الأربعاء، 12 يناير 2011

من الدواية يبدأ التغيير !جمال العتابي


من الدواية يبدأ التغيير !جمال العتابي
( الدواية )، قرية تحيط بها الأهوار، المسكونة بالطيور والاسماك، بيوتها من طين، حين ينزل المساء فيها، تغط في الظلام والنوم، إلا من اضواء فوانيس خافتة، مترددة ومهزولة، وأبخرة دخان يلف بيوتها. لو تطلعت اليها، الى سحنتها عند النهار، لانتابك شعور بالاختناق، وانت تتنفس السخام الذي احال الجدران الى كتل سوداء متناثرة، وفي مدى الرؤية البعيد روائح رز، ونظرات عطش ترسم خطوطاً عميقة من الحيرة.
في اربعينيات ذلك العالم تفتحت احداقنا الصغيرة، على نساء متعبات ينقلن الحطب والماء، ويحصدن الزرع وينجبن، وفتيات مفرطات في الحياء. الى حد مرهق، واطفال حفاة تغوص اقدامهم في اطيان تظل عالقة فيها لايام عديدة، ورجال بوجوه شاحبة تبرز فيها عروق محتقنة، واثار تبغ رخيص صبغ اسنانهم المتآكلة بالسواد، لكن في محاجرهم طيبة ونعاس.
شهدت تلك السنوات من القرن الماضي، افتتاح اول مدرسة ابتدائية في تلك القرية القصية من ريف الشطرة، مجموعة من الاكواخ، تبدو من بعيد كالمقابر، تناثرت على تربة لزجة، لايحيطها سوى اعواد القصب والبردي المتيبسة. كل مايحيط بالمكان يوحي بالأنين والأسى. تشاء الصدف ان ينسب اليها نخبة من خريجي ( دار المعلمين الريفية ) التي كانت معهداً فريداً لاعداد معلمين بمهارات تربوية وفنية، ورياضية متقدمة على عصرها. بسبب من نظامها التربوي الاصيل، وبرنامجها العلمي المتقدم، الذي استعار تجارب اوربية مماثلة للتطبيق، فضلاً عن كادرها التدريسي الكفوء، المتسلح بالعلمية والمهنية.
زير، زيران، ازار أمي ازرق، الكلمات الاولى التي خطتها ايادي أولئك المعلمين القادمين من الشطرة على سبورات سوداء، صنعت من طين، عبد جياد العبودي، حسن العتابي، عبدالحسن عيسى، جواد كاظم جويد، هؤلاء وجدوا في تلك البقعة عالماً يتسع لاحلامهم الكبيرة، وفي شحوب الليل نجوماً مضيئة تورق في مخيلتهم، آماناً وشبابيك تطل على مستقبل تزدهر فيه الارض بالورود، المدرسة الطينية كانت مرفأ تستقر فية الأشرعة، لاترحل، تستيقظ فيهم الرغبات كالينبوع.
ماسر كل ذلك الفرح والسعادة التي غمرت معلمي الدواية ؟ غير ايمان بعدالة قضية، ونظام اعتقدوا انه اسلوب الحياة الوحيد، والطريق الامثل للتطور، ويقين صادق وعميق بالافكار.
كانت عدتهم بضعة كتب، واحساساً مرهفاً بالطبيعة من حولهم وتعلقاً حميماً بالناس واطفال المدرسة، وجدوا فيها الملاذ البديل عن واقع يعتريه الأسى والجوع، حيث الطرقات الخاوية الا من بقايا فضلات الحيوانات الهائمة على وجهها، او كلاب سائبة في تلك النفايات، لكنهم متفقون على تحدي هذا الواقع.
العالم يعيش عصر تحولات كبيرة، نهاية الحرب العالمية الثانية، التي حصدت ملايين البشر، اندحار الفاشية، وهزيمة النازية والمانيا الهتلرية التي تسيدت العالم، ولادات قيصرية لانظمة ( اشتراكية ) في اكثر من بلد اوربي بمساعدة الجيش الاحمر، كانوا يستشعرون تلك التحولات ويلتقطون المتغيرات فقط عبر اولئك القادمين من المدينة في فترات متباعدة. لاصلة لهم بعالم اخر.. سوى تلك البقعة التي تحيطها مياه ظلماء حزينة.. مأخوذين ببهجة هلامية، ومنحازين بالطبع لتلك التحولات.
لم يكن القرويون يعبأون بهم كثيراً، سوى انتظارهم موعد تسليم حصصهم من التمر المجفف الرخيص الذي تبرع به عبد لابنائهم الذين امتقعت وجوهم.. ولم تعد لهم القدرة على حفظ الدروس بسبب الجوع. أخذ المعلمون انفسهم مأخذ الجد المغالي فيه حد الايمان بانفسهم مبشرين بافكار تبدو كالاحلام، مهووسين بالامل. انه نوع من الثراء الروحي ليس سواه في ظل المجاعة واللظى، وسط المستنقعات التي تجفف كل قطرات الانسانية.
يبدو عبد جياد الاكثر مرحاً، وتدفقاً في الحيوية من بين زملائه، وفي سنوات لاحقة، تسعفه هذه الروح في الافلات من سطوة الانظمة الاستبدادية واحكامها الجائرة، كان ساخراً، سريع البديهة، حكيماً، يمتاز برهافة الاحساس والاكتفاء بالقليل من متاع الدنيا , كلماته تنساب بلا ضجيج، تسير بحركة طبيعية مع النظام الخفي للأشياء.

ليست هناك تعليقات: