد ان فقد بصره. فراح يستنشق حكايات جدته، قبل قرون، وربما قبل آلاف السنين، وهو يتوحد بتراب الأرض.
[14] رماد
     لمح أجزاء متفرقة من جسده تغادره...، بحث عن فمه فلم يجده، ولا عن عينيه، ولا عن آذنيه، ولا عن الأجزاء التي كانت تحافظ على بقائه حيا ً. لم يمتلك قدرة ان يدوّن ما حدث له. فلم تبق إلا خلايا تعمل منفردة، معزولة، محاصرة بفراغات رآها تتسع، وتتسع....، لم يكن انفجارا ً، أو عبوة، أو حزاما ً، لم يستطع ان يحدد طبيعته، لأنه لم يعد يمتلك إلا أثرا ً لحفنة رماد تجاور حفنة أخرى لا لون لها، لان خلاياه المتناثرة كانت تدوّن بانتظار من يعيد قراءتها: رماد ليس له مذاق، وأصابع، هي الأخرى، تحولت إلى ذرات كانت تحفر في الريح أبجدية وحدها لا احد يعرف أكانت تدوّن أم كانت تستكمل المحو.
[15] دورات
ـ ما الذي حدث لك، يا صديقي، وأنت تكاد تموت من الضحك؟
ـ هل تتذكر جارنا، معلم اللغة العربية، الذي كان ـ قبل نصف قرن ـ منفيا ً في مدينتنا؟
ـ أتذكره.
ـ كان، كلما حولوا ملاحقته، ومضايقته، يهرب إلى مركز الشرطة، هاربا ً من هؤلاء، ومن المخبرين...؟
ـ وما المضحك في الأمر؟
ـ تخيّل الأمر مثلي: فانا الذي كنت أخاف..، من ...، هؤلاء...، واهرب منهم، وأتوارى عن أنظارهم، طوال سنوات، أصبحوا يخافون مني!
ـ ولكن هذا لا يثير الضحك حد الموت!
ـ ليس لأنني على صواب، وليس لأنهم كانوا حمقى، بل لأنني أودع الحياة، وأنا غير آسف على شيء ما يستحق الأسف عليه!
ـ وهل هذا هو سر انشراحك حد الموت؟
ـ لا، ليس لأن الذي كنت أخاف منه، أصبح يهرب مني، ويلوذ بالفرار من وجهي، وليس لأن الذي كان يريد قتلي صار يستنجد بي، ويحتمي بقوتي وأنا لا امتلك شيئا ً منها، بل لأن الموت ذاته لم يعد يخاف منا، ولا نحن نخاف منه!

20/2/ 2014  

ليست هناك تعليقات: