الاثنين، 26 ديسمبر 2016

رماد وقصص قصيرة أخرى - عادل كامل



رماد وقصص قصيرة أخرى






عادل كامل
[1]   رماد    
    مكثت الحمامة تحوّم فوق الغابة، ترتفع قليلا ً ثم تنخفض، فلا تجد مكانا ً تحط عليه. لقد رأت الأشجار تحولت إلى شبكات تماثل الأسلاك الشائكة، فيما غطى الرماد الأرض..
   فسألت الحمامة نفسها، قبل أن تتخذ قرارا ً: ما الذنب الذي اقترفته كي ُتحرق غابتنا، وأعشاشنا، وأشجارنا؟
ـ أهربي..، اهربي، اهربي.
   بحثت عن مصدر الصوت فلم تجده. فدار بخلدها إنها ربما أخطأت بالعودة، بحثا ً عن ذويها، وأهلها، وأفراد مجموعتها...
لكنها سمعت صوتا ً آخر يخاطبها:
ـ  لا تهربي!
   تذكرت أن جدها قص عليها حكاية مماثلة: فبعد أن حرقوا غابتنا، هربنا، وما أن خمدت النار..، حتى بدأنا بالتسلل والعودة.
  ابتسمت، وهي مازالت تحوّم فوق الأرض الرمادية وقد تحولت إلى تلال من الغبار، والأنقاض، والحفر...، فرفعت رأسها إلى السماء:
ـ يا الهي أهدني إلى القرار الحكيم..
     أصغت، وأصغت، فلم تجد ردا ً، أو جوابا ً...، فضحكت:
ـ  وهل باستطاعتي أن اتخذ أنا قرارا ً حكيما ً، بعد أن لم يتركوا لنا سوى هذا الرماد؟

 
[2] سعادة
ـ ما هي اسعد اللحظات التي تكون بلغت فيها الذروة ..؟
ـ هي اللحظات التي لا أجد فيها ضرورة للإجابة على سؤالك هذا!
ـ وما هي أتعس لحظات حياتك؟
ـ هي اللحظات التي اضطر للبحث عن أسئلتها!

[3] مكيدة
     بعد أن هبطت سفينة الفضاء المحملة بالقرود على سطح كوكب لا تسكنه كائنات حية، قال كبير القرود يخاطبهم:
ـ  والآن ابحثوا معي عن جرثومة التطور...، للقضاء عليها! فمستقبلنا مرهون بمحوها واستئصالها من أجسادنا، ومن عقولنا!
   ضحك احدهم وقال له بصوت مرح:
ـ  ومن قال لك إن السيد دارون كان على صواب...؟ خاصة بعد أن أساء إلينا، ومنح بني البشر شرف الانتساب إلى جنسنا الوديع، الناعم، الرقيق؟
ـ صحيح...، مع ذلك، لا تتركوا جرثومة التطور أو التقدم أو التمدن تعمل لتخرب هذا الكوكب الجميل الخالي من البشر، ومن الكائنات الحية الأخرى ...؟
ـ سيدي، نحن لم نخش أن تكون خطة هربنا من الأرض، محض مكيدة دربها البشر...، ليس للتخلص منا، بل لاستخدامنا في تدمير ما تبقى من الكواكب البريئة؟!

[4] مسرات!
ـ أسألك، يا سيدي، لِم َ نحن شعب يحتقر العمل، ويحتقر المعرفة، ويكره الابتكار، ولا يعمل إلا للانحدار نحو ماضيه السحيق، ويرجع إلى عفن المستنقعات التي خرج منها...؟
ـ لأننا شعب ولد ليوهم نفسه بالذهاب بعيدا ً عن ضرورات الكد، والشقاء، والبحث...، لأننا أدركنا منذ البدء أن العاصفة ستهب ذات يوم فلا تترك أثرا ً إلا ومحته، ولا علامة إلا وأزالتها، فلم الكد، ولم الشقاء، ولم البحث عن نهاية تقررت قبل بدايتها...؟!
ـ آ ...، ومتى ستهب هذه العاصفة اللعينة؟
ـ ولِم َ تتعجل حضورها أيها الأحمق...، ونحن نرفل بمسرات الأحلام الأبدية؟

[5] ديمومة
ـ إذا كانت كل الأشياء لا تدوم...، وهي محكومة بزوالها، قبل وجودها، فلماذا يتوجب علينا الكد ليل نهار..، وتحمل ما لا يحتمل من الأوزار، والعذابات...، وكأننا وجدنا للامساك بالذي لا يذهب إلا إلى المجهول؟
ـ يا حمار...، لولا هذا الحلم، فمن ذا كان باستطاعته أن يعمل على ديمومة هذا الذي لا يدوم!


[6] انتظار
   اجتمعت الفصائل، باختلاف أنواعها، بانتظار رؤية جدهم العائد من المكان الذي لا عودة منه...، وقد مرت الأيام، الأسابيع، الأشهر، السنوات، العقود، القرون، ومرت آلاف السنين، ولم يأت. ولكنهم لم يفقدوا الأمل بعودته من المكان الذي لا عودة منه، لأن الجميع كان لا يرغب بعودته، بعد أن ازدادوا قناعة بان كل منهم كان هو هذا الجد وقد عاد إليهم من المكان الذي لا عودة منه.

[7] مسرات
    وهو يحتضر قال يخاطب أحفاده:
ـ المصادفات السارة هي وحدها إن لم تخف قانونها فان القانون وعدمه سواء! ولهذا ـ يا أحفادي ـ لا تنشغلوا بالبحث عن القانون، فالمصادفات السارة هي وحدها ليست بحاجة إلى برهان، ولا إلى قانون! فمادمنا جميعا ً سنموت، فلا معنى للأسى، حتى لو أمضينا حياتنا بأسرها في الجحيم!

[8] حلم
   بعد أن ولدته، وتعذبت في حمله، خاطب الحمل أمه متذمرا ً:
ـ  لِم َ ولدتني حملا ً وأنا كنت ارغب أن أولد ذئبا ً، أو نمرا ً، أو حتى ثعلبا ً؟
ـ وهل سمعت أن نعجة، مثلي، ولدت شيئا ً آخر؟
ـ آ .....، هذه هي المعضلة، ولكن من ذا باستطاعته أن يجتث رغبتي بالحلم؟!
وابتعد عنها متمتما ً:
ـ فانا علي ّ أن أصبح ذئبا ً أو نمرا ً أو ثعلبا ً وإلا سأكون شريكا ً في تقويض الحلم، بل في وأده،  ودفنه قبل أن يتكون!
صاحت النعجة تخاطب حملها:
ـ أنت إذا ً من أنصار ديمومة الحرب...؟!
   رفع رأسه قليلا ً ورد:
ـ  المعضلة أن الحرب تعرف كيف تحافظ على ديمومتها، إن ولدت ذئبا ً أو حملا ً، إن ولدت غزالا ً أو سبعا ً، إن ولدت أرنبا ً أو تمساحا ً، مادام السراب يذهب ابعد من حدود  نهاياته، ومادام الشيطان وحده يبرهن، يوما ً بعد آخر، أن خططه وضعت في خدمة الرب!

[9] غواية
ـ آ ....، غريب أمر الحية...، سرقت عشبة الخلود من جلجامش، وصارت خالدة، ولكنها، مع ذلك،  ذهبت إلى حواء وأغوتها،  وحواء بدورها أغوت ادم، ليطردوا من الجنة..، لكنها، للآسف، لم تفلح بالقضاء على عدوها؟
ـ ومن هو عدوها؟
ـ اذهب وأسأل الحية التي لم تحصل إلا على  اللعنات، والشتائم، والأوزار! فهي وحدها ستخبرك لماذا لم تتب، ولماذا لم تطلب الغفران، ولماذا لم تطلب التوبة؟!


[10] أساطير
ـ لِم َ أراك منشغلا ً بالأساطير... الخرافات، والأوهام...؟
ـ آ ...، لقد تعبت من رؤية مصانع تصدير الجثث، وتوزيعها، تعمل ليل نهار، وفي  إنتاج المزيد من الضحايا...، وفي تدمير المزيد من المدن، لا تكل، لا تهن، ولا تتوقف عن إنتاج الفائض من الابتكارات...، بالدهشة والجاذبية والجمال؟
ـ هذه هي الأساطير التي  لا يمكن اجتثاثها أبدا ً...!
ـ نعم، حتى بعد زوالنا، فنائنا، واندثارنا، لأنها  وجدت تعمل بخطة لم تبح إلا بإعادتنا أقوى كي يبقى المشهد هذا مزدهرا ً بالجثث، والدخان!

[11] صاحب السعادة
   بعد أن استولى البغل على الإسطبل، بانقلاب مدبر، استدعى الخيول، وسألهم:
ـ هل حقا ً أنا بلا أب...، أم أنا ابن الجميع؟
     صاحت الأتان الواقفة بجواره:
ـ ماذا تقول أيها الزعيم...، أنت ابني أنا، وأنا أمك...!
   هز رأسه:
ـ اعرف ذلك ...، ولكني بصدد معرفة من هو صاحب السعادة الأب السعيد!
ـ أتبحث عن أصلك يا زعيم؟
ـ لا ...، بل أنا بصدد محوه!
ـ اختر واحدا ً من هؤلاء...، فانا نفسي لم يعد يعنيني من يكون...، فأنت الآن أب الجميع، مثلما أنت والدهم الأوحد!

[12] غواية
ـ ما الذي كان سيحدث لو أن أمنا الأولى لم تقع بفخ الغواية...؟
ـ  ليس هذا هو السؤال، يا حمار، بل: من أرسل تلك الحية لتغويها؟
ـ لا....، آ ...، السؤال، يا حمار، هو: هل كان أبونا أعمى؟
ـ لا...، لا ...، وإلا هل كنت ستسأل أسئلة عقيمة خالية من المعنى؟
ـ يا ....، حتى لو لم تكن هناك حية، وحتى لو لم تكن هناك حواء، ولم يكن هناك ادم...، فان الغواية وحدها كانت تعرف كيف تؤدي عملها...
ـ إذا ً.....، الكل أبرياء! ولكن ما جدوى براءتنا بعد أن صرنا نحن لا نأتي إلا بالآثام، والذنوب، والخطايا؟
ـ أكاد اجن...، يا صديقي: فلم تعد تعرف  أيهما كان السبب: الغواية أم حاملها، من أنبتها أو من عمل على ازدهارها...، ما دمنا جميعا ً لا نمتلك إلا أن نكون ضحاياها!


[13] جدل!
ـ مهما عملت، أو لم تعمل، فأنت غير بريء...، لأنك لو لم تعمل شيئا ً فهذا يدل على انك تركت الآثام تزدهر ...، وإن قمت بعمل ما  فهذا يعني انك عملت ضد طرف من الأطراف يدل على انك كنت مع جهة ضد جهة أخرى...، ومع ذلك أنت غير مذنب!، لأنك لو لم تعمل شيئا ً فهذا أفضل دليل على انك شاركت في ترك اللعبة تمضي إن كنت على الحياد فيها أو كنت في طرف من أطرافها. فأنت مذنب لأنك بريء، وأنت بريء لأنك لم تقدر إلا أن تكون مذنبا ً!
ـ وهل هذه ـ سيدي ـ خلاصة حكمتك؟
ـ آه...، لو كانت لدي ّ ذرة حكمة لعرفت كيف أنجو منها! بدل أن أرى هذا القليل من الضوء الذي أضاء لي أبدية الظلمات! ومع ذلك، فانا بريء بآثامي، مثلما آثامي وحدها سمحت لي أن أتذوق مرارات البراءة، وشهدها!

[14] وقت
ـ انظر .. ليس له رأس ويصرخ...، والآخر، له رأس ولا ينبس ببنت شفة؟
ـ ما الغريب في الأمر...، أنا ليس لدي جسد، وأطير، والآخر له جسد، ولكن لا يستطيع حتى أن يدّب!    
ـ أين هي المشكلة إذا ً...؟
ـ  لا توجد مشكلة،  ولكن المطلوب أن تعثر عليها، كي تجد حلا ً مناسبا ً لها!
ـ ها...، المشكلة إن الرأس الذي مازال يصرخ صار غبارا ً...، وذاك الذي بلا جسد مازال يتشبث بالبحث عن موقع خطاه..
ـ لا تكترث...، إنها مسألة وقت...، فالذي لا وجود له يرقد بجوار من كان وجوده قد ذهب ابعد منه!

[15]  موقف
    ـ أنا رأيته يخرج من القبر، ابتعد قليلا ً، ثم اقترب منه، للاطمئنان بأنه لم يبتعد، ولم يخطأ..
   صمت برهة وقال متابعا ً:
ـ ثم راح يزيل اسمه المكتوب فوق الشاخص...، ولكنه وجد صعوبة، فاخرج فأسا ً وراح ينقر بها فوق الصخرة، كانت صلدة، وكانت ضرباته، بدل أن تزيل الحروف وتمحوها، ترسخها، وتعمقها، وتجعلها أكثر وضوحا ً!
   ثم صمت أيضا ً، ليقول:
ـ  نظر إلى اليسار، والى الأمام، والى اليمين، والى الخلف...، فلم يجد أحدا ً يراقبه...، فعاد يضرب بقوة اشد حتى هدم الصخرة وحولها إلى شظايا، آنذاك رفع رأسه إلى السماء، وقال ـ أنا سمعته قال ـ:  الآن لا اشعر بالعار إني ولدت ومت، أو أني مت كي أولد! فانا سأرقد في قبر لا يرقد فيه احد!
ورفع صوته:
ـ لكن جاره الميت، رفع رأسه وناداه: حتى الموت لم يروضك!  فضحك وقال يخاطبه غاضبا ً: انهض، انهض وامح اسمك، لعلك تمحو آثامك، يا نذل! فقال الآخر له: أنا واحد منهم...، فلِم َ أنا نذل؟ اقترب منه وقال هامسا ً: النذالة ليس أن تموت نذلا ً بل أن تدعها تشهد عليك. فأنت لم تفعل شيئا ً ضدها في حياتك، ولا أنت اعترضت عليها بعد أن طمرت تحت هذا التراب!

[16]   دورة
    بعد أن رأى المجزرة تجري أمامه، وقد تناثرت أشلاء الجثث، وغطت الدماء الأرض، تراجع، بهدوء، وعاد إلى مغارته.
ـ ماذا رأيت؟
ـ الكل كان يقتل الكل.
ـ وما الجديد في الأمر؟
ـ  الكل كان يهتف انه دحر الآخر وأباده واجتثه من الوجود ومحاه ولم يترك له اثر.
ـ وما الجديد في الأمر؟
ـ الكل أعلن انه حقق نصرا مؤزرا ً وحاسما ..
ـ وما الجديد؟
ـ  هذه هي المعضلة، لا جديد...، ولكن لا أنا  ولا أنت باستطاعتنا أن نوقف تدفق هذا القديم الجديد، ولا هذا الجديد المندرس.
ـ وما الجديد؟
ـ  إنني سأقطع رأسك..
ـ وما الجديد؟
ـ كي لا تسمعني، ولا تراني.
ـ وما الجديد؟
ـ كي لا أسمعك، ولا أراك.
ـ وما الجديد؟
ـ لا جديد...، لأن المجزرة  لا تدعك تموت فاهلك، ولا تدعني اهلك فتنجو...، فلا أنت كسبت كي اخسر، ولا أنا خسرت كي تنتصر!

[17] تحول
ـ سيدي، بحسب أوامرك: تمت ترقية الخراف إلى ذئاب...، وتم تحويل السباع إلى نعاج، وتم إصدار أمر بمسخ القرود إلى بشر...، والبشر إلى عقارب وصراصير وبرغوث وضفادع!
صاح القائد:
ـ إلا البشر...، لا تدعهم ينعمون حتى بالسكن في المستنقعات!
ـ أمرك.. سيدي، لن أتلاعب بعقولهم...، وسأدعهم يتنافسون ويتبارون بإقامة احتفالات الموت، حتى ترجع غابتنا تنعم بالسلام، والطمأنينة، والصمت!


[18] غياب
سألت الحمامة جارتها:
ـ أراك صامتة..؟
ـ  على ماذا أنوح...، فلم يعد لدينا ما ننوح ونبكي وناسف على فقدانه، وخسرانه..
ـ ابتهجي إذا ً...؟
ـ ألا ترين الجميع يحتفلون بآخر أيامهم فوق ارض هذه الحديقة.
ـ وأين هي الحديقة كي تراني، وأين أنا كي أراها؟

[19] الحقيقة
ـ ما الاختلاف بين الوهم والحقيقة؟
سأل المعلم تلميذه، فأجاب الأخير:
ـ  الوهم هو الذي يقود إلى الحقيقة...، والحقيقة  هي التي لا تقود إلا إلى الوهم...، لان كل منهما لا يستغني عن الآخر، مثل النهار لو عزلته عن الليل، فلا احد  باستطاعته سبر أغوار الظلمات!
ـ وما الاختلاف بين الحقيقة والوهم، وليس بين الوهم والحقيقة..؟
ـ لا توجد حدود فاصلة بينهما، سيدي، ولكن السؤال هو: أين موقعك منهما...؟ فإذا كنت ترى الدنيا وهما ً فلا تظن انك عرفت الحقيقة، وإذا كنت تراها حقيقة فلا تظن أن وهمك سيدوم إلا بحدود غيابها! وهذا هو الذي لا يمكن الاختلاف عليه، لديمومة هذا الذي تراه يزول، ويندثر!

[20] جهنم
طرق الغراب باب جهنم، فسأله أمر الحرس:
ـ ما الذي جاء بك، وماذا تريد؟
ـ أريد أن اعترف!
فسأله أمر الحرس:
ـ وماذا فعلت كي تعترف؟
ـ أنا لم ارتكب ذنبا ً، أو إثما ً، ولا معصية، حتى الآن...، ولكن من ذا يضمن لي أني لن ارتكب فعلة أشنع من الذنب، والإثم، والمعصية...، آنذاك قد لا تسمحوا لي حتى بدخول جهنم!

[21] صراع
ـ هل صحيح، سيدي، كما تقول: انه صراع بين الأكثر معرفة وبين الأقل معرفة، كالحاصل في عالمنا اليوم...؟
ـ لا...، بل هو صراع بين الذي لا يعرف إلا القليل..، وبين من لن يسمح له حتى بمعرفة انه لا يستحق حتى هذا الأقل من القليل!


[22] خجل
سأل الضحية الجلاد:
ـ ألا تخجل... وأنت تزهق روحي؟
ـ لا! لأنك لو كنت عرفت الخجل، أصلا ً، لقضيت علي ّ قبل أن  تواجهني بهذا السؤال!

[23] استحقاق
ـ يا صديقي، لماذا ترتكب الفحشاء، وتفسد، وتسفك دماء الأبرياء...، لماذا ترتكب الموبقات، والخساسات، والدناءات...؟
ـ يا صديقي، افعلها كي يستجيب الإله لتضرعاتي ويغفر لي، بدل أن يرسلني إلى الفردوس، من غير استحقاق!

[24] خطاب
ـ لِم َ تملأ رأسك بالنفايات، والعفن، بدل أن تتركه صفحة بيضاء؟
ـ سيدي، لقد طلبوا مني أن القي خطابا ً على الدواب، والبهائم!

[25] المستقبل
سأل القرد والدته:
ـ هل صحيح إن أصلنا ينحدر عن هؤلاء الأشرار البشر...؟
ـ لا ..، لا يا ولدي الطيب، بل أنا اخشي أن ينتهي مستقبلنا بمثل هذه الكارثة!
ـ ولِم َ كارثة .. مادمنا جميعا ً انحدرنا من عفن سواحل المستنقعات ...، أليس المستقبل، كما قال جدي، هو الماضي مؤجلا ً؟!

[26] محنة
ـ لِم َ تبول الثعالب على السبع الهرم؟
ـ آ ....، لو عرفت الرد...، لعرفت لماذا كلما اقتربت من الموت وجدت شيئا ً ما أغفلته في الدنيا...
ـ وهل ثمة ما يستحق فيها أغفلته حقا ً؟
ـ آ ...، لو عرفت الرد، لعرفت لماذا كلما أسرفت في الدنيا حلمت بالموت، فلا أنا عشت بلا موت، ولا أنا مت بلا  وهم!

[27] رداءة
ـ متى يحقق الأشرار نصرهم المبين...؟
ـ عندما لا يجدون خسارة جديرة بالربح!
ـ أليس هذا هو المستحيل؟
ـ لو كان ما قلته صوابا ً لكانت العقول الجميلة قد كفت عن صناعة هذه  الدناءات!
 1/12/2016
Az4445363@gmail.com


الجمعة، 23 ديسمبر 2016

مونيكا علي.. حكايات المُغترب *نصر عبد الرحمن


مونيكا علي.. حكايات المُغترب
*نصر عبد الرحمن

أصبحت الروائية مونيكا علي من الأسماء الكبيرة في المشهد الأدبي البريطاني منذ صدور رواياتها الأولى «بريك لين» عام 2003، التي أثارت معركة فكرية حادة فور صدورها، ونالت عنها عدة جوائز، وتناولها كبار النقاد على الصفحات الأدبية في بريطانيا. من المعروف أن القراء يترقبون صدور رواياتها الجديدة بلهفة، وسرعان ما تتصدر قائمة الأكثر بيعاً في وقت قياسي.
يرجع السبب في هذه الشهرة وهذا الاعتراف الأدبي الكبير إلى قدرة مونيكا على إثارة قضايا على درجة كبيرة من الأهمية في رواياتها، وعلى رأسها أزمة الهوية لدى المُهاجرين المُقيمين في إنجلترا وتبعاتها الاجتماعية والإنسانية الحادة.

ولدت مونيكا في بنغلاديش عام 1967، لأب بنغالي وأم إنجليزية، ثم انتقلت مع عائلتها إلى إنجلترا وهي في الثالثة من عمرها. حصلت على تعليمها الأساسي بمدارس مدينة برمنجهام، ثم التحقت بجامعة أوكسفورد لتدرس الاقتصاد والسياسة والفلسفة. صدرت روايتها الأولى «بريك لين» عام 2003، واسم الرواية هو اسم شارع رئيسي في الحي الذي تقطنه أغلبية بنغالية في العاصمة البريطانية لندن. وبعد ثلاث سنوات، أصدرت روايتها الثانية «ألينتيجو بلو»، واسم الرواية هو اسم المنطقة الريفية التي تدور فيها الأحداث في البرتغال. وفي عام 2009، أصدرت روايتها الثالثة «في المطبخ»، وفي عام 2011، أصدرت روايتها الرابعة «قصة غير مروية».
في روايتها الأولى، ترصد مونيكا حياة «نازنين»، فتاة بنغالية في الثامنة عشرة من عمرها، تتزوج رجلاً في الأربعين من عمره يُدعى «شانو»، وتنتقل معه من بنجلاديش إلى لندن. تعيش «نازنين» في مُجتمع غريب، ولا تعرف من اللغة الإنجليزية سوى بضع عبارات فقط. تحاول الرواية رصد طبيعة حياتها مع زوجها، ومحاولات التكيف مع المُجتمع المُحيط، وتغوص في حياة المُهاجرين البنغاليين في لندن. يتطرق السرد كذلك إلى حياة شقيقتها «حسينة» التي تعيش في بنجلاديش، من خلال الخطابات المُتبادلة بينهما. تمثل الأخت الصورة الإيجابية للفتاة التي تختار وتدافع عن خياراتها، وتتزوج من تُحب. لكن هذا النمط للفتاة مرفوض اجتماعياً، ترفضه الأم وتحذر ابنتها «نازنين» منه، وتنصحها بأن تستسلم للقدر ولا تحاول مُواجهته أو تحديه. ورغم أن «نازنين» هي البطلة، إلا أن شخصية الزوج هي الأكثر حيوية وثراءً؛ فهو شخصية مُتناقضة إلى حد كبير؛ إذ يتسم بالطيبة وبالتفاخر، ومحاولة ادعاء الثقافة أمام زوجته، إلا أنه لا يفهم المقتطفات التي يستشهد بها من شكسبير (لا يفهم ثقافة البلد الذي يعيش فيه)، ولا يفهم نمط الثقافة التي يعيشها أبناء بنغلاديش في لندن. أضف إلى كل هذا أنه كان كثير الخطط ولكن بلا جدوى، وكان على «نازنين» أن تسانده حتى تتمكن من مغالبة حياتها معه. تناولت الرواية كذلك الكثير من العادات والتقاليد البنغالية البالية.

ورغم أن «بريك لين» كانت المحاولة الأولى للمؤلفة، إلا أن النقاد أشادوا بالثقة والقدرات الفنية العالية التي تتمتع بها الكاتبة، كما أشادوا بالرواية لما تتسم به من تماسك في البناء وقدرة على عرض الشخصيات عبر مواقف مُتراكبة وعلى نحو تصاعدي، مما جعلها نابضة بالحياة. هذا إلى جانب الإشادة باللغة الدقيقة المُعبرة، وقدرة المؤلفة على الإمساك ببعض اللحظات الإنسانية والتعبير عما تمر به الشخصيات من مِحن بدقة شديدة. كما استطاعت الرواية أن تُعبر عن وضع الجاليات الشرقية في الغرب، وما يعانون من غُربة واغتراب؛ خاصة المرأة التي لا يطرأ على حياتها تحسن رغم انتقالها إلى الغرب، لأن المُهاجرات يعشن داخل نفس الشرنقة، رغم تغير المكان.
أثارت الرواية ضجة كبيرة فور صدورها، فقد اهتم بها الجمهور والأدباء والنقاد. كما اختارت مجلة «جرانتا»، المجلة الأدبية المرموقة مونيكا كأفضل روائية شابة في بريطانيا بسبب هذه الرواية. وفي نفس العام، فازت الرواية بثلاث جوائز، كما وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر. وفي عام 2007، تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم، تم عرضه في المملكة المُتحدة وخارجها.
من ناحية أخرى، أثارت الرواية غضب أغلب المُهاجرين البنغال المُقيمين في لندن على وجه التحديد، واتهموا مونيكا بأنها قدمتهم بصورة سلبية، وأنها ليست على دراية كافية بنمط حياتهم لتكتب عنها، وأنهم يناولون من التحيز والتمييز ضدهم ما يكفي. من الغريب أن توجه مثل هذه الاتهامات إلى مونيكا على أنها إحدى الناشطات ضد التمييز في إنجلترا، وكتبت عدة مقالات واشتركت في حملات دعائية ضد التمييز وكراهية الآخر.
تفاقمت الحملة، وحاولت النيل من الرواية بعد الهجوم على مُؤلفتها، إذ شن نشطاء من البنغال حملة نقدية على الرواية، وسرعان ما أصبحت الرواية محوراً لمعركة أدبية ونقدية، إذ هاجمها الصحفيون والنقاد من أصول بنغالية واتهموها بالافتقار إلى الدقة والجماليات الروائية، في حين تصدى لهم كتّاب ونقاد آخرون.

رغم استقرار أوضاع المهاجرين من جنوب شرق آسيا في بريطانيا مقارنة بغيرهم من الجنسيات والجماعات العرقية، إلا أن الرواية أثارت أزمة هوية حادة لديهم لدرجة وصلت إلى اتهام الكاتبة بالخيانة، واعتبارهم الرواية طعنة في ظهورهم على يد واحدة من بني جلدتهم. في الواقع، لا تحمل الرواية إدانة واضحة إلى أحد، ولكنها اقتربت من الواقع بشفافية، وكشفت ضمنيًا عن مُعادلة مُركبة، حدها الأول هو عدم تقبل المُجتمعات الغربية للمُهاجرين ما يؤدي إلى تهميشهم وصعوبة اندماجهم. أما حد المُعادلة الثاني فهو رد فعل المُهاجرين بالانزواء والتحصن داخل أنماطهم المعرفية والثقافية القديمة. يؤدي هذا الموقف إلى خلق جيتو ثقافي وعرقي في الغرب، وإلى حالة من الاغتراب يصل إلى حد الإحساس بالعدمية، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى تفاقم أزمات اجتماعية وإنسانية عنيفة في المستقبل المنظور.
______
*الخليج الثقافي

الخميس، 8 ديسمبر 2016

نظرية “التفاحة الفاسدة” أو خطر "المثال الجيد"

نظرية “التفاحة الفاسدة” أو خطر "المثال الجيد"
صائب خليل
4 كانون الأول 2016



وفاة كاسترو، اثارت اهتماما شعبيا عالميا بكوبا ونظامها. وتركز الاهتمام على نقطتين: الأولى هي ما استطاعت الثورة الاشتراكية تحقيقه للشعب الكوبي، رغم نواقصها، ورغم الحصار الشديد. والنقطة الثانية هي السر في الحماس الأمريكي لإسقاط ذلك النظام والعدد المهول من المؤامرات التي حاكها جاره العملاق عليه، خاصة وأنه لا يبدو ان لهذه الجزيرة أهمية خاصة للاقتصاد الأمريكي. كذلك فإن كاسترو لم يكن شيوعيا في بداية الأمر عندما قام بثورته، بل انه ذهب الى اميركا أولاً يطلب مساعدتها لبناء دولته. ووقتها خرج الرئيس الأمريكي غاضبا من المقابلة مع هذا "الشيوعي". فقال له زملاؤه انه ليس شيوعيا وان الشيوعيين في سجون كوبا، فأجاب: "لا يهمني إن كان شيوعيا أو ليس شيوعي، فهو يتكلم كالشيوعيين"! ومن يومها أعلن الحصار الماراثوني على كوبا، وحتى اليوم. فكيف يتكلم كاسترو "كالشيوعيين" دون ان يكون شيوعياً، وما السر في هذا التدخل الأمريكي غير المسبوق في شؤون هذه الجزيرة؟

يكتب جومسكي: "ليس هناك بلد معفي من خطر التدخل الأمريكي مهما كان قليل الأهمية". مثل لاوس التي كانت أفقر بلد في العالم، وكان سكانها في الستينات يسكنون القرى طيلة حياتهم ولا يعلمون انهم في بلد اسمه لاوس. لكن ما ان تحركت بوادر ثورة بسيطة (ولم يكن لها علاقة بفيتنام) حتى قامت اميركا بقصفها سراً وبكل قسوة.
ولو ان نيكاراغوا والسلفادور اختفيتا، فلن يلحظ ذلك أحد، والكلام مازال لجومسكي. لكن البلدين تعرضا لهجمات قاتلة من قبل الولايات المتحدة كلفتها مليارات الدولارات ومئات الآلاف من الأرواح.

لم يكن ذلك بلا سبب. والخطر حقيقي بالنسبة للولايات المتحدة ومصالحها. فإن نجحت هذه الشعوب بالانقلاب على ظروفها البائسة، فأن شعوب البلدان المجاورة ستسأل نفسها: "ولم لا نستطيع نحن ايضاً؟"
وقد شرح نيكسون ذلك بصراحة في تبرير تدبير الانقلاب على تشيلي، فوصف تشيلي الندي بأنها "فيروس" يهدد بإصابة المنطقة كلها والامتداد حتى إلى إيطاليا. لذلك سارعت السي آي أي إلى الانقلاب الدموي الذي جاء ببينوشيت وتم تدمير "الخطر". (1)

مثال آخر: غرينادا، بلد كان يسكنه حوالي 100 ألف نسمة، يزرعون "جوزة الطيب"، وليس لديها من اسطول أكثر من عشرة قوارب صيد، وليس من السهل ان تجدها على الخارطة. ولكن ما ان شعرت اميركا ان هناك حركة ثورة اجتماعية متواضعة حتى تحركت واشنطن لتدمر "الخطر". فقد انقلبت حركة "الجوهرة الجديدة" الاشتراكية عام 1979 على حكومة الدكتاتور الدموي جيري المدعوم من قبل الولايات المتحدة، من خلال عميلهم بينوشيت في شيلي.
ويقول بيكلو: "في 1982 عندما زرت الجزيرة، كانت هناك حملة لمحو الأمية وبناء المدارس وتشغيل الشباب في مزارع جماعية، بمساعدة من كوبا تتمثل بالمعلمين والأطباء والعمال الفنيين، مما خفض البطالة خلال أربع سنوات من 49% إلى 14% (2)

لقد حذر وزير الخارجية الأمريكي دين اشيسون منذ أواخر الأربعينات، "أن تفاحة فاسدة واحدة قد تفسد السلة كلها". واتبع من تلاه النصيحة. وتسمى نظرية "التفاحة الفاسدة" أيضا بـ "نظرية الدومينو"، والتي تناسب تماما من يريد تضخيم الأمور وتبرير الاعتداء. لكن الخطر على "النظام الأمريكي للعالم" كان حقيقيا، خطر "المثال الجيد"!

ومن الأمثلة المباشرة على ذلك تبرير تدبير الانقلاب على حكومة غواتيمالا المنتخبة ديمقراطيا عام 1954 بأن "غواتيمالا تمثل خطراً متزايدا على استقرار الهندوراس والسلفادور، من خلال برنامجها الواسع للإصلاح الزراعي والذي يحقق الكثير من الدعم لفقراء الفلاحين والعمال في صراعهم في وجه الاقطاع والشركات الأجنبية. فهذا البرنامج يمثل "إغراءاً" كبيرا لفقراء الدول المجاورة لغواتيمالا ليثوروا على الأنظمة الفاسدة المدعومة من اميركا.

وتشرح ديانا ميلروز في كتابها "نيكاراغوا: تهديد المثال الجيد"(3) صراع الساندينيستا من اجل العدالة الاجتماعية بعد اطاحتهم بـ "الحرس القومي" الذي كان يعمل تحت أمرة الدكتاتور سوموزا المدعوم من اميركا، والذين اسمتهم اميركا لاحقا بـ "المقاتلين من اجل الحرية"، ليشنوا حرب العصابات (الكونترا) على الساندينيستا
وكانت الأوكسفام قد امتدحت حكومة الساندينيستا لتحسينهم الظروف المعيشية للسكان ومشاركتهم التطور. ووصف البنك الدولي بأن تلك المشاريع كانت "الأفضل في العالم"، متوقعا لها تقدما مضطردا. وتفسر ميلروز سبب حماس اميركا للانقلاب أن نظام الساندنيستا كان يعطي "مثالا جيداً" صارخاً لأمة صغيرة تمكنت من التملص من اضطهاد الدكتاتورية المدعومة من أكبر قوة في العالم، وان هذا “المثال الجيد” يسبب احراجا كبيرا للولايات المتحدة والأنظمة الفاسدة التي تدعمها في المنطقة.  

يكتب جومسكي "ان الأمر المركزي بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة تجاه العالم الثالث، هو أن تدافع عن "حقها" في السرقة والاستغلال." ويكشف جومسكي ان الوثائق الأمريكية السرية وسجلات التخطيط تبين أن العدو الأسأسي هو الشعب الأصلي للبلد الذي قد يحاول ان يستغل ثروات بلاده لبناء مستقبله، وأنه من الضروري إبقاء الشعب ضمن المستوى المطلوب من الجهل واللامبالاة. (4)

وهذا كان بالضبط الكلام الذي اغضب الرئيس الأمريكي من كاسترو. فهذا الرجل جاء يطلب المعونة ليستغل ثروات كوبا (البسيطة) لصالح شعبها، وهو الكلام الذي "يشبه الشيوعيين"، رغم انه لم يكن شيوعيا.

وكمثال على ما حققته كوبا في مسيرتها : "من بين 900 ألف طفل يموتون في العالم كل شهر نتيجة للفقر، لا يوجد طفل كوبي. ومن بين 200 مليون طفل في جميع أنحاء العالم ينامون في الشارع كل يوم، ليس بينهم طفل كوبي. في جميع أنحاء العالم، يضطر 250 مليون طفل تحت سن 13 للعمل من أجل البقاء على قيد الحياة، ويجبر أكثر من مليون طفل سنويا على ممارسة الدعارة، وعشرات الآلاف من الأطفال هم ضحايا للاتجار الدولي بالأعضاء البشرية، ويموت 25000 طفل يوميا من الحصبة والملاريا والإسهال والالتهاب الرئوي وسوء التغذية، لا أحد منهم من كوبا."، حسب خوسيه خوان أورتيز، من اليونيسيف.

إنها بلا شك "مثال جيد" شديد الإغراء لكل شعوب اميركا اللاتينية، بل حتى لفقراء اميركا نفسهم، والذين يأتي البعض منهم للعلاج في كوبا حين يعجز عن دفع ثمن الدواء في بلاده. ليس إذن هناك من عجب في ذلك العداء الشديد وذلك الإحساس بالخطر.

(1) THE THREAT OF A GOOD EXAMPLE
(2) Grenada: Remembering ‘A Lovely Little War’
(3)   Nicaragua: The threat of a good example?: Dianna Melrose
(4) Containing Internal Aggression

فلم مهم حول الموضوع
The Threat of a Good Example - YouTube

الكاتب رساما ً الصور الشخصية لعدنان المبارك












 


الكاتب رساما ً
الصور الشخصية  لعدنان المبارك
[ نماذج ]



     في نصوص الكاتب عدنان المبارك السردية، في القصة وفي الرواية، وفي اليوميات والرسائل..الخ ، تتداخل الصور، حد الانصهار،  على خلاف رسوماته، يتوارى فيها الكلام (الصوت) لصالح النص ـ الصمت.
    على إنها ليست عملية فنية خالصة، إلا بما تتضمنه من محفزات ابعد، فالوجه ـ البورتريه ـ  يلخص كيان الفنان/ الكاتب، بوصفه إشكالية وجودية لا يمكن عزلها عن عواملها التكوينية.
    ها نحن إزاء وجه معزول، وحيد، محاصر، مختزل، مضغوط، مستلب ..الخ، إزاء العالم الخارجي. فالوجه غدا يتمثل الأوضاع المستلبة بوصفها مرئية من لدن الآخرين، وليست مرئية من قبل الفنان ذاته حسب. فهو ضحية، صورها الكاتب بسرد صامت عبر تقنيات الحاسوب...، إنما هناك الجسور بين الذات والعالم ـ والعالم والذات، سمحت للكاتب الفنان أن يدلي بشهادة (ما) تلخص رؤيته، أدواته، وما شاهده وعبر عنه إزاء عالم  قائم على سلاسل من الأسئلة المولدة لمصائر لم تنفك تغذي صراعها من غير استسلام أو وهن، أو خاتمة.
    هنا ـ تحديدا ً ـ تكمن قوة (الهشاشة/ الاستلاب/ الضعف)، بوصفها مكثت تحدق في العالم الذي قيدها وأسرها واحتجزها داخل: طول ـ عرض، وبعد متعدد الأبعاد، ينتقل من الصورة إلى: الرائي.
   إنما هناك قراءات لهذه النصوص الفنية، متعددة بما يمنحه المنهج، للـ (البورتريه) موقعه في تاريخ الرسم، منذ عصر رسومات المغارات، حتى يومنا هذا. فثمة أساس يسمح للتعبير أن يتضمن الرموز والمعاني المخبأة والمشفرات اللاواعية ...الخ، تتيح لأية قراءة أن توسع من مساحة الجدل، المعرفة، والاستبصار، ليس إزاء  الوجه، بل بما عمل على كتمانه، من اجل أن يشكل دافعا ً حيويا ً للديمومة، والعبور، في الممرات، من المجهول إلى ما لا يمكن وضع حد لنهايته.

عادل كامل

أسئلة وأجوبة عدا سؤال واحد ينتظر الجواب


 أسئلة وأجوبة عدا سؤال واحد ينتظر الجواب :



عدنان المبارك

الماضي ؟ مشطوب عليه مع سبق الإصرار ، وقبلها وضع في المجمّدة.
المستقبل ؟ محتويات لألعاب كومبيوترية – بلاي ستيشن
الحاضر ؟ لاشيء سوى اجترار ما كان وما سيكون في الحلم والواقعين ( الواقعي ) و(الافتراضي ).

البشرية ؟ أسطورة بماكياج سيء.
الله ؟ طنطل يخيفون به غير الأطفال ، ووضعوا على رأسه شتى الأكاليل.
الملائكة ؟ من نسل ( باربي
Barbi ) الأميريكانية.
التأريخ ؟ مائدة لئام.
الموسيقى ؟ جهة كونية طيّبة اخترعتها.
الكتابة ؟ مسرح غير جماهيري يصعد خشبته محترفون وهواة.
الحب ؟ مرض طفولة متأخرة.
العالم ( الكون ) ؟ أهو موجود فعلا ؟
المجتمع ؟ شباك عناكب ذات جوع أبدي.
العقل ، الوعي ، اللاوعي ؟ الأول اخترع الأميركان مخّا له بالألوان ، والثاني صار يصلح للثرثرة. أما الثالث فهو ربّ سحيق في القدم وله أكثر من ألف وجه.
الأصدقاء ؟ باي باي الى يوم النشور.
وأمّنا الحواس ؟ لا أعرف ، فنحن فطمنا من زمان.
الفلاسفة ؟ من الأسلم التظاهر بأني لا أعرفهم.
الزمن ؟ فقأ عينيّ وصرت لا أراه لكني أملك من وقت الى آخر تصورا ساذجا عنه.
المكان ؟ الخوض في مياة راكدة مستوردة من عالم افتراضي بالغ القدم.
السماء ؟ صار لاشيء فيها سوى الألوان الحربائية.
الموت ؟ استراحة طويلة من شعثاء السفر.
الحياة على الأرض ؟ معمار بدائي- أميبي تصاعد أعلى فأعلى كي ينهار قبل ( النهاية السعيدة ).
الجنة ؟ قد يكون بورخيس محقا ، فهي ليست بحديقة.
الجحيم ؟ سكن أرضي مستأجر بصورة دائمية.
القيامة ؟ فزّاعة طيور في أرض لم تزرع أبدا.
السعادة ؟ عاقبة سكرة بلا خمر.
اليأس ؟ عودة خائبة إلى صحراء مقرّها السراب.
الشعر ؟ خروج من قمقم بلا عنق في ظلام دامس.
ما قبل التأريخ ؟ فترات سعيدة لكاليبان الشكسبيري تستمر لغاية اليوم.
من أنا ؟ لا أعرف. رجائي الحار لمن يعرف ، الاتصال بي على الأيميل :
adnan1935@gmail.com


باندهولم – تشرين أول / سبتمبر 2014

جواد... جواد ... جواد .




  جواد... جواد ... جواد .

عدنان المبارك


شمس بابل وقباب بغداد ونساء حماماتها
فتح كل الشبابيك لها هذا القادم من درب تبّانة حط في الرصافة .
كان قد رسم على جدران الزقاق المجاور
الأهليلجات والناريجلات ومويجات دجلة النزقة.
ثم راح إلى امرأتنا البغدادية .
رسم هالة مرئية حول العين بالكحل.
جرّاوية الأسطه أراد وضعها على رأس انكيدو،
وانتزاع السهم من صدر اللبوءة.
عمل استراحة تذكارية ،
وجلس مترنما مع الجالغي والمقام.
أمامه جاي سنكين ،
وفي رأسه
بضع حكايات من شهرزاد
راح يستمع اليها الواسطي أيضا ،
رغم أنه دخل من زمان ، رواق المقامات
وأولئك الرجال والخيول والجدران التي أضاعت جغرافيتها.
رفع ابن سليم فوق بغداده لافتة من رخام أضاءتها شمسان -
كونية وأخرى كانت قد شبّت في قلبه ومعه.
ثم ابتعدت دجلته في منعطف الزوّية
وهي تردد بحزن شفيف :
جواد ... جواد... جواد...


باندهولم 26- أيلول 2013

الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

في ثيمات ( مستقبل الماضي )



 في ثيمات ( مستقبل الماضي )



عدنان المبارك
( مستقبل الماضي ). يذكرني هذا الاسم بنص لأرنست بلوخ بعنوان (هل يوجد مستقبل في الماضي ؟ ). بعبارة أخرى المقصود هنا هيمنة الماضي على الحاضر ، ولربما المستقبل في منطقتنا. وأعترف بأن الكتابة عن مثل هذه الإشكالية – المحيط ليست بالأمر السهل و يصعب أن تنصفها حتى دراسة مطولة. لكن لأحاول مسك الخطوط الرئيسية.
واضح أن الماضي هنا هو التقاليد / التراث من ناحية ، ومن أخرى المواجهة بينها و المعاصرة / الحداثة أو ما بعدها. معلوم أن مثل هذه القضايا هي من اختصاصات العلوم الإجتماعية بالدرجة الأولى. فالتعارض بين التقاليد و الحداثة في الغرب مثلا ، يملك أبعادا أخرى كما يتم طرح طرفي المواجهة على أصعدة مغايرة تماما. فهنا نحن شهود ظواهر تبدو مفارقات صرفة : تقليديون مبرمَجون و أعداء كل جدة لكنهم كانوا من الناحية الفعلية مجددين ثوّروا الفكر و الحياة الاجتماعية. وهناك وقائع تشير إلى أن أنصار الجدة لم يفعلوا في واقع الحال شيئا غير استنساخ نماذج معروفة. إلا أني أخشى التعميم .
هناك من فرّق بين التقليدية المضمونية و الأخرى الشكلية. الأولى يكون جوهرها في أن الفكرة تكتسب مشروعيتها وقوتها القانونية من حقيقة انحدارها من الماضي إذ أنها توكيد واع على ما كان ولأنه قد كان. أما الثانية فتعتمد على أن الفكرة تنحدر حقا من الماضي إلا أنها تقبل أو ترفض بمعزل عن هذه الأرومة.
لا أظن أن أحدا قادر على نكران حقيقة أن معادلة التقاليد و الحداثة أصبحت العتلة الفعلية للتأريخ المعاصر لما يسمى بشعوب العالم الثالث والتي تبحث عن هويتها الاجتماعية – السياسية - الثقافية في ساحة ينتصب فيها واقعان : التأخر القومي و التقدم الكوزموبولتي. وفي الواقع تلقى المعادلة صياغتين : القومية والشمولية ( أي فوق القومية ). الأولى عرفتها أمم أوربا في فجر العصور الحديثة حين تعرض التطور الثقافي ، نتيجة الثورة الصناعية و الكثير من الثورات السياسية ، لإسراع لاسابق له في التاريخ. ففي نهاية القرن الثامن عشر جاء وللمرة الأولى هذا السؤال : هل على المجتمع المولود حديثا أن يكون رفضا حازما للمجتمع القديم ، ( التقليدي )، و إذا حصل هذا الرفض ألا يكون ثمن التقدم باهظا ؟ قد يبدو السؤال من النوع الأصولي. فالعالم ،ومنذ بدء تحوله إلى وحدة تترسخ فعليتها بصورة دائمة ، صار التقدم فيه مرتبطا بعملية الانصهار العشوائي بالنماذج التي خلقتها المجتمعات ( المتقدمة ). وفي مثل هذا العالم صار من المحال التهرب من السؤال ، وكان بالغ الخطورة على روسيا القرن التاسع عشر مثلا : ألا يعني الثمن بالنسبة للشعوب ( المتخلفة ) التخلي عن هويتها الثقافية وأن هذا التحديث محض تمغرب ؟
في الواقع أرتد ( بوميرانغ ) التقدم إلى نحر الغرب ، فهناك ظهرت أولى الأعراض لأولى الأمراض التي كانت جراثيمها في الحداثة ، وفي أوربا نفسها بدأت ميلانخوليا السقوط الحضاري التي أرهصت أسئلة إستثمرتها الكولونيالية فيما بعد ، من نوع : ألا يصعب على إنسان الغرب والمعتاد على وصفته الحداثتية فهم الصلات العضوية بين القديم والجديد في المناطق الأخرى ،مثلا : النزعة النهضوية في الإسلام أو ظاهرة اليابان الحديثة التي أخذت التقنية من الغرب بل الأشكال السياسية لكنها بقيت من نواح كثيرة متباينة عنه. بعبارة أخرى : هناك ضرورة للتخلي عن المسطرة القديمة للحصر والفرز فيما يخص التغيرات . فالمفاهيم القديمة نسبيا كانت تفترض أن التقدم ، ومعه الحداثة ، يتحدد في مجموعة من الظواهر التي تتكامل وتترابط فيما بينها. ووفق النموذج الغربي تكون هذه هي الصناعة و الإعمار المدني و الدمقرطة و التعليم والتخصص و العقلنة والعلمنة إلخ. و رافق الإيمان بهذه الهياكل الظاهراتية الاعتقاد بأن المجتمع كلما غذ السير في هذا الطريق ازدادت سعادة أفراده. لكن التجارب الأحدث كشفت عن أن المجتمع الآخذ بالتحديث يقوم بعملية إنتقاء واعية الى حد كبير كي يحصر أضرار التحديث والتي تلحق بطرز المعيشة و التفكير.
وهكذا أصبحت المشكلة ليس الإختيار بين التقاليد و الحداثة ( التحديث ) بل الأخذ والنبذ . وعلى حد تعبير أرنست بلوخ الماركسي ( المجدّد ) تكون التقاليد أوقيانوسا بلا سواحل ، وأن الإنسان لايعيش ونظره مشدود ، مباشرة ، الى الوراء أو الأمام. عموما نحن لسنا حاضرين في الذكريات ولا في الأحلام عن المستقبل. فالوعي يخص مباشرة الحاضر – الآن حسب. ووفق بلوخ يكون الحاضر مشروع يوتوبيا نزمع تحقيقها. فالمستقبل يخص مرتبة الإمكان أي على العكس من الأخرى : الحياة الكونكريتية التي تعني مرتبة التقاليد. بهذه الصورة يفصل هذا المفكر بين مرتبتي التقاليد و اليوتوبيائية خاصة أن الماضي يعمل على ظهور ما أسماه بأوهام الطمأنينة و النظام . وكان أكبر مثال على هذه النوستالجيا قد جاء به عصر الرومانسية الأوربية في العقود الأربعة الأولى من القرن التاسع عشر. فالسلفيون الفرنسيون وضعوا المعادلة بين الثورة الفرنسية و اليعاقبة و نابليون وبين آل بوربون بعصره الملكي ( الباهر ) من القرن الثامن عشر. و في ألمانيا عاد السلفيون القهقرى الى العصر الوسيط - زمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة بقيادة الأمة الألمانية ( معروفة هنا صيحة نوفاليس : المسيحية هي أوربا ). بهذه الصورة حوّلت الرومانسية الماضي إلى يوتوبيا من الصنف المفزع. لكن بلوخ يعتبر التقاليد التي كانت تسود في الماضي مرتبطة بما أسماه : المستقبل الممكن في الماضي. و القصد واضح هنا . فبلوخ يجد أن التقاليد تعني جنين ( الصورة ) و ( التقدم ) الذي يظل يولد ويشب في شروط بيئية صعبة . ويضرب مثلا على ذلك بثورة الفلاحين الألمان الفاشلة والذين عادوا مهزومين الى بيوتهم في عام 1525 وهم ينشدون ( نولي مهزومين لكن أحفادنا سيضربون السادة ). وهكذا وفق مسطرة بلوخ تكون التقاليد شيئا لم يحقق نضوجه بعد. ومن المعطف الماركسي يخرج مفهوم آخر يعامل التقدم كتقاليد مطوَّرة أو معدَّلة.
واضح أن مثل هذه الطروحات تخص تلك ( الصيغة القومية ) لمعادلة التقاليد و الحداثة. أما الأخرى الشمولية فلها مجسداتها الكثيرة في العالم غير الأوربي منحدرا ً وحضارة. أعتقد انها صيغة متجانسة للغاية سواء أكانت الصيغة عربية أو أخرى آسيوية أو أفريقية . و الإختلاف يكمن في سبل التجسد. فقبل قرن قال مفكر ياباني ( آسيا هي واحدة ) حين رأى الهجمة الكولونيالية. وجاء حينها التضامن الآسيوي بشيء من الثمار . إلا أن اليابان حين نجحت في التمغرب مارست سياسة التوسع بالأسلوب الغربي ذاته. و اليوم ينادي ياباني آخر ( العالم واحد ). وقصده أنه تحت أنشوطة الأخطار المعاصرة ليس هناك غير عنق واحد – عنق البشرية جمعاء. وفي الواقع يجد هذا الياباني ، وهو الفيلسوف سابورو إيتشي ، أن العالم تعرض خلال قرن الى تغيرات راديكالية أخذت تكتسب شكلا غير طاريء للتكامل. وهنا يعترض على القائلين بالتناقض المحتوم بين التقاليد و الحداثة. لكنه يتكلم عن إن الخيار الوحيد أمام الثقافات غير الأوربية هو صيغة مبهمة من التركيب يفسرها بعضهم بأنها ( تلقيح ) و آخر ب( إستعارة معقلنة ). وبرأي أيتشو جلبت الحداثة لأوربا أشكالا إجتماعية جديدة تمثلت بتطور العلم والتكنيك الذي إختزن في الثورة الصناعية. ويلخص هذا التحول بهذه المقولة : المواصلة الإعتيادية للتقاليد لا تعطي العالم مهندسا واحدا للمكائن الرقمية...
من ناحية اخرى نجده يقول بأن إزدهار العلم في أوربا العصور الحديثة كان بمثابة إحياء واع للتقاليد العلمية من القرنين السادس و السابع قبل الميلاد. ويوصي إيتشو بمراجعة أفكار روسو ولوك، كما يعترف بقيام صعوبات بالغة عند فهم عمليات مثل الإحياء الواعي لتقاليد معينة أو خلق أخرى جديدة. غير أنه يجد المفارقة الكبرى للتأريخ في أن أيّ بلد آسيوي ليس بمستعمَر اليوم من الناحية الشكلية على الأقل ، و أن الهيمنة الكولولنيالية قد صفيت لكن التكنولوجيا العلمية التي جاءت لهذا العالم سوية مع غزو السوق الرأسمالية الغربية قد تطورت الى درجة ان فرعها ( صناعات التسلح ) يهدد البشرية كلها ، ومن هنا ( العالم واحد ) كرد على تحدي التسلح و الفناء الشامل.
يحدد التعريف القاموسي التقاليد بمعتقدات وعادات و أساليب سلوك تنحدر من الماضي وتتناقلها الأجيال. إلا أن مثل هذا التعريف يتجاوز اللحظة الأهم : الناس العائشون في المجموعة و المحرومون من التقاليد يخيم على حياتهم الخوف واللايقين الدائمان مما يدفعهم في طريق الفوضى. وهكذا تلعب التقاليد في شتى المجتمعات الدور المناط بالغرائز عند الحيوانات ، كما أن التقاليد تملك قوة تنظيم سلوك الفرد في المجموعة. و الفارق الوحيد بين التقاليد وتلك الغرائز هو أن الأولى " قابلة التجديد " . وقد لا تكون مناسبة تماما هنا صفة التجديد الذي يمكن أن يكون تمازجا لتقاليد أو تغلغلا لها. و يصنف الباحثون ثلاثة أنواع : التغلغل الآلي لتقاليد ثقافية في أخرى ، وهنا نرى خصائصا قومية و أخرى شمولية ( هي غربية عموما ) لكنها متجاورة ولم تخضع تماما للتركيب أو الصهر العشوائي. و النوع الثاني يكون التركيب ، الوصل العضوي ، وهو متقدم هنا الى درجة يصعب فيها التفرقة بين الخصائص. والنوع الثالث إستعارة الجديد وفق العادة القومية. إلا أن الإشكال الرئيسي يحدده هذا السؤال : أيّ شيء ينبغي أخذه من القطبين : الحداثة و التقاليد وأيّ شيء علينا نبذه أو دفعه الى المرتبة الثانية ؟ لكن ما المقصود بالتقاليد / الماضي / التراث ؟ هناك عدد لا يحصى من التعاريف غير أنه ثمة إتفاق فيما يتعلق بخصائص كثيرة تحدد جوهر التقاليد. مثلا يعود العالم الأميركي ادوارد شيلز الى الكلمة اللاتينية
traditio التي تعني بالضبط نقل العادات و الآراء و المعتقدات من جيل الى آخر . و يجد شيلز أن معيار التكرار الثابت في التقاليد هو أحد المعايير حسب. فالتقاليد هي آراء ذات بنية إجتماعية خاصة : إنها إتفاق في الزمن مما يعني أن كل جديد هو تعديل لشيء كان قائما.
لابد هنا من الإشارة الى إفلاس تصوّر معين عن التقدم كطرد تدريجي لكل ما هو قديم ، وعن التحديث كإنتصار محتوم على التقاليد التي كانت تعيق مسيرته...
فيما يخص إشكالية التقاليد / التراث – الحداثة / التقدم ثمة قوالب تفكيرية كثيرة لطرفيها أي المجتمعات التقليدية و مفاهيم التطور الإجتماعي . من هذه القوالب هناك الإعتقاد بأن تلك المجتمعات هي في جوهرها متجانسة ومتماسكة و ثابتة وأن كل تغيير يعني في المحصلة النهائية تدميرها ولأن ( التقليدي ) هو كل شيء لم يصبح ( حديثا ) بعد ، وهذا يعني أنه كف عن أن يكون ( تقليديا )، أما التطور الاجتماعي فهو عملية محتومة للانفصال عن التقاليد.
في الواقع نلقى هذا الموقف ن في جميع النظريات السوسيولوجية من القرن التاسع عشر و بداية القرن الماضي. بالطبع ليس بمقدورنا تفنيد كل شيء في هذه النظريات بل بوسعنا فقط أن نشير الى إفتقاد الجواب على ذلك السؤال : أيّ شيء في التقاليد يملك فرص البقاء في المجتمع الحديث و أيّ حاجة يلبيها. و الواضح ايضا أنه يعوز هذه النظريات الوعي البيّن بأن كلمات مثل ( الحداثة ) أو ( التقدم ) أو ( التطور ) لا تعني بالضرورة أعراضا للتحولات التي عرفها الغرب.
إن كل هذه الثغرات و النواقص أصبحت أكثر فعلية حين خص الأمر المجتمعات غير الأوربية التي أرادت تحديثا من دون تمغرب ، من دون نبذ هويتها التقليدية. و في الحقيقة يصبح راهنا وضروريا مبدأ ( الوحدة في التنوع ) الذي يروجه الكثيرون من علماء الإجتماع وغيرهم ، مما يعني ، على سبيل المثال ، أن ليس بالضرورة أن تدمر الصناعة الحرفَ ، و العلمُ الدينَ ، و الطبُ السحرَ. فالأشكال الجديدة قد توسع نطاق الخيارات. و الأكثر من ذلك فالعناصر الجديدة و القديمة تلتقي ، و لأكثر من مرة ، في مواقع تبدو بالغة الغرابة لإنسان الغرب المعتاد على وصفة واحدة للحداثة. بعبارة أخرى ليس هناك وصفة حداثتية واحدة للعوالم الأخرى غير الغربية. فالحداثة اليابانية هي أخرى غير المصرية مثلا. و إذا إنقاد واحدنا الى الحس الواقعي فلابد من تسليمه هنا بذلك المقترح الذي ثبتت صحته و مصداقيته أكثر من مرة : ( التطور وليس الثورة
Evolution not revolution ) ...

غياب عدنان المبارك “خريفٌ قاسٍ على الثقافة العراقية.. ورقة وارفة أخرى تهاوت عن الغصن”




غياب عدنان المبارك “خريفٌ قاسٍ على الثقافة العراقية.. ورقة وارفة أخرى تهاوت عن الغصن


فلورنسا - عرفان رشيد

   قاس هذا الخريف على الثقافة العراقية وعلى عقولها المبدعة وبصائرها الثرّة، وهو أكثر قسوة على الثقافة البصرية، حيث نالت المنيّة الأربعاء، الخامس من أكتوبر، الكاتب والمترجم البصري الكبير عدنان المبارك بعد أقل من أسبوعين من رحيل المخرج والممثل المسرحي حميد الحساني وقبل أيام من المخرج التلفزيوني الكبير عمّانوئيل رسّام والرسام والخطاط عزيز النائب.
ولا تكمن الفجيعة الكبرى في هذه الغيابات في الموت نفسه، إذْ هو مصير كل كائن، لكن في كون هؤلاء الذين رحلوا، ومَن قبلَهم، مؤسِّسينَ في الثقافة العراقية، ولم تتمكن سني الغربة والمنافي من اقتلاع حب الوطن من دواخلهم ولا أن تبعدهم قيد أنملة من الحلم في تقديم ما هو جميل ومفيد وجديد وإنساني إلى هذه الثقافة وإلى هذا الوطن الذي ابتُلي لأكثر من ربع قرن بحكم صدام حسين والبعث وبحكم الأحزاب الطائفية والفساد المستشري منذ ما يربو على أربعة عشر عاماً، وكل ذلك جعل البلاد الأكثر ثراءً في الدنيا مزبلة خربة متهالكة.  ورثا الكاتب العراقي الكبير محمد خضير صديقه وابن بصرته الكاتب والمترجم العراقي الكبير عدنان المبارك قوله ”رحيل آخر وراء الأفق المكسور بالآلام. له الرحمة والغفران”، وبدا الاختزال في ذلك الرثاء كما لو أن ألم الفراق أوقف قلم محمّد خضيّر، كما توقف الغيابات المؤلمة العبرات في الحلق المحروق والعين المشرقة بالدمع. والناظر إلى المنجز الذي تركه الراحل عدنان المبارك خلال العقود الأربعة الماضية يجد نفسه ماثلاً أمام مكتبة متكاملة من التأليف والدراسة والبحث والترجمة، ويضعه ذلك المُنجز مصاف كبار مزوّدي العقل العربي بنسغ الثقافة مثل سامي الدروبي جورج طرابيشي وغيرهما من كبار خمسينات وستينات القرن الماضي. وحسب ما أورده الكاتب والفنان كريم النجار في موقعه على الفيس بوك فإن الراحل عدنان المبارك ولد في البصرة عام 1935، وأنهى دراساته العليا في تاريخ الفن في جامعة وارشو، حيث أقام في بولندا حتى عام 199 ثم انتقل إلى الدانمارك ، حتى توفاه الأجل يوم 5-10-2016. عمل المبارك في صحافة بغداد ووكالة الأنباء العراقية ومراسلاً للصحافة الثقافية في السبعينات والثمانينات . من بين مؤلفاته : «الاتجاهات الرئيسية في الفن الحديث على ضوء نظرية هربرت ريد» ، "«فلسفة التكنيك»، «فن الشمولية . الطليعة الروسية نموذجا»، «إشكاليات أساسية في الفن :المحاكاة ، المخيلة ، التعبير، التشخيص والتجريد»، «القرن العشرون ــ التحولات الكبرى في تاريخ البشرية»، «برج بابل الألكتروني - في إشكالية المواجهة بين الإنسان و الماكنة»، «يوتوبيات القرن - الأنظمة الشمولية»، «في التشكيل ، في علم الجمال»، «في مدارات الثقافة»، «الفن السابع . اضاءات»، «أطياف الكتابة»، «مقاربات في الفن»، «في متاهة الحاضر»، «ماتريكس وثنائية الواقع»، «يوميات الملح». وترك المبارك مجموعة من الروايات والقصص من بينها «الزاغور»، «ترس السلحفاة أو الموت في كل يوم»، «تحت سور الصفيح»، »رسائل الى موتى»، «بالمقلوب»، «حكايات السيجارة الأخيرة»، «ماقبل الطوفان الثاني». و ترجم العديد من الكتب ، من بينها: «الكاتب وكوابيسه» لأرنستو ساباتو، «معالجات في الأدب» لأرنستو ساباتو، «الفن والكومبيوتر» للعالم البولندي مارك هيولسكي، «فن الصورة الشخصية» للباحث البولندي فويتشيخ شتابا، سيناريو فيلم أنغمار برغمان « وجهاً لوجه »، مسرحية « خيانة » لهارولد بنتر، رواية « 0 » للشاعر الروسي أندري فوزوينينسكي، كتاب «مكتبة القرن الحادي و العشرين» للكاتب البولندي ستانسلاف ليم، «مذكرات المخرج الايطالي فيتوريو دي سيكا». وترجم العديد من أعمال أخرى لكتاب بولنديين و آخرين من أمثال فيتولد غورمبروفتش و سوافومير مروجيك و تاديوش روجيفتش وصوفيا ناوكوفسكا و كارين بلكسن ولويس خورخه بورخيس وغيرهم ( معظمها منشور في موقع القصة العراقية). وشارك مع د. زهير شليبة في إعداد أنثولوجيا للشعر الدنماركي و أخرى قصصية للكاتبة الدنماركية الكبيرة كارين بلكسن. ونشر الكثير من المقالات والدراسات والقصص والقصص المترجمة في الصحف و الدوريات العراقية والعربية.والكثير من مقالاته وأبحاثه وأعماله المترجمة في صحيفة الزمان اللندنية، كما ساهم في العديد من المهرجانات الادبية والفنية وبعض دورات مهرجان المربد، وواصل حتى الرمق الأخير بنشر مقالاته وقصصه وترجماته في موقع أدب فن، وموقع القصة العراقية الذي أسهم في الأشراف على تحريره أيضا. وفي رثاء الراحل أورد الكاتب الشاب حسن بلاسم آخر رسالة استلمها من عدنان المبارك. يقول المبارك في ما يُشبه وصيّة الوداع للكاتب الشاب الذي طالما اعتبره أستاذه: «عزيزي حسن . كيف هي أحوالك ؟ فيما يخص الكتابة يكون الآمن الأكثر فائدة أن لا ترغم النفس على الكتابة! حقيقة عرفتها في وقت مبكر . رغم هجمات المرض الشرسة في الأيام الأخيرة لم أبتعد عن الكتابة وتنظيم أمور ما كتبته قي الفترة الأخيرة . وهكذا ستصدر القصص هذا العام بمجموعتين، وإذا لم أبتعد كثيراً عن فخ التفاؤل فهناك أمل في كتابة مجموعة أخرى ... أنت تشكو من شحة الوقت ، وعلى أكبر احتمال يشكو الجميع منذ زمن أريستوفان من مثل هذا الشحة. تجد في المجموعة قصصاً جديدة وأخرى من المجموعة السابقة التي لا تزال تفتقد إلى بضع قصص. ليس بالاحتمال البعيد أن يرسلوني إلى المستشفى مرة أخرى. سأحاول أن آخذ معي الكومبيوتر. في الأيام الأخيرة إشتد التفكير بأنّي أبتعد عن هذه الحياة ، ولا أعرف من أين هذا الهدوء الداخلي الذي لا يعني استسلاما لـ«النهاية»، بل لكوني عاجزاً عن إدارة الدفة صوب حياة أُخرى. فالأوان قد فات ، وكل ما عليّ فعله أن أكون هادئا إلى النهاية ... محبتي واعتزازي."

عدنان المبارك في سطور

عدنان المبارك في سطور


ــ ولد في البصرة عام 1935
ــ أنهى دراساته العليا في تاريخ الفن في جامعة وارشو.
ــ أقام في بولندا لغاية 1991
ـ مقيم حالياً في الدانمارك .
ـ عمل في صحافة بغداد ووكالة الأنباء العراقية .
ــ عمل مراسلاً للصحافة الثقافية في السبعينات والثمانينات .
ــ من مؤلفاته :
ـ الاتجاهات الرئيسية في الفن الحديث على ضوء نظرية هربرت ريد .
ـ فلسفة التكنيك .
- فن الشمولية . الطليعة الروسية نموذجا.
- إشكاليات أساسية في الفن :المحاكاة ، المخيلة ، التعبير، التشخيص والتجريد.
ـ القرن العشرون ــ التحولات الكبرى في تاريخ البشرية .
- برج بابل الألكتروني - في إشكالية المواجهة بين الإنسان و الماكنة.
- يوتوبيات القرن - الأنظمة الشمولية.
- في التشكيل ، في علم الجمال
- في مدارات الثقافة
- الفن السابع . اضاءات
_أطياف الكتابة
- مقاربات في الفن
- في متاهة الحاضر
- ماتريكس وثنائية الواقع
- يوميات الملح
- روايات : ( الزاغور ) ، ( ترس السلحفاة أو الموت في كل يوم ) ، ( تحت سور الصفيح ) ، ( رسائل الى موتى ) ، ( بالمقلوب ) ، ( حكايات السيجارة الأخيرة ) ، ( ماقبل الطوفان الثاني )
ــ ترجم العديد من الكتب ، منها :
ـ الكاتب وكوابيسه لأرنستو ساباتو .
- معالجات في الأدب لأرنستو ساباتو.
ـ الفن والكومبيوتر ، للعالم البولندي مارك هيولسكي .
- فن الصورة الشخصية للباحث البولندي فويتشيخ شتابا
ـ سيناريو فلم أنغمار برغمان ( وجهاً لوجه ) .
ـ مسرحية ( خيانة ) لهارولد بنتر .
ـ رواية (0) للشاعر الروسي أندري فوزوينينسكي .
- كتاب ( مكتبة القرن الحادي و العشرين ) للكاتب البولندي ستانسلاف ليم.
ـ قام بترجمة العديد من أعمال أخرى لكتاب بولنديين و آخرين من أمثال فيتولد غورمبروفتش و سوافومير مروجيك و تاديوش روجيفتش وصوفيا ناوكوفسكا و كارين بلكسن ولويس خورخه بورخيس وغيرهم ( معظمهامنشور في موقع القصة العراقية) .
ـ مذكرات المخرج الايطالي فيتوريو دي سيكا .
- يشارك مع د. زهير شليبة في إعداد أنثولوجيا للشعر الدنماركي و أخرى قصصية للكاتبة الدنماركية الكبيرة كارين بلكسن.
ـ نشر الكثير من المقالات والدراسات والقصص والقصص المترجمة في الصحف و الدوريات العراقية والعربية .
ـ نشر الكثير من مقالاته وأبحاثه وأعماله المترجمة في صحيفة الزمان اللندنية .
ـ ساهم في العديد من المهرجانات الادبية والفنية وبعض دورات مهرجان المربد .
ـ يواصل نشر مقالاته وقصصه وترجماته في موقع القصة العراقية الذي يساهم في الأشراف على تحريره أيضا.
 ـ رحل بتاريخ 5/11/ 2016، بعد معاناة مريرة مع المرض.