قصة قصيرة
بانتظار من يعيد القراءة
[ يا لها من سخرية...، أنا أتحدث إلى أصم، وهو يعرف إنني أعمى، فأقول له: مادمت تعرف إنني اعرف انك لا تسمع، وأنا اعرف إنني لا أراك...، فما ـ هي ـ الحكمة ـ من هذا التواصل....؟ ]
عادل كامل
لم يخطر بباله أن يتوقف عن الكتابة، مع انه لم يحولها إلى وظيفة، ليجني منها ربحا ً، فلم ينقطع عن مراسلة كل من عرفهم، وزاملهم، واشتغل معهم، طوال عقود، قبل أن يجد نفسه وحيدا ً، وقبل أن تصبح عزلته تامة.
بيد أن أحدا ً .. لم يرد، ولم يصله جواب يؤكد وصول رسائله أو عدم وصولها. فراح يخترع الأعذار، غير مكترث للأمر...، بسبب أخطاء البريد، أو عدم دقة العناوين، أو بسبب الخدمات...، أو لأخطاء ارتكبها بسبب معرفته المحدودة باستخدام الحاسوب....، الأمر الذي لم يمنعه من الانشغال بالمراسلة، حتى بعدم وجود أعذار تبرر عدم الرد، تناسب تصوراته عن نفسه، وتقدير ما كان يكنه من مشاعر حرص أن تكون مرآة لحياة كان يراها تغيب.
ولم يفكر ـ للحظة ـ أن يكونوا جميعا ً منشغلين بحياتهم حد استحالة توفر لحظات للرد...، رغم ـ دار بخلده ـ مشاق الحياة في المنافي، وما تتركه من اثر في حياتهم الجديدة...، للإجابة على رسائله، حيث لم يكن يطلب أكثر من الاطمئنان، وردم المسافات التي راحت تأخذ بالاتساع...، أسئلة لا تذهب ابعد من السؤال عن الصحة، وما آلت إليه مصائرهم، بعد المغادرة...، فثمة ما يشبه الأطياف طالما مكثت ترفرف لم تدعه إلى محوهم من ذاكرته، رغم إنها لم تعد تعمل إلا بالومضات، عبر لحظات كان يتوهج فيها، فلا يمتلك إلا أن يدع خياله يرمم ما آلت إليه الصدمات.فالحياة كتاب حتى لو محوت كلماته فانه يجد ما لا يحصى من الوسائل كي ينبثق من الظلمات. مرددا ً: حتى الظلمات ذاتها تصبح عاملا ً لمقاومة الغياب، والنسيان.
وعاد إلى التأويل، في محاولة للعثور على احتمال يماثل ما يعانيه ، هو ـ من علاقات هشة مع من عرفهم، من الأهل، والجيران، أو مع الأصدقاء القدماء، في مدينته، من الخوف أو الحذر أو من مشاغل الحياة المختلفة.
ولم يسمح لنفسه أن يتخيل إنهم أصبحوا عظماء...، فمن يكون هو...، بعد أن تشبث ـ هو ـ بالبقاء في داره، والقناعة بالراتب التقاعدي الشحيح، والرضا بالقليل، بعد التكيف داخل غرفة شيدها في مطلع حياته، بوصفها مثواه الأخير. مكررا كلمات جار له هُجّر من بيته عنوة وهو يقول بصوت عميق الحزن: أليست البيوت تشيد كي ندفن فيها! فيبتسم ليخبره: هكذا اختفت أعظم المدن، بسكانها. فيرد الآخر: والآن لا بيت نموت فيه، ولا موتى يسكنون البيوت.
أتراهم أصبحوا عظماء...، أو فوق العظمة...، حتى لم يعد لديهم الوقت للرد على سؤال يتعلق بما آلت إليه مصائرهم، في المنافي، بعد لوعة الشتات، والتشرد، والبحث عن مكان لا يطردهم، ولا يستلب منهم أحلامهم. لم يدع الشك يساوره بسبب العظمة، فربما إنهم تعرضوا لمتاعب السفر، أو للأمراض التي تسببها الغربة، أو بسبب إنذارات الشيخوخة، وما تسببه الوحدة، أو بسب الهرم، والخرف....، بالرغم من انه اكبر سنا ً منهم، أو يقاربهم بالعمر...، ورغم المتاعب التي كادت تقعده، إلا انه طالما وجد نافذة يطل منها على فضاءات ممتدة حتى لو كانت تأخذه إلى المجهول. فلم يدع الوهن يذهب ابعد من مشاعر يجد ألف عقار لمعالجتها والقناعة بان الدنيا كتاب حتى لو لم يكتب فان كلماته شبيهة بالشهب والكواكب والذرات والمجرات تعمل وفق خطة غير قابلة إلا لاستكمال برنامجها الذي وضعت من اجله. فمن يكون هو كي يخترع أوهاما ً لأسباب غايتها مغايرة لأهدافها، وحكمتها.
فعاد يكتب...، على أمل للحصول على جواب، فهو لم يطلب منهم مساعدة، أو حتى دعوة للسفر، أو ما يستدعي عدم الرد. فحتى لو كانوا حصلوا على ما كانوا فقدوه، في مدينتهم، وصاروا أسماء لامعة، ولها شهرتها، فان ردا ً لا يستغرق إلا بضع لحظات، لا يعد صعبا ً، أو مستحيلا ً...، فهل بالإمكان محو تضاريس المكان، وأزمنته، وشخصياته، لأي سبب من الأسباب، بيسر، ومن غير استئناف، أو مراجعة...، مادامت الحياة سلسلة مترابطة من الممرات، والجسور...، من العلاقات والمودات، من المصالح والذكريات....؟
قرب بصره من الشاشة لقراءة ما لفت نظره: خربشات...؛ حروف وأرقام وعلامات وجدها لا تعني شيئا ً، ربما تكون رسالته الأخيرة وصلت إلى عنوان آخر..، كلا...، فالأرقام والإشارات والفواصل تخص إدارة الشبكة، فأهملها. كانت الرسائل، في الماضي غير البعيد، تصل عبر البريد، ويوصلها الساعي، ساعي البريد، إلى باب البيت...، بعد أسابيع، أشهر، وسنوات قليلة، الآن، لا تصل الرسائل أبدا ً. قال لنفسه: اقصد: تصل حتى قبل إرسالها!
ترك رأسه يميل إلى الأمام، شاعرا ً برغبة للعودة إلى النوم، أو لتناول الفطور...، محدقا ً في الخربشات التي بدت له شبيهة بمعادلة فلكية، رياضية، كيميائية، بل بدت له وكأنها كتبت بلغة مندرسة تتطلب قراءتها خبرة خاصة...
ـ آ ....، ما معنى هذا أيها الموقر...، الم تتندر من هؤلاء الذين انشغلوا بالحصول على مكان بجوار الرب! لكنك قلت: ما شأني بهم...، فقد وجدوا الحياة ممرا ً لنهاية تتوازن فيها الاحتمالات. أما أنت ....، فاعترفت بان المشكلة لا علاقة لها بالمعرفة، ولا بالفلسفة، وحسمت الأمر باختيارك لقراءات تضاعف رغبتك بالنوم، وإلا سينفجر رأسك، لأن مشكلات العالم باتت خارج نطاق حدود عمل العقل....، ثم أن كل ما أنجزته لا يساوي إلا ما كنت تراه يذهب ابعد من حضوره الوجيز، حتى انك نفسك كنت تندهش برؤية أمر مرة ثانية، وكنت حسبته توارى خارج نطاق رقابتك. فما الذي بإمكانك أن تفعله، وأنت شاهدت سلاسل الإبادات، والفوضى...، وقلت ما هي إلا غيمة صيف...، وليست خطة محكمة تمضي نحو خاتمتها. أنت ـ وهم ـ على مدى عقود، أهملكم الموت، وفلتم من أقسى المصادفات قسوة، حتى إنكم كنتم تقولون: كأننا وجدنا وسيلة لمراضاته، وإخماد أنفاسه، حتى لحين.
رفع رأسه قليلا ً ليتابع تلاصق الأرقام بالحروف عبر جداول وخطوط يجهل معناها. وسره إنها أحالته إلى سنواته الأولى، عندما رغب أن يتخصص في حقل نادر...، إنما اكتشف انه أوغل في متاهات اللغات القديمة، بطلسماتها، ومخفياتها، وأسرارها، فاستبدل مشروعه بدراسة الجسد...، والبحث عن نشأته، ومكوناته، ومراحل عبوره من سواحل العفن إلى المغارات، ومن الكهوف إلى القرى، ومنها إلى المدن العملاقة...، إنما صدم برائحة الجثث...، رائحة الموتى...، فقد فقد وعيه عند أول مشاهدة للجسد موزعا ً فوق طاولات التشريح، الأصابع منفصلة عن البدن، والرؤوس بدت له محنطة، والثقوب تقلصت، شاحبة، بدت كأنها صنعت على عجل...، شاهد الجسد كما لم يره من قبل، تحول إلى خردة...، كأنه تعرض لانفجار أو للغم، أو لعبوة ناسفة...، ليمكث سنوات يهرب من الرائحة، لكنه كان يجدها أكثر حدة، كلما لامس جسدا ً آخر، حتى كاد يصاب بفوبيا الموتى...
ـ عزيزي....
وفشل بإضافة كلمة...، فقد أفزعته رائحة الليل، كأنها تنبعث من قبو، أو من مدفن، مصغيا ً بلامبالاة لدوي أصوات تأتيه رتيبة، ممتزجة باستحالة العثور على كلمة يكمل ما كان يدور برأسه.
شعر بجسده يتقلص، إنما كان بصره يتجول عبر مساحات لمح إنها تفقد حدتها: مدن تتحول إلى بؤر، بحار تصير كأنها قطرات ماء، فيما بدت الصحارى له مثل أوراق متناثرة...، جميعها تتداخل لتبدو بيضاء.
لا معنى للحديث عن ما إذا كان هذا شغلهم، ودار برؤوسهم، حتى للحظة، فلم يتطرق إلى الأيام التي انهمك فيها بقراءة كل ما تناول موضوعات الهجرات، والشتات، وتفكيك العالم، واللوعة المبرمجة التي غايتها الترويض...، فهي قديمة قدم نشوء جراثيم الخلق البكر...، وجدت كي تتفرق، وتتوزع على بحار، ووديان، وسهول الدنيا، من غير شروط، محكومة بالبحث عن إقامة مستعمرات تقاوم عوامل زوالها...، فلم يجد مسوغا ً بإثارة اختلافات تؤكد عدم وجود قاعدة مشتركة جمعتهم على مدى سنوات، وحتى أحلامهم فإنها جزء من غيوم عابرة إلى البعيد. حروب ومصالحات وسفك دماء استعدادا ً لإقامة الأعياد. لا مسوغ لإثارة مثل هذه الأفكار، فقد كانت مقدماته تمتلك قوة قهر نهاياته، لعقول لا تمتلك أكثر من تتبع ظلالها.
فهو لم يتطرق إلى كل ما قد يسبب غصة، وحرجا ً، وألما ً غدا مألوفا ً، فالإنسان وحده يمتلك ما لا نهاية لتحمل أقسى الأوزار، والخطايا. كما لم يجد سببا ً للحديث عن عاداته، وحياته الشخصية. فهو كان يود التعرف على ما كان مشتركا ً: صبوات حارة وتوهجات تكمل منطلقاتها البريئة، والانشغال بما كان يثير دهشتهم، جمال الفجر، والسفر عبر البحار، والتحرر من عادات البكاء على ما سيزول، والانشغال بالعثور على عوالم يتم استحداثها بالصبر، والأناة، والمغامرة. هل تراهم تخلوا عن تذكر انشغالاتهم بالبحث عن المدن المستحيلة، الراقدة تحت في أعماق الأرض، أو عن المدن السماوية، في المجرات الأخرى...، والعمل على تأسيس مدن فاضلة خالية من الشر ومن الأشرار....؟ هل تراهم اغفلوا تذكر المجاعات التي كانت تضرب مدينتهم، حد انه تذكر حكاية البنت التي كانت تعلن مبتهجة عن موت شقيقتها، كي تصبح وليمة، أم لم يعد يعنيهم أمر الحروب الأهلية، بين الطوائف، لأسباب مكثت تتكرر، عبر القرون، من غير تأويل أو تفسير واضح...؟ ولم يعد يمر بخاطرهم ما كان يفعله الغزاة، لأنهم، تركوا الماضي ينسحب بعيدا ً عن عالمهم وهو يستكمل برمجته العنيدة...؟ لقد كان منشغلا ً بأمور، وتفصيلات، مغايرة، هي الأخرى، كانت لا تجد من يدعمها، ويعيد قراءتها، كي تكون للمقارنة فائدة ما تذكر.
لم يخبرهم بتحول الزقاق الذي عاشوا فيه عقودا ً من الزمن، قد تحول إلى ما يمثل بقايا عروض مسرحية لم يبق منها أكثر من أصداء، ومن هياكل احتلتها الأسر النازحة، المهجرة، السائبة، أو الباحثة عن مأوى يحميها من البرد، ولهب تموز وآب...، فالحديث عن العاطفة يجعل العقل معطلا ً، هذا إذا كان باستطاعته مقاومة وهنه.
ـ فمن الصعب تخيّل إن الحالمين أفاقوا حقا ً للتخلي عن أحلامهم، بعد أن كادت المدينة أن تصبح نسيا ً منسيا. نافيا ً هذا الاحتمال...، حتى لو كانت العاصفة عملت ببرمجتها على جعل الخراب العام حقيقة مدونة وذاهبة نحو نهايتها، إنما ود لو اخبرهم بأنه لم يعد يعرف أين اختفت الشوارع، وعلاماتها، ولكنه لم يكن ليسمح لنفسه بالإسراف....، فالعاطفة لم تعد إلا ولعل تلاميذ لم تصقلهم المدينة بعد..، تلاميذ جاءوا من القرى لكنهم أبدا ً لم يصلوا إليها.
ـ فقد كان كل منا يقول للآخر: أنا آخر من يهاجر، آخر من يفر، وآخر من يبحث عن ملاذ امن له في هذه الدنيا وقد اجتاحها الخراب، والجذام، والفوضى.
