قصة قصيرة
ليلة عيد الميلاد
عادل كامل
لم أكن أعرف بالضبط اللغة التي كان يتكلم بها،
لكني فهمت أنه كان يروم قتلي. قلت له: تفضل .. قل ما تشاء .. ما الذي يمكن أن
أقدمه لك .. بالأحرى، يا عزيزي .. أنا عرفت ماذا تريد .. ولكني ..
قاطعني .. بلغته الغامضة .. حتى حسبت أنه جاء إلينا من كوكب آخر. وربما جاء الغريب
من مكان بعيد ولا يعرف عني شيئا؟ لم افهم كلمة واحدة من خطابه الغريب، إلا أني
حدست، كما قلت، أنه جاء لقتلي. للحق أنني أتوقع، في كل يوم، وفي فصل الخريف على
التحديد، وجود شخص ما يؤدي هذه المهمة، وينقلني بعدها، إلى الأحلام . أنا رجل ..
قلت له أنا مخبول..وبسيط.. بل أنا رجل عادي..لا صلة لي بالكواكب البعيدة. كل ما
أريد، بحت له بأني لا أريد شيئاً.
لم يتكلم. كان يراقب البيت كله. أي غرفتي الصغيرة الكائنة في بيت قديم في حي
شعبي..التي أسكنها منذ ربع قرن..كان ينظر وهو يفترس الأشياء.
ورحت أفكر. للحق أنا لا أفكر..لكن الجميع يعتقدون بأني أفكر. ثم لماذا أفكر؟ قلت
لنفسي مادمت سأقتل، في يوم ما، وفي الخريف على وجه التحديد، بل في هذا اليوم
تماماً، فلماذا لا أعترف له بأني لا أعطي قيمة تذكر للإنسان الذي يفكر، بل
حتى للإنسان الذي يتظاهر بالتفكير والعمق والحزن والصمت. فقلت له – تفضل.
لم يتكلم. كان يتظاهر بالتفكير. إلا أني لم أشعر بالرعب كما في تلك اللحظة عندما
أهملني. هذه الحالة تخيفني منذ الطفولة..وعندما بلغت الخمسين .. وطردوني من العمل
.. عفواً .. عندما تقاعدت برغبتي الخالصة..أدرك ما معنى أن تهمل .. وها هو يهملني
بصفاقة. ماذا تتوقع من شخص مجهول يدخل غرفتك، وفي الليل، وبلا استئذان، ثم يتحدث
إلى .. إلى .. إلى الأشياء ولا يتحدث إليك .. أو معك؟
لكني رجل صبور، لا بدافع خمولي العقلي، أو عذاب روحي الفادح، بل لأن هذا بمثابة تسلية.
فأنا لم أتزوج مثلاً إلا لهذا السبب..أي أنا رجل يحب التسلية أصلاً .. ولماذا لا
أحب التسلية .. والمرح .. ؟
-
.....
صفعني بشريط من الكلمات. وبعبارات بلهاء. بلا معنى أصلاً. لقد رماني بشريط من
الرصاص..أجل..أقسم لكم أني لا أبحث إلا عن الوضوح. عن ..
لكنه هز رأسه، ودخن، وأخذ يتناول وجبة من الطعام .. أي طعامي الذي حرصت على أن
أتناوله في عيد ميلادي..في ليلة أحسبها أجمل ليالي عمري، وبعد أن أدركت أني لن
أتمتع بالسعادة إلى أبد الآبدين، وأنه لا يمكن لي أن احصل عليها حتى لو منحت إلي
ّ، ثم أنني لم اعد أبحث عنها في الحالات كلها.
قال، بالغموض ذاته، كلمات مرعبة. والرعب هنا يكمن في الغموض أصلاً. كلا .. بل في
الوضوح القاتل. أني .. أعترف بأن لغته ليست معقدة جداً..إلا أني غير قادر على
الإصغاء..ثمة أشياء تتبعثر داخل جسدي..أشياء يقال أنها محض أوهام..كلا. أني الوحيد
الذي يقدر فداحة هذا المرض..المرض المسلي أيضاً..فأنا أعتدت أن أتسلى حتى بأوهامي
وخرافاتي..بعد أن يئست من التسليات العادية.
انتهى من تناول الطعام. دخن. وحدق في سقف الغرفة. وهز رأسه. ماذا تراه أكتشف في
هذه اللحظة؟ لا شيء..فأنا لا أخفي شيئاً
لا في السقف ولا في أي مكان. الشيء الوحيد الذي فشلت في إخفائه هو أنا..أنا هذا
المجنون ..وإلا لو كنت قد نجحت بإذابة نفسي في أي سائل لما كنت في هذا الموقف. على
أية حال لا معنى حقيقياً لهذا الخوف من رجل غريب..فأنا استطيع الاتصال برجال
الشرطة..للحق نصف أفراد أسرتي يعملون في الشرطة..والنصف الآخر لا علاقة لهم بأحد.
كلا. لن أتصل بأحد .. ترى ما تهمتي ضد هذا الرجل؟ سيقول أنه جاء لزيارتي..وأنه من
أعز أصدقائي. يا لها من نكبة لو قدمت شكوى ضده..فستوجه التهمة ضدي..وأسجن..أسجن في
ليلة عيد ميلادي..وأنا قد بلغت الخمسين.
وتركته يحدق في الجدران..كأنه يبحث عن شيء محدد..غريب..أنا لا أعرف
ما يثير استغرابه في جدران عارية. للحق أنا لا أحب عادة لصق الصور على
الجدران..أنا أحب دائماً بقاء الجدران عارية..أو كما هي بيضاء..لكن الغريب راح
يتفحص الجدران..حجارة بعد أخرى..بذهول..ربما جاء للبحث عن كنز في هذه الغرفة..في
هذا الحي الشعبي..أو يبحث عن شيء أمين..أو عن قضية لها صلة بأحداث غامضة. أنا أؤمن
بالأسرار..بالأحرى بتلك المخفيات التي يمارسها هواة الاشتباكات الغامضة.. بل أؤمن
بلا جدوى فضح الأسرار، مادامت تسبق صاحبها إلى الموت! أليست الحياة بأسرها سلسلة
من الأسرار ...؟
رفع رأسه..وحدق في قمة رأسي، كأنه كان يعرف ما كان يدور في راسي، سراً، وهذا يعني
أننا عدنا إلى القرون الوسطى..وعليّ الآن لأسباب لا تحصى، أن أسكت. بيد أنه، مرة
أخرى، أهملني وراح ينظر إلى الجدران. أنا شخصياً لم أنظر إلى هذه الجدران، لماذا
أنظر؟ أنه لمن العبث التظاهر بأنك جيد الملاحظة.. وذكي الفؤاد..وعميق البصيرة!
فكرت لحظة أن أقتله..أنا شخصياً قتلت مليارات البشر..وكان ذلك يحدث في أحلامي،
وكنت أصر على تكرار تلك الأحلام..لكني شعرت برعب لفكرة قتل رجل جاء لـ..على
الأغلب..جاء لحسم حياتي..حياتي أنا..أنا أيها السيد..ورفعت صوتي قليلاً:
-
أكاد أكون الوحيد في هذا العالم.. الذي لا يعرف أي شيء
عن هذا العالم..ثم أنني رجل بلا مميزات، عدا بلادتي التي أفتخر بها.. صدقني أني..
وكدت أعترف له، بأني أستحق القتل! لكنني قلت له:
-
أستحق البقاء حياً أو هكذا..أو هكذا نصف ميت ونصف
حي..فماذا تريد مني في ليلة عيد ميلادي؟
أهملني. كان جدي، عندما لا تمطر السماء بعد البذار، يحدق في الأرض. لكني حدقت في
سقف الغرفة..وأكاد أعترف بأني لم أر هذا السقف الأسود..أبداً. فشعرت
بالرعب..وتجمدت تماماً. كنت أراقب نظراته فقط. ودخان سيكاره المتصاعد نحو
الأعلى..نحو السقف. فكرت أن أدخن..في الحقيقة دخنت بلا تفكير. وتلك كانت أجمل
تسلية عرفتها في حياتي: أن تحترق وأن تحرق العالم! يا لي من نذل!
إلا أنه حدق فيّ. غريب..أنه حدس حواري كله..وكدت، في تلك الثانية من الزمن، أن
أهرب. ترى لماذا لا أغادر هذه الغرفة..وأذهب إلى حانة..أو مقهى؟ للحق أني لم أجلس
طوال حياتي في حانة..ولم اشرب قط.. أن الشيء الوحيد المؤلم الذي مارسته هو ولعي
المهول بالتدخين..لكنني شعرت برغبة ملحة في الجلوس في حانة..على أني قمعت هذه
الرغبة..وركنت للصمت.
فجأة حدثني بلغته الغريبة..وشممت منها رائحة الموت. لم أفهم منه كلمة واحدة، على
أني أدركت، على نحو مبهم، بأني لا محالة ميت هذه الليلة. فقلت له:
-
لا تتعب نفسك..أيها الغالي..فانا أستسلم لك..نفذ مهمتك
وغادر..المهم أن تغادر..فقد ضجرت..ولا أريد أن أموت من الضجر.
