بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الأربعاء، 5 يناير 2011

الخيانة والغدر عند الفرس-خالد عزيز الجاف


الخيانة والغدر عند الفرس عبر تاريخهم الطويل
( الجزء الاول )
خالد عزيز الجاف - برلين من كتـــــّاب موقع بوّابــتي

‏(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ " ) آل عمران : 118 ‏

‏ سبحان الله التاريخ يعيد نفسه ، ويسطر في صفحاته دروس وعبر للاجيال القادمة ، ويكشف خيانات الفرس عبر ‏تاريخهم الاسود من جرائم بحق جيرانهم من الشعوب الاخرى . فكلما سنحت لهم الفرص تتكرر هذه الجرائم . (فالبغضاء ‏في افواههم ضد العرب والاسلام شديدا وواسعا وكبيرا ، وماتخفي صدورهم اكبر . ) ‏

‏ نحن امة عراقية شهدت اكثر الحوادث تنوعا في تاريخ البشرية من مأسي ودمار واحتلال وحصار لكنها لاتملك ثمرة ‏التجربة. فهذا الكم المعرفي التاريخي خال من الخلاصة . جميع الشعوب حولنا يعرفون انفسهم ويفتخرون بقوميتهم ‏واصولهم الا نحن تعوزنا معرفة الذات عبر النظر في مرأة التاريخ ابعد تواريخنا الاحتلال الفارسي واسقاط الدولة ‏البابلية . واقرب تواريخنا الاحتلال المغولي واسقاط الدولة العباسية العربية في بغداد وتدمير الحضارة العربية ، ثم جاء ‏بعده الصراع الفارسي التركي من اجل السيطرة على بغداد والعراق كله . قبل الاسلام كان الخطاب السياسي في العراق ‏عنوانه عجما وعربا ، وفي عصر ظهور الاسلام وفتح العراق كان العنوان دينيا شعاره مسلمون وكفار ، في العصر ‏الحالي انتقل العنوان سياسيا قوميا عنوانه الصراع العربي الفارسي . القضية اذن ليست لها علاقة بالدين الاسلامي ‏والعقائد والفقه والشريعة ، فالعراق بلد غير محظوظ مع جيرانه حتى مع شعبه .‏

‏ العراقيون شعب يميل الى الفردية والحرية الشخصية والجدل انه لايصلح لبناء الدول والامبراطوريات . العراقيون لم ‏ينجحوا طيلة تاريخهم بعد سقوط دولهم الوطنية ( اكد وسومر وبابل واشور ) ان يغزو غيرهم او يوسعوا حدود بلدهم ، فقد ‏كانت هناك رغبة اقليمية ودولية عبر التاريخ الطويل للتعرض للعراق واحتلاله . لقد اصبحوا عرضة لهجمات متلاحقة. ‏فأذا ظهر زعيم وطني في العراق كما حدث في عهد عبد الكريم قاسم وصدام حسين تتحرك القوى الكبرى لتفرض عليه ‏ارادتها وخططها الاستعمارية لاركاع العراق . لقد كان العراق ومازال حالة فريدة في التاريخ ، لايمكن ان يدع لحاله ليعيش ‏كباقي الشعوب المسالمة . عاش الشعب العراقي ثائرا على مدى تاريخه الطويل ، جاء الامريكان واحتلوا العراق لكنهم ‏يشكون الان من تمرد شعبه.‏
لو رجعنا دراسة تاريخ العراق القديم سنجد ان اول احتلال للعراق كان احتلال الدولة الفارسية له .‏

‏ التاريخ ملىء بالعبر والاحداث المؤلمة والمخزية التي سطرها الفرس عبر تاريخهم الطويل المخزى منذ الدولة البابلية ‏ولحد الان ضد الشعب العراقي . من يقرأ تاريخ الفرس ويتصفح احداثه لايجد غير الغدر والخيانة ونقض العهود، واشعال ‏نيران الحروب ضد جيرانهم من الشعوب المسالمة الاخرى. وكل مؤرخ او مطالع لهذا التاريخ لايجد ابدا صفحة نقية بيضاء ‏بين طياته. ان هذا التاريخ الذى سطره الفرس عبر تاريخهم الطويل قائما فى حب السيطرة على اراضى الغير، وشعوب ‏المنطقة. والسؤال الذى يطرح نغسه هنا وبقوة، هل اصبح الفرس الان بعد دخولهم الاسلام اكثر تقوى ام تقية؟؟. فالفرق ‏واسعا بين التقوى والتقية، وسأقدم هنا للقارى الكريم لمحات عن تاريخ الغدر لهؤلاء الفرس الذين ابتلى بهم العرب ‏والمسلمين على مر التاريخ. انهم مشهورين بالخيانة والغدر حتى لاقرب اصدقائهم وحلفائهم المقربين والمرتبطين معهم ‏بمواثيق وعهود . انبثقت الحضارة السومرية في الجنوب في الالف الرابع قبل الميلاد ، واتخذت هذه الحضارة شكلها ‏السياسي والثقافي المتكامل مع قيام الملك ( سرجون الاكدي ) الذي مثل بداية سيادة اللغة الساميةالاكدية وتوحيد الدويلات ‏العراقية وتكوين اول دولة موحدة (2350ق.م) على ارض الرافدين.‏

‏ الاكديون هم من الأقوام التي هاجرت من جزيرة العرب ماقبل الإسلام والتي استوطنت في أواسط وجنوب العراق منذ ‏مطلع الألف الثالث ق.م على اقل تقدير ، وعاشوا مع السومريين جنباً إلى جنب وكانت هذه الأقوام تتكلم الاكدية التي هي ‏من عائلة اللغات الجزرية (اللغة العربية الأم لهذه اللغات). وفي حدود (2350) ق.م أسست دولتها التي عرفت ‏بالإمبراطورية الاكدية وعاصمتها (أكد) التي لا يعرف موقعها الأصلي في الوقت الحاضر .ولذلك وجدت في اللغة العربية ‏كلمات مستعارة من اللغة السومرية أصلها أكدي وذات جذور عميقة في تربة هذا الوطن وهما أقدم لغتين في بلاد مابين ‏النهرين.‏

‏ مدينة بابل في وسط العراق لعبت دورا اساسيا كعاصمة حضارية كبرى لفترة الفي عام تعاقبت عليها الكثير من السلالات ‏والدول . . لقد اتخذت لغة العراقيين القدماء تكوينها الثقافي والكتابي من خلال استيعابها اللغة السومرية بما فيها من ثقافة ‏ومعتقدات دينية والخط المسماري السومري. اصبحت الاكدية (بلهجتيها البابلية والآشورية ) لغة العراقيين الرسمية لما يزيد ‏على الالفي عام، وخلفت لنا الآلاف المؤلفة من النصوص والوثائق الطينية التي سمحت لنا من معرفة كل شيء عن حياة ‏العراقيين. .‏

تشير المصادر التاريخية على ان الاشوريين اتخذوا سنة1080ق.م نينوى عاصمة لهم . فالدولة الآشورية ، بالاضافة الى ‏دورها االمتميز في تطوير الحضارة العراقية بالتكامل مع الدولة البابلية، فأنها ايضا قد تميزت بالروح العسكرية والميل الى ‏التوسع والفتوحات التي جعلت العراقيين يسيطيرون على كل كل بلاد الشام وحتى مصر. ان سكان شمال العراق ما كانوا ‏يختلفون عن باقي العراقيين ، لا من حيث اللغة ولا من حيث الدين، نفس اللغة الاكدية ( بلهجتها الآشورية) . لكن قد طغت ‏عليهم تسمية( آشوريون) نسبة الى اله الثور ، الذي كان مقدسا لديهم اكثر من باقي العراقيين . واللغة السومرية التي ظلت ‏لغة مقدسة لدى جميع السلالات العراقية بجانب لغتهم الاكدية خلال اكثر من الفي عام حتى نهاية بابل في القرن السادس قبل ‏الميلاد ‏

صحيح انه من الناحية السياسية فأن نينوى قد لعبت دورا منافسا لبابل ، وهذا الانقسام بين قطبين في داخل الوطن الواحد، ‏مسألة طبيعية قد وجدت في معظم حضارات التاريخ مثل مصر وغيرها الا ان الوحدة اللغوية والدينية للعراقيين ظلت ‏سائدة طيلة هذه القرون العديدة . لقد سادت اللغة الأكدية وهي من اول واقدم اللغات السامية المعروفة .‏

على مر التاريخ لم ينج العراق من شر حكام إيران ، بسبب الجغرافيا ، ففي عام ( 539ق.م ) إجتاحت قوات قورش ‏الإخميني مدينة بابل ،واستمر الإحتلال حتى سقوط الدولة الإخمينية على يد الإسكندر المقدوني ( 322ق.م) ، وفي عام ‏‏(200ق.م) احتلت السلالة الفارسية ( الفرثيون) البلاد ، واستمروا حتى قضى عليهم الساسانيون في عام (224م) ، فاستمر ‏الإحتلال الساساني حتى الفتح الاسلامي عام (640م) ثم قتل آخر ملوكهم في مخبئه عام (651م). ، والصفويون ( 1499م ‏‏_1722م) ، ثم نادر شاه (1736م _1747م) وقد أكمل الصفويون هذه الأطماع عندما قاموا باحتلال العراق اكثر من ‏مرة ثم نشر أفكارهم بين أبناء العراق والذي لايزال يعاني منها الشعب العراقي . ‏

‏ ان سقوط بابل يعتبر سقوط اخر دولة عراقية وطنية ، واصبح النهرين ساحة صراع القوى العظمى : الايرانيون ‏والاغريق والرومان ، حتى تمكن اخيرا الفرس الساسانيون من فرض سيطرتهم ابتداءا من القرن الثالث حتى القرن السابع ‏، حيث الفتح العربي الاسلامي . طيلة اكثر من ( 11 ) قرن ظل العراق محكوما من دول تختلف عنه دينيا ولغويا ، ورغم ‏محاولات الايرانيون خلال قرون السيطرة من فرض لغتهم الفارسية وديانتهم الزرادشتية الا ان العراقيين ظلوا على ديانتهم ‏البابلية ولغتهم الآرامية . منذ قبل الميلاد تمكنت اللغة الآرامية ان تصبحت لغة العراقيين السائدة وكذلك لغة سوريا ، ‏والآرامية هذه بالحقيقة هي لغة سامية تكونت من التقاء اللغتين الاكدية العراقية والكنعانية السورية الفلسطينية ، فأن هذه ‏المرحلة تميزت ايضا بالدين الموحد السائد في الشمال والجنوب طيلة عشرات القرون. وهذا الدين العراقي قائم على اساس ‏‏( عبادة الكواكب ) وما تتضمنه من معتقدات واساطير والهة متعددة ممثلة للكواكب ومسؤولة عن حياة الانسان والطبيعة . ‏وهذا الدين العراقي شكل اساس(نظام الابراج وعلم التنجيم ) الذي ساد العالم كله ولا زال حتى الآن يتبع نظام الاشهر ‏العراقية حيث البرج الأول هو (الحمل) في(21 آذار) اول يوم في السنة العراقية حيث انبثاق الربيع والخصوبة والميلاد. ‏من المعلوم ان العراقيين القدماء بكل مسمياتهم (سومريون وبابليون وآشوريون)، كان يعتنقون نفس الدين، والذي يقوم على ‏اساس (تقديس عملية الاخصاب في الطبيعة) والمرتبطة بعبادة الآلهة الممثلة للكواكب السبعة المعروفة وقتذاك: ( الشمس ‏والقمر والزهرة وزحل وعطارد والمشتري والمريخ). والعراقيون هم اول من ابدع ما يسمى بـ (علم الابراج) أي الابراج ‏الاثنى عشر المقسمة على اشهر السنة، ابتداءا من شهر نيسان وبرجه الحمل، وهو برج اله الخصب والذكورة(تموز) ‏ويعتبر اول شهر من السنة العراقية، وفيه يخرج تموز من موته(الشتوي) في اعماق الظلمات في اول الربيع لتخصيب ‏الارض. وقد صنع العراقيون الاوثان التي تمثل هذه الاله النجمية، حيث كل اله يمثل طاقة معينة، مثل تموز طاقة الذكورة، ‏وعشتار طاقة الانوثة، وايل طاقة الخلق العظمى حيث هو زعيم الالهة. ان هذه الديمومة ( الحضارية ـ اللغوية ـ الدينية ) ‏لدى العراقيين متأتية من طبيعة ارض النهرين وقدرتها على هضم الاقوام الجديدة واستيعاب ثقافتها المختلفة وصهرها في ‏روح ومياه النهرين الخالدين وحضارتهما الأصيلة.‏

‏ لم تنقطع اطماع الفرس بوادى الرافدين يوما ، هدفها للتمدد وبسط النفوذ في الدولة المجاورة لها واذا ماتم استقراء التاريخ ‏فأنه يرينا العجب العجاب ، وقد عانت اور المدينة السومرية التى انطلقت منها اولى اللبنات لحضارة عظيمة فيما بعد عانت ‏من تلك الاطماع كثيرا ، ومازال حدث اجتياحها من قبل العيلاميين فى اواخر حكم (ابى - سين) مسجلا حتى يومنا هذا فى ‏مرثية قل نظيرها . وفى اواخر العهد البابلى ايام (نبوخذنصر) دخل كورش الفارسى غازيا فخرب مدينة بابل ، وكانت اور ‏من ضمن المدن التى امر هذا الملك بتدميرها ، لانهاء دورها الحضارى الريادى . وعندما هاجم الفرس بابل كان بنشاصر ‏وصيا عن والده نبونيد الذى كان مقيما فى مدينة تيماء ، وقاد قطعات الجيش فى الميدان ، ولكن الجيش الفارسى دحره ‏وقتله (بالتواطؤ مع يهود السبى فى بابل) ويقال انهم اخذوا نبونيد اسيرا عند سقوط بابل ، واستولى كورش على ممتلكاته . ‏ويبدوا ان كورش عبد الطريق الى هجومه بحملة من الدعاية البذيئة ضد الملك نبونيد لتشويه شخصه واخلاقه وبعد ‏الاحتلال استمتع كورش بطمس معالم نصب نبونيد التذكارية . فالحالة الرهيبة من الدمار فى اور التى اصابت مبانى نبونيد ‏تعزى بكل وضوح الى اعمال الفرس البربرية التخريبية المتعمدة (كما فعلوا بالعراق الحالى عند اجتياح قوات الغدر ‏الامريكية للاراضى العراقى)‏

‏ وعندما سقطت بابل تحت أقدام الجيوش الفارسية كان كهنة الإله البابلي (مردوك) يسجلون بأوامر كورش إن الإله ‏مردوك رب بابل قد استدعى قورش لفتحها , وذلك فى المرسوم القائل على لسان مردوك انه ( بعد إن نظر فى كل البلدان ‏ومحصها بحثا عن ملك تقي يكون من قلبه فليأخذ بيده نادى الملك قورش باسمه , وناشده السيطرة على الكون وأمره بالسير ‏إلى مدينته هو (مدينة مردوك ) بابل , ودون معركة او قتال سمح له بدخول بابل ) والملك قورش فتح بابل بناء على طلب ‏كبير أربابها , كذلك فعل مع بقية آلهة الدول المفتوحة , كذلك فعل مع يهوه , ويقول فى مرسوم أخر ( حين دخلت بابل ‏أخذت برعاية شئون بابل الداخلية ومقدساتها . ففرح مردوك المليك العظيم لاعمالى المباركة , وباركني أنا كورش الملك ‏الذي يجله ) وتمكن قورش من اجتذاب كهنة ديانات البلاد المفتوحة إلى جانبة وخاصة بنى اسرائيل , وهم من جانبهم ‏ضمنوا له ولاء رعاياهم بما لديهم من أوامر إلهية يوحى بها . وقد سمح لبنى اسرائيل بالعودة إلى أورشليم لأنه تلقى أوامر ‏يهوه بذلك . فالضربة القاصمة التى وقعت لاور فى اثناء الاحتلال الفارسى دمرت كل شىء فى ارض الرافدين، فأصبحت ‏المدينة المنكوبة بابل حتى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد مدينة خراب ، وكومة انقاض وتماثيل محطمة بعد ان كانت ‏مدينة مزدهرة كثيفة السكان .‏

‏ اما اليهود قد برروا وصفهم لكورش الإخميني بأنه نبي مرسل وذلك بسبب إنقاذه دهاقنتهم من الأسر البابلي, على الرغم ‏من علمهم ان كورش هذا كان قد قتل زوج خالته وتزوج بها لكي يصبح وريثا للعرش بعد موت جده لامه و توقفت ‏حضارة وادي الرافدين منذ سقوط بابل في (539) قبل الميلاد على يد الفرس الأخمينيين حتى القرن السابع حيث الفتح ‏العربي الاسلامي، أي ما يقرب (11) قرناً. يمكن تشبيها بالفترة المظلمةالتي اعقبت سقوط الدولة العراقية العباسية. ليس ‏فقط من ناحية الانحطاط الحضاري الشامل الذي سادها، ولكن لأن العراق قد خضع ايضا لنفس القوى الاقليمية التي تنافست ‏على احتلاله بعد سقوط الدولة العباسية، وهي ايران (بمختلف سلالاتها البارثية والاخمينية والساسانية)والاناضول ‏واوربا( بمختلف سلالته الاغريقية والرومانية والبيزنطية).. لكن في هذه الحقبة، كانت الغلبة للسيطرة الايرانية، التي دامت ‏اكثر من تسعة قرون: الاخمينيون (قرنان)، البارثيون (ثلاثة قرون)، الساسانيون (اربعة قرون)، وقد قطعت السيطرة ‏الايرانية بسيطرة اغريقية دامت قرنين، بين القرن الرابع والثاني ق.م. ‏

‏ منذ ان اسس كورش دولته الفارسية عام 559 قبل الميلاد بعد ان تمكن من جمع القبائل الايرانية المشتتة من حوله وكان ‏ينحت صوره على الحجر ويضعها في مواقع مهمة من المدن التابعة لحكمه ، ومنها تلك الصورة العظيمة التي نحتها في ‏مسقط رأسه (بازار غاد) بالقرب من شيراز ، وكان الفرس يركعون امام هذه الصور حين يمرون بها وربما سجدوا لها ‏ورفعوا اليها مظالمهم من وكلاء الملك او من الاقطاعيين او من عصابات اللصوص التي كانت تستولي بالقوة على ‏محاصيلهم ، والمجتمع الفارسي انذاك مجتمع زراعي اغلبه من الفلاحين وقلة قليلة من الاقطاعيين والمتنفذين في الدولة ‏هم الذين يملكون الارض . وقد عين كورش مراقبا عند كل منحوتة من منحوتاته ينقل اليه سلوك الناس ومخاطباتهم لصوره ‏، ويعمل قدر الامكان على الاستجابة لبعضها ، وكأنه تلقى ادعيتهم وهو في سمائه العليا واستجاب لها لتزداد قدسيته في ‏نفوس الناس البسطاء . وفي زمن كورش قاد ذلك الى التفاف الفرس بقوة حول ملكهم واندفعوا خلفه يخوضون غمار ‏الحروب وتمكن كورش من عقد حلف مع نبونيد نصر ملك بابل القوي ليتفرغ لمهام اخرى ومواجهة قوى اخرى بينما سعى ‏نبونيد نصر بهذا الخلف الى تكوين قاعدة له ضد مملكة ( ماد ) وقد كفاه حليفه كورش شر الميديين فقد هاجمهم واستولى ‏على عاصمتهم ( اكباتان ) وتعني مدينة الملوك وهي مدينة همدان حاليا . واسر اخر ملوكهم ( ايشتو ويغي ) وضم جنود ‏وضباط الجيش الميديين الى جيشه . ويمكن وصف هذا العهد بأنه عهد ظهور وتأسيس الدولة الفارسية . وفيه صار ينظر ‏الى كورش كأله لايقهر ، ولكنه وبسبب الغنائم واتساع مملكته وتوزيع اقطاعياته على الحاشية والضباط انقسم المجتمع ‏الفارسي الى طبقات متمايزة اغنياء وفقراء .‏

وفي زمن كورش اصبح الجيش الفارسي الاخميني اكثر تنظيما واقوى عدة وتم تقسيمه الى قوات راكبة وقوات راجلة ، لم ‏يكن احد يقدر على مواجهتها ، وبذلك اصبح الجيش الفارسي لايعرف الهزيمة ، ولم ينفع بابل تحالفها مع كورش فقد اعد ‏العدة لها بذكاء ودهاء وحذر ذلك انها كانت تمثل الحصن المنيع في وجهه وفي وجه طموحاته في السيطرة على الشرق ‏الاوسط ومصر وسواحل البحر الابيض . وفعلا هاجم كورش بابل العظيمة واستولى عليها ، واطلق سراح السبي البابلي ‏من اليهود واعادهم الى فلسطين . الا ان كورش قتل في معركة ضد البربر في شمالي افريقا قبل ان يلحق جيشه هزيمة ‏نهائية بالبربر . واعيدت جثته ليدفن في مملكته فارس . وقد حيكت حوله الاساطير كملك الهي .‏

اما عن الملك البابلي نبونيد فأنه يعتبر من قبل المؤرخون المعاصرون اخر ملوك بابل الذي عاش في القرن السادس قبل ‏الميلاد اول باحث ومنقب اثار في التاريخ ، لانه قام بحملة في انحاء العراق والشام التي كانت تحت الحكم البابلي من اجل ‏البحث عن كتابات الاسلاف واعادة الحيا ة الى الاثار المندثرة منذ الاف السنين. وكان يميل الى الاعتزال بعيدا عن الحكم ‏والتفكير بأسرار الخليقة وطرح الاسئلة المصيرية العصية عن الفهم عن معنى الحياة وسر الموت .. وكان يحب التجوال ‏فيى البراري والاختلاط بقبائلها . وقد اكتشف ان انحطاط ديانة المشرق الى طقوس شكلية يتعيش عليها الكهنة بماديات ‏الحياة هو فقدان الايمان عند المواطنين بأي قوى عليا وتلاشى اي مبرر للدفاع عن الوطن والكفاح من اجل المستقبل . ‏كانت والدة نبونيد تقية جدا ومتعلقة بأله القمر (سين) وتقدسه اكثر من مردوخ ملك الالهة. وكانت مملكة بابل والشام ‏ومصر تعيش انذاك اكثر حقبها انطاطا كأي حضارة مريضة هرمة تتهيأ للسقوط امام القبائل الرعوية الارية الاسيوية الفتية ‏التي اجتاحت غرب اسيا وبدأت تنشأ الممالك القوية في ايران والاناضول . وبعد تفكير طويل وحوارات مع الحكماء ‏والفقهاء في الشام اقتنع نبونيد ان لاخلاص للناس من هذه الكارثة الا بخلاص النفوس من الاثام التي تنخرها نخرا ‏وتفسدها . وكانت مشكلة ديانة اهل الشام دهرية لاتؤمن بالحياة الاخرى بل تعتقد بأن الجنة والنار هنا في الحياة الدنيا ، بينما ‏ديانة مصر التي كان افضل مافيها هي فكرة (البعث والحساب) وخلود المؤمن في الجنة الموعودة .‏

شرع نبونيد في الاعلان عن هذه الديانة الجديدة في بابل عاصمة مملكته الا انه اصطدم بردود فعل عنيفة من قبل الكهنة ‏الذين شعروا بأن هذا المعتقد الجديد يهدد سلطانهم الديني ، وراحوا يتأمرون مع الدولة الفارسية التي كانت تهدد بأجتياح ‏البلاد ، وبعد ان فقد الامل في نشر معتقده الجديد قرر اللجوء والاعتزال فى الاماكن النائية ونشر مبادئه في البوادي ‏والصحارى ونشر دعوته بين الناس على ان (ايل) الله هو اله جميع البشر في كل مكان وزمان ، بل هو اله الكون ‏بأجمعه . وكلف ابنه (بيلشاصر) نائبا عنه في ادارة شؤون مملكته بابل ، وابتنى له عاصمة دينية في جنوب بادية الشام ‏‏(التيماء) وجمع حوله الزهاد والمريدين ، ويقضي اكثر اوقاته في الصلاة ل (ايل) كي يبعث رسوله (البعل المخلص) ‏ليهدي شعبه وينقذهم من الخراب والانحطاط ومع مرور الزمن تحولت التيماء الى قبلة للقبائل البدوية التي راحت تنتشر ‏بينها هذه الديانة الجديدة حتى وصلت الجزيرة العربية كلها واليمن وسيناء . الا ان جيوش الاخمينيين اجتاحوا مدينة بابل ‏بعد خيانة رجال الكهنوت وتعاونهم مع الغازي . اما بالنسبة للملك نبونيد فلا احد يعرف مصيره بعد سقوط بابل هناك من ‏يعتقدبأنه انه هرب واعتزل في البادية هو واتباعه البابليين وامتزجوا مع قبائل البادية وتزوجوا وانحدروا الى الجنوب في ‏اعماق الحجاز على سواحل البحر الاحمر ، وهم الذين اسسوا مدن يثرب ومكة .‏

وقد اصبح الملك نبونيد مقدسا عند اتباعه ومريديه الكثير منهم يعتقدون بانه المهدي المنتظر صاحب الزمان الذي سيظهر ‏ذات يوم لينقذ الناس من الظلم والجبروت والفساد ويمكن اعتبار ان نبؤة نبونيد انه من هذه السلالة البابلية التي سكنت ‏ارض الجزيرة العربية سيظهر نبي المستقبل من قبيلة قريش التي تنحدر من سلالة اسماعيل عليه السلام وامه الذين قطنوا ‏الصحراء ومنهم انحدر اجداد العرب المستعربة . وقد لعبت قبيلة قريش دورا قياديا في توحيد قبائل الجزييرة العربية ، ‏حتى انبثق الاسلام ليحقق احفاد بابل نبؤات الملك الصالح نبونيد .‏

طيلة التاريخ ظلت منطقة نينوى شمال العراق حلقة الوصل التي تربط العراق بمنطقة الشام وعموم البحر المتوسط. فمن ‏خلال نينوى ومنذ القرن الاول الميلادي بدأت المسيحية السورية الفلسطينية تنتشر في شمال النهرين وباقي العراق حتى ‏اصبحت في القرن الثالث الميلادي ديانة الاغلبية الساحقة من السكان ، تذكر المصادر الرومانية والآرامية أن (القديس ‏توما) ثم بعده (مار عدي) من تلامذة السيد المسيح، مع تلميذه (مار ماري) هم الذين بشروا بالمسيحية في العراق، اولا في ‏شماله ثم في وسطه وجنوبه. وقد شيد (مار ماري) ( ت 82 م) أول كنيسة في بلدة (كوخي) قرب المدائن، وقد وسعها مار ‏عبد المسيح الحيري. وفيها تكونت (بطريكية) او قيادة (مرجعية) الكنيسية العراقية ومقرها في (المدائن ـ جنوب بغداد) ‏وتسمى رسميا بكنيسة (بابل) ويطلق عليها المؤرخون احيانا (كنيسة فارس) بسبب خضوع العراق لفارس. وتتفرع ‏الكنيسة العراقية الى فروع كنسية في كل انحاء النهرين ويطلق على كل فرع تسمية(ابريشية)، وانتشرت الكنائس والاديرة ‏النسطورية حتى الاحواز والبحرين وقطرايا ( امارة قطر الحالية ) . ان اهم انجاز حضاري قامت به المسيحية العراقية ‏انها افتتحت مدرسة في كل كنيسة وفي كل قرية ومدينة، فصار تعليم القراءة والكتابة والعلوم جزءا من النشاط الديني ‏والايماني. وكانت هذه الخطوة بداية خروج العراقيين من قمقمهم الظلامي نحو افق النور والتحرر.‏

كانت السلطات الايرانية، بين فترة واخرى، تشن حملات قمع واغتصاب وقتل ضد المسيحيين. كانت الحملات متقطعة، ‏سرعان ما تهدأ وتتخلها فترات سلم وتعاون وتقرب من قبل الملوك. وحسب المصادر المسيحية فان هذه الحملات المتقطعة ‏خلال عدة قرون، كلفت مئات الآلاف من الشهداء. وقد ذكر المؤرخ المسيحي العراقي(ماري بن سليمان)، ان الملك ‏‏(شاهبور) خلال ما اطلق عليه (الاضطهاد الاربعيني) الذي دام اربعين عاما في القرن الرابع م، قتل حوالي مئة وستين ‏الف في بلدات شمال العراق، واكثر من ثلاثين الف في بلدات الفرات. وقد اكد المؤرخ العراقي المسلم المسعودي هذا ‏الرقم(التنبيه والاشراف ص149). وحتى (القديس شمعون) وهو جاثليق (المرجع الاعلى) الكنيسة العراقية، الذي اعدمه ‏الملك الفارسي مع اختيه لم يسلم من ايديهم ..‏

‏ عموما هنالك سببان للاضطهاد، اولهما شعور الملوك والموابدة(رجال الدين المجوس) بأن المسيحية العراقية بدأت تشكل ‏خطرا كبيرا على المجوسية وبدأت تكتسحها في داخل معاقلها بحيث ان هنالك الكثير من اقارب الملك والحاشية بدأوا ‏يدخلون المسيحية، وان كنيسة المدائن العراقية تحولت الى زعيمة ومقر، ليس فقط للكنائس العراقية، بل لما يحصى من ‏الكنائس المنتشرة في جميع انحاء الامبراطورية الفارسية حتى حدود الصين، بل ان المبشرين العراقين نشروا المسحية حتى ‏في الهند وفي انحاء الجزيرة العربية. وهذا يعني ان العراقيين بدأوى يعوضوعن خضوعهم السياسي بهيمنة روحية دينية ‏سوف تشكل اساس مستقبلي لانطلاقتهم الحضارية والسياسية والتي حصلت في الفترة العباسية. ‏

بدأ السلطات الايرانية تدرك بأن هذا النشاط المسيحي العراقي ما هو الا بداية استعادة اهل العراق لدورهم القيادي، دينيا ‏على الاقل. يضاف الى ذلك سبب ثاني، يتمثل بخوف الملوك الفرس من تعاون المسيحيين العراقيين مع الرومان ثم البيزنط ‏الذي كانو على نفس الدين. رغم ان العراقيين تحولوا بغالبيتهم الساحقة في القرن الخامس الميلادي، الى مذهب ‏‏(النسطورية) المخالفة لمذهب البيزنط. يلاحظ عموما ان الكثير من فترات الاضطهاد كانت مرتبطة بطبيعة العلاقة مع ‏الامبراطورية البيزنطية الحاكمة في سوريا. فعندما تتوتر العلاقة بين الدوليتين، يبدأ الفرس يعاملون المسيحيين العراقيين ‏كـ (طابور خامس) تابع للدولة البيزنطية. فيشرعون بعمليات انتقام وحشي سريع ضدهم والتركيز على اعدام الشخصيات ‏الدينية النشطة، وسلب املاكهم.‏

‏ تميزت المسيحية العراقية منذ البداية بأنشقاقها عن الكنيسة البيزنطية وتبني مذهب ( نسطور ) الذي اصبح مذهب الكنيسة ‏العراقية التي سميت رسيما بـ ( كنيسة بابل ) . مع هذه الاغلبية المسيحية النسطورية التي تضاهي حوالي 90 % من ‏السكان مع اقليات من المذهب اليعقوبي السوري واليهود والصابئة والمذهب المانوي البابلي. اما نينوى فقد كثر فيها ايضا ‏اتباع المذهب المسيحي الشامي ( اليعقوبي) بحكم علاقتها الخاصة مع الشام. ‏

خلال اكثر من 11 قرن غابت تماما اية دولة عراقية، وتحول فيها الوطن الى ساحة للحروب وللمنافسة وثورات وتمردات ‏فاشلة قام بها العراقيون. رغم السيطرة الايرانية الغالبة، الا ان الرومان والبيزنط عندما كانوا ينجحون احيانا باجتياح ‏العراق كانوا ينتقمون من العراقيين قتلا وحرقا لمدنهم. فالامبراطور الروماني (تريانوس) بعدما فتح (المدائن) سنة(115م) ‏اضرم لهيب الاضطهاد في العراقيين واهلك منهم الكثيرين. ‏

‏ لكن رغم الضعف السياسي العسكري للعراقيين ، فأن اهل النهرين قد تمكنوا من الحفاظ على هويتهم السكانية والثقافية ‏والدينية المتميزة عن إلايرانيين والاغريق. وقد تعرضت الثقافة العراقية الى تغيير جذري من الناحيتين، اللغوية والدينية. ‏واكبر دليل على عمق الهوية العراقية وتجذرها، ان هذا التغيير اللغوي والديني لم يأتي بـتأثير القوى الايرانية والاغريقية ‏المهيمنة، بل هو تطور داخلي طبيعي. من الناحية اللغوية، فقد حلت اللغة الآرامية (العراقية الشامية) محل اللغة الاكدية، ‏وهاتين اللغتين قريبتين لبعض فهن من نفس الاصل. وقد فرضت الآرامية نفسها من خلال الكتابة الابجدية(الحروفية) التي ‏اخترعها الشاميون وحلت محل الكتابة العراقية المسمارية(الرمزية) التي لم تعد تواكب العصر. اما من الناحية الدينية فقد ‏صمد العراقيون بوجه التأثير الايراني المجوسي والديانة الاغريقية، وظلوا محافظين على ديانة اسلافهم (عبادة الكواكب) ‏حتى القرن الاول الميلادي، حيث بدأت تحل بالتدريج الديانة المسيحية الشامية. لقد بلغت قوة العراقيين الحضارية انهم ‏فرضوا الكثير من ميراثاتهم الثقافية على المحتلين انفسهم. إذ تحولت اللغة الآرامية (السريانية) لغة الثقافة الأولى في ‏الامبراطورية الإيرانية نفسها، وانحصرت اللغة الفارسية (البهلوية) في البلاط الحاكم ورجال الدين المجوس. بل ان ‏الايرانيين اقتبسوا الابجدية السريانية لكتابة لغتهم البهلوية، بعد تخليهم عن الكتابة المسمارية العراقية ايضا!‏

ومع انبثاق المسيحية في بلاد الشام في القرن الأول الميلادي، بدأت بالتدريج تتسرب الى العراق من القسم الشمالي (الرها ‏ونصيبين) ثم نينوى وكرخاسلوخ (الاسم السرياني لكركوك) حتى ولاية بابل ومنها الى ولاية ميسان والبصرة والاهواز ‏في الجنوب . ولم يمضي القرن الرابع الميلادي حتى اصبح المسيحية ديانة الغالبية الساحقة من العراقيين وتكونت الكنائس ‏في جميع القرى والمدن العراقية. وكانت هذه المسيحية مصحوبة بتيارات عرفانية(صوفية)، قادمة من الشام ومصر، مع ‏بعض التأثيرات الإغريقية. كان هناك ايضاً تواجد مهم لطوائف يهودية نشطة في انحاء النهرين، بالاضافة الى الصابئة الذي ‏يعتبر اول دين(عرفاني ـ غنوصي) ممهد للديانة المسيحية. كذلك تعتبر (المانوية) لمؤسسها (النبي ماني البابلي)اهم ‏الطوائف العراقية التي نجحت ان تنافس المسيحية، وتمكنت ان تصبح ديانة عالمية مقرها في بابل.‏
يمكن تقسيم هذه الفترة الطويلة الممتدة خلال (11) قرن، الى حقبتين:‏

يتبع في الجزء الثاني بإذن الله

ليست هناك تعليقات: