الخميس، 19 مايو 2016

في النحت العراقي الحديث يحيى جواد تدشينات صاغت حداثتها-عادل كامل











في النحت العراقي الحديث



يحيى جواد
 تدشينات صاغت حداثتها



عادل كامل
[1]   مدخل عام: النار والرماد
   ربما لأن (الإنسان) هو الكائن الوحيد المعني بترك اثر دال، ليس على إخفاقاته، أو على أوهام انتصاراته، بل على ديمومة هذا الانشغال، المتضمن دينامية مضادة للسكينة، ولكن بالحفاظ على بعث (المحو) من مدافنه النائية. فهو يعمل ليس كي يدوم، رغم انه أول من صاغ افتراضا ً للمدن الفاضلة، وأسس كيانات باذخة للجنات، والخلود، بل كي يدل أثره على ديمومة مشروع لم ـ ولن ـ يكتمل إلا عبر لعبة الغياب والحضور، مادام هذا الكائن لا يمتلك إلا مخفيات دوافعه، تحت ذرائع المجد، واحتفالات العبور..! صحيح، هو: حيوان ناطق، ولكنه سيعمل على تحويل الأصوات إلى إشارات، والى حروف، كي يحافظ على مرور ـ وربما عبور ـ  من الماضي الأبعد، فالأبعد السحيق، نحو المستقبل المفتوح، الذي ليس هو إلا هذا الماضي وقد تم تأجيله، بإحكام، حد استحالة تقويضه، أو إزالته، أو هدمه حد المحو.
   خطرت هذه الومضات ببالي وأنا أعيد قراءة الأسماء التي ظهرت خلال عقود الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، في العراق، بلاد ما بين النهرين، وهي التي كونت مفهوما ً أو مصطلحا ً حمل عنوان: الرواد.
إنما راحت تتكون لدي ّ العوامل التي كونت النهضة الحديثة ـ قياسا ً بقرون طويلة كادت بغداد فيها تغيب عن التاريخ ولا تترك إلا آثارا ً مبعثرة، أو مجموعة من الإطلال، والمدافن، وبعض البساتين! فالأسماء، في الحقول الإبداعية: الاجتماعية، العلمية، الرياضية، القانونية، القضائية، الطبية، المعمارية، الأدبية، الفنية، بل وحتى السياسية ...الخ حملت شارة الريادة ليس بحكم الزمن، بل لأنها أسهمت بتحد ينتسب إلى التجديد ـ وليس بمعنى الفرية أو البدعة ـ مما منحها ـ اليوم وبعد أكثر من سبعة عقود ـ تقديرا ً يتناسب مع موجات الهدم، حد التخريب المبرمج، لكل منجز حمل سمة: العلم، الثقافة، والابتكار.
    ولكن المشكلة التي ستواجه الباحث ـ في قراءة هذا الانجاز الكبير ـ أن الكثير من الآثار، والأسماء، والتجارب، وعلاماتها، تعرضت للضياع، والتشتت، حد استحالة إعادة قراءتها على النحو المتكامل، والموضوعي، بحدود تاريخها، وما رسخته من تحديات.(1)
     ومع إن الفترة الزمنية ليست ببعيدة...، إلا أن إعادة رؤيتها بأدوات (أكثر حداثة) يجعلها تنتسب إلى أزمنة ما قبل الطوفان، مما يقلل ـ أو يزيد ـ منها، ولكن لن يشوش حقيقة إنها منجزات حملت إجابات تجعل مفهوم الإبداع مقترنا ً بعوامل الأعمار ـ  وليس بعوامل الهدم، والتخريب. فقد أنتجت مجموعة من العلامات غير المكررة، للسائد، وليست مستنسخة عن التجارب العالمية، تمام الاستنساخ، مما يميزها بأنها لم تتحول إلى (اثر) مندرس، بل إلى اثر علينا التنقيب عنه، وتسليط الإنارة المناسبة عليه.
     ففي مجال الثقافة/ الفنون، كمجالات الهندسة، القانون، الطب، الصناعات الأولية ...الخ، نالت بعض الأسماء موقعها في الذاكرة التاريخية، لكن البعض منها، لأسباب بحاجة للقراءة، تعرضت للإهمال، عمدا ً، أو من غير قصد، لدرجة إن الحديث عنها سيبدو افتراضيا ً ـ أو من صنع الخيال ـ  لأن مؤشر البحث (جوجل) يصدمنا بهذه الحقيقة (2)، مثلما تصدمنا المراجع الأخرى، مما يجعل الحديث عن بعضها، شبيه بالحديث عن علامة غائبة بين الميت وشاخصه، فلا الأخير يدل على الراحل، ولا الراحل لديه ما يدل عليه!
    هل قلت شيئا ً قريبا ً يعّرف سمة من سمات إبداعنا، رغم إن بغداد، بعد استقلالها عن الإمبراطورية العثمانية، كانت تتستر على زمنها الباذخ، في عصر الرشيد، والمأمون، وإلا هل كان من الصعب على المؤسسات/ الجمعيات/ النقابات، منظمات المجتمع المدني ...الخ،  خلال العقود الماضية، أن تؤرخ لهؤلاء الرواد جهودهم بما بذلوه ببناء بيئة معرفية جمعية، ربما ستشكل عاملا ً لأية نهضة تحافظ على هويتها ـ وسط عشوائيات التخريب، من التلف، النهب، والزوال؟(3)


 


[2] الاستديو ـ المحترف
     لا نمتلك معلومات دقيقة أدت بيحيى جواد، قبل أن يكمل عقده الثاني، لاختيار فنون متعددة، من النحت إلى الرسم، ومن الخط العربي إلى الترجمة، ومن الزخرفة إلى السرد، ولكننا نعرف انه أسس (ستديو)  يمارس فيه هذه الفنون، ويقدم نفسه نموذجا ً لجيل لا يمتلك إلا أن يكون تجريبيا ً.
    على ان حافزا ً (ما) سيبقى محركا ً لهذه الاختيارات...، من غير محفزات الحداثة، وهو يمارسها في أربعينيات القرن الماضي، وفي الوقت نفسه، لا معنى لها لو لم يكن يمتلك وعيا ً يسمح له ان يكون (مغامرا ً) و (تجريبيا ً)، كي يحقق ما كان يهدف إلى تحقيقه. فقد تكون العلاقة بين الرسم والخط والزخرفة (كما لدلا نيازي مصطفى)، أو بين النحت والرسم والموسيقا (كما لدى جواد سليم)، أو بين الرسم والشعر والترجمة والقصة (كما لدى جبرا إبراهيم جبرا)، أو بين الفن والمجتمع (كما لدى محمود صبري) أو بين التنظير والرسم (كما لدى شاكر حسن آل سعيد)...الخ، التي بلورت ملامح عدد من تجارب رواد ذلك الجيل الذهبي، إلا ان يحيى جواد، سيمارس، كموهوب، تجاربه بوصفها نسقا ً متكاملا ً، مستندا ً إلى التعددية، والانفتاح، والكف عن الجنس الأحادي، أو غلق الأسلوب، بالاستناد إلى تقاليد مألوفة، شائعة، ومنح التجربة (الفنية) مجالا ً أوسع تتمثل فيه الدينامية، والمغامرة، في حدود فترة حديثة، غير مسبوقة بريادات راسخة أو تامة...، إلا أن يحيى جواد، سيمارس (التعددية) في مسعى للخروج نحو (العالم)، رغم إدراكه أن وسطه الثقافي، مازال بكرا ً، ونخبويا ً، بل محدودا ً...
    فكيف نعيد قراءة مشروعه البكر: "الاستديو... المحترف..." بمعنى "المختبر" وليس بمعنى "الدكان" التجاري...؟
   لأن يحيى جواد، برهافته، لم يكن يجهل انه مازال يعيش في زمن: من أدركته حرفة الأدب ـ أي المهنة التي تؤدي بصاحبها إلى القاع ـ اقتصاديا ً ـ  ونفسيا ً...، ولكنه راح يعمل بالهاجس الفني والجمالي، بالدرجة الأولى، وليس بالمكاسب المحتملة، أو حتى بإشباع الرغبات ...، متمسكا ً بأكثر الوسائل حداثة، وفي الوقت نفسه: بأكثرها ً: قدما ً.
   فالورشة ترجعنا إلى عصر الكهوف ـ أي عصر  الآلهة الأم، حيث (المكان) غدا شرطا ً مغايرا ً لعصر البرية،  والغابة، ففي الكهف تجمعت أكثر الخبرات والتقنيات والمهارات التي أسست صفحات التاريخ المبكرة...، بمعنى ان الفنان ـ الذي لم تتح له فرصة إكمال دراسته في أوربا، راح يعلم نفسه بنفسه، بشروط دالة على موهبة مميزة بالبحث، والتنقيب، والاستحداث. فالاستديو سيتحول إلى: معهد، والى مدرسة، والى مشغل، والى متحف، والى ملتقى للإبداع ـ والمبدعين.





   ففي هذا المشغل سيمارس: الخط، الزخرفة، الرسم، النحت، التصميم، ليس لتلبية طلبات الزبائن حسب، بل للعمل على بلورة رؤية (نقدية) متعددة، وغير منغلقة، متشعبة ومتنوعة وليست أحادية. ففي تجاربه الفنية ثمة معرفة لا يمكن مقارنتها إلا بروح جيل تبنى شروط: التحديث. ولكن يحيى جواد راح يعمل وكأنه عاش في عدد من عواصم الحداثة الكبرى...، وإلا كيف استخلص، في هذه التجارب المتنوعة، ان منح الفن لغته الكلية، العابرة لأحادية الجنس الفني الواحد، وقائمة على نسق الخطاب العالمي، من غير إهمال الحفاظ على هويته، ليس كمجموعة علامات، إشارات، بل بوصفها تمتلك روح التحدي،والمغامرة، بمنح الفن: موقفه الفلسفي، الإنساني، الرمزي، والجمالي أخيرا ً.
     كانت أحلام الفتى الموهوب قد اقترنت بإكمال برنامجه، في هذه الحقول، المتنوعة، والمتعددة، برؤية سابقة لظهور جماعات (المجددين) و (الرؤيا الجديدة) و (الواقعية الحديثة) بعشرين سنة، ولكن عام (1967) لم يكن ذروة الإخفاق بالهزيمة، على الصعيد العربي العام، بل لقد أصيب يحيى جواد بمرض عضال أبعده عن العمل في (الاستديو)، لكنه لم يتخل عن تكملة ما كان قد تجذر في مشروعه المعرفي (الأدبي/ الفني). فقد كان يعمل بالهاجس ذاته الذي بلوره الكاتب مؤيد شكري الراوي، بعد عشرين سنة تماما ً: " ان الزمن الحالي يلح جذريا ً ليكون الإنسان نفسه، وينظر إلى وسائله بحرية واحترام؛ يهدمها ويعيد بنائها  تحت شروطه الخاصة. لا احد يفرض على الفنان شرطه القبلي. وليس ثمة وسائل محددة وقسرية تضعه على طريق معينة. إن الفنان يبدع داخل ملابساته الخاصة ويبدع عندما يحل أزمته بحرية وبجرأة دون ان يكون ظلا ً للآخرين وللقوالب"(4)
     ففي العام (1948) يقوم بترجمة عن الانكليزية مقالا ً حول الرسام (فرنسيسكو بورس) نشر في مجلة الأسبوع البغدادية...، وكان، قبل عامين، قد نشر قصة قصيرة بعنوان (أحياء وأموات) في جريدة الكرخ. وفي العام 1956 شارك في معرض (نادي المنصور) بلوحة واحدة بعنوان (دراسة)، وفي 1958 ـ 1059، نشر مجموعة أقاصيص قصيرة في مجلة "المثقف العراقية" ...الخ
    إلا ان المؤسسات (الثقافية/ الفنية) الرسمية أو الشعبية، ستهمل هذه التجربة، باستثناءات نادرة..، حتى ان اسمه ـ مجرد ذكر الاسم ـ لا يرد، في دليل الفنانين التشكيلين العراقيين لعام 1984، كما غابت أعماله، وتوارت، وكأن مشروعه ـ كواحد من الرواد ـ لم يكن سوى صدى لأصوات لا وجود لها...، قسوة بالغة، لم يعامل بها يحيى جواد وحده، بل هناك المئات من المبدعين، وهم، في الأخير، كانوا لبنات ببناء جيل مازال دعامة لمقاومة موجات التدمير المتلاحقة.(5)





[3] بقلم محمد الجزائري
       في العام 1977، التقى الكاتب محمد الجزائري، الفنان يحيى جواد، وقدمه بأسلوب يحفر في مخفيات عالمه الأدبي، الفني، وقبلهما، عالمه: الإنساني. فصدمة المرض لم تهزم الفنان، بل منحته واحدة من أكثر سمات الشخصية العراقية تجذرا ً: البسالة ـ بل الفداء.
   كانت تدور برأس الكاتب محمد الجزائري أسئلة لا تحصى، إنما كان أولها: كيف يفكر يحيى جواد بالهزيمة؟
أجاب الفنان:
ـ" بدأت روايتي بكلمة بسيطة هي أن أساس قوتي هي نقطة الهزيمة" نقطة الهزيمة كانت المثار لمذاق التحدي (أو: الطاقة) لإنسان كان يتعامل مع بؤرة القمة: ماذا بعد الشلل، ماذا بعد السرطان؟
يقول الجزائري: كان يجرحه سؤال عتيق مترسب في قاع نفسه.." عشت فترة ممارسة فنية بوجهها السطحي ـ يقول استخدام الفن كحرفة. وجوبهت في وقتها، من اقرب الناس وأشدهم ثقة بابتسامة الشك إن لم اقل السخرية: وهذه الابتسامة الساخرة كانت مثار منطلقي الأول. وكانت بؤرة العتمة، أو نقطة الهزيمة هب مثار منطلقي الجديد ..." ويروي يحيى الحكاية: " تساءلت مع نفسي: ترى إن كانت لدي الأصالة أو القدرة الإبداعية كقدرة تحسس الخلق فلتطرح، إذن، على البساط التطبيقي... ولأطرح ما أحس بع فعلا ً بعيدا ً عن الفخر واللمز، وابتسامات السخرية والهزيمة ـ وبدأت أتعلم الأبجدية من جديد... فالشلل افقدني القدرة على تحريك أعصابي ولأني لم أكن املك القدرة حتى على الإمساك بالقلم، وليس المغامرة بعمل فني...، بدأت بالإمساك بالقلم وتعلم الأبجدية (الألف باء) وأنهيت من الأبجدية بعد سنتين... وتتويجا ً لذلك، أنتجت أول قصة قصيرة بعد شللي وهي (الطوطم) ونشرتها في مجلة (ألف باء) عام 1969، وبعد هذا التجاوز والاقتناع بان طاقة المقاومة والتحدي قد عثرت عليها أو من الممكن أن تكون نواة موجودة في الداخل، بدأت الخطوة الأولى الوحي الحقيقي...؟
   ومن خلال هذا الإحساس بالقدرة على المقاومة والتواصل، انفجرت الطموحات من منطقة الحلم إلى ارض الواقع فانتصر يحيى جواد على شلله في كتابة قصة قصيرة فما المانع أن يكون الانتصار على شيء أكثر صلابة ويتطلب جهدا ً أعظم...؟
والسؤال هنا: هناك شفرة وليس قلما ً وفي الشفرة ما يستطيع أن يبدع بها أفكاره على الخشب... لذلك امسك بالأزميل وبدأ مغامرة جديدة. يقول الفنان:
ـ" ممكن أن تصبح حالة قدرية فرضت في غفلة عن الإرادة، حتى وجد الإنسان نفسه عائما ً في الدوامة القدرية.. ولكن كيف يمكن الخروج من هذه الدوامة والإمساك بمنفذ.. ولم لا يجرب؟ إذ ليست هناك خسارة أفدح من الخسارة الراهنة والشاملة جسديا ً. وبدأت التجربة الصعبة: انتهت إلى ومضات أمل صغيرة في البدء ثم صارت فعلا ً إحساس المعاناة بالموضوع أو بالقضية التي ستطرح في العمل الفني المتعايش في الذهن.فشلت بالإمساك بالمطرقة لأنني لا املك القدرة على الإمساك بأصابع يدي اليمنى الميتة. فتوصلت بعد جهد، إلى اكتشاف مطرقة خشبية ربطتها على أصابعي بحزام من الجلد وبدأت اعمل ... ونجحت"
   لكن الجزائري يستهل كلامه ـ حول النحت ـ لدي يحيى جواد:
ـ" في الغرفة المعلقة قبالة نخلة (البرحي) المثمرة كان القناع المرمري الأسود يعلن عن نفسه بوضوح: انه يحمل تاريخ العام 1941. لكنه أمسى أول عمل نحتي ليحيى. فاول تمثال نحته على المرمر (نحت نصفي بارز) كان الثور المجنح.
" هناك فرق بين طبيعة الموضوع وطبيعة المادة.. فمادة الخشب شديدة الحساسية في التعبير وهي تختلف عن قيمتها على مادة المرمر... والخشب بالنسبة لي ولوضعي الحالي أكثر صعوبة... واختياري له كمادة أتعامل معها في النحت فرضتها حالتي وذلك لخفة وزنه ولسهولة وضعه على ساقي لثناء العمل إنني لم اختر الخشب لخواص تعبيرية معينة إذ إنني ارغب العمل بالمرمر واشتاق إليه ولكن العائق الوحيد هو ثقل الكتلة وقدرتي الجسدية على تحريك المرمر والتغلب على معالجته وصياغته .. ولكن قد أجد وسلة ما أتغلب بهما على هذه المشكلة... وقد انجح](6)


[4] عبد الرزاق عبد الواحد: كلمة وفاء
     مع أن بعض (الأسماء) تلقى شهرة، لا أقول لا تستحقها حسب، بل أقول إنها تصبح مثالا ً لديمومة كل ما يتقاطع مع: الإبداع/ الابتكار، حتى تتحول هذه الأسماء إلى نموذج للرداءة ـ بوصفها علامة أو قدوة أو رمزا ً ـ فيما نجد بعض الأسماء التي تمتلك: المهارة، الموهبة، الرهافة، المغامرة، والقدرات على التجديد، تلقى الإغفال، والإهمال، حد المحو، وكأن ثمة قوة ما (غامضة) لا تقهر تعمل عمل: العملة الرديئة في طرد الجيدة منها.
   ففي كلمة وفاء، كتبها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، لمناسبة تكريم يحيى جواد، تلقي الضوء على جوانب من حياة المبدع، وإبداعه، فجاء في فاتحة الكلمة:
ـ "  لقد عرف الناس يحيى جواد نحاتا ً منذ أواخر الأربعينات وبداية الخمسينيات يوم لم يكن غير جواد سليم خارج الوطن وخالد الرحال مدرسا ً في معهد الفنون الجميلة مع أساتذة آخرين."
متابعا ًبتسليط الضوء على الصعوبات التي واجهت يحيى جواد:
ـ " ولأنه ظل ممزقا ً بين ما هو عليه وبين ما يمكن أن يكون.. بين طاقته الكبيرة ولقمة العيش التي لم تمنحه وقتا ً للإنتاج فقد خلص من تمزقه بداء مخيف ... لقد كانت تنتابه نوبات جنونية من الرفض لواقعه ... يعرف أصدقاؤه انه في احدي الليالي رسم كل جدران غرفته وهو نائم وحين استيقظ صباحا ً وقف مبهوتا ً أمام جرأة وحيوية تلك الخطوط التي تكاد تلامس السقف حائرا ً كيف صعد إلى هذا الارتفاع على طللة وكرسي وحافظ على ثبات يده وتوازنه... يومها كان حال يحيى تسوء ... وكنا ـ نحن أصدقاءه المقربين ـ نعرف قسوة معاناته وخطورتها.. حتى لاحت عليه بوادر دائه القاتل... وتعاونا جميعا ً على دفع يحيى دفعا ً إلى السفر ...وفي صوفيا أجريت له واحدة من اخطر العمليات الجراحية استؤصل فيها قسم كبير من نخاعه ألشوكي ... وخرج يحيى من المستشفى مشلول اليد اليمنى... نصف مشلول اليد اليسرى .. مشلول احد الساقين ... وانتهى يحيى جواد النحات الرسام الخطاط قعيدا ً في دار أخيه"
لكن هذا لم ينهي حياته، يقول عبد الرزاق عبد الواحد:
ـ " كان (يحيى) يضحك وهو يحدثني عن طريقة عمله... يربط قطعة خشب في راحته اليمنى.. ذلك إن كفه عاجزة عن الإمساك بشيء ـ فتقوم يده اليمنى بمجموعها مقام المطرقة، بينما يمسك الأزميل بيسراه ... ثم يحتضن كتلة الخشب بعد ذلك بجسمه جميعا ً ليجري اللمسات الأخيرة بيده اليسرى الأقل عطبا ً."
  حتى أن الشاعر الكبير، يدوّن، في هذه الكلمة:
ـ " لك مني أيها الصديق، أيها الرجل.. تحية حب وانحناءة إجلال، أضع فيها شفتي على يدك المشلولة المبدعة" (7)







[5] النحت: ديمومة اللغز
    هل انشغل يحيى جواد بالأشكال، على حساب المعاني، أم انشغل بالمعاني على حساب الأشكال، أم انشغل بدمجهما ـ ككل من يرى المتضادات/ الثنائيات، بنية قائمة على غاية ابعد منهما ـ ليس للتوقف عند (التعبير)، أو عند (الحرفة) ـ كمهارة شخصية أدرك إنها ليست الغاية وحدها، بل عليها أن تمثل حزمة انساق متنوعة، من الحرف إلى الكلمة، ومن السطح إلى المجسم، ومن الواقعي إلى الرمز، حيث تنبني خلاصة ما آلت إليه (الحداثات) التي كان يرى يحيى جواد أطيافها، ولم يعشها، كما حصل لدى الرواد: أكرم شكري، فائق حسن، جواد سليم، ألدروبي…الخ، كي يسمح لتجربته ببلورة الأسئلة ذات الطابع الفلسفي العميق، أو الصحيح…، في حقبة مبكرة أسست تدشيناتها المبكرة للتيارات الحديثة، في العراق…، في شتى المجالات، ومنها فن النحت، للإجابة على أسئلة ـ هي في الأصل ـ المحرك غير المباشر لقلقه، وديناميته، وتطلعه  بنسج نصوص لا تظهر كي تختفي، عبر الاستهلاك، بل لتحفر في: لغز الديمومة ـ والزوال.
    فالعقود المبكرة التي عاشها، كانت قاحلة، وخالية إلا من مغامرات التدشين، لشاب كان خياله أداته للمعرفة، فلم يتلق دروسه في روما، أو باريس، أو لندن، بل علم نفسه بنفسه، في مدينة مازالت تستعيد بعضا ً من ماضيها، عندما كانت، في يوم ما، عاصمة للدنيا. إن هذا الإحساس وحده سيمنحه قدرة أن لا يتوقف عن استخدام الأدوات (المعرفية/ الجمالية)، ودمجها، أو صهرها، عبر انشغالات (الحداثة) وما بعدها…
   ولعله ـ هو ـ أول من أدرك عمق المأزق، والمسافة، والحدود، بين (أوربا) وهي تمتد نحو العالم، وبين بلدان لم تستطع مغادرة واقعها المرير، وهي المسافة بين المبتكر والمقلد..، بين المستهلك والمنتج…، بين المفكر والآخر المنفذ…الخ، كي يصدم بعقبة المرض، مرضه هو.
    ومع ذلك فانه ـ في العام 1977 ـ مكث منشغلا ً بالبعد الفلسفي للفن، لأن: : سقوط الإنسان في مأزق التحولات الفكرية، وأحيانا ً تغيرات مواقع الأشياء، ابتداء بالنظريات وانتهاء ً بالعلم والأرقام، تدفع الإنسان إلى أن يكون ميالا ً إلى التأمل . وفي حالة نزوع إلى البحث عن ماهية المطلق…"
    فإحساس يحيى جواد بمرارة التحديات: العامة،  والخاصة، لم تمنعه من مواصلة (الحفر) في (الزمن)…، وقد لا يكون لهذا جدوى إزاء المطلق، إنما راح بالإرادة ذاتها التي كان يراها كامنة في (الإبداع)، يعمل على تحقيق ذاته، في الأقل،  في نصوصه الفنية، أو السردية.
    ففي نحت  بارز على المرمر يرجع إلى فترة مبكرة جدا ً، يختار يدا ً تحفر في صخرة، في ارض قاحلة، صلبة، يد مكبلة بالحبال، لكنها تسمح للتعبير أن يرتقي إلى الرمز، لا ليمثل معاناته فقط، بل موضوعا ً لمدينته، حضارته، إزاء المصير. إن اختيار المرمر، قبل أن يصاب بالشلل، يسمح بقراءة أقدم المجسمات التي ظهرت فوق الأرض، في وادي الرافدين، بلده. وفي مجسم آخر،مغاير لحدة التعبير، نفذه بالخشب، يظهر مفارقة الحاضر بالماضي الطوطمي، حيث الخلفية تتشكل من علامات لمنحوتات بدائية، ترمز لحالة (النكوص)، والأمل معا ً..، وفي نص فني آخر منحوت بالخشب، يصور هيكلا ً لإنسان يحدق في المجهول، ملخصا ً محنة الإنسان الوجودية.
    ولأن يحيى جواد سيتحدث عن (خيبة برومثيوس) بعد أن حصل على (النار) رمزا ً للمطلق أو للحقيقة أو للعلم أو للحلم..، فإنه سيكتشف أن عملها هو الكشف عن الظلمات …، إلا إنها ستدله على مداها الأبعد…، في  الكشف عن المناطق الغامضة، وغير المكتشفة، والنائية.
    إلا أن مرارة (الخيبة) أو إحساسه بباطل الوجود، وربما لا جدواه، وقد عاش يحيى جواد فترة ازدهار (الوجودية) إلى جانب ازدهار (الماركسية) عبر العالم، لم يختر الصمت، أو الخلاص بالتأمل، بل ستبدأ، كما كتب الأستاذ محمد الجزائري:
ـ " رحلة يحيى جواد ثانية بالأصابع الثلاثة باليقظة الدائمة وبالإرادة التي تظهر بؤرة "العتمة" ونظرات الشك، ومذاق الهزيمة " وقد يتحطم الإنسان لكنه لن يهزم" كما قال همنغواي.
    وكأن يحيى جواد الذي نحت اليد وهي تحفر في الصخر، في شبابه، ستلخص برنامجه حتى النهاية، ملخصا ً مقولة "لاوتسي": اختر الخطوة الصحية" كي يحافظ على الفن، منذ ظهوره، ليس بإعادة الأسئلة، أو بتنويع علامات الإجابة أو أشكالها، بل بالإصغاء ـ حد الرهافة ـ للتعبير عن الموضوعات الكامنة ابعد من التعبير، وليس في إطاره، أو في مخفياته حسب.
    فالنحت يغدو شبيها ً بالمدينة، لا يكملها، ولا يوجد فيها،  فحسب، بل يصبح هو المدينة، أو مصنعا ً  لديمومة فعل (الفكر) الذي هو خلاصة: العمل ـ والتحديات. فقد جعل من منحوتاته القليلة ـ وأنا اجهل مصيرها، كما اجهل مصائر الكثير من إبداعات هذا الجيل ـ (نارا ً) لا تبدد الظلمات، بل تعمل معها بالبحث عن أغوار مازالت بانتظار ريادات، لا تنتهي بريادة أخيرة، أو تتوقف عندها، إلا للبدء برحلة تماثل لغز (إنانا) وهو لغز: الحياة، وما ما لا يمكن قهره فيها.

[6] المرأة: المقدس واقعيا ً
  إذا كان مشروع جواد سليم، لم يكتمل، إلا ببلورة خلاصة أصبحت قائمة، رغم رحيله المبكر، بـ: نصب الحرية...، وإذا كان خالد الرحال، قد نسج ـ كأسلافه القدماء في وادي الرافدين ـ دور (المحترف/ الصانع الأمهر) في صياغة النص النحتي، وإذا كان محمد غني حكمت قد أعاد للأساطير وحدتها بالموروث الشعبي، عبر الفعل السحري للسرد، وغوايته، وإذا كان إسماعيل فتاح قد حاك من أقنعة (الحداثة) مسرحا ً للصراع، بين الحب والموت، وثمة تجارب رائدة أخرى مكثت في الظل، لأنها لم تستعر دور حراس المعابد وأسوار المدن، الثيران المجنحة،  وملاحم النصر، وصيد الأسود، لدى الأسلاف....، فان القاسم المشترك الجامع لهذه التجارب، ليس (التحديث) أو محاكاة (الحداثة) الأوربية، وأشكالها حسب، بل الحنين إلى عصر الأم الكبرى. العصر الذي خلف متحفا ً مكونا ً من علامات الآلهة الأم، بوصفها صانعة للأسرار، وديمومتها أيضا ً.
     ولعل لا وعي يحيى جواد قد وجد في رؤيته الواعية منهجا ً تعلمه بالخبرة، والتدريب، والتشذيب، فلم يختر، من الأجناس التي مارسها، الشعر، لأن الأخير، عمليا ً، يتقاطع مع قراءة الواقع بتحليل الأسباب ونتائجها، فلم يجد في المرأة، إلا نموذجه المستعاد، تارة، والمستحدث، تارة أخرى، مشروعا ً لنقد غياب (العدالة)، اجتماعيا ً وسياسيا ً، بمنح المرأة ريادتها كصانعة للحياة، وليس تابعة ـ أجيرة ـ مبعدة قسرا ً، وجسدا ً للاستمتاع، لها.
     فاختياره للقصة منحه قدرة موضوعية على المراقبة، والترجمة ساعدته على معرفة ثقافات الآخر، علومه، وتقنياته، كيف تقدم، وانتقل إلى عصر التنمية، بوصفها شرطا ً للتحرر، وكان للتصميم موقعه في البناء بما يتطلبه من معرفة بالعناصر وإعادة صياغتها بخيرة نظرية، فيما استخلص من دراسته، وممارسته، للخط/ الكتابة، حتمية الانتقال من الأصوات إلى التدوين، والى التراكم، وهو الدرس المستخلص من الزخرفة كعلم إلى الهندسة والحساب، فيما كان النحت يمثل أقدم حقيقة لتجمع الإبعاد، الروافد، بتضافر دلالاتها الواقعية، والرمزية، معا ً.
   ولم يخض الفنان مغامرة الاتكاء على السحري، في اختيار الشعر، بوصفه ظاهرة صوتية تتقاطع مع عالم قائم على الإنتاج ـ الاستهلاك...، بل وجد في السرد، والبناء، والتحليل اختيارا ً لرؤية واقعية محورة فيها الكثير من التشذيب، الحذف، والإضافات، بما تتضمنه من أبعاد رمزية ـ وجمالية.
    فعند إعادة تأمل النماذج الأكثر شهرة لدى رواد النحت الحديث في العراق، سيشكل نموذج (الأمومة) و (المرأة) عامة، مدخلا ً لقراءة  رؤاهم، وخصائصها الأسلوبية...، فالأم ـ المرأة ـ والطفولة، عملت على هدم المألوف لسيادة عصر (الأحادية الذكورة) نحو عصر: التنمية ـ بوصف الإنتاج هو القانون الأول الذي أسسته المرأة كي يقترن بالتحرر ـ وبالحرية، بعيدا ً عن التطرف أو الجنسانية.
    فثمة إشارة للكاتب محمد الجزائري لها مغزاها:
"  من الملاحظة الأولى يتبين إن موضوعات يحيى جواد تحتوي الكائن، والأغلب، في الإنسان، والأخص: المرأة.." متابعا ً: " وفي كل الحالات نجد التأمل، وما تنطوي عليه الحالات من فلسفة أو موقف فلسفي من العالم في "خيبة برميثيوس" أو "خيبة سارق النار" في "الخليقة" أو "ادم وحواء" في رصد الالتحام الجنسي الأول للخليقة أو في خروج ادم من طفولته البيولوجية وهو يقف على العتبة الأولى من منطقة الجنس أو في "دون كيشوت" أو في  عشتار وثور السماء "المستمدة من ملحمة "جلجامش" أو في الموقف غير (الناصع جدا ً) من المرأة ...."(8)





   فسيجد يحيى جواد عقله، وحواسه، وجسده، ستعمل على صياغة نموذجه للام، الأم الكبرى، بعد أن فقدت قداستها، ولم تعد آلهة كبرى، ولكنها مازالت هي المصنع الذي  لا ينتج الحياة فحسب، بل يتوخى صناعة حياة متوازنة بين شروطها التاريخية، ودلالتها الرمزية، الروحية.
    ففي نحت بارز (رليف) يملأ النحات الخلفية بمجموعة من الطواطم، وإن كانت تسحبنا إلى العصور البدائية، إلا إنها تلقي الضوء على أقنعة الإنسان الحديث، وما يتوارى داخله من أصداء، وارتدادات. فالأجنة، بمختلف إيحاءاتها، تفصح عن مقاربة عالجها بتلقائية، عفوية، تظهر مدى المعاناة التي تواجه الإنسان المعاصر، داخل اطر جنسانيته، أو العمل على تفكيكها، والتحرر منها.
     وفي تمثال مدور، من الخشب، تنتصب الأم (المعاصرة) بانسيابية الصعود من الأرض إلى الأعلى، فالجسد لا يكتم الإيحاء الموسيقي، حيث (الطفل) يلتصق عند المنتصف، بين الثقل، نحو الأسفل، والرشاقة، نحو  السماء، أو الفضاء.
    فالنحات ـ هنا ـ يرجعنا إلى بذرة الخلق التي شكل (الرحم) لغز المنتج لديمومة مكثت تحمل جدلها في مواجهة الاندثار. فالأم  ليست آلهة أسطورية، بل حرية بما تتضمنه من مقاومة للتابوات، التحريم ألقسري، وعصور العبودية، والحريم...، فالمرأة لم تعد ظلا ً، أو  عورة، أو سلعة تابعة لهرمية عصر (الذكر)، فها هي تنتصب، مثل شجرة تتوسط العلاقة الواقعية بين الجذور (الأرض)  وبين السماء.  فالنحات لم يخترها وثنا ً، أو طوطما ً، أو جمالا ً خالصا ً...، على العكس، انه يسرد الحكاية بروح الموسيقا، بما تتضمنه من معالجة جدلية للآلهة الأم، برشاقتها، وكأنها تؤدي طقسا ً، إنما ليس سحريا ً، قائما ً على الغواية، أو التمويه، بل شكلا ً مشذبا ً بعيدا ً عن موروثات (الغواية) و (الفتنة) و (الفسق) نحو: الجمالي ـ بالمعالجة اللا جسدية، الأكثر اختزالا ً، لكن من غير إفراط نحو التجريد، مما يجعل حضورها، معادلة لا تقصي الاستحداث والحفر في التاريخ السحيق، ولا ترجعنا إلى أزمنة التكوين من غير اشتغال يحافظ على مضمون الخصب، محركا ً لا مرئيا ً للأمومة، في عصر انعتاقها، وليس في عصر عبوديتها.

1 ـ لم يرد اسمه في الدليل الذي صدر لمناسبة انعقاد مؤتمر الفنانين التشكيليين العرب الأول ـ بغداد 20/24/1973، وهو من إعداد: جميل حمودي. ولم يرد اسمه أيضا ً في دليل الفنانين التشكيلين لعام 1974، وهو من إعداد سهيل سامي نادر.
2 ـ ثمة إشارة كتبها شكيب كاظم بعنوان:" محاولة للتعرف على فن يحيى جواد القصصي.. موهوب طوته الأيام سراعا " فنان متعدد القابليات والمواهب، فيقول الباحث:"  كنا ونحن نمر من أمام مرسمه في شارع صلاح الدين، المطل على محلة (الكريمات) الكرخية، قبل أن ينتقل إلى الصالحية، قريبا من الجسر، أيام الستينيات من القرن العشرين، تدهش لهذه اللوحات والخطوط والتماثيل، فهو رسام ونحات وخطاط وشاعر وقاص." ليقيمه قاصا ً: " نعم، فهو قاص جيد يقف إلى جانب خيرة قصاصينا العراقيين، لا بل هو رائد من رواد القصة القصيرة في العراق، إذ نشر أول قصة قصيرة له عام 1946 في جريدة (الكرخ) التي كان يصدرها في ذلك الوقت الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي، وعنوانها (أحياء وأموات)" صوت الآخر: http://www.sotakhr.com/2006/index.php?id=26999
3 ـ والغريب أن الفنان جواد الزبيدي، هو الآخر، لم يذكر اسم يحيى جواد بين الرسامين ولا بين النحاتين أيضا ً. انظر: [دليل الفنانين التشكيليين العراقيين] إعداد: جواد الزبيدي. وقد صدر الدليل لمناسبة مهرجان يوم الفن لعام: 1987 ـ نقابة الفنانين العراقيين ـ المركز العام.
4 ـ دليل معرض جماعة المجددين الثالث/ مركز جمعية الفنانين العراقيين/2/9/1967
5 ـ  دليل المعرض ألتكريمي للفنان يحيى جواد ـ دائرة الفنون التشكيلية/ قاعة الرشيد (1983) قاعة بغداد (1988) والدليل من إعداد الفنان: شوكت الربيعي.
6ـ المصدر نفسه.
7 ـ المصدر نفسه.
8 ـ المصدر نفسه.
14/5/2016
Az4445363@gmail.com

الثلاثاء، 17 مايو 2016

أختام*- عادل كامل




















أختام*

    عادل كامل


[14] خاتمة: حافات مائلة

     ليس بيسر يمكن تحديد ما اذا كانت رهافة إنسان ـ ما قبل ظهور بعض الخطوط وبعض الأشكال قبل مليوني سنة ـ اقل أو أكثر رهافة من إنسان بالكاد حمى ما تبقى من هويته كانسان في عالم (النمل)، وفي عالم محكوم باليات الانتهاك، والاندماج، وديمقراطية الصوت الواحد، في عصر ما بعد التقنيات الحديثة، وتشكل القرية الكونية؟
    فإذا كان النموذج البشري المبكر قد كافح بحماية جلده ورأسه وفمه وبصره وجسده بالكامل من أنياب ومخالب ونيران درجات حرارة منخفضة أو مرتفعة، ومن ريح، ومن ظلمة، وأصوات مدوية ...الخ فانا أجد أن عدد الايذاءات ـ والمخاوف ـ قد تضاعف بالنسبة ذاتها لتنوع وجود الأفاعي والعقارب والذئاب والديدان والحشرات والميكروبات والكلاب والجرذان والصراصير، إلى جانب الضباع البشرية، والى جانب تنوع الملوثات، وآلات التدمير، والرصد، والمراقبة، في مدن تحولت إلى علب معدة تسكنها كائنات غادرت رهافتها من اجل تجاهل أنها تمتلك عادات في الحس، وقيم في الأفكار الفلسفية، والأخلاقية، وقدرة على تمييز الجمالي عن عشوائيات السلع المعدة للاستهلاك. إنها قلب التقدم إلى الأمام نحو ظلمات تتجمد فيها الأوصال، ولتشذيب درجة محو الرهافات، وتحولها إلى منطق النمل: تدمير أية نملة تميل نحو درب مغاير لعمل أنظمتها المصممة بعناية.
     في عالم يجد الفنان رهافته مهددة في كل ثانية، لا من لدن زملاء وأشقاء وعابري سبيل، ولا من قبل كائنات بعيدة تغزوك لتنهب وتسحق وتلوث وتحرمك من بقايا إنسانية  ـ سبق لها ان تعرضت للتدمير ـ  فحسب، بل لان ثمة ما هو مشترك يضطرك ـ بالهاجس السحيق ذاته في مقاومة العقارب والظلمات والمخالب والأنياب ـ لاختراع دفاعات ـ مهما كانت سلبية او مائلة او فائضة أو غير متوقعة ـ للحفاظ  على جلدك وراسك وبصرك وجسدك دفاعا ً ضد غزو يومي وانتهاكات دتئمة بلا رحمة، وانذارات مباشرة او رمزية تاتيك عبر وسائل البص او الاتصال، فاغلق بحرص المنافذ، واعمل على هدم الجسور، للاحتماء بما اراه تحديقا ً خارح مدى المرايا، وبعيدا ً عن الاستجداء.  ففي الختم تضع اليد حكمة اشتغالات ملا يحصى من الخلايا بالنظام ذاته في مقاومة سفينة غارقة محملة بأضعاف أضعاف سفينة (نوح) السومري، التي نجت، لكن لتواصل انتظار نهاية الطوفان الذي مكث عاملا ً بلا تذمر! فالفنان ليس أعمى كي ينهمك ببيع كل ما ينهبه من الاخرين ومن المتاحف التي سبيت وسلبت ليمثل عدوا ً لا يقل ايذاء ً عن اعرج خسيس يتباهى بالرقص فوق حبال لا وجود لها، ولا تقل لدغاته عن نذل لم يكن يمتلك الا (نعلا ً)، وبرأس خال ٍ الا من الشتائم، والكلمات الجوف، ليحمل ـ فجأة ـ شارة تدحض نذالاته وخسته، ليغدو نموذجا ً للصاعدين الى الوهم.  انها ذرات روائح لم تنتجها سواحل ماضسنا السحيق فحسب، بل ذرات دفعت باستاذ كبير كشاكر حسن الى العزلة والموت خاتمة لرحلة مضطربة، ودفعت ـ قبله ـ جواد سليم ليشغلنا برهافات مكثت تمدنا بنبل إنسانية مازالت تمسك بلغز مقاومتها للرداءات. ذرات لها فعل شظايا قذائف كومت وطننا فوق أجسادنا، وملأت حياتنا بإشعاعات ستبقى تعمل على جعل الاحتضار ممتدا ً حيث الموت جعلنا ضيوفا ً عنده.
     ألا تكفي هذه الصدمات من جعل الرهافة تبحث عن خامات قريبة للتي وجدها سكان السواحل والمغارات من بناء أختام لها تحتمي بها من أثير الموت وقد تداخلت ومضات نبضات القلب، في ما بين إشعاعات الضوء من خطوط سود ليس مصدرها الشمس فحسب، بل الضمير ذاته وهو يغوينا بالبقاء على حافة الحياة...؟ ألا يبدو الأثر ـ هنا ـ منفصلا ً عن النص، من اجل الحفاظ على ملكية يراها تؤول بالبناء إلى مصيره نحو لاندثار، والزوال، بعد أن لم يعد يجد في الكلمات إلا حجابات، وأسوار عازلة، وجدران، ومعدات، وسواتر لا تفصل الناس عن مصيره بل عن موته أيضا ً، ليجد أصابعه تدوّن هذا الشبيه بما حفره إنسان البرية فوق عظام  وجدها بجواره نداءات غير موجهة إلى احد وقد تركها تسكن لا حافاتها وقد حدد حدودها بمجسمات خامات لا تمتلك إلا ما تمتلكه روحه من باثات في عالم ليس له ـ فيه ـ إلا عبوره بعد أن كفت اللغة حتى أن تكون جسرا ً أو قبرا ً..!
10/4/2011
 
* نهاية الختم الأول، وقد سبق أن نشر الختم السابع في "سومريننت".

الأحد، 15 مايو 2016

كرنفال الذاكرة.......... وصخب الألوان-نجاح المصري زهران

كرنفال الذاكرة.......... وصخب الألوان
نجاح المصري زهران
اليوم زارني أول المناخ
بريشة الدفء ، يدفع تأويلات الدائرة بارتواء ذراتي ، كنت أحاذي سطوع الأمس على
ظلال البيوت المسكونة بحبات الفلك . تحدثت قليلا مع جارتي
المثقفة برسوم الفنجان ،لكن النجم همس معترضا لتُـعدل خطط الأشباح عما رأته من استنشاق انسان ،
وقلت له أن هذه الصور
تسلقت القصيدة، مبحوحة بشظايا الأرض ودوار الشمس ،
واللغة المسكونة بنقاط البدايات لم تلق سوى وردة حممتها الشمس تركض خلف كلمات من زغب . وكنت كلما اعترض يغويني الضباب للسير في حفر حُفظت الأرواح بداخلها وتهيأ لي أن بعضها تثاءب من تجربة العتمة بخلايا النوم ، لأرى ما كشفته الحجارة من راحة الوجه المذاب بمزاج البقاء .
والآن وقد خُيل لي أن شجرة التين ابتلعت في عروقها مقهى كلما مرّ
عليها طير قدمت له بعضا من خمرتها المذابة بحباتها العسلية ، ازددتُ فضولا بين تلك
الحمامات البريّة التي تُسبح لله ولا تعلن للفضاء عملها الصغير في ملحمة السرّْ
المتواصل لشحذ القش للأعشاش . هناك حيث تركت الرياح سفح الجبل للعصافير الآمنة ولم تنتبه لقنص البندقية . ولم أفهم لمَ........ لم يهرب من ذعره بِرفعة العيش . ..؟
وما زلت أُقلب تلك الوسوسة لأشجار حاذت الينابيع ومرايا الماء في وقت لا يشيخ بمهلة الصبر .وتلك الفزاعة التي آوتها الأرصفة ولم تهتم لها الغيمة المدججة بأنخاب البرق . تراهن على اتكاء الأثير بسراديب الورق وما سمعته عن انشغال الندى بثياب الورد ومدار المجرات وما أهدت القصيدة في قبوها لحبات القمح من شبع وفطام .
ربما أسرفت قليلا في دهشة الأسماء على يديّ وما سعل الليل على ضفاف السؤال ، يبكي منحدرا بين ظلمات الإجابة ورمية النرد لقمة ذابت بملاحم الحاجة لدمع عزيز على النايات .
سلام عيك أيها العقل من دحرجة العصف بأثداء المدن ، سلام على النجمة بأعالي الحنين قبل الاستسلام وبعد الوجع .
سلام على ارتداد الدمن عثرات الألم ، سلام عليكِ أيتها الألعاب الطفولية بأفراح النور وساعاتك المنسية بالكِبَر.
عدت قليلا الى زقاق يديّ! فرأيت الألوان تُذاب بنسيان الماء في الانكسارات ، وذلك الحنين المشطوب بمنحدرات اصفرت به كيمياء المحاولة .وتلك الجمرة التي تلكأت
طير كهولتي ، تأرجح مع السلاحف المسالمة لكني لم أرزق بقرصة العاشق من الألوان .
عايشت كل أغاني الشغف في محار مصلوب بلعاب البحر، والأحلام التي أصدرت حفيف الفَراش قبل السقوط ، رفعت ذراتي القطنية لخفة وزنها وعصرتها على اللون الهارب الى البياض ، فلم أجد هناك أنسجة لأحاسيس اللعب ولا البرق المتعب من أعصابنا .
يسيل من لجاجة خاصرة لا تفقه الصبر .
آه أي ريح هذه في جعلتنا نحتسي انزلاقاتنا بفن الرسم ، مقعد على الفجر على
أزهار الشرفة في التلاشي ، على الساعة الخامسة الا ربع منسية على ينبوع مبتور
الارتواء للإشراق والتوق شر مستطاب بعقارب الذاكرة ترضع التكرار من زند الاشتعال لحظة تمد يدك نحو الشهب واللهاث سنَّ النهار إثر الشمس ، ليخط مياسم المصابيح
وخيل لي أن النهر تعجل الذهاب خوف الجلبة على دموعه فهناك امرأة تخرج من الرجوع الى كف الأمومة لترجما تهجئي الحبر بـأنفاس الأبدية ،
تهدهد ذبذبات السرير لطفلها
الانقلابية ، وتعلق بين جفنيه كل ألوان الحب ، والسرّ ونصف السمّر وقصة البوصلة
وحكايات لعبت بحروف الحلم والشفاء .جلست أراقب شرارة طائعة
تجمع النبض بالألوان
هناك شبح مررّ الدجى
للزجاج وراهن الشاعر على مكنونات صدره ،
لكنه تقهقر بأقصوصة
الأبواب والبقاء وأمسك بوهج الشعر ليعيد النوافذ من استعادة الغبار في منتصف البحر
واللون والرهان
هناك كنت
أهادن المنارات
والمنافي وزنزانات السجن والسجان، ولسان الأسطورة في الكرنفال
لتنضج الطحالب المريرة

بكرنفال الذاكرة وصخب الألوان .

الخميس، 12 مايو 2016

نص مشحون بالدم-د. غالب المسعودي

نص مشحون بالدم
د. غالب المسعودي
باسم الآه اصبحنا جثثا
صالحة لتعليم التشريح في كليات الطب الاهلية
الدولة لا تستطيع شراء ما تنتجه.....!
القبور لم يعد فيها متسع
فتحت صنبور الماء
سقطت خثرة دم
منذ سنين أتساءل...
لم لون الماء الحكومي
 ورديا او اصفر او احمر.............؟
قلت صدأ المأثورات
لم اعلم ان ماء النهرين اختلط بالدم
لكني اعرف ان الدمع
يخلط بالماء
ويباع
بأغلى من زمزم
وعلى ذمة الوكلاء
وكلاء استخبارات
وكلاء فضائيات
 وكلاء مواد غذائية
على ان طفلة
غطت وجهها بالدم
 واخرى غطت جسمها بالفحم
وام ثكلى نزعت عباءتها
غطى سحنتها الدم
كانت تبحث عن وهم
 في كتب القديسين

سقطت مضرجة بالهم

غازي الشعّار-أحمد الحلي

غازي الشعّار
أحمد الحلي
حقق غازي الشعّار شهرة واسعة في أوساط المجتمع الحلي منذ بداية الخمسينيات ومروراً بالستينيات وحتى بداية السبعينيات حيث لقي مصرعه  في إحدى جلسات السمر التي اعتادت الطبقة الوسطى وأثرياء المدينة  على إحيائها في مناسبات متعددة منها الزواج والختان والأعياد وما إليها ، ولا غرابة إن قلنا إن غازي الشعار أصبح في تلك الآونة ظاهرة مكرّسة ، فهو شعّار أي راقص أو راگوص بحسب التسمية الدارجة ، ولعل أطرف ما فيه أنه يرقص ليس بصفته رجلاً وإنما يتقمص ببراعة قل نظيرها  دور الفتاة المغناج الراقصة ، كان يكتحل ويضع المساحيق النسائية على وجهه  بل ويطيل شعر رأسه ويعتني به أسوة بباقي النساء ، وبالإضافة إلى ذلك اعتاد غازي على لبس الملابس النسائية  ومكملاتها  وأبرزها الستيان ورافعة الصدر ...كما كان يطيل أظافره  ويصبغها بالطلاء الأحمر أو الوردي ...
وقد شاهدته بنفسي في أواسط الستينيات بأحد الأعراس وهو يرقص ويتمايل بشعره الطويل  ويطقطق بالݘنبارات ثم ليضع مؤخرته بين الحين والآخر في حضن هذا أو ذاك ، وكان جميع الحاضرين منتشين بفعل الخمرة التي احتسوا بعض كؤوسها ، فلا يتردد أحدهم من القيام بتعليق ورقة نقدية  في دشداشة غازي ...وسط  هلاهل النسوة وزغاريدهن وبعض إطلاقات الرصاص المهللة  ...
وهناك واقعة مشهورة يتداولها البعض حول سيرته الشخصية ، ففي أحد الأيام تم إلقاء القبض عليه ، إذ عُثر عليه  في أحد الأماكن في وضع المفعول به ، فاقتيد إلى المحكمة للنظر في أمره ، كان المنادي يصيح بصوت عالٍ باسم كل شخص يتم تقديمه أمام القاضي ، وكان المتهمون محشورين في مكانٍ بأحد أطراف القاعة .
ما إن صاح المنادي ؛ غازي عبد الله .... الملقّب بـ الشعّار ، حتى صاحت أخته التي قيل أنها كانت موجودة ضمن الحاضرين ؛ شعّار ويشُگـ الحلگ !!
بينما انفلت غازي من مكانه متوجهاً إلى المكان الذي يتوجب عليه الوقوف فيه أمام القاضي وهو يطقطق بـ الݘنبارات ، قائلاً ؛ بحضنك سيدي القاضي !!
حدّثني الشاعر والباحث صلاح اللبان أن غازي اعتاد أن يرتاد مقهىً تقع بالقرب من منطقة الجبل (الجنائن المعلّقة) ، والتي كانت  أيضاً مقراً لأحد فرق كرة القدم المحلية ، ولما كان صاحب المقهى من المعجبين بـ غازي فإنه علّق صورته جنباً إلى جنب مع صور أعضاء المنتخب وصور مشاهير اللاعبين العراقيين والعالميين آنذاك ، حين وقع نظر غازي على صورته المعلقة ، شعر بالخيبة والاضطراب وذهب إلى صاحب المقهى (أبو إحسان) وقال له معاتباً ؛
- أنا اعتبرك مثل أخي الأكبر ، وأنت تعرفني جيداً ، أود أن أعرف السبب الذي جعلك تضع صورتي مع الزلِم !
 الوقت يؤذن بالغروب ، كان المُلة ، جالساً كعادته ، في مقهى " أبو سراج " حين جاءه خبر مقتل غازي على يد أحد السكارى ، فقفز من مكانه وكأنه أصيب بطلق ناري ، وظل يولول منتحباً .
 حاول بعدها أن يعثر على من يكذب هذا الخبر الفاجع بالنسبة إليه وإلى كثيرين ، ولكن الخبر شاع وانتشر في المدينة بأسرع من لمح البصر ...
في اليوم التالي حضر المُلة وقرأ على أصدقائه ومحبيه الذين اعتادوا أن يتحلقوا حوله قصيدة رثاء ألفها حول مصرع الراحل ، ومما جاء في مطلعها ؛
ما مات غازي والشباب تريده
........................ ( لم نشأ تثبيت عجز البيت لأنه بذيء جداً)
ما صار مثله ما صارْ
بالكون أحسن شعّارْ

زوال وقصص قصيرة أخرى- عادل كامل

زوال وقصص قصيرة أخرى




عادل كامل
[1] زوال
ـ سيدي...، لم تعد هناك حشرة، ولم يعد هناك طيرا ً...، ولم تعد هناك دابة، ولم يعد هناك من يزحف أو يسبح أو يغوص...، ولم يعد هناك أيا ً من المفترسات ولا من البرمائيات، لا من ذات القرن الواحد ولا ذات القرون المزدوجة ...، خارج سيطرتنا!
    قال المسؤول الأول المتحكم بالمصائر لقائده، بانتظار الرد. الآخر الصامت أشار لحرسه بحركة لا مرئية بانتهاء اللقاء، فتم جرجرته، من غير صخب، وإرساله إلى المجهول.
ـ الآخر.
   نطق القائد الذي كان منشغلا ً بتأمل الحد الفاصل بين السماء والأرض.
دخل الآخر، وآذن له القائد بالكلام:
ـ  سيدي...، لم نبق، لدى إناث البحر، ولا لدى إناث البر...، لم نبق جنينا ً لدى إناث المفترسات، ولا الزواحف ...، لم نبق كل من تكّون، وكل من هو قيد التكون، بعد حسابات بالغة الرهافة، الشفافية، والدقة بمراقبة كل من لم يتكون بعد....
    سكت بسبب ابتسامة القائد، فآذن له بالمتابعة:
ـ سيدي...، لم يعد لأي جنين، في أي رحم، داخل حديقتنا، وخارجها، إلا وغدا مراقبا ً، مراقبة تامة: متى تكون، كيف تكون...، وكل ما يحمله من ملغزات، ومشفرات، ومن نزوات محتملة، وغير محتملة...، فقد درسنا اللا متوقع كأساس لذروة علومنا المستحدثة...، وصرنا نحدد ذلك بسلاسة ونعومة ورقة متناهية...، فقد درسنا كل الأزمنة التي مهدت لوجوده، من ثم تحديد ساعة مغادرته الظلمات...، والخروج بما سينطق به...، بل وبأعماله قبل أن يشرع القيام بها، وشخصنا نواياه ومنها التي يجهلها هو ذاته....،  كما اعددنا اللا احتمالات واللا متوقعات في سياق  أوامرك العليا، ووفق منهجكم الخالد ....، سيدي!
   بحبور لا إسراف فيه، هز القائد رأسه، وسأله:
ـ  تحدثت عن اللا متوقع...، فهل تتوقع أن تكون المعارضة محتملة لدى الأجنة التي  لم تتضافر عوامل نشأتها بعد...؟
ـ نعم، سيدي، فقد درسنا النظام اللا متوقع بوصفه غير متوقع لاستحداث كل ما سيتم استحداثه ...، ثم رحنا نراقب التراكمات وتحولاتها،، أي درسنا المخفيات وما تعلنه، المحذوف والظاهر، وكل ما سينشأ عن ذلك....، من تداخلات، وانصهار، ومركبات لا متوقعة تعزز مسارات ديمومتها ما دامت وجدت بحكم استحالة غير ذلك.... فعملنا على استحداث برمجة تلقائية ذات أبعاد لا نهائية فائقة المدى تعمل بقانون اللا متوقع بوصفه مرسخا ً لحضوره بقدراته على الغياب.... وقد غدا برنامجنا تحت السيطرة...، والمراقبة ...، فليس ثمة احتمالات قط أن يتكون أي جنين في أي رحم من الأرحام إلا وفق هذا القانون، سيدي!
    أومأ القائد لحرسه أن يعاد إلى حفرته، من غير أذى، متمتما ً بصوت نشوان:
ـ لم يبقوا لي شيئا ً اخترعه، وأتكلم فيه...، العلماء الأوغاد، عدا ...أن أبقى اعرف انه لم يعد هناك شيئا ً بالإمكان معرفته، بعد أن اخترعوا كل ما أراه ينتهي بالاندثار، والزوال!

[2] صدق
   بعد أن بلغت الأزمات ذروتها، سأل الأب أفراد عائلته:
ـ ماذا نفعل...؟
    رد الجد الهرم بصوت واهن:
ـ  إذا كنا نتعذب بسبب تلوث المياه، فان الهرب والبحث عن بلاد فيها مياه صالحة للشرب سيقودنا إلى الموت! وإذا كنا تآلفنا مع الظلمات فان العثور على ارض تشرق فيها الشمس ستكون سببا ً لهلاكنا....، وإذا كنا تكيفنا مع قانون الذئاب فان العثور على حديقة لا ذئاب فيها سيدفعنا إلى الجنون، والى الانتحار..، وإذ كان الظلم، يا أحفادي، ويا أحفاد أحفادي، قد منحنا قدرة المقاومة بصمت، فان الحرية التي سنحصل عليها لن تكون إلا سببا ً بزوالنا!
قال الأب، وهو الزعيم الشاب للقطيع:
ـ  شكرا ً لك أيها الجد العظيم...، فقد آن لك أن ترحل!
فقال الجد حالا ً:
ـ أنا لن اهرب معكم بحثا ً عن ملاذ .
فقال الأب بصوت حاد:
ـ نعم...، لن تهرب معنا، لأنك سترحل إلى المكان الذي جئت منه!
ـ آه .....، الم اقل لكم أن القليل من الصدق خير من الأبدية حتى لو كانت وحدها لا تكذب!

[3] رحمة
ـ سيدي، لم نبق أحدا ً طلب الرحمة إلا ورحمناه.
ـ جيد...، وماذا عن الآخرين الذين لم يطلبوا الرحمة؟
ـ كنا نرسلهم، سيدي، بأفواه مغلقة...!
ـ وماذا عن سواهم؟
ـ سيدي، كنا نرسل فاقدي الأنوف أولا ً، ثم فاقدي البصر ثانيا ً، ثم فاقدي اللمس، ثم فاقدي الذيول، في البدء...، ثم فاقدي الرؤوس...، أخيرا ً..
ـ وماذا عن هؤلاء الأشرار....؟
ـ سيدي، لم يبق شرير إلا وطلب العفو...، وطلب الغفران، فكنا ـ بحسب أوامرك ـ  نسرع في الاستجابة، من غير إبطاء أو تأخر...، بل كنا، يا سيدي، حتى من لا يطلب شيئا ً نلبي أوامرك حالا ً ...، قبل أن يفكر  بطلب الرحمة، أو العفو!

[4] لحظة تفكير

    تساءل الذئب، من داخل قفصه، بصوت مسموع:
ـ أحيانا ً ...، أكاد أفطس من الضحك..، فانا الآن اجهل تماماً: هل نحن نراقب الخراف، والماعز، والجاموس، والبعران، والنعاج من وراء القضبان، أم هم الذين يراقبوننا...؟
رد احد الخرفان:
ـ يا صديقي...، أنا لم يعد يشغلني هذا السؤال...، لأنني صرت أتساءل، بعد أن أدركت عبث الأسئلة، ولا معناها، بل ولا جدواها: من هذا الذي صار يراقبنا جميعا ً؟
ضحك الذئب:
ـ ها أنت ترغمني أن أقول: هل هناك تسلية ما، أم كأن الأمر وجد للأسباب ذاتها لو كانت غائبة؟
ـ ها أنت، أيها الذئب، أصبحت تفكر...، فوضعوك في القفص! أما نحن النعاج، الخراف، الجاموس، الماعز، والحملان، فها أنت ترانا أحرار...، طلقاء، ومن غير قيود!
رد الذئب ضاحكا ً:
ـ أنا اعتقد حد الإيمان بأننا لو فكرنا لفقدنا رؤوسنا أيضا ً!
ـ ها أنا أسألك: هل هم يفكرون فيك، أم أنت هو من يفكر فيهم؟
ـ  لا احد يفكر نيابة عن الآخر...، فالسفينة عندما تغرق...، تجعل أكثر الطالبين للنجاة أسرعهم إلى الهلاك!
ـ آ...، ها أنت تفكر بحدود فضاء قفصك! أما نحن النعاج، نحن الماعز، نحن الجاموس، نحن البعران، نحن الخراف....، فلا يسمح لنا الموت حتى بلحظة تفكير!

[5] خلود
  مكث الكلب يخاطب نفسه وهو يترنح:
ـ  الجرذ الذي لا تقدر على سحقه كن عبدا ً له كي لا يعترض على صمتك!
   فقفز جرذ اسود أمامه وقال له ساخرا ً:
ـ  أنا أيضا ً كنت أقول: الهر الذي لا تستطيع أن تفلت منه اذهب وقدم أولادك وزوجتك وأمك وجدتك نذورا ً له! فالعبد لن يصبح حرا ً إلا بالمزيد من العبودية!
ـ وماذا فعلت أنت؟
ـ بحثت عن الأولاد فلم أجد سواك!
ـ  سيدي...، أنا كنت اقصد: إذا كنت لا تستطيع الهرب من العدو...، والتخلص من شره...، فاذهب إليه وقل له: آن لك أن تنتصر نصرا ً مؤزرا ً! فالقضية، يا سيدي الجرذ، في الأصل: باطلة. فما دمت لا تستطيع أن تحافظ حتى على خسائرك، فهل لنصرهم معنى ماداموا لم ينتصروا إلا على بهائم لم يشغلها إلا كيف يحصلوا على الخلود، والأبدية!

[6] مكاسب
ـ لم يبق لدى شيء اخسره ...، لا يوجد هواء صالح للتنفس، ولا ماء صالح للشرب، لا تراب للزرع، ولا علف أتلهى به...، لا حفرة احتمي بها، ولا شق يخلصني...، حتى الموت تركني وصار يسخر مني...، فماذا افعل...؟
   رفع رأسه وراقب المكان لعله يسمع صوتا ً يأتيه من وراء كثبان الرمال...، وعندما  سمع صدى صوته ظن انه تلقى صوتا ً يواسيه...، فقال بمسرة مكتومة:
ـ  فلن أعاقب إذا ً...، إن لم أكن نجوت...، فانا لم اشرب ماء ً صالحا ً، ولا تنفست هواء ً نقيا ً، ولا افترست نعجة أو تحرشت بحمل ...، فانا لم أجد أرنبا ً ولم اعثر حتى على طير ميت....، وعندما حاولت أن أحصي خسائري وجدت إنني لم اخسر شيئا ً يذكر...، لأن ربحي بلغ ذروته، فانا  لم أجد شيئا ً اعتدي عليه، فانا لم اعتد على الماء، ولا على الهواء، ولا على التراب، ولا حتى على هذه الرمال! ومع ذلك اسمعهم يقولون: يا للكنوز التي اغتنمها، ويا للمجد الذي حصلت عليه!


[7] مفارقة

    تمتم مع نفسه، بعد أن قرر الانسحاب والعودة إلى داخل حفرته، بصوت مكتوم:
ـ  عندما تصبح الحياة أكثر قسوة من الموت، يتوارى الأخير، ويختفي، حتى تظن أن وجوده وهما ً....، وعندما تجده، مصادفة، تكتشف انك رحت تتشبث أن تكون القسوة مضاعفة، حتى لو لم تكن هناك حياة تذكر!

[8] مأزق

ـ أكل هذا يحدث من اجل أن يبقى الخرتيت سيدا ً علينا ...، ومن اجل أن يبقى الخنزير أميرا ً، ويتحكم الضبع بمصائرنا ....؟
أجابت الغزال رفيقتها الحائرة، وهما يراقبان المشهد عن قرب:
ـ ولكن ماذا عن أفعال هؤلاء الأشرار...، فأنا أسألك ِ: أكل هذا الدمار، والتنكيل، والهدم، ومحونا من الوجود من اجل مكاسب، هم يعرفون إنها لن تدوم طويلا ً...؟
   شرد ذهن الغزال لحظة، وتساءلت:
ـ الغريب إننا لم نعد نفكر إلا بزوالهم، ولم نعد نفكر بخلاصنا...؟
فردت غاضبة:
ـ يا حمارة! حتى لو نجونا من الخراتيت، ومن الخنازير، ومن الضباع...، وحتى لو نجونا من هؤلاء الأشرار البشر، بأفعالهم المروعة...، فهل سننجو من الموت بحثا ً عن سلام لا وجود له؟

[9] منطق
 ـ أصبحت لا تخاف أن تموت...؟
ـ يا حمار....، لقد أصبحت لا أخاف أن أعيش!

[10] توبة
    شاهد الديك ابن أوى يعد العدة لأداء فريضة الحج، فلم يصدق، فسأله:
ـ آمل..، سيدي، انك ـ بعد العودة ـ ستتوب؟
   لم يدع ابن أوى الديك يكمل عبارته، فامسك به من عنقه:
ـ  لو لم تنطق بهذا الكلام لكنت تبت! فما الذي أنطقك؟
ـ قبل أن تفترسني، وتذهب لطلب الغفران، والتوبة، سأخبرك ... لو سمحت لي بالنطق...!
ـ يا شاطر...، أنا لم أصبح أثما ً إلا بسبب غباؤكم...، ولكني لم أصبح عالما ً حقيقيا ً إلا وأنا أتذوق مرارة التوبة، بعد تذوق حلاوة هذه الخطيئة!

[11] خلاص
ـ أيها الحمل الغريب...، لماذا أصبحت تفرط في مدح الذئاب...، والتغني بأمجادها، والرقص لبطولاتها...، حتى انك لم تعد تخشى أن تفترسك، وتهلك؟
ـ أيها  العزيز....، يا صديقي الذئب...، إنها ستفعل ذلك، حتى لو صمت!
ـ لكن ألا تخشى أن ينكشف سرك عند القطيع، وتصبح خائنا ً!
ـ يا صديقي... أنا لن اكف عن المدح، والثناء، حتى أراها ميتة أمامي! فانا مازلت اخترع لها المزيد من المدائح، والمزيد من الأناشيد! أما صحبي فلن يجدوني كي يعرفوا كم كانوا هم السبب بهذا كله، قبل أن أصبح وحيدا ً بين هذه المخالب، وأصبح معزولا ً بين هذه الذئاب!
ـ ولكنك ستموت قبلها؟
ـ أنا ... يا صديقي الذئب، سأموت بعد أن أراها ارتوت حد الثمالة من مدائحي، لأنني لن اخسر شيئا ً عدا هذه الأوهام، فلِم َ لا تدعني أموت وأنا اجهل متى ولدت، كي اعرف متى أموت؟ فلا الذئاب ستشبع منا، ولا نحن لدينا ممرا ً آخر للخلاص! فما الحياة سوى هذا الفاصل ولن يدوم أكثر من زمن زواله! فهل أنا هو من سن سنن هذه الخطيئة، كي تتهمني بالعار؟ ثم متى كانت الخيانة وصمة عار...، وأنت ترى الدنيا أمست حديقة عامرة بالذئاب، والضباع، والخنازير؟

[12] لا تتعجل
ـ  ليسقط الإمبراطور ...، ليسقط الغول الطاغية...، !
  جرجره رفيقه بقوة ليمنعه من الهتاف، والصراخ، خشية أن تسمعه كلاب الحراسة، المنتشرة في إرجاء الغابة....، فسأله:
ـ ماذا تفعل..، هل جننت...، ألا تخشى أن تهلك وأنت تهتف بسقوط زعيمنا الخالد؟
   قرب رأسه منه، وهمس بحذر:
ـ هو... طلب ... مني ذلك!
ـ الزعيم الخالد هو من طلب منك أن تهتف بسقوطه! رباه ...، ماذا تقول؟
   لم يدعه يكمل كلامه، متابعا ً:
ـ كي اجمع اكبر عدد من المتمردين، المعارضين، والمستضعفين ..، كي اجمع الثائرين، والمقاومين، والشرفاء...!
  فصرخ في وجهه:
ـ ها أنت أصبحت تعمل لصالح الطاغية ...، أيها الخائن؟
ـ لا... لا تتعجل...،  مع أن جميع البهائم خلق على عجل...، فانا نفسي كنت أؤمن باستحالة سقوطه...، وزوال إمبراطوريته، حتى لو كانت دولته من تبن، أو من ورق...، أو من عبيد! فهل سمعت أن أرنبا ً ـ مثلي ـ يقدر على هدم عرش هذه الإمبراطورية التي يتزعمها هذا الغول الخالد، الذي لا يموت.....؟
وأضاف بصوت خفيض:
ـ ثم إنني ـ للحق ـ كنت اعمل على كشف من  فقد قوته، وفقد كرامته، وصار خرقة،  كي يرى الرب...، الجليل نفسه، مصائر أبناءه العميان وهم يذهبون إلى المجهول!


[13] أنا وأنت
ـ تقول لي...؛ الحرب عمياء، وهي لم تترك لنا شيئا ً لم تدمره، وترسله إلى المجهول...، فماذا عملت لو كانت مبصرة؟
ـ لو كنت امتلك الإجابة، يا صديقي، لصغت أسئلة لم يسبقها زوالها قبل أن تسألها أنت، وقبل أن استمع إليها أنا، فأنت تعرف أنا لا اعرف هل الحرب عمياء حقا ً، أم إنها ـ في الغالب ـ مبصرة بإفراط، ولا احد أعمى إلا أنا وأنت؟

[14] غبار
   قال القرد لرفيقته وهما يراقبان ـ عبر شاشة الحديقة ـ مشاهد الحرب:
ـ كأنني لا أرى بشرا ً يتحاربون، ويتصارعون، بل مجموعة آلات صماء تدمر بعضها البعض الآخر، بهدوء، بنعومة، وشفافية!
رد الآخر:
ـ لو لم يفعلوا ذلك، يا رفيقتي، فالأرض ستكتظ بهم، وتغدو غير صالحة للسكن !
ـ آ ...، كأنك وجدت مبررا ً لديمومة الحرب، وليس لنهايتها؟
ـ اقتربي مني، أيتها العزيزة...
وأضاف هامسا ً:
ـ إن لم يفعلوا ذلك...، فالمصانع ستغلق أبوابها، لأن الحرب ليست اختراعا ً تم استحداثه اليوم..، بل هي، في الأصل، من اخترع هذه الدمى وهذه المجسمات وهذه الكتل التي يسمونها بشرا ً ....، لتتسلى بما تفعل، لأنها تجني المزيد من الإرباح!
تساءلت بذعر:
ـ ما الربح...، وقد تحولت الحياة إلى غيوم رمادية تملأ الفضاء والى غبار بارد، والى أثير لا لون له!
ـ اذهبي واسألي من صنع هذا الشر.....، أما الأشرار، فهم، مثلي ومثلك، ضحايا أبرياء!
ـ ها أنت، يا رفيقي الغالي، تدافع عن الأشرار أيضا ً، بعد أن بررت سفك الدماء، وهدر الأرواح، وتخريب الممتلكات؟
ـ يا رفيقتي الطيبة، الم ْ نمض حياتنا نلوذ بحثا ً عن مكان آمن لا أشرار فيه،  وكلما ظننا إننا عثرنا على ضالتنا، ونجونا، لا نكتشف إلا وقد طوقنا من الجهات كلها، وسدت علينا الأبواب، وأغلقت علينا النوافذ، والمنافذ....، فبعد أن عثرنا على هذه الحديقة، ووضعونا في هذا القفص..، في هذا المكان النائي...، وضعوا لنا هذه الشاشة وقالوا لنا: تفرجوا...، وتمتعوا بما يحدث في العالم!
ـ ولكني لا أريد أن اعرف....، فانا لم اعد احتمل رؤية هذه المجازر، وهذا الخراب.
رد بابتسامة ساخرة:
ـ أنا أيضا ً كلما حاولت الهرب من هذا الصخب أجد أني وقعت في صخب اشد وأقوى، فانا مهما حاولت تجنب التفكير أجد أنني ازداد تفكيرا ً...!
ـ والحل...؟
ـ فكري، أيتها الغالية، وكأنك لم تولدي ...
ـ تقصد ... أفكر وكأنني مت، وغبت عن الحياة برمتها؟
ـ دعك ِ من هذه التصورات، والأمثلة العقيمة، وعيشي كما يتحرك الغبار من مكان إلى آخر فهو غير مسؤول عن وظائفه! عيشي كالدخان فهو لا يولد ولا يموت...، لأنه يمر عبر هذه الدروب، والفضاءات، والفراغات...، لا يكل ولا يتعب ولا يصيبه الإعياء!
ـ ها أنت تدعوني إلى الخمول، بل والى الموت... بعد أن بررت وجود الحرب، ووجدت سببا ً يسبق وجود الأشرار...، وها أنت لا تعترض على الغبار ...أيضا ً؟
ـ رفيقتي...، لو كنت اقدر على الاعتراض...، لكنت صهرتك بروحي ومت، بدل أن تشغليني بضوضاء اجهل متى تخلصنا من هذه الحديقة، بل ومن هذا الوجود!
 

[15] غبار الحرية
ـ  هذا الذي يسقط علينا، من السماء، ليس مطرا ً، والعاصفة ليست من تراب...، إن هذا الذي ينهال علينا، سيدي، لا يشبه حتى الحجارة...، فالحديقة تهدمت أسوارها، وطمرت حفرها، وخربت أقفاصها، والدخان الأسود ازداد توهجا ً وصار بلون الفجر!
ـ اسكت، اسكت، هذه هي الحرية!
ـ ألا ترى النار لم تبق حجرا ً، ولا ممرا ً، ولا سارية، ولا شجرا ً، ولا مرتفعا ً...إلا وحولته إلى غبار...
ـ اخرس! الم اقل لك هذه هي الحرية!
ـ آه....، فهمت، سيدي فهمت: فها نحن نعود إلى المكان الذي خرجنا منه...، بأمان وسلام وهدوء وشفافية ...
ـ نعم....، لأن الموت هو ذروة الحياة، مثلما الصمت هو أعلى الأصوات، وهذا الدخان المتوهج ما هو إلا مفتاح الخلاص وقفله.
ـ لكنني، سيدي، لا اقدر على التصفيق، والهتاف، والرقص...ابتهاجا ً بالتحرير!
ـ اسكت، فحتى لو صفقت، أو رقصت، أو هتفت، فلا احد يسمعك....
ـ لكني سأصرخ...، فانا أتوجع!
ـ لا تفعل، لا تفعل، لأن الحرب لن تنتهي إلا بعد تلاشى أصواتنا، وتكف قلوبنا عن الخفقان!

[16] مصائر
   قبل أن تبتلع الأفعى الفأر الذي صادفها، سألها بذعر:
ـ لماذا تفعلين هذا ..؟
فقالت من غير تفكير:
ـ لِم َ اعترضت طريقي، وأنا خرجت ابحث عن الطعام من شدة الجوع..
فقال :
ـ وأنا أيضا ً خرجت ابحث عن الطعام لصغاري..
   بعد فترة صمت وجيزة، سألها:
ـ إذا أنت تبتلعيني بسبب الجوع؟
ـ لا! بل لأنك اعترضت طريقي!
ـ آ ...، كنت أظن انك تفعلين هذا بسبب الجوع، مثل صغاري، سيموتون من الجوع لو لم اذهب واجلب لهم الطعام.
    رق قلب الأفعى، وسألته:
ـ  أتعدني انك ستعود لو أطلقت سراحك؟
ـ أعدك...، طبعا ً.
   هرول مسرعا ً، اختفى، وراحت تنتظره فترة من الزمن، حيث عاد الفأر، فلم تصدق،  فقالت له بهدوء:
ـ الآن...، قررت أن لا افترسك مادمت كنت صادقا ً معي.
   تسمر الفأر في مكانه وقال:
ـ ولكنني عندما ذهبت إليهم، لم أجدهم...، فالأفاعي الأخرى لم تترك أحدا ً..!


[17] إصغاء
    سأل الخنزير جده المسن، عندما رآه منشغلا ً بالبحث عن الديدان:
ـ  هل حقا ً عليك أن تمضي حياتك كلها لا تبحث إلا عن الفضلات، والحشرات، كي تصبح، في نهاية المطاف، طعاما ً في بطون أصحاب هذه المزرعة ...؟
ضحك الجد، وأجاب:
ـ  ولكن عليك أن تعرف إن هؤلاء السادة، أصحاب هذه المزرعة، ليس باستطاعتهم الهرب من الديدان أبدا ً!
ـ كأنك، يا جدي، تتحدث عن قصة كتبت قبل أن نؤدي أدوارنا فيها؟!
   فطس الخنزير الجد من الضحك:
ـ  وهل هناك قصة...، تروى، جديرة بالإصغاء؟

[18] حكمة
   اضرب الحمار عن تناول الطعام، ولم يعد يقوى على الوقوف...،  فخاطبه حمار سمين:
ـ لن تنجو....، فان لم يرسلوا لحمك إلى الذئاب، أو إلى السباع، لن تنجوا من الكلاب السائبة.
   رفع الحمار رأسه بصعوبة، وقال:
ـ أنا أفضل أن يذهب لحمي إلى الديدان!
   صدم الحمار السمين، برده، وسأله:
ـ هل هذه هي خلاصة حكمتك؟
  أجاب بصوت واهن:
ـ  لو كانت لدى حكمة، أيها الحمار السمين، لعرفت كيف اطردها من رأسي، وأموت كأنني حصلت على الخلود!

[19] اختيار
ـ هيا ...، أسرع، دعنا نهرب، فالطوفان سيجرفنا ويرسلنا إلى الجحيم...؟
ـ دعنا نموت، هنا، بدل أن ننجو بانتظار أن نلقى حتفنا في مكان آخر!
ـ آ ...، انك تجدف، أيها المتشائم، وهذا ضد الشريعة؟
ـ آ ..، صحيح، ولكن اخبرني: هل تستطيع أن تفلت منها، حتى لو منحتك حرية الاختيار بين أن تفطس غرقا ً، أو تهلك عطشا ً في الصحراء؟!

[20] خوف
   بعد أن انتشر خبر استيلاء الذئاب على قطعان المواشي، والإسطبلات، والزرائب، كان ثمة حمل يسأل أمه، من وراء الدغل:
ـ أراك غير خائفة من الموت؟
قربت رأسها منه، وردت بلامبالاة:
ـ لا! لأنني الآن أدركت كيف لم اشعر بالخوف طوال حياتي من الذئاب، فلماذا أخاف منها ونحن لم نخلق إلا للموت!
6/5/2016
Az4445363@gmail.com



لجسد المرأة لغة خاصة.. فهل نجيد الاستماع لها؟-منير عامر*






لجسد المرأة لغة خاصة.. فهل نجيد الاستماع لها؟
منير عامر*



أرى فيما يرى المتيقظ تماماً ما حدث في يوم قديم، حين انتبهت لنفسي وأنا أسبح في عيون حبيبتي لأجد في آخر عينيها كوخا صغيرا يطل على بحيرة من شهد وعسل، وأرى صورتي وأنا أصطاد أسماك البهجة من مياه بحيرة عيون الحبيبة.. وسألتني الحلوة التي خلقني الله لأغنيها شوقا إليها أو شجنا على افتقادها «أين أنت؟ وفي ماذا تفكر»؟. وأذكر إجابتي «في كل دقيقتين منذ عام ميلادي، تصرف الكرة الأرضية على السلاح ما يكفي لإطعام ألفي طفل يعانون من سوء التغذية لمدة عامين، وأعترف لك أن رؤيتي لعيونك تكفيني غذاء وإيمانا لمدى العمر».

الكلمات السابقة أنقلها لكم من كراسات مذكراتي، وهي سلسلة لا نهاية من الكراسات، التي أدخلت قدرا كبيرا منها على جهاز الكمبيوتر لأخفف من ازدحام حجرتي بالورق. أقول ذلك وبعض من الفخر يملأ وجداني لأني أثق في حقيقة واضحة، وهي أني من أكثر أبناء جيلي إيمانا بما تعلمته من أساتذتي، وهو عدم الاستسلام للذاكرة وحدها كخزانة لمعلومات أراها مهمة أو أحداثا أراها أكثر قدرة على التأثير على شخصي أو على غيري. ولابد من الاعتراف أنه قد حدث منذ سنوات عديدة أن دخلت حياتي طبيبة نفسية لبنانية الجذور أمريكية الجنسية، فصارت صداقتنا ذات أعماق بلا حدود. وأعترف أن تلك الصداقة بدأت كمناورة للتقارب بين رجل وامرأة، ولكن ما ادخرته في وجداني من تفاصيل ما منحته لي زوجتي من عطاء كان كفيلا باحترام علاقة الزواج، لذلك ما كنت أقترب من الخيانة حتى أبتعد، لا لصيانة عالم الحنان الشاسع والمسؤول الذي تهبه لي الزوجة، ولكن هناك ما هو فوق ذلك، وهو ما أعلمه من حقائق أساسية تتركز في خوفي على أبنائي، فأنا أعلم الكثير عن أبناء العلاقات المكسورة بالخيانة الزوجية، أعلم أن أمراض الربو على سبيل المثال تسكن في صدر الطفل إن التقط راداره خيانة أبيه أو خيانة والدته، وأعلم يقينا أن أي اقتراب جسدي بين رجل وامرأة بالاشتهاء وحده يورث كراهية مباشرة فيما بعد انقضاء العناق، فلقاء الرجل مع المرأة ليس مباراة لإثبات رجولة أو تأكيد أنوثة، اللهم إن كان التأكيد هو ابن لرغبة اثنين في الاتحاد ما بقي من العمر.. لذلك أعترف أني اقتربت بالرقي لا بالتوحش مع أكثر من امرأة وأترك لها اكتشاف أني إنسان لا حيوان، وأكتشف في أنوثتها إنسانيتها. ولابد أن أشكر من علمني ذلك، وهما غاندي قائد الهند الذي أحببته كثيرا وتابعت حياته كرجل يجيد حكمة الاستغناء، وهو من اكتشف أن تقارب الروح والفكر أكثر أهمية من اندماج جسدين سيضج كل منهما بكراهية الآخر فيما يلي ممارسة الخيانة. ثم كان أستاذي الثاني في تلك الحكاية هو صديقي القريب إلى قلبي رغم رحيله عن عالمنا وهو السياسي المقتدر «منصور حسن» فحين كان يلحظ توهج عاطفتي يذكرني بأن توهج العاطفة يدخل بالرجل إلى غرفة مظلمة فيها فيل ضخم، ويفقد الرجل قدرته على الرؤية والتركيز، ثم يسمع صوتا يأتيه من أكثر من كل ناحية سائلا إياه أن يصف ماذا يجد في الغرفة؟ فيقول المحبوس في الظلام «هذا حيوان خشن الملمس لكني لا أكتشف آفاقه، ولابد أن يتحرك الفيل ليضع قدمه على جسد المحبوس فيصيبه بعاهة لا شفاء منها». ولذلك تدربت على التعامل إنسانيا مع عديد من النساء، وارتقت العلاقة من منطقة الرغبة الذكورية إلى منطقة التواصل الإنساني.. وها أنا ذا أعود إلى صفحات مذكراتي، وأنا جالس في حجرتي التي تطل على حديقة صغيرة بمصيف مارينا، وأبتعد عن الضجيج الزاعق في بعض شوارعها، وأتنفس هدوء المنطقة التي أقيم فيها.. أفتح كراسات مذكراتي لأجد بضع تذكرات عن إحساس المرأة الذي يفوق أي رادار توصل إليه البشر.. وحين أفتح تلك الصفحات من كتاب عمري لا ادعاء لرفعة، أو ممارسة لتواضع كاذب، ولكن لأن في بعض من كلماتي مشاعر وآراء أحب أن تصل إليك عزيزي القارئ.

قلت في البداية أني كنت أسبح في عيون حبيبتي لأجد في آخر عينيها كوخا صغيرا يطل على بحيرة من شهد وعسل، فأرى صورتي وأنا أصطاد أسماك البهجة من بحيرة العسل. وكان سؤالها لي في لحظة سرحان تنتاب الكاتب أحيانا، قالت «أين أنت؟ أذكر إجابتي» في كل دقيقتين منذ عام ميلادي، تصرف الكرة الأرضية على السلاح ما يكفي لإطعام ألفي طفل يعانون من سوء التغذية لمدة عامين، وأعترف لك أن رؤيتي لعيونك تكفيني غذاء وإيمانا لمدى العمر». أذكر أن حبيبتي ظلت تذكرني باعترافي هذا كلما مر على خيالها طيف خيانتي لها. ولم أكن أخونها في الواقع، ولكن ماذا أفعل ولي خيال لا يكتفي بالحبيبة بل تمر بي لحظات تتعلق مشاعري بالتفكير في غيرها من النساء، وما إن تمر على خيالي امرأة غيرها حتى أجدها متوترة غاضبة، فأيقنت أنها تمتلك حساسية غريبة تلتقط بها حتى ما يدور في الخيال؛ فما بالي لو أقدمت على الخيانة بالفعل؟ آمنت أن رادار إحساس المرأة يفوق قدرة كل أدوات التنصت على وجه الأرض.. وفوجئت بأن العلم قد توصل إلى حقيقة علمية تؤكد ذلك، فأي امرأة تملك شفافية فائقة القدرة على الإحساس بأي خطر شخصي قبل أن يقع، خصوصا إن كان الخطر يلمس أنوثتها التي تتأكد بفعل واحد هو إخلاص من تحبه لها.. وبطبيعة الحال علينا أن نعرف أن المرأة تخلص لمن تحب بطبيعتها اللهم إلا في بعض الحالات القليلة التي تعاني من البرود العاطفي والجسدي، فلا توجد خائنة واحدة ليست مصابة بهذا البرود.. هذا ما كنت أفكر فيه وأنا أستقبل الربيع النيويوركي، متجها لحضور حلقة نقاش تطرح سؤالا واضحا هو «هل العلم وحده قادر على كل شيء في تحقيق الصحة المكتملة للمرأة أم أن للإحساس دخلاً في هذا الأمر؟».

كنت أرى رجالا ونساء عملوا بالطب النفسي ما لا يقل عن ربع قرن من الزمان، ومنهم من درس العلاقات الوجدانية عن الرجل والمرأة لسنوات، وأنظر إلى الوجوه التي تحمل خبرة طويلة في مجال علوم المرأة، وكان الوجه الأقرب إلى قلبي هو وجه د. ونفريد كالتر التي درست مشاعر المرأة وأسست علما جديدا من علوم المرأة هو «علم التقارب العاطفي» وهو ما يطلق عليه بالإنجليزية LOVE CYCLE - THE SCENCE OF INTIMACY، وهي من درست عبر هذا العلم الجديد دورة الهرمونات التي تشرق في جسد المرأة لتهديها الحساسية الفائقة التي تفوق حساسية الرجل بمراحل كثيرة، فالثابت أن وزن مخ المرأة وإن كان يقل بحوالي مائة جرام عن مخ الرجل، إلا أنها تستخدم الكثير من قدرات هذا المخ البشري بشقيه المنطقي والحدسي، وهناك تأكيدات من بعض العلماء أن المرأة تستخدم غالبا سبعة بالمائة من قدرات المخ، بينما الثابت أن الرجل يستخدم ما بين ثلاثة بالمائة إلى سبعة بالمائة من قدرات المخ، وغالبا ما يركز الرجل على نصف المخ الحسابي، لا يركن إلى الجزء الحدسي والفني من المخ إلا عند الفنانين والموهوبين. وقليل جداً من البشر - نساء ورجالا - هم من يستخدمون فصي المخ بشكل متوازن وفعال.

وقد أكد لي الصديق الكبير أستاذ الطب النفسي د. محمد شعلان أن قدماء المصريين هم من أكثر البشر في التاريخ من استخدموا الحدس وحولوه إلى علم دقيق، والمثل الواضح على ذلك هو الأهرامات والمسلات، فهذه الدقة البالغة في تحديد اتجاهات الهرم لم تكن تخضع لما نسميه نحن في العصر الحديث «الحسابات العلمية»، ولكن كل ذلك الإبداع هو ابن للحدس، ويرى شعلان - وأنا معه - أن هذا الأمر كان نابعا من احترامهم للمرأة بشكل كبير.. وكل الأطباء يعلمون أن دورة الهرمونات في جسد المرأة تختلف عن دورة الهرمونات عند الرجل، فدورة الهرمونات عند المرأة تتعلق بخروج بويضة من أحد المبيضين الساكنين فوق الرحم في الأيام التي تعقب اليوم الخامس من نهاية الدورة الشهرية، وتستمر لأيام، فإن لم يتم تخصيبها من اللقاء الزوجي، فهي تنصرف، ليغسل الرحم نفسه بدورة شهرية جديدة، ليستعد مبيض المرأة الثاني الذي عليه الدور في صرف بويضة ثانية بعد حيض جديد.. ويتأثر مزاج المرأة بالهرمونات بشكل كبير، وتزيد هذه الهرمونات من حساسية المرأة بشكل كبير، مما يجعل حدسها قادرا على استكشاف ما أمامها وما حولها بشكل أكثر دقة من عشرات الرجال، وإن كان هذا لا يمنع من تمتع بعض من الرجال بمثل هذه الحساسية للحدس.. هذا ما كنت قد قرأته كموجز لبحث د. ويفرد كاتلر الذي يمهد لهذا العلم الجديد، وهدفها من هذا العلم أن تأخذ المرأة في اعتبارها دائما قدرة التحكم في إيقاعها الهرموني بحيث لا تجد نفسها حاملا في وقت لا تريد فيه الحمل، كما أن المزاج الهرموني يتيح للمرأة قدرة من الجاذبية غير العادية التي يمكن أن تقترب بها من زوجها. 

وتتقدم سيدة أعمال في الأربعين قائلة: لقد حضرت اليوم لأعرض تجربتي؛ فقد ساعدتني الطبيبة الكبيرة نورثروب في فهم الأسباب الكامنة وراء كثرة النزف التي أعاني منها شهريا. لقد ذهبت إليها وأنا في ثورة عارمة على الأطباء فهم لا يستخدمون سوى كميات هائلة من الأدوية، ويتحدثون من بعد ذلك عن الجراحة، ولا أحد فيهم يحاول أن يتفهم الدفاعات اللاشعورية التي تقيمها كل امرأة من عمق تجربتها في الحياة. فالمرأة مجبرة بحكم التربية في كل بلدان العالم على أن تخفي الكثير مما أصابها، فهي مولودة كعبء على الأب أو الأسرة، وهي التي تتعرض - في بعض الأحيان - للتحرش من قبل أي كبير مثلما تعرضت أنا، ولم أجرؤ على أن أقول ذلك لأحد، لأن من تحرش بي هو جارنا المهندس وكان عمري أربعة أعوام، وحذرني من أن أقول ما حدث بيننا لأي أحد. وعشت أكتم تلك الحقيقة. وما أن وصلت إلى سن البلوغ حتى بدأ النزف بشدة، ولم أوفق في الزواج، وانفصلت عن زوجي بسبب كراهيتي للقاء الزوجي، وكثيرا ما ذهبت إلى الأطباء، ولم أجد منهم من يستمع لي اللهم إلا الطبيبة الكبيرة التي أشرفت على علاجي. لقد أوضحت لي العديد من الحقائق عن المرأة هنا في الولايات المتحدة وفي كثير من بلدان العالم، المرأة في أمريكا تعاني من الكثير، فهي مضغوطة بالحياة المعاصرة التي تطاردها بضرورة التفوق المهني، والتفوق الأسري، والكل يحاول أن يستفيد من المرأة. وحين تعاني فالكل يبحث عن سبب خارجي؛ ويحاول أن يختزل العلاج في أقراص أو جراحة، على الرغم من أن المطلوب أولا هو الأذن التي تسمع والعقل الذي يساعد على أن تتعرف المرأة على أسباب ما تعاني منه في داخلها وفي ظروف الحياة. فأنا مثلا حين اعترفت - مجرد الاعتراف - للطبيبة أني تعرضت لمحاولة تحرش من جارنا أثناء طفولتي؛ عانيت من هذا الاعتراف كثيرا وأحسست لوهلة أولى أنها قد تحتقرني، وقد تراني من أسرة مفككة، وأن أهلي لم يحسنوا تربيتي، ولم يكن الأمر كذلك أبدا. ومن بعد عدة جلسات من التفريغ الانفعالي، بدأت ألاحظ أن النزف الشهري أصبح طبيعيا.
هنا همست لد. مارلي التي تجلس بجانبي «وماذا يفعل الطبيب حين تأتي له مريضة وتتكلم بهلاوس وضلالات لم تحدث؟ أتذكر فتاة من حي يزدحم بالأسر المتوسطة بالقاهرة، كانت تكثر من اتهام الشباب في الحي بأنهم يتحرشون بها، وكادت أن توقع أحدهم في قضية كبيرة على الرغم من أنها هي التي مدت الجسور بينه وبينها. وأثبت الشاب هذا الأمر بصعوبة حين استطاع المحامي الخاص به أن يحضر شهادات دخول الفتاة إلى المستشفيات النفسية أكثر من مرة؟ قالت مارلي: إن الطبيب الذي يتعامل مع المرأة، يمكنه أن يكتشف الهلاوس من الحقائق بعد جلسة أو اثنتين. ولا أظن أن طبيبا يمكنه أن يعالج امرأة دون أن يقلب أعماقها أمامه وكأنه يقلب صندوقا ممتلئا بالأشياء الثمينة والأشياء التي لا لزوم لها، ويسمح لمريضته أن تعيد ترتيب الأشياء الثمينة وأن تلقي بالأشياء التي لا لزوم لها خارج حياتها. وأنت تعلم أن د. كريستين لا تهدف إلى إدانة الرجل بأسلوب علاجها للمرأة، ولكنها تهدف إلى أن تعدل الميزان المقلوب في إنسانية البشر الذين يستسلمون لأساطير تاريخية تقول إن المرأة هي الكائن الأقل. وأنت من الشرق الأوسط وقد تندهش حين ترى في الولايات المتحدة سيدة تشكو من أنها تلقت من أسرتها في الطفولة معاملة وكأنها «الخادم الآلي» الذي أنجبه الأب فيصب فيه التعليمات القاسية، ويعاملها الزوج من بعد ذلك بنفس الطريقة. وحين ينفجر جسد المرأة برفض هذا الأسلوب لا تجد من العلاج إلا المزيد من الأقراص، وإن لم تسترح المرأة مع تلك الأقراص، فهناك الجراحة. ولكن القليل من الأطباء هم من يملكون البصيرة العلمية التي تزيح غبار المعارك الصامتة المتراكم على مشاعر المرأة، ويساعدونها على أن تقوم بتعريف دقيق لما تعاني منه، فالتعريف قد يكون هو نصف الطريق إلى الشفاء.. ورأيت ملامح د. كريستين وهي تقول بصوت عال موجهة كلامها لي وللطبيبة مارلي في ماذا تتكلمان؟ تذكرا أننا في حلقة نقاش، ومن المفترض أن نكون كلنا معا لا أن ينفرد كل اثنين بالكلام.

قلت بصوت عال «كنت أريد أن أحكي لك عن أستاذ مصري اعتزل حاليا عملية توليد النساء، ولكنه يحتفظ بمكانته كمستشار للحالات الصعبة في دنيا أمراض المرأة، وهو من اختارته جامعة «نورث كارولينا» منذ عدة أعوام كواحد من أبرز أطباء علوم المرأة، وهو الأستاذ الدكتور محمد نبيل يونس فهو من ابتدع في الشرق الأوسط فكرة دراسة الطب النفسي لأي طبيب يتقدم لدرجة الدكتوراه في طب أمراض النساء، وهو أول من قال لي عام 1984 إن المرأة تحتاج إلى ثلاث غرف في كل عيادة أمراض نساء، الغرفة الأولى هي غرفة الانتظار، والغرفة الثانية وهي الغرفة التي تلتقي فيها مع الطبيب؛ ومعها أحد من أهلها كالزوج أو الأم أو الحماة أو الأخت أو الجارة، وغرفة ثالثة وهي التي يمكن أن تتكلم فيها مع الطبيب على راحتها، شرط أن يملك الطبيب أذنا وتواضعا، ولا يسرع بحكم على المريضة، فهي تحمل له كل سمات المجتمع الذي تنتمي إليه من عيوب أو مميزات، والمميزات تحتاج الفخر بها وتأكيدها، والعيوب لا تحتاج للمعايرة بها، بل أن تجد لها وسيلة لإلغائها من حياة المريضة.. تقول لي الطبيبة الكبيرة: لم أكن أعلم أن الطب في مصر متقدم بحيث يمكن أن يتواصل مع كل ما يحدث في العالم.

أضحك قائلا: ولماذا لا تتذكرين أننا نحن الذين قدمنا فكرة الطب والعلاج إلى العالم؟ وأن المصري القديم هو من عالج بالأعشاب والرقي الروحي، وجعل من العناية بالروح هي المدخل الأساسي لصحة الرجل والمرأة معا؟ قالت: نفس الكلمات أسمعها من أي طبيب صيني أو هندي، فكل قادم من حضارة قديمة إلى الولايات المتحدة يحاول أن يربط العصر الذي نعيشه بحضارته التي ينتمي إليها.. أقول: ولكن إلى هذه اللحظة نحن نتكلم عن جسد المرأة وكأنه جسد غريب؛ يختلف عن جسد الرجل، على الرغم من أنهما يشتركان معا في وجود القلب والمخ والكلى والجهاز التنفسي والجهاز البولي، وهناك اختلافات وظيفية بين الجسدين، لكنها لا تستدعي أن نتعامل مع المرأة وكأنها كائن من كوكب آخر.
قالت الطبيبة: عندك حق، فالجسد البشري يشترك عند الرجل والمرأة في أن جسد الرجل وجسد المرأة هما وعاء الحياة والتعبير عن الوجود، ويختلفان في بعض من الوظائف. وأنا معك في قولك هذا لأن حضارة الاستهلاك التي نعيشها تستخدم جسد المرأة كوسيلة للترويج، فكل امرأة ترغب في رؤية نفسها جميلة كفتاة الإعلان عن السلعة، وكل رجل يحلم أن تكون امرأته جميلة مثل فتاة الإعلان، وكل من الرجل والمرأة يقعان ضحية شراء البضائع التي قد لا يحتاجها أحد منهما.. وإن كنت تسأل عن موضوع الحلقة النقاشية عن علاقة إحساس المرأة بالعلم وأن إحساسها يفوق في كثير من الأحيان أي رادار، فدعني أوجز لك الأمر ببساطة شديدة، إن جسد المرأة هو الذي تعرض عبر التاريخ إلى تلك الرقصة المجنونة التي تتراوح بين تقديس الرجل لها لحظة الاشتهاء، ثم إهانتها في إغراقها بين عواصف المسؤوليات، وهي من تعرضت للضغوط لكي تظل حبيسة المنزل؛ وكان تقسيم العمل بينها وبين الرجل يقضي بأن تعتمد عليه في الحصول على النقود وأن تتولى هي بقية الأعمال المنزلية وتربية الأبناء.. وكل ذلك جعل المرأة في حالة انتظار وترقب، كما أنها أكثر كائن في الحياة تعرض للموت عبر قرون طويلة أثناء الولادة، قبل أن تتحول الولادة إلى علم محكم يقوم به فريق طبي متميز.. وإذا جعلت كائنا بشريا لمدة آلاف السنين عرضة للتفكير والتأمل والقيام بعمل رتيب، ثم يتهدده الموت أثناء الوضع، فماذا تنظر سوى أن يتدرب هذا الكائن على الحساسية الفائقة التي تتوقع الخطر وتترقبه، وتكتشف بمشاعرها حقيقة الواقع المحيط به؟
لكل ذلك صارت المرأة أكثر حساسية من أي رادار.

أقول للطبيبة الكبيرة: إن كان الخطر هو السبب في تمتع المرأة بحساسية فائقة تفوق الرادار، فماذا عن بعض من الرجال الذين يتمتعون بنفس تلك الحساسية الفائقة ويدرسون الظروف المحيطة ويكتشفون فيها عنصر الخطر؟

تقول الطبيبة الكبيرة: أنا أومن أن العلم يقوم على الملاحظة والتجربة والنتيجة وإعادة التجربة على ضوء الملاحظة وصولا إلى النتيجة. والعلم الحقيقي لا يتعارض مع الإحساس الحقيقي. كنت أضحك مع الطبيبة الكبيرة وأقول لها «كلماتك عن الملاحظة والتجربة والنتيجة وإعادة التجربة على ضوء الملاحظة هي التي جعلت صديقي الطبيب النفسي الكبير د. محمد شعلان يبذل جهدا في تعليم تلاميذه ضرورة الكشف بتؤدة على المريض، لأنه يرى أن لكل مرض حكمة ورسالة يبعث بها الإنسان، فإن تلقى من حوله الرسالة وفهموها فقد يتيحون له - كما يتيح المريض لنفسه - فرصة النجاة في الوقت المناسب حتى ولو كان هذا المرض هو الإنفلونزا أو حتى السرطان.
تقول الطبيبة: نعم لعل الأستاذ الدكتور محمد شعلان يتحدث عن الإنفلونزا كفيروس يصيب الإنسان لحظة هبوط المناعة عنده، ولو كان سليم المزاج فلن تتمكن منه الإنفلونزا، أما عن المرض الخطر، فليست هناك وسيلة لمقاومته سوى الإرادة البشرية، وقد هزمته الإرادة البشرية كثيرا، كما هزم هذا المرض الكثير من ذوي الإرادة الضعيفة أو ممن فقدوا الرغبة في الحياة. أنا أومن أن المرض هو احتجاج من الجسد، فمن يتلقى الاحتجاج ولا يستمع له هو من فقد الأمل، ومن يستطع أن يقوي إرادة الأمل فيه يمكنه أن يعيش عددا من سنوات العمر تفوق السنوات التي يسرقها منه الكمد والغيظ والتوتر والإنكار والإحباط.

* صباح الخير.