باللغة نفسها صفعني..لغة قريبة للصمت. لغة ناطقة بالصمت..لغة معادية للغموض
والوضوح نفسه..لغة سوداء. لكنه كف عن الكلام..وراح يدخن..
لم يحدث لي، طوال حياتي أن سمحت لغريب بالدخول إلى غرفتي..فقد كنت، خلال ربع قرن،
أعيش حياتي بعيداً عن الغرباء..بل، للحق، بعيداً عن المعارف والأصدقاء. فأنا
الوحيد في الدائرة، وفي المحلة..وفي هذا البيت، يعيش حياته بعيداً عن الضوضاء..بل
بعيداً عن نفسه..وهذا هو الذي أرعبني الآن..لكن لماذا الرعب؟ سألت نفسي: لماذا هذا
الرعب..وفي ليلة عيد ميلادي؟ ابتسمت وكدت أموت، بلا سبب، وأنا أحدق في الغريب..ألا
أني جمّدت الخوف الذي فيّ..ودخنت.
والآن لا أعرف في أي مكان كان يحدث..هل كان يحدق في أفكاري؟ أقشعر جلدي..تصلب..ونز
جسدي عرقاً بارداً..وعندما تأملته، بدافع التسلية. اكتشفت أنه يحدق في عيني!
غريب..لم يسبق لأحد أن نظر في عيني، على هذا النحو المخيف، المشبع بالذعر..بل لم
يسبق لأحد أن نظر إلي ّ أصلاً..لماذا؟ أنا لم أنظر إلى..أحد..فلماذا ينظرون إلي؟
قلت أنا رجل متقاعد وهذا يكفي للإحساس بأني ضمنت المستقبل. بالمناسبة أنا لا أخاف
من الماضي..ليس لدي ما أخسره..ثم أني لم أخسر..بل ..وهذا هو الأهم..أني لا أعاني
من عقدة الخسران. ليس لدي ما أفرح له..أو أحزن عليه. نحن في مقبرة واحدة فوق الأرض
أو داخل الأرض. الحلم نفسه..والصمت نفسه.
لكنه كان يحدق في عيني. غريب. أنه لا يتكلم. على أني شعرت برعب من نظراته إلي. منذ
جاء قلت لا أفهم اللغة التي يتكلم بها..والآن، ولا أعرف هل أنتصف الليل أم لا،
فأنا لا أمتلك ساعة بل لا أريد أن أستمع لتلك الدقات الآلية للزمن، أزداد رعباً من
تلك النظرات الحادة الثاقبة التي كادت أن تجعلني، في نظر نفسي في الأقل، مشبوهاً!
فجمعت قواي كلها واقتربت منه:
- تفضل
.. ماذا تريد مني؟
لم ينطق. فصرخت، وأنا أقترب منه أكثر:
- هيا..أقتلني..أرجوك.
ثم أمسكت، بشجاعة لا أعرف من أين جاءت، بعنقه..ماذا؟ صرخت:
- أنه
ميت.
ولم يتحرك، لم ينطق..لقد كان ميتاً منذ ساعة في الأقل..لقد كان متجمداً تماماً.
حسناً فعل عندما تناول العشاء..أي عشائي..وحسناً فعل عندما دخن..بالمناسبة لم تبق
لي أية سيكارة..ولكن ما معنى هذا..أن يحدث في عيد ميلادي؟ ثم ماذا أفعل بهذا
المسكين؟ اتصلت بالشرطة..وشرحت لهم أدق التفاصيل، وقلت لهم أني لم أقتله.. فأنا
كنت أعتقد أنه كان يروم قتلي..
- ماذا
تقول؟
- أنه
محض أحساس أو شك أيها الضابط..
- ولكن
لماذا لم تتصل بنا؟.
- لا
أعرف.
لكن الرجل الغريب نهض..وحدق فينا..وبلغته الغريبة تحدث مع الشرطة..ثم..بهدوء..سار
نحو سريري ونام فيه. في تلك اللحظة اعتذرت للشرطة قائلاً أنه جاء للاحتفال، كما
يبدو، بعيد ميلادي، ثم أنه لم يمت على أية حال. بل ربما أنني أنا الذي تطفلت عليه
وزرته في هذا القصر العظيم..من يدري. بل ربما أنا الذي كنت أنوي قتله، لسبب أو بلا
سبب..من يدري..لكني أرجوكم أن تدعونا نحتفل بشيء ما من الأشياء: أنها ليلة عيد
ميلادي.
1970-1987
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق