قصة قصيرة
حضانة الأطفال
عادل كامل
لا أحد يعرف متى بدأ الإضراب، ومن مهد له وقاده إلا بعد سنوات طويلة. في ذلك اليوم كان ثلاثة من المشاركين فيه يجلسون في مقهى المدينة ويتحدثون عنه بصوت مسموع. بيد أن الأخبار التي تناقلها سكان المدينة سرت بشكل غريب أضطر السلطات إلى التدخل. لكن ذلك التدخل جاء بمثابة إشعال فتيل الإضراب الحقيقي، فقد بلغ الخبر أن أطفال دار حضانة "...." الكائنة في نهاية المدينة، فوق مرتفع جبلي محاط بأشجار معمرة كبيرة جداً قد أعلنوا احتجاجهم لأسباب غير مفهومة تماماً. فأطفال دار الحضانة تلك وعددهم لا يتجاوز المائة طفل أغلقوا الأبواب ومنعوا اتصال أي كان بهم. كان إضرابهم بلا مطالب أو غايات محددة. إلا أن تدخل السلطات في الإضراب دفع الأطفال إلى الاعتصام وعدم مغادرة صفوفهم وغرف نومهم. وللحق فأن دار الحضانة المشيدة بالحجارة الجبلية بمثابة ضرب من المعمار المحكم والجميل..يضاف إلى ذلك وجود سور محكم بها. أما المربيات فأن الاعتقاد الأكيد المعروف عنهن يقول بأنهن قط لم يتدخلن في السياسة ولم يمتلكن أفكاراً غير سليمة. أما عن مشعلي نار الإضراب وأسبابه فبقيت أموراً مجهولة حتى زمن لاحق..وعلى كل فقد تم تطويق دار الحضانة بفصائل مدججة بالسلاح وأعلن آمرها أن الدار محاصرة من الجهات كلها، وأن على المضربين الاستسلام فوراً، بيد أن تلك القرارات دفعت المعتصمين إلى إعلان مطاليبهم التي تكونت من فقرة واحدة وهي أنهم سينتحرون جميعاً لو أستمر وجود فصائل الشرطة من حولهم، ونجحوا فعلاً في بادئ الأمر، إذ تدخل آباء الأطفال وأعلنوا أنهم حالما ينتهي الإضراب سيعاقبون أطفالهم..كما تدخلت الأمهات وهن خائفات مذعورات وقلن أنهن عارضن فكرة تأسيس الحضانة، ومع ذلك قلن أنهن سيجلدن أطفالهن جلداً مناسباً وعنيفاً لهذا العمل الفظيع.
بيد أن فشل المحاولات دفع بآمر الفصائل إلى رفع صوته. قال أنه سيدفع بجنوده إلى احتلال المكان..لكنه شاهد بوضوح أن الأطفال كانوا على استعداد لحرق أنفسهم فوراً، وأعلنوا بأنهم سيموتون الواحد بعد الآخر. ومرة أخرى تدخل الآباء والأمهات في الأمر، الذي دفع بآمر الفصائل إلى التراجع. قالت له أحدى النساء:
- ..دع الأمر لنا..نحن سنتدخل ونعالج الأمر..
- ماذا ستفعلن؟
أجابت بهدوء:
- سنقطع أصابعهم..
وتدخلت امرأة أخرى إذ ْ قالت بصوت مرتفع:
- سنلقنهم الدرس الذي سيتذكرونه طوال حياتهم!
وتأكد لآمر الفصائل أن من المستحيل إنهاء الإضراب بالقوة. ذلك ليس للفضيحة التي ستنتشر وتتناقلها الأفواه وربما الإذاعات والعالم بأسره. آنذاك سيعاقب آمر الفصائل من قبل الجهات العليا وبالذات ليس لفكرة إضراب الأطفال وهم دون سن الثالثة والثانية.من العمر، وإنما لأنه لا يمكن استعمال القوة ضد أطفال تأكد له بجلاء أن نصف عددهم في الأقل من أبناء رجال الفصائل وأن أبنه معهم أيضاً. وحار في اتخاذ قرار مناسب ينتهي به انتشار الخبر. وقال أنه لو كان الإضراب خفياً لما ضر الأمر ولأبقى الأطفال محاصرين حتى ينفذ الحليب والطعام المتوفر لديهم والذي لا يكفي لثلاثة أيام. بيد أنه خاف من انتشار الخبر ومدى تفسير الناس له بصفته حالة غريبة لمدينة عمل فيها ضمن فصائله سنوات طويلة. وأرتجف جسده وشعر بدوار وغثيان لم يكن ليحصل له لو أنه تراجع عن فكرة تحطيم السور الخارجي ومحاصرة الأطفال ومنعهم من القيام بأي عمل تخريبي.
في هذه اللحظات جاء أحد مساعديه وأدى التحية. قال الآمر:
- تفضل.
فأجاب المساعد بصوت عسكري:
- سيدي..هل هم عُزّل من الأسلحة أم....؟
لم يجب الآمر..واستدار بجسده الكبير، وسأل مساعده الآخر:
- أي الأسلحة يحملون..وهل لديهم ذخيرة كافية؟
ذهب الآخر لاستطلاع ومعرفة التفاصيل. أما الآمر فتذكر أنه جاء ببندقية صغيرة لولده الذي تخيل أنه- الآن- يجيد استعمال الأسلحة. فقد كان طوال الوقت يصوب نحو السماء ونحو الأشخاص بخبرة رجل دخل عدة حروب.
مع أن أبنه لم يتجاوز العام الثاني من حياته إلا بشهر واحد فقط، فقد تخيل الآمر أن أبنه قد قام بتدريب التلامذة على بعض الأسلحة الخفيفة، إلا أنه أستبعد معرفته بأسلحة الدفاع ضد الدروع أو الطيران بشكل خاص أو غيرها. ثم أن من المستحيل الحصول على أسلحة متطورة يمكن بها مواجهة أسلحة العدو المتطورة. ودار بخلده أن معظم الصغار لم يحصلوا على تدريب مناسب، وأن أفدح ما في الأمر هو أنهم يستطيعون البكاء والصراخ والعويل ولا شيء آخر. وأبتسم بخبرة رجل، ولكن بحيرة تامة راح خلالها ينتظر مساعدة الآخر الذي جاء وأعلن له بأنه لا يوجد لدى المضربين أية أنواع من الأسلحة، وقال بالحرف الواحد:
- أنهم يهددوننا بالشوكات..والأكواب..وغير
ذلك!.
- الحمد لله!
أما المساعد الأخر الذي فكر
بقصف دار الحضانة بالهاونات وتحطيم السور بصواريخ القذائف المضادة لحصون
المشاة والدروع فلّم يصدق كلمات آمره..وعندما غادره أمر فصائله بأن تبقى قوته
حذرة وتحتاط لأية مفاجآت غير متوقعة، فقد كان يعتقد بأن شهراً من التدريب يكفي لخلق
رجال مدربين على الأسلحة المتوسطة، ثم أنهم- دار بفكره- كانوا لا يثيرون الشبهات قط:
فهؤلاء الأطفال كانوا يتسللون إلى المعسكرات مع أولياء أمورهم وربما لهذا السبب- ولأسباب
أضافية- نجحوا في سرقة عدد منها. ولم يطمئن للموقف الذي تزايدت شدته وخطورته
أثر عودة الفصائل للاقتراب من الأسوار، الأمر الذي دفعه لإعلان الحذر الشديد
وفتح النار في الوقت المناسب.
كانت الشمس في كبد السماء، وأشعتها الذهبية تضيء الغابنة،
فيما كان عدد كبير من النسوة قد استسلمن وجلسن فوق العشب باكيات وكأنهن في مأتم وكن يخشّين أن يصبن بسوء بعد
أن فقدن، نصفهن على الأقل، أزواجهن وأشقاءهن، في معارك السنوات الست السابقة بعد اندلاع
الحرب.
أما الرجال فكانوا أكثر
تجلداً، وكانت أحاديثهم مع آمري الفصائل تبدو متماسكة، ذلك ليس لأنهم خبروا
حياة الحرب والموت، بل لأنهم كانوا غالباً من الرجال الذين سحقت أية
معارضة في أعماقهم.
وجاء نداء الأطفال مرتفعاً،
ولم تكن ثمة مطالب جديدة، لقد كانوا يطالبون بابتعاد الفصائل، والآباء،
والأمهات أيضاً، وجاء الصوت واضحاً يقول أن المضربين لا يطلبون بشيء، وأنهم،
عندما تتركهم فصائل المحاصرة سيتخلون إلى الأبد عن دار الحضانة ويذهبون إلى الجبال
والغابات، وأنهم هم ذاتهم سيتحملون المسؤولية. بيد أن ذلك النداء جاء بمثابة
التحدي. وقال آمر الفصائل لمساعديه:
- ربما سيباغتوننا بهجوم مضاد.
