الجمعة، 12 فبراير 2016

رشيد المخبّل-كيف تكون مجنوناً ولا تعرفك المدينة ؟:أحمد الحلي

رشيد المخبّل
أحمد الحلي
كيف تكون مجنوناً ولا تعرفك المدينة ؟

كثيرةٌ هي الأبحاث والكتابات التي تناولت ثيمة الجنون ، هذا العالم الشائك الفسيح والغريب ، الذي من شأنه أن يثير من حولنا جملة من التساؤلات التي  لن نعثر لها على حلولٍ ناجعة وشافية ، لسنا هنا بصدد  الوقوف عند هذه الظاهرة  أو إيجاد تحليل لها ، فلمثل هذه المهمة خبراؤها والمختصون بها وهم علماء النفس .
على أننا وقبل كلِّ شيء ، نود أن  نثبّت بعض الجمل الموحية التي رسمت ملامح وأعطت مؤشرات ، فقد أبدع بعض أصدقائنا الشعراء في رسم صور غاية في الجمال والإتقان ، ونحن هنا نتحدث عن الشاعر صلاح حسن الذي أطلق في ديوانه "مسلة الرماد" صيحته الشهيرة ؛
أنا مجنون لسبب وأنتَ عاقلٌ بلا سبب
لتبقى أصداؤها وانعكاساتها تتردد بيننا ومن حولنا بلا انقطاع ...

يعرف الجميع أن رشيد الملقّب بالأستاذ  أو المخبّل يخشى الجلوس في  هذه المقهى ، وإن بقي سحرها حاضراً في مخيلته ، والسبب فيما يبدو أنه وقبل أن يداهمه الجنون  ، كان يخوض فيها مع بعض أصدقائه  من مثقفي المدينة حوارات وسجالات فكرية ساخنة  ، فهو كان يعمل مدرّساً لمادة اللغة العربية في إحدى ثانويات المدينة ، وكان محباً للاطلاع ونهماً لقراءة مختلف أنواع الكتب ولا سيما التاريخية  والفلسفية والفقهية ، قيل عنه إنه كان قاسياً جداً مع طلابه ، وإنه كانت تنتابه نوبات شديدة الوطأة بحق بعض طلابه المشاكسين فيعمد إلى ضربهم بكل ما أوتي من قوة ،  خاصة  وأنه يمتلك قامة مديدة وجسد مفتول العضلات ، وفي إحدى هذه النوبات  ضرب أحد طلابه فكسر يده ، وهناك من يؤكد أن الضربة تسببت بمقتل الطالب ، الأمر الذي أدى إلى فصله من وظيفته .
وقد ترك ابتعاده عن الوظيفة ، وكذلك  توقيفه وسجنه في نفسه أثراً مدمراً ، فلم يجد ما يفعله بوقته الفسيح ، سوى أن يذرع الشوارع  بجيوب فارغة وهو يسب ويلعن ويتعمّد أن يصدم المارة ولا سيما الفتيات ، فإذا اعترضه أحدهم هاجمه بكل وحشية  ، ومن أجل ذلك كان الجميع يخشونه ويتحسّبون له .
وأخيراً ، تم إبلاغ بعض الحزبيين ، فرفعوا الأمر للأجهزة الأمنية باعتباره خطراً يهدد أمن المواطنين ، سارعت هذه  فألقت القبض عليه ، وقيل إنه بقي تحت عنايتهم ورعايتهم المركّزة أكثر من شهر ، ليخرج بعدها مهدود القوى ، وازداد هذيانه ، ثم ليدخل بعدها في طور الجنون المطبق ، وإن كانت تأتيه بعض لحظات من الصحو ، فيأخذ يستحضر من الكتب التي قرأها بعض الجمل والمسائل التي تتضمن أفكاراً  ويلقيها بصوته الملائي الأجش على المارة من حوله وهو جالس على الرصيف خارج المقهى يدخن بشراهة ممسكاً عصىً قصيرة غليظة لا يتوانى عن استعمالها ضد كل من يعترض طريقه أو يسخر منه ...
سألت بعض الأصدقاء عن سبب امتناعه من دخول هذه المقهى ، وخاصة في الأوقات التي يكون الجو فيها بارداً أو شديد البرودة ، فيخبرني أنه طالما حدثت مشادات كلامية  كثيرة في السابق بينه وبين بعض الشيوعيين الذين كانوا على الدوام يسفّهون آراءه  ويفنّدون مزاعمه ، ومن أجل ذلك فهو ينفر منهم ومن مقهاهم  ، ولكنه ، مع ذلك يبقى يحن إليها ...
في بعض الأوقات تبدو الصورة المرتسمة في ذهنه عن بعضهم شديدة الوضوح ، حين يخرج أحدهم من المقهى يرمقه بنظرة مستخفه يتبعها بجملته الشهيرة ؛ أبو فسوة ، أحمر ! وإذا مر من أمامه من يعتبره أقل شأناً تكون الجملة هكذا ؛ أبو فسيوة ، أحيمر !
وإبان فترة الحصار القاسي ، عانى غالبية الناس من الجوع وخواء المعدة ، إلا رشيد ، ازداد شراسة  وقسوة تجاه أصحاب المطاعم ولا سيما تلك التي تبيع الگص ، فيقف مبهوراً أمام الشيش ، ويأمر العامل بأن يقص له من الشيش ، فيقتطع له ما يشاء ، فيأخذ بتعبئة عدد من الصمون ، وإذا كان العامل جديداً أو حاول منع رشيد فتلكّأ بتنفيذ مطالبه فإنه يقلب الشيش على رأسه ويأخذ بتحطيم كل شيء ، ومن أجل ذلك فإن هناك اتفاقاً سرياً مضمراً بين رشيد وبين أصحاب المطاعم ، حيث يتم استقباله بصدر رحب   ومن دون جلبة وتصبح الأمور وكأنها قضاءً وقدراً ...
يتوجب عليك ، إذا رأيته يمشي على الرصيف ، أن تتنحى جانباً وأن تفسِحَ الطريق له ، حتى يمرَّ ويمضي ، وكأنك بإزاء إعصار ، ولكنك إذا أرهفت السمع له ، فستطرق سمعك جملة اعتاد أن يرددها مراراً وتكراراً وهي ؛ " أمشي وأنا نائم ، نائم وأنا أمشي !
في بعض أوقات صحوته ، لا يتوانى عن تناول بعض المماحكات الكلامية ومن ضمنها استفساره حول الآية القرآنية ؛" وما تلك بيمينك يا موسى" ، فيعقب قائلاً بصوته الأجش ؛ هل يُعقل يا رب العالمين أنك لا تعرف ما بيمين موسى حتى تسأله هذا السؤال الذي لا معنى له ؛ " يعني أنته تغّشّم روحك " ؟!
 ومع أنه دخل عالمَ الجنون بصورة قطعية ورسمية ، إلا أن الجميع ظلوا ينادونه بـ الأستاذ ، وظل هذا اللقب لصيقاً به حتى النهاية ، وإن بدأ لقب آخر بالبروز أيضاً وهو ؛ رشيد المخبل .
لا أحد يعلم على وجه اليقين كيف يقضي المجانين الهائمون على وجوههم أوقات ليلهم ، وربما لا يعلم غالبيتنا أين ينامون ، ولكن ، من المؤكد أنهم يختارون أمكنتهم التي لا تعدو أن تكون خرائب المدينة المهجورة ، يتشاطرونها مع الكلاب الضالة التي تخرج ليلاً وتهجع نهاراً ، فيتخذ كل منهم مأواه بحسب قدرته على فرض نفسه ووفقاً للتعاطف الذي يبديه الناس القاطنون بالقرب من هذه الأمكنة ، وبطبيعة الحال فإن مجنوناً مثل رشيد لديه كل هذه السطوة والقوة الجسمانية  سيعثر على المكان الأفضل ، فها هو في إحدى ليالي الشتاء يتدثر ببطانيتين سميكتين وإن كانتا قذرتين
وإلى جواره ثمة امرأة ، أجل امرأة !
إنها سعدية المجنونة أيضاً بجسدها النحيل الضئيل ، والتي وجدت فيه ما  يُطمئنها ويوفر لها الحماية من هجمات بعض الشبان الليلية ، وقد عرف الجميع أنها مسكينة وسلسة القياد ، حتى أنها ربما تغيب عن رشيد ثلاث أو أربع ليالٍ  متتابعة ، لتأتي بعدها منهوكة القوى تفوح من فمها رائحة الخمر وإن كانت جيوبها مليئة النقود التي يغدقها عليها بسخاء بعض سواق السيارات  الماجنين ، يبقى رشيد واجماً شارد الفكر معطياً ظهره إليها ، ممتنعاً عن التحدث معها ، هي تحاول أن تكلمه ولكنه لا يستجيب ، إنه الآن هامد مثل صخرة ، هو بالتأكيد يعرف كل شيء وأين كانت ، فالناس في المدينة يعرفون علاقتهما ، وبالأحرى هي من يتحدث ويهذي بأمر علاقتها به بوصفه زوجها ، فيُخبره بعضهم عن بعد على سبيل التشفي والمناكدة بأن زوجته سعدية كانت يوم أمس في أحضان بعض سواق سيارات النص ريم  ، فيُعلّق قائلاً بصوته الأجش ؛
- أدري هاي البربوگـ ما تتوب !  
وأخيراً وبعد مداعبات وتوسلات  مصحوبة ببكائها وأنينها في بعض الأحيان يرق قلبه لها  ، فتمد يدها إلى جيوبها وتخرج النقود وتفرشها أمامه ،  يبدأ بعدّها ، وترتيبها ضمن فئات ، ثم يلفها في كيس ويخبّئها في مكان ما وسط فوضى غرفتهما العطنة ...
على أنه ، وهو في حمى النشوة يحتضنها ويشدّها إليه  بقسوة وقوة ، حتى لتكاد أنفاسها أن تنقطع ، ما تلبث أن تتهادى وتتداعى إلى مخيلته  في أحيانٍ نادرة  صورٌ من الماضي السحيق ، فيرى وجه حبيبته المشع التي أضحت خطيبته فيما بعد ، كان هو في المرحلة الرابعة والأخيرة من كلية الآداب ، بينما هي في المرحلة الأخيرة من كلية الصيدلة ، وأثناء فترة غرامهما التي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات ، كانت الأنظار مصوّبةً على الدوام إليهما ، بوصفهما عاشقين مثاليين يطمح غالبية الطلاب في أن يحذو حذوهما في الوفاء وعمق المشاعر ، وكذلك في اعتنائهما  المفرط بهندامهما ونوع العطر المميز الذي يستخدمه كلٌّ منها .
كانت مثل هذه الرؤى والأخيلة المزركشة تنتابه  في أوقات نادرة جداً ، وإن كان يجد صعوبة بالغة في الوصول إلى وضوح الصورة المطلوب ، ثم ما يلبث أن يُسدل الستار ويتشوّش أمامه كل شيء ...
فكّر رشيد أنه ربما يداهم المنزل مفتوح الأبواب دوماً أحد اللصوص أثناء غيابهما ، فيستولي على مدّخراتهما وبعض أثاثهما ،  فأحضر في إحدى المرات كلباً ضخماً ، الأمر الذي جعل رفيقته الوجلة  تصاب بالهلع والذعر ، حتى أنها هربت واستمرت مختفية لمدة أسبوع ، وظل يفتش الخرائب بحثاً عنها  ، وأخيراً عثر عليها ليصحبها معه عنوة ، وبعد أن هدأ روعها عاد الاطمئنان إليها رويداً رويداً ، وأصبحت تألف الكلب ويألفها كذلك .
حظي هذا الكلب السائب بدرجة باذخة من العناية والرعاية  ما لم يُتحْ لكلبٍ سائبٍ آخر أن يحظى  به ولا سيما الطعام الشهي الذي كان يجلبه له من أرقى المطاعم .
في يوم ما ، عاد رشيد إلى المنزل في وقت أبكر من المعتاد ، أقلقه أنه لم يسمع نباحاً  مرحّباً بمقدمه ، وخشي أن يكون قد هرب ، أو اصطحبته كلبة معها ، خاصة وأنه في الآونة الأخيرة أخذ يسمعه وهو يصدر عواءً شجياً فهم منه أنه نوع من النداء لأنثى من بيني جنسه ، لعل إحداهن تأتي فتقيم معه في هذه البحبوحة .
سار  بحذر بضع خطوات ليجد جثته متكوّمة في إحدى الزوايا ، وللحال أدرك أن كلبه لم يمت ميتة طبيعية ، فهو ، ولغاية الأمس كان في أوج قوته ونشاطه ، لا بد أن ما يخشاه ويتحسّب له  وقع الآن ، هرع إلى الغرفة فوجد أغراضها متناثرة ومبعثرة ، أزاح بعض العاديات التي كانت على هيئة كدس صغير تفوح منه رائحة نتنة ومقززة ، مد يده ، لم يجد الصرة الخضراء ، مد يده إلى مكان آخر لم يعثر على شيء ، وأخيراً أدرك أن أحدهم دسَّ سُمّاً إلى كلبه ، ليستولي على مدّخراتهما التي هي حصيلة كدّهما لسنوات طوال ، غامت الدنيا أمام عينيه  ، أحسَّ أن جسده بدأ ينهار ، وأن رجليه أخذتا ترتجفان ، بصعوبة بالغة جرجر نفسه باتجاه جثة كلبه جلس بقربه ، وأخذ يجهش بالبكاء المرير والعويل ، وفي اليوم التالي حمل بعض أغراضه وارتحل عن المكان .
يؤكد البعض ممن يسكن بالقرب من المكان أنهم سمعوا في تلك الليلة  عواءً  بشرياً  مديداً لبعض الوقت ...
في مراحل لاحقة ، وفي حالات نادرة  جداً  ، إذا داهمه مرضٌ ما  وأحسّ بشدة وطأته  فإنه لا يجد مفراً من أن يجرجر قدميه نحو الصيدلية  ...
 يراها  كما لو كانت هي المرأة ذاتها التي كانت تتمشى معه في باحة الكلية فلم يزدها  تقدم العمرِ إلا سطوعاً وتوهجاً .
 في لحظة صفاء ذهني نادر تنتابه ، يلقي كلٌّ منهما نظرة حيرى إلى الآخر تنم عن صدمةٍ وأسف ، يأخذ الدواء  بيده المرتجفة ويخرج مسرعاً مرتبكاً ، تاركاً دمعة أو دمعتين على موازئيك الأرضية  ....

الأربعاء، 10 فبراير 2016

قبل أن يرضع حفنة التراب-نجاح المصري زهران

قبل أن يرضع حفنة التراب
إلى مساءٍ لم يكتب عن أباريق خاوية 
الى الريح التي تؤرخ أول الجرح
إلى صرخة الأطفال 
أقدم اعتذاري
عن تزاحم الصدأ بفُلكي
عن يدي الفارغة
لكأسِ خمرٍ شرب القمر
لم يجد التاريخ بعبق المناجل
وتذكر زفير الكتب
شهقات البيادر
وتشنج البيوت التي لم يصلها النور
أخاف
أغفو على عطشي
على صدرِ تينةٍ ترزق الفلاحين
و أبكي الأرض
الأمومة
المخذولين على صدر البشر
حتى يطل الشحوب بجلدي
 بزي الشقاء
أحمل صرة جسدي
هنا
هنا التيه وحناجر التعب
والزيتون
يسألني عن زيته وأطفالي
عن سحابة التهبت بجفاف الماء
ألتهم بعض النبيذ وأحشائي
فأنسى أحوالي
وبين هذا
وعناق الزيتون والدفاع عن الأغصان 
يركض الحلم
حاملا حبره النبوءة الى السِحر
الى حفنة القمح
ورشة عطر تُبرق الى حيث ما أريد
كم أتوق إليك أيها الكائن بأنفاسي
قبل أن تتصلب شراييني
وينزف الليل 
حتى تخوم انساني
لأمنح
الإنسان لغة الإنسان
قبل أن يرضع حفنة التراب

وسؤال الأكوان

الظاهرة الادبية كموضوع لعلم الأدب فصل في علم الأدب و موضوعه . -د.انور غني الموسوي

الظاهرة الادبية كموضوع لعلم الأدب
فصل  في علم الأدب و موضوعه .
العلم هو مجموعة ابحاث وفق منهج معين في ميدان معين لاجل الوصول الى قواعد متناسقة بخصوص ميدان دراسته . و لا بد لكل علم من موضوع يبحث فيه . و الأدب هو ظاهرة انسانية ، و لو حللناها الى عناصرها الاولية لوجدنا تلك العناصر بين ما يقع في مجال المؤلِّف و التأليف و بين ما يقع في مجال النص و المؤلَّف ، و بين ما يقع في مجال القراءة سواء كانت قراءة عادية او اختصاصية وهي ما تسمى بالنقد الأدبي . لكن من الواضح ان الأدب ليس اياً من تلك الجهات ، و انما هو في الوعي الانساني نظام معقد من العلاقات بين تلك الجهات ، بعبارة ثانية الظاهرة الادبية هي النظام الانساني المتشكل من مجموعة علاقات بين عناصر الادب الاولية من المؤلف و النص و القراءة . اذن فما يبحث فيه علم الادب هو نظام العلاقات بين تلك الجهات و الذي يمكن ان نسميه بالظاهرة الادبية . فموضوع علم الادب هو الظاهرة الأدبية ، فهو ليس النص و لا المؤلف و لا القراءة .
فصل في منهج علم الأدب
من الواضح ان كل من المؤلف وهو الانسان و ان النص وهو جزء لغوي خارجي و القراءة وهي عملية ادراك ،   يمكن ان تبحث من جهات مختلفة ، اي يمكن ان تتناولها في علوم مختلفة  ، و منها علم الأدب ، فلا بد من منهج متميز و راسخ و واضح جدا للبحث الأدبي يميزه عن باقي العلوم ، كما انه من المهم ان يكون هذا المنهج منتجا للقواعد و القوانين و الا لن يكون قادرا على تحقيق العلمية . و من خلال تأريخ الادب و النقد فانا نجد ان اكثر مناهج النقد علمية هي ما تعلق بالاسلوب ، مثل علم البلاغة العربية و النقد الاسلوبي الحديث ، و لقد بينا في كتابنا ( النقد التعبيري ) ان تطبيقات النقد التعبيري و ما انتجه من مفاهيم ( مابعد اسلوبية ) و المتمكنة من الوصول الى معارف مضبوطة و دقيقة بخصوص الخلفيات الفكرية و المعرفية و الجمالية للمؤلف و عملية التأليف ، و تجليات ذلك في النص ، و انعكاس العوامل الادبية بمعنى عام و التعبيرية و الجمالية بمعنى خاص في معادلات نصية ، و ما توصل اليه النقد التعبيري من مفاهيم بخصوص القراءة و مكانيزما الاستجابة التاثرية و الجمالية . فانه يكون جليا ان منهج و تطبيقات النقد التعبيري الاسلوبية هي الاكثر قدرة على تحقيق  منهج التحليل الادبي العلمي، فتتبع اسلوب المؤلف او بمعنى اكثر تفصيلية بحث طريق تعبيره  هو من اكثر المناهج موضوعية و لو قلبنا اتجاه البحث بان يكون عن طريقة تجلي الاشياء في التعبير يكون للبحث الاسلوبي معنى اكثر تطورا . فالخلاصة ان منهج البحث الاسلوبي مع التوسع مابعد الاسلوبي للنقد التعبيري و بحث طريقة التعبير الادبي عن الاشياء او طريقة تجلي الاشياء في التعبير الادبي هو المحقق لعلمية المنهج الادبي .
فصل في عناصر الظاهرة الادبية
لقد اوضحنا ان موضوع علم الادب هو الظاهرة الادبية و ان البحث الادبي يسعى للوصول الى قواعد و قوانين بخصوص الظاهرة الادبية ، تكون تلك القواعد هي علم الادب .
و لحقيقة ان الظاهرة الادبية هو نظام علاقات بين جهات و مواد انتاجها و وجودها و المتمثلة بالجهة التأليفية و الجهة النصية و الجهة القراءاتية ، فان القواعد تكون مختصة بما بين تلك الجهات من علاقات ، كما انه يمكن تحقق علوم مستقلة ادبية مستقبلية خاصة بالمؤلف فيسمى ( علم المؤلف ) مثلا و علم خاص بالنص فيسمى ( علم النص ) و علم خاص بالقراءة فيسمى ( علم القراءة ) لكن هذا يحتاج الى تراكم معرفي ، وهو وان كان امرا حاصلا مستقبلا بلا ريب لتوفر مقوماته الا ان القاعدة المعرفية غير متوفرة الان ، و سيكون علم الادب و ما يحقق من معارف و تراكمات المدخل و الطريق الى طهور تلك العلوم الجزئية التخصصية .
ان اوضح نظام رابط بين عناصر الظاهرة الادبية اعني المؤلف و النص و القارئ هو الاسلوب او طريقة التعبير ، و طريقة تجلي تلك الجهات بما هي عوامل تعبيرية عميقة  في الوحدة التعبيرية اي المعادل التعبيري . اذن الجامع المسائلي لابحاث علم الادب هو المعادل التعبيري وهو الوحدة التعبيرية التي يتجلى فيها العمل الادبي ، اي ما يعبر به المؤلف في النص عن الاشياء و ما يتلقاه القارئ و ما يصل اليه من ذلك التعبير ، بهذه الطرق يتضح و بجلاء   موضوع مسائل الادب الخارجي و الواضح البعيد عن الظنية و الضبابية و الغموض . و ان الجلاء و والوضوح هو من اهم صفات المعرفة العلمية . و ستنبحث في مناسبات قادمة الاسس النظرية و و خصوصا نظام ( العوامل- المعادلات  ) التعبيرية للمقومات الثلاث للظاهرة الادبية اعني المؤلف و النص و القراءة .

الأحد، 7 فبراير 2016

أختام*- عادل كامل
















أختام*


عادل كامل
[8] أسئلة
    هل ثمة أسئلة يستحيل صياغتها بالكلمات، ونقلها من مواقعها النائية، إلى الآخر: عبر الكلمات، أو عبر أية لغة، حتى لو كانت تجريدا ً خالصا ً: موسيقا، أو مشفرات لونية، رمزية، أو متعددة الأبعاد، مركبة، مختزلة، محورة، أو مقنعّة بأسلوب يحافظ على ديناميتها الداخلية، بنيتها، كي يبقى على علاقة مع الآخر: ظل الذات، أو المجتمع، أو التاريخ، أو في مواجهة الميتافيزيقا...؟
    بالأحرى، هل ثمة أسئلة تنبثق من غير إجابات (كحفنة رماد لكائنات حية أكملت دورتها في الطبيعة/ الوجود)، بمعنى هل ثمة لا أسئلة، بل امتدادات، لأن ما يحدث للفنان، يحدث للأشجار، أو للطير، أو للقتلة...؟
   على إن الإجابات، هي الأخرى، تخلو من الإثارة، إن لم تكن تتضمن أسئلتها...، بل تخلو إلا من الامتداد ذاته لتلك اللا أسئلة،  بعد تحول الحركة العشوائية، إلى حركة، خارج نطاق الحواس، والحدوس، والمراصد، والمختبرات...؟ مثل فواصل الصمت، في الأصوات: درجات. كالحرارة في ذروتها، تحت درجة الانجماد، أو فوق درجة الغليان.
    ذلك لأن غياب المعيار، في النهاية، يقابل وجود معايير (الهرم): رمز أي اله قديم يأمر رعاياه بالنذور ـ والطاعة، وهي التي تذهب إلى أقدم من برمج نظام (الهرم): سلطة ما أن تهرم، حتى تجد من يعيد إليها قوتها، باستبدال الأقنعة، لكن بالحفاظ على:  اللا ـ سؤال، تحت هيمنة إجابات بعدد الأتباع.
    فما الذي كان يدور في رأس النحات منعم فرات، وهو يحدق في عالم لا تتوازن فيه الإجابات بأسئلتها، ولا الأسئلة بإجاباتها...؟
     أسئلة لا تبلغ نهايتها: اللا معنى، لأن النحات صاغ منها موقفه إزاء الاستحالات.
   وها أنا لا أجد دربا ً يقود إلى خاتمة، فالمقدمات تجرجر نهاياتها وتعبر، لتتشكل المقدمات مرة ثانية، إلى ما لانهاية، ضمن عمل استحالة تكامل الأجزاء. فالمثلث يمتلك تعددية بتعددية حتميات تكونه، لكنها جميعا ً تحكي ما لا يروى، لأن الدوافع ذاتها سابقة على تشكلها، مثلما ستتوارى، عبر أشكالها، مع احتفاظها بكينونتها، بحسب رؤيتي لها أنا المحدود ـ إزاء هذا الذي لا استطيع التعرف عليه بأدواتي ـ لا بالفن، ولا بالكلمات.


[9] خلايا

    عندما تصبح الحياة، بمعناها الكلي، مثل من يقوم بقراءة كوكب تحول إلى حفنة من رماد! كتلة  غير منتظمة اجتمعت فيها الأزمنة، وكل جزء من أجزائها يحكي نهاية ما تجمعت كي تصبح علامة، مع أشياء ماثلة: مجرات ونجوم. فما المعنى المستخلص، لدى الدماغ/ الذات، وهي في الأخير، لا ترى أكثر من توقها لمعرفة هذا الماضي الغائب، المنسحب إلى الخلف، إلى ما لانهاية...؟
    إنها صدمة الاندماج، وديمومته. على أن رهافة هؤلاء الذين تمتعوا بقدرات تنظيمية في صياغة جسور مع هذا الممتد، المتحرك، والمخفي، لم ْ يمنحهم إلا قدرات شبيهة بهذا القليل من الرماد: التحولات، من الاندثار إلى الانبثاق، ومن الأخير إلى الاختفاء، لكنها التي تخفي قانونها. ففي يوم ما لن يكون لأعظم الاكتشافات إلا هامشا ً ثانويا ً إزاء اللا ـ كل، بما يمتلكه من دحض للأبعاد ـ والحدود.
    ها أنا لا استطيع ضبط عمل خلايا دماغي، وهي بعدد نجوم المجرة، ولها صلات ما، بالمجرات غير المكتشفة بعد، وليس باستطاعتي إلا أن أروض دوافعي واجعلها متجانسة مع هذا اللا ـ كل.
    فاكتشف، ببساطة، إن ما أستعيده، لا يذهب ابعد من اندثاره، فالدماغ لا يعمل بإرادتي، لا بحرية مائلة، ولا بعقلانية مروضة، بل عبر باثات تجعل الرماد، بين بين، لونا ً بلا حافات. فعملي ينتظم بالعلل، إنما اكتشف إن هذا كله خارج السيطرة.
   هل للفن هذا المعنى، كي يواصل الذهاب ابعد من مداه.....، أم اللا ـ كل، وقد غدا جزءا ً، لا يمكن عزله عن لاحافاته، وقد تحول إلى ختم: حدود، حافات، لها خصائصها...؟
    كان شاكر حسن يتحايل باللغة كي يمجد كيانا ً، في الأصل، يقع خارج مدى الأدوات. فكنت اعترف له ـ عندما كان الهواء يختلط بالدخان، وعندما كان العقل يتعرض للصدمات ـ بأننا لا نصنع فجوات، بعد أن انشغل الإنسان للاف السنين بصناعة الجسور. نحن، بدخول العالم في أتون العولمة، نتكيف مع عمل البذرة، بالدفن.  إننا لا نضع إلا كل ما يعرقل تخطينا نحو الخلاص. على إن ثوابته لم تصمد، ففي عالم يتعرض إلى التفكيك، نجد رهافته تؤدي دورها في رسوماته، ولعبه، بنشوة أربكت حياته، لكنها ساعدته على الاندماج.
   فهل باستطاعتي أن احمي هذا (اللغز): الدماغ، ولا ادعه يقودني، حيث لا أريد، وإنما أراه، ككتلة رماد استحالت إلى أثير....؟
     انه اللا شكل الذي تتحرر فيه الأشكال، من قيودها، كما يحرر الموت، الموتى، من المبرمجات: انه اللا كل يعيد إلينا غيابنا ـ وحضورنا، ولكن من ذا يستطيع أن يلمح هذا المرور....، والمعنى لا يستطيع أن يجد سكنه حتى في الكلمات؟


[10] ديمومة
  احد الدادائيين صرخ: كلنا دادا. ولكن ليس بمعنى كل الطرق تقود إلى روما، وليس بمعنى إن الضد يظهر ضده، وليس بمعنى يقود إلى التجانس، بفعل الوحدة، بل لأن اللا معنى؛ اللا معنى الخالص، لا يمكن أن يكتمل، إلا عبر هذا الحضور. ذلك لأن شرط الضرورة، شرط آليات ترابط العلل، المغاير لمفهوم: العلة من غير علة، والذي يجعل الصفر سابقا ً على العدد...، يدحض الحرية، ويدحض الديالكتيك، شرط إدراك استحالة استبعاده.  وإلا لكانت الدادا قد تحولت إلى أيديولوجيا، والى: قناع. إنها، عمليا ً، ضد ذلك. ولكنها أيضا ً تمتلك أسباب غيابها.
      هو ذا المنفى السابق، في وجوده، المسرح كالموت وحده يعرف ماذا يفعل، بما ينزله الموت، وكأنه اللغة سابقة حروفها، وكلماتها، أي معناها.
    ولكن المنطق الدادائي، في عمقه، يقترن بالجحيم. مع ان الأخير، لا يليق بالحكماء، فكيف يُنسب إلى الآلهة؟ فالتضاد يبزغ، ويستعيد الجدل ديناميته، فيتم وأد الدادا، كي تحافظ على ديمومتها: اللا معنى الخالص وقد فقد مبرراته، لأن العقاب، في الأرض، وفي الجحيم، هو ثمرة سابقة على النظام الهرمي، وسابقة على إرادة الحياة، ونظريات التطور.
    كل ما حاولته الدادا، ليس الصلح، بل قهر القانون، ولهذا  كانت ذروتها مؤجلة. فالدادائي ولد بجينات لم يساوم عليها، كي يستبدل سلطة بسلطة، ولم يهادن، لأجل سلام يتآخى فيه الذئب مع الحمل، والصياد مع الضحية. انه الفعل الذي رأى فداحة تاريخ عليه أن يطوى، ويمحى من نظام الوراثة. لكن أي حلم هذا من غير سلالة ورثت تحول المستحيلات إلى حكم، لأن الأخير، في الأصل، سيغدو كاتما ً للصدمات ذاتها التي سمحت للنظام الهرمي أن يمتد، وأن لا تكون له نهاية.
     ها هو الدادائي الجديد، أي كل فعل يحفر في  نظام اللا معنى ـ ولكن ليس هو العبث ـ يدّب، ليكتشف إن المواجهة وحدها لها مبرراتها في الطرق على قانون الهرم. لكن الموجودات من غير مركز شبيهة بقاعدة لا رأس لها، كي يكتمل المعنى، مرة أخرى، بصدمة المستحيلات.
    هو ذا المنفى يدجن المنفيين، وهو ذا اللا شكل يغدو: مثلثا ً. فالمنفي، بكل أفعاله، لا يمتد إلا في الأرض ذاتها، ولا ينتج إلا أشباحه. كتلك التي أفقدته صوابه. إنما النهايات، هنا، علامات مرور، وليست تزكيات أو استراحة أو مجدا ً. انه الدادائي الذي تعلم أن يقاوم الوهم العام، ولا يدع بصره، أو أصابعه، أو عقله، أو قلبه، أن يتعلق بالشوائب، بعد أن توحد بما فقده منذ غدا كيانه فاتحة للمستحيل.

* تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان:  أختام معاصرة.

الجمعة، 5 فبراير 2016

القصيدة النقدية و القصيدة العلمية مدخل الى الادب العلمي و الشعر العلمي .- د أنور غني الموسوي 5\2\2016

القصيدة النقدية و القصيدة العلمية مدخل الى الادب العلمي و الشعر العلمي .
لقد اطاحت الاسلوبية بفكرة الالهام و المصادر الفوقية الغامضة للشعر ، و بينت و بوضوح ان الشعر عملية اختيارية كأي عمل انساني ، لكننا مع ذلك نفهم الشعر و الادب عموما كظاهرة خارجية وهذا فهم مختلف عن فكرة الاسلوبية الا انه ايضا لا يخرج عن الاختيار بل اننا نفهم الشاعر و الاديب على انه ظاهرة خارجية ، لذلك نتعامل معه بشكل نظام خارجي مرتبط بعلاقات مع الخارج و يكون للخارج تأثيره على شكل الشعر و الادب في كل عصر .
ان الاختيار -  وهو المحور المركزي الذي تستند عليه الاسلوبية و النقد الاسلوبي - يمكّن من القول بوجود ( تقنيات ) في انتاج النص الادبي و القصيدة المعاصرة عموما ، و لا بد لأجل تحقيق نتاج معتبر في هذا العصر من ان يكون الكاتب على مستوى معين من القدرة الادائية و الامكانات التقنية للكتابة ، أي ان عليه ان يمتلك الحد الادنى من تقنية الكتابة ، و لا نقصد بذلك اللغة و اسسها فحسب بل تقنية انتاج الجنس الادبي المعين ، اذ ما عادت الموهبة كافية لانتاج نص ادبي ، و لأجل ان يكتب الانسان الموهوب قصيدة لا بد ان يمتلك التقنيات . و كما انه لا يمكن لورشات الكتابة ان تنتج كتّابا مبدعين من دون موهبة ، فان الموهوبين لا يمكن ان يكونوا مبدعين من دون امتلاك التقنية .
ان التقنيات الاسلوبية في الكتابة يمكن احصاؤها و استقراؤها بجلاء و وضوح مما يمكّن من تحقيق حالة ( الكتابة الادبية العلمية ) بحيث ان هذه التقنيات تبلغ حدا من الضبط يمكّن من تحقيق اقصى درجات التوقع في انتاج اهدافها حتى لو كانت شعورية ، و تحقيق حالة التجريبية و الرياضية . و قد يكون هذا الكلام مرفوضا بالكلية من كثيرين الا انه الحقيقة و الواقع ، و اننا نرى السينما كيف يتدخل العلم و بقوة في انتاج الاثارة فيها ، و ان الاسلوبية هي البوابة الواسعة في انتاج الادب العلمي و القصيدة العلمية ، و لا يجب ان ننسى ان النصوص البلاغية انما انتجت بواسطة تقنيات علم البلاغة ، و لقد بينا في مواطن كثرة ان الاسلوبية تقترب كثيرا بل و تحاكي البلاغة و ان النقد التعبيرية  المابعد اسلوبي الذي نتبناه هو الوريث الشرعي لعلم البلاغة ، و كما ان البلاغة حققت النقد العلمي و ان لم يكن بتلك النظرة الواسعة فان النقد التعبيرية بنظرته الواسعة سيحقق حتما النقد العلمي بكل مقوماته . وان تنظيري بهامش لكل قصيدة شعر اكتبها كما يلاحظ الكثيرون انما هو متأت من الشعور العميق بان الانتاج المهم انما هو بالقصيدة النقدية و بالنص الابداعي المتبّني للفكرة النقدية ، و لا يعني ذلك تراجعا في حرية الابداع و انما يعني النظر الى عملية الابداع من الخارج و توجيه عناصر التأثير فيها الى المواطن التي اثبتت التجربة و الخبرة بل و الاستقراء قوة تأثرها ، لذلك فان فكرة كون النص مقدسا بحيث لا يصح المساس بصورته و لبناته الاولى  و ان العبارة الابداعية مقدسة بحيث لا يصح تغيير صورتها ،  هذا الفكرة غير واقعية و يجب ان تلغى تماما بل يمكن تشكيل النص بصورة مختلفة كما يمكن كتابة العبارة بصورة مختلفة ، بل ان النص و العبارة الادبية التي تخضع للتعديل و المعالجة الرؤيوية و النقدية هي امتن و اكثر تأثيرا و ابداعا .و لقد وجدت ان العبارة الفنية و الشعرية التي  انما اجري عليها تعديلات مهمة و خاضعة لفكرة نقدية و مرجعيات جمالية و تأثيرية و تعبيرية تحقق تميرا في لغتها و اسلوبها و طبيعة تعبيرها و اشارتها و تأثيريتها بل و كمها الجمالي و التعبيري كما بيناها في اشارتنا الى النقد الكمي و النقطة التعبيرية الرياضية .
ان الاستفادة من التجريب العلمي و الاستقراء و الاحصاء و تبين العناصر الكتابية المؤثرة و اجراء التعديل الرؤيوي و الفكري و النقدي و بما ينتج نصا اجري فيه اشتغالات كثيرة سيكون مدخلا مهما و كبيرا نحو ادب علمي تطبّق فيه التقنيات العلمية المناسبة للادب ، وهذا طبعا يحتاج الى قوانين و قواعد في (علم الادب )  و (علم النقد )  و  (علم النص)  ، و هي فكرتنا  و مشروعنا الذي سنعمل عليه و الذي قطعنا شوطنا كبيرا في تحقيقه بل اننا يمكن القول اننا حققنا القصيدة النقدية بشكل واضحة و نتجه نحو تحقيق القصيدة العلمية .

د أنور غني الموسوي 5\2\2016

مهمّة المثقّف

مهمّة المثقّف: في سياق ما سُمّي إشكالية «الحقيقة والأيديولوجية» كانت الأدبيات الماركسية قد أسندت إلى المثقّف مهمّة محاربة الوعي المغلوط ومقاومة الاستلاب الفكري، وذلك بهدف تغيير وعي الناس وتمكينهم من «الحقيقة». الحقيقة المقصودة هنا هي تلك التي تمكّنت من تبيّن حركة التاريخ ومسعاه، فأدركت المنطق الذي يسير وفقه، والاتجاه الذي ينحو نحوه، والغاية التي يرمي إليها. على

الخميس، 4 فبراير 2016

جائزة رافع الناصري لعام 2015"






جائزة رافع الناصري لعام 2015

      مع انتهاء الموعد المحدد للمشاركين بجائزة رافع الناصري السنوية للحفر والطباعة في 31 كانون الأول 2015، تود لجنة التحكيم أن تقدم جزيل شكرها وامتنانها للمشاركين الذين أرسلوا أعمالهم المحفورة والمطبوعة (graphic arts) للتنافس على جائزة رافع الناصري في سنتها الأولى، مشيدة بالمستوى الفني المرموق الذي توافرت عليه الأعمال سواء أكان من الناحية التقنية أو الإبداعية المبشرة بمستقبل فني ومهني متميزين.
بلغ عدد المتقدمين للجائزة ثلاثة عشر فنانا وفنانة من مصر والأردن وسورية والسعودية وتونس والعراق. وعرضت على لجنة التحكيم المؤلفة من:
ضياء العزاوي، رسام وحفّار
زياد دلّول، رسام وحفار
مظهر أحمد، رسام وحفّار.
بعد فحص الأعمال وتمحيصها والتداول حولها، اعتمدت اللجنة في اختياراتها على توفر شروط أساسية في الأعمال الفائزة مثل المستوى الفني المرموق والقدرة الإبداعية إلى جانب الرؤية الفنية الخاصة بالفنانة أو الفنان.  وعلى هذا الأساس تتشرف لجنة التحكيم أن تعلن اختيارها منح جائزة رافع الناصري للحفر والطباعة Graphic Arts  في دورتها الثانية 2015، للفنانة أميمة رشاد من مصر، وقدرها 1000$ وذلك لما تتمتع به أعمالها بقدرة أدائية احترافية، ومادة بحث بصري متسق ينم عن رؤيتها الشخصية
الفنانة أميمة رشاد تحمل شهادة بكلوريوس الفنون الجميلة، قسم الجرافيك، جامعة المنيا 2004، وتمهيدي ماجيستير تاريخ الفن بالفنون الجميلة، جامعة حلوان 2013. شاركت في العديد من المعارض في مصر، وعدد من الدورات العملية workshops خلال السنوات 2003-2015. كما حصلت على جائزة في فن الحفر من جمعية محبي الفنون في مصر، ولها أعمال مقتناة من قبل متحف الفن المصري الحديث.
اتسمت أعمالها المحفورة على الزنك etchings بالدقة والحساسية في معالجة موضوعاتها المستوحاة من بيئتها المحليىة. واللجنة إذ تقدم شكرها للمشاركين جميعا، تتقدم بالتهاني إلى الفائزة أميمة رشاد من مصر.
وبينت مي مظفر، راعية الجائزة، بعد التعبير عن امتنانها لأاعضاء لجنة التحكيم، أن من دواعي الشرف أن نستطيع الإسهام، في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها أمتنا، بتقديم الدعم للفنانين الشباب، ودفعهم للارتقاء بطاقاتهم الإبداعية إلى آفاق أرحب، من أجل مستقبل فني ومهني ناجحين.
                                                                  

.التعبيرية بين الانفعالية وحركة الجسد في أعمال اياد- -مؤيد داود البصام




 تشكيل

.التعبيرية بين الانفعالية وحركة الجسد في أعمال اياد

-مؤيد داود البصام

شكل النحت العراقي قراءات متعددة خلال مسيرته في العصر الحاضر وفترة التأسيس الحديثة، فعمره بمقدار ظهور الأعمال النحتية ذات النهج الواقعي، وبتقنية أكاديمية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ثم عندما بدا خط الشروع للفنان العراقي في تقديم أعماله التي استندت فلسفتها إلى أغلب أعمال الفنان الرافديني لتستقي منه خطابها، ويعد نصب الحرية الانجاز الذي أكد طموح الفنان العراقي لإيجاد معادل موضوعي بين الماضي والحاضر، ومحاولة أيجاد الصيغة التي تجعله يضع فلسفة للربط بين الأصالة والحداثة، حتى لتضيع عليه فرصة ما يحدث من تطورات ومتغيرات في عالم الثقافة عامة والفن خاصة، وأن يبقي جذوره على اتصال بتاريخه وماضيه وحاضره،ولكن هذه المسالة جاءت مع زحمة الإعمال التي خضعت لمنهج التجريب (إذا وضعنا التجريب كمنهج افتراضي ، لان المنهج يفرض قواعد، والتجريب قواعده في داخل العمل المنجز خصوصا وليس عموما) فاتخذت الأجيال ما بعد الرواد الأوائل طريقا يبتعد حينا ويقترب أكثر الأحيان مما بناه الرواد، في أسلوبهم بين الواقعية والواقعية التعبيرية، ويعتبر ما وضعه جواد سليم النموذج في نصبه (نصب الحرية في ساحة التحرير) وإعمال أخرى له ولفنانين آخرين، العمود الفقري للنقلة الشكلية والمضمونية لفن النحت العراقي الحديث، أو الثورة في الشكل والاستمرار بالنظر لأهمية الموضوع في العمل، ومن هنا نجد أنفسنا مضطرين لمعاينة المنجز من خلال منظور قدرة التجريب لدى الفنانين ما بعد فترة الرواد على تقديم ما يؤسس بما يوازي ما وضعه الأوائل، وأيضا تأثيراتهم على الأجيال اللاحقة، والنحات إياد حامد لا يختلف في التقييم عن ملاحظة ما أوردناه أعلاه في أعماله من حيث الشكل أو المضمون، وهذا لا يعتبر انتقاصا او ثلمة فيما يقدمه من منجز، فهو يمتلك النضج الفني في بناء طريقه لإيجاد ذاته، والانطلاق بفلسفة تجعله، يتقدم ولا يمحو خطواته التي تركها خلفه، بما تحمله من بصمات توضح تأثير أساتذته على أعماله أو تأثيرات المدارس والفنانين في العالم، من دون أن يخضع بنائية أعماله إلى الاستنساخ.
البناء الفكري وروحية العمل 
يعمل النحات إياد على الرؤية المتسقة التي توحد بين الذات والموضوع، والتي تجمع جيله والاجيال التي سبقته في الرؤية لصراع الإنسان مع الحياة، أو صراع الأضداد، من فكرة (أن الشر قوة تفرض وجودها أكثر من قوة الخير)، في عالم يرتكز في بنائيته على مفهوم استغلال الأخ لأخيه والقوي يأكل الضعيف، أن هو أدركها من خلال منابعه الذاتية، أو من خلال أساتذته الذين درس على أيديهم، او الذين درس أساتذته على أيديهم، من أمن وعمل ضمن هذه المفاهيم، وكلهم عمالقة فيما قدموه من منجز على الرغم من قصر الفترة الزمنية في انجازهم الفني، او الفترة الزمنية التي تفصلهم عن نحاتي الزمن الحاضر، فكلهم يخضع للزمن الحديث، فما زال عبق ذكرياتهم لمن رافقهم او زاملهم موجودة على قيد الحياة، مما يعني أن المؤثرات مستمرة، حتى وأن لم تتضح بصورة مباشرة على أعمال الجيل الحالي، وهو ما يدركه إياد، ولا ينكره على الرغم من جهده الذي يعمل عليه لبناء الذات المستقلة، التي تعي أهمية التعبير الذي لازم النحت، كونه جزء من فهم الفنان لطبيعة مجتمعه وانفعاله في المشاركة للواقع الذي يعيش فيه، ومدى تأثير الحدث على العمل الفني، ومن هنا فان الرواد ومن جاء بعدهم، لم ينتزعوا وجودهم من الواقع الذي تقتات رؤاهم عليه، ولم يتخلوا عن اللحاق بركب التطورات التي صاحبت العمل الفني والأدبي والفكري، ولكن كيف يمكن لهذه الإحالات النفسية والفكرية، أن تتحول إلى واقع ملموس عبر جمالية الصورة، نحتا ورسما، واستمرار الارتباط بالجذر، أن أحد اختيارات الارتباط في إعمال النحات إياد، هي المنحوتات التي يغلب عليها طابع المصغرات، فن اللقي (المصغرات)، في الفنون الرافدينية، وهو ما نجده في أعمال فنانين عراقيين آخرين، على سبيل المثال وليس الحصر ولكن لكونه ممن يشتغل عليها بكثافة وبرؤية جمالية فيها توهج الواقع مع الفنتازيا، الفنان محمود العجمي، وكما لدى العجمي هذا المزج بين الواقع والحلم وتضخيم الواقع لابراز قيم جمالية غير مرئية، واتساع ساحة الرؤية في هضمه الفن الرافديني برؤيا معاصرة، وابراز الكثافة التعبيرية التي كان يحررها الفنان الرافديني للتاثير على المشاهد، كذلك نجد في أعمال إياد أعطاء مساحة واسعة للواقعية في إعماله ودمج الرؤية الواقعية بالحلمية، وفسح المجال للرؤية التعبيرية في أن تضخ بكثافة من خلال مضامينه، وهذه المصغرات البرونزية التي قدمها في المعارض التي أشترك مع الآخرين او انفرد بعرضها في معرضه الخاص، هي استمرار للتواصل بمنجز الفنان العراقي القديم، ولهذا نجد أن اللمسة الأكاديمية تأخذ أبعادها في أعماله، بناء على الحرفية التي أكتسبها في مداومته على تنمية الخبرة والصقل، ومن خلال البناء الصحيح لتطوير إمكانياته الأكاديمية .



التأسيس الفني وفلسفة العمل 
أن أعمال النحات إياد يغلب عليها طابع الانفعال، والحركة العنيفة المصاحبة للشخوص (figures)، جدران تقف حائلا ً بين الإنسان وانطلاقته، لكنه يسعي للانفلات منها وكسر القيود التي تكبله،بالحركة الدافعة، أنها الدهشة وكأنها لحظة استفاقة يسعي للخلاص منها، وهنا تأكيد على الجسد وحركة الأجزاء والعضلات، ولأجل أن يجعل المتلقي مستعدا لتقبل الفكرة يترك الجسد عاريا لإبراز حركة العضلة في الجسد وبناءها الأكاديمي، ولتوضيح الأبعاد التعبيرية بين التقنية والخطاب، فهو يبحث في أغلب أعماله، عن مشكلات الإنسان المعاصر، ولإيجاد الصلة الانطباعية بين مدركاته المعرفية وبناءه العملي، يلجأ إلى تحديد السمات، من خلال قربها من الواقع، ويضع الشخص (figure) ضمن أبعاد رياضية، بين المربع والمستطيل، حتى يتيح للفراغ والكتلة حرية صياغة الفضاء الذي يؤطر العمل، أن تعدد الإعمال التي تبرز فيها حركة الجسد المأسور وهو يحاول فك أسر نفسه، تحيلنا إلى مجمل الصراع الذي يكابده الإنسان بمفرده، أمام عالم واسع لايفهم منه الذي يحدث، أن في أعماله حالة الإنسان وكأنه يستفيق من حلم مزعج، فيجد أنه واقع، مما يضعه في لحظة من العزلة والارتباك، و يتوضح هذا في تخطيطا ته التي يمكن التعرف عليها من خلال الشكل الهندسي الذي يتبعه في تخطيط العمل، وكيف يتعامل مع الفكرة لأجل التطبيق ضمن الرؤية التعبيرية، وتبيان القوى الضاغطة التي هي خارج إمكانياته، بين الخطوط المستقيمة الصلدة وبين الإشكال الهندسية، لرصد حالة التعبير بين الوجه وحركة الجسد، عبر التشكيل الرياضي وحصره في المربع والمستطيل عند التنفيذ، وإلغاء بعض الخطوط، محاولة لفهم الكتلة بمقدار تعبيرها من الداخل، وليس شكلها الخارجي، كما في أعمال رودان الذي يتحدث عن تمظهرها، مثالها (تمثال بلزاك) لاشك أن المضامين بشكلها العام التي يشتغل عليها إياد هي في محصلتها النهائية متقاربة في البحث عن مشكلات الإنسان الأساسية، عدم قدرة الفرد على فهم هذه الآلة الجبارة التي تسحقه كل يوم، أينما حل وأرتحل، أنها نفس الفلسفة التي أنطلق منها جياكومتي قبل عدة عقود، بعد أهوال الحرب، في ترقيق شخوصه للوصول إلى حالة الكشف عن المعاناة، المعاناة الداخلية التي تسحق الإنسان من الداخل، وليس له إلا الاستكانة لعدم قدرته على فعل شئ ما، حتي يتحول الكائن البشري إلى شبح انه بحث ضمن الحقيقة وليس في حل مشكلة الحقيقة، كما في أعمال رضا حداد وإسماعيل الترك وآخرين .
الاسم: بنائية الأعمال عند النحات إياد، تستقي مرجعياتها من عدة مراجع بإبعادها المحلية والعالمية، ولكنه يصوغ خطابه عبر محاولته فهم ذاته، ووجودها وكيفية فهمه لهذه الذات والتعبير عنها، من دون أن تنفلت خارج واقعها ولتجد أرضية تقف عليها، أن الطريق طويل أمام شاب مثل النحات إياد حامد، والزاد قليل، لتحديد أبعاد الرؤيا لديه، ولكن هذا ليمنع أن نقول، إذا استمر علي هذا النهج في البحث والاستقصاء، فانه سيصل ويحقق ما يصبو إليه ، إما إذا أخذه الهوس بتحقيق النجاحات الآنية، بعدم الاستمرار في البحث والتقصي، ورفد ما يملكه من خزين معرفي، فسوف يقع في نفس ما وقع فيه الكثيرون، النسخ والإعادة والتكرار.
















قصة قصيرة ولادة -عادل كامل





قصة قصيرة

ولادة

عادل كامل

    وأخيرا ً، بعد انتظار زمن طويل، وضعت الأتان وليدها، فلم تنشغل إنها قد تكون تأخرت، أو ولدته قبل الأوان. بل لم يدر بخلدها إنها قد تكون أرغمت على الإجهاض، أو قد لا يكون المولود هو المنتظر!  فاستدارت، رغم شدة الظلام، لتلقي نظرة....،عليه، فأحست إنها لم تعد تتوجع، وإنها غير مضطربة، ورأسها غدا اقل ثقلا ً...، لكنها لم تر إلا كتلة لم تقدر على تحديد ملامحها... فارتبكت، للحظة، ثم راحت تتحسسه بلسانها، تلحسه، مستنشقة رائحته وهي تتخيله شبيها ً بمن وضعتهم من قبل. فقد منحها شعورها هذا إنها لم تتأخر، وان آلامها لم تذهب سدى، وإنها تستطيع أن تستريح، ولن تنشغل ما إذا كانت قد أرغمته بالخروج، مبكرا ً، أو تأخرت بولادته بعض الوقت، إلا إنها شعرت  بتشوش اضطرها للامتناع عن التفكير...، ذلك لأنها عندما لم تستطع إلا أن تعيش، في المزرعة، من غير إرادتها، فإنها ـ دار ببالها ـ لم تستطع أن تختار موتها بإرادتها أيضا ً، وليس عليها أن تذهب ابعد من ذلك!
ـ هذه هي المحنة تحديدا ً....
   مع إنها انشغلت بسماع صوته، يتكلم، إلا إنها استبعدت أن يكون هو من تكلم، وللتأكد راحت تشمه، وتتحسسه، مصغية لنبضات قلبه، وما كان يبثه جسده من حرارة لم تثر قلقها، إن كان فارق الحياة أو ولد معاقا ً...
ـ أن تكوني مرغمة على ... الحياة، وان تكوني بلا إرادة على اختيار الموت، تلك هي المحنة!
    لم تتردد من الاعتراف ـ مع نفسها ـ أن الصوت لم يأت من مكان آخر، ولكنها لم تصدق انه يكون حدس ما دار ببالها، وخاطبها، حول فكرة إنها طالما قاومت الذئاب، وتجنبت الضواري، من اجل إنقاذه، هو، وليس من اجل نفسها. فقربت رأسها كثيرا ً منه:
ـ هذه هي المحنة: انك ِ وجدت ِ صعوبات لم تسمح لك ِ إلا بالاختيار الذي يسمح لك بحملي...، طوال هذا الزمن!
    انه يفكر، بمعنى ـ هزت رأسها بذعر امتزج بالحذر ـ وقالت لنفسها، إنها ربما تكون مازالت نائمة، وإنها تحلم،  وان ما تراه، ربما إلا أصداء مخاوف، تآلفت معها، فصارت الذئاب، والضواري، والبشر جزء من منها، ومن خلاصها، رغم إن حملها كان على حساب تحملها المشاق، والأوزار...
ـ أبدا ً...، فالنائم لا يستطيع اختراع أحلامه!
   تذكرت إن جدها قال تلك العبارة، فحفظتها: الحمار لا يستطيع أن يصير إلا حمارا ً كي يحلم انه لم يعد حمارا ً! ذلك لأن الحلم هو الذي يستدرج الحمار إلى السبات!
ـ ولكنني قاومت المفترسات، وعندما أدركت  استحالة إحراز النصر...، أي نصر...، لم أجد حماية لي إلا في الهرب...، وليس في المواجهة...، فانا لم أكن أتوهم أحلامي...، أو ادعها تستدرجني إلى الوهم!
    هزت رأسها بعنف، ممتلئة بالغيظ أن تكون مازالت نائمة، أو إنها عرضت  حياة ابنها للخطر، في ركن قصي داخل حظيرة الحمير والبغال ..
   لكنها عادت تسمع ما يشبه الصوت، وهي تتأمل لمعان نجوم نائية بدت لها تماثل لمعان أنياب ذئاب كفت عن العواء، لتقرب رأسها منه لعلها تفند ما إذا كانت تعاني من الحمى، أو الإعياء:
ـ لا! فانا لم أتأخر ...، ولم أسرع...، مع إنني كنت طوال الوقت أدرك محنة إنني أنا ـ معك ـ لم أكن امتلك إلا قدرة أن أميز بين أن أدرك إنني كنت مرغمة على البقاء حية، أو استحالة أن أقرر قرارا ً مغايرا ً، يتنافى والأعراف...!
ـ آ ...
تأوهت: كأنه سمعني وهو يترنم بكلماتي! وأضافت: بل يكاد يستنسخها بحذافيرها.
  ورفعت صوتها:
ـ ولكنني حرصت أن لا أربكه بما كنا نخشاه، وما كان يفزعنا... بعد أن أفلحت بتجنب الضواري...، والبرمائيات الشرسة، وكل ما ينتسب إلى ذوات المخالب، والأنياب...، بل تجنبت حتى تلك التي تخفي عنا مكرها، ووسائلها الدفينة في إظهار الوداعة، واللطف...
ـ تلك هي...
    وعندما لم تر ضوءا ً يساعدها بسماع  صوتها، أو صوت الآخر، أغلقت فمها، كي لا يربكها الصدى. إنما كانت لا تمتلك قدرة إيقاف ما لا يمكن إيقافه، الشبيه بنزف يحدث قبيل تلقي وخزات الموت، وصمته، فقالت تخاطب لا احد:
ـ بالفعل...، هذه هي المحنة...، لا أنا استطعت أن أعيش بسلام، ولا أنا استطعت أن اختار موتي بكرامة!
  تجّمدت، لأنها سمعته يقهقه:
ـ هذه هي المحنة...، الحالم يعتقد انه آفاق...، لينقذ مصيره....، ثم يكتشف انه لم يستطع أن يفعل شيئا ً ما أبدا ً....
ـ كأنك ِ ....!
   ذعرت أن تكون سمعت صوت جدها هو الذي كان يتكلم، لأنها كانت قد رأت مصيره أمامها وجسده تمزقه أنياب الكلاب ...، ثم هل أكون....
   أضافت وهي تلامس جسد وليدها الطري:
ـ أكون .... طوال هذه السنين...، حملت ..
ـ هذه هي المحنة....!
   وودت لو صرخت أو استنجدت، ولكنها خافت أن تلفت سمع احد، والليل امتد حتى بدا لها انه ذهب ابعد من مداه، فهمست في أذنه:
ـ اسكت!
     فتندر قائلا ً:
ـ لكن هذا لن يقلل من المصيبة، ولا يعجل فيها....
ـ المصيبة...؟
    فوجدت ردا ً سمح لها بالإصغاء:
ـ  بل شيئا ً شبيها ًبها...، لأن المصيبة سابقة علينا!
همست بذعر اشد:
ـ ماذا قلت؟
ـ أقول إننا سنتوارى ولكن المصيبة وحدها وجدت كي تدوم، وتبقى...، فهي وحدها لا تفنى!
ـ آ ...... يا جدي!
   تمرغ وليدها بالتراب من شدة الضحك:
ـ أنا وليدك ...، أنا هو من سبب لك ِ العذاب...، أنا هو من أمضيت حياتك تكافحين من اجله...، أنا وليدك ....، فافرحي!
ـ أفرح؟
ـ نعم...، وإلا ... هل هناك لغز غير هذا اللغز أبى إلا أن يمتد...، وأبى إلا أن تكون له خاتمة أخرى...؟!
ـ كأنك ـ مثل جدك ـ تقول لي: ليس إلا النجوم تلمع في ظلمات هذه السماء!
رفع صوته:
ـ وإن كنت لا أود أن أتلفظ بكلمة نابية، يا أمي، إلا انك ـ كجدي ـ تحملين بذرة المكر، والفسق...، وإلا لكنت قلت لي: لا جديد بإمكاننا استحداثه إلا الذي علينا حمله..
ـ أنت قصدت: لا جديد تحت الشمس؟
ـ لا...، لأن الشمس أصبحت عتيقة، مثل سقراط، لأن الشمس، مع هذه الأرض، كلاهما لن يقدرا إلا على الامتداد....، لأنهما، كلاهما له تتمات لا يمكن إلا أن تستكمل....، وإنهما لا يقدران على دحض ما هو أكثر قدما ً من القديم!
ـ الآن لا اعرف أأقيم لك جنازة ....، أم احتفل بعيد ميلادك...، أيها الولد الغريب؟
ـ مادمت ِ لا تقدرين أن تحتفلي بعيد مولدي، فأنت لا تقدرين أن تقيمي جنازة لي أيضا ً! ولكنك، أيتها العنيدة، لم تكن لديك إرادة في موتي، لأنك كنت مرغمة على حملي، وعلى ولادتي...، فأنت غير مذنبة، ولكنك غير بريئة أيضا ً، وهذا هو ما  قصده جدي بالمعضلة. فلا أنت ستمتنعين عن إكمال ديمومة هزيمتك، بوصفها نصرا ً، ولا المنتصر سيحفر قبره بمخالبه ويكف عن الاحتفال بهزائمه! فالجديد لن يغوينا، بل يرغمنا طوعا ً، ولا القديم ينغلق،  بل يجد ألف ألف ألف غواية كي يحافظ على ذهابه ابعد من ميلاده، وابعد من موته. فهو وحده الذي لا يموت!
ـ ها أنت ملأت روحي بالمسرة....!
ـ آمل لها أن تدوم...، رغم إنني بدأت استنشق رائحة الشمس!
ـ آ ....، تلك حكاية أخرى...
ـ لا...، إنها الحكاية ذاتها، لكن لا خاتمة لها! لأن المنتصر وحده لا يجيد إلا إخفاء هزيمته...
ـ ها أنت تؤكد: لا جديد تحت الشمس؟
ـ ولكن ، حتى بحدود عقل حمار يفكر، أقول لك ِ: لو دام القديم أكثر من مداه...، فما أقسى أن تغوينا المسرات بخاتمتها؟!
ـ آ ....،  أصبحت اجهل أولدت أبنا ً أم أبنا ً ولدني؟!
ـ الحفيد... يلد جده...، وهذا هو لغز الحكاية، لأن الجد هو ذاته ابن حفيده...، لأن المعضلة التي لا حل لها ليست معضلة، وهكذا: أنا ولدت أمي، لأنها هي من ولدت أسلافي، وهذا هو لغز المسرة، تفترس موتاها، لتلد الذي يحتفل بالميلاد!
1/2/2016
 اللوحة للفنانة المصرية: اميمة رشاد

الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 2/3 - سعد محمد رحيم


الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 2/3

 

سعد محمد رحيم
     
 
أما رواية ( الأمريكان في بيتي ) لنزار عبد الستار فتبدأ بمشهد ساخر يرسمه لنا الراوي بضمير المتكلم ( جلال ) الذي وقف وإلى جانبه زوجته حنان، يحلق لحيته ويغني بعد ليلة عصيبة احتلت فيها قوة عسكرية أمريكية بيته في مدينة الموصل حيث أمضى الجنود أكثر من ساعة يراقبون الشارع من نافذة غرفة الطابق العلوي ويعبثون بأغراض البيت.. يقول؛ "بللت وجهي بكالونيا أولد سبايس لتطهير مسالكي التنفسية من رائحة الزيت المحروق التي أشاعها تنفس الجنود الأمريكان". لكن هذا لا ينهي محنته بأية حال. فليست هذه هي المرة الأولى التي يفعلون فيها ذلك، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. أما المشكلة الأكبر فليست في أن أولئك الجنود يلقون في نفوس أفراد عائلته الروع، ويسلبونهم راحتهم في وقت النوم فقط. وإنما يوصمونه ( هو الصحافي والناشط في المنظّمات المدنية ) بتهمة التواطؤ مع قوات الاحتلال أمام الناس، ومنهم جماعات متطرفة ومتعصبة لا تفهم ملابسات ما يحدث. وعليه أن يبرِّر أمام الآخرين موقفه. وأن يتخذ قرارات حصيفة في ظرف مبلبل ومشوش.
تعد رواية ( الأمريكان في بيتي ) وثيقة ذات مضمون واقعي وتاريخي تستثمر المتخيّل لتحكي عن كفاح مدينة عريقة هي الموصل، في السنوات الأولى بعد الاحتلال، من أجل استرداد حقها في حياة حرّة ومبدعة تحاول قوى ظلامية سحقها وإفراغها من روحها الحضارية.
يستعير د. محمد برادة في كتابه ( الرواية العربية ورهان التجديد ) مفهوم جاكبسون لـ "التلفظ"، والذي يعني "أثر الذات ( الكاتبة ) على نص ما"، فتمثل الكتابة عندئذ "جماع تفاعل وعي الكاتب مع شروطه التاريخية وأسئلة ذاته المنقسمة داخل مجتمع يمور بالفوارق والصراعات والاستلابات". فيتخذ الكاتب موقفاً من عصره "عبر الاستتيقا وإعادة تأويل القيم من زاوية تزاوج بين توضيع الذات، وتذويت المجتمع، بين التمثّل الواعي ومكنونات اللاوعي". ثمّ يعرّج إلى ما يسميه "استقلالية النص الروائي وتذويت الكتابة". وبالتذويت، مع ما يوضح برادة، نصغي إلى صوت الفرد الذي بقي لزمن طويل مستلباً ومخنوقاً، ومصادراً في خطاب إجماعي مؤدلج وشعاراتي، ولغة فاشية مغتصبة ومتخشبة.
تفتح الرواية بصوت الرواة الخارجين عن الطاعة كوّة أولى للحرية والعقل، مشرعة لعتبة حياة جديدة متنورة.
الذات وآخرها
تبقى الهوية مختزلة، ناقصة، هشة، مترددة، ما لم تتضمن صورة الذات وآخرها. الذات وقد تمثلت، من بعد رؤية وحوار، آخرها. إن غياب الآخر أو إقصائه وسلبه حقه في الكلام يجعل من صوت الذات ذي بعد واحد.. أنا لن أعرفك إلا في مواجهة آخرك.. لن أتعرف على موقعك إلا إزاء موقع آخرك.. وهذا ما غاب عن كثر من الروايات العراقية والعربية أيضاً.
"إن الهوية بما هي نتاج تاريخ ومكوّن له منحوتة كما لو كانت ذاتها والآخر الذي يمثل أمامها. إن الذات ومنذ الأمد مسكونة بالغيرية فـ ( الذات عينها ) هي ( الآخر ). مما يحملنا على القول أن الحياة سرد أو هي للسرد. فلا تتحقق الهوية إلا بالتأليف السردي حيث يتشكل الفرد والجماعة معاً في هويتهما من خلال الاستغراق في السرديات والحكايات التي تصير بالنسبة لهما بمثابة تأريخهما الفعلي"(3).
محدودية وجود الآخر في الفضاء السردي للرواية العراقية مردّها إلى عزلة المجتمع العراقي التي فرضتها الحكومات الشعبوية الثوروية المتعاقبة. فمعظم العراقيين لم يقابلوا شخصيات أجنبية، ولا يتقنون لغة أخرى.. إن الأجنبي في الاعتقاد العراقي الشائع، وهو ما كرسته الإيديولوجيات الراديكالية؛ العلمانية منها والدينية، هو مريب، نجس، سيء النية، متآمر، جاسوس، عدو، ومن الخطورة بمكان الاتصال به. لذا لم يكن الحوار مع الآخر/ غير الوطني، ثيمة متداولة في الرواية العراقية. فالآخرون لا يظهرون إلا كأطياف غريبة في تلكم الروايات.
واحد من أهم أسباب افتقادنا للمتعة في قراءة كثر من الروايات العراقية هو أنها منغلقة على الداخل؛ ( النفس، البيت، المدينة، الوطن ) أكثر بكثير من انفتاحها على خارجها. وبذا فإننا في القليل النادر نقع على رواية بوليفونية، وإن حصل فإنها تظل محدودة وناقصة.. فمثل هذه الرواية هي نتاج رؤية نرجسية، ضيقة النظر، وقامعة.
إن الذات في الفضاء الثقافي ـ الاجتماعي كينونة حوارية، فهي تستدعي الآخر لأجل أن تثبت ذاتها في مقابل ذلك الآخر، ساعياً إلى الحصول على اعترافه.. فنحن نتشكل في المبدأ الحواري، والتشكّل هذا عملية مستمرة لا تنتهي إلا مع الغياب الفيزيقي الحتمي للذات الإنسانية، أي الموت.. إن طرد الآخر من مجال الفاعلية والوعي قد يرفع من منسوب النرجسية، لكنه يصيب الهوية بالتكلس والضمور.. الهوية المتورمة بالنرجسية تقلل من فرص الحضور الفعال في العالم، وتحفِّز جرثومة التلاشي والموت.
ومثلما قلنا؛ لم يُمنح الآخر مساحة كافية في الرواية العراقية ليقول رأيه ويمثل نفسه.. إنه مقموع بالصوت الواحد الذي يستلبه ويمثله في صورة مختزلة شوهاء. وهذه السمة تكاد تكون ظاهرة في الرواية العربية، إلا باستثناءات، والتي أفقدتها صدقيتها، فما باتت مقنعة بعد ذلك.. تقول د. ماجدة حمود في كتابها ( إشكالية الأنا والآخر )، أن الرواية العربية: "ألغت صوت الآخر، في أغلب الأحيان، فافتقدنا اللغة المتعددة ( الغيرية ) مما أفسح المجال لهيمنة صوت واحد هو ( أنا ) المؤلف، الذي اعتنى بالشخصية الرئيسية، التي تمثل وجهة نظره في الحياة، وأهمل وجهة النظر الأخرى، التي تناقضه، أو في أحسن الأحوال قدّمها بطريقة مبتسرة، ومشوهة، فبدت مقموعة، تعاني استبداد مؤلفها، وهيمنة صوته عليها، وإقصائه لفرادتها، مع أن الشخصية التي لا تحمل بصمتها الخاصة، والتي توحي باستقلاليتها، تبدو هزيلة على المستوى الفني، تعاني استلاباً جمالياً، وقد عانت الرواية العربية مثل هذا الاستلاب، الذي يعكس استلاباً فكرياً"(4).
تواجه ( نجاة ) بطلة رواية ( الشاهدة والزنجي ) لمهدي عيسى الصكر مرغمةً ( الآخرَ ) في موقف دراماتيكي مؤلم، بعد أن تنزل قوات المارينز الأميركية في البصرة وتعسكر فيها، ( هذا في المتن الحكائي للرواية قبل نزول تلك القوات، بعد عقود، في المكان ذاته في الواقع التاريخي ).. الآخر الغازي الذي حضر قسراً، ينتهك بسلطته القاهرة وجودها الهش.. يغويها أحدهم ( إبراهيم ) ويستدرجها إلى أحد البساتين ليلاً، وهناك تتعرض للاغتصاب من قبل اثنين من الجنود الأمريكان وهما من أصل أفريقي. وحين تداهم الشرطة العسكرية الأمريكية المكان يضطر أحد المغتصبين إلى قتل شرطي عسكري، ويهرب الاثنان.
هذه المصادفة التعيسة تجعل من نجاة شاهدة على جريمة القتل تلك، حيث يكون عسيراً عليها تمييز وجه الجاني بعد ذلك، حين تُعرض عليها عشرات الوجوه من ذوات البشرة السوداء، فيلتبس عليها الأمر.. هنا تشعر بذاتها ضائعة ومستلبة الإرادة إزاء ( الآخر ) الذي لا تستطيع تحديد هويته. وبطريقة ما تجد نفسها متورطة في هذه القضية التي فضحتها أمام الناس، وبسببها طلقها زوجها.
ليس لنجاة أن تحتج، وصوتها يبقى خافتاً دائماً وخائفاً، فهي الشاهدة التي تكاد أن تكون متهمة أيضاً، أو على الأقل متواطئة في حادث قدري تعرضت له بسبب سوء الحظ وسوء التقدير.، وفي النهاية ليس لها إلا إعادة تجربة الاستجواب المرهقة للأعصاب، مراراً وتكراراً، والتي لا تبدو أن لها نهاية.
إن واقعة الاحتلال ( الاغتصاب ) تجعل بطلة الرواية تصحو على واقعها الكابوسي الشائك.. نقرأ في الرواية؛ "هل جاء مزيد من الجنود الأمريكيين لاغتصابها، الواحد بعد الآخر؟". وها هي تخسر كل شيء، في هذه المواجهة غير العادلة، قبل أن تخسر حياتها أيضاً. حيث يكافئ فعل الاحتلال فعل الاغتصاب الذي ما كان له أن يقع لولا غفلتها هي، ولولا خيانة وجبن من قادها إلى ذلك المصير التراجيدي.
يتسقط الراوي الذي لا اسم، ولا ملامح له، في رواية ( سابرجيون ) لعامر حمزة شظايا تاريخ مكان ما، مضمخ برائحة زمن فردوسي آفل.. هذا النص هو الآخر من الصعب تصنيفه في خانة الرواية لأنه مشبع بتفاصيل سِير أشخاص غائبين. فهل نقول أنه المثال للسيرة/ الرواية إن صح لنا اجتراح مثل هذا الاصطلاح المركّب؟!. والغريب أن الراوي لا يتكلم عن نفسه.. إنه الشاهد الكاتب الذي يسترجع ذكريات حميمة مفعمة بالشجن والوجع. فصوته يصلنا من غير أن نراه. فهو يحدِّثنا بضمير الجمع ( نحن ). لكننا لا نستطيع أن نتخيله إلا فرداً يشبه الآخرين، وقد أمضّه حبه لهم. و ( سابرجيون ) كما ( الحلم العظيم ) تحكي عن حلم تبدد في غياهب الزمان. وهو حلم جمعي يتصل بتاريخ وطن؛ ارتقاؤه وانحداره.. مسرّاته وأوجاعه. فبعد ذبول الأشياء التي تربطه بها واختفاء الشخصيات من على مسرح الواقع، وتشتتها في كل فج عميق؛ بعضهم أخذته المنافي وبعضهم طواهم الموت، وبعض ثالث قيدوا في سجل مجهولي المصير، تعيد لهم ذاكرة الراوي الحياة عبر السرد..
تجري الأحداث على خلفية مشهد سياسي متقلب مضطرب عنيف وقاتم... إذ كانت نذر الهول تتجمع، هناك، في أفق النظر.. في البدء لم يأبه أحد، وكأن سلام الدنيا وجمالها مصانان بقوة علوية غامضة.. وكأن كل شيء يسير على وفق المنطق الإنساني السليم.. لم يتنبه معظم الناس لما يحدث تحت الجلد الرقيق للواقع، وكيف تنخر دودة صغيرة، لئيمة في قلب العالم، تتكاثر بالانشطار، تسد الشرايين، وتهدد الحياة.
يقدّم الراوي الشخصيات غالباً بصيغة الجمع، أو في حالة تجاور وتعاضد، وكأن لا معنى لوجود أي منها إلا في ظلال الآخرين. "حياة وجدنا فيها ( روميل ) بعينيه الصفراوين الباهرتين بنظارته البيضاء بإطارها الأسود برائحة أحاديثه و ( ميري ) بأغنيتها الأثيرة دمعي شهودي، و ( ريمون ) بزغب جسده المذهَّب وحركة يديه العازفتين، والخياط بأولجيه المرقّم ومقصِّه الضخم ومرايا الحياة التي أمامه.. حياة وجدنا فيها ( أوسي ) بنزقه ونضجه.. حياة وجدنا فيها ( كاكا خالد ) و ( كاكا سردار ) يفرّان من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، مالئين جرارهم الفضية بعشق ذلك العيد الكبير".
تختصر الرواية/ السيرة ( سابرجيون ) الزمن العراقي المتعرج والمتداخل، والحلم العراقي، والمحنة العراقية، من غير مواقف طنانة مفتعلة.. إنها بانوراما عريضة لذلك التنوع الأثني الوطني المتعايش الذي فتكت به السياسة وألاعيبها.. أو أنها ترنيمة حزينة في رثاء ما اختفى، ولكن ليس من غير بصيص أمل في النهاية.. فها هو محمد ( شخصية في الرواية ) يتلقى إيميلاً من ( ديانا )، وللأسماء هنا دلالاتها الاجتماعية؛ "هل تذكرني أنا من أطلقتَ عليها اسم البرنسيسة". هذه الرسالة التي ستجعله يخرج من عزلته صارخاً في ظلام الحي الطويل؛ "إيشا معي، البرنسيسة معي، ذاهباً حتى الطرف الآخر من الحي عند كنيسة المار كوركيس... مارا بالشوارع الواحد تلو الآخر، غير عارف بما يفعله بنوره الخاص، بفرحه الخاص.. فرحه اللذيذ.. فرحه الذي لن يقدر على إخفائه مرددا لمرات ومرات أغنيته.. أغنية ضيائه وعذابه.. أغنية حياته الأولى والأخيرة ( سابرجيون كخدرين بنوشي.. جوالاً أروح وأجيء لوحدي )".
إن الحرية الحقيقية التي تُكتب بهديها الرواية الحديثة هي في تحرير رؤيتنا إلى العالم مما علق بها من قيم سقيمة متخلفة.. لا معنى في تحرير الشكل الروائي ما لم يترصن ذلك بوجهة نظر عصرية متقدمة ذات مضمون إنساني تنويري إلى أنفسنا وإلى الآخر وإلى الحياة. فالرواية هي خطاب الحياة في عصر القسوة والعنف واللاتسامح. فقد يمجد الروائي القيم الإنسانية العليا ظاهرياً في عمله، ولكن المهم ألا تكون رؤيته المضمرة، في لاوعي العمل ونسيجه، مغرقة بكراهية الآخر، أو ازدرائه، أو بالنرجسية المريضة المتورمة، أو متضمنة لما يحط من قدر المرأة لا يتغنى إلا بجسدها الذي يجده موضع متعة أنانية وتسلية.. فالمعيار للتحرر من التابو الجنسي ليس في كم المشاهد الخليعة وإنما في تمثيل المرأة كياناً حراً إنسانياً مبدعاً مشاركاً في الفعالية الحضارية، وحتى في الفعل الجنسي، بوصفها الطرف المكافئ الذي به يتوازن الكون، وتتوطد قواعد المدنية.. هنا فقط يصبح المشهد الجنسي ترنيمة إنسانية حرّة، وذروة شعرية مشعة، يتألق خلالها كائنان ينتصران للحياة والحرية.