الأربعاء، 5 يناير 2011
الخيانة والغدر عند الفرس-خالد عزيز الجاف
الخيانة والغدر عند الفرس عبر تاريخهم الطويل
( الجزء الاول )
خالد عزيز الجاف - برلين من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ " ) آل عمران : 118
سبحان الله التاريخ يعيد نفسه ، ويسطر في صفحاته دروس وعبر للاجيال القادمة ، ويكشف خيانات الفرس عبر تاريخهم الاسود من جرائم بحق جيرانهم من الشعوب الاخرى . فكلما سنحت لهم الفرص تتكرر هذه الجرائم . (فالبغضاء في افواههم ضد العرب والاسلام شديدا وواسعا وكبيرا ، وماتخفي صدورهم اكبر . )
نحن امة عراقية شهدت اكثر الحوادث تنوعا في تاريخ البشرية من مأسي ودمار واحتلال وحصار لكنها لاتملك ثمرة التجربة. فهذا الكم المعرفي التاريخي خال من الخلاصة . جميع الشعوب حولنا يعرفون انفسهم ويفتخرون بقوميتهم واصولهم الا نحن تعوزنا معرفة الذات عبر النظر في مرأة التاريخ ابعد تواريخنا الاحتلال الفارسي واسقاط الدولة البابلية . واقرب تواريخنا الاحتلال المغولي واسقاط الدولة العباسية العربية في بغداد وتدمير الحضارة العربية ، ثم جاء بعده الصراع الفارسي التركي من اجل السيطرة على بغداد والعراق كله . قبل الاسلام كان الخطاب السياسي في العراق عنوانه عجما وعربا ، وفي عصر ظهور الاسلام وفتح العراق كان العنوان دينيا شعاره مسلمون وكفار ، في العصر الحالي انتقل العنوان سياسيا قوميا عنوانه الصراع العربي الفارسي . القضية اذن ليست لها علاقة بالدين الاسلامي والعقائد والفقه والشريعة ، فالعراق بلد غير محظوظ مع جيرانه حتى مع شعبه .
العراقيون شعب يميل الى الفردية والحرية الشخصية والجدل انه لايصلح لبناء الدول والامبراطوريات . العراقيون لم ينجحوا طيلة تاريخهم بعد سقوط دولهم الوطنية ( اكد وسومر وبابل واشور ) ان يغزو غيرهم او يوسعوا حدود بلدهم ، فقد كانت هناك رغبة اقليمية ودولية عبر التاريخ الطويل للتعرض للعراق واحتلاله . لقد اصبحوا عرضة لهجمات متلاحقة. فأذا ظهر زعيم وطني في العراق كما حدث في عهد عبد الكريم قاسم وصدام حسين تتحرك القوى الكبرى لتفرض عليه ارادتها وخططها الاستعمارية لاركاع العراق . لقد كان العراق ومازال حالة فريدة في التاريخ ، لايمكن ان يدع لحاله ليعيش كباقي الشعوب المسالمة . عاش الشعب العراقي ثائرا على مدى تاريخه الطويل ، جاء الامريكان واحتلوا العراق لكنهم يشكون الان من تمرد شعبه.
لو رجعنا دراسة تاريخ العراق القديم سنجد ان اول احتلال للعراق كان احتلال الدولة الفارسية له .
التاريخ ملىء بالعبر والاحداث المؤلمة والمخزية التي سطرها الفرس عبر تاريخهم الطويل المخزى منذ الدولة البابلية ولحد الان ضد الشعب العراقي . من يقرأ تاريخ الفرس ويتصفح احداثه لايجد غير الغدر والخيانة ونقض العهود، واشعال نيران الحروب ضد جيرانهم من الشعوب المسالمة الاخرى. وكل مؤرخ او مطالع لهذا التاريخ لايجد ابدا صفحة نقية بيضاء بين طياته. ان هذا التاريخ الذى سطره الفرس عبر تاريخهم الطويل قائما فى حب السيطرة على اراضى الغير، وشعوب المنطقة. والسؤال الذى يطرح نغسه هنا وبقوة، هل اصبح الفرس الان بعد دخولهم الاسلام اكثر تقوى ام تقية؟؟. فالفرق واسعا بين التقوى والتقية، وسأقدم هنا للقارى الكريم لمحات عن تاريخ الغدر لهؤلاء الفرس الذين ابتلى بهم العرب والمسلمين على مر التاريخ. انهم مشهورين بالخيانة والغدر حتى لاقرب اصدقائهم وحلفائهم المقربين والمرتبطين معهم بمواثيق وعهود . انبثقت الحضارة السومرية في الجنوب في الالف الرابع قبل الميلاد ، واتخذت هذه الحضارة شكلها السياسي والثقافي المتكامل مع قيام الملك ( سرجون الاكدي ) الذي مثل بداية سيادة اللغة الساميةالاكدية وتوحيد الدويلات العراقية وتكوين اول دولة موحدة (2350ق.م) على ارض الرافدين.
الاكديون هم من الأقوام التي هاجرت من جزيرة العرب ماقبل الإسلام والتي استوطنت في أواسط وجنوب العراق منذ مطلع الألف الثالث ق.م على اقل تقدير ، وعاشوا مع السومريين جنباً إلى جنب وكانت هذه الأقوام تتكلم الاكدية التي هي من عائلة اللغات الجزرية (اللغة العربية الأم لهذه اللغات). وفي حدود (2350) ق.م أسست دولتها التي عرفت بالإمبراطورية الاكدية وعاصمتها (أكد) التي لا يعرف موقعها الأصلي في الوقت الحاضر .ولذلك وجدت في اللغة العربية كلمات مستعارة من اللغة السومرية أصلها أكدي وذات جذور عميقة في تربة هذا الوطن وهما أقدم لغتين في بلاد مابين النهرين.
مدينة بابل في وسط العراق لعبت دورا اساسيا كعاصمة حضارية كبرى لفترة الفي عام تعاقبت عليها الكثير من السلالات والدول . . لقد اتخذت لغة العراقيين القدماء تكوينها الثقافي والكتابي من خلال استيعابها اللغة السومرية بما فيها من ثقافة ومعتقدات دينية والخط المسماري السومري. اصبحت الاكدية (بلهجتيها البابلية والآشورية ) لغة العراقيين الرسمية لما يزيد على الالفي عام، وخلفت لنا الآلاف المؤلفة من النصوص والوثائق الطينية التي سمحت لنا من معرفة كل شيء عن حياة العراقيين. .
تشير المصادر التاريخية على ان الاشوريين اتخذوا سنة1080ق.م نينوى عاصمة لهم . فالدولة الآشورية ، بالاضافة الى دورها االمتميز في تطوير الحضارة العراقية بالتكامل مع الدولة البابلية، فأنها ايضا قد تميزت بالروح العسكرية والميل الى التوسع والفتوحات التي جعلت العراقيين يسيطيرون على كل كل بلاد الشام وحتى مصر. ان سكان شمال العراق ما كانوا يختلفون عن باقي العراقيين ، لا من حيث اللغة ولا من حيث الدين، نفس اللغة الاكدية ( بلهجتها الآشورية) . لكن قد طغت عليهم تسمية( آشوريون) نسبة الى اله الثور ، الذي كان مقدسا لديهم اكثر من باقي العراقيين . واللغة السومرية التي ظلت لغة مقدسة لدى جميع السلالات العراقية بجانب لغتهم الاكدية خلال اكثر من الفي عام حتى نهاية بابل في القرن السادس قبل الميلاد
صحيح انه من الناحية السياسية فأن نينوى قد لعبت دورا منافسا لبابل ، وهذا الانقسام بين قطبين في داخل الوطن الواحد، مسألة طبيعية قد وجدت في معظم حضارات التاريخ مثل مصر وغيرها الا ان الوحدة اللغوية والدينية للعراقيين ظلت سائدة طيلة هذه القرون العديدة . لقد سادت اللغة الأكدية وهي من اول واقدم اللغات السامية المعروفة .
على مر التاريخ لم ينج العراق من شر حكام إيران ، بسبب الجغرافيا ، ففي عام ( 539ق.م ) إجتاحت قوات قورش الإخميني مدينة بابل ،واستمر الإحتلال حتى سقوط الدولة الإخمينية على يد الإسكندر المقدوني ( 322ق.م) ، وفي عام (200ق.م) احتلت السلالة الفارسية ( الفرثيون) البلاد ، واستمروا حتى قضى عليهم الساسانيون في عام (224م) ، فاستمر الإحتلال الساساني حتى الفتح الاسلامي عام (640م) ثم قتل آخر ملوكهم في مخبئه عام (651م). ، والصفويون ( 1499م _1722م) ، ثم نادر شاه (1736م _1747م) وقد أكمل الصفويون هذه الأطماع عندما قاموا باحتلال العراق اكثر من مرة ثم نشر أفكارهم بين أبناء العراق والذي لايزال يعاني منها الشعب العراقي .
