أختام*
عادل كامل
[17] حرية
بلذة المجهول
في عام 1996، قلت، في مقال منشور: الصمت أعلى
مراحل الحرية! ولم أعاقب! فانا كنت اعمل بالحرية التي أخاطب بها المجهول، وما دام
الأخير، كالزمن، وربما، كالقدر، فقد كنت لا امتلك إلا أن أكون جزءا ً منه، لأن
البطولة، بأي شكل من أشكالها، لا علامة لها. هو ذا الصمت يتكّوم بفعل القانون ذاته
الذي أنتج ما لا يحصى من الفلسفات، الأفكار، والأشكال الجمالية، يتّكوم، لأن
تمويهات الجسور سيفضي إلى الانزواء، وتجنب لا جدوى الأصوات، لا عن الحياة اليومية،
بل عن العالم الآخر، إن كان عدما ً، أو فردوسا ً زاخرا ً بالظلال. فالمجهول، يدثر
الصمت، مثلما يصنع أشكاله الوهمية،
العنيدة، وقد أثمر عن حكمة لا مناص سيدحضها القانون ذاته.
فانا إن تكلمت ـ أو كتبت ـ أخاطب شجرة أو
عصفورا ً، أو كائنا ً من جنسي، فانا أدرك لا جدوى عملي، لأنني: لست بحاجة أن اخبر
الآخر بما اعرفه أولا ً، ولا جدوى من الحديث مع الآخر الذي لا يريد أن يعرف، ثانيا ً، فلماذا، عبر
الانصياع لسطوة الزمن، وبحكم آليات مجموع العلل، هو الاختيار العنيد الذي لم
اختره؟ إن اللا ـ شكل، وحده غير مسؤول عن الكل بعمل أجزاءه. أليست هذه إضاءة لحدود
لن تسمح لي إلا أن أحافظ على شروط، مهما استبعدتها، فانا أسيرها، إن فرحت بها أو
كتمت أقاصي الكتمان بها. أسير حرية تحررني من قيودها، كي أغلق فمي، بقيودها، نحو
اللا ـ شكل الصلد، وغير القابل للتعريف، بل الذي وجوده وحده يقع خارج المسافات:
خارج القدر ـ والزمن، ولكن ما معنى أن أمرغ
بالتاريخ: تاريخ القتلة، وتاريخ الضحايا، عندما يكون هذا كله، لا يمتد،
أكثر من عدمه ـ وهو محكوم بزواله، قبل الحضور...؟
والأمثلة لا تحصى؛ ففي الحوار الفلسفي البابلي
ـ عن أصله السومري ـ يلخص الحوار النسق ذاته القائم على: هذا الذي تتجمع فيه
الاغتصابات البشرية(الملكية)، والكنوز، والثروات، والفضائح، إلى جانب الخبرة،
والكد، والإبداعات، إزاء غالبية لا تمتلك إلا أن تحافظ على كيانها من التلف،
والزوال. فالنص لا يتستر على التعسف ـ وتلك إشارة لحرية تستخدم كقناع في مواصلة
العرض: فالوعي لا يمتلك الكثير: إلا أن القليل ـ المحدود ـ سيعيد صياغة الواقع
بإحكام: الهرم هو الشكل الذي كلما تعرض للزحزحة ـ وليس للهدم ـ سيعيد ترتيب بناءه
على نحو يجعل الحياة ماضية باستحالة إجراء تعديلات جذرية. لماذا يظلم الكائن الحي؟
يتساءل الفقير أو العبد، أو المتشائم، فيأتي الرد: إنها القوة! ويضرب مثلا ً
مستمدا ً من البرية. فالأسد حر طليق في فرض هيمنته، وكذلك، يقول: الإله، لكن
الأخير، أعلى من أن يكون عاليا ً، والبشر، ما هم إلا مخلوقات خلقت من الوحل، ومزجت بالدم، حتى تبدو المسافة
ـ الفجوة ـ بلا أطراف. إنما محنة الوجود وحدها دائمة، لأنها، وحدها شبيهة بالسراب،
أو بالحلم: إنها وجدت كي لا توجد!
تلخص تلك المحاورات الفلسفية مفهوم التراتبية،
كنظام لم يصنعه الوعي، بل جاء الوعي ليمنحها واقعيتها، رمزيتها، معا ً.