إنما لم يبق من الزقاق، ولا من الشوارع المجاورة، ولا من المدينة، إلا هياكلها، وأشباحها، فحتى واجهات البيوت، والأبواب، والنوافذ تبدلت، وأصبحت الأزقة مكتظة بآخرين، من الصعب معرفة هوياتهم، أو إقامة علاقات معهم...
حدق في الشاشة: بيضاء. فترك رأسه يبتعد، يتمايل، بحثا ً عن: اثر. كانت بيضاء وخالية من الخربشات أيضا ً.
ثم استدرج نفسه لاستعادة قواه. لكنه لم يعد يتذكر انه تطرق للحديث عن الآمال، والصبوات التي كادت تجعل منهم زمرة متجانسة موحدة غير قابلة للتفكيك، والتشتت، بل حدثهم عن أحلام مسبوقة بأشواق آلت إلى نهاياتها، بالمرور، والغفلة، واللامبالاة، مثلما بالصدمات أو بالصمت، موضحا ً أن المشترك بينه وبينهم لا يكمن في تحوله إلى أطياف أو إلى كوابيس، بل إلى ما يماثل خطة وضعت بإحكام لا معنى للاستئناف فيها، كي تصبح خاتمتها أخيرا ً مغايرة لمقدماتها. على انه محا كل إشارة إلى ما يخص الأسباب، إن كانت مستترة أو ظاهرة، ذات صلة بالأرواح الملائكية أو بالأرواح الشريرة، بالمعصية أو بالاجتهاد، فقد عاد ليوضح بأنه لا يتحدث عن آفاق ما غدا الحديث عنها مستحيلا ً، وإنها عمليا ً صعبة المنال، ومن العبث ألتوق لانجازها، بالوضوح ذاته لم يدع نغمة الندم تختلط بمشاعره الوديعة...، فالقضية لا تعدو أن تكون أكثر من سؤال لا يتضمن قط البحث عن جواب عليه، ولا عن استئنافه، بل عن محاولة عفوية لردم فراغات جولتنا إلى شظايا...، والى ذرات آخذة بالانقسام إلى ما لانهاية.
عاد وترك أصابعه تضرب على الحروف ببصر غائب، فلمح عبارات تكمل لا معناها، وكأن بصره توحد بالحروف، وانه لم يعد ليفكر باستئناف حياة لا وجود لها، قدر انه ترك حياته تتخذ أشكالا ً تكمل بعضها البعض الآخر....، لكن لم يحصل على الذروة فحسب، بل على العزلة ذاتها وقد منحته الشعور بالفراغ المشغول بالفراغات...، ووجد صعوبة برسم ابتسامة أصبحت مستعصية، نادرة، وتساءل: ربما كانوا بلا استثناء جميعهم على صواب! وحوّم في الفراغ الذي رآه يمتد بعيدا ًعن جدران غرفته. ربما واجهوا في سفرهم ويلات البحر ومحن العبور...، أما أنا فحرصت أن لا أغادر المساحة ذاتها وقد صارت تكفي لحماية جسدي من التحلل، والاندثار.
بالأحرى شعر باللامبالاة التي راحت تنقر وتطن داخل رأسه: ربما يكون هذا كله شيد على الوهم، فلا أنا جزء منهم، ولا هم كانوا أجزاء تكمل وعدا ً ما...، هم وجدوا فرصة اغتنموها عنوة أو لأي سبب من الأسباب وأنا وجدتها فرصة للغوص في ارض الظلمات.
أحس انه بلغ النهايات الحرجة: من منا كان ...، السبب، ومن منا عمل على ترك النهايات تذهب ابعد من حدودها؟
ولكنه لم يسأل أيا منهم هذا السؤال، ولم يخطر بفكره أن يذكرهم إن كانوا امنوا بالخرافات، أم بالعلم...، لم يذكرهم بما كاد يذهب ابعد من الموت...، بل طالما تحدث عن أمل بالسؤال عن أحوالهم، وما يمنح مصائرهم ثمن السكن في المنافي...، هل وجدوا ما يخمد براكين القلب، وزلازل الرأس، ويمهد لحياة مغايرة، بدل التآكل بجداول المنسين، والغائبين...، أنا أيضا ً لم أقع في الأسر، ولم اجرح جرحا ً يخمد الأنفاس، ولكني لم احصل إلا على ما افقدني أية رغبة بالذهاب ابعد من تأمل ما يجري في المجهول. لقد تركت جسدي يرقد بجوار الحائط، ورأسي يواصل هجرته، ما بين الكواكب والنجوم. فلا انتم كنتم تختلفون معي، وعني، ولا أنا كنت اختلفت معكم، وعنكم...، انتم نجوتم من سنوات المذابح العشوائية، وفق الخطة العليا، وأنا نجوت أيضا ً لأسباب اجهلها...، فلا أنا اعرف متى غادر كل منكم...، ولا حتى كلف نفسه بوداعي...، لكن هذا لم يشغلني طالما أنا أيضا ً كنت احتمي بالشرود...، حتى أحيانا ً كنت أستحيل إلى نبات.
هل حقا ً جميعا ً أسهمنا بترك سفينتنا تغرق...، أم كنا لا نعمل إلا على إغراقها، بإصرار، من غير تردد، بل وبلا حزن، أو ندم؟
شرد ذهنه تماما ً: فالكل لم يعد يجد شيئا ً ما مشتركا ً...، عدا هذا الفراغ راح يعزلنا عزلا ً حتى لا وقت للاستعادة، أو الاستئناف. فقد صار كل منا لا يريد أن يعرف ماذا جرى، وماذا حصل ...، وكأن القصة وضعت خاتمتها قبل أن تكون لها مثل هذه الفواصل، والشوارد، والعثرات...
ـ فانتم نجوتم من الحروب، ومن المفترسات...، من الملاحقات، والنبش في مخفيات أعمالكم...، وأنا أمل ذلك ...، إنما كان مفهوم النجاة ـ رفع صوته يخاطب لا احد ـ ذاته قد تجنبناه، واخترنا، عن طيب خاطر، ما وحدنا، أو اعتقدنا انه كان يجمعنا، في سنوات الغيلان.
لا احد يرد.
كم كان بوده لو جلس تحت شجرة السد، وتأمل أمواج دجلة عند الغروب...، منذ متى لم يفعل ذلك، ولم يذهب إلى النهر؟ تذكر انه كم ود لو دفن تحت تلك الشجرة، بعد أن يغسل بالماء، ليرقد كأنه لم يخلق ولم ير ما رآه.
ليجد انه أضاع ساعات أمضاها يحدق قي البياض، شاشة بلا ملامح، تشع عتمة زئبقية، فأفاق بلا شعور: كنت أرى جثماني يتعفن، تنهشه الضواري...، في الزقاق، بجوار آخرين تركوا في العراء...، يتعفنون...
أفاق: لو لم أكن فطنا ً في تلك اللحظة لكانت تلك الكلاب افترستني... ما أشرسها، حتى إنها اعتادت علينا.
ثم عاد يتنفس بلورات راءها تتطاير مشبعة برائحة غبار، وبرائحة ورود قديمة، أما رائحة المدينة فقد امتزجت برنين رتيب كاد يفجر رأسه.
مستبعدا ً لحظات رأى فيها جسده تحول إلى نبات، إلى أوراق، والى أغصان، بقايا شجرة اقتلعت لتصبح حطبا ً...، مستعيدا ً غفوة لم تدم إلا ليرى جسده تنهشه الأنياب، أنياب القطط، وربما تسللت بعض ضواري الصحراء ودخلت إلى المدينة...، فالكلاب لم تعد تحرس قطيعها.
غابت شاشة الحاسوب: لا رسائل، لا ردود، فالبريد صفر. متخيلا ً ـ لبرهة ـ طالما كان يتجنب التصادم، طالما اخترع مجالات تمنحه الشعور بالدعة، والسلام، إلا أن تصوّراته غالبا ً ما كان يراها تذوي...، وتتلاشى، لينبثق على نحو شبيه بانفجار مكظوم، أو بركان، صدمات غير متوقعة، فيستعيد إرادة ظنها خمدت، قوة ما أربكت وهنه، ومنحته قناعة مغايرة للخذلان.
ـ فانا أكاد أدرك أن شيئا ً ما آخر لم يعد له حضوره، يعمل من غير فاعل.
إنما لم يعد يرى الكلمات، ولا الفواصل، وكأن رسائله لم تصبح إلا تعويضا ً لا ينتج أكثر من افتراضات اتخذت هالة من هالات الفصام.
ـ ذلك الطيف الندي الذي جمعنا...، من غير مقاصد، وغايات، ثم أراه ابتكر وسائله في المحو.
ترك أصابعه تستقر فوق ورقة تلمس اصفرارها، فانبثقت رائحة أعادته إلى الماضي، ورقة ترجع إلى أكثر من نصف قرن...، لتنبت فيه رغبة سرعان ما قاومها، لقد ود لو عاد وترك جسده يتحلل...، بعيدا ً عنه، تحت الشجرة، عند ضفاف النهر، بدل أن يرى عالما ً تحاصره الجدران، يتموج بالضوضاء، ومشغول بالعزلة، والخوف العميق.
أتسع الفراغ...، فلم يعد يتلمس ببصره إلا حافات بدت له شفافة وقد راحت تسحبه إلى فضاء أوسع، يمتد بعيدا ً منسحبا ً معها، بلا إرادة، أو اعتراض، حتى انتابه شعور بغياب الجدران، والحاسوب، والزمن. فدار بخلده أن حياته لم تعد تعنيه...، وكأنها لم تكن أكثر من ظلال تتلاشى بعيدا ً عنه...، أحس إنها عبرت وانفصلت عنه تماما ً، كالذي طالما شعر به وهو يعيد تأمل مخلفات حريق لم يترك سوى رماده.
بدا له الفراغ شاسعا ً، بلا حدود، خارج نطاق غرفته، وبعيدا ً عما كان يجري داخل رأسه...، وعالمه الذي بدا له معزولا ً عنه تماما ً. مثل من يتأمل ذرة رماد تجمعت فيها أزمنة مدينة غابت عن الوجود.
وبدت الكلمات تعمل من غير إرادته، تحفر أثرا ً لتمحوه، من ثم تنبثق ليراها تذوب في الفراغات، وقد فقدت أشكالها الدائرية، وصارت كتلة رمادية بلا حافات.
لأن ـ دار بخلده ـ عدم الرد، مثال لا يثبت إلا ما كان يراه وهو يجلس أمام النهر، أمام دجلة: سماء وافق وسكينة.
وود لو عثر على تأويل لا يدعه يسرف بإعادة كل ما بدا له بلا زمن، وحركة.
ـ وكأن الحياة برمتها خالية إلا من هذه الظلال... وقد اتخذت موقعها في الدورة، من غير علامات، ولا أصداء.
ليجد أصابعه تعمل آليا ً:
ـ وكأن جميع المخلوقات، في نهاية المطاف، تتماثل في غيابها، وتتوحد من غير مشاعر محددة.. وتذهب كأنها أكملت برنامجها في الخطة...، فما ظهر،عبر الزمن، توارى بعيدا ً عنه...، حتى الأثر لا وجود له إلا ليبرهن انه وجد تاما ً، خارج عمل صخبنا.
لمح الدخان تحول إلى هالات ضوئية، فتجمد، فثمة أصوات تقترب، وأخرى تتلاشى: انفجارات ودوي وأزيز طائرات...
فكتب:
ـ كأن الدوي الأعظم مازال يستكمل عبوره خارج نطاق وعينا، ووجودنا، وصبواتنا أيضا ً. فالماضي وحده لا يمتلك إلا أن يواصل ذهابه بعيدا ًعنا، وقد جرجرنا معه، أحيانا ً، وقذفنا بعيدا ً عنه، أحيانا ً أخرى.
وكفت أصابعه عن الكتابة: انه طنين أرواح ليس لديها ما تعمله سوى العثور على ممرات للعبور...، تؤدي إلى ممرات أخرى، لا يعنيها سوى المرور ...
فجأة قال انه لا معنى للحديث عن منفاه..، داخل جدران غرفته، ولا عن لا مبالاته وهو يعزل كيانه ويدثره في المناطق القصية، ليس لأنه لم يعد يشكوا منها، بل لأنه توحد معها، مثل مرض عقد صلحا ً تاما ً مع صاحبه، حد الذوبان. فالذي يولد في الأسى، لا يعيش إلا تحت ضرباته، ولا يأسف إلا أن يموت بعيدا ً عنه. لم يجد ضرورة ليخبرهم برحيل اعز المعارف، أو الأصدقاء، فموتهم شبيه بغيابهم، امتداد في المساحة، وليس فنائها. كان لا يجد ضرورة بالحديث عن هذه الوقائع، وما التي إليه حياة بعضهم، إلى الوهن، والهذيان، والتشرد، أو إلى الفاقة، والنسيان، والعزلة، فقد تكون مكدرة لعواطفهم، أو تبدو مثل وباء كريه فروا منه. بل كان سؤاله المتكرر يخص ما آلت إليه مصائرهم، في المنافي، لا أكثر ولا اقل.
كما لم يجد مبررا ً ما للحديث عن أمراضه...، هلا وسه، وشرود ذهنه، ولا ضرورة للحديث عن مخاوفه، ووهنه، ولا عن لغز انبثاق كل ما بدا له فقد حضوره.
بل كرر انه لم يعد بحاجة إلا لاستعادة الأزمنة المشتركة التي أصبحت طي النسيان، ولا معنى لاستعادتها، إلا بوصفها صفحات في كتاب لا وجود له.
ولم يصب بالإحباط أو بالخيبة، رغم عدم وصول جواب واحد يسمح له بتخيل أن الحياة ليست شبيهة بالموت...، بفراغ يمتد عازلا ً جزيئات ذراته بعضها عن البعض الآخر، فلا هذا يعرف ذاك، ولا ذاك يعرف ما جرى لهذا....، فلم تعد ثمة مصالح مشتركة، ولا صبوات، ولا ذكريات قابلة للاستئناف.
لكنه سرعان ما ترجع وتخيل انه مازال يئن تحت ضربات موجعة غدت ـ بمرور الوقت ـ الألم الدائم الأليف للحفاظ على آمال لم يتم محوها كلية. فاستعاد لحظات راح يفترض فيها انه تسلم عشرات الردود، فراح يبوبها، بحسب وصولها، ليعيد قراءتها بنشوة مكتومة، لا مناص إنها تماثل اللحظات التي طالما تمناها وهو يفارق الحياة، من غير أسف، أو ندم، ولكنه وجد أن شيئا ً ما مازال يدّب، يومض، يزحف، وان الضربات ليست سوى تدريبات تقود للحصول على عقل تتوازن قيه ردود الأفعال، بأفعالها. نشوة لا حسية، أو مضطربة، مائعة، ولكنها ليست عقلية خالصة، لتعيد سبك العناصر كي تبدو أكثر صفاء ً.
لكنه لم يفرط فيها: فمنذ زمان بعيد لم يعد يعّول على كان ما يظهر في المرايا..، فالنشوة محض عبور من فراغ إلى آخر أكثر اتساعا ً، ومتاهة...، مع إنها شبيهة بالممرات التي كان من الصعب تصوّر إنها معزولة عن هذا الذي مكث يحافظ على نفي بلوغه الذروة.
بيد انه لم يدع لذّة شعوره بالتقدم أن تنفي وجوده وحيدا ً حتى وهو يرى الجسور تحولت إلى طرق لا نهائية العدد، وقد بدت له مثل خلية دماغية متصلة بالخلايا الأخرى، وان تلك الخلايا بأسرها متصلة معها. فقد راح يسفه لغز العزلة مثلما لم يعر الصبوات أكثر من مرورها عبر جسورها النائية.
ـ ربما ...
وشاهد أصواتا ً اتخذت بياض بلوريا ً سرعان ما غدا جسيمات لا مرئية تترك ظلالا ً خفية لحركتها..، والوعي بما كان يتركه من رنين خفيض...، مغايرا ً للثوابت التي كادت تحسم مشاعره بظهور وباء لن يترك بعد انتشاره حتى ما يدل على انجازه عمله بحسب الخطة.
شاعرا ً بمرارة لاذعة اختلطت بنبضات قلبه. فقال انه لا عودة إلى الجسد...، ليمسك بهالات رآها شبيهة بالأفكار تغوص وتتوارى كي تبزغ، ثم ما أن بدت له ناعمة محاطة بدوائر ومستطيلات حتى تعود وتتلاشى وتصبح صفرا ً. لكنه لم يخبر أحدا ً بالأبعاد التي مازالت بانتظار تكوّن أدوات قادرة على اكتشافها والعبور بها من الظلمات لاستحداث مخبآت ما انفكت تجد من يعرقل تكوّنها.
وردد، مع نفسه، بصوت وجده يتمايل مشبعا ً برائحة سرعان ما سمحت له بتتبع لون ما كان ينبثق من شاشة الحاسوب...، بدا له مشفرا ً بمرور الوعي عبر اتصال خلايا دماغه بخلايا أدمغة العقول الأخرى...، فالكلمات فائضة إذا ً...، بعد أن تحولت إلى حجابات، وكادت تفسد عليه براءة ظنها غير قابلة للتلف..، أو المس...، مرور راح يقلص المسافات كي تحافظ على ما فيها من أبعاد، لمحها تثير لديه رغبة غامضة ونشوة غامضة بالهدنة:
ـ الهدنة...؟
إلا انه راح يبحث عن مفردة لا تصبح عثرة، بل تبقى ممرا ً للحفاظ على كل ما كان يراه يتسرب...، يتفكك، ويتلاشى.
شعر كأن زمنه بالبحث عن وجود ما لا مناص انه لم يكن فائضا ً...، فالنهايات وحدها تمتد بتراكمات مقدماتها، ولا مجال للاعتراف إلا بهذا الذي مازال يمتلك أبعاداً لم تستحدث بعد...، لأنه لم يصبح غائبا ً بعد أيضا ً...
ـ كنت أود لو عدنا ـ ببساطة وسلاسة ومن غير عقد ـ نتنزه عند ضفاف النهر، النهر الأتي من الأعالي المار بالحقول وبالبساتين نحو المدينة، مدينتنا ...
توقف عن الكتابة، وقال بصوت استنشق عبره رائحة الماء، والصيف، والنخيل:
ـ أمن اجل هذا حصل الذي مازال يطن ويقرع ويدوي.....؟
صمت. مكتفيا ً بابتسامة تركها ترفرف...، مع رأسه، وقد رآه يحوّم في فضاء الغرفة:
ـ هل أخبرتكم بأنها بالفعل كانت هدنة....، لكنها ليست معكم، بل مع ... هذا الذي صدق انه كان يتمتع بقناعة أن ما من احد يمكن أن يمس ... براءته!
وامتد الصمت ليجد انه يراقب أصابعه تعمل بمعزل عنه:
ـ أهذا ـ هو ـ الذي وجد كي يذهب ابعد من غيابه؟
وتساءل بصوت مرتجف:
ـ عزلتكم ام عزلتي...؟ وكأنني صرت ابحث عن مذنب... عن فاعل...
نهض متمتما ً:
ـ يبدو إننا لم نخلق إلا لصناعة هذا العقار الذي عمله يمد الداء بالديمومة...، وبما هو ابعد منا، مني، ومنكم، من زمننا، ومن زمنكم، المرض الذي كنا نبحث عن عقار للقضاء عليه، أو للحد من جبروته، وما يتركه من أسى وخراب...، هو العقار الذي لا وجود له...، البراءة، فلا معنى للهدنة! ولا معنى للرسائل إن كتبت أو لم تكتب، إن أرسلت أو لم ترسل...، فلم تكن إلا هي الأسباب ذاتها التي عملت على استحداث مجالات تنصهر فيها الأسباب المولدة لماضيها، والمولدة لمصيرها المؤجل....
لا إجابات.
إنما لم يول الصدمات أكثر من إصراره على استحداث آمال لا مرئية...، فالحياة لا تقبع داخل الكلمات، ولن تسكنها. لكنه لم يصدم، بل كتب:
ـ فالعزلة أكدت إنها، مهما اتسعت في مساحاتها، فإنها قائمة على ما يدحضها..
شاعرا ً أن كل خلية، في جسده، ترسل إشارة إلى الجميع...، مثلما أحس عميقا ً انه يمتلك قدرة قراءة ما لا يحصى من الردود، والإجابات. فالحياة لم تمض، لأنها لم تبح إلا بما بدا أطيافا ً للعبور:
ـ كأنكم وانتم تذهبون إلى أقاصي المنافي، فوق هذا الكوكب الشبيه بمجمع للنفايات، أصبحتم أكثر قناعة بالأمر الواقع، ذلك الذي كنا، في يوم من الأيام، قد منحنا عزيمة على دحضه، أو تعديله، في أسوء الأحوال.
ولم يجد ثمة ضرورة للنبش في النهايات، مهما تأجلت، فإنها محكومة بنسقها، ونظامها، فهي ليست طليقة إلا بحدود ما ستؤول إليه، وكأنها أنجزت واجبها...
ـ انجاز ماذا ...؟
تذكر الموضوعات التي صاغت هواجسهم، وحواراتهم، وتجمعاتهم، حتى أثاروا الشبهات...، لكنهم ازدادوا إصرارا ً بان الاختلافات وحدها هي التي كانت تمنحهم الحفر في الظلمات، فالعام لا تحكمه المشاعر المستترة، المطمورة، فهو غير مقيد بمبدأ التجمع، التكتل، والتعارف، وهو لا يقع تحت قبضات أصحاب المال، ولا بفعل المبرمجات القائمة على الخطط الخفية...، ففندوا النظريات وفككوها كي يستخرجوا منها ما سيدخل في تركيب البناءات المحتملة...، واستنتجوا أن الحياة لا تعدو أن تكون أكثر من مسرحية محكومة بازدواجية أضدادها، فالأكثر حكمة ليس وحده من يتحكم بالمصائر، بل برهنت الطبيعة أن قواها تعمل بما لا تركه أعظم العقول...
ـ انجاز ماذا ...؟
ولأنه لم يعد يجد ما يستند إليه، أكثر من أصداء لأصوات توارت، قال بلامبالاة، لكن بثقة:
ـ هذا هو كل ما في الأمر.
ولم يفكر أن يجرح أحدا ً، مثلما فعل بنفسه حيث امسك السوط وانهال عليها، يجلدها، ويعذبها، وإلا لكان لو شيّد بيتا ً وجمع ما يدفع عنه الحاجة، بدل المضي بالنبش والجري خلف سراب...، إنما لم يخبرهم بالتمويهات التي اغفلوا أسباب ازدهارها، ولا بالأوهام التي ظنوها عابرة، فلم يسلطوا الضوء على غياب الجهد، وكراهية بذل الحد الأدنى من العمل...، فالثروات التي انهالت على البلاد عززت صخبهم، ومنحت أصواتهم درجاتها القصوى. كانوا ضحايا العاب خديعة، لكنها مضت، فاستحالت إلى ما يتفوق على أي جهد لتفنيدها. فغدا من يجر العربة وحده يتحكم بمسارات الدرب.
ـ فلم نكرس برنامجا ً واضحا ً يمنحنا خطوات تجعلنا لا ناسف إننا أضعنا ما كان علينا أن ننجزه، وندعه يتقدم...
لم يدوّن كلمة واحدة حول ذلك، فالمشترك لم يذهب ابعد من الأصوات...، والصخب، وحتى هؤلاء الأكثر انشغالا ً بالبرامج الحديثة لم يلفتوا النظر إلى الحقائق...، والى ما كان يجري خلف الواجهات. كانت اللافتات قد بهرتهم.
ـ فحتى الماء أصبحنا نستورده ..، لأن مصائرنا جرجرتها الأصوات..، والمزاعم، وأمراض العظمة.
لكنه لم يكن راغبا ً بالعودة إلى ما عبره الزمن...، فثمة ما لا يحصى من العلل، لا جدوى من نبشها. فعلى مدى ألف عام لم يكن لدينا ما يقارن بما لا يحصى من اختراعاتهم...، فهم يستحدثون، في كل برهة، ونحن ندفن كل من يتجرأ بالعمل على وضع ضميره تحت الضوء.
وجد الهواء ينسحب. فمد أصابعه إلى الأمام، بحثا ً عن نسمات...
ـ فانا أتذكر هؤلاء الذين ماتوا في الصحارى، جفت ابدأنهم، ولم يكن منطقيا ً أن يتساءلوا: أين ذهبت مواردهم...، ولماذا هربوا من بلادهم ... ، ثم ما فائدة سلخ أرواح ضاعت في البراري، والبحار، مثلما كانوا يتوهمون أنهم كانوا على صواب.
بحث عن أصابعه فوجدها تيبست. فيما لمح رأسه يتمايل، حتى بغياب الهواء.
ـ ربما يكون هذا هو السبب الذي أهملناه، اغفلناه، ولم نحسب له أي حساب، فلم تكن هناك مشتركات حقيقية، صائبة بيننا، مما جعلت النهاية تجري بعناد، وبلا مبالاة...، وقد بلغت ذروتها.
ودار بخلده انه لم يكن مراقبا ً، ولا قاضيا ً، ولم يكن مخولا ً بإصدار الحكم. الم ْ يتندر من هؤلاء الذين كانوا يذهبون إلى جهنم طواعية، بلا تردد، زاعقين: افتحوا الأبواب! بحجة أنهم سمعوها تقول: هل من مزيد!
لم يجد قدرة على الضحك:
ـ لأننا كنا نتندر على هؤلاء الأكثر خمولا ً إلا بعمل المستحيلات للحصول على ركن في الأعالي...، بجوار الرب..، لا عمل لديهم إلا كراهيتهم للعمل، وبذل أقاصي الطاعة بسحق كل من كان ينوي أن يبذل جهدا ً ...، أو يتحرش بالأعراف.
لمح الجدران تتقلص، ليرى جسده تحول إلى بذرة.
ـ كأنني وجدتها!
فرفع صوته قليلا ً:
ـ لا أبدو أني بصدد السفر إلى العالم الذي لم يرجع منه احد...، صحيح إنني احتضر ولكنني لم أمت بعد.
ليجد رأسه يصطدم بشاشة الحاسوب:
ـ من أين جئت إذا ً...، من أين خرجت...، الست مركبا ً من عناصر هذه الأرض، الست جزءا ً من هذا الكون؟
أليا ً ـ بمشاعر مجمدة ـ نهض ليعد الشاي، ثم يرجع، كاتما لوعة لم تدم إلا برهة:
ـ كنا نجهل البند الأول: من نحن ...؟
ولم يخبر أحدا ً بأنه استعار منه كتابا ً ولم يرجعه...، ولم يذكرهم انه لا يتذكر أن أحدا ً منهم التزم بموعد...، واظهر ما كان يتستر عليه، ويخفيه..، ولم يتحدث عن الأسباب التي طالما أفقدته أعصابه:
ـ الاستخفاف بالحقائق، وتجنب الصدق!
ـ من نحن...؟
ووجد في مرارة الشاي لذّة عقاب أليفة..، ليجد صعوبة اكبر في العثور على نسمات تعيد له توازنه. فالدخان غدا كثيفا ً. وربما تكون خلايا الدماغ تعاني من نقص ...، عناصر ديمومتها.
ـ كنا مأخوذين بالحرية....، ولم نجد من يذكرنا بأسسها..، بجوهرها، حتى إننا كنا أما أن نتناول الماء الملوث أو نبحث عن ماء مستورد. كأننا كنا سعداء بالفجيعة.
تلمس جسده: لا لم يتحول إلى صرصار. وانه لم يفقد انفه، كما لم يبتلعه الحوت...، فقد تذكر حكايات قراءتها منذ زمن بعيد، ورسخت في ذاكرته...، ثم أضاف بسخرية: ولم أصر نباتا ً.
فجأة، استنشق رائحة الليل، خالية من الدوي، من الغبار، فلم تعد ثمة طائرات، ولا أصوات انفجارات..، ولا مواجهات ...، قال لنفسه، وانه لم يعد يخشى أن تطرق الباب للسؤال إذا ما كان منحدرا ً من عفن المستنقعات أم ولد تام الهيأة...، من أية قبيلة وما هو انتساب أسلافه...، هل هو من اختار معتقده، أم القدر منحه ولعا ً بالهجرة إلى المذنبات النائية...
تاركا ً أصابعه تمسك بجسده، فقد شاهده تحول إلى كتلة جافة، متصلبة، ركنت عند تل من النفايات، سمع اصطكاك أسنان مفترسات متوحشة تقترب منه، لم يتحرك، فقد أدرك انه طوق من كافة الجهات...، ورأى السماء تمطر حجارة، لم يسمعها تنفجر، قالوا إنها أسلحة ناعمة، مثل حلوى، هدايا للصغار، لا تؤذي، فيذهب كل من تلامسه إلى العالم الآخر كأنه يعود إلى البيت.
أفاق.
تلمس الكلمات ممتزجة ببياض جاف، مخلوطة بالدخان، تشتبك معها حبيبات أصداء منحت المزيج لونا ً حلزونيا ً استطال فبدا له شبيها ً بالمرات التي ظن انه تحول فيها إلى أثير:
ـ ها هو المنفى باتساعه غدا بحجم بذرة كلما توغلت فيها دعتك إلى فضائها اللا محدود...، مثلما الكون ذاته لا يكف أن يمحو حافاته...
تاركا ً أصابعه النحيلة تنقر في الهواء:
ـ فانتم إذا ً غير آسفين للفرار من منفانا، لاختيار آخر، مثلما أنا لم اعد امتلك حتى رغبة بالأسف إني لم اختر هذا المنفى، أو سواه، مادامت البذرة هي البذرة أينما كان موقعنا فيها.
ووجد فمه ينطق:
ـ إنما رأيت السماء تمطر حجارة ناعمة، وشاهدت أرواحنا تهيم، فلم ير احدنا الآخر كي يودعه...، وإذا رآها أغفله، كانت الفراغات تدوي بأنغام استحدثناها كي تبلغ بالمحو ذروتها... ، فكنا نزداد شغفا ً بالفراغات: أصواتنا التي خمدت قبل أن تغادر أفواهنا...، يا للآسف...إننا لم نجد ما نأسف عليه...، حتى عندما كنا نأمل بغير ذلك...؟
لكن هل حقا ً....؟ وسكت برهة: أن أحدا ً لا يريد أن ينطق...، لا يريد أن يعرف...، ولا يريد أن يغادر منفاه...، كي لا يكرر بعناد لعبة الصياد الأول...، وهزيمة الطريدة الأولى..، وكأن كل منا كسب الرهان، حيث الهزيمة وحدها كانت قد ارتدت قناع الخلود!
بالأحرى، قال لنفسه، لا جديد يذهب ابعد من تلافي الإعادة، واستنساخ القديم. إلا أن المتاهة كانت قد تجاوزت حدود برامجنا، لأننا ـ ببساطة ـ كنا لا نمتلك إلا اختيار ما كنا وصفناه بـ: العار، الدناءة، والرذيلة.
توقف عن الكتابة، وراح يتخيل انه أزاح الجسور التي لمحها قائمة بين الأجزاء، وبين الكيانات..، فلم يعد يرى سوى مكعب خارج المدى، إنما تردد في إكمال المشهد. فأينما ذهبت فالجسور هي التي تمتد نحوي. فلا وجود لي خارج الشروط ذاتها التي جعلتنا في العمق: في العار، وما تحت الرداءة.
وعاد يتخّيل المشهد: السفينة تغرق...، إنها تهبط إلى القاع...، فمن أغرقها؟ لم يشغلنا هذا السؤال. فقد تحتم على كل منا أن ينجو...، يلوذ بالفرار...، نحو الصحراء، نحو البحر، نحو الجحيم أيضا ً عندما لم تعد هناك نوافذ، وممرات للهزيمة.
ـ أنا تجمّدت...، ُجمدت، وجد نفسي مجمدا ً...، أراقب تتابع الضربات، أراقب الصدمات، الصواعق، والهالات البلورية ترتفع في السماء...، النار تلتهم الجدران، والموتى يغادرون المدافن، الثكالى ينحن بجوار الأرامل فيما شاهت أطفالا ً يتدلون من أغصان الأشجار، والضربات تتبعها أخرى اشد منها، توهجا ً حتى صارت بلون ما قبل الخليقة. ولشدة قوتها صرنا شظايا، ولم نعد محض ذرات، أو كيانات، ولنا ثقل وأبعاد، صرنا نحدق في اللا مرئيات بعد أن فقدنا كل صلاتنا بما حلمنا في يوم ما أن نراه يانعا ً، وحقيقيا ً...
ليجد أصابعه راحت تعمل آليا ً: وصار كل منا يبحث عن فجوة للهرب...، لا معنى للحديث عن الهزيمة...، ولا عن من كان السبب، فالحياة ذهبت ابعد منا...، ابعد منها...
ـ وأنا تجمدت، جمدت، ووجدت نفسي مجمدا ً...، فقلت: أنا هو من يغرق، يغطس، يغوص....، وأنا أيضا ً في طريقي للذهاب ابعد من الموت، ومن تمويهات الحياة، ووعودها، من صلابتها وهشاشتها، من أصواتها وصمتها...، أنا اذهب خارج موتي.
كلا.
متلمسا ً الهواء:
ـ أنا الآن في كوكب آخر....، حتى بدا لي المشهد معادا ً...، لأنني تخيلت هؤلاء الذين تركونا للحصول على ركن في الأعالي، تخيلتهم يبحثون عن الحوريات، ويبحثون عن العسل، وعن البن، وليس عن الهواء الذي لم يلوث بعد...، هؤلاء أيضا ً كانوا تخلوا عن السفينة، وتركوها تغرق إن لم يكونوا هم أنفسهم من أسهم باستحالة إنقاذها...، تركونا نتخبط في متاهات الخوف، نرتجف من شدة الذعر، والويلات...، لأن كل منهم كان يلوذ بالنجاة وحيدا ً نحو الأعالي، وآثار أقدامهم مازالت تدك الأرض، ومن عليها.
وبدأ يقرأ في الشاشة:
ـ ما الاختلاف إذا ً...، هؤلاء بحثوا عن خلاصهم في السماء، وانتم بحثتم عن خلاصكم في منافي الأرض...
ـ أما أنت فكنت تحتمي بالجدار...، كي لا تقتل، وأنت تشاهد فرق الاغتيالات تتجول تبحث عن طريدة..، فلم يرك احد منهم، وظننت انك نجوت..
هز رأسه: هل أخبركم بماذا كنت أفكر أو بماذا فكرت...، آ ...، لم أفكر، بل صحوت حتى أنني صرت اردد: لم يتركوا لنا إلا أن نخلص أنفسنا، بمعنى: أن يقتل احدنا الآخر. فالخلاص، في النهاية، موتنا.
متمتما ً: إنما عدت أدرك إنني لم اهزم: فالرب وحده ليس بحاجة إلى إثبات! ليس بحاجة إلى براهين دالة عليه، تتفوه بها مخلوقات غيابها سابق على وجودها. الرب هو وحده علامة وجود كلما ادعينا معرفته إنما نوسع المسافة بيننا وبينه!
أرتج جسده من الداخل، فمحا الكتابة، حتى فكر أن يتلف الجهاز، فربما يكون قد ارتكب هفوة، أو خطيئة يحاسبه ضميره عليها، قبل أن يجد من ينزل فيه العقاب. إلا انه أدرك فجأة انه لم يقم ـ هو بذلك ـ بل الجهاز ذاته قام بمحوها! ذلك لأنه، في إحدى رسائله، ما أن كان يشرع بإضافة كلمة، إلا ليجد الشاشة تحولت إلى مساحة بياض. فكان كلما عاد واسترد الكلمات، وشرع بإضافة حرف...، وجدها عادت خالية إلا من البياض المشع. لم يجد تفسيرا ً للمعضلة، بعض الكلمات تجعل نظام الحاسوب يقوم بمحوها ذاتيا ً...، رغم إنها لم تكن كلمات خارج السياق المتداول، أو تتنافى مع الأعراف...، في العالم. فالممنوعات يعرفها، حفظها عن ظهر قلب، بل كان يستنشقها، وهل ثمة محرمات...، وهو قد نجا من الموت...، مرات ومرات، إنما وهو يراقب الجثث ترمى فوق أكداس النفايات، مستعيدا ً مشاهد المقابر الجماعية، رماد الموتى الأبيض المائل للاصفرار الممزوج بلون الرماد، عظامهم، ومشاهد إطلاق النار في الرؤوس، ومن الخلف...، القنابل الفسفورية، العنقودية، شاهدها أيام الحرب...، وعبر الوثائق، درسها، حللها، حتى خزنها بجوار ذكريات ترجع إلى ما قبل سبعين عاما ً؛ رائحة التراب عندما تملأ انفه بعد سقوط المطر، ورائحة الحليب، وحرارة والدته وأنفاسها.
ـ لكني كنت ابحث عن جذور ...
ووجد صعوبة في العثور على هواء لا يفسد عليه وعيه. كان لا يريد أن يتعرض للنعاس، أو للإغماء...، فقد شعر كأن قوة ما كانت تحفزه باستحالة القبول بما يذهب به ابعد من الهزيمة...، الم يكن يطالب بالبحث عن وسائل غير الأصوات، والزعيق، والهتافات...، وسائل غير الأناشيد، والكلمات، تضع حدا ً للقبول باختيارات كانوا عملوا على دحضها؟
ـ من أنت...؟
لم يذكر في رسائله انه لم يحتفظ حتى بمرآة للحلاقة، منذ سنوات بعيدة، فقد كان يتلمس بشرته لذلك..، مثلما لم يبق للانا إلا بحدود عملها في الحفاظ على أداء الضروريات، كالذهاب إلى النوم، أو عدم إغفال تناول الطعام...، وعدم إغفال العقاقير التي لولها لكان قسم ابوقراط فائضا ً، فلم يبق أثرا ً يستفزه للدفاع عن قضايا جديرة بالزوال، والمحو. عدا التمسك ببقايا هذا الوعي بما حدث، ووقع، منذ سنوات، ربما إنها تسبق ولادته، بما كانت تحتويه من غزارة معلومات، وحوادث، ذلك لأنه لم يعد يرى مستقبله أكثر من هذا الملحق بالماضي البعيد...، فلم يعد يعامل جسده، إلا بوصفه فجوة تركها تستكمل تسلسلها، لا أكثر ولا اقل.
فبدت له حياته منفصلة عن وعيه، بل طالما أحس إنها فائضة أيضا ً عنه، ولكنه وجد نفسه يتمتم معترضا ً:
ـ آ ....، فمن ذا إذا ً يدرك كم مضى من الماضي، وكم ستدور الدورات ضمن برنامجها...، ونحن لا نملك حتى درجة من درجات الصفر؟ مع ذلك...، لم نكن نمتلك إلا أن نزداد عنادا ً، وتمسكا ً بالتمويهات، ودحضها، ثم ـ في نهاية المطاف ـ لا احد يمتلك إلا أن يتدثر بوهمه.
أفاق ليساءل نفسه بتردد، وبخوف:
ـ هل غابوا جميعا ً...؟
لو لم يتحسس جسده يرتجف، ويتعرض لنوبات من الارتجاج، من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه ـ وقد ضحك للعبارة التي أعادته إلى أيام قديمة خلت ـ لكان اطمأن إلى جواب واحد:
ـ أنا هو من غاب! أنا هو من مات!
لكنه عاد يكتب منشغلا ً بالبحث عن علة لها علاقة بأحد الأطراف...، أو بما يحصل من تصدعات في الوجود، أو بما هو ابعد...، من وجود خطة حكيمة ومتقنة ببلاغة ونائية حتمت استحالة ديمومة ثوابت الحياة...
ليسأل نفسه، بعد أن لمس أعلى رأسه، بهدوء، في عبارة موجزة: ربما أكون أنا الوحيد الذي لم يدرك انه فارق الحياة، وغدا غائبا ً...؟
مع انه تخيل الأمر بأدق التفاصيل ...، وشاهد موته يحدث مرات ومرات...، إلا انه لم يعد يصدق انه فارق الدنيا...، تخيل كيف طلب من جاره، أن لا يحشره في قبر ضيق، وناوله مبلغا ً إضافيا ً للعناية بالأبعاد، وان لا يتم حشر جسده حشرا ً عنيفا ً، لأنه تخيل الألم يطارده حتى بعد توقف عمل الدماغ، وتوقف القلب عن أداء عمله، متخيلا ً السماء تمطر...، والريح تداعب الورود التي دفع ثمنها، على أن تكون ألوانها شبيهة بالمنديل الذي أهدته له أمه قبل أن يتأملها تفارق الحياة، وتخيل انه يسمع البلابل تغرد...، فيخاطبها، ويمضي معها أزمنة استثنائية...، من غير أن يغفل انه أمر بعدم كتابة اسمه فوق الشاخص...، معللا ً أن ذلك قد يكون أمرا ً لا يليق بإنسان عمل من اجل الآخرين، وليس من اجل نفسه...
هز رأسه، فوجده ثقيلا ً، فشرد ذهنه، وهو لم يكف يكرر بأنه مازال يتنفس الهواء...، بل وانه تناول قطرات من الماء، بعد أن اعد الشاي، كما يفعل بعد الاستيقاظ فجرا ًفي كل يوم، متابعا ً، بإصرار: انه مازال يرى الكلمات، الواحدة بعد الأخرى، كأنها تنسج المنديل الذي طرزه وأهداه لفتاة غابت عن ذاكرته...، مخاطبا ً، من عرفهم، وبرغبة ما وجدها لم تخفت، صديقي: سقراط...، صديقي الجاحظ، صديقي الجنيد، صديقي ابن رشد، صديقي المعري، صديقي اينشتاين، صديقي تشيخوف، صديقي طرفة بن العبد، صديقي دانتي، صديقي غاليلو، صديقي مندل، صديقي ماركس، صديقي دستويفسكي، صديقي الملا عبود الكرخي، صديقي مدني صالح، صديقي اليوت، صديقي عدنان المبارك، صديقي فاضل العزاوي، صديقي علي النجار، صديقي عادل كامل، صديقي الله!
وعاد ليجد الشاشة تحولت إلى بياض تام.
19/11/2016
Az4445363@gmail.com