الجمعة، 27 مايو 2016

أختام *- عادل كامل























أختام *

 الختم الثاني

عادل كامل
[1] من الظلمات إلى النور
     بين أن اترك أصابعي ترسم أشكالا ً لا واعية، أو غير مقصودة، وبين أن اصف العملية لأجل التدوين، إجراء شبيه بأول من رسم المثلث، أو الدائرة، وبين من كان يجد تبريرا ً ـ وتأويلا ً لهما. ثمة مسافة مزدوجة بين التنظير والتطبيق، وهي المسافة التي تتقلص ـ حد التلاشي ـ في التنفيذ، وتتسع في حالة الكتابة، حد التجريد، واللا حافات ـ أو اللا موضوع في نهاية المطاف.
     هل كانت أصابعي تؤدي ما كان يدور في راسي ـ أو في كياني ـ من الأصابع إلى المخ، أم أن هناك انحيازا ً للحواس، أو للعقل في سيادة أسلوب أو موضوع محدد في التجربة؟
     عندما وجدت نفسي ابتعد عن لون الخامة، وملمسها الطبيعي، وجدت بصري ينبهر بالألوان، فكنت امتلئ بنشوة شبيهة بنشوة طفل اكتشف أن الأرض لن تخذله بما تمنحه من عناية سأجدها ليست رمزية فحسب، بل وجمالية!
     وإذا كنت حريصا ً بعدم الخلط بين النادر والتقليدي، وبين الفردي والجمعي، فان للألوان دورا ً مغايرا ً للتخطيط أو للتكوين، وحتى للمعاني. ففي سنوات الجدب العاطفي كانت الألوان لا تشكل جسرا ً ولا علاقة ولا لغة مع الآخرين، وكأنني كنت اعترف ضمنا ً بالعمى اللوني، مما جعلني أكرس سنوات لكتابة (الأوثان)  بعد (عند جذر الوردة)، وبعد (ألفية الولد الخجول)، وهي تجارب لا تخفي ذلك اليباب بموت الإنسان، وليس بموت الفن أو موت الفلسفة حسب. ولم يكن هذا اكتشافا ً نظريا ً أو نقديا ً، بل جاء بفعل التجربة ذاتها.
     فعندما يشتغل البصر، تكف الأصابع عن تباهيها بدورها. إنها تغدو زوائد كأرجل خنفساء كافكا بعد أن انقلبت ووجدت نفسها في مأزق: لا تعرف ماذا تعمل. على أن أصابعي كانت ترقص ـ إنها تؤدي الدور الذي أومأ إليه بوذا ، وجدنا للرقص. بمعنى أنني ـ هنا ـ رحت استبعد أي اهتمام بالمخالب، وبالدفاعات، والمضمرات العدوانية. فالسلام مع العالم غدا دربا ً متحدا ً مع غاياته. فأنا لا أريد أن أصل إلى نهاية الطريق ـ لا لأنه في الأصل لانهاية له، وإنما لأن الحركة ذاتها تمتلك لغز غايتها في السلام الروحي ـ بل أنا حررت ذاتي من الغاية عدا أنها سكنت الدرب. هذا المشترك بين الخامة والمقدمة سمح للألوان أن تعيد للأختام ـ النصوص المضادة للأثر ولكن السالكة دربه ـ بحجة إنسان لم يعد يجد في عالمه إلا تأملات كائن محكوم بسجن لا أبواب له ولا منافذ. فيا لها من لذّة ملغزة دمجت البصري، المرئي، بما هو ابعد منه، ابعد من رؤية ذرات ذات أطوال تتجاور باختلافها وتنوعها نحو مفهوم للروحي عبر اللذّة.
     هل ثمة علاقة ـ صلة ـ ما تسمح للقلب أن يضطرب، أم ذكرى ما تتجدد ـ وتجدد ـ، لبرهة من الزمن، عمل الومضات؟ لا امتلك إجابة دقيقة، وأمينة، مع نفسي، بقدر انشغالي بحركات طفل ـ هو حفيدي ـ راح يذكرني بان العالم مازال حاضرا ً وزاخرا ً بالعطور والصخب.
     وجدت بصري يعيد ـ بعد أن كانت الأختام علامات حرصت أن لا أنهكها بالمشفرات ـ معالجة الخامات بألوان طالما غذت سنوات طفولتي: الوان بعدد الذرات، وليس بعدد الأشكال! فالعالم ـ إن كان خارجيا ً أو داخليا ً ـ لم يعد مجموعة قوانين صارمة ومحكمة حد أنها دمجت النهايات بمقدماتها. 
     على أنني لم أتوقف عن متابعة كتابة فصول رواية استذكر فيها سنوات ما قبل  عام 1980، عام الحرب.  لكني توقفت لشهرين في الأقل عن الكتابة  بسبب زميل كلفني بعمل  وجدت نفسي أنجزه بلذة مرة ، وفي الأيام ذاتها (نيسان 2011) كان علي ّ أن أقدم نموذجا ً تخطيطيا ً لنصب كي احصل على مبلغ يساوي راتبي التقاعدي لخمسة أعوام، لكني ـ بدل ذلك ـ وبعد أن تحررت من تكليف زميلي لأيام خلت ستطول ـ انشغلت ـ ليلا ً بمتابعة الدوريات الأوروبية: الاسبانية/ الانكليزية تحديدا ً ـ ثم نهارا ً: أن لا أميز أكانت الألوان هي التي أعادت لي بصري، أم بصري هو الذي سمح لي أن أجد في الألوان عملا ً شبيها ً برسامي الكهوف وهم يؤدون أعمالا ً لم تبلغ نهايتها، في موت الحواس، أو في محوها، أو في جعلها تعمل بلون واحد.
    كم استغرقت كي اعرف أن المسؤولية التضامنية بين البشر ـ في عالمنا برمته ـ وحدها تخفي عملا ً ما في حياة لن تبلغ نهايتها، لكني عمليا ً كنت دمجت النهايات بالأمل، والمشهد الكلي بأدق ما تراه الأصابع، لبصر لم يكل عن نسج تجمعت فيه العناصر ذاتها التي ـ أحيانا ً ـ تبدو خارج الرؤيا،  والرؤية ـ وخارج مدى حركة الأصابع ـ ونبضات القلب.
     كانت للألوان، داخل جدران غرفة مكتظة بالكتب، والصحف، والصور، رائحة طفل ـ هو حفيدي علي زيد ـ تغويني بالحفر في مدافن قلب لم يعمل دائما ً بالمثل السومري: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! ذلك لأنني لم اقلب ـ ولم اعدل ـ المثل بل رحت أوازنه بمضاداته.  فالموت ذاته لم يعد إلا لغزا ً تتكون عبره الصيرورات ـ لكنني لم أقع في الغواية، ولم أهلهل لها، ففي الحكاية ذاتها التباساتها، ماضيها ومستقبلها: آثامها/ جدلها/ مفاتيحها/ انغلاقاتها مما جعلها تمتلك قدرة  الامتداد، واستكمال دورتها. فانا مادمت لم اقدر على اختيار الموت، لم اختر الحياة كي ارتقي بها إلى النذالة، والعدوانية، والخساسة، بل رحت أعالجها كحقيقة علي ّ أن اترك كياني برمته أن يجاورها، نحو السكن فيها، ومعها، بصياغة ألوان تعيد للأعمى ـ الذي هو أنا ـ دربا ً سمح لي أن أوازن بين اللا وجود ـ والمرئيات، عبر ألوان تتحدث عن شهادة أعمى يمشي من الظلمات إلى النور، ومن العتمة إلى الفناء.
[2] ضد السلعة 




     الحقيقة الأقل إثارة للجدل ـ ولكنها الأكثر التباسا ً ـ أن الزمن يكمل دورته: إنه لن يرتد. وبمعنى ما كنت أتخيل ـ وأنا في المناطق النائية التي وجدت سكني فيها ـ مشهد اللا زمن: اللا مشهد، فازداد سكينة طالما أحسست أنني جزء من مديات تتخللها ومضات، وتصادماتـ وإشعاعات،فاستنجد بما فعله أسلافي: صناعة دفاعات! فثمة (عدو) ما يهدد اقتلاع كياني، جعلني اكتشف ـ ببساطة ـ أن المفتاح الذي امسك بدورته في القفل هو جزء من كياني ذاته! فلا أجد لذّة توازي عدم إهمالها تشاطرني الشرود: انه ليس الاكتشاف، وليس البحث، إنما هو هذا الذي لا امسك فيه وقد راح يتكوم فيّ، يتناثر مجتمعا ً في أقاصي هذا الشرود. وبمعنى ما فالمشكلة ليست فنية خالصة، أو لها علاقة بلغزها المشفر، والجمالي فحسب، بل بالمراقبة والاستئناف أيضا ً. 
     ما معنى أن انشغل بعمل أنا ـ هو ـ أول العارفين انه ليس سلاحا ً للدفاع لا عن الجسد، ولا عن النفس. فانا هنا ابلغ ذروة المصالحة. بمعنى ما أنني اكتشف  ـ كأسلافي في تدشين الأعمال الشبيهة بالفن ـ أنني احتمي بما اصنعه: مجسمات بدت لي أنها تشبهني، لا كمرآة، بل كأجزاء متناثرة تعمل بنبضات القلب، وبلغز ومضات الوعي، وكأن الإدراك غدا شريكا ً مع الأصابع ومع باقي الحواس في هذه الرؤية ـ والرؤيا. فاكتشف فجوة ثانية تفصلني عن نفسي: ما هذا الوعي الذي غدا سكننا ً ـ وليس له منفذا ً، وليس له خاتمة؟
     انه ـ من غير مقدمات ـ أصبح آلية لا سريالية، بل منطقية لكائن مخلوع، وليس مرميا ً أو منفيا ً في الوجود.  فانا لا انتمي إلى ارض أو إلى نبات أو إلى قبيلة، بل أصبحت جزءا ً من الكل، بعد أن تحول العمل إلى شاهد علي ّ: فانا لم اربح شيئا ً    ، مثلما لم ْ أعد أفكر في الخسارات.  فما أنجزه يتجمع من حولي، منه إلي ّ، ومني إليه، ليمنحني رغبة مضادة لترك العمل، أو الانشغال بالصفر، أو بالفراغات. فلم يعد الختم مرآة، ولكنه سمح لي بانشغالات بصرية تخص ما هو قيد الانجاز، وليس بما أنجز، أو كان منجزا ً سلفا ً. أنني أكاد امتلك نظام خلية الخلق البكر: انتظام الومضات، من العوامل المكونة لها، وصولا ً إلى العمل الذاتي الآلي كاستحداث لذات تعلمت المكر، لكن من غير انشغال بالخديعة؛ بالربح أو بالخسارة، أو بما سيقال. 
     هل صاغ الصانع الأول مثلثاته، خرزه، إشاراته، دماه، خطوطه ومستطيلاته لأنه وجد حريته تنذره بالهزيمة، وبالموت، فجعل منها ـ كما فعل النحل/النمل/ والطير ـ معماره المقنن برهافات وتقانات بالغة الانضباط ـ كي أعيد، في سياق هذا اللاوعي ـ نهايات تحولت إلى غواية، وكلمات، لا امتلك إلا أن اشرع في صياغة مقدماتها، كأنها الضرورة سكنت ألتوق، وكأنه ألتوق وقد قيد بالضرورات....؟!

تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


ليبرمان يقيد المقيد ويكبل المكبل-بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

ليبرمان يقيد المقيد ويكبل المكبل
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
نجح أفيغودور ليبرمان وحزبه "إسرائيل بيتنا" في تحقيق الكثير من المطالب التي كان يتطلع إليها، والتي عجز عن تحقيقها في حكومات نتنياهو الثانية والثالثة، والتي بسبب عجزه عن تحقيقها سابقاً، اعتذر عن المشاركة في الحكومة الرابعة الأخيرة التي أعلن بموجب الاتفاق الجديد انضمامه إليها، ولكنه ينضم إليها من موقع القوة والغلبة وزيراً للأمن لا وزيراً للخارجية، بعد تحقيق الكثير مما كان ينادي به ويطالب، الأمر الذي أظهره في المعركة منتصراً، وفي المفاوضات قوياً، وعلى الشعب حريصاً، وعن حقوق المهاجرين الروس تحديداً مدافعاً، وعلى مصالحهم أميناً، وبالرئاسة الأولى في المستقبل جديراً.
بدا أفيغودور ليبرمان وفريقه المعاون وكأنه كان يفاوض خصماً ونداً لتغيير دستورٍ وإعدادِ ميثاقٍ، وصياغةِ عقدٍ جديدٍ للكيان الصهيوني، يختلف عما سبق، ولا يشابه ما مضى، يسور به الدولة ليهودية، ويحفظ به حق شعبها في أرض فلسطين التاريخية، ويحول دون التفريط في أي جزءٍ مما يعتقد أنه حقهم الموروث، وملكهم الموعود، فقد أملى على نتنياهو التمسك بيهودية كيانهم والمباشرة في إعلان الهوية والعمل بموجبها، ممهداً بذلك لطرد الفلسطينيين من مناطقهم، وتطهير كيانهم منهم، وإحلال آخرين مكانهم، خاصةً أن الصفقة التي وقعها نصت على أن يكون وزير الاستيعاب من حزبه، وهي الوزارة التي تعنى بالمستوطنين وتهتم بشؤونهم.
واشترط ليبرمان على حق الإسرائيليين في الشتات في التصويت والانتخاب، وأن يكون لهم دورٌ في اختيار ممثليهم في الكنسيت، وأن تمنح وزارة الاستيعاب التي سيتولاها أحد أعضاء حزب "إسرائيل بيتنا" الحق في العمل في الشتات لتشجيع الهجرة وجمع التبرعات لتعويض المهاجرين اليهود ومساعدتهم، وأن يكون من صلاحياته تشكيل لجانٍ وزارية وأخرى مختصة للعمل في مجال استيعاب المهاجرين وزيادة أعداد الوافدين، وحتى يتحقق هذا الهدف فقد فرض طرح موازنة لسنتين لتغطية برامج الاستيعاب.
ونص الاتفاق بينهما على وحدة أرض إسرائيل الكاملة، وسيادتها على كامل الوطن القومي والتاريخي للشعب اليهودي، وأن هذا الحق مقدس وغير قابل للتقسيم أو التفريط فيه، بعاصمته القدس الموحدة، وفي حال التوصل إلى أي اتفاقٍ مع الفلسطينيين أو العرب، فإنه ينبغي عرض هذا الاتفاق على الكنيست أولاً للتصويت عليه، ثم على الشعب لاستفتائه والأخذ برأيه، شرط ألا يخالف الاتفاق ابتداءً أي بندٍ من بنود التحالف، فبدا ليبرمان بهذا الاتفاق وكأنه الوصي على الحقوق التاريخية للشعب اليهودي والأمين عليها، وأكدت بنود الاتفاق على جواز ضم أي منطقة أو مستوطنة إلى حدود الكيان، إذا تطلب الأمن ذلك، أو فرضها واقع التوسع السكاني والكثافة الاستيطانية .
وبموجب الاتفاق فقد أصبح نائب رئيس الكنسيت الإسرائيلي من حزب "إسرائيل بيتنا"، وسمي آخرون أعضاءً في اللجنة الاقتصادية التابعة للكنسيت، وفي المجلس الوزاري المصغر للشؤون الاجتماعية والاقتصادية، وفي اللجنة الوزارية لشؤون الرموز والمراسم، وفي اللجنة الوزارية للتشريع وغيرها، وبذا يكون أفيغودور ليبرمان الذي يتمثل حزبه في الكنيست بستة أعضاء فقط، قد انتشر وتمدد في أكثر من مكانٍ وموقعٍ في الحكومة والكنيست، وفي غيرهما من مواقع القرار والسلطة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية، ليحصن بذلك وجوده، ويضمن تحقيق شروطه.
كثيرةٌ هي المطالب التي حققها ليبرمان من بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم، الذين خضعوا مثله لابتزازات حزب "إسرائيل بيتنا" ورئيسه، الذي يعلم مدى حاجة نتنياهو له ليوسع قاعدته البرلمانية، ويزيد عدد الأعضاء المؤيدين لحكومته، إذ أن عددهم 61 نائباً فقط، وهو الأمر الذي يجعل حكومته ضعيفة وغير مستقرة، لكن بانضمام ستة نواب جددٍ، فإن تأييد حكومته يرتفع إلى 67 نائباً، الأمر الذي من شأنه أن يمنح الحكومة استقراراً وثباتاً، ولكنه يخضع رئيسها لابتزازات وضغوط وشروط الأحزاب المشكلة لحكومته، والتي كانت أربعة ثم أضحت بالاتفاق الجديد خمسة إلى جانب حزب الليكود الأم.
ها قد نجح ليبرمان في الحصول على ما يريد، وتمكن من تقييد خصمه بقيودٍ وأغلالٍ كثيرة، فهل ينجح في إدارة المستقبل وتحقيق الأهداف التي يتطلع إليها، وهو الذي فشل لمرتين سابقتين في إدارة وزارة الخارجية التي أخضعت له، وسلمت إليه، فتسبب برعونته في التضييق على سفارات كيانه، وأفسد علاقاته الخارجية، وعطل الاجتماعات التضامنية معه، ودفع نظرائه إلى الابتعاد عنه وعدم دعوته، وتعمد عدم لقائه أو الاحتكاك به، ثم غادر الوزارة برصيدٍ كبيرٍ من الفشل والعجز والكره، حتى أن الطواقم الدبلوماسية الإسرائيلية قد اشتكت منه، وأبدت استياءها من أسلوبه ومن طريقة معاملته، وامتنع بعضها عن التعامل معه أو تلقي التعليمات منه، واستعاضت عنه بالاتصال بمكتب رئيس الحكومة.
لعل البعض يقول بأن المسافة بين نتنياهو وليبرمان محدودة، أو أنها معدومة أصلاً، ولهذا فقد قبل بالقيود ورحب بالأغلال، وسعد بالشروط، فهما يتشابهان في الفكر والسياسة، وفي العقيدة والإيمان، ولكن الأول متلونٌ كذابٌ، ومنافقٌ محتال، بينما الثاني واضحٌ وصريحٌ، لا يتردد في الكشف عن مواقفه، أو بيان سياسته، فهو أسودُ الوجه كالحٌ بشعٌ، فظ الخلق خشن اللفظ سليط اللسان، لا يفهم في الدبلوماسية ولا يراعي أصول اللياقة واللباقة وحسن التعامل، لكن حقيقة الرجلين واحدة، وسياسات الحزبين متشابهة، ولا فرق بينهما سوى في التعبير عنها، لكنهما معاً يسعيان لتحقيق ذات الأهداف، وما الاختلافات بينهما إلا شكلية أو وهمية أحياناً، لا تستند إلى واقع، ولا تعتمد على حقيقة.
بيروت في 26/5/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
tabaria.gaza@gmail.com

في مَديح الزَّقْزَقة .. في هِجَاء العَصَافِير-*لانا المجالي

في مَديح الزَّقْزَقة .. في هِجَاء العَصَافِير
*لانا المجالي



(1)

الأُغْنِيَةُ أكثر ديمومة من حنجرة صَدَحَت بكلماتها. الموسيقا خالدة حَتَّى لو مَاتَت كُلّ العَصَافِير.

(2)

الشّاعِر؛ رجلٌ بالغٌ عاقلٌ، تَعْتَريه حالةٌ من الوهم بَيْنَ وَقْتٍ وَآخَرَ، يعتقد خلالها أنه الطّفل شادي المُبتَلى بغواية الأغصان العالية.
الشّاعِرة؛ طفلةٌ هادئة تعتريها حالة من الوهم بَيْنَ وَقْتٍ وَآخَرَ، تعتقد خلالها أنها المرأة وداد الحُبْلَى في شهرِها الخامس دون أن تَسْلَم من مُعاناة الوِحَام.
القَصيدة؛ جرحٌ عميقٌ في رُكْبَة شادي، وما يشبه رَسْم تُفَّاحة أعلى ذراع وليد وداد.
الشِّعر؛ شجَرة دائمة الخضرة في وادي الجِنِّ، وفي روايةٍ أخرى، سُرَّة في بطن حوريّة انقطعَ حَبلٌ كان يربطها بالبَحر.

(3)

عندما مرَّت جنازة قريبي الشّاب العازِب من تحت شرفة بيت العزاء المخصَّص للنّساء، فَقَدت امرأة وعيَها وسقطَت أرضاً، وصرخَت ثلاث فتيات ملء فجيعتهن، وبكَت نِساءٌ كثيرات، أو تظاهرن بذلك.
ثمّة فتاة؛ فتاة واحدة انْفَرَجَتْ شَفَتاها عَنْ ابتسامةٍ وهي تراقب المشهد بصمت، وفي لحظةٍ ما رَفَعَت يدها اليُمنى مُلوّحة للموكب الحزين، وعَلَت تقاسيم وجهها حُمْرَةٌ مُحَبَّبة تفصحُ عن حياءٍ عَفيف، قبل أن تسارع إلى سَتْرِ ارتباكها بشالٍ أبيض رقيق كان مُلقىً بلا مُبالاة فوق كَتِفَيْها.
عرفتُ لاحقاً أنّ المَليحة المشرقة كانت حبيبة الشّاب الرّاحِل، ولم أقرأ حتّى اليوم ما يضاهي تلك الصّورة الشّعريّة بلاغةً وصِدقاً.

(4)

القَصيدة مِحْنَة الشّاعِر، ورغبته الجارفة في دعوة فتاة قرويّة كان قد رسمها بقلم الرّصاص على حائط غرفته إلى حفلٍ راقص في فيلمٍ السَّهرة الأجنبي، لو كان يتقِنُ الرّقص دون حذاء؛ .. المَجاز مِحْنَة الفتاة القرويّة المُتيّمة بالبطل مفتول العضلات في فيلم السّهرة الأجنبيّ.
اللغة مِحْنَة المعنى.
الشّعر مِحْنَة الشّعر.
الشّاعر مِحْنَة الجميع.

(5)

يتسكّع عبر شوارع المخطوطات العتيقة وأزقّة الإصدارت الجديدة في المكتبة العامَّة. ينصبُ خيمته تحتَ سماءٍ مُقْمِرة. يلقي شبكته في النّهر الميّت. يطرقُ أبوابَ البيوت المَسكونة بالجنيّات. يتشرّد في المعنى. يضع يده في جيبِ بنطاله المهترئ ويصفرُ بلحنٍ حَميم!.
من أين يجيء الشِّعر؟
من تلك المنطقة المجهولة التي لا نعرفها. من الأشياء المهمَلة التي نتعثّر بها،فجأة، ونحنُ نَخوضُ حُفَاة في نومِنا الليليّ ( ... دميَة فقدت ذراعها وشَعِثَ شَعرها الأشقر. فردة حذاء أحمَر بكعبٍ عالٍ. حقيبة الأدوات الرّياضيّة المفتوحة. مجسّم "بات مان". كِتاب العلوم للصّف الخامس. كوب الحليب البلاستيكيّ)، نَقَع مِن أعلى الحالة اللاشعريّة شِعراً. نشجُّ رؤوسَنا. تنكَسِرُ سيقاننا، وتنهضُ القَصيدة.
أنْ نبحَث عن الشِّعر في كل ما لا يبدو أنّه شِعر ولا يؤدّي بالضّرورة إليه؛ الإيحاء. المُضْمَر، وما لا يُقَال من الصّمْت الطّويل. الثّقيل. البَليغ.

(6)

الشِّعر لا يولَد من شيء، بل يولَد مع شيء؛ ليس صوْته بل صَداه.
الشِّعر ثورة ضدّ قوانين الشِّعر؛ حالة خلافيّة مع نفسه ومع الشّاعر.
الشِّعر خيطٌ نَحيلٌ بين اليقظة والحلم، بين الدّاخل والخارج، بين الانغلاق على التَّجربة الشَّخصيّة والانفتاح على الشَّارع العام بمسربين، بين العَتْمَة والضَّوْء، بين الرّؤيا والتّأويل، بين الفن والفلسفة، بين المُمكِن والمستحيل.

(7)

في مسألةِ الجماليّة والفعاليّة؛ الشّعر جَدوَى الشّعر.
القصيدة غاية القصيدة؛ فهي لا تُعالج فقر الدمّ والتهاب المفاصل والصّداع النّصفيّ، ولا تزوّد سكّان القطب الشّمالي بفيتامين "د"، أو تَقي من آثار تصبغات الشّمس، أو تُقدِّم خَدمات الإغاثة العاجلة لضحايا القَصف العشوائيّ. ليست كتاب التَّأريخ ولا الجغرافيا، ولا نشرة أخبار الثّامنة مساءً، وليست ضليعة بحلّ معادلات الجذر التَكعيبيّ.
القصيدة تلميذ يحصدُ العلامة"صفر" في اختباراتٍ صاغَ أسئِلتها بنفسه. الباب الموصَد مفتاحه فوق العَتَبة. العرض المسرحيّ بستارةٍ مُسدَلة.
القَصيدة أضْعَف من الرَّصاصة، والقنابل العنقوديّة، والاستبداد، والتّهجير، والظّلم، وقضبان السّجن، ومحاكم التّفتيش الجديدة، والتّمييز على أساس العِرْق والدّين والجِنس والهُوِيَّة.
القصيدة أجبَن من حَرب. أقصَر مِنْ شجرة ورد. أَقَلّ بلاغة من بيان انقلابٍ عسكريّ، وأكثر هَشَاشَةُ من ذِكْرى حبٍّ قديم، فلنتوقف عن تحميل أكتافها حقيبة ملابسنا الشّتويّة، أو كما قال بيلي كولينز:"ربطها إلى كرسيّ، وتعذيبها حتّى تَعتَرِف" أو"جلدها بخرطوم لمعرفة ما الذي تعنيه حقاً"، ولنهتف مع مارينا تسفيتا ييفا:
" كُلّ شيءٍ أعْطَى- مَنْ أعْطَى أغنية".

(8)

من العَبَث أنْ يكون المرء شاعراً. من العَبَث أن يكون عصفوراً في مرمى بنادِق الصّيادين.
من العَبَث أن يموت على حافَة العالم وهو يَحمي قصيدته من الإيديولوجيا والطّائرات والرّصاص الرّخيص.
من العَبَث أن تبقى في جعبته أغنية أخيرة، تقول:

بخمسِ شجرات غابٍ
يابِسَة
في كفيَ اليُمنى
أعزِفُ كيْ يرقصوا؛
أولئك الذين سرقوا الموسيقا
وحوّلوا مجرى النَّهْر عن جَسَدي
جَسَدي النّاي
نهر العِنَب
أولئك السُّكارَى
أعزفُ كَيْ يسمعَني البحّار؛
البحّار الذي لا يَنام
يأخذُ بثأري
يوقظهم
.. حتّى أنام.
______
*مجلة الإمارات الثقافية / العدد 45.


التاريخ : 2016/05/25 03:02:29

أخطاء الحب الكاملة *ترجمة: الخضر شودار-رسالة مارغريت دوراس إلى يان آندريا



أخطاء الحب الكاملة
*ترجمة: الخضر شودار




رسالة مارغريت دوراس إلى يان آندريا

يان، لقد انتهى إذن كل شيء. ما زلت أحبك. وسأعمل كل ما في وسعي لأنساك. وأرجو أن أحقق ذلك. لقد أحببتك بجنون. وظننت بأنك كنت تحبني. آمنتُ بذلك. الشيء الإيجابي الوحيد، كما أتمنى، والذي سيبعدني كليًا عنك هو أنني اختلقت قصة الحب هذه بمفردي. أظن أنك تحبني أنت أيضًا لكن ليس بمعنى الحب، أظن أنك عاجز عن احتواء الحب، إنه يفلت منك، ويتدفق خارجًا عنك كما لو أنك إناء مثقوب. الذين لم يعيشوا عن قرب منك، لا يمكنهم أن يعرفوا ذلك. أدركتُ بعض هذا عند عرض المشهد الأول بـ دوفيل. قلت لنفسي: مع من أنا؟ ثم إنك بكيتَ وانتهى الأمر. لكني لم أنس ذلك الخوف. أريدك أن تعرف هذا: ليس لأنك تراود وأنك تدخل في مراسيم شكوى المثليين، فأنا أتركك لذلك.

كل شيء كان ممكنًا، كل شيء لو أنك كنت قادرًا على الحب. أقول بكل وضوح: قادر على أن تحب مثل ما نقول قادر على المشي. كونك لا تخبرني بشيء هو ما صدمني، جاء من هذا السبب، من عدم الكلام، مما ينبغي أن يقال. ربما ذلك بسبب تأجيل وحسب، أتمنى. أنتَ لستَ حتى شخصًا سيئًا. أنا أسوأ منك. لكن في داخلي، وفي الوقت نفسه، الشعور بالحب، هذا الاستعداد المتميز الخاص للحب. أنت لا تملكه. أنت خالٍ من هذا. سأحاول أن أجد لك عملًا في باريس أو في مكان آخر، عملًا يناسبك. وأريد حقًا أن أستأجر لك غرفة بـ كيين حيث أصدقاؤك الحقيقيون. [...] أولئك الذين يعرفونك منذ قديم، ولا يستطيعون العيش في خدعة صيف عام 80 بـ تروفيل كما عشتُ. لن أتخلى عنك. سأساعدك، لكني أفضل أن أبقى بمعزل عن هذا الجفاف الذي يخرج منك، جفاف خانق وقاس ومخيف. لا أعرف من أين يأتي ولا كيف أصفه. سوى أنه: ثقب، نقص، فراغ بالقياس إليه تبدو عدوانيتي مثلا جنةً أو ربيعًا. أن أعيش معك، أو بالقرب منك، لا، مستحيل.

كنت تكتبُ إلي لسنوات فقط لأنني نجوتُ من هذا الوجود الكريه. أنا أحبك يان. يا للفظاعة. لكني أفضل مع ذلك أن أحبك على ألا أحبك. أريدك أن تعرف ما يعنيه هذا. يا له من صيف، يا له من وهم، كم كان رائعًا، لا يمكن لذلك أن يستمر، ولا كان ذلك ممكنًا، وحدها الخطايا تأخذ هذا الاكتمال. لا أعرف كيف سأتصرف في ما بقي لي من حياة، لأعوام قليلة. الجريمة هي: أن توهمني بالقدرة على الحب. وكمقابل لهذه الجريمة، لا شيء. إذا حدث أن واتتني الشجاعة الكافية لأقتل نفسي، سأخبرك. الشيء الوحيد الذي يمنعني هو طفلي. أحبك
مارغريت
_________

جعلتني أبكي ثانية


رسالة سيمون دو بوفوار إلى نلسون آلغرين

حبيبي الرائع الدافئ

لقد جعلتني أبكي ثانية. لكنها دموع الغبطة بكل شيء يأتي منك. جلست بالطائرة وأخذت أقرأ في الكتاب ثم تمنيت أن أرى خط يدك، وحين نظرتُ في الصفحة الأولى ندمتُ على أني لم أطلب منك أن تكتب أي شيء عليها، ثم ها هي سطور الحب الحانية بخط يدك. حينها مال رأسي على النافذة وبكيت، وتحتي البحر الأزرق الجميل. كان بكائي لذيذًا لأنه من الحب، من حبك ومن حبي، منا نحن الاثنان. أنا أحبك. سألني سائق التاكسي: "هل هو زوجك؟". "لا"، قلتُ. "آه.. صديق؟"، وأضاف بشيء من المواساة: "يبدو عليه الحزن كثيرًا". ولم أجد ما أقول سوى: "يحزننا جدًا أن نفترق. لأن باريس بعيدة".

وعندها بدأ يتحدث بطيبة عن باريس. أنا سعيدة لأنك لم تأتِ معي. كان هناك في شارع "ماديسون" و كذلك "لاغوارديا"، أناس أعرفهم، أصوات ووجوه فرنسية، أبشع الأصوات والوجوه الفرنسية، ما كان سيجعل الأمر سيئًا حقًا. كنت ثملة قليلًا، غير قادرة على البكاء لحظتها، لكن ثملة وحسب. ثم أقلعت الطائرة. أعشق الطائرات. أظن أنك حين تكون في ذروة العاطفة، يكون السفر بالطائرة الطريقة المثلى الملائمة لقلبك. حيث الطائرة والحب، السماء والحزن والشوق شيء واحد. كنت أفكر فيك وأتذكر كل شيء بدقة. ثم قرأت في الكتاب الذي أحببته أكثر من الكتاب السابق. ثم احتسينا بعض الويسكي وتناولنا الغداء: دجاج محمّر وآيس كريم بالشوكولا. وتخيّلت أنك ستحب كثيرًا المناظر، الغيوم والبحر، الساحل والغابات، والقرى. كنا نرى الأرض بوضوح، وأنتَ ستبتسم بدفء ابتسامتك الطفولية الجميلة.

حين وصلنا فوق "نيوفوندلاند"، كان وقت ما بعد الظهيرة قد انتهى، وكانت الساعة الثالثة بتوقيت نيويورك. كانت الجزيرة جميلة، شجر السرو والبحيرات مع بقع الثلج هنا وهناك. كنتَ ستحب ذلك أيضًا. هبطنا وكان علينا أن ننتظر لساعتين. فأين أنت الآن؟ ربما في الطائرة.

حين تعود إلى بيتنا الصغير، سأكون هناك، مختبئة تحت السرير وفي كل شيء. سأكون دائمًا معك منذ الآن. بشوارع شيكاغو الحزينة، تحت السقيفة، وبالغرفة الوحيدة. أكون معك، يا حبيبي الوحيد كزوجة عاشقة وزوج عاشق. لن نفيق من هذا الحلم، لأنه ليس حلمًا، إنه قصة حقيقية رائعة، ما زالت تبدأ. أحس بك معي، وحيثما أكون، تكون معي. ليس مجرد نظرة وحسب ولكنه كيانك كله. أنا أحبك. ليس هناك ما هو أكثر من ذلك لأقوله. خذني بين ذراعيك لأتشبث بك وأقبّلك وتقبلني.

سيمون
_______
*العربي الجديد


التاريخ : 2016/05/24 12:19:22

الاثنين، 23 مايو 2016

مساحات وقصص قصيرة أخرى-عادل كامل

مساحات وقصص قصيرة أخرى


عادل كامل
[1] مساحات
    نظر إلى الفراغ الآخذ بالامتداد، بشرود، وقال لقائده:
ـ هذه هي عاصمة النمل...، انظر، سيدي، إنها بلا حدود!
التفت يسارا ً ، والى الأعلى، ويمينا ً، متسائلا ً:
ـ أين هي ...، فانا لا أرى شيئا ً.
ـ أخبرتك، سيدي: إنها بلا حدود!
لم يقدر أن يمنع نفسه من التندر، فقال ساخرا ً:
ـ عندما بدأنا، لم يكن يدر ببالنا أكثر من الحصول على حفرة...، والآن....، أصبحنا نمتلك مساحات بلا حدود؟
ـ نعم، سيدي، الم أخبرك، منذ البدء: إن من يمتلك اللا حدود، لم يجد حتى حفرة يتوارى  فيها... !

[2] بكاء
    ضحكت النملة حتى كادت تهلك، فقالت لها صاحبتها:
ـ لم تعد تخافين من الفيل؟
ـ لا...، ولماذا أخاف من الكائن الذي سحقني من غير قصد، لأنه لم يرني، بل ولا اعتقد  انه عرف بوجودي...، فماذا سيفعل لو عثر علي ّ؟
ـ يسحقك!
ـ لهذا...، يا صاحبتي، قررت الكف عن البكاء!

[3] نصر
ـ اخبرني، أيها الفأر، لماذا لم تعد تخاف من الموت، وأنت تغادر حفرتك ..؟
ـ  آه ...، لو لم اخرج فانا سأهلك من الجوع في حفرتي الباردة، أما الآن فانا انتظر أن تنهشني مخالب القطط، أو تمزقني أنيابها، فالأسباب وإن تعددت، لكن نهايتها كانت قد وضعت قبل ولادتي...، فلِم َ الخوف من كائنات لديها مهمات لا ترد، ولا يمكن تجنبها..؟
ـ ولكن لماذا لم تجد وسيلة ما للنجاة؟
ـ أقسم لك أني كلما تخلصت من سبب، انبثق الآخر، وعندما لم تعد هناك أسباب تكفي للبقاء على قيد الحياة، لم تعد لدي ّ فرصة انتظار أن أتعفن في حفرتي، أو بين أنياب هذه المفترسات الوقحة! وكما تراني ـ الآن ـ بعد أن تعبت من الترحيب بالقطط، والتصفيق لها، وتمجيدها، والتغني بعظمتها، وإنشاد أعذب الأناشيد لها....، أموت ولكن في ّ سؤال مازال يعذبني:  أذا كان مجد القطط قد شيد على هزائمنا، فان هذا النصر لم يترك لنا، ولي أنا خاصة، حتى فرصة للآسف...، مادام نصرهم قد شيد على مصائر لا تساوي شيئا ً يذكر! فانا الآن اهتف: مرحا بالموت، مرحا بالهزيمة، لان هذا النصر هو الذي لا يساوي شيئا ً يذكر أيضا ً!

[4] أوامر
   سألت النعجة القصاب قبل أن يشرع بذبحها:
ـ أنت تفعل هذا بي، وكأنك لا ترى السكين التي  تقترب من عنقك ..!
    أجاب القصاب بصوت مرتفع، من غير اكتراث:
ـ بل أراها!
ـ ولا ترتجف، ولا تخاف؟
ـ لا...، لأن من سيذبحني، هو الذي أمرني، أيتها النعجة البلهاء، بذبحك!
ـ وتقول هذا بزهو....، وفخر، ومن غير خجل؟
ـ وهل ابقوا لنا شيئا ً نخجل منه؟
    ضحكت النعجة، وهي تقرب رقبتها من السكين، وقالت:
ـ تقصد...، لم يتركوا للخجل شيئا ً لم يفعله، أو شيئا ً يستحق أن يذكر...؟

[5] عدالة
     بعد أن بذل أقصى ما يمتلك من حيلة، ووساطة، وجهد، نجح بالمرور عبر ممرات تقود إلى مكتب سكرتارية السيد المدير، فتوقف برهة، أمام ثور بدا له صنع من الحجر، مستفسرا ً منه عن الدرب الذي يفضي إلى المكتب، فلم يبد الثور استجابة إلا بحركة فهم منها أن يتقدم إلى الأمام...،  فمشى، مترنحا ً، وقد دب ّ التعب في مفاصل قوائمه النحيلة، إنما لم يبرك، بل بدأ يدب، خطوة تتبعها أخرى، من ثم بدأ بالزحف، حتى بلغ ممرا ً يقف عند بابه نمر اسود، فاستفسر عن مكتب سعادة المدير، فأومأ له، بحركة مبهمة، لكنها صريحة، بالتقدم إلى الأمام...، حتى وصل إلى فسحة يقف فيها دب قرأ في ملامحه السماحة، والشفافية، فتجمد الصوت في حنجرته، بانتظار فرصة تتاح له بتقديم طلبه إلى سعادة المدير. وأخيرا ً لم يعد يمتلك قدرة الوقوف، فبرك، وترك رأسه يستقر  فوق صخرة شعر بخشونة ملمسها، إنما بدأ يرى حلما ً ود لو لم يفق منه...
ـ تفضل...
ـ سيدي، لدي ّ طلب بسيط...، بسيط جدا ً...
ـ قلت .. تفضل... أيها الحمار الطيب..
ـ ولكني أود أن اعرض طلبي على سعادة المدير شخصيا ً!
ـ أخبرتك ....، انه مشغول، فهات ما لديك...
ـ ليس لدي ّ ..
  وصمت، فسأله الآخر:
ـ  ماذا تقصد بـ: ليس لدي ّ...؟
   تقدم منه، وأزاح الجلد:
ـ  سيدي، لم يبق في ّ إلا هذا الهيكل...، فخفت أن أموت، ويراني السيد المدير، عاريا ً...، فماذا أقول له؟
   ضحك مسؤول مكتب السكرتارية، وسأله:
ـ هل بذلت كل هذا الجهد، كي تزعج سعادته، وتربكه، بطلب لا معنى له؟
ـ اخبر من...إذا ً..؟
ـ لا داعي لإخبار احد...، فانا أعدك وعدا ً صادقا ً بعدم محاسبتك أبدا ً!
   انشرح حتى بدأ بالبكاء:
ـ أتبكي؟
ـ كنت أخاف العقاب، والآن بدأت لا احتمل هذه الحرية!
ـ أكنت تخاف من العقاب، لأنهم لم يبقوا لك إلا العظام؟
ـ نعم، سيدي، لأنني لا استطيع أن أوشي بمن سلبني كل الأشياء ولم يبقوا لي إلا هذا الهيكل، وأنا أخشى أن يكون مشكلة، ومعضلة، بعد موتي!
ـ  حسنا ً، أيها الحمار المسكين، اذهب إلى ...
   وأومأ له الذهاب باتجاه ممر مفتوح:
ـ اذهب وتبرع بما تبقى منك ..، بعدها، تكون حصلت على الحرية...!
ـ أيطلقون سراحي..
ـ ستكون طليقا ً...،  ومن غير ذنوب، مثلما ولدت...!
ـ آ ...، حمدا ً للرب، الآن فقط حصلت على الطمأنينة، فانا استطيع أن اهتف: عاشت العدالة!
   صرخ فيه بصوت حاد:
ـ أغلق فمك!
ـ سيدي، لماذا لا تدعني ابتهج، وأعلن أفراحي، بعد أن لم يعد لدي ّ شيئا ً يسرق؟
ـ والعدالة التي حصلت عليها، أيها الحمار؟
ـ أوه....، ولكن كيف أموت من غيرها؟


[6]  السبع والضفدعة
   اقتربت الضفدعة من قفص السبع، فرأته يحدق في عينيها، بشرود وبلا مبالاة، فسألته:
ـ أأنت نادم على مثل هذه النهاية..، يا سيدي السبع؟
 بابتسامة صامتة أجاب:
ـ لا حدود لندمي!
ـ غريب؟
فقال لها:
ـ بالفعل أنا نادم على أني لم اترك لنفسي ندما ً اندم عليه!
قهقهة الضفدعة بصوت مرتفع، فقال لها:
ـ ما المضحك في كلماتي، يا سعادة الضفدعة؟
فقالت وهي تفكر:
ـ تذكرت السيدة التي كانت تستغفر  لهؤلاء الذين كانوا يمضون أوقاتهم في الاستغفار ...!
ـ تقصدين... لهؤلاء الذين يتظاهرون بالتوبة، والاسترحام، وطلب المغفرة؟
ـ لا ... بل للذين هم أصلا ً بلا ذنوب!
ـ لم افهم قصدك ...؟
فقالت برزانة:
ـ فانا الآن استغفر لك لأنك لم ترتكب عملا ً تندم عليه....، وها أنت تعلن بصراحة عن ندمك...، لأنك تدرك لا جدوى هذا الندم...، مثلما تدرك لا جدوى استغفار هؤلاء الذين يتسترون بقبعات المنتصرين، وليس لمن يستغفر لاستغفاراتهم أيضا ً!
ـ لِم َ كل هذا الغموض ...، أتخافين من سبع يحتضر وهو سجين داخل قفصه وقد أعرب عن ندمه لأنه  لا يمتلك ندما ً يندم عليه!
ـ أجل...، يا رفيقي...، طالما قلت لنفسي: لا تخشين الجلاد عندما يهزم، ويذل، ويزول مجده...، بل عليك أن تخشين هؤلاء الأذلاء العبيد الممحوين عندما يتوهمون أنهم صاروا قادة، وقدوة لنا في هذه المزبلة!
ـ آ ....، الآن فهمت، كم أنت ظريفة، وحكيمة، يا رفيقتي في هذه الدنيا الفانية؟
 فسألته بتعجب:
ـ وماذا فهمت؟
ـ  إن سعادتك لم تترك لي حتى فرصة  للندم على شيء اندم عليه!
 20/5/2016
 

الأحد، 22 مايو 2016

المنهج الكمّي في دراسة الأدب ؛ التقليلية الشعرية نموذجا .- د أنور غني الموسوي

المنهج الكمّي في دراسة الأدب ؛ التقليلية الشعرية نموذجا .



د أنور غني الموسوي


من المعلوم أن النصوص الأدبية لا يصحّ المقارنة بينها لأنّها نتاجات انسانية رفيعة في كل احوالها تقصد الجمال و الرقي و الخلاص ، كما انه يصعب جدا تقييمها و الحكم عليها لأنّها و ببساطة ناتجة عن مستويات عميقة في التجربة الانسانية فلا بدّ لأجل تقييم النص فنيا او انطباعيا تحقيق نظام واضح و واسع من النظرة الى الكتابة عموما و الأدب خصوصا و الشعر و القصيدة التقليلية بشكل أخص .

انّ من أكثر الطرق مصداقية و واقعية في تقييم الكتابات الأدبية هو تتبع حالات تجلّي العناصر الفنية و الجمالية بأوسع ما يكون من الاحصاء و الاستقراء في المستويات المختلفة للكتابة . و لقد كانت لنا محاولة أولى في هذا المنهج الكمّي لدراسة الظاهرة الأدبية تناولنا فيها قصيدة نثر السردية الأفقية و تتبعنا مظاهر الادبية و عناصر الجمالية و الفنية فيها . و هنا محاولة لتتبّع تجليات التقليلية في الكتابة الأدبية الشعرية متناولين قصائد تقليلية لمجموعة التقليلية الأدبية . و تجليات العناصر الأدبية و الفنية و الجمالية في ثلاث مستويات كتابية :-

1- مستوى ما قبل النص


2- مستوى النص


3- مستى ما بعد النص


و جات البحث في المنهج الكمّي لدراسة الأدب يتلخص بما يلي :-


الجهة الاولى : الاحصاء.


لدينا ستّ و عشرون نصا لستّ و عشرين شاعرا و شاعرة ، تتوزع بين التقليلية الومضية ( 23 ) قصيدة و التقليلية اللاومضية (4 ) قصائد .


و القصيدة هي اية كتابة شعرية لها قضية و دلالة و عمق و لا ريب في تحقيق التقليلية لذلك و ان كانت ومضة بل حتى في التقليلية الشديدة المتكون من كلمة ( قصيدة الكلمة الواحدة ) او حرف ( قصيدة الحرف الواحد ) . كما انه ليس كل نص قصير جدا هو تقليلية ، فاذا كان فيه نعوت و زيادات لم يكن تقليلية .


الجهة الثانية : درجات التجلي


البحث في درجات تجلّي العناصر الادبية و الفنية الجمالية هو من المنهج الكمّي لتناول الظاهرة الادبية وهو على حدّ علمنا غير مسبوق لا عربيا و لا عالميا ، و يعتمد على الاستقراء و الاحصاء ، و تتبع تجلي العنصر الادبي في النص في كل وحدة تعبيرية و مستوى كتابي . و درجة التجليّ قد تكون ضعيفة ان كان التجلي في أقل من (30%) من وحدات النص ، و متوسط (30-70 %) و قوي (اكثر من 70%) .و يكون العنصر طاغيا ان تجاوز (85% ) من وحداته .


الجهة الثانية : التجنيس


التقليلية الادبية هي اقتصاد لغوي و تعبيري يتجه و بسرعة فائقة نحو العمق الانساني .
النص التقليلي الذي يعتمد الاقتصاد اللغوي بخلوه من النعوت و الشرح و التفصيل و اداء الفكرة بأقصر خط لغوي ، اي اعتماد الخط المستقيم في التعبير ، لا بد لأجل تحقيقه الادهاش ان يشتمل على حالة التجربة غير العادية ، و نقصد بذلك النفوذ العميق الى مكامن النفس و الشعور الانساني و اقتناص اللحظة المؤثرة التي لا تترك مجالا للقارئ الا الدهشة و الانبهار . لا بد لأجل التقليلية من تجاوز حالة الوساطة اللغوية و المرآتية ، و تقديم الفكرة الجوهر مجردة ، و كأن القارئ لا يرى حروفا و لا كلمات و انما يرى الفكرة و هي تتجلى .
و رغم ان اللغة التقليلية راسخة في عملية الكلام البشري الساعي نحو التكثيف والاختزال والاقتصاد حتى ان العرب يفتخرون بالمعاني القصيرة في حجمها الكبيرة في مدلولها ، الا انه ليس بالضرورة ان تكون القصيدة التقليلة ومضية ، بل ان بدايات التقليلية كانت بشكل قصائد متوسطة الحجم لكن باقتصاد لغوي بعيد عن الحشو و الزيادات .


لقد بيّنا ان عدد القصائد الومضية (22) قصيدة اي ان نسبة تجلي الومضية في تلك النصوص تتجاوز (85%) وهذا يعني انّ الومضية هي الطاغية على تلك النصوص .


مما تقدّم فشروط التقليلية التي يجب ان تبحث في القصائد التقليلية هي ما يلي


1- الاقتصاد اللغوي ( الاقتصاد)


2- التقاط اللحظة النادرة (المعنى الشريف )


الجهة الثالثة : مستوى ما قبل النص ( العوالم الماوراء نصية )


ما يبجث في هذا المستوى الآتي :


1- درجة تجلّي العوالم الفكرية للمؤلف


2- درجة تجلّي العوالم النفسية


3- ، درجة تجلّي العوالم الاجتماعية و الانسانية


4- درجة تجلّي الرسالية .


الجهةالرابعة : مستوى التقنيات النصية


ما يبحث في هذا المستوى الأتي :


وهنا تبحث المعادلات التعبيرية و العوامل التعبيري كمظاهر تعبيرية و جمالية


و اضافة الى التقنيات الشعرية من انزياح و ايحاء خيال و اضافة الى تقنيات التقليلية من الاقتصاد اللغوي و التقاط اللحظة المعنوية النادرة ( المعنى الشريف ) فان من عناصر جمالية التقليلية تشتمل على عناصر اخرى اهمها :-


1- العمق الانساني ( النفوذ )


2- الخط التعبيري القصير ( التكثيف)


3- تجريد الفكرة ( التجريد )



الجهة الثالثة : مستوى ما بعد النص ؛ القراءة و الاستجابة الجمالية .


يبحث في هذا المستوى


1- درجة تجلّي الابهار ( العجز الانجازي تجاه النص )


2- درجة تجلّي طيف الاستجابة (سعة مساحة الاستجابة و تنوع مناطقها الشعورية )


3- درجة تجلّي الاستجابة الظاهرية :


4- درجة تجلّي الاستجابة العميقة :


5- درجة تجلّي التداولية ( اللغة القريبة) : و من غير الجيد ان يتجاوز التوصيل و التداولية ( %50) لان النص سيكون مباشرا ، و لا ان يقل عن ( %30) لان النص سيكون النص مغلقا .


و في الحقيقة بحث عنصر هذا المستوى من امتع الابحاث و اكثرها تقدّما نحو ( علم الأدب ) لاتصالها بفزيولوجيا الانسان و عمل العقل الدماغ

هنا سنقتصر على بحث عناصر التجنيس او شروط الفنية التقليلية المتمثلة بالاقتصاد اللغوي وهو ركن التقليل و اللحظة المعنوية النادرة ( المعنى الشريف ) وهو ركن الابهار ، لانّ البحث بتناول الجميع يطول . و سنوكل بحث باقي العناصر الى مناسبات قادمة ان شاء الله .


1- الاقتصاد اللغوي


يتجلى الاقتصاد اللغوي في (20 ) قصيدة من القصائد ، اي بنسبة (74 % ) ، و الاقتصاد اللغوي وهو ركن التقليلية يعتمد على تجنب الزيادات من صفات و تشبيهات و نعوت و تكرار ، و من خلال مراجعة النصوص سيتبين التجلي العالي للاقتصاد اللغوي في النصوص .


و من نماذج التجلي العالي للاقتصاد اللغوي في النصوص المبحوثة  القصائد التالية :


قصيدة جواد زيني ( هلع صامت....صرخة في فم الجدار ! )


قصيدة خلود فوزات (ضبابية نواياكم \ تأكل \ طفولتي )


قصيدة لطيفة الورضي (عصفورتي \ في شق جدار \ ترتجف \ ...قناص \ يترصد.. )


قصيدة ماجد الميالي (لم يبق من الوطن.... \ غير حفرة في جدار.... )


2- النفوذ العميق في التجربة الانسانية ( المعنى الشريف )


لطالما كان اقتناص و التقاط المعنى الشريف الذي لا تصله العقول بسهولة همّة الشعراء و المبدعين ، و يتركز ذلك و يكبر تأثيره في النص التقليلي لانّه يعتمد الصدمة و الابهار بالدرجة الأولى .يتجلى النفوذ العميق و المعنى الشريف في (22) قصيدة اي بنسبة ( 81%) . و انّ من أهم خصائص المعنى الشريف انه ينفذ عميقا في النفس و يحدث هزّ داخلية و انكشاف و اطلاع غير مسبوق وهو ما نسميه العجز التجلياتي ، حيث تتجلى للقارئ تجربة تشعره بعجر النفس تجاه الابداعي ، وهذا شيء مختلف جدا عن الارتياح و التانغم الانطباعي و الذوقي
من نماذج تجلي المعاني الشريف النافذة عميقا في النفس في النصوص المبحوثة القصائد التالية

قصيدة جواد زيني (هلع صامت....صرخة في فم الجدار ! )


قصيدة عبد الحسين الشيخ علي ( جاء الخميس \ وطفل مريم \ غائب \ عن رفعة العلم. )


قصيدة رجب الشيخ (لاتخافي. ..صغيرتي \ ضفائرك المشنقة \ قصيدة...حزن .. \ رسالة أحتجاج. . )


قصيدة عزيز السوداني (يحتضنني \ هجير الإسمنت \ لا قلب \ إمضاء :\ عصفورة مشردة )

 
قصائد تقليلية في الطفولة المعذّبة


مجموعة التقليلية الأدبية

 
1
ضبابية نواياكم
تأكل ..............
............. طفولتي

خلود فوزات فرحات
*
2
 حكاية طفولة .....
منتهية دون بطولة
عالمها .....
سرق ألوان الحياة

نبيل حسين

*
3
الخوف ،
اطبق بأنيابه،

ترنيمة مهد ...!!!

أحلام البياتي
*
4
اتشبث بأمل قاتم
بيد فقدت البصر

محمد يزن
*
5
تختبئين خلف جدار الخوف
ياطفلتي
أي جنون هذي الحرب ؟!

عماد هاني ذيب

*
6
أُمي ...
أمست الجدران ملاذي
بعد ان سرقت المفخخات حضنك الامن مني

سناء السعيدي
*
7
هلع صامت....صرخة في فم الجدار !

جواد زيني
*
8
جاء الخميس
وطفل مريم
غائب
عن رفعة العلم. ...

عبد الحسين الشيخ علي
*
9
لاتخافي. ..صغيرتي
ضفائرك المشنقة
قصيدة...حزن ..
رسالة أحتجاج. ..

 رجب الشيخ
*
10
لم يبق من الوطن....
غير حفرة في جدار....

ماجد الميالي
*
11
آه يابلد
ضاع مني الولد
صرخ أيقضت
قلوبا إحترقت
عيون شاردة
تبحث عن فجوة
تجري متهرولا
يا ولدي خدني معك

 رشيدة فايز
*
12
في بلدي ؛ هلع الحرية من طفل في عينيه نزق الأحرار

نصيّف الشمري
*
13
الطريقُ الى المدرسةِ وَعْر،الصغارُ بَراعم تتوجع تحت جلد الرصيف..

حسين الغضبان
*
14
نبذني حضن الوطن ... لعل جدارا يأويني

ندى صبحي
*
15
شرخٌ في جدار .. حفظ لي عمري
فهل حفظت لكم قصورُكم اعمارَكم ؟

جواد الشمري
*
16
يلوكك اﻷلم يا صغيرة
وينزفك آهات
يشف الحجر رحمة
وتموت اﻹنسانية

هيام صعب
*
17
الوطن في احضان ابي...وطن..وحروف مدرستي..لم غادرتنا الى السماء ؟

قاسم داود الربيعي
*
18
( مريم )
رحلتْ قبل أنْ تتعلمَ كتابةَ إسمِها
في آخرِ زيارةٍ لـ (سيارائيل ) مفخّخ إلى حيِّهم .

كرار الجنابي
*
19
صَمتُ الذُهُولْ
مَارَ ..
بطِفلةٍ مِنْ وَجَرْ
فعَينٌ تأمّلَتْ ..
قَسوَةَ القُلوب
وقلبٌ لاذَ برقَّةِ حَجَرْ

 كاظم هادي
*
20
هنا وهناك..
على منصة الخطيئة
تصلب الطفولة..دون رحمة.

احسان البصري
*
21
لم يبقى في كفك يا وطني
غير موت
يحاصر حتى الطفولة .

 رشا السيد أحمد
*
22
احفاد ذاك الؤئد
ياسوء جزر بحركم
فالشر كل الشر في المد
ازهقتم الحب روحا
فاتركو لنا نبع الغد

صاحب الاعرجي
*
23
يحتضنني..
هجير الإسمنت
لا قلب
إمضاء:
عصفورة مشردة

‎عزيز السوداني‎
*
24
عصفورتي
في شق جدار
ترتجف؛
...قناص
يترصد..

لطيفة الورضي
*
25
أيّتُها الصّغيرةُ
قلبي هُناك، مُقشَّرٌ بين رُكامَيْن.
فاخرُجي من غبارِ الأرضِ،
أعيدي ليَ قلبي على صحنِ بسمتِك،
وأَسدلي خيامَ شَعرِك على شبابيكِ العواصِم

فريد غانم
*
26
طفلٌ تناثرت أصابعه
يريد أن يرفع يده المقطوعة الى السماء

حسين الساعدي
*
27
اعتذر لجيناتي ، وانت منها
فلقد كانت مخاض حروب ..
فانبتتك بلا طفولة ..

حسن المهدي



الخميس، 19 مايو 2016

معرض لورنس العرب: سقوط الأسطورة-الدكتور فيرنر بلوخ ترجمة: عماد مبارك غانم



معرض لورنس العرب:
سقوط الأسطورة


الدكتور فيرنر بلوخ
ترجمة: عماد مبارك غانم


يُحتفى في أوروبا بلورنس العرب دائماً على أنه عبقرية أوروبية، برزت بأجلى صورها في من منطقة الشرق الأوسط وأعادت كتابة تاريخ هذه المنطقة. معرض في مدينة أولدنبورغ يريد إظهار الجوانب الحقيقية لأسطورة لورنس العرب. فيرنر بلوخ يسلط الضوء على أهم جوانب هذا المعرض.


يقول لورنس: "بشكل عام أفضل الكذب على الحقائق، وخصوصاً إذا ما تعلق الأمر بي شخصياً". كان أحد أكثر الأفلام نجاحاً في أوانه، ففي عام 1962 عرضت دور السينما الشرقية "لورنس العرب". وأدى الدور الرئيس في هذا الفيلم بيتر أوتول إلى جانب عمر الشريف وأنطوني كوين وأليك غينيس، وكان هؤلاء أكثر الممثلين نجاحاً وأفضلهم في أوانهم. وبهذا أصبح "لورنس العرب" مشهوراً على حين غرة، ولم يستطع أي فيلم آخر عرض الصحراء في دور السينما بهذه الصور الجميلة الساحرة. ويعلل الفيلم أسطورة بطل، طالما كان في الواقع موضع جدل وطالما جوبه بالازدراء. إن الفيلم خلد توماس إدوارد لورنس الحقيقي، الذي يتذبذب بين الخجل الشخصي وجنون العظمة.

أسطورة ذاتية

يعد لورنس بلا شك أحد المفكرين الذي برز في زمانه، وولد في أكسفورد عام 1888 وأصبح مستشرقاً وجندياً وعالماً في مجال الآثار ومن ثم كاتباً، كان يكتشف نفسه من جديد كل مرة، كما يفعل نجوم الموسيقى اليوم، ويخلق أسطورته الذاتية. وحتى العنوان المثير لشيء من الارستقراطية "لورنس العرب" يعود إليه، فبعد عودته من الحرب العالمية الأولى قام لورنس بجولة في أوروبا مصطحباً معه شرائح العرض المكلفة.



يعد لورنس بلا شك أحد المفكرين الذي برز في زمانه، وولد في أكسفورد عام 1888 وأصبح مستشرقاً وجندياً وعالماً في مجال الآثار ومن ثم كاتباً وكتب مذكراته "أعمدة الحكمة السبعة"، لكنه بقي على الرغم من ذلك أحد الظواهر الإشكالية. ويقول لورنس في كتابه: "بشكل عام أفضل الكذب على الحقائق، وخصوصاً إذا ما تعلق الأمر بي شخصياً". فكيف يمكن التعامل مع مثل هذا الشخص الذي لا يأبه للحقائق التاريخية؟ وهذا السؤال بالتحديد يُطرح الآن في مدينة أولدنبورغ، حيث يتم تنظيم أول معرض في القارة الأوروبية عن لورنس بعنوان "تطور الأسطورة" حتى شهر آذار/ مارس من العام المقبل.

تحف ضد الحقيقة

ويرى أمين المعرض ديتليف هوفمان أن تعامل لورنس الإشكالي مع الحقيقة ليس من الأمور السيئة. ويضيف هوفمان قائلاً: "كان هذا الأمر أحد ميوله إلى إعادة رواية الأحداث بشكل جديد. وليس الكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو وحده، بل آخرون أيضاً، كانوا على قناعة تامة في أنه يتعامل مع المعارف والتجارب المعاشة بشكل شعري كما يفعل الممثل والشاعر. ولم يعدون هذا بالكذب على الإطلاق، بل كتجسيد متألق. وهكذا تنشأ الأساطير".

وربما يكون هذا الأمر صحيحاً، لكنه يبدو في الوقت نفسه أيضاً على جانب كبير من السذاجة. فهل ما زال ممكناً اليوم عرض لورنس متطابقاً مع الواقع والانسحار بشكل صبياني تقريبي بمغامراته؟ أم يجب تأمل الممثل والمحتال لورنس عن كثب والنظر إلى دوره الإشكالي للغاية في العلاقات الأوربية العربية من زاوية جديدة؟

وبينما يشعر أمين المعرض هوفمان بكل هذه التحف التي يمكن أن تقدم معرضاً بيوغرافياً، يتخذ مدير مشروع معرض لورنس السوري الأصل منعم فانزا، موقفاً مغايراً. وبحسب فانزا، الذي يدير متحف أولدنبورغ، فإن المعرض ليس من شانه أن يقدم أسطورة جديدة أو يعيد إحياء أسطورة قديمة. ويضيف فانزا بالقول: "وهنا يتمثل هدفي. أريد أن أجعل من لورنس خلفية لعرض تاريخ منطقة الشرق الأوسط".

عرض تعبدي سيري

"أريد أن أجعل من لورنس خلفية لعرض تاريخ منطقة الشرق الأوسط"

ويبدو أنه قد وقع جدل كبير بين أمين المعرض هوفمان ومدير المشروع فانزا، وهذا ما بدا واضحاً في المؤتمر الصحفي. إن المعرض يعد عرضاً تعبدياً سيرياً، وهو يحمل بشكل واضح بصمات أمينه هوفمان، الذي يمارس نوعاً من كتابة سير القديسين بشكل يطغى عليه الحماس ويخلو من النقد. إذ يبدأ المعرض بعدد لا يحصى من الصور المرسومة على الجداريات الكبيرة، والتي يغطي بعضها الجدار بأكمله، ومن ثم يتصفح الزائر محطات حياة لورنس: لوحات وبعض الأسلحة وكرسي لورنس البطل المغطى بالصوف ودراجة من طراز الدراجة التي قتل عليها لورنس عام 1935 نتيجة لحادث سير. لكن لا يتم إيضاح أي شيء من جوانب حياة لورنس، ويتبقى هذه الجوانب من دون دلالة تُذكر.

إن هذا العرض التربوي الساذج، الذي كان لهوفمان أن لا يتحمل عناءه، لا يعلل "الأسطورة" المحاكة حول لورنس بأي حال من الأحوال، على الرغم من وجود الكثير من الجوانب التي يمكن تقديمها. إذ أن لورنس كان مشتركاً بالفعل في نشوء الشرق الأوسط، حتى وإن كان دوره في ذلك أكثر تواضعاً مما يُشاع. كان للورنس دور في الثورة العربية، حين انتفضوا على الأتراك. لكن لورنس لا يعد اليوم في العالم العربي سوى خائن وكشخص قام بتأجيج حنق العرب على الغرب.

حين دفع لورنس العرب إلى القيام بثورتهم على الأتراك، كان على معرفة تامة من أن بريطانيا وفرنسا قد اقتسمت فيما بينها منطقة الشرق الأوسط منذ زمن طويل وفق اتفاقية سايكس بيكو عام 1917. إذ تم استغلال العرب، الذين باتوا يعتبرون لورنس جاسوساً وخائناً. إن العديد من المؤرخين العرب نقبوا عن وجهة النظر هذه في السنوات الماضية مقدمين ما يثبتها من حجج. وفي معرض أولدبورغ لا يتم التطرق إلى شيء من هذا الجانب أيضاً، وهذه خسارة حقاً، فمعرض التاريخ الإنساني والطبيعي في أولدنبورغ بإدارة منعم الفانزا حقق شهرة في السنوات الأخيرة من خلال معارضه الدولية التي تتناول علاقة الشرق بالغرب.



الفيلم المصري "ميكروفون": "ميكروفون"....... صوت الشباب ومرآة الواقع- إيريت نايدهاردت ترجمة: عماد مبارك غانم




الفيلم المصري "ميكروفون":
"ميكروفون"....... صوت الشباب ومرآة الواقع


إيريت نايدهاردت
ترجمة: عماد مبارك غانم


حصد الفيلم المصري "ميكروفون" الذي يركز على الشباب وهمومهم وإهمال الجانب الرسمي لهم عددا كبيرا من الجوائز السينمائية. كما نجح الفيلم في نقل صورة مجتمع ينبض بالحياة عبر الشاشة، مشكلا علامة فارقة في السينما المصرية، كما يرى عدد من النقاد. إيريت نايدهاردت تستعرض قصة هذا الفيلم وخلفيات الإشكاليات التي يتناولها.



"أردت أن أنتج فيلماً درامياً، يقوم على رحلة عبر الأزقة والشوارع الكبيرة وأسطح بنايات المدينة" في الأرض الرخوة تمتد الجذور القوية، ويخرج منها ميكروفون فوق العشب الأخضر. وتحت السماء الزرقاء ينتصب هذا الميكروفون ويدعو للحديث من خلاله. ولا يحتاج المرء سوى أن ينحني قليلاً، لكن السماء لا تظهر حتى الآن بعداً، فالأرضية تأخذ أغلب المكان في الصورة. بهذا يمكن وصف الملصق الذي أعده أحمد عبد الله لفيلمه الجديد "ميكروفون"، الذي عُرض في مصر عام 2010.

ولاقى جمهور مهرجان القاهرة الدولي للسينما، الذي جرى في كانون الأول/ ديسمبر 2010 العرض الأول لهذا الفيلم باهتمام كبير، بعد أن كان عُرض الفيلم في العديد من المهرجانات الدولية، ونال الكثير من الإعجاب فيها. ونال الفيلم الجائزة الرئيسية في مهرجان تونس، وفي القاهرة نال جائزة أفضل فيلم عربي، ولم يستطع الحصول على تكريم أكبر في ضوء الضوابط الدولية للمهرجان.

ديناميكية جديدة

وينتمي الفيلم إلى مجموعة من النتاجات المصرية الجديدة، التي قدمت مصر من جديد بصورة أقوى على أنها بلد إنتاج سينمائي، والتي توثق ميدانياً ديناميكية جديدة في الوقت ذاته. يروي فيلم "ميكروفون" قصة خالد (خالد أبو النجا)، الذي يعود إلى موطنه في الإسكندرية بعد بعض السنوات التي قضاها مغترباً في الخارج. وبعد وقت قصير يلاحظ أنه لا يستطيع استئناف حياته السابقة في هذه المدينة بسهولة.

صديقته السابقة هدير (أدت دورها منة شلبي)، التي طالما رغب في أن يكسبها من جديد، على وشك أن تترك البلد، كما أن علاقته بأبيه (قام بدوره محمود اللوزي) باتت في وضع لا يمكن إصلاحه. وهكذا يهيم خالد على وجهه في شوارع المدينة ويكتشف تدريجياً ثقافة فرعية غير مستقرة، فيقرر مساعدة الفانيين والفنانات الشباب من خلال علاقاته القديمة وإمكانياته المحدودة، وبإتاحة الفرص للظهور وتوفير غرف للتدريب. وفي هذه الأثناء يتعرف على سلمى (تقوم بدورها يسرى اللوزي) ومجدي (يؤدي الدور أحمد مجدي)، وهما طالبان يقومان بتصوير مشروع تخرجهما، وهو فيلم عن الحياة السرية في الإسكندرية. ويظهر المخرج المصري يسري نصر الله نفسه (الذي أخرج فيلم المدينة) بدور استاذ يدرس مادة أخلاقيات الفيلم الوثائقي.

من زاوية فنية


يركز الفيلم على هموم الشباب والصراع بين فكرة البقاء في الوطن أو الرحيل عنه. كان ينبغي أن يكون فيلم "ميكروفون" نفسه فيلماً وثائقياً في الأصل: فخلال إحدى الإجازات الصيفية في الإسكندرية انتبه أحمد عبد الله إلى الكثير من الكتابات المنتشرة على جدران الأماكن العامة، وبالأخص رسومات وكتابات فنانة شابة تبلغ من العمر 18 عاماً، يلتقيها في النهاية عن طريق بعض الأصدقاء. وتقوه هذه الفنانة الشابة بتعريفه مجدداً ببعض الفرق وعلى متزلجي الشوارع على الألواح البلاستيكية وعلى الكثير من الناشطين الذين ينتمون جميعاً إلى الكواليس البديلة لمدينة الإسكندرية.

انفتح أمام المخرج عبد الله فضاء، كان مجهولاً بالنسبة إليه حتى ذلك الوقت، فأراد توثيقه. وناقش الفكرة مع الممثلين الذين يمكن أن يقوموا بدور في هذا الفيلم، وقرر في نهاية المطاف أن يقوم إضفاء لمسة من الخيال على مادة الفيلم. وعن هذا يقول المخرج المصري: "أردت أن أنتج فيلماً درامياً، يقوم على رحلة عبر الأزقة والشوارع الكبيرة وأسطح بنايات المدينة، والذي تقوم فيه الشخصية الرئيسية خالد باصطحاب المشاهدين عبر مختلف المحطات، التي تتكون من أشخاص وثقافات فرعية ونتاج فني خلاق. وكل هذه العناصر موجودة في المدينة، لكنها عادة ما تكون مخفية بالنسبة إلينا. وتقوم هذه الرحلة على قصص حقيقية لهؤلاء الفنانين، وهذه القصص تُروى من وجهة نظرهم".

ثقافات الإسكندرية الفرعية


الفيلم يعبر عن طموحات طبقة متوسطة جديدة غير متوافقة مع سياسة الدولة ولا كذلك مع الرؤية الدينية المتصاعدة. وكل شخصيات هذه الثقافة الفرعية تقوم بنفسها بأداء دورها في الفيلم، كما أنها عمقت من أدوارها بالتعاون مع مخرج الفيلم أحمد عبد الله. وحتى إن كان الخيار قد وقع على تقديم مجموعة صغيرة نسبياً من شخصيات هذه الكواليس، من بينها فرقة الهيب هوب Y-Crew وفرقة الهيفي ميتل النسائية Mascara، وثنائي الغرافيتي آية ورجب والمتزلج ياسين،فإن تقديم "الكواليس الخفية" يطيل من الثلث الأخير من الفيلم بشكل متزايد.

لكن على الرغم من ذلك فإن فيلم "ميكروفون" يكشف النقاب على نوع من السحر: فخالد أبو النجا، الذي يؤدي دور الشخصية المتخيلة خالد، يعتبر في مصر نجماً من نجوم الأفلام البوليسية المهيمنة على دور العرض. إن خالد ويسرى اللوزي ومنة شلبي يجسدون جميعاً أحلاماً. الحلم، الذي يقود فيه خالد الجمهور في فيلم "ميكروفون"، يمثل واقعاً: حفلة موسيقية في الشارع أُقيمت خصيصاً للفيلم، أستوديو تسجيل متنقل في سيارة فولكسفاغن "خنفساء" مركونة عند الشاطئ، شباب يتزلجون على ألواحهم عبر الشوارع والساحات العامة أو على الجدران الأسمنتية بشجاعة ومرح، كل هذه تقدم العون نحو مزيد من الحياة.

عن هذا يقول عبد الله: "قررت أن أقدم فيلماً مستقلاً بميزانية منخفضة وبطاقم لا يتعدى الثمانية أشخاص. اخترت كاميرا، لم تُستخدم في تصوير مثل هذا النوع من الأفلام من قبل مطلقاً، كاميرا تصوير فوتوغرافي يمكنها أن تصوير مقاطع فيديو، ما منحنا مزية التصوير في الشارع من دون أن يلحظ أحد ذلك، وبذلك تمكنا من تصوير الحياة اليومية في المدينة في تلك الأماكن التي لا يتاح لنا ذلك فيها إن كنا مجهزين بتجهيزات كبيرة".

"ميكروفون للجميع!"

وليست طريقة العمل هذه وحدها، والتي لم تكن لأزمة من الناحية المادية، كما قال المخرج في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية، بل وكذلك طاقم الفيلم كانا ذا طبيعة احتجاجية: فالكثير من صانعي الأفلام سئموا النزعة التجارية والتهرب من الواقع، وأخذوا يحثون على تناول الواقع في مصر وعلى كسر حالة الجمود والإحباط المنتشر منذ سنوات طويلة في الطبقة الوسطى الآخذة بالتلاشي. وبشكل متزايد بدأت تُصنع أفلام، لم تعد مبيعات شبكات التذاكر تسد نفقات إنتاجها، والتي لا يوجد لها دعم حكومي، على النقيض من أوروبا.

كما أن العديد من صانعي الأفلام الذين ليس لهم شهرة كبيرة أخذوا ينتجون أفلاماً مستقلة. المصور الحربي السابق إبراهيم البطوط نجح بعد صراعات محتدمة في تقديم عمل فني، في إيجاد سينما تعرض فيلمه الشمس عام 2008 وأن يثبت في مدينة جل دور العرض فيها تعرض أفلاماً تجارية فحسب، أن يوجد جمهور أيضاً يحب مشاهدة أفلاماً تجريبية. في حديث إلى جمهور فيلم "ميكروفون" أشار المنتج محمد حفظي إلى هؤلاء الزملاء و"عملهم المهم"، ما يظهر اهتماماً جاداً بإجراء نقاش حول هامش من الطرق الحركية الجديدة. وحتى الشعار "ميكروفون للجميع!" الذي أطلقه فريق العمل في الفيلم كان معقولاً بشكل يبعث على الارتياح والذي قوبل بتصفيق الجمهور الحار، وبشكل خاص بعد تزوير الانتخابات البرلمانية الماضية في مصر بشكل كبير.




أربع دورات/ خورخه لويس بورخيس (الأرجنتين)- ت : عدنان المبارك

 أربع دورات/ خورخه لويس بورخيس (الأرجنتين)


 ت : عدنان المبارك
لربما لم يكن هوميروس كأول الشعراء من روى هذه القصة.


الروايات هي أربع. اﻷولى، وهي اﻷقدم، تتكلم عن مدينة محصّنة، محاصرة يدافع عنها ناس شجعان. المدافعون يعرفون أن قتالهم ﻻ فائدة من ورائه وأن المدينة ستكون ضحية النار والسيف، وأحد أشهر الغزاة - آخيل - يعرف بأن الموت سيكون قدره قبل أن يأتي النصر. مع مرور القرون تراكمت عناصر السحر. قيل إن هيلين الطروادية التي مات من أجلها المحاربون، كانت ظلا بالكاد وغيمة جمال. قيل إن الحصان الكبير الذي اختفى في داخله الفارغ اليونانيون، كان وهما أيضا. لربما لم يكن هوميروس كأول الشعراء من روى هذه القصة. في الذاكرة تهيم الكلمات التي أبقاها أحدهم من القرن الرابع عشر بعد رحيله:
the borgh brittened and brent to brondes and askes.
دانتي غابرييل روزيتي "1" رأى في مخيلته أن مصير طروادة قد ختم في اللحظة التي عشق باريس هيلين فيها، و ييتس يختار لحظة التحام ليدا بالبجعة التي كانت ربّا "2".  الرواية الأخرى المرتبطة باﻷولى تقول عن العودة. إنها قصة يوليسيس الذي هام عشر سنوات في بحار خطرة، وضاع في جزيرة السحر، وهو يعود اﻵن إلى مدينته إيتاكا، إنها قصة آ لهة الشمال الذين يرون بعد دمار اﻷرض كيف تبرز هي من البحر، خضراء ﻻمعة، ويعثرون على بيادق الشطرنج المبعثرة على العشب: إنها آثار لعبهم.
والرواية الثالثة تتكلم عن البحث. باﻹمكان ملاحظة صيغ معينة من شكل الرواية السابقة. (جازون ) وجزّة الصوف الذهبي "3"، ثلاثون طيرا للفارسي فريد الدين العطار، عبرت الجبال والبحار كي تنظر في وجه ربّه ( سيمورغ ) "4" وترى أن (سيمورغ هو كل واحد منها ومجتمعة أيضا ). في الماضي كانت كل جهوده تتوّج بالنهاية السعيدة. أحدهم سرق، في الأخير، التفاحة الذهبية المحرّمة، وآخر
استحق، في اﻷخير، أن يغنم ( غرال ) "5". أما اليوم فالبحث محكوم عليه بالفشل. القبطان ( آهاب ) "6" يعثر على الحوت، إﻻ أن الحوت يقضي عليه، و أبطال هنري جيمس أو كافكا ليس بمكنتهم إﻻ انتظار الهزيمة. إننا في غاية الشجاعة و اﻹيمان لدرجة أن النهاية السعيدة "7" صارت مفخرة التكنوقراطية . نحن قادرون على اﻹيمان بالجحيم، لكننا ﻻنقدر على اﻹيمان بالسماء.
والرواية اﻷخيرة تتكلم عن قربان الرب. في فريغيا يجرح ( آتيس ) نفسه ويقتلها "8" ، و( أودين ) "9" يقدّم ضحية ل( أودين ) - بنفسه ولنفسه - ويبقى لتسع ليال كاملة معلقا على الشجرة جريحا بالرمح، المسيح يصلبه الرومان.
الروايات هي أربع. و عبر ما تبقى لنا من الزمن سنحوّلها وننسجها من جديد.


ــــــــــــــــــــــــــــــــ
إحاﻻت المترجم :

"1" الشاعر والمصور اﻹنجليزي المعروف (1828 - 1882 ) . كان من أصل إيطالي ، أحد  مؤسسي
جمعية (ما قبل الروفائيليين) وكان من عشاق أساطير القرون الوسطى مما إنعكس في أعماله التشكيلية وشعره.
"2" وفق الميثولوجيا اليونانية كانت ليدا زوجة تينداريوس ملك سبارطة ، وقد رآها كبير اﻵلهة زيوس عندما كانت تستحم وعشقها. في الأخير غنمها عندما تقمص هيئة بجعة.
"3" تقول اﻷسطورة اليونانية إن جازون ابن ملك تساليا يولكوس قاد حملة للحصول على ( الصوف الذهبي) للخروف الذي قيل وفق اﻷسطورة إنه يملك قدرات سحرية.
"4" ويسمى أيضا سيينا مورغا، وهو الطير اﻷسطوري في الميثولوجيا اﻹيرانية. وكان الطير أمّا بالتبني ل( زال ) الذي سمّي بالذهبي: زاله زار، وقد ربّاه سيمورغ . كما كان أبا لرستم أشهر بطل في الأساطير اﻹيرانية.
"5" هي آنية ( العشاء الأخير ). وفي أساطير القرون الوسطى كان فرسان المائدة المستديرة للملك آرثر يبحثون عن هذا الكأس الذي شرب منه المسيح.
"6" المقصود بطل رواية هرمان ملفيل ( موبي دك ).
"7" جاءت في النص بالإنجليزية :happy end .
"8" فريغيا هو اسم مقاطعة في اليونان القديمة هي اليوم في تركيا، وكانت دولة مستقلة في القرن الثامن قبل الميلاد. وآتيس أحد أبطالها اﻷسطوريين.
"9" أحد كبار الآلهة في الميثولوجيا اﻹسكندنافية . وكان إله الحرب والنصر والقتلى في المعارك، والشعر والحكمة والزراعة ( البذار خاصة )، كما كان يعتبر الساحر الأكبر.


في النحت العراقي الحديث يحيى جواد تدشينات صاغت حداثتها-عادل كامل











في النحت العراقي الحديث



يحيى جواد
 تدشينات صاغت حداثتها



عادل كامل
[1]   مدخل عام: النار والرماد
   ربما لأن (الإنسان) هو الكائن الوحيد المعني بترك اثر دال، ليس على إخفاقاته، أو على أوهام انتصاراته، بل على ديمومة هذا الانشغال، المتضمن دينامية مضادة للسكينة، ولكن بالحفاظ على بعث (المحو) من مدافنه النائية. فهو يعمل ليس كي يدوم، رغم انه أول من صاغ افتراضا ً للمدن الفاضلة، وأسس كيانات باذخة للجنات، والخلود، بل كي يدل أثره على ديمومة مشروع لم ـ ولن ـ يكتمل إلا عبر لعبة الغياب والحضور، مادام هذا الكائن لا يمتلك إلا مخفيات دوافعه، تحت ذرائع المجد، واحتفالات العبور..! صحيح، هو: حيوان ناطق، ولكنه سيعمل على تحويل الأصوات إلى إشارات، والى حروف، كي يحافظ على مرور ـ وربما عبور ـ  من الماضي الأبعد، فالأبعد السحيق، نحو المستقبل المفتوح، الذي ليس هو إلا هذا الماضي وقد تم تأجيله، بإحكام، حد استحالة تقويضه، أو إزالته، أو هدمه حد المحو.
   خطرت هذه الومضات ببالي وأنا أعيد قراءة الأسماء التي ظهرت خلال عقود الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، في العراق، بلاد ما بين النهرين، وهي التي كونت مفهوما ً أو مصطلحا ً حمل عنوان: الرواد.
إنما راحت تتكون لدي ّ العوامل التي كونت النهضة الحديثة ـ قياسا ً بقرون طويلة كادت بغداد فيها تغيب عن التاريخ ولا تترك إلا آثارا ً مبعثرة، أو مجموعة من الإطلال، والمدافن، وبعض البساتين! فالأسماء، في الحقول الإبداعية: الاجتماعية، العلمية، الرياضية، القانونية، القضائية، الطبية، المعمارية، الأدبية، الفنية، بل وحتى السياسية ...الخ حملت شارة الريادة ليس بحكم الزمن، بل لأنها أسهمت بتحد ينتسب إلى التجديد ـ وليس بمعنى الفرية أو البدعة ـ مما منحها ـ اليوم وبعد أكثر من سبعة عقود ـ تقديرا ً يتناسب مع موجات الهدم، حد التخريب المبرمج، لكل منجز حمل سمة: العلم، الثقافة، والابتكار.
    ولكن المشكلة التي ستواجه الباحث ـ في قراءة هذا الانجاز الكبير ـ أن الكثير من الآثار، والأسماء، والتجارب، وعلاماتها، تعرضت للضياع، والتشتت، حد استحالة إعادة قراءتها على النحو المتكامل، والموضوعي، بحدود تاريخها، وما رسخته من تحديات.(1)
     ومع إن الفترة الزمنية ليست ببعيدة...، إلا أن إعادة رؤيتها بأدوات (أكثر حداثة) يجعلها تنتسب إلى أزمنة ما قبل الطوفان، مما يقلل ـ أو يزيد ـ منها، ولكن لن يشوش حقيقة إنها منجزات حملت إجابات تجعل مفهوم الإبداع مقترنا ً بعوامل الأعمار ـ  وليس بعوامل الهدم، والتخريب. فقد أنتجت مجموعة من العلامات غير المكررة، للسائد، وليست مستنسخة عن التجارب العالمية، تمام الاستنساخ، مما يميزها بأنها لم تتحول إلى (اثر) مندرس، بل إلى اثر علينا التنقيب عنه، وتسليط الإنارة المناسبة عليه.
     ففي مجال الثقافة/ الفنون، كمجالات الهندسة، القانون، الطب، الصناعات الأولية ...الخ، نالت بعض الأسماء موقعها في الذاكرة التاريخية، لكن البعض منها، لأسباب بحاجة للقراءة، تعرضت للإهمال، عمدا ً، أو من غير قصد، لدرجة إن الحديث عنها سيبدو افتراضيا ً ـ أو من صنع الخيال ـ  لأن مؤشر البحث (جوجل) يصدمنا بهذه الحقيقة (2)، مثلما تصدمنا المراجع الأخرى، مما يجعل الحديث عن بعضها، شبيه بالحديث عن علامة غائبة بين الميت وشاخصه، فلا الأخير يدل على الراحل، ولا الراحل لديه ما يدل عليه!
    هل قلت شيئا ً قريبا ً يعّرف سمة من سمات إبداعنا، رغم إن بغداد، بعد استقلالها عن الإمبراطورية العثمانية، كانت تتستر على زمنها الباذخ، في عصر الرشيد، والمأمون، وإلا هل كان من الصعب على المؤسسات/ الجمعيات/ النقابات، منظمات المجتمع المدني ...الخ،  خلال العقود الماضية، أن تؤرخ لهؤلاء الرواد جهودهم بما بذلوه ببناء بيئة معرفية جمعية، ربما ستشكل عاملا ً لأية نهضة تحافظ على هويتها ـ وسط عشوائيات التخريب، من التلف، النهب، والزوال؟(3)


 


[2] الاستديو ـ المحترف
     لا نمتلك معلومات دقيقة أدت بيحيى جواد، قبل أن يكمل عقده الثاني، لاختيار فنون متعددة، من النحت إلى الرسم، ومن الخط العربي إلى الترجمة، ومن الزخرفة إلى السرد، ولكننا نعرف انه أسس (ستديو)  يمارس فيه هذه الفنون، ويقدم نفسه نموذجا ً لجيل لا يمتلك إلا أن يكون تجريبيا ً.
    على ان حافزا ً (ما) سيبقى محركا ً لهذه الاختيارات...، من غير محفزات الحداثة، وهو يمارسها في أربعينيات القرن الماضي، وفي الوقت نفسه، لا معنى لها لو لم يكن يمتلك وعيا ً يسمح له ان يكون (مغامرا ً) و (تجريبيا ً)، كي يحقق ما كان يهدف إلى تحقيقه. فقد تكون العلاقة بين الرسم والخط والزخرفة (كما لدلا نيازي مصطفى)، أو بين النحت والرسم والموسيقا (كما لدى جواد سليم)، أو بين الرسم والشعر والترجمة والقصة (كما لدى جبرا إبراهيم جبرا)، أو بين الفن والمجتمع (كما لدى محمود صبري) أو بين التنظير والرسم (كما لدى شاكر حسن آل سعيد)...الخ، التي بلورت ملامح عدد من تجارب رواد ذلك الجيل الذهبي، إلا ان يحيى جواد، سيمارس، كموهوب، تجاربه بوصفها نسقا ً متكاملا ً، مستندا ً إلى التعددية، والانفتاح، والكف عن الجنس الأحادي، أو غلق الأسلوب، بالاستناد إلى تقاليد مألوفة، شائعة، ومنح التجربة (الفنية) مجالا ً أوسع تتمثل فيه الدينامية، والمغامرة، في حدود فترة حديثة، غير مسبوقة بريادات راسخة أو تامة...، إلا أن يحيى جواد، سيمارس (التعددية) في مسعى للخروج نحو (العالم)، رغم إدراكه أن وسطه الثقافي، مازال بكرا ً، ونخبويا ً، بل محدودا ً...
    فكيف نعيد قراءة مشروعه البكر: "الاستديو... المحترف..." بمعنى "المختبر" وليس بمعنى "الدكان" التجاري...؟
   لأن يحيى جواد، برهافته، لم يكن يجهل انه مازال يعيش في زمن: من أدركته حرفة الأدب ـ أي المهنة التي تؤدي بصاحبها إلى القاع ـ اقتصاديا ً ـ  ونفسيا ً...، ولكنه راح يعمل بالهاجس الفني والجمالي، بالدرجة الأولى، وليس بالمكاسب المحتملة، أو حتى بإشباع الرغبات ...، متمسكا ً بأكثر الوسائل حداثة، وفي الوقت نفسه: بأكثرها ً: قدما ً.
   فالورشة ترجعنا إلى عصر الكهوف ـ أي عصر  الآلهة الأم، حيث (المكان) غدا شرطا ً مغايرا ً لعصر البرية،  والغابة، ففي الكهف تجمعت أكثر الخبرات والتقنيات والمهارات التي أسست صفحات التاريخ المبكرة...، بمعنى ان الفنان ـ الذي لم تتح له فرصة إكمال دراسته في أوربا، راح يعلم نفسه بنفسه، بشروط دالة على موهبة مميزة بالبحث، والتنقيب، والاستحداث. فالاستديو سيتحول إلى: معهد، والى مدرسة، والى مشغل، والى متحف، والى ملتقى للإبداع ـ والمبدعين.





   ففي هذا المشغل سيمارس: الخط، الزخرفة، الرسم، النحت، التصميم، ليس لتلبية طلبات الزبائن حسب، بل للعمل على بلورة رؤية (نقدية) متعددة، وغير منغلقة، متشعبة ومتنوعة وليست أحادية. ففي تجاربه الفنية ثمة معرفة لا يمكن مقارنتها إلا بروح جيل تبنى شروط: التحديث. ولكن يحيى جواد راح يعمل وكأنه عاش في عدد من عواصم الحداثة الكبرى...، وإلا كيف استخلص، في هذه التجارب المتنوعة، ان منح الفن لغته الكلية، العابرة لأحادية الجنس الفني الواحد، وقائمة على نسق الخطاب العالمي، من غير إهمال الحفاظ على هويته، ليس كمجموعة علامات، إشارات، بل بوصفها تمتلك روح التحدي،والمغامرة، بمنح الفن: موقفه الفلسفي، الإنساني، الرمزي، والجمالي أخيرا ً.
     كانت أحلام الفتى الموهوب قد اقترنت بإكمال برنامجه، في هذه الحقول، المتنوعة، والمتعددة، برؤية سابقة لظهور جماعات (المجددين) و (الرؤيا الجديدة) و (الواقعية الحديثة) بعشرين سنة، ولكن عام (1967) لم يكن ذروة الإخفاق بالهزيمة، على الصعيد العربي العام، بل لقد أصيب يحيى جواد بمرض عضال أبعده عن العمل في (الاستديو)، لكنه لم يتخل عن تكملة ما كان قد تجذر في مشروعه المعرفي (الأدبي/ الفني). فقد كان يعمل بالهاجس ذاته الذي بلوره الكاتب مؤيد شكري الراوي، بعد عشرين سنة تماما ً: " ان الزمن الحالي يلح جذريا ً ليكون الإنسان نفسه، وينظر إلى وسائله بحرية واحترام؛ يهدمها ويعيد بنائها  تحت شروطه الخاصة. لا احد يفرض على الفنان شرطه القبلي. وليس ثمة وسائل محددة وقسرية تضعه على طريق معينة. إن الفنان يبدع داخل ملابساته الخاصة ويبدع عندما يحل أزمته بحرية وبجرأة دون ان يكون ظلا ً للآخرين وللقوالب"(4)
     ففي العام (1948) يقوم بترجمة عن الانكليزية مقالا ً حول الرسام (فرنسيسكو بورس) نشر في مجلة الأسبوع البغدادية...، وكان، قبل عامين، قد نشر قصة قصيرة بعنوان (أحياء وأموات) في جريدة الكرخ. وفي العام 1956 شارك في معرض (نادي المنصور) بلوحة واحدة بعنوان (دراسة)، وفي 1958 ـ 1059، نشر مجموعة أقاصيص قصيرة في مجلة "المثقف العراقية" ...الخ
    إلا ان المؤسسات (الثقافية/ الفنية) الرسمية أو الشعبية، ستهمل هذه التجربة، باستثناءات نادرة..، حتى ان اسمه ـ مجرد ذكر الاسم ـ لا يرد، في دليل الفنانين التشكيلين العراقيين لعام 1984، كما غابت أعماله، وتوارت، وكأن مشروعه ـ كواحد من الرواد ـ لم يكن سوى صدى لأصوات لا وجود لها...، قسوة بالغة، لم يعامل بها يحيى جواد وحده، بل هناك المئات من المبدعين، وهم، في الأخير، كانوا لبنات ببناء جيل مازال دعامة لمقاومة موجات التدمير المتلاحقة.(5)





[3] بقلم محمد الجزائري
       في العام 1977، التقى الكاتب محمد الجزائري، الفنان يحيى جواد، وقدمه بأسلوب يحفر في مخفيات عالمه الأدبي، الفني، وقبلهما، عالمه: الإنساني. فصدمة المرض لم تهزم الفنان، بل منحته واحدة من أكثر سمات الشخصية العراقية تجذرا ً: البسالة ـ بل الفداء.
   كانت تدور برأس الكاتب محمد الجزائري أسئلة لا تحصى، إنما كان أولها: كيف يفكر يحيى جواد بالهزيمة؟
أجاب الفنان:
ـ" بدأت روايتي بكلمة بسيطة هي أن أساس قوتي هي نقطة الهزيمة" نقطة الهزيمة كانت المثار لمذاق التحدي (أو: الطاقة) لإنسان كان يتعامل مع بؤرة القمة: ماذا بعد الشلل، ماذا بعد السرطان؟
يقول الجزائري: كان يجرحه سؤال عتيق مترسب في قاع نفسه.." عشت فترة ممارسة فنية بوجهها السطحي ـ يقول استخدام الفن كحرفة. وجوبهت في وقتها، من اقرب الناس وأشدهم ثقة بابتسامة الشك إن لم اقل السخرية: وهذه الابتسامة الساخرة كانت مثار منطلقي الأول. وكانت بؤرة العتمة، أو نقطة الهزيمة هب مثار منطلقي الجديد ..." ويروي يحيى الحكاية: " تساءلت مع نفسي: ترى إن كانت لدي الأصالة أو القدرة الإبداعية كقدرة تحسس الخلق فلتطرح، إذن، على البساط التطبيقي... ولأطرح ما أحس بع فعلا ً بعيدا ً عن الفخر واللمز، وابتسامات السخرية والهزيمة ـ وبدأت أتعلم الأبجدية من جديد... فالشلل افقدني القدرة على تحريك أعصابي ولأني لم أكن املك القدرة حتى على الإمساك بالقلم، وليس المغامرة بعمل فني...، بدأت بالإمساك بالقلم وتعلم الأبجدية (الألف باء) وأنهيت من الأبجدية بعد سنتين... وتتويجا ً لذلك، أنتجت أول قصة قصيرة بعد شللي وهي (الطوطم) ونشرتها في مجلة (ألف باء) عام 1969، وبعد هذا التجاوز والاقتناع بان طاقة المقاومة والتحدي قد عثرت عليها أو من الممكن أن تكون نواة موجودة في الداخل، بدأت الخطوة الأولى الوحي الحقيقي...؟
   ومن خلال هذا الإحساس بالقدرة على المقاومة والتواصل، انفجرت الطموحات من منطقة الحلم إلى ارض الواقع فانتصر يحيى جواد على شلله في كتابة قصة قصيرة فما المانع أن يكون الانتصار على شيء أكثر صلابة ويتطلب جهدا ً أعظم...؟
والسؤال هنا: هناك شفرة وليس قلما ً وفي الشفرة ما يستطيع أن يبدع بها أفكاره على الخشب... لذلك امسك بالأزميل وبدأ مغامرة جديدة. يقول الفنان:
ـ" ممكن أن تصبح حالة قدرية فرضت في غفلة عن الإرادة، حتى وجد الإنسان نفسه عائما ً في الدوامة القدرية.. ولكن كيف يمكن الخروج من هذه الدوامة والإمساك بمنفذ.. ولم لا يجرب؟ إذ ليست هناك خسارة أفدح من الخسارة الراهنة والشاملة جسديا ً. وبدأت التجربة الصعبة: انتهت إلى ومضات أمل صغيرة في البدء ثم صارت فعلا ً إحساس المعاناة بالموضوع أو بالقضية التي ستطرح في العمل الفني المتعايش في الذهن.فشلت بالإمساك بالمطرقة لأنني لا املك القدرة على الإمساك بأصابع يدي اليمنى الميتة. فتوصلت بعد جهد، إلى اكتشاف مطرقة خشبية ربطتها على أصابعي بحزام من الجلد وبدأت اعمل ... ونجحت"
   لكن الجزائري يستهل كلامه ـ حول النحت ـ لدي يحيى جواد:
ـ" في الغرفة المعلقة قبالة نخلة (البرحي) المثمرة كان القناع المرمري الأسود يعلن عن نفسه بوضوح: انه يحمل تاريخ العام 1941. لكنه أمسى أول عمل نحتي ليحيى. فاول تمثال نحته على المرمر (نحت نصفي بارز) كان الثور المجنح.
" هناك فرق بين طبيعة الموضوع وطبيعة المادة.. فمادة الخشب شديدة الحساسية في التعبير وهي تختلف عن قيمتها على مادة المرمر... والخشب بالنسبة لي ولوضعي الحالي أكثر صعوبة... واختياري له كمادة أتعامل معها في النحت فرضتها حالتي وذلك لخفة وزنه ولسهولة وضعه على ساقي لثناء العمل إنني لم اختر الخشب لخواص تعبيرية معينة إذ إنني ارغب العمل بالمرمر واشتاق إليه ولكن العائق الوحيد هو ثقل الكتلة وقدرتي الجسدية على تحريك المرمر والتغلب على معالجته وصياغته .. ولكن قد أجد وسلة ما أتغلب بهما على هذه المشكلة... وقد انجح](6)


[4] عبد الرزاق عبد الواحد: كلمة وفاء
     مع أن بعض (الأسماء) تلقى شهرة، لا أقول لا تستحقها حسب، بل أقول إنها تصبح مثالا ً لديمومة كل ما يتقاطع مع: الإبداع/ الابتكار، حتى تتحول هذه الأسماء إلى نموذج للرداءة ـ بوصفها علامة أو قدوة أو رمزا ً ـ فيما نجد بعض الأسماء التي تمتلك: المهارة، الموهبة، الرهافة، المغامرة، والقدرات على التجديد، تلقى الإغفال، والإهمال، حد المحو، وكأن ثمة قوة ما (غامضة) لا تقهر تعمل عمل: العملة الرديئة في طرد الجيدة منها.
   ففي كلمة وفاء، كتبها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، لمناسبة تكريم يحيى جواد، تلقي الضوء على جوانب من حياة المبدع، وإبداعه، فجاء في فاتحة الكلمة:
ـ "  لقد عرف الناس يحيى جواد نحاتا ً منذ أواخر الأربعينات وبداية الخمسينيات يوم لم يكن غير جواد سليم خارج الوطن وخالد الرحال مدرسا ً في معهد الفنون الجميلة مع أساتذة آخرين."
متابعا ًبتسليط الضوء على الصعوبات التي واجهت يحيى جواد:
ـ " ولأنه ظل ممزقا ً بين ما هو عليه وبين ما يمكن أن يكون.. بين طاقته الكبيرة ولقمة العيش التي لم تمنحه وقتا ً للإنتاج فقد خلص من تمزقه بداء مخيف ... لقد كانت تنتابه نوبات جنونية من الرفض لواقعه ... يعرف أصدقاؤه انه في احدي الليالي رسم كل جدران غرفته وهو نائم وحين استيقظ صباحا ً وقف مبهوتا ً أمام جرأة وحيوية تلك الخطوط التي تكاد تلامس السقف حائرا ً كيف صعد إلى هذا الارتفاع على طللة وكرسي وحافظ على ثبات يده وتوازنه... يومها كان حال يحيى تسوء ... وكنا ـ نحن أصدقاءه المقربين ـ نعرف قسوة معاناته وخطورتها.. حتى لاحت عليه بوادر دائه القاتل... وتعاونا جميعا ً على دفع يحيى دفعا ً إلى السفر ...وفي صوفيا أجريت له واحدة من اخطر العمليات الجراحية استؤصل فيها قسم كبير من نخاعه ألشوكي ... وخرج يحيى من المستشفى مشلول اليد اليمنى... نصف مشلول اليد اليسرى .. مشلول احد الساقين ... وانتهى يحيى جواد النحات الرسام الخطاط قعيدا ً في دار أخيه"
لكن هذا لم ينهي حياته، يقول عبد الرزاق عبد الواحد:
ـ " كان (يحيى) يضحك وهو يحدثني عن طريقة عمله... يربط قطعة خشب في راحته اليمنى.. ذلك إن كفه عاجزة عن الإمساك بشيء ـ فتقوم يده اليمنى بمجموعها مقام المطرقة، بينما يمسك الأزميل بيسراه ... ثم يحتضن كتلة الخشب بعد ذلك بجسمه جميعا ً ليجري اللمسات الأخيرة بيده اليسرى الأقل عطبا ً."
  حتى أن الشاعر الكبير، يدوّن، في هذه الكلمة:
ـ " لك مني أيها الصديق، أيها الرجل.. تحية حب وانحناءة إجلال، أضع فيها شفتي على يدك المشلولة المبدعة" (7)







[5] النحت: ديمومة اللغز
    هل انشغل يحيى جواد بالأشكال، على حساب المعاني، أم انشغل بالمعاني على حساب الأشكال، أم انشغل بدمجهما ـ ككل من يرى المتضادات/ الثنائيات، بنية قائمة على غاية ابعد منهما ـ ليس للتوقف عند (التعبير)، أو عند (الحرفة) ـ كمهارة شخصية أدرك إنها ليست الغاية وحدها، بل عليها أن تمثل حزمة انساق متنوعة، من الحرف إلى الكلمة، ومن السطح إلى المجسم، ومن الواقعي إلى الرمز، حيث تنبني خلاصة ما آلت إليه (الحداثات) التي كان يرى يحيى جواد أطيافها، ولم يعشها، كما حصل لدى الرواد: أكرم شكري، فائق حسن، جواد سليم، ألدروبي…الخ، كي يسمح لتجربته ببلورة الأسئلة ذات الطابع الفلسفي العميق، أو الصحيح…، في حقبة مبكرة أسست تدشيناتها المبكرة للتيارات الحديثة، في العراق…، في شتى المجالات، ومنها فن النحت، للإجابة على أسئلة ـ هي في الأصل ـ المحرك غير المباشر لقلقه، وديناميته، وتطلعه  بنسج نصوص لا تظهر كي تختفي، عبر الاستهلاك، بل لتحفر في: لغز الديمومة ـ والزوال.
    فالعقود المبكرة التي عاشها، كانت قاحلة، وخالية إلا من مغامرات التدشين، لشاب كان خياله أداته للمعرفة، فلم يتلق دروسه في روما، أو باريس، أو لندن، بل علم نفسه بنفسه، في مدينة مازالت تستعيد بعضا ً من ماضيها، عندما كانت، في يوم ما، عاصمة للدنيا. إن هذا الإحساس وحده سيمنحه قدرة أن لا يتوقف عن استخدام الأدوات (المعرفية/ الجمالية)، ودمجها، أو صهرها، عبر انشغالات (الحداثة) وما بعدها…
   ولعله ـ هو ـ أول من أدرك عمق المأزق، والمسافة، والحدود، بين (أوربا) وهي تمتد نحو العالم، وبين بلدان لم تستطع مغادرة واقعها المرير، وهي المسافة بين المبتكر والمقلد..، بين المستهلك والمنتج…، بين المفكر والآخر المنفذ…الخ، كي يصدم بعقبة المرض، مرضه هو.
    ومع ذلك فانه ـ في العام 1977 ـ مكث منشغلا ً بالبعد الفلسفي للفن، لأن: : سقوط الإنسان في مأزق التحولات الفكرية، وأحيانا ً تغيرات مواقع الأشياء، ابتداء بالنظريات وانتهاء ً بالعلم والأرقام، تدفع الإنسان إلى أن يكون ميالا ً إلى التأمل . وفي حالة نزوع إلى البحث عن ماهية المطلق…"
    فإحساس يحيى جواد بمرارة التحديات: العامة،  والخاصة، لم تمنعه من مواصلة (الحفر) في (الزمن)…، وقد لا يكون لهذا جدوى إزاء المطلق، إنما راح بالإرادة ذاتها التي كان يراها كامنة في (الإبداع)، يعمل على تحقيق ذاته، في الأقل،  في نصوصه الفنية، أو السردية.
    ففي نحت  بارز على المرمر يرجع إلى فترة مبكرة جدا ً، يختار يدا ً تحفر في صخرة، في ارض قاحلة، صلبة، يد مكبلة بالحبال، لكنها تسمح للتعبير أن يرتقي إلى الرمز، لا ليمثل معاناته فقط، بل موضوعا ً لمدينته، حضارته، إزاء المصير. إن اختيار المرمر، قبل أن يصاب بالشلل، يسمح بقراءة أقدم المجسمات التي ظهرت فوق الأرض، في وادي الرافدين، بلده. وفي مجسم آخر،مغاير لحدة التعبير، نفذه بالخشب، يظهر مفارقة الحاضر بالماضي الطوطمي، حيث الخلفية تتشكل من علامات لمنحوتات بدائية، ترمز لحالة (النكوص)، والأمل معا ً..، وفي نص فني آخر منحوت بالخشب، يصور هيكلا ً لإنسان يحدق في المجهول، ملخصا ً محنة الإنسان الوجودية.
    ولأن يحيى جواد سيتحدث عن (خيبة برومثيوس) بعد أن حصل على (النار) رمزا ً للمطلق أو للحقيقة أو للعلم أو للحلم..، فإنه سيكتشف أن عملها هو الكشف عن الظلمات …، إلا إنها ستدله على مداها الأبعد…، في  الكشف عن المناطق الغامضة، وغير المكتشفة، والنائية.
    إلا أن مرارة (الخيبة) أو إحساسه بباطل الوجود، وربما لا جدواه، وقد عاش يحيى جواد فترة ازدهار (الوجودية) إلى جانب ازدهار (الماركسية) عبر العالم، لم يختر الصمت، أو الخلاص بالتأمل، بل ستبدأ، كما كتب الأستاذ محمد الجزائري:
ـ " رحلة يحيى جواد ثانية بالأصابع الثلاثة باليقظة الدائمة وبالإرادة التي تظهر بؤرة "العتمة" ونظرات الشك، ومذاق الهزيمة " وقد يتحطم الإنسان لكنه لن يهزم" كما قال همنغواي.
    وكأن يحيى جواد الذي نحت اليد وهي تحفر في الصخر، في شبابه، ستلخص برنامجه حتى النهاية، ملخصا ً مقولة "لاوتسي": اختر الخطوة الصحية" كي يحافظ على الفن، منذ ظهوره، ليس بإعادة الأسئلة، أو بتنويع علامات الإجابة أو أشكالها، بل بالإصغاء ـ حد الرهافة ـ للتعبير عن الموضوعات الكامنة ابعد من التعبير، وليس في إطاره، أو في مخفياته حسب.
    فالنحت يغدو شبيها ً بالمدينة، لا يكملها، ولا يوجد فيها،  فحسب، بل يصبح هو المدينة، أو مصنعا ً  لديمومة فعل (الفكر) الذي هو خلاصة: العمل ـ والتحديات. فقد جعل من منحوتاته القليلة ـ وأنا اجهل مصيرها، كما اجهل مصائر الكثير من إبداعات هذا الجيل ـ (نارا ً) لا تبدد الظلمات، بل تعمل معها بالبحث عن أغوار مازالت بانتظار ريادات، لا تنتهي بريادة أخيرة، أو تتوقف عندها، إلا للبدء برحلة تماثل لغز (إنانا) وهو لغز: الحياة، وما ما لا يمكن قهره فيها.

[6] المرأة: المقدس واقعيا ً
  إذا كان مشروع جواد سليم، لم يكتمل، إلا ببلورة خلاصة أصبحت قائمة، رغم رحيله المبكر، بـ: نصب الحرية...، وإذا كان خالد الرحال، قد نسج ـ كأسلافه القدماء في وادي الرافدين ـ دور (المحترف/ الصانع الأمهر) في صياغة النص النحتي، وإذا كان محمد غني حكمت قد أعاد للأساطير وحدتها بالموروث الشعبي، عبر الفعل السحري للسرد، وغوايته، وإذا كان إسماعيل فتاح قد حاك من أقنعة (الحداثة) مسرحا ً للصراع، بين الحب والموت، وثمة تجارب رائدة أخرى مكثت في الظل، لأنها لم تستعر دور حراس المعابد وأسوار المدن، الثيران المجنحة،  وملاحم النصر، وصيد الأسود، لدى الأسلاف....، فان القاسم المشترك الجامع لهذه التجارب، ليس (التحديث) أو محاكاة (الحداثة) الأوربية، وأشكالها حسب، بل الحنين إلى عصر الأم الكبرى. العصر الذي خلف متحفا ً مكونا ً من علامات الآلهة الأم، بوصفها صانعة للأسرار، وديمومتها أيضا ً.
     ولعل لا وعي يحيى جواد قد وجد في رؤيته الواعية منهجا ً تعلمه بالخبرة، والتدريب، والتشذيب، فلم يختر، من الأجناس التي مارسها، الشعر، لأن الأخير، عمليا ً، يتقاطع مع قراءة الواقع بتحليل الأسباب ونتائجها، فلم يجد في المرأة، إلا نموذجه المستعاد، تارة، والمستحدث، تارة أخرى، مشروعا ً لنقد غياب (العدالة)، اجتماعيا ً وسياسيا ً، بمنح المرأة ريادتها كصانعة للحياة، وليس تابعة ـ أجيرة ـ مبعدة قسرا ً، وجسدا ً للاستمتاع، لها.
     فاختياره للقصة منحه قدرة موضوعية على المراقبة، والترجمة ساعدته على معرفة ثقافات الآخر، علومه، وتقنياته، كيف تقدم، وانتقل إلى عصر التنمية، بوصفها شرطا ً للتحرر، وكان للتصميم موقعه في البناء بما يتطلبه من معرفة بالعناصر وإعادة صياغتها بخيرة نظرية، فيما استخلص من دراسته، وممارسته، للخط/ الكتابة، حتمية الانتقال من الأصوات إلى التدوين، والى التراكم، وهو الدرس المستخلص من الزخرفة كعلم إلى الهندسة والحساب، فيما كان النحت يمثل أقدم حقيقة لتجمع الإبعاد، الروافد، بتضافر دلالاتها الواقعية، والرمزية، معا ً.
   ولم يخض الفنان مغامرة الاتكاء على السحري، في اختيار الشعر، بوصفه ظاهرة صوتية تتقاطع مع عالم قائم على الإنتاج ـ الاستهلاك...، بل وجد في السرد، والبناء، والتحليل اختيارا ً لرؤية واقعية محورة فيها الكثير من التشذيب، الحذف، والإضافات، بما تتضمنه من أبعاد رمزية ـ وجمالية.
    فعند إعادة تأمل النماذج الأكثر شهرة لدى رواد النحت الحديث في العراق، سيشكل نموذج (الأمومة) و (المرأة) عامة، مدخلا ً لقراءة  رؤاهم، وخصائصها الأسلوبية...، فالأم ـ المرأة ـ والطفولة، عملت على هدم المألوف لسيادة عصر (الأحادية الذكورة) نحو عصر: التنمية ـ بوصف الإنتاج هو القانون الأول الذي أسسته المرأة كي يقترن بالتحرر ـ وبالحرية، بعيدا ً عن التطرف أو الجنسانية.
    فثمة إشارة للكاتب محمد الجزائري لها مغزاها:
"  من الملاحظة الأولى يتبين إن موضوعات يحيى جواد تحتوي الكائن، والأغلب، في الإنسان، والأخص: المرأة.." متابعا ً: " وفي كل الحالات نجد التأمل، وما تنطوي عليه الحالات من فلسفة أو موقف فلسفي من العالم في "خيبة برميثيوس" أو "خيبة سارق النار" في "الخليقة" أو "ادم وحواء" في رصد الالتحام الجنسي الأول للخليقة أو في خروج ادم من طفولته البيولوجية وهو يقف على العتبة الأولى من منطقة الجنس أو في "دون كيشوت" أو في  عشتار وثور السماء "المستمدة من ملحمة "جلجامش" أو في الموقف غير (الناصع جدا ً) من المرأة ...."(8)





   فسيجد يحيى جواد عقله، وحواسه، وجسده، ستعمل على صياغة نموذجه للام، الأم الكبرى، بعد أن فقدت قداستها، ولم تعد آلهة كبرى، ولكنها مازالت هي المصنع الذي  لا ينتج الحياة فحسب، بل يتوخى صناعة حياة متوازنة بين شروطها التاريخية، ودلالتها الرمزية، الروحية.
    ففي نحت بارز (رليف) يملأ النحات الخلفية بمجموعة من الطواطم، وإن كانت تسحبنا إلى العصور البدائية، إلا إنها تلقي الضوء على أقنعة الإنسان الحديث، وما يتوارى داخله من أصداء، وارتدادات. فالأجنة، بمختلف إيحاءاتها، تفصح عن مقاربة عالجها بتلقائية، عفوية، تظهر مدى المعاناة التي تواجه الإنسان المعاصر، داخل اطر جنسانيته، أو العمل على تفكيكها، والتحرر منها.
     وفي تمثال مدور، من الخشب، تنتصب الأم (المعاصرة) بانسيابية الصعود من الأرض إلى الأعلى، فالجسد لا يكتم الإيحاء الموسيقي، حيث (الطفل) يلتصق عند المنتصف، بين الثقل، نحو الأسفل، والرشاقة، نحو  السماء، أو الفضاء.
    فالنحات ـ هنا ـ يرجعنا إلى بذرة الخلق التي شكل (الرحم) لغز المنتج لديمومة مكثت تحمل جدلها في مواجهة الاندثار. فالأم  ليست آلهة أسطورية، بل حرية بما تتضمنه من مقاومة للتابوات، التحريم ألقسري، وعصور العبودية، والحريم...، فالمرأة لم تعد ظلا ً، أو  عورة، أو سلعة تابعة لهرمية عصر (الذكر)، فها هي تنتصب، مثل شجرة تتوسط العلاقة الواقعية بين الجذور (الأرض)  وبين السماء.  فالنحات لم يخترها وثنا ً، أو طوطما ً، أو جمالا ً خالصا ً...، على العكس، انه يسرد الحكاية بروح الموسيقا، بما تتضمنه من معالجة جدلية للآلهة الأم، برشاقتها، وكأنها تؤدي طقسا ً، إنما ليس سحريا ً، قائما ً على الغواية، أو التمويه، بل شكلا ً مشذبا ً بعيدا ً عن موروثات (الغواية) و (الفتنة) و (الفسق) نحو: الجمالي ـ بالمعالجة اللا جسدية، الأكثر اختزالا ً، لكن من غير إفراط نحو التجريد، مما يجعل حضورها، معادلة لا تقصي الاستحداث والحفر في التاريخ السحيق، ولا ترجعنا إلى أزمنة التكوين من غير اشتغال يحافظ على مضمون الخصب، محركا ً لا مرئيا ً للأمومة، في عصر انعتاقها، وليس في عصر عبوديتها.

1 ـ لم يرد اسمه في الدليل الذي صدر لمناسبة انعقاد مؤتمر الفنانين التشكيليين العرب الأول ـ بغداد 20/24/1973، وهو من إعداد: جميل حمودي. ولم يرد اسمه أيضا ً في دليل الفنانين التشكيلين لعام 1974، وهو من إعداد سهيل سامي نادر.
2 ـ ثمة إشارة كتبها شكيب كاظم بعنوان:" محاولة للتعرف على فن يحيى جواد القصصي.. موهوب طوته الأيام سراعا " فنان متعدد القابليات والمواهب، فيقول الباحث:"  كنا ونحن نمر من أمام مرسمه في شارع صلاح الدين، المطل على محلة (الكريمات) الكرخية، قبل أن ينتقل إلى الصالحية، قريبا من الجسر، أيام الستينيات من القرن العشرين، تدهش لهذه اللوحات والخطوط والتماثيل، فهو رسام ونحات وخطاط وشاعر وقاص." ليقيمه قاصا ً: " نعم، فهو قاص جيد يقف إلى جانب خيرة قصاصينا العراقيين، لا بل هو رائد من رواد القصة القصيرة في العراق، إذ نشر أول قصة قصيرة له عام 1946 في جريدة (الكرخ) التي كان يصدرها في ذلك الوقت الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي، وعنوانها (أحياء وأموات)" صوت الآخر: http://www.sotakhr.com/2006/index.php?id=26999
3 ـ والغريب أن الفنان جواد الزبيدي، هو الآخر، لم يذكر اسم يحيى جواد بين الرسامين ولا بين النحاتين أيضا ً. انظر: [دليل الفنانين التشكيليين العراقيين] إعداد: جواد الزبيدي. وقد صدر الدليل لمناسبة مهرجان يوم الفن لعام: 1987 ـ نقابة الفنانين العراقيين ـ المركز العام.
4 ـ دليل معرض جماعة المجددين الثالث/ مركز جمعية الفنانين العراقيين/2/9/1967
5 ـ  دليل المعرض ألتكريمي للفنان يحيى جواد ـ دائرة الفنون التشكيلية/ قاعة الرشيد (1983) قاعة بغداد (1988) والدليل من إعداد الفنان: شوكت الربيعي.
6ـ المصدر نفسه.
7 ـ المصدر نفسه.
8 ـ المصدر نفسه.
14/5/2016
Az4445363@gmail.com