ان سقوط بابل يعتبر سقوط اخر دولة عراقية وطنية ، واصبح النهرين ساحة صراع القوى العظمى : الايرانيون والاغريق والرومان ، حتى تمكن اخيرا الفرس الساسانيون من فرض سيطرتهم ابتداءا من القرن الثالث حتى القرن السابع ، حيث الفتح العربي الاسلامي . طيلة اكثر من ( 11 ) قرن ظل العراق محكوما من دول تختلف عنه دينيا ولغويا ، ورغم محاولات الايرانيون خلال قرون السيطرة من فرض لغتهم الفارسية وديانتهم الزرادشتية الا ان العراقيين ظلوا على ديانتهم البابلية ولغتهم الآرامية . منذ قبل الميلاد تمكنت اللغة الآرامية ان تصبحت لغة العراقيين السائدة وكذلك لغة سوريا ، والآرامية هذه بالحقيقة هي لغة سامية تكونت من التقاء اللغتين الاكدية العراقية والكنعانية السورية الفلسطينية ، فأن هذه المرحلة تميزت ايضا بالدين الموحد السائد في الشمال والجنوب طيلة عشرات القرون. وهذا الدين العراقي قائم على اساس ( عبادة الكواكب ) وما تتضمنه من معتقدات واساطير والهة متعددة ممثلة للكواكب ومسؤولة عن حياة الانسان والطبيعة . وهذا الدين العراقي شكل اساس(نظام الابراج وعلم التنجيم ) الذي ساد العالم كله ولا زال حتى الآن يتبع نظام الاشهر العراقية حيث البرج الأول هو (الحمل) في(21 آذار) اول يوم في السنة العراقية حيث انبثاق الربيع والخصوبة والميلاد. من المعلوم ان العراقيين القدماء بكل مسمياتهم (سومريون وبابليون وآشوريون)، كان يعتنقون نفس الدين، والذي يقوم على اساس (تقديس عملية الاخصاب في الطبيعة) والمرتبطة بعبادة الآلهة الممثلة للكواكب السبعة المعروفة وقتذاك: ( الشمس والقمر والزهرة وزحل وعطارد والمشتري والمريخ). والعراقيون هم اول من ابدع ما يسمى بـ (علم الابراج) أي الابراج الاثنى عشر المقسمة على اشهر السنة، ابتداءا من شهر نيسان وبرجه الحمل، وهو برج اله الخصب والذكورة(تموز) ويعتبر اول شهر من السنة العراقية، وفيه يخرج تموز من موته(الشتوي) في اعماق الظلمات في اول الربيع لتخصيب الارض. وقد صنع العراقيون الاوثان التي تمثل هذه الاله النجمية، حيث كل اله يمثل طاقة معينة، مثل تموز طاقة الذكورة، وعشتار طاقة الانوثة، وايل طاقة الخلق العظمى حيث هو زعيم الالهة. ان هذه الديمومة ( الحضارية ـ اللغوية ـ الدينية ) لدى العراقيين متأتية من طبيعة ارض النهرين وقدرتها على هضم الاقوام الجديدة واستيعاب ثقافتها المختلفة وصهرها في روح ومياه النهرين الخالدين وحضارتهما الأصيلة.
لم تنقطع اطماع الفرس بوادى الرافدين يوما ، هدفها للتمدد وبسط النفوذ في الدولة المجاورة لها واذا ماتم استقراء التاريخ فأنه يرينا العجب العجاب ، وقد عانت اور المدينة السومرية التى انطلقت منها اولى اللبنات لحضارة عظيمة فيما بعد عانت من تلك الاطماع كثيرا ، ومازال حدث اجتياحها من قبل العيلاميين فى اواخر حكم (ابى - سين) مسجلا حتى يومنا هذا فى مرثية قل نظيرها . وفى اواخر العهد البابلى ايام (نبوخذنصر) دخل كورش الفارسى غازيا فخرب مدينة بابل ، وكانت اور من ضمن المدن التى امر هذا الملك بتدميرها ، لانهاء دورها الحضارى الريادى . وعندما هاجم الفرس بابل كان بنشاصر وصيا عن والده نبونيد الذى كان مقيما فى مدينة تيماء ، وقاد قطعات الجيش فى الميدان ، ولكن الجيش الفارسى دحره وقتله (بالتواطؤ مع يهود السبى فى بابل) ويقال انهم اخذوا نبونيد اسيرا عند سقوط بابل ، واستولى كورش على ممتلكاته . ويبدوا ان كورش عبد الطريق الى هجومه بحملة من الدعاية البذيئة ضد الملك نبونيد لتشويه شخصه واخلاقه وبعد الاحتلال استمتع كورش بطمس معالم نصب نبونيد التذكارية . فالحالة الرهيبة من الدمار فى اور التى اصابت مبانى نبونيد تعزى بكل وضوح الى اعمال الفرس البربرية التخريبية المتعمدة (كما فعلوا بالعراق الحالى عند اجتياح قوات الغدر الامريكية للاراضى العراقى)
وعندما سقطت بابل تحت أقدام الجيوش الفارسية كان كهنة الإله البابلي (مردوك) يسجلون بأوامر كورش إن الإله مردوك رب بابل قد استدعى قورش لفتحها , وذلك فى المرسوم القائل على لسان مردوك انه ( بعد إن نظر فى كل البلدان ومحصها بحثا عن ملك تقي يكون من قلبه فليأخذ بيده نادى الملك قورش باسمه , وناشده السيطرة على الكون وأمره بالسير إلى مدينته هو (مدينة مردوك ) بابل , ودون معركة او قتال سمح له بدخول بابل ) والملك قورش فتح بابل بناء على طلب كبير أربابها , كذلك فعل مع بقية آلهة الدول المفتوحة , كذلك فعل مع يهوه , ويقول فى مرسوم أخر ( حين دخلت بابل أخذت برعاية شئون بابل الداخلية ومقدساتها . ففرح مردوك المليك العظيم لاعمالى المباركة , وباركني أنا كورش الملك الذي يجله ) وتمكن قورش من اجتذاب كهنة ديانات البلاد المفتوحة إلى جانبة وخاصة بنى اسرائيل , وهم من جانبهم ضمنوا له ولاء رعاياهم بما لديهم من أوامر إلهية يوحى بها . وقد سمح لبنى اسرائيل بالعودة إلى أورشليم لأنه تلقى أوامر يهوه بذلك . فالضربة القاصمة التى وقعت لاور فى اثناء الاحتلال الفارسى دمرت كل شىء فى ارض الرافدين، فأصبحت المدينة المنكوبة بابل حتى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد مدينة خراب ، وكومة انقاض وتماثيل محطمة بعد ان كانت مدينة مزدهرة كثيفة السكان .
اما اليهود قد برروا وصفهم لكورش الإخميني بأنه نبي مرسل وذلك بسبب إنقاذه دهاقنتهم من الأسر البابلي, على الرغم من علمهم ان كورش هذا كان قد قتل زوج خالته وتزوج بها لكي يصبح وريثا للعرش بعد موت جده لامه و توقفت حضارة وادي الرافدين منذ سقوط بابل في (539) قبل الميلاد على يد الفرس الأخمينيين حتى القرن السابع حيث الفتح العربي الاسلامي، أي ما يقرب (11) قرناً. يمكن تشبيها بالفترة المظلمةالتي اعقبت سقوط الدولة العراقية العباسية. ليس فقط من ناحية الانحطاط الحضاري الشامل الذي سادها، ولكن لأن العراق قد خضع ايضا لنفس القوى الاقليمية التي تنافست على احتلاله بعد سقوط الدولة العباسية، وهي ايران (بمختلف سلالاتها البارثية والاخمينية والساسانية)والاناضول واوربا( بمختلف سلالته الاغريقية والرومانية والبيزنطية).. لكن في هذه الحقبة، كانت الغلبة للسيطرة الايرانية، التي دامت اكثر من تسعة قرون: الاخمينيون (قرنان)، البارثيون (ثلاثة قرون)، الساسانيون (اربعة قرون)، وقد قطعت السيطرة الايرانية بسيطرة اغريقية دامت قرنين، بين القرن الرابع والثاني ق.م.
منذ ان اسس كورش دولته الفارسية عام 559 قبل الميلاد بعد ان تمكن من جمع القبائل الايرانية المشتتة من حوله وكان ينحت صوره على الحجر ويضعها في مواقع مهمة من المدن التابعة لحكمه ، ومنها تلك الصورة العظيمة التي نحتها في مسقط رأسه (بازار غاد) بالقرب من شيراز ، وكان الفرس يركعون امام هذه الصور حين يمرون بها وربما سجدوا لها ورفعوا اليها مظالمهم من وكلاء الملك او من الاقطاعيين او من عصابات اللصوص التي كانت تستولي بالقوة على محاصيلهم ، والمجتمع الفارسي انذاك مجتمع زراعي اغلبه من الفلاحين وقلة قليلة من الاقطاعيين والمتنفذين في الدولة هم الذين يملكون الارض . وقد عين كورش مراقبا عند كل منحوتة من منحوتاته ينقل اليه سلوك الناس ومخاطباتهم لصوره ، ويعمل قدر الامكان على الاستجابة لبعضها ، وكأنه تلقى ادعيتهم وهو في سمائه العليا واستجاب لها لتزداد قدسيته في نفوس الناس البسطاء . وفي زمن كورش قاد ذلك الى التفاف الفرس بقوة حول ملكهم واندفعوا خلفه يخوضون غمار الحروب وتمكن كورش من عقد حلف مع نبونيد نصر ملك بابل القوي ليتفرغ لمهام اخرى ومواجهة قوى اخرى بينما سعى نبونيد نصر بهذا الخلف الى تكوين قاعدة له ضد مملكة ( ماد ) وقد كفاه حليفه كورش شر الميديين فقد هاجمهم واستولى على عاصمتهم ( اكباتان ) وتعني مدينة الملوك وهي مدينة همدان حاليا . واسر اخر ملوكهم ( ايشتو ويغي ) وضم جنود وضباط الجيش الميديين الى جيشه . ويمكن وصف هذا العهد بأنه عهد ظهور وتأسيس الدولة الفارسية . وفيه صار ينظر الى كورش كأله لايقهر ، ولكنه وبسبب الغنائم واتساع مملكته وتوزيع اقطاعياته على الحاشية والضباط انقسم المجتمع الفارسي الى طبقات متمايزة اغنياء وفقراء .
وفي زمن كورش اصبح الجيش الفارسي الاخميني اكثر تنظيما واقوى عدة وتم تقسيمه الى قوات راكبة وقوات راجلة ، لم يكن احد يقدر على مواجهتها ، وبذلك اصبح الجيش الفارسي لايعرف الهزيمة ، ولم ينفع بابل تحالفها مع كورش فقد اعد العدة لها بذكاء ودهاء وحذر ذلك انها كانت تمثل الحصن المنيع في وجهه وفي وجه طموحاته في السيطرة على الشرق الاوسط ومصر وسواحل البحر الابيض . وفعلا هاجم كورش بابل العظيمة واستولى عليها ، واطلق سراح السبي البابلي من اليهود واعادهم الى فلسطين . الا ان كورش قتل في معركة ضد البربر في شمالي افريقا قبل ان يلحق جيشه هزيمة نهائية بالبربر . واعيدت جثته ليدفن في مملكته فارس . وقد حيكت حوله الاساطير كملك الهي .
اما عن الملك البابلي نبونيد فأنه يعتبر من قبل المؤرخون المعاصرون اخر ملوك بابل الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد اول باحث ومنقب اثار في التاريخ ، لانه قام بحملة في انحاء العراق والشام التي كانت تحت الحكم البابلي من اجل البحث عن كتابات الاسلاف واعادة الحيا ة الى الاثار المندثرة منذ الاف السنين. وكان يميل الى الاعتزال بعيدا عن الحكم والتفكير بأسرار الخليقة وطرح الاسئلة المصيرية العصية عن الفهم عن معنى الحياة وسر الموت .. وكان يحب التجوال فيى البراري والاختلاط بقبائلها . وقد اكتشف ان انحطاط ديانة المشرق الى طقوس شكلية يتعيش عليها الكهنة بماديات الحياة هو فقدان الايمان عند المواطنين بأي قوى عليا وتلاشى اي مبرر للدفاع عن الوطن والكفاح من اجل المستقبل . كانت والدة نبونيد تقية جدا ومتعلقة بأله القمر (سين) وتقدسه اكثر من مردوخ ملك الالهة. وكانت مملكة بابل والشام ومصر تعيش انذاك اكثر حقبها انطاطا كأي حضارة مريضة هرمة تتهيأ للسقوط امام القبائل الرعوية الارية الاسيوية الفتية التي اجتاحت غرب اسيا وبدأت تنشأ الممالك القوية في ايران والاناضول . وبعد تفكير طويل وحوارات مع الحكماء والفقهاء في الشام اقتنع نبونيد ان لاخلاص للناس من هذه الكارثة الا بخلاص النفوس من الاثام التي تنخرها نخرا وتفسدها . وكانت مشكلة ديانة اهل الشام دهرية لاتؤمن بالحياة الاخرى بل تعتقد بأن الجنة والنار هنا في الحياة الدنيا ، بينما ديانة مصر التي كان افضل مافيها هي فكرة (البعث والحساب) وخلود المؤمن في الجنة الموعودة .
شرع نبونيد في الاعلان عن هذه الديانة الجديدة في بابل عاصمة مملكته الا انه اصطدم بردود فعل عنيفة من قبل الكهنة الذين شعروا بأن هذا المعتقد الجديد يهدد سلطانهم الديني ، وراحوا يتأمرون مع الدولة الفارسية التي كانت تهدد بأجتياح البلاد ، وبعد ان فقد الامل في نشر معتقده الجديد قرر اللجوء والاعتزال فى الاماكن النائية ونشر مبادئه في البوادي والصحارى ونشر دعوته بين الناس على ان (ايل) الله هو اله جميع البشر في كل مكان وزمان ، بل هو اله الكون بأجمعه . وكلف ابنه (بيلشاصر) نائبا عنه في ادارة شؤون مملكته بابل ، وابتنى له عاصمة دينية في جنوب بادية الشام (التيماء) وجمع حوله الزهاد والمريدين ، ويقضي اكثر اوقاته في الصلاة ل (ايل) كي يبعث رسوله (البعل المخلص) ليهدي شعبه وينقذهم من الخراب والانحطاط ومع مرور الزمن تحولت التيماء الى قبلة للقبائل البدوية التي راحت تنتشر بينها هذه الديانة الجديدة حتى وصلت الجزيرة العربية كلها واليمن وسيناء . الا ان جيوش الاخمينيين اجتاحوا مدينة بابل بعد خيانة رجال الكهنوت وتعاونهم مع الغازي . اما بالنسبة للملك نبونيد فلا احد يعرف مصيره بعد سقوط بابل هناك من يعتقدبأنه انه هرب واعتزل في البادية هو واتباعه البابليين وامتزجوا مع قبائل البادية وتزوجوا وانحدروا الى الجنوب في اعماق الحجاز على سواحل البحر الاحمر ، وهم الذين اسسوا مدن يثرب ومكة .
وقد اصبح الملك نبونيد مقدسا عند اتباعه ومريديه الكثير منهم يعتقدون بانه المهدي المنتظر صاحب الزمان الذي سيظهر ذات يوم لينقذ الناس من الظلم والجبروت والفساد ويمكن اعتبار ان نبؤة نبونيد انه من هذه السلالة البابلية التي سكنت ارض الجزيرة العربية سيظهر نبي المستقبل من قبيلة قريش التي تنحدر من سلالة اسماعيل عليه السلام وامه الذين قطنوا الصحراء ومنهم انحدر اجداد العرب المستعربة . وقد لعبت قبيلة قريش دورا قياديا في توحيد قبائل الجزييرة العربية ، حتى انبثق الاسلام ليحقق احفاد بابل نبؤات الملك الصالح نبونيد .
طيلة التاريخ ظلت منطقة نينوى شمال العراق حلقة الوصل التي تربط العراق بمنطقة الشام وعموم البحر المتوسط. فمن خلال نينوى ومنذ القرن الاول الميلادي بدأت المسيحية السورية الفلسطينية تنتشر في شمال النهرين وباقي العراق حتى اصبحت في القرن الثالث الميلادي ديانة الاغلبية الساحقة من السكان ، تذكر المصادر الرومانية والآرامية أن (القديس توما) ثم بعده (مار عدي) من تلامذة السيد المسيح، مع تلميذه (مار ماري) هم الذين بشروا بالمسيحية في العراق، اولا في شماله ثم في وسطه وجنوبه. وقد شيد (مار ماري) ( ت 82 م) أول كنيسة في بلدة (كوخي) قرب المدائن، وقد وسعها مار عبد المسيح الحيري. وفيها تكونت (بطريكية) او قيادة (مرجعية) الكنيسية العراقية ومقرها في (المدائن ـ جنوب بغداد) وتسمى رسميا بكنيسة (بابل) ويطلق عليها المؤرخون احيانا (كنيسة فارس) بسبب خضوع العراق لفارس. وتتفرع الكنيسة العراقية الى فروع كنسية في كل انحاء النهرين ويطلق على كل فرع تسمية(ابريشية)، وانتشرت الكنائس والاديرة النسطورية حتى الاحواز والبحرين وقطرايا ( امارة قطر الحالية ) . ان اهم انجاز حضاري قامت به المسيحية العراقية انها افتتحت مدرسة في كل كنيسة وفي كل قرية ومدينة، فصار تعليم القراءة والكتابة والعلوم جزءا من النشاط الديني والايماني. وكانت هذه الخطوة بداية خروج العراقيين من قمقمهم الظلامي نحو افق النور والتحرر.
كانت السلطات الايرانية، بين فترة واخرى، تشن حملات قمع واغتصاب وقتل ضد المسيحيين. كانت الحملات متقطعة، سرعان ما تهدأ وتتخلها فترات سلم وتعاون وتقرب من قبل الملوك. وحسب المصادر المسيحية فان هذه الحملات المتقطعة خلال عدة قرون، كلفت مئات الآلاف من الشهداء. وقد ذكر المؤرخ المسيحي العراقي(ماري بن سليمان)، ان الملك (شاهبور) خلال ما اطلق عليه (الاضطهاد الاربعيني) الذي دام اربعين عاما في القرن الرابع م، قتل حوالي مئة وستين الف في بلدات شمال العراق، واكثر من ثلاثين الف في بلدات الفرات. وقد اكد المؤرخ العراقي المسلم المسعودي هذا الرقم(التنبيه والاشراف ص149). وحتى (القديس شمعون) وهو جاثليق (المرجع الاعلى) الكنيسة العراقية، الذي اعدمه الملك الفارسي مع اختيه لم يسلم من ايديهم ..
عموما هنالك سببان للاضطهاد، اولهما شعور الملوك والموابدة(رجال الدين المجوس) بأن المسيحية العراقية بدأت تشكل خطرا كبيرا على المجوسية وبدأت تكتسحها في داخل معاقلها بحيث ان هنالك الكثير من اقارب الملك والحاشية بدأوا يدخلون المسيحية، وان كنيسة المدائن العراقية تحولت الى زعيمة ومقر، ليس فقط للكنائس العراقية، بل لما يحصى من الكنائس المنتشرة في جميع انحاء الامبراطورية الفارسية حتى حدود الصين، بل ان المبشرين العراقين نشروا المسحية حتى في الهند وفي انحاء الجزيرة العربية. وهذا يعني ان العراقيين بدأوى يعوضوعن خضوعهم السياسي بهيمنة روحية دينية سوف تشكل اساس مستقبلي لانطلاقتهم الحضارية والسياسية والتي حصلت في الفترة العباسية.
بدأ السلطات الايرانية تدرك بأن هذا النشاط المسيحي العراقي ما هو الا بداية استعادة اهل العراق لدورهم القيادي، دينيا على الاقل. يضاف الى ذلك سبب ثاني، يتمثل بخوف الملوك الفرس من تعاون المسيحيين العراقيين مع الرومان ثم البيزنط الذي كانو على نفس الدين. رغم ان العراقيين تحولوا بغالبيتهم الساحقة في القرن الخامس الميلادي، الى مذهب (النسطورية) المخالفة لمذهب البيزنط. يلاحظ عموما ان الكثير من فترات الاضطهاد كانت مرتبطة بطبيعة العلاقة مع الامبراطورية البيزنطية الحاكمة في سوريا. فعندما تتوتر العلاقة بين الدوليتين، يبدأ الفرس يعاملون المسيحيين العراقيين كـ (طابور خامس) تابع للدولة البيزنطية. فيشرعون بعمليات انتقام وحشي سريع ضدهم والتركيز على اعدام الشخصيات الدينية النشطة، وسلب املاكهم.
تميزت المسيحية العراقية منذ البداية بأنشقاقها عن الكنيسة البيزنطية وتبني مذهب ( نسطور ) الذي اصبح مذهب الكنيسة العراقية التي سميت رسيما بـ ( كنيسة بابل ) . مع هذه الاغلبية المسيحية النسطورية التي تضاهي حوالي 90 % من السكان مع اقليات من المذهب اليعقوبي السوري واليهود والصابئة والمذهب المانوي البابلي. اما نينوى فقد كثر فيها ايضا اتباع المذهب المسيحي الشامي ( اليعقوبي) بحكم علاقتها الخاصة مع الشام.
خلال اكثر من 11 قرن غابت تماما اية دولة عراقية، وتحول فيها الوطن الى ساحة للحروب وللمنافسة وثورات وتمردات فاشلة قام بها العراقيون. رغم السيطرة الايرانية الغالبة، الا ان الرومان والبيزنط عندما كانوا ينجحون احيانا باجتياح العراق كانوا ينتقمون من العراقيين قتلا وحرقا لمدنهم. فالامبراطور الروماني (تريانوس) بعدما فتح (المدائن) سنة(115م) اضرم لهيب الاضطهاد في العراقيين واهلك منهم الكثيرين.
لكن رغم الضعف السياسي العسكري للعراقيين ، فأن اهل النهرين قد تمكنوا من الحفاظ على هويتهم السكانية والثقافية والدينية المتميزة عن إلايرانيين والاغريق. وقد تعرضت الثقافة العراقية الى تغيير جذري من الناحيتين، اللغوية والدينية. واكبر دليل على عمق الهوية العراقية وتجذرها، ان هذا التغيير اللغوي والديني لم يأتي بـتأثير القوى الايرانية والاغريقية المهيمنة، بل هو تطور داخلي طبيعي. من الناحية اللغوية، فقد حلت اللغة الآرامية (العراقية الشامية) محل اللغة الاكدية، وهاتين اللغتين قريبتين لبعض فهن من نفس الاصل. وقد فرضت الآرامية نفسها من خلال الكتابة الابجدية(الحروفية) التي اخترعها الشاميون وحلت محل الكتابة العراقية المسمارية(الرمزية) التي لم تعد تواكب العصر. اما من الناحية الدينية فقد صمد العراقيون بوجه التأثير الايراني المجوسي والديانة الاغريقية، وظلوا محافظين على ديانة اسلافهم (عبادة الكواكب) حتى القرن الاول الميلادي، حيث بدأت تحل بالتدريج الديانة المسيحية الشامية. لقد بلغت قوة العراقيين الحضارية انهم فرضوا الكثير من ميراثاتهم الثقافية على المحتلين انفسهم. إذ تحولت اللغة الآرامية (السريانية) لغة الثقافة الأولى في الامبراطورية الإيرانية نفسها، وانحصرت اللغة الفارسية (البهلوية) في البلاط الحاكم ورجال الدين المجوس. بل ان الايرانيين اقتبسوا الابجدية السريانية لكتابة لغتهم البهلوية، بعد تخليهم عن الكتابة المسمارية العراقية ايضا!
ومع انبثاق المسيحية في بلاد الشام في القرن الأول الميلادي، بدأت بالتدريج تتسرب الى العراق من القسم الشمالي (الرها ونصيبين) ثم نينوى وكرخاسلوخ (الاسم السرياني لكركوك) حتى ولاية بابل ومنها الى ولاية ميسان والبصرة والاهواز في الجنوب . ولم يمضي القرن الرابع الميلادي حتى اصبح المسيحية ديانة الغالبية الساحقة من العراقيين وتكونت الكنائس في جميع القرى والمدن العراقية. وكانت هذه المسيحية مصحوبة بتيارات عرفانية(صوفية)، قادمة من الشام ومصر، مع بعض التأثيرات الإغريقية. كان هناك ايضاً تواجد مهم لطوائف يهودية نشطة في انحاء النهرين، بالاضافة الى الصابئة الذي يعتبر اول دين(عرفاني ـ غنوصي) ممهد للديانة المسيحية. كذلك تعتبر (المانوية) لمؤسسها (النبي ماني البابلي)اهم الطوائف العراقية التي نجحت ان تنافس المسيحية، وتمكنت ان تصبح ديانة عالمية مقرها في بابل.
يمكن تقسيم هذه الفترة الطويلة الممتدة خلال (11) قرن، الى حقبتين:
يتبع في الجزء الثاني بإذن الله
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق