الجمعة، 18 نوفمبر 2011

كما وصلني-تحذير الى العراقيين والعرب من الجامعات المفتوحة بهولندة


كما وصلني
تحذير الى العراقيين والعرب من الجامعات المفتوحة بهولندة
د. رائد سلمان
قد يندهش المرء عندما يجد في مدينة لاهاي(دنهاخ) الهولندية حوالي 10 جامعات عراقية أو ما يسمى بجامعات تعتمد التعليم عن بعد (خاصة عبر الانترنيت). ولألقاء الضوء عليها دعونا نسرد كيفية فتح مثل هذه الجامعات بهولنده: أولا يتم تسجيلها في الغرفة التجارية في مدينة لاهاي مقابل مبلغ ضئيل جدا (50 ايرو)على أساس هي مؤسسة غير ربحية (يعني تعمل في سبيل الله!) اذا جاز التعبير. ثانيا لا تعترف الحكومة الهولندية بمثل هذه الجامعات ولكن بما أنها مسجلة قانونيا على أساس مؤسسة غير ربحية فيمكن التصديق على توقيع رئيس الجامعة أو من ينوب عنه إما في الغرفة التجارية ومن ثم الخارجية الهولندية أو من طرف كاتب العدل والخارجية الهولندية. ثالثا: لا تشترط غرفة التجارة أن يكون المؤسس من أصحاب الشهادات العليا بل أن هنالك جامعة رئيسها حاصل على البكالوريا فقط بالعراق! إن أغلب مؤسسي هذه الجامعات هم من الذين لم يستطيعوا الحصول على عمل في هولنده لأسباب كثيرة منها قلة المامهم باللغة الهولندية.
مقرات هذه الجامعات عادة غرفة في شقة أحدهم تحتوي على حاسوب أو أكثر ورقم هاتف مثل جامعة فان هولند وابن رشد...الخ, وهنالك ثلاثة جامعات في شقق وأحدى هذه الجامعات استأجرت شقة صغيرة في برج سكني لطلاب المدرسة العليا لمدينة دنهاخ أو لاهاي ولكن من يطلع على موقع الجامعة هذه يقرأ أن مكاتب هذه الجامعة برج الطلاب السكني كاملا المؤلف من أكثر من 15 طابق!: هذه هي جامعة لاهاي الدولية.
تقوم الجامعات هذه باصدار شهادات تصل الى الدكتوراة باختصاصات متعددة : علوم انسانية, لغات, اقتصاد, محاسبة, ادارة الاعمال, الفنون الجميلة, بل حتى طب بشري وهندسة بترول ومعماري وفيزياء نووية وبستنة... الخ كل التخصصات والحمد لله متوفرة مقابل رسوم دراسية معينة. عموما الطالب يكون تحت اشراف استاذ المفروض أن يكون من ذوي المؤهلات ويتم تزويد الطالب بالحقيبة الدراسية اما ورقية أو على شكل رقمي. هنا نتوقف ونقول هنالك أساتذة ذوي مؤهلات معقولة ولكن أيضا هنالك اساتذة يقومون بتدريس أو الاشراف على دراسة الطلاب دون أن يكونوا أصلا متخصصين : مثلا يقوم مدرس اقتصاد بالاشراف على دكتوراة أو ماجستير علم النفس , أو أن يقوم استاذ مساعد بالاشرف على أطروحة الدكتوراة !: الطالب المسكين لا يعرف ذلك وفي نهاية المطاف يحصل الطالب على شهادة بدون جهد كبير ورسوم معتدلة نوعما مقارنة بالتعليم المعترف به.
إن الهدف الرئيسي والأوحد لمثل هذه الجامعات هو المال فقط لا غير حتى ولو قامت جامعة ما بتنظيم لقاء أو اجتماع لبعض الاساتذة تحت اسم مؤتمر علمي والبرهان على ذلك لم نجد أي بحث علمي يصدر من هذه الجامعات. طبعا هنا قد يسأل أحدهم: كيف اذن يتهرب مؤسس الجامعة من الضرائب لأن المؤسسة غير ربحية: الجواب بسيط: كل الجامعات تتوفر على حساب جاري في بنك هولندي وهو الحساب الأبيض, وكذلك تتوفر الجامعات على حسابات سوداء لا تخضع للضرائب بهولندة لانها غير معروفة لدى الدولة الهولندية, مثلا هنالك طلاب يدفعون مباشرة باليد إلى الجامعة كطلاب الشرق الأوسط : العراق المثل الأوضح : مثلا جامعة لاهاي الدولية تملك فرع لها في مدينة الموصل وجامعة فان هولنده لها فرع بمدينة تكريت : والجامعتان تتعاملان مباشرة ماليا مع ممثل الجامعة هناك: أي لا تقوم الفروع بأرسال المال مباشرة الى هولنده.وللجامعة الحرة فروع في العراق أيضا مع أنها أصبحت أكثر الجامعات العراقية هنا تعرضا للضغوط , ونفس الشيء بالنسبة لجامعة لاهاي.
الغريب في الأمر أن الحكومة الهولندية التي لا تعترف وزارة تعليمها بمثل هذه الجامعات لم تحرك ساكنا تجاه هذه الوضع مع الفضائح الكبيرة التي حدثت في الماضي والتي تحدث: والسؤال هنا لماذا؟ سؤال منطقي وغريب لكن لا احد يعرف الجواب عنه إلا بالنسبة للجامعة الحرة التي صدر بحقها حكما قضائيا يمنع السلطات الهولندية من تصديق شهاداتها وذلك قبل أكثر من شهر.
كانت بالسابق بعض السفارات العربية تصادق على ختم وزارة الخارجية الهولندية ولكن بعد الفضائح الكبيرة بدأت السفارات العربية كلها ترفض التصديق على ختم وزارة الخارجية الهولندية ما عدا سفارة الامارات العربية المتحدة, هذا مع العلم أن وجود أو عدم وجود مثل هذا التصديق لا يعني شيئا بالنسبة لقيمة الشهادة لسبب واحد هو انها شهادات غير معترف بها اطلاقا.
هنالك طلاب يقومون بالتسجيل عندما يرون على موقع جامعة معينة أن وزارة الخارجية الهولندية تصادق على الشهادة : وهذه خدعة أخرى لأن وزارة الخارجية انما تصادق على توقيع غرفة التجارة أو كاتب العدل ليس الا: ويكتشف الطلاب الخدعة بعد فوات الأوان. كذلك هنالك طلاب يقدمون على التسجيل ولا يهتمون لمصداقية هذه الجامعات والدافع هو حصول على شهادة تسمى بالجامعية مع ختم وزارة الخارجية الهولندية, ومثل هؤلاء الناس يريد فقط أن يكتب امام اسمه "دكتور".
ونشير أن بعض المسؤولين العراقيين حصلوا على شهادات من مثل هذه الجامعة: فوزير الزراعة الحالي عز الدين الدولة وابنه علي قد حصلا على ماجستير بالقانون من احدى هذه الجامعات عام 2010!
هذه معلومات يجب أن يطلع عليها كل من يهمه الأمر خاصة العراقيين كونهم الضحية الأكبر بسبب ظروف البلد وعدم مصداقية الحكومة العراقية بما يخص التعليم عموما ولان الكثير ممن يتولى مناصب عليا في العراق حاصل على مثل هذه الشهادات من هولنده أو المانيا والدانمارك أو ايران الاسلامية جدا .
لاهاي (دنهاخ) آب 2011

عرض كتاب-الشيخ عبد الكريم الماشطة-حامد كعيد الجبوري


عرض كتاب
الشيخ عبد الكريم الماشطة
أحد رواد التنوير في العراق
حامد كعيد الجبوري
صدر عن الدار
العربية للطباعة والنشر كتاب ( الشيخ عبد الكريم الماشطة أحد رواد التنوير في
العراق ) ، بقلم الباحث الأستاذ أحمد الناجي ، ويقع الكتاب ب 157 صفحة من الحجم
الكبير ، وبورق أبيض صقيل ، صمم الغلاف د فاخر محمد .
مقدمة الكتاب
بقلم د رشيد الخيون ، وحقيقة أن هذه المقدمة تغني القارئ عن الغاية التي توخاها
الباحث الناجي من هذا الكتاب ، يقول الدكتور خيون ( كم كان وعي شيخنا متقدما
مقاربة مع أوضاع العراق آنذاك ، الأربعينات ، أن يأخذ عالم ديني عراقي على عاتقه
مسؤولية النضال من أجل السلم ، وسط محرمات لا عد ولا حصر لها ، قد تحرمه من
الأتباع والمريدين ، وربما جعلته قائما وحيدا في محراب الصلاة ، من هنا يقاس تفوق
هذا الرجل ، وتجاوزه للمألوف والمحذور أن يقف بين شباب وشيبة ، نساء وعمال وطلبة ،
يلقي على أسماعهم الكلمات التالية : أرجو لكم من الله التوفيق في أعمالكم ، وأن
يمكنكم من خدمة أبناء النوع الإنساني عامة ، ولا بد أن تحبوا الله ، وتحبوا عباد
الله ، لأن من يحب الله يحب آثاره ، والله تعالى يباهي بكم الملائكة على معاونتكم
لإخوانكم ، واهتمامكم بردع الحروب ، وتخليص البشرية من ويلات القنابل الذرية
والهيدروجينية ) ، ويلخص الشيخ عبد الكريم الماشطة الإسلام كما يرى د رشيد الخيون
(رابطا إسلامه بالسلام وبإطلاق حمامة السلام من بين يديه في قاعة المؤتمر ) ،
وينهي الدكتور الخيون قائلا ( أجد بين عمامة عبد الكريم الماشطة والعمائم التي
تصدر فتاوى الموت وتتقدم للتحريض على الحروب ، هو الفارق بين الغرابين والحمائم
البيض ) .
قسم الباحث
أحمد الناجي كتابه لتسعة فصول ، سنأخذ من كل فصل لمحات لنضئ بها عرض هذا الكتاب
القيم .
الفصل الاول / السيرة
الذاتية :
هو عبد
الكريم بن الحاج عبد الرضا بن الحاج حسين بن الحاج محسن الماشطة ، ولد عام 1881 م
في أحد بيوتات محلة جبران زقاق ( الجياييل ) في الحلة الفيحاء .
الفصل الثاني /
في الفكر والسياسة :
كان والده من
الشخصيات الوطنية التي طالبت بالدستور ، ( وسعت الى تنظيم نفسها منذ بدايات القرن
العشرين لتحقيق ما جاء به على أرض الواقع ، وامتدت طموحاتهم الكبيرة الى إزالة
الوضع الاستبدادي القائم ، وتحسين أحوال الناس الاجتماعية والمعيشية ، وتماشيا مع
تلك التوجهات قام مجموعة من مفكري الحلة بتشكيل جمعية سرية تكون فرعا لجمعية الاتحاد
والترقي ) ، لذا نجد أن الشيخ الماشطة حسم أمره مبكرا كما يقول الباحث الناجي صوب
التحرر والتجديد ، بدأ الشيخ الماشطة تعليمه بكتاتيب الحلة وبرغبة من والده شد
رحاله الى النجف الأشرف فأكمل المقرر من دروسه في النحو والبلاغة والمنطق والفقه
وأصوله ، فحاز على ناصية وزمام أمره ، ومما يميز النجف أنها تستقبل كل الاتجاهات
المضادة والمتطابقة لدراستها وتحليلها ومنهجتها ، فتتبع الرجل الأصالة وتقصى
النظريات الفلسفية للكون والحياة ، وحين هبت رياح التجديد ارتبط بالفكر التنويري ،
ممثلا بأفكار رفاعة الطهطاوي ، وعبد الرحمن الكواكبي ، وجمال الدين الأفغاني ،
ومحمد عبده ، وكان الشيخ الماشطة أحد طلاب الحوزة الدينية المدافعون عن الدستور
متأثرا بفكر وسيرة والده ، وتطورت مداركه بعدما أدرك بوعي أهمية الجدل والتأمل في
فضاء المعرفة ، والوصول لإجابات العقل المقلقة وأفضت به الى مخاض وعي مكنه من
أجتراح جملة من متبنيات فكرية وسياسية ، وهذا ما أورده الباحث وأكد على أن الشيخ
الماشطة بقي أمينا لمنهجيته الدينية والتمسك بآراء أساتذته ، ولم يتوقف الشيخ
الماشطة عن البحث والتقصي والقراءة حتى بعد أكماله مقررات دروسه الحوزوية وامتدت
سني دراسته مستكملا لها في حلقات دراسية فقهية حلية .
الفصل الثالث /
النشاط السياسي والاجتماعي :
ما مر على
العراق عموما وعلى الحلة الفيحاء خاصة لم يكن الشيخ الماشطة ببعيد عنها ، كل خفايا
الاحتلال البريطاني 1914 – 1918 م وأحداث
معارك الشعيبه عام 1915 م ، والأحداث المروعة التي مرت بها الحلة أواخر العهد
العثماني في ( دكة عاكف ) 1916 م ، وأساليب دعم حركة الجهاد كل ذلك بلوّر حياة
وسيرة الشيخ الماشطة ، و( تبلورت صور
المشهد السياسي في ذهن الشيخ الماشطة المتابع لتفاصيل الأحداث ، لتنعكس انطباعاته
ومعها فيض مما أنغرس في أغوار الذاكرة من بذرات الخراساني والنائيني ، متناظرة مع
بصيرته الثاقبة للعديد من الأحداث المهمة المتزامنة مع تأسيس الدولة العراقية
بداية عشرينات القرن الماضي التي ساهمت بفتح نوافذ على الحياة السياسية ) ، وخاض
الشيخ الماشطة الانتخابات النيابية عام 1954 م متحالفا مع تكوينات الجبهة الوطنية
التي ضمت تحت لواءها الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال ، والحزب الشيوعي
العراقي وحركة أنصار السلام ، ومنظمات الطلاب والشباب ، والنقابات المهنية ،
والعمالية ، وممثلي الفلاحين ، وبسبب كل هذه النشاطات والتجمعات والمحاضرات فقد
ضيّق على الشيخ الماشطة ومما يذكر قيادته لتظاهرة انتخابية عام 1954 م ولما أرادت
قوى الأمن تفريق التظاهرة خاطبهم الماشطة ( مالكم قلقون اعتبروها زفة عرس ) ،
وتمادى الشرطة أكثر وحالوا تفريق التظاهرة وألقي القبض على قسما من منظميها وسلم
الشيخ من ذلك ولكنه أحيل لمحاكمة جزائية تطوع ( 36 ) محاميا للدفاع عنه ، وعلى
رأسهم المحامي الأستاذ ( حسين جميل ) ، و ( مظهر العزاوي ) ، و ( توفيق منير ) ، وردّ القاضي ( فريد فتيان ) الدعوى وبرأ ساحته
وعد الحاكم التدخل الأمني استفزازا للمتظاهرين ، وبعد شهرين ألقي القبض على الشيخ
وأحيل الى بغداد وبرأ أيضا ، كان الشيخ من الكتاب والصحفيين الوطنيين الذين لم
تسخر أقلامهم إلا لمصلحة شعبهم وتطلعاته ، بعد التغيير الوطني عام 1958 م نشر
الشيخ الماشطة مقالاته في كبيرات الصحف العراقية آنذاك ، ( اتحاد الشعب ) ، و( صوت
الأحرار ) .
الفصل الرابع /
مجلة العدل ومقالاتها :
أصدر
الشيخ الماشطة من مجلته ( العدل ) عددا واحدا في آذار عام 1938 م ، طبع في المطبعة
العصرية في الحلة الفيحاء ، وقد صادرته السلطة قبل توزيعه ، وألغت امتياز المجلة ،
وهنا رأي للدكتور علي جواد الطاهر الذي لم يخف مشاعر الفرح والغبطة بهذا الإصدار
الذي لم ير النور حينما سؤل فأجاب ، (
الشيخ عبد الكريم الماشطة وجه وطني جرئ
وقد أصدر مجلة باسم ( العدل ) والاسم ذو
دلالة فرحنا بها وأبهجنا ما وراء حروفها من حس انتقادي للأوضاع ، كان الشيخ ينفذ
الى غايته من عنوانات بدايات لا تبدو لها علاقة بقصده ، وكان طبيعيا أن يصادر
العدد ويمنع الشيخ من إصدار عدد ثان ) .
الفصل الخامس /
الشيخ الماشطة والصوفية :
يقول الباحث
الناجي قدم الشيخ الماشطة في سلسلة مقالاته عن الصوفية دراسة مستفيضة متطرقا الى
عناصرها وأفكارها ومفاهيمها وموروثها وتأثيرها على المفكرين المسلمين فكشف بذلك عن
ثراء معرفي وعمق فكري مكتنز لا ريب من سنين مضنية قضاها في البحث والتقصي عن
ينابيع معرفية نقلت الفكر الى حالة من الانفتاح العقلي والانطلاق بعيدا عن متاهات
الجدل الدائر لسنين طوال بين الجبر والاختيار ، والأشعرية والمعتزلة .
الفصل السادس /
حركة أنصار السلام :
للحاجة الإنسانية للسلام وتجنبا للكوارث والحروب
وهدر الطاقات فقد عقد مؤتمرا عالميا في ( بولونيا ) ، حضره المثقفون من سائر بقاع
الدنيا كرس للسلام العالمي عام 1948 م ، ومما يذكر ان شاعر العرب الأكبر محمد مهدي
الجواهري كان من الحاضرين لهذا المؤتمر العالمي ، واختير الجواهري ليكون عضو
المؤتمر الأول الذي عقد عام 1950 م ، ولم يكن الشيخ الماشطة ببعيد عن هذا المؤتمر
فقد لبى الدعوى لمناصرة ( نداء أستوكهولم ) الصادر من مؤتمر السلام العالمي في 19
/ آذار / 1950 م لتحريم القنبلة الذرية ، ولبى الدعوة أيضا شخصيات سياسية عراقية
أخرى ، ويعد الشيخ الماشطة رجل الدين الأول الذي لبى نداء السلم ووقع على بنوده
الخمسة الصادرة عن اجتماع أستوكهولم ، وبذلك يعد مطلع عام 1950 بداية تأسيس حركة
أنصار السلام في العراق ، وبعد تنامي هذه الحركة التي استقطبت وطنيِّ العراق وبدأت
الأجهزة الأمنية متابعة نشاطات هذا التجمع العالمي الجديد ، وأعتقل الكثير ممن
انتمى لهذا التجمع بذريعة عدم أجازة هذا التجمع رسميا ، ومن هؤلاء شاعر الشعب محمد
صالح بحر العلوم ، ولقد أسهم الكثير من المثقفين العراقيين بإنارة طريق هذا التجمع
من خلال القصائد التي صدح بها شاعر العرب محمد مهدي الجواهري وعبد الله كوران ،
ومما يذكره الباحث أحمد الناجي بكتابه موضوع عرضنا قصيدة ( أمي والسلام ) للمناضل ( حسن
عوينه ) ،
أماه رهط الظالمين تآمرا
ليشن حربا غادرا وتآزرا
تطوى الشباب على الشيوخ وللدم
الزاكي الطهور ترين بحرا زاخرا
والأرض تزرع بالضحايا إن
ذكت ويبدل الروض الخصيب مقابرا
الفصل السابع /
الاتهام بالشيوعية :
ربما - وهذا
رأيي الشخصي - أن الباحث الناجي لم يعطي هذا الفصل مما يستحق من تسليط ضوء ، ورأي
مبلور ، لا لكون الباحث غافلا عن خطورة هذا المبحث لأسباب كثيرة جدا ، ومن أهمها
أن من يركب موجة الدين سفاها ، ليغوي بها السذج ويعتاش على تخلفهم ، قد يتقاطع
كليا مع الشيخ الماشطة الذي أوجد لذاته فلسفة أستمدها من بطون كتب غيبت تماما
ليبقى الكم الهائل من البشر متخندقون ومتترسون وراء حجب لا يعرفون لها خلاصا ، لذا
صدرت الفتاوي التي حرمت الانتماء لأحزاب تناضل من أجل رفعة البشر وخيره ، ويجد
الدعاة الى الإسلام من هذه الشريحة الديمقراطية حراما ولا يؤمنون بها ولكنهم
يؤمنون بآلياتها التي أوصلتهم لمآرب خاصة ، وينسب للكثير من هؤلاء مقولتهم أن كانت
الديمقراطية تعني حكم الشعب فذلك خلاف التشريع الذي وكلنا به من قبل الله ، بمعنى
أدق نحن ولاة أمور الناس بتكليفنا الشرعي الإلهي ، وهذا ما أستنتج خلافه الشيخ
الماشطة ، ولكونه قريبا الى اليساريين والليبراليين والشيوعيين وحتى القوميين ،
لذا حورب هذا الشيخ الجليل لصدق سريرته مع ذاته ، ومع الله ، وأتهم بالشيوعية
لتقارب آرائه مع فكرهم .
الفصل الثامن /
آثاره :
للشيخ
الماشطة مؤلفات كثيرة مطبوعة ومخطوطة ،
ومقالات لا تحصى نشرت بالصحف العراقية ، وأهم ما يذكر في هذا الباب كتابه
الذي ذكره الأستاذ كوركيس عواد في ( معجم المؤلفين العراقيين ) ، ويؤكده الأستاذ
حميد المطبعي في ( موسوعة أعلام العراق في
القرن العشرين ) ، وعنوان كتاب الشيخ الماشطة ( الشيوعية لا تتصادم مع الدين ولا
مع القومية العربية ) ، ولا أعرف لم لا يؤيد الباحث الناجي وجود مثل هذا الكتاب ،
مستدلا على عدم وجوده بين يديه ، أو لم يسمع به من أحد غيره ، ولعمري هذا يخالف
النهج البحثي ، وإلا ما كان ( كوركيس عواد ) ، ولا ( حميد المطبعي ) يذكرون وجود
مثل هذا الكتاب ، وأقول الى الصديق الباحث الناجي ترى أيمكن أن نجد مثل هذا الكتاب
وبتلك الفترة من الحكم الشمولي ، وبعد
صدور فتاوى تقول ( الشيوعية كفر وألحاد ) ، نجد من يقرأ أو يحتفظ بهذا الكتاب ،
ومن خلال هذه المنابر الحرة أقول لابد وأن تكن هناك نسخة واحدة على الأقل موجودة
في بطون مكتباتنا البيتية العامرة ، فأدعو راجيا ومرتجيا ، ممن يملك هذا النسخة أن يحاول أن يقدمها هدية
لأي مطبعة وطنية تقدمية لأحياء تراث هذا الرجل الإنسان .
الفصل التاسع /
وفاته :
أصيب شيخنا الجليل الماشطة بمرض عجز القلب بداية عام
1959 م وغادر الى الإتحاد السوفيتي آنذاك لتلقي العلاج ، ولم يمكث طويلا في موسكو
وعاد الى مستشفيات بغداد وتوفي فيها في 3 أيلول عام 1959 م ، ونقل جثمانه الى
الحلة الفيحاء ومنها شيّع لمثواه الأخير النجف الأشرف ، وأقيمت له أكثر من مجلس
فاتحة أو أربعينية في مختلف المحافظات العراقية ، وكذا خارج العراق ( موسكو –
صوفيا – برلين – بودابست ) ، ونعاه المكتب الدائم للمجلس الوطني لأنصار السلم في
الجمهورية العراقية ببيان تحت عنوان ( ذكرى الأربعين لوفاة سماحة العلامة الكبير
الشيخ عبد الكريم الماشطة فقيد حركة السلم العراقية والعالمية ) .
رأي :
الكتاب ( الشيخ
عبد الكريم الماشطة أحد رموز التنوير في
العراق ) ،
كتاب قيم بذل
الباحث احمد الناجي لأجله وقتا مضنيا وفتح الباب واسعا للباحثين بفكر هذا الرجل –
الماشطة - ، طبع الكتاب عام 2006 م ، ومن المؤكد أن الباحث قد ورد له من أصدقائه
ملاحظات ، وإضافات جديدة ، ومعلومات تستحق أن تنشر ، ويشار لها ، أتمنى على الصديق
الباحث أعادة النظر جديا بما تمنيت عليه ، وأن يترك الدعوة التي وضعها بداية
الكتاب ، متمنيا على الباحثين والمؤرخين لينهضوا بأعباء دراسة هذا الشيخ منهجيا ،
فأنت يا صديقي أحق بالبحث المنهجي لما تمتلكه من خبرة واسعة ، وشهادة تؤهلك لخوض
هذا المضمار .

الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

شطي الحبيب. . شطّ العرب-يعقوب أفرام منصور




شطي الحبيب. . شطّ العرب
جريدة المستقبل العراقية / بغداد في 14/11/2011
يعقوب أفرام منصور
آهِ, لو تعلم, شطّي الحبيب, شطّي العربي, كم أحببتُك منذ صِباي ويفاعتي وشبابي, وكم أحببتُك في كُهولتي, وكم اُحبّك الآن وأتوق إلى رؤياك في كهولتي. .
تخللّتْ فترة عُمري أعوامٌ, نأيتُ فيها عنك أعواماً وشهوراً, لكنّ هواك الكامن في دمي وحجيراتي, كان يزداد في البعد والأسفار والإغتراب, فَنِصْفُ دمي من مائك الوافد من الفراتين, ورُبعه من تمور نخيلك. .
تمّنَيتُكَ يا شطّي العربي مخلوقاً حيّاً, يا واهب الحياة بكل أشكالها على جانبيك من القرنة حتى الفاو, مخلوقاً ذا ذاكرةٍ وخافقٍ وباصرةٍ وذراعين, كي تعرف هُوِيّتي, وتتذكّر جلساتي العديدة على كورنيشك الجميل, وركوبي (بَلَمَكَ) العشّاري البديع مراراً, وصعودي إلى ظهور سفنك البحرية الراسية في مراسيك العديدة, سُفنٌ هندية وأخرى ألمانية وأمريكية وبريطانية وغيرها, كي تشعر بحرارة معانقتي إيّاك, وتستطيع سَبْرَ عُمقِ محبتي نحوك, كما لو كنت أبي وأمّي, أو صديقاً حميماً فارقته منذ عهد الصبا الذي أفنيته في ربوعك. أو أساتذتي الذين درّسوني في ثانوية بصرتك العزيزة في العشّار إبان العامين 1945 و 1946. .
آهاً يا شطّي العربي الأثير, يؤسفني كونًك تجهل كم أنت عزيز لدى جناني وأفئدةِ البصريين الأقحاح والنشامى الحاليين, وعند أشقائهم البغداديين الأُصلاء الغيارى, وعند العراقيين المخلصين لعروبتهم, والأوفياء لوطنهم المضطهد من بغض الأجانب, ومن بغض أبناء العمومة والخؤولة وعصابات الجيران. . .
لكن, واأسفاه, واحسرتاه, أنت لا تعلم مدى وعمق هذه المودّة, ومغزى هذه المشاعر المكنونة نحوك ممّن أسلفت ذكرهم , فالمحبً يَهمُّه أن يعرف بكون محبوبه عارفاً بمن يحبّه. .

فمجراكَ في المدِ والجزِ عندي وعندهم أجمل من قنوات البندقيّة, ومشاهدك على الضفتيَن الكحيلتين بكحل باسقات النخيل, أبهى من مُقلتي فاتنةٍ عربيةٍ حوراء, مكحلتين بالأثمد, ومناظرك الخلابة على جانبيك في حمدان والمحَوْلة والسرّاجي والصالحيّة والبراضعيّة وأبي الفلوس, أزهى من مناظر ضفاف الدانوب والرّاين والميسيسيبي والأمازون والسين. .
كم عانيتَ وأُهملتَ وأُوذِيتَ أيها الشطّ العزيز, شطّ العرب, من ذوي القربى, وكم قاسيتَ وتقاسي من الجيران, كم تعمّد الغُزاة الجُناة ومناصروهم إغراق السفن في مياهك لغايات دنيئة, وأحقاد دفينة, وكم سعوا في غلق المنافذ والمسالك نحوك, وكم اغتصبوا ضفافك, وكم غمروا مجراك بالسموم والفضلات والنفايات المهلِكة للحرث والنسل ؟؟. . .
هؤلاء وأولئك قد تمادوا في إيذائك, يا شطّنا, وقد أضمرّوا لك أسوأ النيّات, وتجاوزوا حدودَ أقصى الظلم والعُسف, وتجاهلوا كل دينٍ ومحرَّم وشرعٍ وضمير, حتى فاقوا الأعداء في العداوة والإضرار. .
لِمَن المشتكى, يا شطّنا العزيز, إلا إلى ذي الجلال والإكرام والقدرة, الواحد القهّار, فالربابنة عندنا ساهون, متناومون, متهاونون. .
وا أسفاه, وا ربّاه, إليك المشتكى ربّاه, أنت أعدل من يعاقب ومن يُثيب. .
الله أكبر فوق كيد المعتدي, والله للمظلوم خير مؤيد. .
أربيل

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

قصة قصيرة-الديناصور-عادل كامل



قصة قصيرة

الديناصور

عادل كامل

" كان يستطيع ابتلاع ثلاث بقرات دفعة واحدة ..." وواصل كلامه، حيث كنا نصغي إليه بانتباه. فتوقف عن الكلام وكأنه حدس ما دار بخلدنا، فكنا نخاف ان يتركنا، أو يدعنا ننتظر حتى اليوم التالي. لكن جدي طالما واصل سرد باقي الحكاية، وقد أخذت بالاتساع والتشعب، حتى كنا لا نمتلك قدرة رسم شكل الحيوان الذي كان يتحدث عنه.
ـ " حسنا ً، حسنا ً، أين وصلنا...آ... تذكرت" فيروي لنا كيف استطاع ذلك الحيوان ـ وقد قال انه شبيه بالديناصورات، لولا انه أعظم منها حجما ً، وشراسة، ومكرا ًـ ان يجتاز البحر، ذات مرة، بوثبة واحدة، مع انه كان يمتلك قدماً واحدة..! وكيف دخل معركة ضد الحيتان السوداء، والزرقاء، وانتصر عليها جميعا ً دون ان يصاب بأذى يذكر، ثم بعد ذلك ذهب الى الجبال المغطاة بالثلوج وعاش هناك قرون عدة مستمتعا ً بالبرد، وأعشاب الوديان.
كنا نصغي إليه بانتباه، وشرود، شديدين، حتى أصبحنا ندرك انه عاش مع ذلك الكائن الغريب، زمنا طويلا ً، حتى أصبحنا ندرك ان هناك صداقة عقدت بينهما. المهم اننا كنا ان نعرف كيف كانت الأشجار تنحني له عند مروره من أمامها، وكيف فرض سيطرته في الغابة، وفي الوديان، وفي البحار. ومع انا لم نكن نصدق كل ما كان جدي يرويه، ومع اننا لم نكن نخفي شعورنا بالمبالغة، التي كان يتحدث فيها عن ذلك المخلوق النادر، إلا إننا كنا نشعر برعب عميق كلما مر بخاطرنا شبحه، وشكله، وما كان يقوم به من أعمال غريبة، تتجاوز تصوراتنا، فكنا نغطي رؤوسنا عند النوم، بعد إغلاق الأبواب، والنوافذ، وكان من المستحيل التفكير في مغادرة منازلنا ليلا ً، أو قبيل شروق الشمس.
قال جدي:" إلا انه لم يكن ظالما ً أبدا ً ...." ثم أضاف، بعد لحظات صمت كتم فيها أنفاسنا، وهو يراقبنا، الواحد بعد الاخر، نحن احفاده، فيما إذا كنا نصدق كلامه، أم أن الشك قد تسرب الى نفوسنا:
ـ " فهو لا يؤذي من لا يؤذيه، ولا يغضب إلا اذا ...اقتربتم من عريته" أهو أسد؟ لا .. قال جدي، انه ينتمي الى سلالة كائنات الليل، من الزواحف التي عاشت في العصور السحيقة، قبل ظهور البشر فوق البسطة. فسأله احدنا ببراءة:
ـ " من كان يقترب منه إذا ...؟" غضب جدي وهم بالنهوض، صحنا:
ـ " لا تفعل ذلك "
ـ " حسنا ً، اين وصلنا؟" قلت:
ـ " انه ينحدر من ... عصور ... سحيقة"
ـ " تذكرت " وغرق في الصمت، ثم ضحك:
ـ " كان كبير الحجم، وله أشكال متعددة، ولكن ليست تلك هي المشكلة.." صمت. فصرخنا:
ـ " أكمل، يا جدي، أكمل..." لأننا كنا نخاف ان يغادرنا، والقصة لم يبلغ نهاياتها. فقال:
ـ " إننا ـ نحن ـ الذين كنا نراه بهذا الحجم.. " وتذكرنا قصة الأسد الذي غلبته سمكة صغيرة وسخرت منه عندما استدرجته إلى الماء، وحكاية الفقير الذي نجا من الجحيم بعد ان ترك أغنياء القرية يدخلون فيها، وقصص كثيرة متناثرة لا نعرف من أين كان يأتي بها، لكننا كنا، في واقع الأمر، نراه صادقا ً، ولا غبار على ما كان يقول. ولم يخطر ببال ايا ً منا انه كان يهوّل، أو يسرد حكايات من نسج خياله، بعد أن كبر وبلغ من العمر عتيا، او كان يضمر شيئا ً ما لنا غير أسرنا بتلك الحكايات، حتى حدث في ذات مرة أن سأله احد أحفاده:
ـ " وكيف إذا ً اختفى الديناصور، وأين توارى، ومن انتصر عليه ..؟"
غضب جدي غضبا شديدا ً، وسكت، ولم يعد يروي لنا شيئا ً من حكاياته، بل ولم يعد يستقبلنا في بيته ايضاً. كان جدي يعيش وحيدا ً، ولم نكن نعرف كيف كان يعيش، ومن يساعده في شؤون حياته الخاصة، وماذا يفعل طوال الوقت في عزلته، حتى تسلل الينا الشك بانه ربما كان هو الذي اخفى الديناصور في بيته الكبير، أو ان له علاقة ما معه، وإلا لماذا كان يكيل اليه المداح، ولم يذمه ابدا ً، ولم يتحدث عنه بسوء، مع انه كان اغرب كائنات الغابة، واشدها فتكا ً؟ وازداد شكنا، وازدادت حيرنا، وفي الاخير كنا قررنا اغفال هذا كله والاعتراف بذنوبنا لجدي، كي لا يخفي عنا خاتمة الحكاية، ومصير الديناصور، بعد ان تعلقنا به، واصبحنانحبه، ولا نخاف من قوته، أو بطشه. فتجمعنا امام البيت الكبير، بافواه مغلقة، وانفاس متجمّدة، واعلنا لجدي أننا لن نغادر، ولن نذهب الى بيوتنا، واننا سنضرب عن الطعام حتى الموت، إن هو تجاهل مطاليبنا. لم يمتد زمن الاضراب طويلاً، فقد استجاب جدي لنا. في البدء سمعناه يهمهم، ويقهقه، ثم سمعناه يتمتم، واخيرا ً رق قلبه، ففتح لنا الباب، وخاطبنا:
ـ " سأكمل لكم الحكاية، يا احفدي...." ثم تابع:
ـ " في ذات يوم شديد الحراة، والامطار تسقط بغزارة، والارض ترتجف، والريح تعصف، خرج المسكين من عرينه، واتجه الى الصحراء.." لم نتفوه بكلمة، وكلنا كنا اذان مصغية:
ـ " وما ان دخل الى الصحراء، ونظر الى افقها الممتد مع البصر، حتى رأى الوحوش قد تجمعت، تؤدي له ولاء الطاعة، والامتنان.." ومضى يسرد لنا، دون مقاطعة، أو اعتراض:
ـ "حتى حل الربيع، واعشوشبت الارض، وبدأت الاشجار ترتفع عاليا ً، وتتحول الصحراء الى غابة كبيرة مترامية الاطراف... " تعب جدي من الكلام، فطلب منا ان ننتظر الى اليوم التالي. انتظرنا، انتظرنا بشغف. فعاد جدي يستكمل الحكاية:
ـ " وفي ذات صباح جمع الديناصور اتباعه، ورجال مملكته من الفصائل كافة، وأعوانه، في ركن من اركان الغابة، وطلب منهم الاصغاء إليه. فقال بصوت خفيض: يا ابنائي، أنا آسف ان اقول لكم انني ساغادركم، بعد ان مكثت معكم هذه السنوات، الى مكان بعيد .. مكان من يذهب اليه لا يعود... فبكى الجميع، وعم الحزن، مما جعله يرفع صوته قليلا ً:
ـ "لا تفعلوا ذلك، لا تفعلوا .." وقال جدي:
ـ " ذلكلأنها كان تصرخ: لا تغادر، لا تغادر، لن ندعك تغادر... " فقال الديناصور بصوت حزين:
ـ " لن أستطيع البقاء معكم بعد الآن.. " للمرة الاولى رأينا جدي يبكي، وتنهمر منه الدموع. فلم نتكلم. لكنه فجأة تابع:
ـ " ثم اختفى، ولا احد عرف اين توارى، ولا احد يريد ان يصدق..تاركا ً الاسى يملأ قلوبهم، ذلك لان الامطار توقفت، وعادت اشعة الشمس تضرب الرمال، والحراة ترتفع، والعواصف تهب محملة بالتراب، والجفاف.. " وماذا بعد؟ سألنا بصوت واحد. قال جدي:
ـ " ذهب إلى وطنه ...."
أصبنا بالشرود، ورحنا نتساءل: أين ـ هو ـ وطنه الذي ذهب إليه..؟ وهل ذهب الى وطنه الاول. أجاب جدي، بعد ان كدنا نفقد أملنا في الرد:
ـ " أصبروا ..أصبروا.." وراح يحدق في مكان بعيد. كان جدي يجلس فوق دكة مرتفعة، وعندما كان يحرك رأسه الى جهة من الجهات كانت رؤوسنا تتحرك معه، فقد كنا نحاول ان نرى ما كان يراه. قال فجأة:
ـ " ايها الاشرار! يا شياطين الارض..." فزعنا، وخفنا أن يغلق الباب علينا، ويجلدنا، أو ربما قد يقوم باي عمل غير متوقع، بعد ان وسمنا بالاشرار، والشياطين! أو، في الاقل، أن يطردنا من بيته، إلا ان قلبه الرقيق، عاد ينطق عبر شفتين كانتا تتحركان برقة:
ـ " لقد ذهب الى وطنه النائي، خلف عالمنا، وهناك تم استقباله استقبالا ً عظيما ً، فجددت الطيور، والانعام، والبهائم، والكواسر، وكل دابة تدب فوق الارضولاءها له، وطاعتها لشخصه، كزعيم أوحد للبلاد النائية، من شمالها الى جنوبها، ومن شرقها الى غربها. وسجدت له النمور والاسود والفيلة والحيتان والنمل الخنتزير والابقار والكلاب والذئاب والغزلان والزواحف كافة، الى جانب الثديات، والفقريات، واللافقريات، والديدان، واحشرات، وباقي السكان كافة بلا استثناء. فقد كانت تهابة، وتخشاه، وتتاشى غضبه إن غب، أو تعرض لمكروه، أو خدش. كان الديناصور، يا احفادي، متقلب المزاج، وسلوكه لا يحزر، ومشاعرة متضاربة، فتارة تراه مرحاً، وسعيدا ً، وتارة مكفهراً، حد الجنون! " وتابع جدي، وهو لا يكف يراقب اثر كلماته فينا:
ـ " ولا أحد تجرأ، أن يخبره بذلك ..فالخوف روّض الجميع حتى بالكاد كنت تلمح فما ً في موقعه! وهكذا عاد الديناصور الى قصره في وطنه النائي وعاش زمنا ً طويلا ً..لا سواه امير، ولا سواه زعيم، ولا سواه امبراطور..."
كنا نظن ان الحكاية انتهت، نهاية بلهاء، كلل النهايات التي كانت تنتهي بالسعادة، والمجد، والمسرة، لولا اننا كنا حدسنا، أن شيئا ً ما كان مبيتا ً لنا، مما زرع فينا الذعر، والخوف، وجعلنا نصمت، ولا نثير مشاعر جدي أو غضبه، كي لا يختتم قصته قبل نهايتها، كما فعل، أوقبل ان يطردنا إلى بيوتنا. لكن جدي تكلم، وبدد مخاوفنا:
ـ " كان يعمل ليل نهار في إعادة بناء وطنه المترامي الأطراف، فكانت أوامره تنفذ قبل ان يعلنها، ويتم تنفيذها حتى قبل ان ترد بباله، لأن الجميع خبروا نواياه، ومقاصده..وهكذا تم لوي عنق البحر، حيث جاءت الحيتان والبرمائيات، وكافة مخلوقات البحر، زاحفة لأداء قسمها بالولاء، والطاعة، فمنحها مباركته، وأعادها إلى وطنها الأم، منشغلا ًبدك القمم ومعاقبة المرتفعات، وكل ارتفاع يتجاوز قامته، فانصاعت لقراراته، السهول، والمنخفضات، وفي الوقت نفسه اجتمعت، من الجهات الأربع، أشجار الغابات، ونباتات البرية، وكل ما هو شبيه بالزرع، وبسطت ثمارها، وأغصانها، وورودها، وجذورا، وبذورها له بالطاعة والولاء. كانت الأشجار تبدو كعصافير بللها المطر، ندية، وترقص طربا ً، حتى أمرها بالعودة من حيث أتت. واستمر الأمر سنوات وسنوات امتدت إلى مئات السنين..فلا الشمس تشرق، ولا تغرب، إلا باشراه منه، ولا الريح تأتي بالأمطار إلا بقرار يصدره لها، فعاشت البلاد متنعمة بالوفرة، والنعم، قرون أخرى...." فصرخنا، بصوت واحد:
ـ " ولكن كيف كانت نهاية الديناصور، يا جدنا العظيم، أم القصة لم تنته بعد..؟"
ـ "لا..."
وصمت، متفرسا ً في وجوهنا، وقد تركنا ننتظر ان يكمل. كان الخوف لدينا يمتزج بشغف معرفة كيف بلغت الحكاية ذروتها، أم انها ستكون بلا خاتمة؟ لا اعرف لماذا فكرنا بالهرب، ومغادرة البيت، إلا انه باغتنا بصوت حازم،يقول ً:
ـ " في ذات يوم، جمع ملك الملوك أتباعه، وجنده، وحاشيته، وطلب منهم إقامة وليمة كبرى، وأمرهم، على غير عادته، بالغناء، وعزف الموسيقا، والرقص.. لم يصدق أتباعه، وجنده، وحاشيته ذلك الأمر. لكن طاعته كانت واجبة التنفيذ كفرض، ثم انه لم يطلب منهم إلا الابتهاج، وإقامة المسرات. كانوا يعزفون الموسيقا، ويشربون أغلى الخمور واعتقها، ويتبارون بمهارات الرقص، والأناشيد، والأفراح، وقد غمرتهم نشوة الاحتفال حتى أنستهم انهم كانوا في حضرة ملك ملوك العالم، بعد ان فاجأهم في الحضور. ابتسم، واستقبلهم بود، وظهر انه في غاية السعادة. قال يخاطبهم:
ـ " سأرقص، اليوم، معكم... " تابع جدي:
ـ " ورقص، بل وشاركهم العزف، والغناء بمهارة لم يصدقها احد. غنى لهم أغنيات ملأت قلوبهم نشوة، حتى كاد الفجر ان يبزغ، عندما أمر كبير سيافيه، بهدوء، وبإشارة خفية، أن يغلق أبواب القصر، ويباشر بقطع رقاب الجميع..."
ولم تكن الحكاية قد انتهت، هنا، لكننا كنا ـ في أعماقنا ـ نلعن اليوم الذي تورطنا في سماعها، والحضور إلى بيت جدي، لسماع هذه الخرافات، فقال متابعا، فيما كانت قلوبنا ان تتوقف:
ـ " اقترب السياف من جلالته، هامساً: ولماذا افعل هذا أيها الإمبراطور العظيم...؟ صمت عميقا ً ثم أجاب، والشرر يتطاير من عينيه: ومتى كنت تعترض؟ ابتعد السياف، كي يرجع، بعد زمن وجيز، منحنيا بعد تنفيذ الواجب. رفع الإمبراطور رأسه، وحدجه بنظرة خاطفة، تركته يتلوى، لثوان، ثم يسقط ميتا ً."
تجمد الدم في أجسادنا، وكأننا تحولنا الى قطع من خشب، أو حجارة، فالذعر شل قدرتنا في استيعاب الخاتمة، فكيف النطق، لكن احدنا، تجرأ، وسأل جدي:
ـ " وهل انتهى عصر الديناصورات، يا جدي..؟" أجاب غاضبا ً:
ـ " كلا.. كلا..." عاد وسأله:
ـ " والهياكل التي نراها في المتاحف، لمن تعود... إن لم يكن عصر الديناصورات قد مضى...." وسأل آخر:
ـ " أم لم يمت بعد..؟" فقال جدي، وثمة ابتسامة ارتسمت فوق شفتيه:
ـ " ها انتم تتعجلون.. فانتم لا تريدون سماع خاتمة الرواية إذا ً ...؟" صرخنا بصوت واحد:
ـ " لا، لا يا جدي، لا، نحن نريد سماع نهاية هذه القصة، وسنصغي إليك حتى خاتمتها.."
في واقع الأمر لم تكن لدينا قدرة الهرب، أو الفرار، ثم أين يمكن ان نذهب، وأين يمكننا الاختفاء، أو التخفي. قال جدي يقطع علينا لحظات الصمت:
ـ " بعد ذلك ذهب الديناصور إلى بلاد لا يعرفه فيها أحد، ذهب وأسس مملكة كبيرة ..."
همس احدهم في آذني" إذا ً..شعبه القدم هو الذي انقرض وزال من الوجود..."
رفع جدي صوته وهو يحدق فينا:
ـ " سمعت همسكما أيها اللعينان، يا أولاد الشيطان!" قلت مذعورا ً:
ـ " لن نعود إلى الهمس، يا جدي، أبدا ً.." وأضاف الآخر:
ـ " لم نقصد عصيانك في أمر.."
تراجع جدي إلى الخلف، مسترخيا ً، وعاد يكلمنا والشرر يتطاير من عينيه:
ـ " ثم أسس إمبراطورية كبيرة، مترامية الأطراف، تكاد تكون بلا حدود، أو حافات، وعاد يصنع المعجزات لشعبه، بعد ان صاغ لهم قوانين جديدة ..."
قلت في نفسي ـ وأنا أخشى ان يكون عارفا ً بما كان يدور في رأسي ـ وفي يوم من الأيام، سيدعو الإمبراطور شعبه إلى قصره العظيم، وسيقيم لهم احتفالا ً كبيرا ً، ويأمر كبير سيافيه، بالقضاء على الشهود. لكن جدي تكلم بصوت عالٍ، وهو يرتجف:
ـ " أبدا ً، أبدا ً..فقد أقام الشعب، في هذه المرة، احتفالا عظيما ً لجلالته..."
لم نفهم ما الذي جرى لنهاية الحكاية، على الرغم من انها أصبحت ليست بحاجة إلى الشرح، أو التأويل. فقد كان الناس يحفظونها عن ظهر قلب، مثلما كانت مدوّنة في الكتب، ويتغنى بها الشعراء، وقد نقشت فوق جدران المعابد، ومنازل الناس، وبيوت الدولة. كما كانت وسائل البث، المختلفة، تذكرها طوال الوقت. آنذاك ابتسم جدي بمرح، ولم يعد غاضبا ً، كما لم نكن نخشى ان يقوم بما هو غير متوقع، ونهض من دكته:
ـ " غدا ً، يا أحفادي، سأكمل لكم باقي القصة..."
نهض جدي، فنهضنا. لنكتشف، للمرة الأولى ان قامته كانت عملاقة، حيث لا مست قمة رأسه سقف الغرفة، وان أصابعه بدت لنا مصنوعة من الحجر، تنتهي بمخالب فولاذية، ثم ان الأرض اهتزن، والجدران ارتجت، حتى لمحنا بعض الشقوق والتصدعات تحدث في جدران الغرفة، فتجمدنا، مذعورين، نتحاشى الاقتراب منه، أو نتركه يلمسنا. كنا نراقبه بحذر، وهو يتجه نحو باب البيت، حيث توقف لحظة، وهو يرمقنا بنظرات حادة، غامضة، لم نفهم منها شيئا ً. ثم، بهدوء، أدار المفتاح في قفل الباب، وعاد يمشي، بالخطوات ذاتها، نحو دكته، حيث جلس، وطلب منا ان لا نصدم بخاتمة الحكاية.
[3/5/1992]

منحوتات على الشاطيء


















في مدينة سدني الاسترالية اقيم معرض للمنحوتات لعدد كبير من الفنانين الاستراليين وقد استعمل الفنانون مواد مختلفة في اعمالهم وباحجام كبيرة مما اضفى متعة على العض

الأحد، 13 نوفمبر 2011

عرض ديوان شعري-ديوان الشاعر السيد سليمان الكبير -حامد كعيد الجبوري


عرض ديوان شعري
ديوان الشاعر السيد سليمان الكبير
حامد كعيد الجبوري
صدر عن مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة - كربلاء - العراق ، وبيروت – لبنان ، ديوان الشاعر السيد سليمان الكبير المتوفى سنة 1211 هجريه ، أي قبل حوالي 210 سنة ميلادية ، بواقع 343 صفحة بورق أسمر ومن الحجم الكبير ، وبغلاف جلدي أنيق ، والديوان دراسة وتحقيق الدكتور مضر سليمان الحلي ، ومحقق الديوان من أبناء أحفاد الشاعر سليمان الكبير .
أسمه ونسبه :
سليمان بن داوود بن حيدر الشرع بن أحمد المزيدي ، وينتهي نسبه الى يحيى بن الحسين ذي الدمعه بن زيد الشهيد بن الإمام زين العابدين ( ع ) بن الإمام السبط الحسين ( ع ) ، ولقب بالكبير للتمييز عن حفيده الشاعر سليمان بن داوود والد الشاعر الخالد السيد حيدر الحلي ، ويلقب الشاعر السيد سليمان ب ( الحكيم ) لأنه مارس الطب وأشتهر به وصنّف فيه ، ويسمى أيضا ( سليمان المزيدي ) نسبة لقريته التي عاش فيها آبائه وأجداده ، ولقب أيضا بالحلي ، وهناك ظاهرة جميلة يمتاز بها النجفيون عن غيرهم من محافظات العراق وقصباته ، وهي منحهم درجة الشرف النجفي لكل من درس وتعلم ونبغ في النجف من غير أهله ، فأطلقوا على السيد حيدر الحلي بالنجفي مضافة لحلته التي أنجبته ، وكذا لجد السيد حيدر وأعني به مترجمنا السيد سليمان الكبير ، وكذا للشاعر الشعبي الشهير الحاج زاير الدويج الحلي ، والشاعر عبود غفله الحلي أمير الشعراء الشعبيين ، والأمثلة كثيرة .
ولادته :
ولد شاعرنا في النجف الأشرف سنة 1141 هجرية ، ويقول محقق الديوان لا نعلم متى أستقر والد الشاعر السيد داوود بن حيدر في النجف ، ويقول نحن نعلم أن موطن حيدر الشرع وآبائه في المزيدية جنب ضريح جدهم السيد أحمد المزيدي ، ويضيف لا نعرف أيضا متى نزح الى النجف ، وما هو عمله فيها لقلة ولعدم وجود مصادر لذلك .
نشأته :
نشأ شاعرنا في النجف الأشرف ونحل من علومها وآدابها وفقهها وعلوم اللغة العربية ، وبعد وصوله لمستوى رفيع ، وفاق أقرانه أصبح يشار له ولقب بالحكيم كما أسلفنا ، وترجم له الكثير من المؤرخين ، يقول العلامة المؤرخ الشيخ محمد طاهر السماوي ( كان فاضلا مشاركا في العلوم ، نشأ في النجف وحضر على علمائها ، ثم أرتحل الى الحلة فسكنها ، وله فيها مع أدبائها مجاريات ، له ديوان شعر ، وله في الأئمة شعر كثير في المديح والرثاء ) ، وقال عنه الشيخ أغا بزرك ( سليمان بن داوود النجفي ، ولد في النجف 1141 هجرية ، وسكن الحلة سنة 1175 هجرية ، رأيت ديوانه بخط يده عند الشيخ محمد السماوي ، فيه قصائد في مدح أمير المؤمنين ع وتشطير عينية السيد الحميري ، وتشطير قصيدة الحافظ رجب البرسي ، وتخميس قصيدة أبن السبع ، مات في الحلة وشيعه أهلها ، وأستقبلهم أهل النجف يتقدمهم السيد بحر العلوم ) ، وأجمل ما قيل فيه قول د الشيخ محمد هادي الأميني ( عالم فاضل ، طبيب جليل ، أديب ، متتبع ، ولد في النجف وتتلمذ على العلماء والفضلاء ، وصنّف في كل فن ، وكان عالما بعلم الأديان والأبدان ، نقيا ، كريما ، أديبا ، يرتجل الشعر ارتجالا ) ، يقول دارس الديوان ومحققه الدكتور مضر السيد سليمان الحلي لا نعرف شيئا عن أسرة الشاعر السيد سليمان ولم عاد الى الحلة الفيحاء وما هي الدروس التي حصل عليها وأكمل دراستها في النجف الأشرف معتمدا على ما كتب عن جده الشاعر السيد سليمان الكبير ، ويضيف هناك بعض المصادر تقول أنه درس علوم العربية وأتقنها ، ودرس الفقه ، كما درس الطب وتضلّع به وصنف فيه ، وبعودة السيد سليمان الكبير الى الحلة الفيحاء أثار فيها الحراك الثقافي والمعرفي ، ومما ينسب اليه ( خلاصة الأعراب ) التي يقول عنها الباحث محمد علي اليعقوبي أنها صغيرة الحجم كبيرة الفائدة رتبت على مقدمة وفصول أربعة وخاتمة ، وهي من أحسن ما كتب في العربية على أوجز طرز وأسهل أسلوب مدرسي كتبها لتلامذته وكنى نفسه بأبي عبد الله سليمان بن داود الحسيني ، ويعارض هذا الرأي الشيخ أغا بزرك الذي نسب هذا الوجيز في الأعراب الى حفيده السيد سليمان الصغير ، ويرى محقق الديوان صحة ما ذهب اليه الشيخ أغا بزرك ، ومن آثار السيد سليمان هذا الديوان الذي نحن بعرضه ، ومجموعة من أحاديث نبوية في آل البيت (ع) أثبتها المحقق بمقدمة مخطوطة الديوان .
وفاته :
توفي شاعرنا المترجم له السيد سليمان الكبير سنة 1211 هجرية ، في الحلة الفيحاء وشيعه أهلها الى النجف الأشرف ، ودفن في الروضة العلوية المطهرة ، وصلى على جثمانه السيد محمد المهدي ، الذي لقب ببحر العلوم ، ورثاه جمع من شعراء جيله ، ومنهم الشيخ محمد رضا بن الشيخ أحمد النحوي قائلا
ألما على دار النبوة وأنشدا
بها من قضى لما قضى الدين والهدى
ورثاه الشيخ محمد علي الأعسم قائلا
لقد تضعضع ركن المجد وأنهدما
واليوم ثلم من الإسلام قد ثلما
ورثاه الشيخ مسلم بن عقيل الجصاني ، والشاعر الحلي محمد بن إسماعيل الملقب ببن الخلفة صاحب البند الشهير قائلا
بمن سرى الركب يفري مهمة البيد
وخداً ومخترق الصمِّ الجلاميد
ورثاه العالم الشيخ محمد بن نصار الشهير بكتابة الشعر الحسيني الشعبي والذي ينسب له ( وزن أو طور النصاري ) قائلا
لم تبك عيني من الأيام مفقودا
إلا التقي سليمان بن داودا
ورثاه جمع كبير من شعراء جيله وولده وأحفاده من الشعراء بقصائد غر لا تزل تحفظ من قبل أعلام هذه الأسرة الفاضلة .
أغراضه الشعرية ومختارات من شعره :
لا يمكن للباحث او القارئ أن يعد الشاعر السيد سليمان الكبير إلا شاعر ولاء لآل البيت الأطهار ، رغم وجود بعضا من النصوص التي تناول بها الشاعر الأغراض الشعرية الأخرى كالمديح والغزل والوجدانيات والأخوانيات والهجاء الذي خص به مبغضي رسول الله وآله الأطهار ، وكتب الشاعر بهذه الأغراض كلها ، إلا أنه لم يثبتها لتبقى للدارسين والمتتبعين لهذا الشاعر الكبير ، وليس استنتاجي هذا شخصيا بل مما أورده شاعرنا المترجم له أبياتا بهذا الخصوص يقول فيها
جبل الفؤاد على حقيقة ودكم
وعلى سواه وحقكم لم يطبع
مالي سواه وقد رأيت بغيره
عمل الخلائق صالحا لم ينفع
مدح شاعرنا المترجم له الرسول الأعظم محمد ( ص ) بقصيدة عصماء ومنها
نبي يريك البخل في البحر جوده
وأنواره دانت لهن بدورها
أهل بعد مدح الله يحتاج مدحة
فيكفيه (يس) و (طه) و(طورها)
وأنجيل عيسى جاء أعدل شاهد
وتوراة موسى شاهد وزبورها
ودان جميع الأنبياء لفضله
ولولاه لم تبعث ولم يبد نورها
وله بمدح أمير المؤمنين علي (ع)
هو الآية الكبرى أمام ذوي النهى
هو العروة الوثقى رقى أي غارب
وكرس مترجمنا جل شعره لمدح ورثاء الأمام الحسين ( ع ) وصحبه الأبرار شهداء طف كربلاء
يا سيدا ثلت بيوم مصابه
أركان دين الله عند نعائه
ورغم هذا وذاك ، فقد وجدت في ديوانه المحقق نصوصا ينح بها الشاعر صوب الشعر الجاهلي ، وشعر صدر الإسلام ، التي يبدأ شعرائها بالتغزل ثم يذهبون للغرض المراد الوصول له كقصيدة الشاعر ( كعب بن زهير بن أبي سلمى ) التي مدح بها الرسول الأعظم محمد ( ص ) التي يقول مطلعها
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم أثرها لم يفد مكبول
وغزل السيد سليمان الكبير غزل شفاف لا يعتريه الفحش ولا المجون وألفاظه سلسة تطرق شغاف القلوب وله هذه الأبيات
مرت تميس كميس غصن مثمر
وعليه يزهو وجه بدر مبدر
ظعنت وقد طعنت برمح مهجتي
فظللت بين ممرض ومحسر
وسمت وقد وسمت بسهم لبتي
فغدوت بين محسر ومحير
نفرت وقد ظفرت بقلب متيم
صب يردد حسرة بتزفر
سكرت وقد شكرت عظيم توجدي
هجرت وقد جهرت بطول تكدري
ونلاحظ الجناس والطباق والمرادفات اللفظية جلية في مقطوعته الغزلية المصنوعة كما أراها ، مع ملاحظة أن القصيدة بكاملها ، وهي طويلة ، بنيت وهي تخلو من حرف الألف .
وخمّس قصيدة الشيخ رجب البرسي الرائية العصماء بمدح أمير المؤمنين علي ( ع )
أعيت صفاتك أهل الرأي والنظر
وأوردتهم حياض العجز والخطر
أنت الذي دق معناه لمعتبر
( يا آية الله بل يا فتنة البشر
يا حجة الله بل يا منتهى القدر )
---------------------------------

الجمعة، 11 نوفمبر 2011

نهرا دجلة والفرات-علي بابان، وزير التخطيط العراقي السابق


نهرا دجلة والفرات

علي بابان، وزير التخطيط العراقي السابق

عندما جئت أكتب مقالي هذا عن إنحسار دجلة و الفرات و النتائج الكارثية التي ستترتب على ذلك فكرت بعنوان ( سيناريو يوم القيامة في العراق) و لكني خشيت أن ألمس رمزا مرتبطا بالعقيدة أو أن اتهم بأثارة اجواء التشاؤم ثم استبدلت العنوان بـ ( العراق..الزلزال القادم) و لكني وجدته لا يقل تشاؤما عن سابقه ثم وقع إختياري على ( البكاء عند أنهار تحتضر ..) .
هذه السطور ليست مرثية لدجلة و الفرات و لكنها جرس إنذار للعراقيين جميعا ليدركوا بشاعة السيناريو الذي نسير بأتجاهه و نتائجه الخطيرة على جميع مناحي حياتنا..هذا السيناريو لم يعد بعيدا عنا بل بات قريبا فما يفصلنا عن عام 2040 أو 2035 ليس سوى سنوات قصيرة لا تعد شيئا في عمر الأمم و الشعوب.
يشخص علم النفس الحديث حالة مرضية إسمها ( إلالقاء في اللاوعي) و مفهومها أن الفرد عندما يقع في مشكلة أو يصاب بمرض و يعجز عن المواجهة و العلاج أو يتهرب منها فأنه يسقط ذلك كله من وعيه و يلقيه في دائرة اللاوعي أو منطقة التجاهل و النسيان ..و يبدو أن بعض المجتمعات مصابة بنفس الداء فهي تتهرب من مسؤولياتها ..و تدفن رأسها في الرمال إزاء المخاطر المحدقة بها ..و تظهر قدرا خطيرا من اللامبالاة و عدم الإكتراث تجاه مصائب جلل تحدق بها..هذا ما نفعله نحن العراقيون بالضبط إزاء مخاطر إنحسار دجلة و الفرات و إذا كان من غير الممكن تصور أن أي إنسان يبقى صامتا تجاه إنسان آخر يقبل و في يده موسى لكي يقطع شرايينه..فأن الذي حدث أن دولة العراق و الرأي العام العراقي بقوا صامتين لعقود على عمل هو اشبه بقطع شرايين الدم عن الكيان العراقي.
إذا كانت مصر هي هبة النيل فأن اسمها كدولة لم يستمد من ذلك النهر كما حدث في العراق الذي عرف (ببلاد ما بين النهرين) و (ميسوبوتاميا) في التاريخ القديم، و ليطلق عليه لاحقا العراق و بلاد الرافدين، إذن فالنهرين العظيمين هما و العراق ككيان صنوان لا يفترقان و عندما يغيب النهرين أو يضمحلا يصبح العراق بمفومه المعروف و المتداول موضع تساؤل ، فالنهرين هما مقومات وجود بالنسبة للعراق و ليسا مجرد مقومات رفاه..أو قوة يمكن تعويضها ، و العراق من غير دجلة و الفرات لن يكون ذلك الوطن الذي نعرفه..كما لن يكون ذاك العراق الذي عرفه التاريخ.
منظمة المياه الأوروبية و هي منظمة فنية ذات مصداقية توقعت جفاف نهر دجلة بالكامل في عام 2040 ولا نظن أن هذه المنظمة معنية بنشر التوقعات المفزعة أو ترغب بأساءة علاقة العراق بجيرانه..أما الفرات فلا يبدو انه بحاجة إلى المزيد من التنبؤات السيئة فواقعة الحالي ينبئ عن مصيره القريب فلقد غدا مجرد جدول شاحب اللون في مدننا العطشى..ولا يصعب على من يقرأ الأرقام أن يكشف حجم الكارثة ولا النتيجة التي سنصل إليها في غضون سنوات معدودة.
كثيرون يتوهمون أن إنحسار النهرين سوف لن يتعدى في تأثيراته أوضاع الزراعة ولا يدركوا أن خارطة العراق الحضرية ستتغير بالكامل ..مدن و حواضر ستختفي أو ستكون في حكم الميتة و إن تشبثت بالحياة..و مدن ستنمو نموا سرطانيا و ستحاط بأحزمة الفقر و مساكن الصفيح ..ستتعاظم ظاهرة ترييف المدن بكل ما تحمله من نتائج خطيرة سياسيا و إجتماعيا..و ستتقافز نسب الفقر و البطالة و الإصابة بالأمراض ..و يعشعش الجهل و التطرف و يضرب جذوره..هذا الذي نقول ليس سيناريوها تشاؤميا نبتكره من مخيلتنا و لكنه النتائج المؤكدة للأرقام التي بين أيدينا اليوم و لتطور و نمو هذه الأرقام بفعل الزمن من خلال دراسة منحنياتها و مساراتها.
عام 2040 و هو العام الذي تذكر الدراسات أنه سيشهد جفاف دجلة ( حيث يكون الفرات قد سبقه لذلك) سيكون عدد سكان العراق بحدود الـ 75 مليونا..فمن سيدبر غذاء هذا العدد من السكان..؟؟ و كم ستكون حصة الفرد الواحد من المياه..و من الأرض الزراعية ..؟؟.. إذا كنا اليوم ( و دجلة و الفرات على الوضع الحالي ) قد دخلنا ضمن دول الفقر المائي بحصة مياه تقل ألف متر مكعب للفرد الواحد ( مع تفاوت طفيف في التقديرات) و إذا كان العراق يخسر سنويا ما بين مائة إلى مائة و خمسين ألف دونم من أرضه الزراعية بسبب الجفاف و التصحر ..و مع استمرار الدول المجاورة و على رأسها تركيا بتنفيذ مشروع ( الغاب) الذي يتضمن إنشاء 22 سدا و بسعة خزن تتجاوز 155 بليون متر مكعب من المياه و أن سد ( أليسو ) المقام على نهر دجلة سيحرم لوحده العراق من ثلث اراضيه الزراعية فأنه بهذه المعطيات لا يصعب علينا أن نتصور الصورة القادمة و ( القاتمة )..عراق تعاني مدنه و زراعته العطش و الجفاف و يحصل مواطنه على حصة فقيرة من المياه لا تسد رمقه و احتياجاته و اقتصاد يعجز عن توفير لقمة الغذاء لل75 مليون عراقي حتى لو وجه عائدات النفط كلها لإطعام مواطنيه..سيكون هناك صراع داخلي شرس على موارد المياه يضيف تهديدات إضافية للكيان العراقي و يزيد من عوامل إنقسامه و تفتته ، سيبرز مجددا ما يعرف في العراق بصراع ( الصدور و البزايز) حيث ستحرص المحافظات التي تستلم الإيرادات المائية اولا ( الصدور) على أن تحتفظ بتلك الإيرادات المتناقصة اصلا لإستخداماتها فيما ستعترض محافظات ( البزايز) على ذلك و تتفاقم فيها المشكلة و الحاجة إلى المياه.
يعلمنا علم الإجتماع السياسي بأن نشوء أولى الدول التي عرفها العالم على ضفاف الأنهار في الحضارات القديمة ( مصر و العراق ) جاء بفعل حاجة الناس إلى حكومات قوية تتولى عملية توزيع حصص المياه فيما بينهم و منع التنازع حولها و من هنا قامت الحكومات التي تحولت لاحقا إلى ديكتاتوريات و تأليه للحاكم صنعه الناس بأرادتهم لحاجتهم إليه و لذلك نشأت في التاريخ ما عرف بظاهرة ( الفرعونية ) أو ( تفرعن الحاكم..) و من هنا لا بديل للعراق عن مركزية (إدارة الملف المائي) و ( إدارة الملف النفطي) لأنه في غياب هذه المركزية ستحصل الفوضى و النزاعات وصولا إلى ( الصوملة).
العراقيون القدامى تعاملوا مع الأنهار و نظروا لها بقدسية فقد كانت مصدر رخائهم و مبعث الحضارات التي شادوها و كان البابليون يعتقدون أن الفرات إلها و حينما يغضب على رعيته يعاقبهم بالطوفان و كانت هذه الرعية تنذر إليه و تتضرع له لئلا يغضب عليها و قد عثر على رقم بابلي فيه خطاب موجه إلى نهر الفرات جاء في: (أيها النهر يا خالق كل شيء ، حينما حفرتك الآلهة العظام قد اقاموا أشياء طيبة على شطآنك و أنعموا عليك بفيض من المياه لا نظير له و النار و الغضب و الجلال و الرهبة، انت الذي تقضي بين الناس).
و عندما جاء الإسلام و أشرقت أنواره على هذه الأرض تنزلت سور القرآن لترسخ في وجدان المسلم ارتباط المياه بالحياة بكل انشطتها و مظاهرها و أن فقدان المياه يعني فقدان الحياة (وجعلنا من الماء كل شيء حيا) و الماء هو الذي يحيي (البلدة الميتة) و مثل هذه الصورة و المعاني مبثوثة في سور التنزيل بما يكرس قانون الترابط بين حياة المدن و المياه. والنبي صلى الله عليه و آله و سلم يذكر نهر الفرات كأحد أنهار الجنة وفي حديث آخر يشير إلى أنه سينحسر عن كنز من الذهب .

لو جئنا ندرس الجغرافيا السياسية للعراق (الجيوبولتيكا) نجد أن هناك ثلاث حقائق كبيرة تطل برأسها أو لنقل (ثلاث نقاط ضعف) واضحة تبرز للعيان ..أولها أن معظم أنهار العراق أو إيراداته المائية تأتي من خارج أرضه ..ثانيها..أنه لا يملك إطلالة واسعة على البحر، وثالثها أنه محاط بجيران أقوياء هما (تركيا و إيران) ..هذه الحقائق أو نقاط الضعف ينبغي لها على الدوام أن تبقى أمام أنظار من يخطط لنظرية الأمن الوطني للعراق أو لمن يرسم سياسته الخارجية لكي يضبط بوصلة تحركه باتجاهها أو باتجاه تلافي و تقليص تأثيراتها الضارة، أحد مؤسسي الدولة العراقية الحديثة وهو السيد نوري السعيد رئيس الوزراء الأسبق رحمه الله، والذي يعتبر ابرز سياسيي الحقبة الملكية كان على ما يبدو واعيا لأهمية دجلة و الفرات (للبعد المائي) في الإستراتيجة الوطنية العراقية ولذلك نراه يولي وجهه شطر تركيا و إيران و يسعى لإقامة تحالف إستراتيجي معهما و الذي ابتدأ بإتفاق مع تركيا باسم الميثاق التركي - العراقي عام 1955 ثم تبلور إلى حلف بغداد الذي ضم إيران و باكستان لاحقا بعد فترة قصيرة ، لا أظن أن دجلة و الفرات و ضرورة تأمين مواردها من خلال علاقة طيبة مع جيرانه كانت غائبة عن فكر و دوافع ذلك السياسي العراقي المخضرم الذي اختلف العراقيون كثيرا حول شخصيته وسياساته و لقى معارضة كبيرة من مصر الناصرية وقتها التي رأت أن عراق نوري سعيد سيكرس زعامته للعالم العربي على حسابها.
مصر التي تعيش وضعا مائيا يشبه إلى حد كبير حال العراق من حيث كون نهرها ينبع من خارج أرضها ومن حيث إقتران حضارتها و إزدهارها بالنيل ، تعاملت سياستها الخارجية بكفاءة أكبر مما عملنا نحن في العراق فيما يتعلق بالملف المائي وكان النيل باستمرار أحد موجهات سياستها الخارجية و من أهم عناصر تشكيلها ، الرئيس عبد الناصر تحدث في كتابه فلسفة الثورة عن ثلاث دوائر للسياسة المصرية وهي الدائرة العربية و الدائرة الإسلامية و الدائرة الإفريقية و لم يتردد في الإفصاح عن سبب الاهتام بافريقيا هو النيل الذي ينبع من أرضها، الدبلوماسية المصرية نجحت في وقت مبكر من القرن المنصرم في عقد الإتفاقيات مع الدول المتشاطئة على النيل و التي تعد عشرة دول و ذلك لكي تضمن حصة الأسد من إمداداته لا بل أنها نجحت في أن تمنع أي دولة على النيل من القيام بأي مشروع عليه و أن تحظى بحق الفيتو على ذلك لكن هذا الوضع بدأ بالتغير بالسنوات الأخيرة بسبب تحسن وضع الدول الأفريقية المتشاطئة مع مصر من الناحية السياسية والإقتصادية و تنامي حاجاتها لمياهه و تأتي اثيوبيا على رأس هذه الدول.
منذ عهد رئيسي وزراء تركيا سليمان ديميريل وتورجوت اوزال في ثمانينات القرن الماضي و ما بعده في حقبة التسعينات سارت تركيا بخطى واسعة على طريق إقامة المشاريع على نهري دجلة والفرات علما أن فكرة مشروع ( الغاب) التركي تسبق حقبة هذين السياسيين، كان سليمان ديميريل يرد على اعتراضات العراق و سوريا بالقول أن هذين النهرين ينبعان من أرضنا و هما ملك لنا كما ان النفط الذي هو في أرضهم ملك لهم، أما تورجوت اوزال فكان صاحب نظرية ( كل برميل ماء ببرميل بترول).
و السؤال الذي يبرز هنا هو أين كانت الدولة العراقية وأين رد فعلها عندما كان مشروع الغاب في بواكيره..؟؟ الجواب هنا بكل وضوح أن الدولة العراقية ومنذ مطلع الثمانينات موضوعة في ( غرفة الإنعاش) و مصيرها معلق بين السماء و الأرض..فهي إما منغمسة في حرب ضروس كما حدث مع إيران في الأعوام 1980 -1988..و إما قابعة تحت حصار دولي غاشم طيلة حقبة التسعينات و حتى عام 2003..أو دولة تحت الاحتلال ومجتمعها تعصف به الحرب الأهلية والإنقسامات .
ضعف الدولة العراقية اغرى دول الجوار للإقتئات على حقوق العراق المائية ولا زال يغريها بالمزيد طالما بقى الإنقسام ..و الصراع يفتك بالمجتمع العراقي و يكبل يد الدولة عن حماية حقوق العراق و الدفاع عنها..ساسة العراق منشغلون بفرعيات المسائل ..و هوامش القضايا عن عظائم الأمور..و التحديات الخطيرة و الكبيرة التي تحدق بالكيان العراقي، الدولة العراقية بكل صراحة وفي ظل الوهن الذي يستشري في مفاصلها بسبب الخلافات السياسية أعجز من أن تسلط ضغطا على أية دولة من دول الجوار من أجل حماية حقوقنا في دجلة و الفرات..كأني بتلك الدول التي ترقب ضعفنا و انقسامنا و ترسل لنا مياه بزلها أو فضلات المياه التي استخدمت في الري على أرضها تردد قول الشاعر الجاهلي عمرو ابن كلثوم حين يقول:
و نشرب إن وردنا الماء صفوا..
و يشرب غيرنا كدرا و طينا
أما العراقي فهو بدوره يردد أبياتا للشاعرالمصري حافظ إبراهيم حين يشكو
أمن العدل أنهم يردون
الماء صفوا و أن يكدر وردي
أمن الحق انهم يطلقون
الأسد منهم و أن يقيد أسدي

و هذا هو حال العراقيين اليوم ..أسود عاجزة عن الحركة والدفاع عن مصالح وطنها بعد أن انهكتها الصراعات و الأحقاد الداخلية و أطاحت بكيانها الإنقسامات والتنافسات و هو مما لا نراه في أي دولة حيث لا يمكن لصراعات السياسيين أن تمنع الإتفاق على حماية المصالح العليا للمجتمع ولا يمكن لأي خلافات فيها أن تتجاوز خطوطا حمراء عندما يتعلق الأمر بأمن المجتمع و حقوقه الأساسية و مستقبل مواطنيه .
التفريط ..و الإهدار ..و المظلومية هي العناوين الكبرى والعريضة لحياتنا نحن العراقيين..فيما بيننا وفي داخل مجتمعنا من جهة ..و فيما بيننا و بين المجتمع الخارجي بأقاربه و اباعده من جهة آخرى..
لا أجد ما اختم به هذه السطور سوى أن اقتبس من كتاب ( ميزوبوتاميا- موسوعة البيئة العراقية) التي أشرف على كتابته نخبة من العلماء و الخبراء العراقيين و أعده السيد سليم مطر، ففي مطلع الكتاب تجد و تحت عنوان ..إلى أجيال العراق القادمة:
(اغفروا لنا خطايانا بحقكم، إذ نورث لكم بيئة بلادنا الخربة، ضيعنا النفط أكبر ثروات و مكارم بيئتنا في حروب و مشاريع طائشة، تركنا أنهارنا و اهوارنا تجف، وهوائنا يتلوث بالأشعة والسموم القاتلة ، و مزارعنا و بساتين نخيلنا الباسق تضمر، و آثارنا و أراضينا تصبح مقابرا للقمامة والألغام و الأسلحة الفتاكة .لكننا رغم كل هذا نمتلك كل الثقة والأمل في خصب النهرين الخالدين وأرواح أسلافنا صانعي الحضارات العظيمة هي التي ستبقى إلى الأبد تغذي شعلة الحياة و الخلاص في الأجيال القادمة، فتموز مهما عطش و مات، إلا أنه لن يكف عن الإنبعاث من جديد حاملا الحياة و الخصب و الخضرة إلى بيئتنا )) انتهى الأقتباس.

يا ترى هل ستقبل الأجيال القادمة من العراقيين هذا الاعتذار ..؟؟
و كيف سيكون حال تلك الأجيال عندئذ..؟؟

شعوب وأديان وأوطان ، هل نحن أمة مثل بقية ألبشر؟


شعوب وأديان وأوطان ، هل نحن أمة مثل بقية ألبشر؟
طعمة ألسعدي / لندن 08 11 2011
www.t-alsaadi@yahoo.co.uk
ألحلقة الأولى
لن يستطع أحسن أطباء ألعالم ، مهما بلغت عبقريته، من علاج ألمريض إذا لم يشخص ألمرض أولا". كما أن المريض لن يشف من مرضه إذا لم يأخذ ألعلاج اللازم ألذي وصفه له ألطبيب . ونحن شعب تفتك به الأمراض ، فتمزقه وتقتله على يد أبنائه ، وتدمر ألوطن بأيدي مواطنيه وليس أعدائه ، ولا نحرك ساكنا" طلبا" للشفاء وألعافية ، فما سبب ذلك؟
لنكن صريحين وصادقين أمام ألله أولا" ، وأمام أنفسنا ثانيا" في محاولتنا رصد بعض جذور أمراضنا وعللنا وأدواتها وأسباب تفرقنا وكره بعضنا بعضا"(وليس كلٌنا كلٌا") بدرجات متفاوته . أو عدم قبولنا الآخر بسبب ألثقافة ألمتجذرة في نفوسنا وورثناها من (سموم) نشرها بعض ألمتطرفين من علماء ألجانبين قبل قرون عديدة ، أو أشباه ألأميين ألذين كانوا مصدر ألمعلومات ألدينية الأول للناس الأميين ألجهلة بشكل عام ، حيث حرم ألحكم ألعثماني ألبغيض ألعراق من ألمدارس وألتعليم الحديث حتى سقوط إمبراطوريتهم غير مأسوف عليها على يد ألحلفاء في عام 1918 ، ثم نشر الإنكليز (ألحكام ألفعليين للعراق) ألمدارس ألحكومية ألتي أتاحت لأبناء ألمواطنين الدراسة المجانية بعد أن كانت ألمدارس أهلية وشبه مقتصرة على مدارس أليهود وألمسيحيين . وتم تأسيس أول كلية طبية عام 1927 بفضل جهود سندرسن طبيب العائلة ألمالكة . وبعد سيطرة ألحكم ألعلماني ألأتاتوركي على تركيا تنكر أتاتورك لكل ما هو عربي بما في ذلك إستعمال حروف اللغة ألعربية ، لغة ألقرآن ألكريم . ولم يميز ألحكم ألأتاتوركي في عدائه للعرب بين عربي سني أو عربي شيعي ، بعد أن كانت (دولة ألخلافة ألإسلامية) منحازة بتعصب للسنة ومضطهدة للشيعة بقسوة حتى جعلوهم مواطنين من الدرجة ألعاشرة . وكانت ألوظائف ألحكومية محرمة عليهم في ألولايات ذات الغالبية ألشيعية ، وفضلوا عليهم أليهود والمسيحيين ، وكان عليهم ألمساواة بين مواطني الدولة بطبيعة ألحال. كما حرموا ألشيعة من دخول ألكليات ألعسكرية ألتركية ، لكنهم لم يتركوا شيعيا" دون تجنيده للدفاع عن دولتهم خلال ألحرب ألعالمية الأولى . ومن ألجدير بالذكر أن ألكثير من ألشيعة ألذين لم يجندوا في الجيش ألنظامي ألتركي ، خرجوا بملء إرادتهم لمقاتلة ألجيش ألبريطاني ألكافر في جنوب ألعراق دفاعا" عن (ألدولة ألإسلامية) بقيادة رجال ألدين ألشيعة ألمضطهدين ، ولم يفعل غيرهم ذلك. وفقدنا عمي الأكبر في ألحرب في مكان ما من الإمبراطورية ألعثمانية وهرب آخران ونجاهما ألباري عز وجل مع بعض الأقارب ألذين كانوا يقصون علينا ويلات ألحرب وألهروب من ألجبهة. وألغريب أن يقوم مؤسسوا ألجيش ألعراقي في ألعهد الملكي ، وكانوا جميعا" ضباطا" في الجيش ألعثماني ، وإنقلبوا عليه وتعاونوا مع جيش ألحلفاء (ألكافر بلغة متطرفي هذا الزمان) كطارق ألعسكري ونوري ألسعيد وياسين الهاشمي وجميل المدفعي ومولود مخلص وغيرهم من ألضباط ألعراقيين حيث خدعتهم بريطانيا بوعودها الكاذبة للشريف حسين بإقامة دولة عربية كبرى تشمل شبه جزيرة العرب وألعراق وبلاد ألشام وبضمنها فلسطين بقيادة الشريف حسين بن علي شريف مكة وملك ألحجاز فيما بعد*، فحنث هؤلاء ألضباط بقسمهم بالولاء للإمبراطورية الإسلامية ، وخليفة ألمسلمين ، لكنهم ساروا على نفس ألنهج ألذي سار عليه ألعثمانيون بحرمان ألشيعة من ألقبول في ألكليات ألعسكرية . وإذا قبل شيعي في ألكليات والأكاديميات ألعسكرية بعد إنقلاب عام 1958، فيبقى ذلك ألضابط ألشيعي مضطهدا" من ألجانب الآخر ألذي يحتكر ألرتب العليا ، ويمنع من ألحصول على أي إمتياز أو بعثة أو أي شيء مفيد آخر ، ناهيك عن قيادة الألوية وألفرق وألفيالق ، فكل ذلك للسني ألذي يحمل ألرتب ألعليا دون ألشيعي عدا إستثناءات نادرة . وختمها صدام حسين بإحالة 150 ضابطا" شيعيا" ممن دخلوا ألكلية ألعسكرية في ألعهد ألجمهوري ، على ألتقاعد بعد شن الحرب ألجنونية على إيران بوقت قصير ، وكانو برتب تتراوح بين عقيد ركن وعميد ركن ومنهم أحد زملاء وأصدقاء وزير ألدفاع آنئذ عدنان خير ألله طلفاح في كلية الأركان ، وإسمه علي فاضل عباس شاهين** ، وكان بعثيا" قياديا" في ألمكتب ألعسكري للحزب كأكثر ألضباط الآخرين (وجريمتهم أنهم شيعة ولم تشفع لهم بعثيتهم بسبب ألتمييز ألمقرف ، فما أجمل شعارات ألبعث ألقومية !). ثم حرم صدام ألضباط ألشيعة من ألوصول إلى رتبة لواء (بصفته ألقائد ألعام للقوات ألمسلحة وحامل أعلى رتبة عسكرية دون خدمة في ألجيش) ، فتتوقف رتبة ألشيعي ألعسكرية عند رتبة عميد (زعيم في ألعهد ألملكي) فهل سيرقص ألضابط ألشيعي فرحا" بهذا ألغبن وألظلم ألفاحش ألذي يسلطه عليه أخوه في ألدين والوطن وفي أغلب الأحيان في ألعشيرة أيضا"؟ فبهذه ألتفرقة يكون ضابط جبوري شيعي مغضوب عليه وإبن عمه ألجبوري الآخر ألسني مدللا" للحكومة ، وينطبق ذلك على ألعبيديين وألجنابيين وكل ألعشائر الأخرى!!!! إذا أردت أن يدوم حكمك فأحكم بين ألناس بالعدل وألمساواة ، وعامل جارك بالحسنى ليرد عليك بالمثل ، وبعكسه فإن ألنار ألتي تحت ألإبريق أو ألإناء ستجعل ألماء ألذي يملأه يغلي ، وإن لم يجد بخاره منفذا" سينفجر ويؤذيك ويؤذي من حوله دون أدنى شك. وتنطبق هذه ألقاعدة على ألجميع سابقا" ولاحقا".
كان هذا ظلم في ألجانب ألعسكري حتى كان يقال في ألناصرية وغيرها : ضباطنا من ألموصل وألمنطقة ألغربية وألعرفاء ورؤسائهم ونواب ألضباط من الناصرية ، وينطبق ذلك على ألمحافظات ألشيعية ألأخرى. أما في ألجانب ألمدني فكل ألمحافظين من تكريت أو ألدور أو ألموصل أو الأنبار . ولم يتم تعيين محافظ في وسط ألعراق وجنوبه من أبناء ألمحافظة نفسها ، بل حتى قائم مقام ألقضاء في ألمناطق ألشيعية كان يؤتى به من ذات الأماكن المذكورة أعلاه . ولم يقتصر ألتمييز على هذه ألمناصب بل شمل ألسفراء والوزراء والمدراء العامين ووكلاء ألوزراء وكل وظائف ألدولة الأخرى ، أما رئاسة ألوزراء أو ألدولة فهذا حلم مستحيل ألمنال للشيعي. ثم يتبجح قادة ألبعث قبل ألتحرير وبعده أن في حزب ألبعث نسبة كبيرة جدا" من ألشيعة ، دو أن يذكروا ويتذكروا أن مؤسسي فرع ألحزب في ألعراق ألحقيقيين هم ألشيعة وتم إستئصالهم كقيادة فردا" فردا" إبتداء من فؤاد الركابي ألذي قتل في سجنه في بعقوبة. فكان ألبعثيون ألشيعة مثل نواب ضباط ألناصرية ، ألقيادات ألعليا في القيادة ألقومية والقطرية وأعضاء ألفروع من ألعوجة ، تكريت ، ألدور ، ألموصل وغيرها وألدرجات ألسفلى للشيعة لإستعمالهم كأدوات قمعية ضد مواطني محافظاتهم وأبناء بلدتهم في وسط العراق وجنوبه . ولا يحتاج ألتكريتي أكثر من عام أو عامين ليصبح عضوا" في ألحزب ، بينما يبقى إبن ألوسط وألجنوب (يكتب ألتقارير ) من درجة صديق ، ثم مؤيد ، ثم نصير ونصير أول ولا يرشح للعضوية إلا بعد أن يكتب ألتقارير على أقرب أقربائه وبعد سنين طويلة. هؤلاء ليسوا بعثيين ، بل عبيد وأدوات قمع وإضطهاد لدى قيادة ألحزب ألتي أختصرت بشخص واحد إسمه صدام حسين يساعده إخوته وأقربائه المقربين بالدرجة الأولى ألذين بإمكانهم ضرب عضو قيادة قومية بالأحذية وهو صاغر لا يستطيع قول كلمة واحدة، ثم قيادات من ألمناطق ألمذكورة سابقا" (وهم لا يحلون ولا يربطون) كما يقول ألمثل ألشعبي ألعراقي.
ألأسباب ألدينية للعداء بين المذهبين:
لعب ألروزخونيون والملالي من محدودي ألمعرفة بإصول الدين دورا" تخريبيا" هائلا" في بذر وزرع ألطائفية بين أبناء ألشعب طوال ألفترة ألمظلمة ألمتمثلة بالحكم ألعثماني. فبمجرد كون شخص ما يجيد القراءة وألكتابة لاغيرها كان يطلق عليه إسم (مله بضم ألميم). وكان هذا ألمله يحتل مركزا" مرموقا" بين الناس لأنه معلم لمن يريد تعلم القراءة وألكتابة على طريقة أبجد هوز ألمتخلفة ، وهو من يقرأ ألرسائل التي ترد لأبناء منطقته أو قريته ، والأنكى من ذلك قد يكون هو من يعلمهم إصول ألدين ، وهو لا يعرف إلا ألنزر أليسير جدا" من أموره وعلومه ، نيابة عن العلماء (ألعظماء) ألذين لا يبرحون مقراتهم إلا للصلاة في ألمساجد ألقريبة أو أضرحة الأئمة عليهم ألسلام ، وغالبا" ما تكون أدمغة هؤلاء ألملالي ألذين يئمٌون ألناس في ألصلاة ملآى بالبدع وألخرافات . وقالت لي بنت أحدهم عندما كنت طفلا في السادسة أو ألسابعة من عمري ، وكانت هي بعمر والدتي أو أكبر، أنٌ ألعباس بن علي عليه السلام كان يقتل عشرة آلاف فارس من جيش يزيد في كل ضربة سيف. وكانت لوحة مؤطرة للعباس حاملا" سيفه ألمضرج بالدماء وهو على فرس رافع رجليه الأماميتين في وضع قتال تتصدر بيتهم . لا أنكر شجاعة ألعباس ع وإستبساله وبطولته ألمميزة كجميع أصحاب ألحسين عليه ألسلام في موقعة ألطف ، لكن ألمبالغة ألمذكورة تدل على مدى جهل وغياب ألوعي عند الناس ألذين يتلقون ألمعرفة من ألروزخونيين بحيث يصدقون أساطير كهذه.
كان هؤلاء ألملالي ، في ألجانبين ، ولا زال بعضهم ، موقدين لنار ألطائفية بتحيزهم الأعمى لمذاهبهم بحيث كان بعضهم يحقر مذهب الآخر ويتهمه بالكفر باطلا" لعدم إدراكه وفهمه أن ألمذهبين مشتركين ومتفقين تماما" في أساسيات ألدين بداية بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا" رسول ألله ، وألقرآن ألكريم ألموحد وألوحيد ألذي لا يختلف بين شيعي وسني ، ثم العبادات من صوم وصلاة وحج وزكاة وألجهاد الأكبر ألمتمثل في بناء ألعائلة وألمجتمع وألدولة وحمايتهما من ألغزاة وألطامعين ونشر ألدين الإسلامي بصورة متحضرة على قاعدة ألحكمة وألموعظة ألحسنة ألتي أمرنا بها الباري عز وجل.
وأذكر مثلا" على مدى ألحقد وتغلغل الأفكار والخرافات بين ألفريقين حصل لي شخصيا" في صيف عام 1966 عندما كنت أعمل مسؤولا" هندسيا" وإداريا" في مقاولة إنشاء شارع ألسايلو في ألبصرة في منطقة ألجبيلة ، قرب مقر شركة نفط ألبصرة سابقا" ومقابل مركز تدريب البصرة آنئذ. كان ألمقاولان اللذان أحيل إليهما تنفيذ المقاولة هما ألمهندس فاضل الصفار ويحمل ماجستير في هندسة الطرق من أميركا (شيعي) وإبراهيم ألسهيل ألجميلي (سني) ، غني جدا" لكنه محدود ألثقافة وألتعليم*** ، وكان قريبا" لعبدالسلام عارف فجلب عمالا" من ألرمادي للقيام بأعمال ألحجر ، وسيارات (لوريات) وسواقها أيضا" لنقل ألحجر ألذي كان يجلب من جبل سفوان (أرجو أن لاتكون الكويت إبتلعته كما إبتلعت أراض عراقية شاسعة). كنت جالسا" في أحد ايام تموز في موقع ألعمل وكان بجانبي أحد الإخوة العمال ألدليم (جميلي ، إسمه خلف) فأخذ يتكلم عن ألشيعة دون علمه أنني شيعي فإتهمهم بتهم كثيرة وكفرهم وأنهى كلامه أن للشيعي ذنب (ذيل) ، فسألته مبتسما" هل رأيته قال لا بل هذا مؤكد ، فسألته كم طوله؟ فقال مؤشرا" بيده بما يقارب خمسة عشر سنتيمترا" أو أكثر ، فسألته هل أنت متأكد؟ قال نعم ، وإذا لا تصدقني إسأل إمام ألمسجد . ولم أخرج له مؤخرتي ليرى طول ذيلي ، بل ضحكت في قرارة نفسي وحمدت ألله على أن ذيلي (ألمفترض) من ألممكن أن يختفي تحت بنطالي ، وبعكسه ستكون ألمصيبة عظيمة لو كان طوله نصف متر مثلا". ومرت أكثر من إثني عشر سنة على ذلك ، صرت خلالها مقاولا" ناجحا" ولدي أعمال حرة أخرى ممتازة وبخير وفير من فضل الله ، وبحكم العمل صادقت شخصا" عسكريا" متقاعدا" إسمه ألمرحوم يوسف ياسين التكريتي (أبو حكمت) ، وهو عم عبدالفتاح الياسين عضو القيادة القطرية لحزب ألبعث آنئذ ووزير ألحكم المحلي ، او البلديات ، وهو (ابو حكمت) متزوج من تكريتية سنية تسكن في تكريت كان يقول عنها أنها أحسن جاسوسة في العالم متندرا" لكثرة تجسسها عليه وكان يقول : لديها جواسيس أكثر من جواسيس بريطانيا ألعظمى ، وأخرى في بغداد أصغر من الأولى وهي شيعية (أم محمد، معلمة مدرسة) من إخوتنا الأعزة ألكرد ألفيليين وكانت إمرأة رائعة حقا" وبكت عليٌ بكاء" مريرا" حين عرفت أنني هربت من ألعراق لأسباب سياسية. قال لي أبو حكمت يوما" ، وشهادة لله أنه لم يكن طائفيا" إطلاقا" ، وكان يدين تصرفات صدام حسين وأمثاله، قال : كنت في ألشامية في محافظة ألديوانية في أوائل ألستينات لشراء ألرز وجلست في مقهى لشرب الشاي ، فسألني صاحبها : من أين أنت يا عماه ؟ من تكريت ، أجابه أبو حكمت. فقال صاحب ألمقهى : ها ، يعني أنت سني عندك ذيل. فقصصت عليه قصة خلف ألجميلي ألمماثلة معي ، لكن ضد ألشيعة.
ومن ألتهم ألتي تم إتهام ألشيعة فيها باطلا" وجود قرآن آخر لديهم غير ألقرآن الكريم سموه قرآن فاطمة ، وكأن فاطمة ألزهراء ع ألتي توفيت بعد وفاة أبيها بستة أشهر فقط ، أصبحت في ليلة وضحاها منافسة للرسول ص وأنجزت في نصف عام كتابا" بدل ألقرآن الكريم ألذي نزل في مدة دامت 23 عاما". يقولون ذلك لكنهم عاجزون عن كشف نسخة واحدة من ذلك ألكتاب طوال 14 قرن من ألزمان ، ولن يجدوه لسبب بسيط هو أنه غير موجود وكذبة كبرى.
لا يمكن إنكار أن ألتراث ألشعبي لدى ألفريقين مليء بالمغالطات وألأكاذيب وألإفتراءات ، فبعض ألشيعة ألجهلة يجهلون أن الإمام علي عليه ألسلام تجاوز موضوع الإختلاف على خلافة ألرسول صلى ألله عليه وسلم ، وكان في أحسن علاقة مع ألخلفاء الآخرين ، حتى أن عمر إبن ألخطاب إستخلفه على ألحكم نيابة عنه عندما ذهب ألى ألقدس ، بل سمى علي أبناءه بأسمائهم هو وأبناءه أيضا" فتجد بينهم عمر وابو بكر وعثمان (إستشهد مع الإمام الحسين في واقعة كربلاء) ولا يذكره ألمتخلفون بسبب إسمه متناسين أنه إبن أبي الأئمة عليهم ألسلام وشهيد كربلاء. وعلى جميع ألمسلمين تجاوز مثل هذه الإمور ألتي لا تفيد إلا ألأعداء وتساهم في إشعال نار ألتفرقة وألطائفية وهي من مخلفات ألحقبة ألمظلمة كما أسلفت. كما أن الإخوة ألسنة يبالغون في تكفير ألشيعة دون حق أو أساس طالما انهم يشاركونهم ويتطابقون معهم في أساسيات ألدين ويؤدون الشهادتين. إن إستخدام ألعقل وألحكمة وقبول الآخر هو ألطريق ألوحيد أمامنا ، وعلى مسؤولي ألتوجيه ألديني لدى الفريقين ألتقريب بين المذهبين بكل ما أوتوا من إمكانيات ، ومنع تكفير ألجانب ألآخر بكل ألوسائل ألممكنة ، وتهذيب ألتراث ألشعبي الديني من كل الأخطاء ألجسيمة ألتي غرسها ألمتخلفون في عقول ألناس طوال قرون طويلة من ألجهل وألتخلف. هذه أمانة في أعناقهم جميعا".
ولنتذكر أنه لا يمكن لأحد أن يزكي نفسه ويدعي أنه يمتلك ألحقيقة كلها ، فالله سبحانه عز وجل أعلم بعباده وهو وحده من يقرر مقدار ألحق لدى هذا الفريق أو ذلك ، لكن ألجميع مسلمون تعصمهم شهادة أن لا إله إلا ألله وأن محمدا" رسول ألله في أرواحهم واموالهم وأعراضهم . ونسأل ألله أن يهدي ألجميع إلى نبذ الخلافات وتجنب الإقتتال ألطائفي ألذي يسعى إليه ألخونة وعملاء الأجانب ، وأن يزرع في قلوبهم ألمحبة والإخوة وألرحمة وألشفقة على بعضهم بعضا" ، لينعموا بخيرات هذه ألبلاد متحابين متآزرين متساوين تماما" في ألحقوق والواجبات . ولله وحده ألحكم في الآخرة .
وسنكتب في ألحلقة ألتالية مزيدا" و أمثلة عن بقية شعوب العالم وأديانها إن شاء الله.
*كانت بريطانيا تمهد لتسليم الحكم لعبدألعزيز بن سعود ، وتدعمه سرا" بالمال وألسلاح من أجل ألقضاء على مملكة ألشريف حسين في ألحجاز ، ثم ألتنصل من وعدها بتأسيس الدولة ألعربية الكبرى لتنفيذ وعد بلفور بإقامة دولة يهودية في فلسطين، ومع ذلك بقي ألضباط ألعراقيون ألذين أسسوا ألجيش ألعراقي على ولائهم لبريطانيا ، أي أنهم إنقلبوا على ألأتراك اولا" ، ثم على ألشريف حسين حيث ترك وحيدا" فخسر ألحرب امام إبن سعود ألذي كوٌن دولة متطرفة متخلفة دينيا" تصدر الإرهاب لكل ألعالم، وتزعزع إستقرار بلادنا بدعمها للإرهابيين ألذين قتلوا عشرات ألآلاف من ألعراقيين سنة وشيعة.
** قلت لعلي فاضل عباس في خريف عام 1977 ، وكان برتبة عقيد ركن : كيف تقبلون أن يكون زميلك عدنان وهو عقيد ركن مثلك وزيرا" للدفاع ليرأس ضباطا" كبارا" مثل ألفريق عبدالجبار شنشل وغيره وألأدهى من ذلك يتم منح أعلى رتبة عسكرية لمدني هارب من ألخدمة (صدام حسين) فأجاب حرفيا" : قائد فذ مثل صدام ، ألا يستأهل أعلى ألرتب ؟ قلت له هذا تخريب وتدمير للعسكرية ألعراقية ومثلها وقيمها ، فلم يقتنع ، ثم لم يفده حبه لصدام عام 1981 لأنه شيعي.
*** زارني إبراهيم السهيل ألجميلي في مكتبي في عمان قبيل حرب عاصفة ألصحراء ، وتحدثنا عن إحتمالات ألحرب ، فقلت له هي آتية لاريب في ذلك بسبب عناد صدام ، وأميركا من ألقوة بحيث بإمكانها تدمير العراق وتحويله إلى ركام بإستعمال ألصواريخ ألموجهة بدقة إلى أهدافها بفضل الأقمار ألصناعية والأجهزة ألمتطورة في صواريخها بحيث لا تخطئء ألهدف فقال: ألا يمكننا إسقاط الأقمار الصناعية بمدفعيتنا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فخطر ببالي ألعبقري حسين كامل.

الخميس، 10 نوفمبر 2011

قصة قصيرة-أخطاء الإمبراطور وعظمته-عادل كامل

قصة قصيرة

أخطاء الإمبراطور وعظمته

عادل كامل

منذ قرن ، لم يصدر مجلس الإمبراطورية أي أمر يخص منع حريات الناس أو أجراء حساب لهم في أية قضية من القضايا .. ليس لأن أعضاء هذا المجلس هو الشعب كله ، بل لأن أمير الأمراء ذاته قد تحول من ملك يحكم أطراف العالم البعيدة إلى إنسان يتنزه في الحقول ويجلس قرب الجداول ويتناول طعامه مع الفقراء والمتسولة و .. ..
ولكن مجلس الإمبراطورية الخالدة قد أعلن بلا أسف ان أمير أمراء العالم القديم والجديد هو الوحيد الذي لم يكن له ميلاد أو سنوات حكم أو نهاية . فهو مخلوق لا وجود له في الأصل ، وسجله الحافل بالرموز والجواهر والمآثر محض افتراء على جلالته ذاته قبل ان يكون كذبة عامة تلوث ضمائر مليارات البشر . ومثل هذا القرار الذي لم يعلن مباشرة شاع بين الناس وسمع به بطل أبطال الكواكب ، ذات يوم ، وهو يتنزه مع صبية في حقل لزراعة بنات الهوى ذوات الجمال السماوي المقدس ولم يكترث لعقوق أصحاب القرار ، فالناس ، في أعماقه ، هم الناس ولا يمكن صناعتهم حسب الفلسفات أو المعتقدات . أنهم النور السماوي فوق الأرض مثلما هم جواهر الأرض في الأعالي .
أبتسم شمس الشموس وقال لصحفي أجرى معه مقابلة استغرقت عدة عقود من الزمن :
- " في الغالب علينا تفحص الأمر من زاوية أبعد وأعمق وربما من ركن استثنائي .. فأنا نفسي لم أفكر بما حصل ولا بالطريقة التي تجري فيها الأمور .. هكذا أود من أعماقي نسيان أني مخترع هذه الأرض وهذه الشعوب .. في البدء حسبت الأمر محض لعب لا أكثر ولا اقل .. وهكذا صرت أعالج أعقد الأمور ببساطة وبعفوية .. ولكني في الأخير اكتشفت أني غير قادر على خلع الأحذية التي لبسها الشعب . وفي واقع الأمر أني لا أستطيع تصور الناس ألا بأحذيتهم . مثلما لا يمكن التحدث الى رجل بلا رأس . وعلى رغم هذا كله ياولدي فأنا غير حزين أو سعيد والأمر جد عادي هو ان الناس كائنات مصنوعة من الجلد .."

وغاب عن الوعي فترة طويلة من الزمن . وعندما آفاق كان وحيداً .. وبعد أعوام من ذلك التاريخ وجد الإمبراطور حاكم العالم القديم والجديد نفسه قد أستعاد ذاكرته . فذهب الى قصر القصور الذي شيده بمليار جمجمة من رؤوس الأعداء وألقى كلمة أذاعتها حناجر السكان في كل مكان من الأرض .. كلمة موجزة وان تجاوزت الألف صفحة من الحجم الكبير ، أعلن فيها عن ميلاد الإنسان العبقري . لقد هشم في البدء فلسفات الغطرسة وإرادة الحروب وفذلكات الخطاب الرنانة ليعلن بصراحة ان لكل ذات ولدت في عصره واستنارت بهدى وحيه المرسل الغامض القدري والمشيد بآخر حقائق إلكترون العلوم الفضائية الحق كل الحق بشرف الحياة . هكذا أصدر أمره الذي لم يفهم في سياقه التاريخي بمنع القتل والانتحار ولكن الأمر سرى كالنار في الهشيم بعد عقد واحد من الزمن عندما تم هدم السجون والمعتقلات وإلغاء الجيش والبوليس والحرس الإمبراطوري . وقال ان كل إنسان هو حارس الشعب ، والشعب كله حارس كبير الآلهة ، فالعدالة تنبع من جوهر اتحاد الجسد بالشمس العليا للذاكرة الأزلية .
صفق له الشعب سنوات طويلة جداً .. صفق له الأموات في الحروب الكبرى التي خاضها والأحياء المنذورين للخلاص الأخير .. ذلك لأنه أعلن بجلاء مطلق ان الإنسان ولد من النور وبالنور يعيش وإن مات فلا قبر له غير فردوس الشمس . ولهذا السبب أعلن الناس أنهم الملائكة فوق الأرض ، وتمت تسمية أمير العالم بشمس الشموس والنور الأزلي بعيداً عن تاريخ الميلاد أو تفسخ الجسد والظلومات . فالعباقرة ، وهم سكان الإمبراطورية الذين يحكمون العالم ، لا يخضعون لحكم الزمن الجائر .. أنهم الإمبراطور الجد والحفيد وهم الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم . وجاء في خطابه أيضاً ان الذات لا تمتلك ما حصلت عليه وما تحصل عليه فالملكية سر الشر كله ، فالناس ولدوا غرباء ويعيشون هكذا ولن يموتوا ألا غرباء لا شائبة تمس نورهم ولا ظلمة تسكن منازلهم الروحانية . الجميع يعبدون النور في أعالي العلي بعد هدم ظلمات ما تحت التراب الذي صنعه أشرار العالم القديم . ولهذه المعتقدات سحرها الذي قاد الأمة في نكبة النكبات الى الخلاص .. فقد تطوع الشعب كله للموت الذي لا أسم له . فالجد يحدث الابن بلا جدوى العمر تحت نير الظلمات .. والابن يحدث أولاده بالنور المفتدى . في ذلك العام هلك نصف الشعب ثمناً لكرامة الأنوار . فلمن ولد النور ؟ ذلك السؤال أجاب عليه قمر الفضاء ومسيّر الأفلاك بأن النور هو مصدر النور ..
وصفق له الشعب على مدى سنوات .. ولوحظ في هذه المرة ان الأشجار اصطفت في مسيرات حاشدة تشجب قدرية الظلام .. كما خرجت حيوانات البرية كلها : الأسود تتقدم الركب وبعدها النمور والفيلة والثعابين والعقارب والدببة والجمال والنمل والطيور .. مواكب مرت تحي بالنور شمس الشموس وتصفق له حتى في أحلامها قرار إرسال الجميع الى وحل الانتصار .. فالحياة ما عادت تحتمل من غير كرامات الأسرة الواحدة . أمة بلا جيش ولا بوليس ولا حرس ولا سجون ماذا تريد سوى الدفاع عن مملكتها المشيدة بهذا النور الساطع . حتى ان مسيرة كبرى لم تشهد لها الساحات من قبل هتفت وهتفت لسيادته وهي التي لم تولد بعد ولم تنل بعد شرف مباركته لها . تلك الجحافل ستولد في يوم ما من النور الذي لا يحمل أي تاريخ في سجل المستشفيات أو بيانات الميلاد . ففي أمة لا يوجد فيها زواج أو طلاق أعلن الشعب كله تطوعه للحرب التي لم يحسب لها الحساب .. فالقانون الأخير الذي صفقت له الريح وسجدت له الغابات بدغلها وحشراتها حفزت في الأعماق نوايا الخلاص والولاء لجلالة أمير أمراء العالم القديم والجديد . فلماذا الزواج ولماذا الطلاق . قال جلالته ان الحق ينبع من النور . والناس أدركوا من غير كلام أو ويلات حروب أنهم هم النور ولهذا أعلنوا جميعاً تطوعهم ضد الأعداء الأشرار .
وتلك هي فكرة شاعت وترسخت في قيعان الذاكرة : أنها من أشهر القصص التي كتبها أمير الأمراء بقلمه ، ونشرها منحوتة فوق الصخر ، قصة اجتماع أمير الجمال وأمير الملذات والمسرات ، وخادم الحرمات ، وأمير ملائكة الرحمة ، وأمير الحسان ، وأمير الفقراء والكلام الموزون ، وأمير فلسفات الدفاع عن مصدر الضوء وانعكاساته الخارقة والغيبية ، وأمير الصمت الصوفي الشفاف .. وغيرهم ، هؤلاء ، حسب الوثائق ، دخلوا معركتهم الأخيرة ، وماتوا كلهم دفعة واحدة بعيداً عن السيناريو الذي أعد لهم . فساد الظلام خيام القادة بينما كانت عظام مليارات المقتتلين تصفق الى كبير الآلهة الذي هو كنز الكنوز . عظام لصق عظام تصف بلا منازعات وهي غير خائفة من البرد الأخير .
وقال جلالته ، في هذا الخطاب ، ان الناس هم النذور .
وفي واقع الأمر لم يفهم الشعب فكره المتوقد ، على رغم ان الشعب والأشجار والأسماك والطيور وحيوانات حدائق الأثرياء وكل من دب فوق الأرض ذهبوا الى أبعد ما في أيمانه الأخير ، ذلك لأن الجميع أرادوا البرهنة على الولاء كنور يبدد ظلمات العالم .
ومثل تلك الفكرة وحدها بددت تخرصات الأعداء إزاء العالم المشّيد بالنور . فتم إبادة المعارضة أو أصحاب اللسان أو كل من في رأسه بقايا فكر .. وعلى الفور أعلن الأحياء والذين سيولدون في الأزمنة القادمة صواب آراء جلالة أمير أمراء العالم القديم والجديد ان الله هو الإنسان في إلغاء حدود العذاب بين الروح والقبر .
وحينذاك وعلى نحو مرتب بدقة صدرت أوامر بتأسيس قيادات حزبية لها شرفها الأول ألا تكشف أسرارها الى أبد الآبدين . وفي هذا السياق نشرت اعترافات هؤلاء القادة مثلما نشرت كتب عن وسائل متطورة للحصول على اللذة الشهوانية لإفرازات غدد كانت من صنع الإمبراطور . فالطبيعة حمقاء في جوهرها . وقال الإمبراطور أنها ليست حمقاء ألا لأنها لا تتيح للإنسان فرصة التذكر . وقد صفق الشعب كله سنوات لهذه الفكرة حتى ضجر جلالته من الهتاف فصرح ذات يوم كفى للهتاف . فصفق الشعب في أحلامه الخيالية من غير أصابع وهتفت الجماهير لقرون من غير رؤوس أو أدمغه . فقد كان قرار إلغاء وظائف الأعضاء مثمراً في هذا الشأن ، لا أحد يفكر ألا حسب القانون . ومثل هذا الأمر ذاته أكدته تلك الهتافات ألا عودة الى الابتذال الفكري للحوار أو المجادلات . فالبشر هم من نور يولدون فقط وهم قبل وبعد كل الأشياء لا قبور لهم سوى الجمال يحتويهم كبذور لأزهار لا تحترق بفعل الزمن . فالناس لا تتحكم فيهم المعرفة الجبروتية أو الديالكتيكية ألا باعتبارهم محض حيوان ستعدل من مسارها .
وأنشد الشعب وغنى ورقص بكل غرائزه الدفينة .. وتلك حالة شبه حتمية وصارت من أبرز التقاليد في الإمبراطورية ، وكان جلالته يفتخر بأن شعبه ، على عكس سكان الكواكب البعيدة أو البرابرة المجاورين له ، لا يعرف ألا حب الرقص وعبادة الأعياد والنور والخصب . فالناس هم عرس دائم ، حتى ان الشعب ، في واحدة من أكثر المعارك بشاعة ، أعلن احتفاله بزواج كل فتاة عذراء أو لم تولد بعد ، وحينها صدر القانون الذي ألغى جواز بقاء للأنثى ، كل أنثى من الحيوان أو الأشجار أو البشر بلا قرين أو زوج أو من يقوم بدور الإخصاب .. وقد صدر ذلك القرار في أشد أعوام احتدام الحرب ، والذي بالفعل صعق عقول الأعداء . فقد نشطت المخيلة على نحو غريب في إلغاء القرارات السابقة ، ذلك لأن الخصب يمنح الحياة وحدة أكثر الأشياء خفاءً مع أكثر النوايا ملائمة مع الاحتفالات .
على ان الإمبراطور أنسحب الى غابة نائية ومجهولة مع حرسه من النساء . وأعتكف هناك عدة أعوام شاعت خلالها في صحافة البرابرة وسفلة العالم البعيد ان جلالته يعاني من الذهان ، وفي تقرير سري قيل ان حالة من الطيف الشيزوفريني قد جعلته يفقد شخصيته ويتقمص روح الملائكة تارة وروح الشمس في الغالب . لكن ذلك التقرير المشؤوم لم يصمد أمام دراسة شبه ميدانية زعمت ان جلالته صار نبي البرد وأمير الثلوج وزعيم الأمراض المستعصية التي تنسف الدماغ وقوى العقل العليا . على ان الشعب في تلك السنوات ، ومنذ استقراره في الغابات أظهر عبقرية جابه بها أعداء الإمبراطورية .. فقد كان إلغاء الفاصل بين الموت والحياة بهذه الصفاقة قد ولدّ فكرة ان الجميع هم الإمبراطور وان بإمكان سكان عالمنا والعوالم القادمة من تنفيذ أوامره الديالكتيكية التي محورها ان الخصب وحده يمثل الذات منشطرة داخل الجماعات السكانية في تحقيق وحدة الزمن .
ومن ناحية إعلامية حقيقية فأن الأعداء وتحت ذعر الإبادة المخيمة في سماء المعارك قد أعلنوا هدنة مزيفة لم يكن لها من أثر سلبي في عمليات التجنيد وإرسال قوافل الفتيان والشباب والكهول الى وحل الانتصارات .. فقد أعلن أمير الطب والخصب الأزلي أن علماء الإمبراطورية بفضل نور الشمس الخالد قد توصلوا الى نظرية متطورة في الامتداد مفادها – وهذا الأمر غدا حقيقة في اليوم التالي – ان الأشجار بتناسلها لا تقل شرفاً مقدساً في إنجاب المحاربين .. كما تم تطوير الجينات المنحطة للحيوانات والبهائم التي لم تلوثها العقائد والأيديولوجيات المستوردة من الكواكب المعادية الى كائنات مثالية قادرة على الانشطار الذاتي .. وهذه النظريات ، في واقع أمرها ، جاءت لترضي مرحلة معقدة مرت بها البلاد ، خاصة أبان الحرب التي دامت قرن من الزمن الروحي الوسخ ، ذلك لأن الانحطاط الأخلاقي دفع بأكثر الناس صفاءً الى الانزواء والإدمان على تناول البراز وتدخين رائحة البول الجاف والنوم مع جث الحمير الميتة التي بلغ بها الأسى والنبل درجة اختيار الانتحار الجماعي بدل الخضوع لحيل وسفالات الأمر الواقعي . وحكاية انتحار الحمير كتبها ابن الإمبراطور وقال فيها أشياء كثيرة تندد بالانحطاط و القذارات التي لونت الناس وجعلتهم من سكان الجحيم . وانتحار الحمير من زاوية رمزية وواقعية معاً من أكثر الحكايات الشعبية ذات الفكاهة السوداء والسخف المفيد . ففي فجر يوم ربيعي مشمس ، وكان قصف الطائرات العملاقة المقاتلة وعمليات القصف الصاروخي قد توقفت لا بسبب نشوة الطبيعة وبزوغ لمحة مشرفة للجمال وإنما لأسباب تكتيكية لا أحد يعرف أسرارها شاهد الناس في أكبر الساحات والمتنزهات والحدائق والطرق قرار الانتحار الجماعي لحمير البلاد لسبب مباشر أعلن في قرار هذا الاختيار الأخلاقي وملخصه ان القائد العام لقوات وجحافل الحمير قد استيقظ وأصغى الى إذاعات الدول المتصارعة تذيع الأناشيد السماوية وحدها وان زعماء مطاحن الإبادة وهدر الدماء كانوا يتراشقون بالموت مثل كلاب مسعورة بينما كانت أطراف الحرب الخفية تقهقه بلا أسف لموت ملايين الأنذال والفقراء والمساكين ذلك لأنها عندما أشعلت تلك الحرب المسماة (( جوهرة الجواهر )) أرادت التخلص من أسلحتها ومن ثروات تلك البلدان بعد ان عقدت تلك الأطراف السلام فيما بينها لتشعل تلك الحرب بين الشعوب التي فقدت أخلاقها .. كان انتحار الحمير هو الحدث الذي تحول الى وحدة الإمبراطورية من خلال تطوير جينات السرطان حيث ولد جيل يتكاثر بلا حدود استطاع ان يغزوا العالم كله ملتهماً تجار الحروب وزعماء اللسان والكلمات التي لم يعد يصدقها حتى الكلاب والمومسات ووحل الموتى المتعفنين ..
ومثل هذه الأخبار كانت تصل الى أسماع الإمبراطور التي سخر منها أيماناً منه بأن نظرية الخصب النوراني وحدها ستعيد صياغة المخلوقات كلها .. وهذا نفذه أبناء الأمة عفوياً ومن غير ضرورة استثمار آليات العقل العليا أو خفايا الدماغ عندما تحولت الخلايا اللا عضوية الى جنود محنكين منذورين للأنوار والإمدادات والآفاق الرحبة .
ولكن عقل الإمبراطور الجبار الذي يوصف بأنه سبق الدوي المرعب الذي أنشأ الأكوان والذي سيبقى فذاً بعد انهيار هذا العالم وكل عالم أخر من المجرات والكائنات الشريرة المحكومة بحلم العودة الأبدي كان يتعرض لنزوات لا كونية وليس بمقدور أحد أو أي جهاز معلوماتي أو خزان هائل للذاكرة والابتكار الفريد من تحديد تلك الحالات أو حتى وصفها . وربما جاء ذلك بسبب معمر عاش جميع الحروب التي عاشتها الأرض منذ الجد الأول . فذلك المعمر كان يصف للإمبراطور كافة الويلات التي مصدرها عشق المخلوق العضوي لماضيه الهامد ، وان سبب التعقل لدىّ البشر والحيوان في الأزمات الاستثنائية لا يختلف عن الموت نفسه . فالتعب أو الوهن أو الشهوات أو الجوع لا تسبب الظاهرة بل تؤكد مصداقية أعلى عمليات التجريد التي تحدث للذرات المتحركة على هذا النحو الذي يعمل به الدماغ وعلى هذه الشاكلة المعقدة من وعي الوعي . ولعل فشل رسالات وأهداف وغايات كبار المصلحين قد فقدت كل الآمال بإعادة صياغة قانون التحولات .
كان الإمبراطور يصغي لهذا الصوت عله يكتشف وسيلة تفوق وعيه للنور ذاته . وربما هو ذا السبب الذي جعله يغادر المملكة معتزلاً العالم في تلك الغابة يعيش مع النباتات والطيور وينام مع الوحوش الكاسرة ويرتوي من لبنها الساخن ويتعلم لغة الأسماك والصخور فترة طويلة من الزمن اللا روحي . فقد آمن بلا رجعة ان المشكلة لا تخص الأثام الذاتية أو البشرية ولا القدر الأبله المطعون بنبال الحروب القادمة وإنما ثمة ببساطة النور الذي يتحول الى عتمة . وقد فند نظرية السكون والحركة وتم إحصاء الذكور والنساء معاً وكل من آمن بهذا على هذا النحو السطحي فالنور هناك ويليه ما بعد النور مثلما أبداً في الأسرار علانية ما قبل الأنوار الوهاجة . فالسكون حركة خصب تنتظر المباشرة بالأفعال المقدسة . وقد كان قراره بجعل الأشياء كلها والأفعال كلها ذات خاصية صافية لا يشوبها الوهن والفزع والتهتك والانحلال واللا مبالاة ثورة أصيلة هتف لها مليار مليار مليار من اتباع أتباعه والى اليوم الذي لا يأتي ..
ألا ان وهن الآلهة يختلف عن إعياء ذرات الجسد وإحباطات اللذة كما يحصل للبشر . وهذا ما دفعه في ذات يوم مشمس لتصفح مذكرات الإمبراطور الأب ..
وياله من فزع جعل بهائم الغابة تواسيه ودفع بالصخور لمراضاته والأسماك لذرف الدموع من أجله . وقد أطبقت السماء على الأرض ، وزلزلت الأكوان ، وتغير نظام سيرها وتوقدت انفجارات الرأس كماسك بالأوهام ومحلل أسبابها عندما تصفح اعترافات الأب والتي أضاف لها بصورة غير مدونة مشاعر فائقة للوصف والمذلة والجلال .. فقد وردت في فقرة تظهر تألمه اللا بشري واللا محدود لعذاب جلالة الإمبراطور الأب الذي رضخ للقبول بالسلام في ذات مرة في إحدى حروبه حيث كتب أو دون أو قال ان الأب خالجته أوهام وخيالات تخص ارتعاشات الشهوة ممتزجة بالظلام .. تلك الحالة التي أثارت شراسة الأعداء لحساسية الأب العجوز والتي دفعت بهم الى أتعس وأشهر وأنذل حصار حدث حتى عصره .. فقد مات الجند مثلما تجف الأشجار .. وهي أشهر شهدت موت المقاتلين في خنادق النور والعز والمجد وفي وحل الانتصارات .. ولم يبتسم الإمبراطور الابن قط لذلك المشهد الذي أمتزج بوراثة أفكاره ألا بعد ان هداه كبير المعمرين وطلب منه بعد اعتذار مطلق ان يخرج هؤلاء الجند من جيفة الموت .. ففعل الإمبراطور ذلك بعد حرب صاعقة مع رب الظلام وحرب أخرى ضد أميرة بوابات العالم الأخر .. وتمت له سلطة وهيبة إعادة محاكمتهم لاستسلام أجسادهم لشهوات ورغبات الجسد السافلة كحب الطعام والموت .. لكن جلالته كما في أفعاله التي لا توصف عفى وغفر لهم واستثناهم من أي عقاب ليعيدهم الى تربتهم المزروعة بالكنوز والماس والياقوت والزمرد والبترول المنقى .. لقد أعادهم الى تلك الأرض التي لم تجف فيها دماء الأجداد وأجداد الأجداد بعد .. لقد أعادهم الى الأسرار التي جذبتهم أليها أولاً بأول مفنداً تخرصات الأعداء الشيطانية حول إعيائهم ووهنهم وموتهم بسبب الحصار الاقتصادي ..
ولم يبتسم ألا عندما تذكر أسطورة انتحار الحمير المقدس الذي كان وصمة عار أبدية ضد الأعداء الملعونين الذين هم في الأزمنة اللاحقة محض تماثيل نصبت ليبول عليها من أنجبته حرة أو قحبة . وبالفعل مازالت في الإمبراطورية ملايين من تماثيل هؤلاء تستقبل البول والبراز بشهية من أرتكب الأثام كلها .. كما كانت تعلق فيها جثت المعدومين وموتى الشر فهم رمز الجيفة في أمة النور . أبتسم جلالته للحظة فقط فقد تخيل إمبراطورية الأب المحاصرة في تلك الحرب ورضوخ الأب للرحمة أبان انهياره وهو يصعد على سلم الوهم الى أعلى عليين حيث كانت الأمة على وشك الانهيار بسبب انعدام وفقدان الماء والزاد وانتشار العلل والكوارث والانهيارات النفسية التي لا تحصى عندما دخلها الأعداء وساعدوا الناس على الحياة .. تخيل ذلك المشهد المروّع حيث العقائد والدفاتر الفلسفية والكتب الزاخرة بعلوم الأولين مقذوفة بلا مبالاة وبصلف في براميل الزبل ومدفونة مع شرفاء أصحاب الفكر في المقابر الجماعية بينما الناس يزحفون كالحيوانات الكسيرة نحو طعام القمامة المتعفن ..
ولكم حاول ارواء خياله بمعجزات العقاب لهؤلاء الأبناء الأذلاء المستضعفين بدافع انحطاط الخيال من غير ارتواء أو مشاعر ود . فقد كان يستحيل عليه الشعور بالرضا من جراء الضعف البشري الذي أنهك خلايا الأحلام والذي دفعهم الى الاستسلام .
ألا ان كبير المعمرين حاول ان يذهب بخيال الإمبراطور الى مصادر مسراته : الاستمتاع بموسيقى حكاية الخليقة .. ومعرفة مصادر لذة اختراع الأوهام الأصلية ..
فقال الإمبراطور بكلمات مبهمة لكنها حازمة (( أسكت )) وكان ذلك بمثابة شك من جلالته لكبير حكماء عرشه بعد ان صفى آخر أذناب المندسين في عمل آليات الأجهزة الخاصة التي حملت له الولاء المطلق . ألا أنه لم يظهر نواياه إزاء عجوز حكيم دربته المحن وعاركته الصعاب .. لهذا تركه يحفر قبره بيديه . وبهذا التعبير السافل تذكر أجهزة الإنصات الرهيبة التي كانت تقدم له في كل يوم ما دار في خيال وخلد وذهن وأحلام ونوايا أبناء الأمة ، الأمر الذي فرضه هيمنته المطلقة لزمن لم يمتد طويلاً بعد ان أفتضح السر فغير الناس ما بداخل نفوسهم تغييراً جعل البلاد في سلام تام . فأجهزة الإنصات ، وهذا عيبها الوحيد ، غير قادرة على اكتشاف مثل هذه الكمائن ، على رغم أنها أعلنت له مراراً من وجود مشاعر غامضة لديّ من تجاوز الخمسين من العمر .. فمن خلال هلاهل وهتافات ومسيرات أبناء الأمة كان هؤلاء الكهول أقل رغبة بالرقص والشعر الميكانيكي الموزون وأهازيج المدائح وإشعال النيران في الخلايا اللا عضوية . وعلى كل فأنه لم يلتفت لتقاريرها في لحظات المحن ، كالتي يمر وهو يسترجع ، في غابته السرية ، تاريخ الإمبراطورية.
أنه الآن يرى في الشاشة الفلم الموجز لمسيرة حياة جده الإمبراطور الذي كاد يغدو إلهاً .. فقد صنع منه الأعداء وهماً سماوياً فاق أقسى الحقائق وأكثرها دقة . فقد نفى ذلك الحاكم كل التهم التي وجهت له ، وأباد ، بفعل أجهزة الإنصات ، من خالجه الشك في أمر رسالته ونواياه وغاياته .
ضحك الإمبراطور وهو يستمع الى صوت غامض يصدر من مكان مجهول .. صوت يذكره بأن الدولة ، في عصر جده الذهبي ، وبعد حروب أشارت أليها كتب التاريخ كلها ، كانت توزع مثل رغيف خبز يوزع على كلاب تنتظر حصتها بعد انتهاء مراسيم العيد واللعب . ومثل هذه المخاوف والمشاعر والكبت الروحي السقيم المزمن لم يعد يتجادل أو يتحاور بها أحد أو ترد في خواطر الناس . فلا مبالاة استقبال الخوارق تماثل الموت فوق الأرصفة أو الانتحار في ساحة النصر الأزلية . فأي إمبراطور يتدرج سلالم دفة السفينة يخترع لبني البشر البحر الكبر لها وهكذا تتبدل السفن بعد ان تتبدل السواحل .. حتى ان أكثر الأشياء ندرة صار يباع بالمجان أو بلا ثمن .. كأن المملكة برمتها تولد وتعيش وتضمحل لتولد وتنمو وتهلك مثل شريط يعاد سماعه للمرة الألف بعد الألف .. لكن لا أحد يهمه أمر الذاكرة .. وتلك جملة طيرها أحد الكتاب فشاعت فترة من الدهر .. لكنها تلاشت بعد ميلاد بشر برؤوس جديدة ، وبعد ان أزيلت من الكتب كل إشارة لها ، فالأجيال لها حق البقاء بمقدار ، ومن يبد يبد بسبب وعيه ، ومن لم يصفق للإمبراطور فهو خائن لا يؤمن بنظرية الخصب وكسول وبالتالي فعلى أقدام الثيران ان تسحقه وعلى النار ان تحوله الى رماد ليذر بعيداً في الصحراء .
فتارة تنحني الهمم فوق رغيف الخبز – قال كبير المعمرين في نفسه – وكان الإمبراطور يسمع ذلك الصوت الداخلي له – مثل انحناءة قضيب معدني تسلط عليه النار .. فإذا كابرت بعض الهمم .. فآنذاك تشتد النار لتحول الفلز الصلد الى بخار . على ان الحق يحتم علينا الاعتراف ببطولات الجند في المعارك كلها ومنها تلك التي فضل فيها آخر فصيل الاستسلام للموت الخالد بدل النجاة . ففي أسطورة الناس كانت هناك دائماً ذكرى لها مكانها في كتاب الدهر . أنها رقصة رأس مبتور في غرفة إعدام مظلمة . عيد في فرن نووي .
- (( أذهب ))
ولم يضف الإمبراطور كلمة أخرى . وإنما نادى أميرة الكلام وأخبرها بضجره الذي عكر عليه مزاج لذات الفجر . فقالت أنها ستطلب من البشرية الخروج الى الشوارع والهتاف بحياته الى يوم الدين . فقال لها :
- (( لا أريد ذلك .. بعد الآن . أغلقوا أفواه البهائم وحطموا أجهزة الكلام وأبواق اللعنة .. ))
ومنذ ذلك العهد منح الناس الحق كله في الخروج الى الشوارع والساحات والبراري والغابات والهتاف بحياة جلالة الإمبراطور الذي لن يموت الى اليوم الذي لا يأتي، وأعلنت أجهزة الكلام وأبواق الدوي ان الإمبراطور ارتقى خطوة جديدة نحو هدفه الخالد . والحق ان الناس ، بعد مئات السنين ، حولوا الأوامر الى وراثة . وليس هناك أي عالم يقدر ان يفرق بين الأسباب أو الظواهر أو تأويل النوايا . فالجميع عشاق للتصفيق وحب الرقص . أنهم ولدوا للاحتفالات . وهذا هو علم وراثة عصر ما بعد انشطار الخلايا العليا للحساسيات الفائقة . فحتى ان جلالة الإمبراطور الجد في أزمة أعلان الأعداء عن قتل الناس بالأشعة الارتجاجية لقيادة عمليات الدماغ الموحد خرج الشعب كله الذي مات بكل الوسائل ومنها الرفاهية البالغة وأيده . فهؤلاء الأكثر حقداً على جلالته والذين رحلوا مدفونين بالعار والألم والأورام والمخاوف اظهروا له الولاء بما فاق ولاء الأبناء والأحفاد من سلالة الدم الإمبراطوري المشع بالماس والجواهر والأنوار . وهذا الأمر وحده دفعه لأجراء تعديل في حساب من هم أعداء الداخل ومن هم أصدقاء الخارج والذي رسم له حقيقة ان المستقبل مثل الماضي وليمة كلام تنهش بعضها البعض الأخر حتى آخر الزمن . إنما هذا الوعي الجلل المروع والهزيل دفع بالابن لأجراء محاكمة لفكر الأب وأقصاه بعد جدل خاطف من مناصبه الألف ولم يمنحه ألا راحة الشفاء بالعذابات الدائمة . لقد حوله الى امرأة مدماة تطلق يومياً من غير إنجاب ألا هذا الشقاء المستمر . لكن الإمبراطور الحفيد فند خسة حكم الأب عندما أعاد للمرأة مكانتها الجمالية وجعل جرائمها آيات نورانية . أنه ضرب من المستحيل الذي غدا مألوفاً . وفي هذا أيده كبير الحكماء الذي نضج أكذوبة الموت الدائم . فالخصب يسبق كل نوايا الإنجاب . وبهذا أستعاد الإمبراطور نسيانه المقدس ، بعد ان مسح من الدفاتر التاريخية قذارات الأباء والأجداد ، وعاد الى حيواناته المتوحشة في البرية عند نبع الماء . وأحس كأنه عاشق ، مثله في ذلك كمثل من يستقبل الموت نفتح باب الفردوس . فنادى امرأة حسناء هيجت فيه ذكرى جميع اللائي رقد معهن واللائي سيرقد معهن كزوجات وعشيقات أو اللائي لن يحملن ألا مجد الميلاد . نادى الحسناء وقبلها وضاجعها عند نبع الماء حتى وهن جسده . فرقد بلا أحلام فوق العشب ينظر بمرح غامر سلالة من البشر الجدد يهتفون له بالمجد ويرقصون بعد ان أوقدوا النيران من حوله ، ألا أنه لم يكن من تلك السلالة التي تغريها المسرات بالنعيم .. فقد أعاد بناء ذاته المتكاملة .. وصفى حساباته مع النظريات والأفكار والمعتقدات .. ولما جاء برسالته أدرك أنه هو نورها ، وليس الماضي ألا عثرات أمامه ، فكنسه ، كذلك أزال وهم وعود الأزمنة القادمة . وعلى كل ، قال لكبير المعمرين ، أنه سيذهب الى أقصى مكان سري في الغابة . هز الأخر رأسه ومنع عمل أجهزة الإنصات والتشويش وما شاكلها . فالإمبراطور يستعد لبناء كون خارج خارطة الحرب والسلام أو الوعود المنثورة في الكتب . لكن الإمبراطور وبخ عبده وسأله :
- (( أنك تتحسس عليّ .. ))
فقال بخشوع تام :
- (( هو ذا أمرك يا جلالة الإمبراطور .. ))
- (( أعرف .. ولكني بعد الآن أريد ان أحيا بعيداً عن فذلكات أجهزتي الحمقاء .. أريد ان أعود الى .. . ))
واختفى في ركن مجهول . على ان ذلك لم يكن سراً .. فقد صدرت صحف الأعداء وأجزته كلها تتحدث عن انتحاره تارة أو اعتقاله تارة أخرى .. وقد ظهر فيما بعد ان الإمبراطور كان يسرب بعض المعلومات لأسباب خاصة . وأنها معلومات اربكت الجميع وجعلتهم يتيهون في تحليلاتهم .. لماذا أبتلع بعض المناطق المجاورة ولماذا قطع كل يد صافحته في الزمن الماضي ولماذا بارك الموت الجماعي لجحافله الخاصة ولماذا كان يتنزه تحت أشد أنواع الرعب الكوني في شوارع الإمبراطورية مع الأطفال ولماذا اخترع نظرية الخصب التي فندها ولماذا لم يعد يشعر بالسلام الذي طالما جعله جوهرة النور ..
في البلاد كانت الحياة تجري على نحو عادي .. لقد أعتاد الناس سقوط الكواكب والكتل المفككة من الداخل والموت بفعل إلغاء نظام حركة الدماغ أو الرجات الكهرومغناطيسية النووية التي تعطل عمل القلب للحظة والى الأبد والتي تورث الموتى الخمول حتى في حالات الانبعاث .. لقد أعتاد الناس تلخيص مصائرهم من خلال تقليب كتاب الإمبراطورية .. والأدهى من ذلك ان شاشات التلفاز والعروض المرئية في الساحات والمتنزهات وحتى في المعتقلات كانت تعرض أفلام الأعداء الحربية وغير الحربية .. فالناس يعرفون من غير علم أو أدراك مباشر قوة الأعداء في الهجوم والنسف الجهنمي وتشريح أقاصي الأفكار لدى الناس في الخناق أو في المدن التي مازلت تشكو من الخدر العام .. ان أفلام العدو التي شاهدها سكان الإمبراطورية زرعت ما بعد الرعب في قلوبهم حتى غدا النصر يماثل الهزيمة .. فالموت هو جزء من لعبة الأقوياء الذين هدفهم قيادة الفوضى الى نظام محكم ومغلق وسري لا يمكن شرحه أو ملامسته أو معرفة خفاياه . بيد ان احتجاج كبار كتاب الإمبراطورية حول هذا التخريب النفسي والروحي أدى الى هلاكهم المباشر أو إرسالهم الى ساحات التشهير أو دفع بعامة الناس لقذفهم بالبراز .. ومع ذلك أعتاد الناس مشاهدة أفلام وفعاليات أبطال ورموز وثقافات الأعداء مثلما اعتادوا بلذة تدمير بعضهم للبعض الأخر .
وفي تلك الأيام السود أو التي فقدت كل الألوان خرجت جموع الأمة من جحورها على زعم تعرض الأمة للموت بالرعب السماوي والجهنمي ممجدة ارتقاء الإمبراطورية خطوة أخرى في سلم المجد ذلك الذي ان رآه أحد لأبد ان يمسه الجنون . لقد خرجت عن بكرة أبيها تهتف وتصفق وترقص بعد ان زينت المدن بأبهى أشكال الاحتفالات والأعراس كان الحياة برمتها عيد وفرح ، وفي تلك الاحتفالات كان الخطباء يتبارون باشتقاق واختراع لغات محكمة وسرية ومغلقة داخل الانغلاق الصوفي والمثالي والواقعي الرصين .. وكان الناس الذين لا يفهمون الخطباء يهتفون الخطباء يهتفون بأعلى أصواتهم كلما ازدادوا لا معرفة لتلك الخطب المحنكة العظيمة .. وفي الواقع لم يفكر الخطباء ولا الشعراء ولا الكتاب بتلك البهائم التي غيرت معتقداتها آلاف المرات والتي ذاقت مليار صنف من صنوف الهلاك والموت المحقق .
فالنصر محسوم بفعل خفايا النور .. وقال هذا الخطيب الذي سبق ان هلك في عدة حروب ان الجيوش المؤمنة غريزياً بالهزائم حتى النصر قادها أب الجميع في الماضي وفي الغد حتى النصر المؤزر ليشاهد أبناء وأبناء كل الأجيال النورانية والمشعة وصاحبة القرار أوسمة الرماد والزمرد والبول الجاف مرمية في قيعان المستنقعات وفوق أكوام رماد هياكل عظام المخصيين والمحاربين والمومسات والجواسيس والمدراء الذين شبعوا من التهام الذهب وضاجعوا معظم العذراوات والمحصنات من بنات وزراء الإمبراطور نفسه .. أنه النصر الذي مصدره في الغيب آت من النور فوق البسيطة يزلزل عرش العتمة في رأس الجلاد الأكبر . وقال خطيب محنك آخر لا تحصى ثروته ولا تعد ان الهزائم هي قدر الأغنام والماشية والأبقار العجاف التي تساق الى المسلخ من غير اعتراض لأنها مؤمنة عميقاً وبصدق الحكماء ان التضحيات محسوبة ولها مكانتها في رفع شأن الراعي وأتباعه في بناء هيكل العالم الموحد والكبير الذي سيمنح القديسين الشهداء شارة الخلود فالإنسان الفرد والجماعة مثل تلك الجينات فلقها مالك الحجارة لتصير نذراً في أحكام شرعية قانون الأزل الأوحد الذي لا يحق لأحد معرفته أو ليس بالضرورة ان يشرح على رغم عدم رؤيته أو إمكانية تحديد مداه فهو في كل مكان خفي من الذرة ومن النطفة التي ستولد في كل عصر وفي كل زمن بعيداً عن أركان التعصب والغباء ونقصان الوعي . وشرح الخطيب الثالث ان الألم هو الشيطان على هذا النحو المفسد لاستقراء مصادر النور والاشتعال الأمر الذي من خلاله تم إلغاء البرد والأمراض الشتوية والحر وكل تلف قد يسبب فساد عمل حجيرات الدم في شعب الإمبراطورية الموحد الذي يذهب الى الموت كأنه في عيد .
وصار الشعب برمته يخطب ويرقص بعد ان ارتقى الإمبراطور خطوة جديدة في سلم الخلود . فالإمبراطور .. قال أحد الخطباء ذهب الى مناطق أبعد بكثير من خفايا العالم الأخير .. وهو في كلماته يؤشر حكاية الوجود كله منذ الطوفان يوم أمطرت السماء الدماء والجماجم والمتفجرات والأشتعالات فوق النورانية وحتى آخر يوم في هذا الزمن .. فالإمبراطور روى للأمة أحداث الكون قبل فساد فضاء الآلهة يوم لم تكن ضجة ولا أصوات ولا نساء ساحرات ولا رجال قوادون وجواسيس ولا أطفال عراة أو موتى فوق الأرصفة عندما كان الصمت قرين موسيقى كلمات الخلود . كانت الآلهة راضية مرضية لولا أنها ضجرت لأسباب تخصها هي وحدها فصنعت الطوفان لمحدثي الفساد بعد ان فشلت بالقضاء على الإرهاب والاغتيالات السرية وبعد ان فشلت في زرع الرحمة والأيمان فكان الطوفان هو لغتها يوم اشتبكت الآلهة بنفسها في حرب داعرة عند بيت كبيرها الذي أفاق من غفوته وهو الذي لا يغفو ولا يمس جفنه الوهن فقال لها كلمات قليلة ثم جمعها كراع يقود غنمه الى الكهف بعد هبوط الليل وأستأنس بالآراء وبالجدل الوجيز ليصدر أمره بإغراق الأرض ومسح معالمها وإزالة أفعال الشر منها . وقال الإمبراطور ان كبير الآلهة سمح لولده – وكأن الإمبراطور يتحدث عن تاريخه – الصغير بالحفاظ على نفر من البشر المقدسين الأطهار وعلى عدد من البهائم والطيور ليتبع النسل فوق الأرض .. وقال الإمبراطور ان هذا النسل أزداد وملأ الأرض مرة ثانية حتى ارتفعت ضجته وعراكه وصار مصدراً لتلوث صفاء ذهن كبير الآلهة لكن الأخير لم يرسل الطوفان من الأعلى بل ترك القوى يقضي على الضعيف حتى يتم للجميع في يوم مقدر ان تسود فيه أحكام الرب بسيادة هؤلاء الصفوة .
وشرح أحد الخطباء ان العالم اليوم هو في سير منطقي نحو هذه الخاتمة التي يقودها جلالة الإمبراطور الذي لم تلده أنثى ولم يمسسها ذكر حتى في خيالاتها وهي التي صارت أم العالم كله سيدة الأراضي والفرق والأمم وقال هذا الخطيب ان العالم سيخلع فوضاه بعد ان تضع هذه الحرب أوزارها حيث ان كبير الآلهة سيقلد إمبراطورنا وسام الألوهية . ورداً على سؤال غامض مبهم صدر عن عقل ممسوخ لا وجود له هل ان الأعداء سيقضون على هذا الحلم .. فأجاب وهو يزلزل الجبال ويهز الغابات ويرج الأرض ان الإمبراطور لن يصير ضحية غدر ولن يسعى الأعداء في نواياهم الشريرة لجعله شهيداً وإنما هو أقوى من كل الكلمات البراقة لأنهم أصلاً ل يقدرون على قتله أو القضاء عليه إذا حاولوا ذلك كذلك هم سيصابون بالذعر الأولي لو صنعوا منه رمزاً أو شهيداً لأن كل أبناء ما بعد الطوفان سيفسدون سير نظام الكوكب نحو مصيره الواحد الموصد يوم تزلزل الساعة ويقود بريات وصحارى وغابات وبحار العالم نفر قليل من أصحاب الصفوة هيكل السماء والأرض الى المصير المحتوم .
وانهالت الخطب والجمجمات وصدحت مكبرات الكلام وأجهزة الإنذار الصوتي والثقافي والفلسفي تشرح بعمق ان زمن الرعاع قد ولى الى أبد الآبدين وليس على البشر ألا الولاء والإصغاء الى موسيقى صمت كلمات الإمبراطور الآتية من أعماق غابته السرية .
وفي واقع الأمر كان الإمبراطور مسروراً السرور الذي لا يوصف بشرياً أو إنسانياً ألا كومض صادر من خفايا الكون السحيق لتلك الخطب والكتب وآلاف المجلدات التي كانت تواكب تاريخه المجيد .. فقد كان في كل صباح يطلع عليها ويرميها الى النار لتتحول الى أغنية أو كلمة واحدة يبلورها ويعيدها الى شعب إمبراطوريته حيث يجتهد فيها علماء الأمة سنوات وعقود وقرون من الإنهاك والتحليل لتغدو تلك الكلمة حكمة جيل تسري في دماء الأجيال التالية . وكان جلالته في كل مساء يطلع على اجتهاد كبار أتباعه قبل ان يخرج الى الأدغال ويجلس الى حيواناته البرية بعد ان يقذف بها في الغالب الى خزانة تتجمع فيها لقى وآثار عصره الجليدي الماجد . ففي الأدغال كان يخترع روائح التوحش الأليف لنسله القديم ويتنفس ملأ أعماقه شهوات الأنثى عند منابع المياه يخالجه أسى شبحي أنه لم يرقد في رحم امرأة ولا في رحم الآلة وإنما جاء الى هذا العالم مثل نور مصدره النور .. ونسف أسطورة الماء برمتها وبصق في محيا أصحاب النار وكبل أبناء الطين بالهواء كسجن لا مناص منه . لكن رائحة الشواء البشري كانت تحفر مغاليق روحه رغبات الرقاد في رحم أو داخل الحجارة . ألا أن ضباع وأسود وثيران البرية أنسته أحزانه وأرسلت له كل ما يشتهي من إناث البشر والحيوان والطير ومخلوقات البحار وما تحت الأرض وقالت له البرية أوقد نارك يا كبير بني الملائكة الذي لم تلده أنثى ولا أب له من البشر أو الحيوان وأمنح شعبك ذرية مصاغة بالنور من النور تأتي والى النور تذهب . فخلع عنه تاج العالم الذي بثقل كوكب الكواكب وان كان حجمه بصغر رأس دبوس ورقد مع جمع إناث الطير والأسماك والحيوان والإنسان في ليلة أنشق فيها القمر وتناثرت فيها النجوم وتعطلت فيها كافة أجهزة الإنصات والتصوير ولغات الأسرار لينجب في ليلة أم الليالي ذرية تحمل أسمه في مملكات العالم البعيد ..
إنما خرج الشعب كله في تلك الليلة فرحاً يرقص ويغني ويصفق ويهتف لأعوام متواصلة لعيد الخصب وتقدم الفرق والجحافل المنذورة لوحل الفوز والنصر المؤزر صفوف الموتى والأحياء في خنادقهم ومدنهم وقراهم وهي تكتسح الدفاعات الحصينة للأعداء . وقد شاهدت تلفازات العالم وأجهزة التجسس الإمبراطور يتقدم كل هجوم وفي الصفوف الأمامية حتى تعطلت تلك الأجهزة وتهدمت وذابت وانتحرت لأنها لم تدرب وتصمم وتزوّد بما جعلها تفقد تقنياتها المتقدمة وهي تشاهد مليار نسخة أصلية من كيان وشكل وروح الإمبراطور في كل مكان من أرض الوغى وهو يتقدم غير آبه بإنذارات العالم كله ولا بتلك الأسلحة الفتاكة المدمرة للتراب والهواء .. ذلك الحدث الذي عطلت فيه إرادة عمل ذرات وحجيرات الأدمغة التي تصالحت مع الشر والعتمة صار عيداً قومياً خالداً وخطوة أخرى تقدم فيها الإمبراطور نحو مجده المشع بالأنوار .
ولم يعد الى كهفه ألا بعد صمت أطبق على العالم كله . كان يمشي بهدوء مثل ساحر يمشي فوق الجمر غير آبه بلهب النار الموقدة . لا موت يخشاه ولا لغط يخدش سمعه .. لا بصريات تؤذي بصره ولا كلمات مدسوسة توسخ صفحات كتابه .. لا ألم ولا مسرات زائلة .. لا مكان ولا زمن .. وفي كهفه عند الباب اومى بالامتنان الى كل أنثى أخصبت وأرسلت بذريتها المنقاة الى فضاء المطاحن وانصهار الأرواح بباريها في كل ذرات الخلائق حيث أنفس ترقد آمنة مطمئنة وولج الى الداخل حيث طلب من كبير حكماء الخالدين أخبار كبير الآلهة بمجد التاريخ الذي دونه فوق مسلة الإمبراطورية فقال الأخر أنه فعل ذلك في اللحظة التي أراد فيها جلالته ان يعلم كبير الآلهة ان مجده يمتد من مكان الى آخر .. غضب الإمبراطور قليلاً ثم كتم غضبه وهو يعود الى الباب كهفه ينظر الى الباسلين الراقدين في زمن النور الخالد . ولذ له ان يرى الحقب التي مضت تاركة المجد في أبناء الأمة الذين أحبهم كخلايا أزلية تتحرك في ذاكرته الكبرى .
كان يرى المعركة قد بدأت بالكلمات الغامضة ثم بالأيدي وتطورت بعد جيل واحد لتصبح معركة بالحجارة والعصي والعظام .. وهاهو يراها تقتلع المدن والبلدان من خارطة الوجود . لكم فكر في طفولته في مغزى الحرب المدمر والسلام المهين : الموت الذي يلغي المقاصد ويجعل الأطراف كلها في حفرة غضه . كان ذلك في الماضي عندما تلقي أول عقاب صارم من الإمبراطور الأب الذي زج بالابن في خنادق الوحل الأمر الذي دفعه الى بناء هيكل النصر النهائي وجعله لا يحلم ألا بإلغاء فكرة التفسخ التي تفوق بقاء الخلايا في نظامها الرتيب . أنه منذ ذلك الامتحان الذي لم يحسم فيه اختياره للموت دفع بخياله الى أقصاه . لا راحة للجسد ولا سلام للفكر . وهاهو يرى موتاه .. حشد يتناثر فوق الأرض .. رؤوس معلقة وتتدلى من الأشجار .. موتى زرق بالغازات الروحية يقاومون ابتساماتهم الساخرة وراء الجلد المسلوخ . أكوام عظام في الساحات و المتنزهات . مدن خالية من البشر . أطفال متجمدون وشيوخ تحولوا الى بخار . تماثيل بشرية في قدح للماء . شوارع تتلوى من الرعب ومدن خسفت بها الأرض . بحار جفت فيها المياه ولا توجد فيها ألا بقايا حياة . مليار مقاتل في كف حديدي . موتى من الرعب ملتصقون بالأرض وقسم يتطاير كريش في الفضاء . بقايا أصابع فوق الموائد . أرض سوداء تمتد مع الأفق . حيوانات ميته ترتفع رؤوسها نحو السماء . بقايا غابات تحولت الى رماد ..
- (( أكل هذا فعلته أنا .. ؟ ))
فقال كبير المعمرين له :
- (( أنك يا جلالة الإمبراطور مازلت تبحث عن خلاص هذه الأمة .. ))
- (( آه .. أتعتقد أنه بمقدوري أن أفعل شيئاً ؟ أنظر الى الماضي وما بعد الماضي .. ها .. ها .. اقترب مني قليلاً أيها الجاسوس ! هل لحظات السلام الوجيزة للبشر هي الغاية الكبرى التي تحركها مليارات الحشرات البشرية ؟ ها .. لحظات سلام عفنة .. وسخة .. بينما يقود العالم نفرد قليل من أذكى الأذكياء نحو مصيره المحتوم : نحو .. أجل .. العودة الى السلام الذي تتساوى فيه الأشياء : الجلادون يعانقون ضحاياهم بلا تذمر . لا أمراض ولا شيخوخة . أصغ لي يا من أحببت الدنيا وحدها كأنها الزمن كله أني لا أعاني من الأمراض أو الأوهام .. ولا أبدل حالة بحالة .. ولا أعوض قضية بقضية أخرى .. إنما هذه البلاد أو هذا الركن من العالم لا يسعى ألا للإمساك بشرفة أو وجوده العادي .. ألا ترى أني على حق في أحداث هذا اللغط وفي هذه الضوضاء مادام العالم كله أسير حفنة من أذكى والأذكياء الأوغاد .. أو و .. ه .. يا صديقي المعمر الذي يعرف تاريخ هذه الأرض منذ كان فيها شخص واحد هو جدي الإمبراطور وجدتي التي تركت لنا هذه الذرية من الأغنام والمواشي .. أجل .. أنت تعرف تاريخ الذل كله مثلما أعرفه وكأني أعيش في قاعه .. فأين يكمن خلاص الأمة وماذا بمقدوري ان افعل ؟ لقد حاولت ان أقود حتميات الأمور الى شن حرب ضد المفسدين الذين يحاصرون أراضينا ويتلاعبون بمصائرنا ويستولون على ثرواتنا وينهبون عقولنا .. وحصل ما حصل .. لقد صمدنا أمام جبروت أعتى تلك القوى الكاسرة وصرنا على لسان كل من في قلبه نبض وفي عقله بعض خلايا تتشوف للنور .. وأنا كنت طوال الوقت أسير في المقدمة .. ولم أتخلف ولم أهمل صغيرة أو كبيرة تهم مصائر أمتي . كنت أموت وأولد مثل الجميع .. وكنت أدعو الى الإرهاب الذي أدرك الآن أنه الحل الذي يوازي حق الجميع بالحياة . علينا ضرب ونسف وتدمير مصالح الأعداء الحيوية .. ولكن .. ولكن أنت تعرف ماذا حل بنا طوال القرون الماضية . أني للآن لا أعرف لماذا يزعزع الخوف إرادة إنسان فيه من النور ما يفوق ظلمة العالم كله . لست مريضاً ولا خيالياً .. فأنا رجل مثل الجميع ، ولد من رحم أم وله أب ويتنفس الهواء ويشعر بالبرد ويبكي في لحظات الفرح ويحب ويغضب ويتبرز وينام .. ولكني على رغم هذا كله لم أخف من سطوة الأعداء .. وعلى رغم هذا كله أيضاً فأنا لم أفلت من قدري .. من الخراب الذي يمتد الى مئات السنين ومن الوحوش التي تتبادل وتتقاسم وتفترس ضحاياها .. الست أنا الوحيد الذي صرخ في وجه المجهول وصمد سنوات وسنوات للإفلات من مخالبه التي كانت تعمل في القلب ..))

وكتم صوته الداخلي . كان وحيداً بعد ان أمر وحوش البرية بالتهام أكبر المعمرين .. صنوه الذي كان يلاحقه ويطارده لحظة أثر لحظة . كان وحيداً يحدق في الظلام .. وحيداً كأنه لم يعش ولن يموت متفسخاً مثل خلايا فقدت تماسكها ، أنه يحس بذوبان جسده فوق تراب الكهف ، ممتزجاً بالعتمة ، ويشعر ان هناك قوة ما تخلص منها : هذا الشبح أو هذا القرين أو هذا الذي أقلقه طوال العمر يقف أمامه .. يصرخ فيه بكلمات .. بكلمات قليلة .. بكلمة .. بكلمة واحدة .. بلا صوت .. أنهض .. أنهض .. أنهض . لكنه كان يرى جيشاً جراراً يخرج من الكهف نحو الصحراء .. وكان يستمع الى موسيقى الحرب .. ولكنه عندما حاول إظهار مسرته العميقة الخاطفة شعر بقواه تنتقل الى تلك الخلايا وهي تعيد بناء مسلة جديدة . لقد مات وحيداً بينما كانت الحرب قد بدأت تواً . كان وحيداً إنما كان في كل مكان . وراح يحدق في مليارات المحتفلين بيوم الزهو وهي تزحف من القرى والأرياف والمدن نحو ساحة الخلود . كانت تهتف وترقص وتلوح بأسلحتها كأنها تريد ان تصعد الى السماء . كان يحدق بلا مبالاة إنما بكبرياء من حارب آلهة .. وأبتسم وهو يخبر كبير المعمرين ان الحرب لم تبدأ بعد .. وان نظرية الخصب لا بد ان تأخذ مساراً يجعل الأجيال الجديدة أكثر فعالية في نسيان مسارها القديم . فهز الأخر رأسه وأمر صانع النسل بتنفيذ الأمر . وبعد عقد من الزمن وفي هذه الساحة ذاتها أمر جلالة الإمبراطور بإعادة صياغة ذاكرة أبناء الإمبراطورية وإلغاء الخوف ومسح كلمة أعداء من الدفاتر المدرسية وهدم رموز العتمة كلها وإطلاق المشاعر الخفية والداخلية وجعلها القانون البديل للأهداف المضللة لبني البشر . لقد آمن الجميع منذ زمن بعيد بهذا الحلم الذي سبق ان تحقق في الأحلام وهاهو يهدم تلك الفواصل بين الرغبة والتجارة الأبدية . أنهم يمتلكون زمنهم ككتلة بلا مكان ولا أبعاد . أنهم مثل عرس ملائكة . لكن جلالته أعاد بنفسه كتابة أحلام الشعب ، ووزع نعمته بيديه ، ولم يهدأ له بال ألا بعد ان زار أبناء الأمة فرداً فرداً بعد انصراف الليل وتأكد له نسل المعادن ، على مدى قرن قادم ، سيشّهد أعظم إمبراطورية غير محكومة بالزوال . ذلك لأن عمل مجيرات الدماغ الروحية لن تعمل خارج إرادته المتفتحة والمتجددة أبداً . وهاهو يتنزه في أكبر حديقة تحتوي في أركانها وزواياها على نماذج لا تحصى من أسرى الأعداء ومن العلماء ومن القادة والملوك والرؤساء وهم يعاملون معاملة الأرانب والجرذان وبنات أوى .. وعندما وقف وحدق في أكبر إمبراطور دوخ الأرض وكاد يزعزع نظام الفلك وينسف منجزاتها الفذة أمر له بوجبة مضافة من العلف .. وقال لأمير الحرس ان يقوم بتوزيع هدايا على تلك المواشي الأسيرة التي مسخت الى أشكال يأتي الشعب أليها يومياً لينقعها بالبصاق والبول واللعنات .. وكانت مكرمة جلالة الإمبراطور ان يسمح لها بالتبرز خارج أقفاصها . وعندما شاهدها وهي تهرول وتهرب صرخ في وجه كبير المعمرين وأمره بإحراق الأقفاص ونقل الأسرى الى كوكب بعيد على ان يتم تصفية الضعفاء منهم . لكن الأخر حدق في محيا جلالته لبرهة وجيزة من الزمن تحول خلالها الى تمثال . فأمر بتحطيمه ونقله مع الأسرى الى ابعد كوكب لاتقاء الشر الذي خالجه في تلك البرهة الوجيزة من الزمن .
ولم يغادر عاصمته ألا بعد عام أمضاه في تفقد أحوال الناس .. وقد أعلن في خطابه الأخير الذي هو خطاب الوداع ان الإمبراطورية لن تأسف لرحيله لأن كل ذرة حية أو مستقبلاً هي الإمبراطور نفسه .
لكن الشعب أخذ يولول وينوح بعد ان أضرب عن الطعام .. ولم يفلح الإمبراطور في إعادة السلام الى النفوس ألا بعد ان أخذ يحدثهم عن آخر المعارك . هلهل الشعب كأنه في عيد . فقال الإمبراطور ان العدو في حربنا لا يُرى وليس له من وجود أو كيان فوق الأرض أو في أي جرم من أجرام الذاكرة الأزلية لهذا المجهول .. بل وان هذا العدو لا علاقة له من قريب أو بعيد بمحركات الشر في الذرات النورانية داخل مملكات الدماغ والروح والخفايا . أنه العدو الذي لا يسمى ولا يسمع ولا ثقل له ..
فصفق الشعب وآمن ان جلالة الإمبراطور قد بلغ آخر درجة في سلم الخلود .. أنها خطوة ان يكون الشعب كله هو الإمبراطور نفسه .. وفي ذلك اليوم الذي أمر جلالته فيه ألا تغيب الشمس رقد في نعشه الذهبي المشع بالجواهر والعطور التي تحي الموتى وتشفي الأمراض العصية وحدق في الفضاء اللا نهائي لرغبات الإنسان . كان الشعب كله قد غادر للسير في موكب الرحيل . ولم يحدث من قبل ان مزق الناس ملابسهم ولطموا على الخدود وحلقوا شعر الرأس وجرحوا أجزاء مختلفة من الجسد حيث الدماء كانت تسيل فوق الأرض والناس صاروا بلون الدم وهم ينوحون بصمت تارة كصمت الرماد ويصرخون مستغيثين مرعوّبين نادبين شاكين بعد ان فقدوا الصبر والرجاء . وفي الواقع كان جلالته في حياته المريرة لم يختر له قبراً بعد ان أزال قبور الأباء والأجداد وحول الأرض كلها الى حقول وبساتين وغابات .. كما أعلن ذات مرة ان تذكر الموتى هو ضرب من الإحباط وضعف يؤدي الى الإعياء .. لهذا كان نعشه الإمبراطوري يدور في شوارع المدينة العاصمة وأزقتها من غير هدف محدد .. لكن الناس كانوا لا يريدون اختفاء الإمبراطور من حياتهم مما دفعهم الى أبعاد أي احتمال بالدفن في أي مكان .. وفي الحق ليس هناك من له كلمة حاسمة .. فقد كان جلالته الرجل الأول والأخير .. على ان الناس لم يفكروا بالحاكم الجديد .. فقد شعروا بالولاء له في موته كما أعلنوا ذلك حد الموت خلال حياته . ومن يرى بكاء الناس وعويلهم والشحوب الذي غاص في محاجر عيونهم والزرقة الممتزجة بالسواد فوق الوجوه يدرك أو يشعر ان نهاية العالم قد حلت ..
وفي تلك الأسابيع التي كانت الجماهير تدور بجثمان الإمبراطور من مكان الى آخر بعد ان تعطلت أعمال الإمبراطورية كلها كان بعض الأعداء قد فقدوا عقولهم لهذا الولاء الذي لم يحدث لجلالته حتى في أيام حكمه الذهبي .. لهذا قرر كبار الأعداء في اجتماعهم السري تأجيل أعمال العنف أو أعلان الحرب أو التحرش بالبلاد . فالناس الآن لا يرغبون ألا بالثأر لإمبراطورهم ، وضد أي شيء . كما ان التوقعات بنشوب حرب أهلية كان محض هراء .. فالشعب كله قد وضع الجثمان في ساحة الخلود ورفض مغادرتها . وكانت البلاد لأول مرة وكأنها تشهد واحدة من تلك الحروب المروعة الطاحنة التي قاد بها الإمبراطور نصف الأمة الى المستنقعات والى الموت . فقد تعطلت الدولة وصار الناس يعملون بغريزة الذهول .. وخلال تلك الأشهر كانت جثة الإمبراطور تتصلب وتزداد فتوة .. الأمر الذي دفع بالغابات والحيوانات والكواكب وحيوانات البحار والأنهار وكل مخلوق حي أو ستدب فيه الحياة لمشاركة بليارات الناس ذلك المصاب الذي لم يحدث له مثيل من قبل .
وتنوعت أشكال المناحات الى مالا نهاية .. فهناك من كتب آلاف آلاف من الروايات والقصص وهناك ملايين الشعراء الذين برعوا في اختراع أصوات هزائم المجد وكلمات ترسم جرح السماء والأرض .. وهناك أجهزة الصوت المدوية تروي مآثره وحروبه ومجده الذي تبدو فوق العتمة .. وهناك النحاتون الذين شيدوا له آلاف التماثيل في كل مكان من المعمورة وأهم من كل ذلك ان هؤلاء الفنانين سوروا البلاد بسور مرتفع من تلك التماثيل الحجرية والبرونزية والحديدية حماية للبلاد من طمع الأعداء ..
ومضى أكثر من عقد والبلاد مازالت تعمق حدادها وتخترع الوسائل المستحدثة للعزاء .. ومن جهة ثانية فقد الأعداء صبرهم وراحوا يخططون لاستثمار الأمور لنواياهم باحتلال البلاد وتدمير الخيال الشعبي الذي فاق أساطير ذلك العالم .. على أنهم ، والبلاد تسّير نفسها بنفسها من غير ملك أو رئيس أو إمبراطور ، أدركوا عمق الكارثة التي ستحل بهم ان عاجلاً أو أجلاً ، لهذا أجلوا أمر غزوا البلاد واكتفوا بمراقبة الأحداث ..
ألا ان الحشود أفاقت ذات مرة والشمس مازالت مشرقة ولم تغب قط وهي ترى الإمبراطور ينهض من نعشه وقد أستعاد شبابه القديم . كان يشع مثل مصباح بين السماء والأرض ، لا يوصف ، ولا قدرة لأحد أن يراه .. وكان ذلك اليوم هو بدء تاريخ الأمة والبشر في كل مكان . وصار الناس منذ ذلك اليوم يحتفلون كل عام بذلك العيد الذي هو آخر أمجاد الإمبراطور . وعيد الخصب . وبعد مرور قرون عديدة مازال بعض كبار السن يشاهدون الإمبراطور يخرج من الماء أو من الأرض أو يهبط من السماء ويتجول مع الفقراء والفلاحين أو يشهد حفلات الأعراس أو يبارك المصلين في المعابد.. وكانوا يتحدثون عن معجزاته التي فاقت الخيال، وأفعاله التي لا توصف.. فقد كانوا يتركون أبواب منازلهم ونوافذهم مشرعة لكي يدخل منها ويشاركهم حياتهم .. ولم يشك أحد من أبناء الأمة أنه لن ينهض في ذات يوم ويعلن عن بدء حقبة من الأحداث العاصفة والمجلجلة الى أبد الآبدين .

18- 28/ 1/ 1991