وأمر مساعديه بالحذر من
وقوعهم في كمين ومحاصرتهم من الخارج. قال لمساعده الأول:
- وربما ستصلهم نجدات
..!
وأستمر الحديث المتبادل بين المضربين وأفراد الفصائل
حتى اختفى آخر أشعاع للشمس وتوقع آمر الفصائل أنهم سيستلمون حالاً. لكن القمر في تلك الليلة كان يضيء الغابة
كأنه نجم ساطع. ثم أنه منع قواته من قصف دار الحضانة بسبب وجود أبنه معهم. ولأنه خاف
من أن ينتقل الخبر إلى القرى والمدن المجاورة، بل ربما تناقلت إذاعات العالم الخبر
الغامض الطريف! آنذاك سيعاقب ويطرد من وظيفته التي لم يحصل عليها إلا بعد ربع قرن
من العمل والكفاح اليومي والالتزام المطلق..قال:
- لننتظر حتى الفجر.
ومضى الليل بطيئاً. وجاءت أشعة الفجر ليكون الإضراب قد دخل يومه الثاني. قال آمر الفصائل يهدئ
الآباء ولأمهات أن المضربين سيستسلمون قبيل الظهر. بيد أن المضربين أعلنوا أنهم
لن يغادروا دار الحضانة أبداً، وأنهم في حالة بقاء القوات تحاصرهم سيضطرون
إلى اتخاذ قرارات مهمة تناسب منعهم من المشاركة في قتال العدو.
آنذاك قال أحد مساعديه:
- أنه إضراب سياسي..
- كلا..بل هم ينوون دخول
المعركة.
وساد الصمت بين قادة
الفصائل وكل منهم لا يفكر إلا في وسيلة لاحتلال البناية وإنهاء الإضراب، بيد أن جهودهم
باءت بالخيبة. وهكذا دارت بخاطر آمر الفصائل فكرة أن تكلف الأمهات بدور الاقتحام، من ثم يكون الآباء في الخط الثاني.
- بعد المعركة، أن حصلت، نكون
قد سيطرنا على الموقف.
لكن نداء أحد المضربين،
وربما قائدهم جاء مدوياً بأن الجميع سيحرقون أنفسهم داخل أسرتهم ذاتها وفي
غرف نومهم، وأنهم لا يسعون إلى شيء، فقد أدى الاعتصام غرضه وأنهم سيغادرون دار
حضانتهم ويعودون إلى منازلهم..إلا أن آمر الفصائل لم يطمئن لهذا الأمر وعده
كميناً، لأنه كان يدرك جيداً أنهم سيهربون إلى الجبل، أو إلى أي مكان آخر خارج المدينة..وكاد يأمر قواته بقصفهم لولا أنه خاف
الفضيحة..آنذاك هدأ نفسه وراح يضرب الأرض الصلبة بهدوء، ضربات متتالية، قيل أنها كانت تدل
على قلقه وعدم قدرته على اتخاذ قرار مناسب، وبعد ساعة، قبيل غروب الشمس، جاء الأمر من السلطات العليا بإعفائه من
القيادة، وتنفيذ حكم الإعدام فيه فوراً أمام باب دار الحضانة. وحدث ذلك سريعا ً،
ضمن ضجة الأمهات والآباء..وعندما تسلم قيادة الفصائل أحد مساعديه أكتشف
الآخر أن مصيره لن ينتهي إلا إلى ما انتهى إليه الأول، فقرر،
بعد تفكير وجيز، احتلال البناية، لكن القمر في مساء ذلك اليوم لم يظهر وكان الظلام حالكاً شديد السواد، وثمة عواصف
ممطرة هبت، وبدأ الرعد والبرق، وسقط المطر غزيرا ً..لكن الآمر الجديد قرر تنفيذ
الأوامر التي صدرت إليه..وبالفعل تم هدم السور الأمامي..ونجحت فصائله بالتقدم دون
أية مقاومة..وبعد نصف ساعة من ذلك. تم احتلال دار الحضانة..إلا أنه لم يكن
هناك أي طفل يمكن إلقاء القبض عليه!!
1982-8-21
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق