رشيد المخبّل
أحمد الحلي
كيف تكون مجنوناً ولا تعرفك المدينة ؟
كثيرةٌ هي الأبحاث والكتابات التي تناولت ثيمة الجنون ، هذا العالم الشائك الفسيح والغريب ، الذي من شأنه أن يثير من حولنا جملة من التساؤلات التي لن نعثر لها على حلولٍ ناجعة وشافية ، لسنا هنا بصدد الوقوف عند هذه الظاهرة أو إيجاد تحليل لها ، فلمثل هذه المهمة خبراؤها والمختصون بها وهم علماء النفس .
على أننا وقبل كلِّ شيء ، نود أن نثبّت بعض الجمل الموحية التي رسمت ملامح وأعطت مؤشرات ، فقد أبدع بعض أصدقائنا الشعراء في رسم صور غاية في الجمال والإتقان ، ونحن هنا نتحدث عن الشاعر صلاح حسن الذي أطلق في ديوانه "مسلة الرماد" صيحته الشهيرة ؛
أنا مجنون لسبب وأنتَ عاقلٌ بلا سبب
لتبقى أصداؤها وانعكاساتها تتردد بيننا ومن حولنا بلا انقطاع ...
يعرف الجميع أن رشيد الملقّب بالأستاذ أو المخبّل يخشى الجلوس في هذه المقهى ، وإن بقي سحرها حاضراً في مخيلته ، والسبب فيما يبدو أنه وقبل أن يداهمه الجنون ، كان يخوض فيها مع بعض أصدقائه من مثقفي المدينة حوارات وسجالات فكرية ساخنة ، فهو كان يعمل مدرّساً لمادة اللغة العربية في إحدى ثانويات المدينة ، وكان محباً للاطلاع ونهماً لقراءة مختلف أنواع الكتب ولا سيما التاريخية والفلسفية والفقهية ، قيل عنه إنه كان قاسياً جداً مع طلابه ، وإنه كانت تنتابه نوبات شديدة الوطأة بحق بعض طلابه المشاكسين فيعمد إلى ضربهم بكل ما أوتي من قوة ، خاصة وأنه يمتلك قامة مديدة وجسد مفتول العضلات ، وفي إحدى هذه النوبات ضرب أحد طلابه فكسر يده ، وهناك من يؤكد أن الضربة تسببت بمقتل الطالب ، الأمر الذي أدى إلى فصله من وظيفته .
وقد ترك ابتعاده عن الوظيفة ، وكذلك توقيفه وسجنه في نفسه أثراً مدمراً ، فلم يجد ما يفعله بوقته الفسيح ، سوى أن يذرع الشوارع بجيوب فارغة وهو يسب ويلعن ويتعمّد أن يصدم المارة ولا سيما الفتيات ، فإذا اعترضه أحدهم هاجمه بكل وحشية ، ومن أجل ذلك كان الجميع يخشونه ويتحسّبون له .
وأخيراً ، تم إبلاغ بعض الحزبيين ، فرفعوا الأمر للأجهزة الأمنية باعتباره خطراً يهدد أمن المواطنين ، سارعت هذه فألقت القبض عليه ، وقيل إنه بقي تحت عنايتهم ورعايتهم المركّزة أكثر من شهر ، ليخرج بعدها مهدود القوى ، وازداد هذيانه ، ثم ليدخل بعدها في طور الجنون المطبق ، وإن كانت تأتيه بعض لحظات من الصحو ، فيأخذ يستحضر من الكتب التي قرأها بعض الجمل والمسائل التي تتضمن أفكاراً ويلقيها بصوته الملائي الأجش على المارة من حوله وهو جالس على الرصيف خارج المقهى يدخن بشراهة ممسكاً عصىً قصيرة غليظة لا يتوانى عن استعمالها ضد كل من يعترض طريقه أو يسخر منه ...
سألت بعض الأصدقاء عن سبب امتناعه من دخول هذه المقهى ، وخاصة في الأوقات التي يكون الجو فيها بارداً أو شديد البرودة ، فيخبرني أنه طالما حدثت مشادات كلامية كثيرة في السابق بينه وبين بعض الشيوعيين الذين كانوا على الدوام يسفّهون آراءه ويفنّدون مزاعمه ، ومن أجل ذلك فهو ينفر منهم ومن مقهاهم ، ولكنه ، مع ذلك يبقى يحن إليها ...
في بعض الأوقات تبدو الصورة المرتسمة في ذهنه عن بعضهم شديدة الوضوح ، حين يخرج أحدهم من المقهى يرمقه بنظرة مستخفه يتبعها بجملته الشهيرة ؛ أبو فسوة ، أحمر ! وإذا مر من أمامه من يعتبره أقل شأناً تكون الجملة هكذا ؛ أبو فسيوة ، أحيمر !
وإبان فترة الحصار القاسي ، عانى غالبية الناس من الجوع وخواء المعدة ، إلا رشيد ، ازداد شراسة وقسوة تجاه أصحاب المطاعم ولا سيما تلك التي تبيع الگص ، فيقف مبهوراً أمام الشيش ، ويأمر العامل بأن يقص له من الشيش ، فيقتطع له ما يشاء ، فيأخذ بتعبئة عدد من الصمون ، وإذا كان العامل جديداً أو حاول منع رشيد فتلكّأ بتنفيذ مطالبه فإنه يقلب الشيش على رأسه ويأخذ بتحطيم كل شيء ، ومن أجل ذلك فإن هناك اتفاقاً سرياً مضمراً بين رشيد وبين أصحاب المطاعم ، حيث يتم استقباله بصدر رحب ومن دون جلبة وتصبح الأمور وكأنها قضاءً وقدراً ...
يتوجب عليك ، إذا رأيته يمشي على الرصيف ، أن تتنحى جانباً وأن تفسِحَ الطريق له ، حتى يمرَّ ويمضي ، وكأنك بإزاء إعصار ، ولكنك إذا أرهفت السمع له ، فستطرق سمعك جملة اعتاد أن يرددها مراراً وتكراراً وهي ؛ " أمشي وأنا نائم ، نائم وأنا أمشي !
في بعض أوقات صحوته ، لا يتوانى عن تناول بعض المماحكات الكلامية ومن ضمنها استفساره حول الآية القرآنية ؛" وما تلك بيمينك يا موسى" ، فيعقب قائلاً بصوته الأجش ؛ هل يُعقل يا رب العالمين أنك لا تعرف ما بيمين موسى حتى تسأله هذا السؤال الذي لا معنى له ؛ " يعني أنته تغّشّم روحك " ؟!
ومع أنه دخل عالمَ الجنون بصورة قطعية ورسمية ، إلا أن الجميع ظلوا ينادونه بـ الأستاذ ، وظل هذا اللقب لصيقاً به حتى النهاية ، وإن بدأ لقب آخر بالبروز أيضاً وهو ؛ رشيد المخبل .
لا أحد يعلم على وجه اليقين كيف يقضي المجانين الهائمون على وجوههم أوقات ليلهم ، وربما لا يعلم غالبيتنا أين ينامون ، ولكن ، من المؤكد أنهم يختارون أمكنتهم التي لا تعدو أن تكون خرائب المدينة المهجورة ، يتشاطرونها مع الكلاب الضالة التي تخرج ليلاً وتهجع نهاراً ، فيتخذ كل منهم مأواه بحسب قدرته على فرض نفسه ووفقاً للتعاطف الذي يبديه الناس القاطنون بالقرب من هذه الأمكنة ، وبطبيعة الحال فإن مجنوناً مثل رشيد لديه كل هذه السطوة والقوة الجسمانية سيعثر على المكان الأفضل ، فها هو في إحدى ليالي الشتاء يتدثر ببطانيتين سميكتين وإن كانتا قذرتين
وإلى جواره ثمة امرأة ، أجل امرأة !
إنها سعدية المجنونة أيضاً بجسدها النحيل الضئيل ، والتي وجدت فيه ما يُطمئنها ويوفر لها الحماية من هجمات بعض الشبان الليلية ، وقد عرف الجميع أنها مسكينة وسلسة القياد ، حتى أنها ربما تغيب عن رشيد ثلاث أو أربع ليالٍ متتابعة ، لتأتي بعدها منهوكة القوى تفوح من فمها رائحة الخمر وإن كانت جيوبها مليئة النقود التي يغدقها عليها بسخاء بعض سواق السيارات الماجنين ، يبقى رشيد واجماً شارد الفكر معطياً ظهره إليها ، ممتنعاً عن التحدث معها ، هي تحاول أن تكلمه ولكنه لا يستجيب ، إنه الآن هامد مثل صخرة ، هو بالتأكيد يعرف كل شيء وأين كانت ، فالناس في المدينة يعرفون علاقتهما ، وبالأحرى هي من يتحدث ويهذي بأمر علاقتها به بوصفه زوجها ، فيُخبره بعضهم عن بعد على سبيل التشفي والمناكدة بأن زوجته سعدية كانت يوم أمس في أحضان بعض سواق سيارات النص ريم ، فيُعلّق قائلاً بصوته الأجش ؛
- أدري هاي البربوگـ ما تتوب !
وأخيراً وبعد مداعبات وتوسلات مصحوبة ببكائها وأنينها في بعض الأحيان يرق قلبه لها ، فتمد يدها إلى جيوبها وتخرج النقود وتفرشها أمامه ، يبدأ بعدّها ، وترتيبها ضمن فئات ، ثم يلفها في كيس ويخبّئها في مكان ما وسط فوضى غرفتهما العطنة ...
على أنه ، وهو في حمى النشوة يحتضنها ويشدّها إليه بقسوة وقوة ، حتى لتكاد أنفاسها أن تنقطع ، ما تلبث أن تتهادى وتتداعى إلى مخيلته في أحيانٍ نادرة صورٌ من الماضي السحيق ، فيرى وجه حبيبته المشع التي أضحت خطيبته فيما بعد ، كان هو في المرحلة الرابعة والأخيرة من كلية الآداب ، بينما هي في المرحلة الأخيرة من كلية الصيدلة ، وأثناء فترة غرامهما التي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات ، كانت الأنظار مصوّبةً على الدوام إليهما ، بوصفهما عاشقين مثاليين يطمح غالبية الطلاب في أن يحذو حذوهما في الوفاء وعمق المشاعر ، وكذلك في اعتنائهما المفرط بهندامهما ونوع العطر المميز الذي يستخدمه كلٌّ منها .
كانت مثل هذه الرؤى والأخيلة المزركشة تنتابه في أوقات نادرة جداً ، وإن كان يجد صعوبة بالغة في الوصول إلى وضوح الصورة المطلوب ، ثم ما يلبث أن يُسدل الستار ويتشوّش أمامه كل شيء ...
فكّر رشيد أنه ربما يداهم المنزل مفتوح الأبواب دوماً أحد اللصوص أثناء غيابهما ، فيستولي على مدّخراتهما وبعض أثاثهما ، فأحضر في إحدى المرات كلباً ضخماً ، الأمر الذي جعل رفيقته الوجلة تصاب بالهلع والذعر ، حتى أنها هربت واستمرت مختفية لمدة أسبوع ، وظل يفتش الخرائب بحثاً عنها ، وأخيراً عثر عليها ليصحبها معه عنوة ، وبعد أن هدأ روعها عاد الاطمئنان إليها رويداً رويداً ، وأصبحت تألف الكلب ويألفها كذلك .
حظي هذا الكلب السائب بدرجة باذخة من العناية والرعاية ما لم يُتحْ لكلبٍ سائبٍ آخر أن يحظى به ولا سيما الطعام الشهي الذي كان يجلبه له من أرقى المطاعم .