ها أنا انشغل بكياني النائي، وفي الوقت نفسه،
اترك أصابعي تدوّن: تحفر فوق الورقة، أو عبر شاشة الحاسوب، استحالة العثور على
البدائل، بعد أن عجزت عن قهر هذا التراخي أمام استكمال (حياتي) كجسد يتعثر في
مواجهة قوى تعمل خارج المتضادات/ الثنائيات، وبعيدا ً عن رمزية المثل، والأساطير،
والمعتقدات، فاترك أصابعي تجرجرني لرؤية كائنات تمحو بعضها البعض الآخر، لا لتقديم
النذور، لكبير الآلهة، كما في أزمنة الأساطير، ولا لتقديم النذور لمن هم في أعلى
الهرم، بل أصابعي ترى، قبل أن تشتغل مراكز التفكير، أن السحر (الآلية العنيدة في
عمل أدق الأجزاء) لن يكتمل، إلا بمحو هذا الذي قاوم المحو، وهو الذي كان لا يعمل
على إلا على محو أثره.
فأصابعي ترى فراغات، وأصداء أصوات، وذرات
أثير، وأجزاء لا مرئية ...الخ، صاغت بإحكام تاريخ المرارات، ونهاياتها المتتالية،
الممتدة، بلا حافات. فأصابعي مكبلة بعجزها، في حريات سوداء، كي تجرجر محوها، وليس
أثرها، داخل هذه المساحة، وقد أصبحت مقيدة باستحالة تحديد العلل، كي يكون للاعتراض
معنى ما، في معناه، أو في لا معناه، عندما تكون الصيرورة، من صنع هذا المجهول،
وليس للوعي إلا أن يستكمل إرادة عجزه، إنما هي ليست إرادة باطلة، بل رؤيا تستكمل
موقعها إزاء لا حافات هذا المتدفق بلغز عدمه، كوجود كونته ممحوا ته، وليس على
تراكمات تصادماته القائمة على هذا المحو .
[18] آليات
الزوال ـ وديمومته
أسهم
عصر الدعاية، بتفكيك (الصيرورة/ التاريخ)، وليس بدحض الثوابت، أو تشذيبها. انه عصر
منحت فيه (الرداءة) سلطتها، لا كي يعيش البشر من فير رجاء، أو خارج ما يسمى
بالأمل، أو أن يعيشوا بعيدا ً عن حالات (الخواء/ الاغتراب/ الباطل/ والتمويهات)
فحسب، أو الذهاب ابعد من المثنويات، والمتضادات (ظلام/ نور ـ موت/ حياة ـ بعيد/
قريب) عبر الثناء، أو الكراهية، المحبة أو القسوة، القانون أو العشوائية ..الخ، بل
أن لا يستسلم للنهاية التي طالما أكدتها أكثر العقول واقعية، وموضوعية، كلمات نقشت
فوق الطين: ما يأتي مع الريح يذهب معها. وهو احد مكونات عظمة (العبث)، على مر
العصور، خاصة القائمة على الاضطراب، وان يعيش كسلعة قيد الاستهلاك، بعد أن أصبحت
الروح من الماضي، أو أصبحت بالية، وعتيقة.
عصر الصيرورات الذي لا ينتج ثابتا ً، ولا يقود
إلى الاستقرار، وإن حصل، فإنما للبرهنة: إن ما (الأمل) ليس إلا قناعا ً، وقد حكم
عليه الزمن بزواله، وإن هذا التفكيك، لم يحصل للكتل، للنمل، الجماهير، وقد بدا
ظهورها كمن عثر على كنز، بل للفرد، ولهويته الداخلية. تفكيك سيسمح لسبعة مليارات
إنسان أن يعمل كل منهم وكأنه وحده يحق له البقاء، بعد أن زود بمبررات تدمير الأخر.
لكن هذا لن يبرر شرعية البكاء على أزمنة يعتقد إنها (ذهبية)، ليس لأن الماضي، في
الأصل، مازال حاضرا ً، أو لم يدفن بعد، بل لأنه احد آليات المنهج ولغزه: التقدم في
المجهول!
وإذا كانت رواية (الشيخ والبحر) قد حظيت
بدعاية، فليس لأنها أصابت هدفا ً، بل لأن
الدعاية برهنت إنها لن تدع ثابتا ً إلا ودمرته.
إنها مسيرة طويلة بلغت هذه النهاية: إن الإنسان وحده يكافح للبرهنة على انه
لن يدع ذرة ما إلا ويعيد تصنيعها، عبر مهرجانات المصانع العملاقة، ومنها الخاصة
بأسلحة الدمار الشامل، وما بعدها، كي تأخذ طريها إلى الاندثار. هو ذا العالم ـ كما
يخبرنا وعينا ـ بوجودنا أو بغيابنا، ليدوّن بالكلمات، بل باختراع سلع مبتكرة
للموت، ولصناعة المزيد من الجثث، والتباهي بعرضها عبر الشاشات. لكن الأخير، كما
يخبرنا وعينا المضطرب، في فاتحة الألفية الثالثة، عنصرا ً لا يمكن عزله عن صياغة
أناشيد مبتكرة لصيرورات الأفراد، والجماعات، والحضارة، وكأنها جميعا ً لا تمتلك
إلا القانون الأول: الموت أو النصر!
فها أنا أبصر مشهد أقدم بذور الخلق، تتشكل
عبر حضارات تصنع دمارها، بعناية تماثل، وتتفوق على صناعتها لمجدها: كتل لا تمتلك
من الصلابة إلا أن تشتبك، وتستنزف، وتدمر بعضها البعض الآخر، كي يبقى القانون، وقد
كف غيابه عن الحضور.
لكن هذا كله يحمل علامات عصر التفكيك، علامات
براقة، مبتكرة، متجددة، ولها سحر الحكايات الأولى: الطرد، والنزول إلى العالم
السفلي، وديمومة الصخب، عصر تتوارى فيها الذات، أيا ً كانت، وفي أية قارة، عبر
برامج: تدمير الوهم، المماثل لعصر بناء أهرامات من الآمال الوهمية، الصوّرية، التي
شيدها (الدماغ) بومضات ما صاغت هذا الذي يعيد ديمومة لاوعيه عبر علامات محكومة
بزمن زوالها. فلم يعد الذهن يستنجد بالكلمات، أو بالرموز، أو بالمثل، بل لم يعد
بحاجة إلا لإدامة ما هو قيد الاندثار، بله انه ليس بحاجة حتى لها، فهو جزء من هذه
الصيرورة، وهي تعمل، كما تعمل باقي
الأنظمة. إنها حقيقة بلا أبطال، وبلا ضحايا أيضا ً.
لقد فند الحكيم السومري، قبل أكثر من خمسة
آلاف سنة: وهم (الخلود)، وهو ذاته سيفند وهم (الخواء)، كأنه يحفر معنا مدفنا ً ليس
للدفن، بل مدفنا ً للهلاك الدائم، إنما تحت غواية: الانتظار.
لكن المصانع، في عصر ازدهار حروب الأسواق
عابرة القارات، وجدت في الدعاية(الإعلام)، في هذا المنجز السحري، في عصر الخرافات،
والشعوذة، أملا ً غير قابل للدفن، لأن الهدف ذاته لم يجدد إلا علاماته، ومن يمتلك
قدرة التمرد، أو الاعتراض، فان معسكرات (الحضارة)، قيد شيدت بأبواب غير موصدة.
وبمعنى أوضح: لم يعد عصرنا منشغلا ً بالنمل، المليارات، والتحكم بها، بل التوغل في
خفايا الذات، وتركها تتناثر، كي ترتفع قمة الهرم، درجة أخرى، كما في مثال جلجامش:
ليس الخلود إلا ديمومة زوال، إنما قائمة على مبدأ: العمل؛ فمن لا ينتج زواله،
يزول، لأن تراكم القهر، أما أن يجد من يوزعه بعدالة، وأما أن يمتد زمن: من لا يقف
معنا فهو لا يستحق أن يكون ضدنا! انه القانون ذاته، ولكن آليات (الدعاية)، منذ صاغ
أسلافنا تصوّرات عالم ما قبل الموت ـ وما بعده، سيعمل مشرحة بالتعرف على خيوط
النسيج، وتفكيكها، ليمنح الخلود، مرة ثانية، الغواية ذاتها: أن تعرف ما لا يمكن
معرفته، مع انه، ملحق به. فما العدم، في نهاية المطاف، غير الذي نقش بالحروف، حيث
العدم، ابعد من أن يكون بعيدا ً، وأعلى من كل ذروة ارتفاع. فالا ـ كل، لا علاقة له
بهذا الذي نحن أسراه، وسجنائه، وعبيده، وسلعه، وزوالاته في نهاية المطاف. انه وحده
ليس بحاجة إلى: براهين، وإثباتات. فهو لا ينتج ذاته، كي ينتظر دعاية. وهو لا يموت
كي يمجد بالميلاد، فهو ليس خارج (الكلمات)، أو ممتدا ً كامتداد العدم، وليس داخلها
أو داخله. انه ليس: هو. فهو أقدم من أن يكون قديما ً، وهو ليس مستحدثا ً كي يكون
حديثا ً، أو كي يكتسب سمة (الحداثة). لكن عصرنا، ككل العصور، لم يكن إلا ضد نفسه، عبر: الاحتفال بالاحتفالات!
• تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: أختام معاصرة.