الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

الزمن الرديء-مسرحية لـ ثائر الناشف

الزمن الرديء

مسرحية لـ ثائر الناشف
 


عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة، صدرت مسرحية "الزمن الرديء" للكاتب والإعلامي السوري "ثائر الناشف".
تقع المسرحية في 128 صفحة من القطع المتوسط، وتدور أحداثها في دولة الإمارات، وتطرح عبر خمسة فصول؛ جملة من القضايا السياسية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع العربي ككل ضمن قالب أدبي واقعي وتراجيدي.

شخوص المسرحية ثلة من الشباب العربي، لكل واحد منهم همومه في بلده الأم، إلى جانب همومه في المكان الذي يقيم فيه، ويشكل مجموع هذه الهموم لوحة فنية متكاملة الأبعاد والألوان، فجزء من هذه اللوحة يكشف التآخي والتعاضد الحقيقي القائم بين قلوب وليس ذاك الموجود في لغة الشعارات، وتتحسر وتنتقد على حالة الواقع العربي الرديء، تسبر أغواره، وترصد تناقضاته، وتحرض على كسر محرماته، ترسم صورة أفضل لمستقبل هذا الواقع من خلال معالجة كل مشكلة من مشاكل الشباب.
كما تسلط المسرحية الضوء على قضية حرية المرأة العربية؛ وخصوصًا في المجتمعات الخليجية، وحالات العنف التي تتعرض لها جراء العقلية القبلية.

وبالرغم من تحديد مكان المسرحية في إمارتي دبي والشارقة، فإن حركة شخوصها تمتد من المحيط إلى الخليج، كل شخصية تتحرك بإيقاع بلدها الذي تنتمي إليه، لكن ذلك لا يمنع اتحادها داخل سقف واحد، وحده الهم هو الذي يجمع بين قلوبها، ووحده البؤس الذي يشتتها.
ولأن زماننا الذي نحياه كل ما فيه رديء، فجميع محاولات إصلاحه محتوم عليها بالفشل، ومن جوف هذا الزمن يموت السلام ويذبل الحب ويتقهقر الفن.

" أدب السجون " في العراق-جاسم المطير


" أدب السجون " في العراق
جاسم المطير
هل هناك تعريف واضح معتمد لتعبير  اسمه " أدب السجون " .. هل يمكن ربط هذا النوع من الأدب بتاريخ الأفكار السياسية أو بتاريخ الحكومات القمعية أو بتاريخ القطيعة التي يحدثها جدار السجن ، بين الأديب والناس ، بين عالم مظلم محدود وبين عالم مضيء غير محدود ،  هل أن وجود الأديب داخل
السجن يؤشر،  بمعنى من المعاني ، مرحلة الوحدة أو مرحلة الاعتكاف في حياته ، هل أن وجود أديب ما وراء قضبان السجون يشير إلى علامة واضحة عن الصراع الإنساني الدائم حول  حرية التعبير وحول حق انتماء الأديب إلى جماعات تريد تغيير المجتمع ...؟
 من وجهة نظر الحكام  يمكن تقديم السؤال التالي : هل أن محاولة سجن الأديب قادرة على وضعه بمعزل عن العالم ...؟
 بإمكاني القول فوراً أن وضع أدباء وراء قضبان السجون لا يحقق للظالمين النظر إلى العالم إلاّ بمرآة واحدة لا يرون فيها غير وجوههم ...
 رغم أن تعبير " أدب السجون " مؤلم نوعا ما ، خاصة بالنسبة لأدباء  سبق أن دخلوا إلى غياهب السجون وتعذبوا فيها ،  لكن في سبيل الحصول على إجابة دقيقة على  كل هذه الأسئلة ينبغي الاعتماد على خلاصة آراء عامة لسجناء ، أو لأدباء سجناء ، أو لمتابعين متخصصين بأدب السجناء ،  لكي يمكن إيجاد علاقة من نوع ما بين لغة أدب السجون ولغة التيارات السياسية المتعددة الاتجاهات التي سادت  في الحركة الوطنية العراقية .
أولا ً لا بد لي من القول ،  بصراحة تامة ، أن أدب السجون في العراق  لم يفرض نفسه ، حتى الآن ، على الساحة الأدبية ،  ولا ضمن الدراسات الأدبية ، التي صدر الكثير منها خلال نصف قرن من الزمان  ، داخل العراق وخارجه ، من دون أن يكون لأدب السجون حصة مناسبة أو معقولة عن تجمع ونشاط أدباء عراقيين  تناوبوا على دخول السجون السياسية في العراق منذ أكثر من 60 عاما .
في الوقت الحاضر نجد عددا غير قليل من أدباء كانوا سجناء ، في مراحل مختلفة من حياتهم في الماضي القريب والبعيد  ، بينما هم الآن على رأس قيادة الاتحاد العام للكتاب والأدباء العراقيين من أمثال الشاعر الفريد سمعان والكاتب فاضل ثامر والروائي حميد المختار وغيرهم . إلا أننا لم نجد  اهتماما حقيقيا ، أو كما ينبغي ،  من هذا الاتحاد  بمعرفة الحياة المشتركة لمجموعة كبيرة من أدباء سجناء في العراق سبق أن تعلقوا بقلب النشاط الأدبي ،  لأول مرة من داخل زنزانات السجون ، كما هو حال الكاتب الروائي جمعة اللامي المقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة ، أو من الذين
 كان لنتاجهم الأدبي ميزة خاصة  في قلب التنظيم الجماعي لسجناء نقرة السلمان كالشاعر المقيم في سوريا مظفر النواب ، الذي صارت أشعار قصائده ، داخل السجن وخارجه ،  ضرورة سياسية يتغنى بها كثير من أدباء مجايلين ،  خارج السجون . كما أنني شخصيا حققتُ تحولا  في سجن نقرة السلمان من مرحلة الكتابة الصحفية إلى مرحلة الكتابة الأدبية . كذلك كانت هناك الكثير من الكتابات والنشاطات الثقافية والأدبية داخل التيار الأدبي في سجن نقرة السلمان ،  مثلا ً،  تداوله وأنجزه كل من السجناء صلاح الخزرجي ، سعدي السماوي ، سعدي الحديثي ،  محمد ملا عبد الكريم ،  المحامي نصيف الحجاج ، الشاعر فائز الزبيدي ، الكاتب  فاضل الروضان ، الصحفي عبد القادر البستاني  ، الكاتب كمال عمر نظمي ، المترجم بديع عمر نظمي ، الكاتب عبد الوهاب القيسي ، الشاعر الشعبي هاشم صاحب  ، الشاعر دينار السامرائي  ، المهندس عبد الرزاق زبير ، وعبد الستار زبير ، زهير الدجيلي ، عزيز سباهي ، مصطفى عبود  ، حامد أيوب ، محمد الجزائري ، غضبان السعد ، سليم الفخري ، كاظم مكي ،  وعصام غيدان ، صاحب الحميري ، صادق جعفر الفلاحي نصيف ، المحامي كاظم علي جواد ،  هاشم الطعان ، وسميع داود ، معين النهر ، جميل منير ، اسعد العاقولي ،  سلمان العقيدي وغيرهم كثيرون ممن كانوا يساهمون في جعل مجتمع السجن حيويا وإنسانيا بجهودهم الأدبية والثقافية المرموقة مما يستوجب الإسراع في تدوين مؤثراتهم على أدب السجون في العراق  قبل أن نفقد آثارهم أو حياتهم  مع مرور الزمن . هنا أقدم مثلا واحدا عن ضياع آثار الماضي ، ففي عام 2004 كلفتُ احد الأصدقاء بالذهاب إلى نقرة السلمان لتصوير بعض جوانب السجن من داخله وخاصة السجن القديم ،  لإدخال الصور ضمن كتابي نقرة السلمان ، لكنه حين ذهب وجد السجن منزوع الأبواب والشبابيك وكان الكثير من طابوقه وأحجاره مسروقة . لم يعد لهذا السجن شكله السابق مما حرمني من الاستفادة من 60 صورة لم تكن بنظري حين اطلعتُ عليها غير مجرد أنقاض . كما ان ذلك يعني عدم إمكانية استجابة السلطات العراقية المسئولة  لبعض المقترحات القائلة بتحويل نقرة السلمان إلى متحف يكشف لزواره أساسا من أسس الدولة العراقية الظالمة منذ تأسيسها وحتى يوم سقوط الدكتاتورية عام 2003 .
كان السجن السياسي مرفأ حقيقيا شكــّـل أساسا لصيغة وبنية سياسية وفكرية لمجموعة كبيرة من الأدباء السجناء في العراق  . منهم من أنجز كتبا أو ديوان شعر أو كتب قصة أو خاطرة سياسية وغيرها . غير أن  تلك المنجزات  ما اقترنت  بأي شكل مناسب من أعمال التوثيق والتدقيق ، ولم يتمكن ، حتى الآن ،  أي متابع ، سجينا كان أو غير سجين ،  أن يأخذ معنى الإنتاج الأدبي في السجون على محمل الإحصاء الجاد ، كما لم يتابع احد من النقاد والباحثين قضية تطور أدب السجون ، ومراحله ، وما هي العلامات التي ميزته ، ومدى تأثر الأديب السجين بحاجات ومعطيات المجتمع السجني ،  وابرز علامات لغته ، أي أن من الصعب جدا تقييم أي مرحلة من المراحل السياسية السابقة ، مثل مرحلة النظام الملكي ومرحلة نظام عبد الكريم قاسم ومراحل الانقلابات العسكرية اللاحقة وصولا إلى نيسان عام 2003 وهي المراحل التي كان فيها الأديب العراقي يعيش أبشع علاقة بين الأديب والدولة ، بين الأديب والمجتمع ، حيث كانت الصيغة الأساسية في العلاقة هي واحدة من أربع حالات :
(1)            إما أن يكون الأديب مرتبطا بشكل من أشكال التبعية بسلطة الدولة .
(2)            أو أن يكون الأديب قاطعا صلته بالمجتمع كله بفرض عزلة تامة على نفسه عن طريق الصمت التام بالشئون العامة وبالأحداث السياسية وبالحقوق السياسية وبالقوانين المختلفة المفروضة على المجتمع .
(3)            أو أن يكون الأديب مهاجرا إلى خارج الوطن .
(4)            أو أن يكون الأديب موصوفا بكونه سجينا سياسيا في حالة إصراره على القول والكتابة حول الأوضاع القمعية  المحيطة بالمواطنين .
التوصيف الرابع للأديب اوجد اشتقاقات كثيرة حول " أدب السجون " .  منها المذكرات إذ كتبها عدد غير قليل ممن دخلوا السجون رغم أنهم لم ينشروا شيئا جادا ، حتى الآن .  أنا شخصيا كنت قد كتبت صفحات كثيرة تحت عنوان " نقرة السلمان "  تكشف عن ذكريات الحياة المادية والمعنوية لسجناء ذلك السجن الصحراوي البغيض  خلال الفترة 1963 – 1967 وما زال هذا الكتاب الجاهز للطبع بانتظار دار نشر عراقية تنظم طبعه وتوزيعه .
كذلك كتبتْ في السجون بعض أشكال القصائد لشعراء معروفين مثل محمد صالح بحر العلوم ( أين حقي ) ومظفر النواب (البراءة ) وهما من نماذج قصائد تتشكل فيها روح التحدي في العلاقة مع الدولة الغاصبة ، وغير ذلك من فنون أدب  السجون المتنوع القادر على تقييم فترات السلطات المتنوعة التي حكمت العراق .
هناك ثغرة كبيرة متجسدة في تقصير البحث الأدبي عن دراسة أدب السجون وعلاقته بالتيارات والتنظيمات اليسارية،  مما يتوجب على المنظمات الأدبية والثقافية ،  وفي مقدمتها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين ومؤسسة المدى ومؤسسة الذاكرة العراقية واللجان الثقافية في الأحزاب الوطنية والأقسام الثقافية في الصحف والمجلات ،  الالتفات عمليا إلى ملف الذاكرة العراقية المتعلقة بأدب السجون السياسية وفي تقديري أن هناك حاجات ماسة وسريعة تفرض نفسها على المعنيين بالثقافة العراقية  لتحقيق الإجراءات السريعة التالية :
-         أولا : المبادرة إلى عقد ندوات حول أدب السجون ومتابعة وجوده ونشاطه في  مختلف المراحل السياسية. يمكن للاتحاد عقدها في بغداد بينما فروعه في المحافظات تعقد ندوات مماثلة .
-         ثانيا  : تسجيل ( شهادات الصورة والصوت ) عبر أفلام وثائقية للأدباء الذين كانوا داخل السجون ، والتعاون بهذا الصدد مع جميع المنظمات العراقية المماثلة الموجودة خارج العراق خاصة  المعنية  بالذاكرة العراقية .
-         ثالثا : إعلان أن السجن السياسي هو فعل من أفعال المقاومة الإنسانية ضد الظلم مما يعني أن أدب السجون هو أدب إنساني  مقاوم .
-         رابعا : دعوة وزارة الثقافة عبر اتحاد الأدباء إلى تأسيس متحف خاص لأدبيات السجون السياسية وتصنيفها وحفظها .
-         خامسا : إشراك جميع التيارات السياسية من شيوعية وديمقراطية ودينية في تسجيل تجارب أدبائها في السجون من كتاب وشعراء وفنانين .
-         سادسا : البحث عن دور النساء في تدوين أدب السجون ومتابعة نصوص سافرة جميل حافظ وابتسام نعيم وزكية خليفة وهيفاء زنكنة وغيرهن . ومحاولة كتابة الكثير من الحكايات التي جمعت بين السجينات السياسيات في مختلف السجون وفي مختلف العهود .
أشير ، هنا ، أن المهمة الأولى في تدوين أدب السجون يجب أن تقتصر على كيفية تحويل الجهود وفق النقاط الست الأنفة الذكر كي تجعل " أدب السجون " مصدرا من أهم مصادر المعرفة السياسية يمكن لجوء الباحثين إليها عند دراسة التحولات العديدة التي مر بها المجتمع العراقي والأدب العراقي  .  ومن الضروري الاستفادة من فكرة الدكتور محمود أمين العالم - الناقد المصري المعروف – الذي يرى  أن أدب السجون له ميزات محددة يندر وجودها في فنون أدبية أخرى ، كما يرى أن ( رواية  السجن
(  مثلا ً مهما ً من الأمثلة التي تندرج أساساً في إطار الرواية الدرامية حيث أن المعتقل ذاته  هو حدث خاص  في حالة الفعل والحركة " انه الحياة في ذروة احتدام الصراع بين الحدود القصوى لمكوناتها في مكان ضيق : الضحية في مجابهة الجلاد "   .
كذلك من الضروري الانتباه أن مثل هذه المؤلفات في أدب السجون تحتاج إلى كشف عناصرها الإبداعية الشديدة الخصوصية ،  المتميزة عن غيرها من التجارب الإبداعية العراقية ،  إذ كما هو معروف لكل الناس ،  أن السجون السياسية ،  في كل زمان ومكان ، هي  تجسيد لظلمة ٍ  مخيمة ٍ على روح الناس السجناء وعلى أهاليهم خارج السجن ، وعلى أبناء الشعب أيضا ،  وهي أداة الجريمة القاتلة لروح الإبداع التي يختزنها السجين الأديب أو السجين الكاتب أو السجين الفنان أو السجين الصحفي . أن فنون هؤلاء في الكتابة إنما تعبر عن سلسلة كاملة من كفاح الفرد السجين لتكسير قيوده  .
في السجون السياسية  ينتحر الحرف والقلم ، في العادة ،  قبل انتحار الإنسان اليائس . السجين الأديب  يمر كل يوم في دهاليز السجون متطلعا بعيون خائفة إلى عيون زملائه المنطفئة والى أجسادهم المريضة الواهنة . غير أن تجارب الكثير من السجناء الأدباء في نقرة السلمان وسجن بعقوبة والحلة والرمادي وبغداد والكوت وغيرها ، كانت تتجاوز غرائبية الحياة السجنية لتضيء في أعين السجناء الآخرين أمل الحرية وأمل القوة وأمل المستقبل  فكانوا يرون النور في أفكار ما يكتبه الأدباء وهم من نخبة السجناء السياسيين ليتداوله باقي السجناء السياسيين وهم نخبة المجتمع . هنا  يتفرد أدب السجون بأنه أدب النخب عن النخب  والى النخب . انه نوع من أدب يشكل رابطة قوية تعاقدية بين الكاتب والقارئ ،  بين الشاعر والمستمع ، ليصبح السجن مكانا لصنع الإرادة والإبداع في مجتمع صغير  كان الظالم يبغي إلى تحويل السجن إلى مقبرة للسجناء وأفكارهم .  
بهذا الصدد  تحل الصفة الفردية للكاتب داخل السجن وتتحول إلى صفة جماعية يمكن أن تعبر عن إرادة السجناء كلهم أو تعبر عن ذكرياتهم كلهم  ، كما هو واضح في بعض الأمثلة من تجارب بعض الأدباء غير السجناء من تجربة الكاتب فاضل العزاوي في انجاز رواية عراقية مهمة " القلعة الخامسة " ومن احمد الباقري وروايته التسجيلية المأخوذة من ذكريات سجين سياسي  ومن عبد الرحمن منيف في روايته " شرق المتوسط " ، وحيدر حيدر السوري في روايته " وليمة لأعشاب البحر " وغيرهم من الكتاب في المغرب العربي من أمثال الطاهر بن جلون .
ما تقدم يحمل بعض الخطوط والأفكار أضعها تحت أنظار المعنيين بالأدب العراقي بكل فروعه وأركانه ومنجزاته بما في ذلك أركان السجون السياسية ، كما أضعها تحت أنظار من كان ضمن حركتها ومن عايش ظلامها  للتبصر في ضرورة توثيق أدب السجون واستخراج عناصره اللصيقة بالأوضاع السياسية العراقية .

بصرة لاهاي في 19 – 5 – 2009



مهرجان السينما التركية: سينما جديدة تنظر الى الماضي والحاضر بغضب-بقلم أمين فرزانفر ترجمة يوسف حجازي


مهرجان السينما التركية:
سينما جديدة تنظر الى الماضي والحاضر بغضب

بقلم أمين فرزانفر
ترجمة يوسف حجازي




Kebab Connection, إحدى الأفلام المعروضة التي لاقت لدى الجمهور في نورنبرغ شعبية كبيرة يقدم "مهرجان السينما تركيا/المانيا"، الذي يقام في مدينة نورنبرغ للمرة العاشرة، إطلالة على إنتاج كل من السينما التركية والألمانية-التركية والألمانية المعاصرة، ويهدف المهرجان إلى تقوية الحوار بين مختلف فئات المجتمع وإزالة الأحكام المسبقة. تقرير الناقد السينمائي أمين فرزانفر

تُظْهِرُ الإنتاجات التركية في مهرجان هذا العام حرية غير معهودة في انتقاء المواضيع. ويبدو أن الأزمنة التي كان المخرج يلماز غوناي
Yilmaz Güney يضطر فيها لإعطاء تعليمات الإخراج، من سجنه، لينجز فيلماً نقدياً إجتماعياً مثل فيلم "الطريق" قد ولت. الكثير من المواضيع التي ظلت مكبوتة طويلاً تجد طريقها إلى التحقق السينمائي حالياً.

إختراق المواضيع المحرمة

شكّل فيلم "صورة أم عدد"، باكورة أعمال المخرج أوغور يوتشل
Ugur Yücel أحد الأمثلة الباهرة لهذا. حيث تدور أحداث الفيلم حول قصة شابين كانا جنديين سابقين: ويتناول الشريط عددا من المواضيع المحرّمة غير مسبوقة مثل الحرب المنسية في المناطق الكردية التي وقع ضحيتها من 30000 إلى 40000 إنسان، وما يسمى بـ "أعمال الترحيل" –الطرد والتشريد اليوناني-التركي المصحوب بالسلب والنهب والتطهير العرقي، إلى المافيا الإسطنبولية، وفوق ذلك العلاقة المتناقضة للمجتمع الذكوري مع المِثْلِيّة الجنسية.

تناولت سلسلة كبيرة من الأفلام القصيرة والوثائقية والطويلة مواضيع حساسة عموماً. يسيم اوستاوغلو
Yesim Ustaoglu التي كانت قد تناولت حرب كردستان في فيلمها "رحلة إلى الشمس"، أقدمت الآن في فيلمها الرثائي "في انتظار الضباب" على موضوع الترحيل القسري، الذي حدث أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى.

تروي قصة عائشة المُسنّة، التي آثرت أن تعيش شيئاً من العزلة في قريتها بالقرب من البحر الأسود، إلا أن ماضيها يطاردها، فيتضح أنها من أصول يونانية.

وهناك أيضاً درويش زعيم
Dervis Zaimالذي يُمَثل مِثل أوستا أوغلو جيلاً جديداً من صانعي الأفلام المستقلين، والذي أجرى في فيلمه الوثائقي "رحلات متوازية" حوارات مع شهود معاصرين، أتراك ويونانيين، وسألهم عن تقسيم جزيرة قبرص بعد 1974.

المناطق المحرمة والخطرة

لكن هناك عوائق كثيرة في طريق السينما التركية إلى انطلاقة جديدة نحو القيم الأوروبية الأساسية. إذ يبقى دور الجيش والقوة المتصاعدة للإسلامويين والإبادة الجماعية للأرمن مواضيع محرّمة حتى يومنا هذا.

العصرية لا تقاس بالمضامين المشحونة وحسب، بل أيضاً بالشكل الفني المناسب لتناول هذه المضامين. مخرجون من أمثال رايس جاليك
Reis Celik أو كاظم أوز Kazim Öz –كلاهما يشاركان في نورنبرغ- يسعيان منذ زمن لمعالجة الفصول التاريخية المظلمة.

ورغم التصوير بالألوان، بيد أن الكثير من الأفلام السياسة تعرض أدوارا للمعاناة تتسم بنمطية خرقاء: أكرادٌ مقموعون، نساءٌ ويساريون ينادون بخطابات أحادية الجانب وبلهجة منبرية مفرطة ووقفات بطولية.

وقلما تتناول الأفلام التركية الحديثة مواضيع سياسية، وهذا يعود في الدرجة الأولى إلى الرقابة الإقتصادية منه وليس إلى رقابة الدولة. المثقفون مثل عادل كايا
Adil Kaya أحد منظمي المهرجان يشكوّن من عدم اهتمام المجتمع التركي بالسياسة، ومن رهانه المتزايد على الوصول السريع لّليرة واستهلاكه لبرامج تلفزيونية بمستوى "بيغ براذر" بعد العمل.

السينما وهيمنة التلفزيون

السينما المضطرة لمواجهة هيمنة 300 قناة تلفزيونية وجدت في الأعوام الأخيرة ركنين للعمل: الأول هو سينما خفيفة من ناحية المضمون أشبه بسينما البوب كورن (البوشار)، استطاعت أن تجذب جمهوراً يُعَد بالملايين.

والثاني سينما يقوم فيها مؤلفو السيناريو بالإخراج أيضاً، تُنْتَجُ بأبسط الإمكانيات وتلاقي في المهرجانات السينمائية الأوروبية نجاحاً بالغاً، وتتناول المسائل السياسية بشكل هامشي فقط.

إحياء السينما السياسية

لقد حاول اوغور يوتشل
Ugur Yücel في فيلمه "صورة أم عدد" إحياء السينما السياسية التي كانت ناجحة في الأيام الغابرة من خلال استراتيجية مزدوجة. فمن ناحية أتى بالممثل كنان إميرزالي اوغلو Kenan Imirzaliogu، أحد نجوم السينما السائدة، وتناول من ناحية أخرى عددا من المواضيع المثيرة في الوقت ذاته وحققها جمالياً بطموح كبير.

فيما تبدو ساحة السينما التركية مشتتة إلى مصالح إقتصادية وإهتمامات جمالية وفكرية مختلفة، يسعى المهرجان للتوفيق بين كل الأطراف ويتمسك بفهوم السينما كمرآة لمجتمع قيد التغيير.

الكل كان ممثلاً في نورنبرغ، من المؤلفين-المخرجين غريبي الأطوار مثل زكي دميركوبوز
Zeki Demirkubuz، إلى النجوم القدماء مثل الممثلة اللامعة هوليا كوجييت Hülya Kociyit أو تونجاي كورتيز Tuncay Kurtiz الذي كان قد شارك من قبل في فيلم غوناي الناجح "الطريق".

أنيل شاهين يوزع في المانيا أفلاماً رائجة مثل "ورشة بناء"، أو "فيروزة، أين أنتِ". أمثلة باهرة لسينما فقاعات الصابون السطحية، ولكنها لا تخلو من لسعات ساخرة من الرأسمالية الجديدة في المجتمع التركي.

موطن السينما التركية – الألمانية

لأن المهرجان في نورنبرغ يُعنى بالحوار والتكامل قبل كل شيء، وجدت السينما الألمانية- التركية فيه دائماً موطناً لها. في الدورة الأخيرة تم عرض الإنتاجات الجديدة، وشارك في لجنة التحكيم توفيق باسر
Tevfik Baser إلى جانب أمينة سيفغي اوزدامار Emine Sevgi Özdama.

ويعتبر باسر الأب المؤسس وقد نال حديثاً جائزة غريمة ("المانيا الأربعين متراً مربعاً" و "زمن الرغبات")، وقام ضيف الشرف فاتح أكين
Fatih Akin بزيارة خاطفة للمهرجان.

أفلام ما بعد المهجر التي يقدمها أكين اعتُبِرَتْ سابقاً في تركيا شأناً ألمانياً بحتا، ولكن بعد نجاح فيلمه "ضد الجدار" أعيد الإعتبار للهامبورغي ثانية كإبن للوطن. وبيع فيلم "
kebab connection" القائم على فكرة لأكين بسرعة في تركيا، قبل أن يبدء عرضه في المانيا بفترة طويلة.

هذا الفيلم لأنو ساول
Anno Saul الذي حاز في نورنبرغ على جائزة الجمهور، قدّم بالمناسبة مثالاً جيداً على طريقة تناول التعقيدات الالمانية-التركية التي كانت في السابق غالباً ما تُفَسَّر بأسلوب أخلاقي مفرط، والآخذة بالإنفتاح أكثر فأكثر باتجاه الدعابة والفكاهة.

الفيلم يعالج قصة شاب من هامبورغ يريد بعد أن فرغ صبره أن يُخرِجَ فيلم كونغ فو، لكنه يضطر عوضاً عن ذلك لمواجهة عائلته التركية، إذ أنه على وشك أن يصبح أباً، والمشين في الأمر أن صديقته تسيتسي ألمانية. هذا ما يخلق إرباكات وقلاقل، إلى أن تتم مصالحة بين كل أفراد العائلة وبين الأجيال والشعوب.

حوار وافر وصالات ممتلئة

لو أردت اليوم، في زمن نقاشات الإنضمام للإتحاد الأوروبي والحجاب، أن تؤسس مهرجاناً يهدف لإدخال العوالم السينمائية التركية والألمانية والألمانية-التركية في حوار، لكان بامكانك أن تلقى صدىً إعلامياً قويا.

"المهرجان السينمائي تركيا/المانيا" قائم منذ عشر سنوات، ومن المحتمل أن يكون هذا بالضبط سبب إقتصار الإهتمام به على الإعلام المحلّي وحسب، رغم مستوى برنامجه الرفيع وضيوفه العالميين.

كريستينا فايس وزيرة الثقافة الاتحادية تولّت رعاية المهرجان لعام 2005 لتضع بذلك مؤشرات إستحقاق تكريم أكثر جدارة. يبقى الأمل بزيادة فعالية التسويق مستقبلاً، وزيادة الشخصيات الألمانية البارزة، التي تجذب بدورها أوساط أخرى من الجمهور.

جلسات الحوار ومنتديات النقاش حول المواضيع المستجدة قائمة وموجودة بوفرة، وكان بإمكانها أن تستقطب الضيوف الأتراك، الذين آثروا حتى الآن الابتعاد عنها بعض الشيء بسبب العوائق اللغوية.

لقد تحقق مطالب الحوار على الأقل من ناحية عدد المشاهدين، فالصالات كانت ممتلئة، ونفذت التذاكر في الكثير من العروض، وارتفع عدد الجمهور الألماني خلال ذلك من 15 بالمائة في السنوات الأولى إلى 40 بالمائة هذا العام.


غالب المسعودي - العنف وثقافة الاطفال

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

العربية .. العربية-علي الحليم

العربية .. العربية

علي الحليم

كان عبد الملك بن مروان يقول:
"اللحنُ في الكلام أقبحُ من الجدريّ ِ في الوجه " ، !
و :
" شيّـَبَني ارتقاءُ المنابر مخافة َ اللحن "!
اليوم لم يعدْ أحد ٌ يستحيي من اللحن في اللغة..
ولم يعد يكترث به إلا قلة من النقاد و أساتذةِ اللغة ...
ولم تعد الغيرة على اللغة كما كانت من قبل، وكما ينبغي أن تكون!..
أيامَ العباسيين كان «الخليل بن احمد الفراهيدي» يصغي إلى رجل كان يتلو بعض آي الذكر الحكيم ، وحين قرأ الرجل هذا الجزء من الآية الثالثة من سورة التوبة :
{
وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ....}
نطقها الرجل «ورسولِهِ» بكسر اللام وليس بضمها ، فثارت ثائرة " الخليل " و نهر الرجل قائلا له :
ماذا تقول يا رجل ؟!
قل : « ورسولُه » بضم اللام ، هكذا نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم !!
انظروا إلى أين نقل ( الرجل – القارئ) المعنى بإبداله الضمة بالكسرة !!
برر الرجل خطأه بأن المصحف في ذلك الوقت لم يكن فيه أية وسيلة ترشد القارئ إلى النطق السليم .
كانت هذه الحادثة هي البداية التي تحرك لها عقل ووجدان «الخليل بن احمد الفراهيدي» ، فعكف على دراسة مخرج لذلك حتى توصل إلى الحركات التي تضبط كلماتِنا الآن:
"
الفتحة والكسرة والضمة والسكون " .
اليوم صار الخطأ أمرًا عاديًّا و لا بأسَ عليه ، وصارت الغيرة على اللغة ورد الخطأ ضربًا من المبالغة والحماسةِ غير ِ المحمودة ... و هذا أمر خطير ... لماذا ؟؟
لماذا لا نشير إلى الخطأ ؟؟ كان الخليفة عمر بن الخطاب يقول " رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا " ، فكان البدوي الآتيٍ من أطراف الصحراء لا يتردد في انتقاد عمر ...
نحن أمة علم ٍ و تعلّم !
تتجول هاهنا في منتديات واتا الحضارية ، فتقرأ ما لذّ َ و طابَ من إبداعات في فنون الأدب و اللغة جميعِها ، النثر و الشعر ، القصة و الخاطرة و المقامة و ... و ... و يندر أن تخلوَ هذه المساهمات الإبداعية من الأخطاء النحوية و الإملائية ، و يغلب عليها جلّـِها عدم استخدام علامات الترقيم .
و ما يفرحني أن النقاد و الكتاب و الشعراء و القراء و.. يدلون بآرائهم المفيدة في النصوص التي تـُطرح و يتفاعلون معها كأروع ما يكون التفاعل
و يؤرقني في الآن نفسه ، أنهم – ماعدا البعض – لا يتطرقون إلى ما في هذي النصوص من أخطاءَ نحويةٍ أو إملائية ، و كأن ذلك يلغي من قراءاتِهم نَفـَسَ التشجيع ِ و المجاملة لكاتبي النصوص .
أذكر أن الأديبة " نجوى النابلسي " و هي تطرح أحد مواضيعها قالت للأساتذة جميعهم ما معناه ( لا تجاملوني ، لا تمدحوني ... أريد أن أعرف موقعي !!) مَن يريد أن يتطور ؛ يتعامل بهذا النفس .. و لا أظن أن أحدا منا لا يريد أن يتطور ...
و مَن يُخرج نفسه من دائرة "التلمذة" يحكم عليها بالتوقف عن طلب العلم ، و هو حكم - فيما أرى – يوازي الحكمَ بالإعدام في قوانين الأحوال المدنية !!
إن فوق كل ذي علم عليما ، كلنا يلحن ، يغلط ، و كلنا بحاجة إلى الوقوف علي حقيقة مستوى ما يكتب ... مَن يحيطُ بكل شيءٍ علما هو الله تبارك و تعالى .
منذ زمن ليس بالبعيد كان اللحن أو الخطأ في اللغة ، إن كان نطقًا ، أو كتابة أمرًا خطيرًا ترتعد له أقلام المتخصصين و النقاد ، ويمتعض منه كل إنسان غيور على لغته وتراثه.
إنها لغة القرآن الكريم ، إنها لغتنا ؛ جامعتنا ، مُوَحِدتُنا ، رجاؤنا !!..
وسيلة ُ تفاهمِنا ، تراثنا ، وعاءُ ذكرياتِنا ، ركيزتنا الحضارية و جذورنا المترامية البعد في أعماق التاريخ !!..
و ربما لأنها كل هذا تتعرض اليومَ لهذه الموجة العاتية الهادفة للنيل منها على أيدي "بعض" أبنائها قبل أعدائها ، والتي أدت إلى ترديها على المستويات كافة .
على أية حال هذا موضوع مهم آخر .. آمل أن يناقش و يسلط عليه الضوء هاهنا في منتديات واتا الحضارية .
و الحمد لله أن "واتا" ملأى بالعقول النيرة ، و القامات الفكرية السامقة ، و فرسان اللغة الذين لا يشق لهم غبار .
ما يهم الآن أن أدعو جميع إخوتي و أساتذتي النقاد و الكتاب و الشعراء و القراء ألا يهملوا هذا الجانب المهم ، المهم جدا و ألا " يُطـَنـِّشوا" عن أي لحن :ان صغيرا كان أم كبيرا .
على الكاتب ألا يعزل نفسه عن مراجعة قواعد النحو و الإملاء ، و أن يراجع نصه ، أن يتمهل و ينقحه على مهل قبل أن يلقي به بين أيدي القراء .
كان الدكتور طه حسين رحمه الله يقول :
"
لغتنا العربية يسر لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها"
كم من كتب تضم بين دفتيها أفكارا عظيمة أهملت ، لأنها لم تعرض بلغة تليق بمحتواها ، و لم تقدم إلى القارئ في إخراج جميل يجذبه إليها !!
و كم من ألفاظ اصطبغت بصبغة الفصيح لكثرة تكرارها و عدم التنبيه إليها ، و هي من الفصحى كالثرى من الثريا ....
جمال اللغة يزيد الحق وضوحا ،
ويمنح النص جمالا ،
و يضفي على الكاتب وقارا ،
و يجعل اللهُ به للناقد أجرا !! .
_________________________________________________________________


غالب هلسا يسرد حكاية موت تأجل الإعلان عنه- د. فيصل دراج*

غالب هلسا يسرد حكاية موت تأجل الإعلان عنه

 د. فيصل دراج*

احتفى غالب هلسا في روايته "سلطانة" ، التي تستعيد أيام الشباب ، بشكلين من الخلق: الذات الكاتبة التي تخلق أنثى خصيبة تذهب إلى المستقبل ، و "النظرية الثورية" التي تضمن خلق مجتمع عادل ، لا انحراف فيه. اقترب ، في الحالين ، من فكرة "الانبثاق" ، التي تطلق إنساناً نجيباً ، يصاحب التاريخ ويساعده ، على تغيير مجراه. كان في الأفق نظرية ماركسية ، تقنع نصيرها بأنه يجسّد الصواب ، وأن الصواب الذي يؤمن به يأخذ بيده إلى الانتصار.

عاد الروائي في آخر رواياته :"الروائيون" ـ 1989 ـ إلى "النظرية الصائبة" ، منتقلا من "عمّان منتصف القرن العشرين" ، إلى قاهرة ما قبل حرب حزيران ـ 1967 ـ وبعدها. كان الروائي ، في زمن الكتابة ، يقترب من شيخوخته والحلم الماركسي قد اعتلّ منذ زمن وأصبحت التجربة كلها ، قابلة للتقويم. ولأنّ الماضي أكثر الأزمنة وضوحاً ، ترك الروائي الحاضر مع تداعيه وعاد إلى الماضي ، سارداً حكاية موت تأجّل الإعلان عنه. لا موقع ، في زمن الماركسي المكتهل ، لأنثى خصيبة ولا لكتاب يجمع بين الصواب والانتصار. تنفتح نهاية الرواية على موت صريح ، بعيداً عن زمن "سلطانة" ، الذي كلّما اعوجّ أسعفه جمال دائم الحضور.

وضع هلسا في عمله الأخير خطاباً أيديولوجياً مباشراً ، يشرح مآل "نخبة شيوعية مصرية" تألقت ، زمناً ، وسقطت سريعاً في موت بطيء. جاء الموت من سلطة مستبدة ، تواجه التنوّع السياسي بالسجون والجلادين ، ومن خطاب سلطوي تلفيقي يقول شيئاً ويفعل غيره ، ومن "عوالم المثقفين" التي تحتمل الطهر والبراءة والمساومة المرتبكة والحسبان الدنيوي. قابل الروائي بين شيوعيين يؤمنون بقوة الأفكار وبالإرادة الإنسانية المقاتلة وسلطة تدمي الأفكار والكتب وتكرّم الجلاّدين معلناً ، في النهاية ، عن انتصار السجون ومكتبات الظلامّ. استبدلت رواية "الروائيون" بـ "سلطانة" الأنثى المشبعة برموز الخصب والانبعاث ، امرأة لا هالة لها ، تنوس بين الدأب النظيف وخفة قاتمة تقترب من الدعارة.

يغيب حضور "الأم" المتواتر ، ولا يتبقى لها إلا حضور ومضي ، يلمع سريعاً ويحاصره الظلام: "برز وجه الأم ، فجأة ، صارماً ، أبيض ، مؤطراً بمنديل وشعر أسودين. عيناها سوداوان ، واسعتان ، .... منذ زمن بعيد لم يتذكرها ، فما الذي جاء بها صارمة ، تحمل إليه اللوم والإدانة". كانت "الأم" ، في زمن مضى ، تفصل بين الطهر والدنس ، وتهزم الأخير ، وكان "الصبي" نقياً ، وكان الطرفان رمزين من رموز الثورة والأمان.

استدعى "الشيوعي المهزوم" وجه أمه مستجيراً بنقاء مفقود ، ومحتجاً على مآل لا يليق بنظرية أرادت توليد التاريخ من جديد. أعلن ، غاضباً عن انفصال رمزي عن حاضنة انتمى إليها طويلاً ، وعن رغبة بعودة زمن غنائي لن يعود. سأل المثقف المغترب الموت حلاً منعته عنه الحياة. قدم السارد الشيوعي خطاباً يتهم "الأرواح المفككة" ، وصاغه بأدوات فنية تجعل التفكك أكثر وضوحاً. كان السارد الرومانسي ، في زمن شيوعية واعدة ، مرتبطاً بشكل فني عضوي ، يلتبس بسارد عليم ، لا ينفصل عن شخصياته ولا تنفصل شخصياته عنه ، ويسوسها مطمئناً إلى أفق مفتوح. فهو من شخصياته وشخصياته منه ، و "الأنا الهائلة" تحتضن الطرفين.

لا شيء من هذا في زمن احتضار الحلم الشيوعي ، الذي سرده غالب هلسا ورحل. فالأنا الرسولية الخالقة لا موقع لها ، والمخلوقات الجميلة أطياف أو ما يشبه الأطياف ، والمستقبل هو الحاضر السائر إلى التداعي. ولهذا يغيب ضمير المتكلم ويهيمن ضمير الغائب ، فلا وضوح ولا يقين ولا اتصال ، وما كان موحّداً ، تنطقه "أنا خالقة" وتنطق من خلاله ، تحوّل إلى شظايا بشرية ، تخاف الوجوه وتلتمس الأقنعة. انطوى زمن الوعي الرومانسي وانطوى معه الشكل الفني العضوي ، في نبرته الغنائية ، وأخذ مكانيهما شكل فني قلق أقرب إلى "التقرير الصحفي" ، يلتفت إلى نثار النهار ولا يعبأ بملامح الوجوه. كأنّ الراحل الجميل الذي أراد في "الروائيون" تقديم رواية وشهادة ، جعل من الشكل الفني مرجعاً لـ "المضمون" ومضاعفة له. أملى الشكل ، الذي يوحي بالتفكك ، حواراً مترهلاً ، يحيل على شخصيات فارقت زمناً حالماً كثيفاً ودخلت ، واجفة مغلوبة ، إلى زمن وجهه قناع وقناعه واهن يميل إلى السقوط.

أنتج هلسا ، المثقف القلق ، شكلاً فنياً مخلخلاً ، يحيل على مناضلين مغلوبين ، اطمأنوا إلى "بعض الحقائق" ، أو لم يطمئنوا إلى شيء واطمأنوا ، في الحالين ، إلى قدرة السلطة على ابتلاع ما خارجها. فبعد خروج الشيوعيين من السجن بدوا ، كما تقول الرواية ، غرباء عن مجتمعهم ، هو لم يفتقدهم حين اعتقلوا ، كما لو كانت ثنائية القهر والإعلام السلطوية قادرة على إلغاء عقود من الكفاح. أفضى جدل الهزيمة والإلغاء الذاتي إلى شخصيات مفرغة ، تعترف بما لا تقتنع به وتقتنع بما لا تستطيع التصريح عنه ، وتنظر إلى أكثر من اتجاه في آن. اكتفى الروائي ، وهو يعاين شخصيات يكتسحها التداعي ، بوصف الشخصيات من خارجها ، قامات واهنة الملامح ـ باستثناء فترة السجن ـ وضعها الاغتراب خارج ذاتها ودفعها الوهم خارج نظريتها ، وشدتها المساومة إلى خارج طبقتها المفترضة. وإذا كان لـ "الكتاب" سلطة وهالة في زمن "سلطانة" ، فهو مرجع الحلم والثورة ، فلا حضور له في زمن الخيبة غير المتوقعة. وضع هلسا في روايته سياق كتابتها ، أواخر الثمانينات الماضية ، قائلاً بما لم يقله صنع الله إبراهيم وشريف حتاته ، اللذان سبقاه إلى موضوع "السجن والشيوعيين" ، في "نجمة أغسطس" و "العين ذات الجفن المعدنية". دفع الروائي ، الذي عاش التجربة وشهد عليها ، بغضبه المحبط إلى تخومه الأخيرة ، ورأى في الانتحار حلاً وحيداً للمثقف الرومانسي.

أعلنت عناوين الفصول الروائية الثلاثة ، بشكل مستقيم ، عن رحلة بطولية متوجّة بالخسارة. سرد السجن" ، وهو عنوان الفصل الأول ، اللقاء بين مثقف مناضل وجلاّد أمّي ، وأعقبه فصل "عالم الأوهام الجميلة" ، الذي رصد ما لا يعطبه السجن وتعطبه الأوهام الذاتية وتلاه فصل "الجحيم" ، الذي تأمل هزيمة تكاثرت إلى هزائم. أفصحت العناوين عن دلالة مواضيعها ، واختصرت أزمنة الشخصيات المختلفة إلى زمن خارجي عقيم ، حيث الفرد يدور حول ذاته ويصل إلى لامكان ، ويتبادل مع غيره قشور الكلام وينسى الكلام. فبعد أن كانت الشخصية في السجن واضحة الشكل ، محددة الملامح واللغة ، أصبحت بعده سديمية الشكل فقيرة الكلام. رصد هلسا ، بموهبة مخادعة ، العلاقة بين "الحرية" وتجلّي الملامح ، وبين السجن الخارجي الكبير واندثار الوجوه.

رسم الروائي عطب الإنسان في النظام القمعي بشكلين: الثنائيات العاطفية التي يبنيها الحب ويهدمها الجلاد ، إذ لكل سجين حب ينتظره ، ولكل عاشقة مسجون تحنّ إليه. بيد أن تجربة السجن تزيح الأمور الطبيعية عن مواقعها ، تبذر فيها عطباً ، يكاثره الخروج من السجن وعدم الخروج منه أيضاً. كأن السجن يعطب القلب ويفرج عن أرواح شاردة الاتجاه. فما كان قبل السجن لا يعود كما كان بعده. وواقع الأمر أن هلسا ، الذي كان يقترب من ستيناته ، قرأ في مأساة الشيوعيين المصريين مأساة الوجود في ذاته ، حيث الحالم يرى إلى "رابية" وينتهي إلى "زنزانة". وطّد الروائي قوله بـ "تكرارية الصورة ، التي تختصر الأيام المتواترة إلى يوم وحيد فقير المعنى ، كما لو كانت أزمنة الحياة في تعدديتها سقطت في زمن سلطوي ، يسبقه السجن ويتلوه.

مزج هلسا ، وكما فعل دائماً ، بين السيرة الذاتية وسيرة جماعية. كتب ما عاشه في زمن ، وكتب إحساساً بالفجيعة صدمه في زمن لاحق. استعار من "سلطانه" ثنائية الطهر والدنس ، وتأمل بها "عادلين" نزل عليهم ظلم كبير. وإذا كان الطهر ، في زمن الصوت الرومانسي ، يلتبس بأمومة واسعة الحضور ، فإن الطاهر في زمن الخيبة ينتهي إلى الانتحار. اقترب الروائي وهو يقترب من أيامه الأخيرة من القول" الرشيد: "الأكثر علواً هم الأشدّ سقوطاً" ، موزعاً العلوّ على المناضل الأخلاقي والسقوط على "بقايا المثقفين". ولعل إحساسه بالفجيعة اللصيق برومانسية لم تنطفئ ، دفعه إلى تعرية الشخصية الشيوعية من نقائها المفترض ، فالبعض يعاقر الخمر يومياً وآخر يدفعه" شذوذه" إلى مساومة السلطة الأمنية ، وثالث يقول بماركسية تخلط بين حرية السلوك والبغاء. وسواء مارس "الشيوعيون" ما يمارسه غيرهم من البشر ، أو تمسكوا بطهرانية حاسمة ليست غريبة عن بعضهم ، فقد أراد الرومانسي المهزوم أن يرجم "رفاقاً" هزموه حين خذلوا قضيتهم.

دافع الماركسي المهزوم ، وهو صورة عن المثقف الرومانسي بامتياز ، عن صورته الإيجابية مرتين: مرة أولى عن طريق السلب ، حين رحل عن عالم الدنس وسار مع كتبه إلى قبره الأخير ، ومرة ثانية عن طريق الإيجاب حين ترك وراءه "مناضلة" تتابع ما آمنت به من دون اضطراب. ملاحظتان تثيرهما رواية هلسا في هذا المجال: تنتسب المناضلة المتمسكة بقضيتها إلى القاع الاجتماعي ، جاءت من بيئة معدمة وعلّمها الشيوعيون القراءة والكتابة ، كما لو أن الروائي يرجم المثقفين المحترفين والنخبة القائدة ويعفّ عن غيرهما. أمّا الأمر الثاني فيمس "البطل الإيجابي" القديم ، الذي كان يقوده التاريخ المتخيّل إلى نصر منتظر ، قبل أن يسوقه انقشاع الأحلام إلى موت طوعي.

عبّر السارد الطهراني ، رمزياً ، عن تشاؤمه الشديد بأكثر من طريقة: لا يعيش الشيوعيون العلاقات الأسرية ، كأنهم لا يعرفون العائلة ولا يرغبون بتأسيسها ، يرتبطون وينتظرون ويتطلعون ويقبضون على الفراغ. والمعنى ملتبس ، يحيل في وجه منه إلى هشاشة وجودهم ، ويكشف وجه آخر عن قدر مأساوي. فعلى الذاهبين إلى المدينة الفاضلة أن يكتفوا بأطيافها. تغيب العائلة ويغيب معها ، لزوماً ، النسل ، أو الاستمرارية البيولوجية ، باستثناء المرأة "الفقيرة الأصول" ، التي أنجبت بنتاً. كأن الشيوعيين الذين يريدون إنجاب الثورة لا ينجبون ، أو أن السلطة القامعة تمنعهم عن الإنجاب وهي تمنععنهم شروط الحياة العادية.

هل هزم الشيوعيون أنفسهم قبل الأوان أم هزمتهم السلطة قبل الأوان وبعده؟ لا جواب يحمل برهاناً قاطعاً. بيد أن الأكيد أن الأحزاب تعيش بالسياسة وأن الاستبداد المتوارث يعيش بقتل السياسة. تمر رواية "الروائيون" على صورة "السياسة السلطوية" مرات أربع: "الخطيب الاشتراكي الرسمي" الذي يدافع عن "اشتراكية حقة" تساوي بين اختلاف الرأي والخيانة ، و"ضابط المخابرات الصعيدي" الذي يخفي جهله بمسدسه ويحوّل التعذيب إلى "مدرسة وطنية" ، والرئيس جمال عبد الناصر ، الذي اشترى بعض الشوعيين بحفنة من الجنيهات ، بعد خروجهم من السجن لا قبله ، وسلطة ما بعد عبد الناصر التي حوّلت "الفولكلور الصعيدي" إلى نظرية ثقافية. وكما تبني السلطة القهرية سياسة شكلانية فوق أشلاء السياسة الحقيقية ، تُواجه الثقافة بفولكلور ثقافي سلطوي ، يدمر الثقافة والفولكلور معاً. ولهذا يحاور "المخبر" المثقف الحزبي ليصبح "مخبراً" آخر.

ما هي وجوه المأساة في مسار مثقف شيوعي خادعه الطريق؟ الوجوه كما مرّ عليها هلسا تباعاً هي: السجن ، خيانة المنهج ، فقدان العائلة ، غياب الاستمرارية البيولوجية ، أو احتمال غيابها ، و"إيمانية الوعي الكتبي". يحيل الوجه الأخير ، كما نعلم ، إلى بهجة المعرفة المنفتحة على الكون والتاريخ ، التي إن تحزّبت تحوّلت إلى معرفة إيمانية مكتفية بنفسها ، لا تحفل كثيراً بالكون والتاريخ. وبسبب جمالية المعرفة ، التي تبدأ بالكتب وتنتهي بها ، تحتفي شخصيات هلسا بالكتب ، فالمرأة التي تجاوزت جهلها تحلم بتأليف كتاب ، والمثقف الطهراني يحاول أن ينقذ نفسه بالكتابة ، والفتاة التائهة تقرأ شيئاً في علم الجمال. إذا كان إيمان المثقف الملتزم من "إيمانية وعيه الكتبي" ، فما الذي يتبقى له إذا سقط في منتصف الطريق؟ قد يقع الوعي الواقعي على جواب لا مفاجآت فيه ـ فالكتب وجه أبدي من وجوه الخليقة ـ على خلاف الوعي الموغل في رومانسيته ، الذي ينتحر أو يعود إلى وضع ما قبل القراءة
أنتج هلسا نموذجاً شيوعياً تراجيدياً ، يحلم بالثورة ودفء العائلة ، ويريد أن يجمع بين المفاهيم النظرية ووقائع الحياة البسيطة. حين يتذكر الطهراني زمن "ما قبل ـ السياسة" يقول : "هذه هي فكرة إيهاب. فكرته المنسية ولكنها تعيش في داخله بعمق ، عن البيت: مكان تزول فيه الأوجاع ، ويمنحك ، ماذا؟ ماذا تسمي ذلك؟ أجل. يمنحك الحماية. مكان مكتظ بالأمهات ونساء غامضات ، مغويات ، يبرقن في العتمة.... بيت نصف مستشفى ونصف قلعة". يصوغ المهزوم بلغة دافئة أطياف الطفولة والبيت الآمن ، بعد أن فقد اتجاه المستقبل ، ويتمنى أن يرى تفاصيل الحياة ، بعد أن خذل الكتب وخذلته الكتب: "عندما يكتشف الإنسان أن كل تفاصيل الحياة المجانية والمهملة قد تحوّلت إلى ثروة حقيقية ، عندما تصبح هذه التفاصيل أجزاء في كلية ذات معنى". ينطوي الحنين إلى البيت ، كما بهجة اكتشاف تفاصيل الحياة ، على وجهين: وجه الهزيمة ووجه أشد ثقلاً عنوانه مأساوية الوجود الإنساني الذي لا يروض أبداً ، ذلك أن للمثقف الرومانسي موقعاً ما في جميع الأزمنة ، مثلما أن في جميع الأزمنة ما يغتصب موقع المثقف ويطرده خارجاً.

أدرج غالب ، بين شخوص روايته ، شخصية روائي تخلّى عن حلم الرواية وآثر الانتحار. والدلالة واضحة: لا موقع للكتابة الروائية في مجتمع مقموع ، أو: لا موقع للعمل الروائي المتعدد الأصوات في مجتمع يسوسه صوت وحيد يلغي السياسة. والنتيجة النهائية ، شاءها كاتب "الروائيون" أو لم يشأها ، هي التالية: لا أفق للمشروع الشيوعي ، وهو مشروع متعدد الأصوات ، في مجتمع لا سياسة فيه ، لأن هذا المشروع ، رغم مستوياته المتنوعة ، رواية كبرى. ولهذا دعا غالب روايته بـ "الروائيون" وجعل من كل شيوعي روائياً بالقوة ، ووضع سر الشيوعيين جميعاً في مآل الشيوعي المنتحر. أغلق الروائي ، رمزياً ، دفاتر الحركة الشيوعية المصرية ، ووضعه في زمن محدد هو بداية الحقبة الساداتية. اشتق.
هلسا دلالة النظام الناصري من استحالة الكتابة الروائية (لا رواية بلا ديمقراطية) ، وقرأ معنى المشروع الشيوعي المصري في كتابة روائية مستحيلة. كأنه يقول: لا يفسّر أفول الحركة الشيوعية المصرية ، في شكلها القديم ، بأخطاء الشيوعيين المتعددة ، بل بدور الدولة البوليسية في تحطيم الثقافة والسياسة وإلغاء شروط الإبداع الروائي الجماعي. قدّم هلسا اجتهاداً روائياً ، قابلا للرفض أو الدحض أو القبول ، دون أن تمنع عنه الاحتمالات الثلاثة صدقاً أخلاقياً لا شبهة فيه.

* ناقد ومفكر فلسطيني


زينب ألركابي صمت الأثر وديناميته-عادل كامل











تشكيل
زينب ألركابي
صمت الأثر وديناميته

  



عادل كامل
     بقصد، ومن غير قصد، تعيد زينب ألركابي صياغة اعقد مسار مكث عابرا ً للزمن، والأزمات، والأعراف، واقصد به: إن الفن جاور الحفر في المناطق النائية، مثلما لم يتخل عن المرئيات: في المخفيات، إن كانت أنطولوجية (وجودية)، أو مألوفة؛ يومية أو أبدية، سريعة الزوال، أو التي أصبحت غير قابلة للغياب. ففي الفن ـ منذ الدمى ذات الرؤوس الضئيلة وصولا ً إلى المجسمات العملاقة ـ ثمة عبور عبر جسور مهمتها الحفاظ على دورها الرمزي. فالأهرامات، أو الزقورات، أو ناطحات السحاب، على سبيل المثال، شبيهة بالأقنعة في أداء مهمة تخفف من الصدمة، بل وهي تتحايل على (الجوهر) أو الحقيقة. فليس الإنسان هو المثال، بل علاماته. ولا علاقة لمفهوم البنية ـ أي استبعاد العاطفة والتعبير ـ بالعمل الفني، لأن عزل الغائب أو الذي توارى غدا مثل الحتمية التي هي ذاتها عمقت القطيعة معه، بجعلها شاخصة. فالرموز المتداولة ـ إن كانت نصبا ً ضخمة أو لقى أو مصغرات ـ تحكي بلغتها المعاني المزدوجة بين الإفصاح، في الإعلان، وبين التستر، لأجل الإعلان ذاته. ولسنا بحاجة إلى براهين وإثباتات تفسر بناء القناع ـ والمخلفات النادرة ومنها الفنون، بعد زوال موضوعاتها، وأشخاصها، ومن نفذها ـ فالمتحف، بمعنى الذاكرة، مثال لا يقبل الدحض. وهنا يصبح المتلقي وحده يتبنى مهمات إعادة البناء كاملة، أي: إنتاج حضوره. زينب ألركابي، بوصفها حاملة لجينات إنسان وادي الرافدين، وجدت سلاسة أو فطرة في اختيار الحطام/ الأثر/ للاستدلال على الغائب. فبدل ان تبني زقورات، أو جنائن معلقة، أو تبني أجنحة للثيران، أو تقيم مجسمات للأسود، وبدل ان تشيد ناطحات سحاب، سمحت لأصابعها النحيلة المرهفة ان تأخذ دور (إنانا) في إكمال الدورة: الدفن ـ البعث.



  





   فالفنانة تلون مجسماتها الخزفية/ النحتية، بأمومة عنيدة، رمزية، كي تعيد شيئا ً من مراثي سومر وأكد، وتضعها في الواجهة. فأعمدتها، ولقاها، وأقنعتها، ومصغراتها غدت الأصل، كأنها أصغت عميقا ً لبودلير، وهو يقلب مفاهيم عصره الجمالي، لكن ليس نحو جماليات باذخة، أو استثنائية، بل الإيغال بالبحث عن المخفيات، وقد تحولت من زمنها إلى زمن الأثر ـ النص الفني. هنا تحديدا ً يأخذ الحطام معناه تعبيرا ً، وبعيدا ً عن العالم الافتراضي، لأن الفن لا يحتفي، كالقلائد للتزيين، بل للنبذ، ولصالح التأمل الوجودي، كأنها مشفرات تم اختيارها بأكثر قيود الحرية تحديا ً: البوح أو الاعتراف.  فالحرية تختفي ـ كقناع أو غواية ـ لتصبح واقع حال: حرية اثر، تحكي الذي كف عن النطق، باختيار البورتريه، الرأس من غير جسد، والسماح للمتلقي بإعادة إنتاجه، وليس بتأويله حسب.




 


    وبلذّة لم يبق منها إلا المرارة ـ المراثي أو صمتها ـ لتعيد التقاط الأجزاء المتناثرة، للمعنى، فتستبدل المخفي، بالحطام، والماضي بالحاضر: رأس كف عن عمله، بل حتى عن معناه، لكنه سيحافظ على النسق ذاته الذي سمح لاستخراج أندر المعادن من التراب، وهو ذاته، يعيد لمادة (الظلام/ وربما العدم) لغز وجودهما بما يمتلك من طاقات على الإشعاع. فعنوان تجربتها (مرايا النفوس)، ليست ممارسة شبيهة بممارسة لعبة النرد، وترك المصادفات تتجمع، أو تتوافق، بقدر إقامة عزاء، لكن من غير أسف، أو بالأحرى، للتشبث بحضور لا وجود له إلا في حدود الحداد، فالفنانة تستحضر المستقبل، وليس الماضي، لأنها تمارس دينامية الأثر بما يتضمنه القناع ـ الشاخص ـ والعلامات الأخرى، وتسمح للأسف بالتحول إلى صدمة: واجهة، سطوح، أشلاء، أجزاء، شظايا، حتى وإن قامت الفنانة بالتقاطها، كما يلتقط الراصد ومضات نجوم غابت قبل ملايين السنين.
     عمليا ً لا تمثل هذه الكلمات شهادة إعجاز، أو تفوق، ـ وإن كان المناخ الفني في البلاد وفي بغداد تحديدا ً تحت درجة الصفر ـ كإطراء أو مدح لها، بل لأنها تبنت إحياء الدوافع ذاتها لدى صانعي الأختام. أسلافها في سومر، وفي العراق القديم. ففي خامة (الطين) ترقد الصبوات، مثلما الآلهة وهبتها شيئا ً من أنفاسها، لتأخذ الأسطورة مداها الأبعد، وتغادر، كي تتحول الأرض، إلى مرآة، بمعنى إنها ستواصل احتفاءها العنيد بمعنى الغائب، المندثر، وبين تكونه من الرماد ـ الغياب. ليمتلك توقا ً لم يدحض، ولم يدمر، بل ازداد توقا ً للامتداد، والتجدد. فزينب ألركابي لم تغفل إنها تعلمت بداهة منعم فرات، وبعضا ً من رؤى أستاذها مؤيد نعمة، وقد انشغلا بالإصغاء إلى لغز الصمت. فالفنانة تعيد سردها لطقوس شبعاد ـ وأوجه الشبه بينها تسترعي الانتباه ـ وهي تذهب إلى العالم النائي، لكن ليبقى نظرها مصوبا ً نحو الرأس، خارج هيمنة الانجذاب إلى الظلمات، بل نحو اللغز الكامن في الديمومة، حتى وهي لا تمتلك إلا زمن انتقالها من المجهول، إلى المجهول الأبعد! فهنا تكمن غواية أخرى متأصلة ما ان تتحرر، حتى تكون أقدم أنظمة المشفرات، قد مارست قدرتها على العمل، وقدرتها على الخلق، ليس من العدم ـ كما تفعل الآلهة ـ بل من العناصر، وتحديدا ً، من الإرادة، وهي تقهر عوامل القهر.
ـ معرض (مرايا النفوس) زينب ألركابي ـ صالات وزارة الثقافة ـ بغداد 2014
ـ درست فن الخزف في محترف مديرية التراث الشعبي.. وأكملت دراستها في كلية الفنون الجميلة ـ فرع الرسم 2014.  عضو في نقابة وجمعية التشكيليين العراقيين./  شاركت في العديد من المعارض المشتركة وحصلت على كتب شكر وشهادات تقديرية.
ـ عملت في مجال التصميم./  عضو الربطة العراقية للفنون التشكيلية وشاركت في المعرض التأسيسي على قاعة فائزة الحيدري 2004.


كوميديا اجتماعية ساخرة-كريستيانه شلوتسر ترجمة: رائد الباش






الفيلم التركي "رجب إيفيديك 2":
كوميديا اجتماعية ساخرة


كريستيانه شلوتسر
ترجمة: رائد الباش


نجح فيلم "رجب إيفيديك 2" في اجتذاب الآلاف من المشاهدين لدور السينما محققا إيرادات عالية، حيث يصور هذا الفيلم الكوميدي التهريجي الفوارق الاجتماعية في تركيا والتناقضات في طبيعة هذا المجتمع بشكل دقيق وساخر. كريستيانه شلوتسر تعرفنا بالفيلم.


يعالج هذا الفيلم بطريقة ساخرة الفوارق الطبقية في المجتمع التركي هكذا يبدو شكل كابوس البشرية المتحضِّرة - مثل شكل رجب إيفيديك Recep Ivedik الذي يتصرَّف بعفوية وبهمجية ومن دون أدب، ويلجأ لاستخدام يديه في كلِّ شيء ويحمل كرشه مثل نيشان النصر ويرتدي تقريبًا في كلِّ مناسبة قميصه البرتقالي الخالي من الذوق. ورجب إيفيديك يتكلَّم دائمًا في البداية بملء فمه ثم يسرع إلى الفرار. كما أنَّ طبيعته الوراثية التي تعجّ وتدوي في ضخامة جسمه لا تسمح له بالعمل. وبالإضافة إلى ذلك من السهل جدًا إثارة غضب هذا الشاب المترهِّل الذي لا يعرف أين يذهب بقوّته.

غير أنَّ الجمهور التركي يريد مشاهدة رجب إيفيديك واقتحام دور السينما، ولكن ليس جميع أبناء بلده يرغبون في ذلك؛ فهناك أيضًا أتراك يقولون إذا أردنا سماع نصيحة بوَّاب عمارتنا فيجب علينا الاّ نشتري تذاكر سينما. وهذا يشكِّل من ناحية أخرى إهانة بحقِّ البوابين الأتراك أو يشكِّل مثلما يرى الأتراك تبجيلاً لهم.

فكاهة التناقضات الاجتماعية

وذلك لأنَّ هذا الشاب المستحيل يحظى بقدسية. فرجب إيفيديك كان عام 2008 بطل الفيلم الأكثر نجاحًا في تركيا والآن وبعد ذلك بأقل من عام واحد يتم عرض فيلم "رجب إيفيديك 2" الذي يحطِّم من جديد في بلده جميع الأرقام القياسية. وفيلم رجب إيفيديك متعة للأسرة مع العلم أنَّ تحديد أعمار الأطفال الذين تسمح لهم مشاهدته باثني عشر عامًا لا يعتبر في الحقيقة أمرًا مزعجًا، فمن الواضح أنَّه تم تحديد هذا العمر بسخاء. ومنع الصغار من مشاهدة فيلم رجب إيفيديك يفترض أن يحميهم من الألفاظ العامية المبتذلة التي يستخدمها هذا الشخص الغليظ والتي يعتبر نجاحها لدى الجمهور بالنسبة لنقَّاد السينما الأتراك محرجًا للغاية.

حطم فيلم "رجب إيفيديك 2" أرقاما قياسية في حجم الإيرادات المالية ولكن يعدّ هذا أيضًا من ضمن فكرة فيلم رجب إيفيديك. فهذا المهرِّج العفريت يعيش على كونه الشخص الوحيد الذي يفعل ما يثير استنكار الآخرين، ولا شكّ في أنَّ نكته المضحكة تستمد وجودها من التناقضات الاجتماعية - مثلما هي الحال لدى شخصية مسرح خيال الظل التركي التقليدي، قراقوز أو في مسرح الدمى. وفي هذا الفيلم يتم تسليط الضوء على الاختلافات الطبقية الواضحة في تركيا المعاصرة. وهذا الجمل التركي رجب إيفيديك يصطدم بعالم لا يستطيع أمثاله فيه سوى الفشل.

وهذا الدبّ الملتحي بلحية تذكِّر بسوالف كبيرة لا يعرف أنَّ المرء لا يمكن أن يطلب كأس شاي في مقهى ستاربكس الخاص بالقهوة بالحليب؛ كما أنَّه يدهن الخبز في مطعم لوجبات أسماك السوشي بطبقة سميكة جدًا من معجون الوسبي الحاد، وفي أحد نوادي اليوغا في اسطنبول، حيث تتدرَّب نساء نحيلات كأقلام الرصاص لا يجد أي حصيرة بلاستيكية تناسبه، وكذلك في الحفلات التي يرتدي روادها ملابس رسمية سوداء اللون وغربية للغاية يظهر هذا القروي الأناضولي مرتديًا بدلة رياضة.

في عالم الأتراك البيض

شاب لا يستطيع التعامل مع الطبقة العليا المترفة التي تعيش في عالم خاص فيها...مشاهد تذكر بفيلم "صعيدي في الجامعة الأمريكية" وهناك مبالغة في وصف شخصية هذا المغفَّل التركي من جميع النواحي، بحيث أنَّها لا تصلح في الحقيقة من أجل تحديد هوية الفرد التركي. وإذا كان هناك مجال لتحديد الهوية من خلال رجب إيفيديك، فإنَّ هذا لن يكون ممكنًا من خلال شخصية إيفيديك بقدر ما سيكون ممكنًا من خلال كلِّ وضع محرج جديد يقع فيه هذا المستضعف. وهناك شعور بالميل نحو عالم "الأتراك البيض" الجميل الجديد، عالم النخبة المتمدِّنة؛ شعور مألوف لدى الملايين ممن هاجروا في العقود الأخيرة من المناطق الريفية البعيدة إلى المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير. وكذلك تتضح الغرابة بين الشريحة العليا من أبناء الطبقة المتوسطة وجيش اليد العاملة الرخيصة التي تسهِّل حياة الأغنياء.

وسيكون بالتأكيد جيدًا جدًا لو تمت ترقية رجب إيفيديك وتحويله إلى مناضل اجتماعي رومانسي يقاوم المجتمع الاستهلاكي التركي الجديد، ففي آخر المطاف لقد حسب مبتكر شخصيته بالذات حساب نجاح فيلمه الجماهيري. وهذا الرجل كذلك ليس شخصًا ساذجًا. والممثِّل ساهان غوكباكار
Sahan Gökbakar المولود في عام 1980 في أزمير درس الموسيقى والفن في انقرة في جامعة بلكينت المرموقة وتبيِّن إحصاءات التعليم العالي لعام 2002 أنَّه كان واحدًا من أفضل الخرِّجين الجامعيين. ثم بدأ التمثيل في أعمال كوميدية تلفزيونية.

وكذلك كان رجب إيفيديك أحد الشخصيات التي ابتكرها، شخصية رجل لا يعرف قواعد المجتمع، ولذلك كان يخالفها باستمرار ويحاول إنقاذ نفسه بالتصرّفات الغليظة والفظة من كلِّ الحالات التي كان يقع فيها. وهو في ذلك أقرب إلى البطل الحزين والمتسلّط الذي يعتبر في الواقع حبيب جدَّته.

زميل عمل متنكِّر في زي عروس


Bild vergrössernالجدة الكنز...الجدة المفاجأة الكبرى لبطل الفيلم وهذه هي الجدة التي تخلق كلَّ القصة البسيطة وتطلب من حفيدها أن يجد عملاً ويحصل على تقدير الناس المحيطين به، وبالإضافة إلى ذلك تطلب منه أن يتزوَّج. وينجح في العمل والزواج بعد الكثير من المحاولات الفاشلة (حيث يعمل في توصيل طلبات البيتزا وبائعًا في صيدلة ومضيف طيران ومحاسبًا في سوبرماركت، ومع ذلك يزعج رجب إيفيديك الزبون بتعليقاته على الواقيات الجنسية حتى يخرج من المحل، ولكنه لا يتظاهر بالحشمة والحياء).

ورجب إيفيديك ليس محظوظًا أيضًا في ملاطفة النساء، ولهذا السبب يقدِّم لجدَّته المحتضرة زميل عمل متنكِّر في زي عروس. وتغلق الجدة عينيها ويفرح الحفيد بفتح صندوق كنزها الذي وعدته به في حال تنفيذ المهام الثلاثة. ولكنه يجد الصندوق فارغًا إلاَّ من صورة الجدة المبتسمة. وهذا هو أجمل مشهد، لأنَّه يضع الإعلان عن الحب محل وعد الاستهلاك.

نجاح السينما التركية

"أنا أحصل على جائزتي من المشاهدين، ولا أحتاج أي جوائز أخرى من أي أحد"، مثلما نقلت صحيفة زمان التركية كلام مبتكر شخصية "رجب إيفيديك"، المخرج ساهان غوكباكار الذي وكل إخراج أفلامه إلى شقيقه توغان البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا. ويتم تخصيص ما يقارب الأربعين في المائة من تذاكر السينما في تركيا لمنتجيها، الأمر الذي يعتبر حلمًا بالمقارنة مع الوضع في أوروبا.

وبالإضافة إلى السينما التركية المضحكة والبسيطة والتي تحظى باعتراف عالمي نشأ في تركيا أيضًا نوع آخر من الأفلام التي تحقِّق أرباحًا من خلال عرضها المواد التاريخية وتكسر من خلال ذلك المزيد من المحرَّمات؛ مثل فيلم "ألم الخريف"
Güz Sancisi الذي أخرجته مؤخرًا المخرجة تومريس غيريتلي أوغلو Tomris Giritlioglu. وهذا الفيلم يحكي عن غضب شخص غوغائي تركي على اليونانيين في إسطنبول عام 1955. لقد شاهد هذا الفيلم منذ بدء عرضه في الثالث والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير في تركيا نحو نصف مليون شخص وهو أمر رائع في حد ذاته.