في يوم ما ، عاد رشيد إلى المنزل في وقت أبكر من المعتاد ، أقلقه أنه لم يسمع نباحاً مرحّباً بمقدمه ، وخشي أن يكون قد هرب ، أو اصطحبته كلبة معها ، خاصة وأنه في الآونة الأخيرة أخذ يسمعه وهو يصدر عواءً شجياً فهم منه أنه نوع من النداء لأنثى من بيني جنسه ، لعل إحداهن تأتي فتقيم معه في هذه البحبوحة .
سار بحذر بضع خطوات ليجد جثته متكوّمة في إحدى الزوايا ، وللحال أدرك أن كلبه لم يمت ميتة طبيعية ، فهو ، ولغاية الأمس كان في أوج قوته ونشاطه ، لا بد أن ما يخشاه ويتحسّب له وقع الآن ، هرع إلى الغرفة فوجد أغراضها متناثرة ومبعثرة ، أزاح بعض العاديات التي كانت على هيئة كدس صغير تفوح منه رائحة نتنة ومقززة ، مد يده ، لم يجد الصرة الخضراء ، مد يده إلى مكان آخر لم يعثر على شيء ، وأخيراً أدرك أن أحدهم دسَّ سُمّاً إلى كلبه ، ليستولي على مدّخراتهما التي هي حصيلة كدّهما لسنوات طوال ، غامت الدنيا أمام عينيه ، أحسَّ أن جسده بدأ ينهار ، وأن رجليه أخذتا ترتجفان ، بصعوبة بالغة جرجر نفسه باتجاه جثة كلبه جلس بقربه ، وأخذ يجهش بالبكاء المرير والعويل ، وفي اليوم التالي حمل بعض أغراضه وارتحل عن المكان .
يؤكد البعض ممن يسكن بالقرب من المكان أنهم سمعوا في تلك الليلة عواءً بشرياً مديداً لبعض الوقت ...
في مراحل لاحقة ، وفي حالات نادرة جداً ، إذا داهمه مرضٌ ما وأحسّ بشدة وطأته فإنه لا يجد مفراً من أن يجرجر قدميه نحو الصيدلية ...
يراها كما لو كانت هي المرأة ذاتها التي كانت تتمشى معه في باحة الكلية فلم يزدها تقدم العمرِ إلا سطوعاً وتوهجاً .
في لحظة صفاء ذهني نادر تنتابه ، يلقي كلٌّ منهما نظرة حيرى إلى الآخر تنم عن صدمةٍ وأسف ، يأخذ الدواء بيده المرتجفة ويخرج مسرعاً مرتبكاً ، تاركاً دمعة أو دمعتين على موازئيك الأرضية ....
أحمد الحلي
كيف تكون مجنوناً ولا تعرفك المدينة ؟
كثيرةٌ هي الأبحاث والكتابات التي تناولت ثيمة الجنون ، هذا العالم الشائك الفسيح والغريب ، الذي من شأنه أن يثير من حولنا جملة من التساؤلات التي لن نعثر لها على حلولٍ ناجعة وشافية ، لسنا هنا بصدد الوقوف عند هذه الظاهرة أو إيجاد تحليل لها ، فلمثل هذه المهمة خبراؤها والمختصون بها وهم علماء النفس .
على أننا وقبل كلِّ شيء ، نود أن نثبّت بعض الجمل الموحية التي رسمت ملامح وأعطت مؤشرات ، فقد أبدع بعض أصدقائنا الشعراء في رسم صور غاية في الجمال والإتقان ، ونحن هنا نتحدث عن الشاعر صلاح حسن الذي أطلق في ديوانه "مسلة الرماد" صيحته الشهيرة ؛
أنا مجنون لسبب وأنتَ عاقلٌ بلا سبب
لتبقى أصداؤها وانعكاساتها تتردد بيننا ومن حولنا بلا انقطاع ...
يعرف الجميع أن رشيد الملقّب بالأستاذ أو المخبّل يخشى الجلوس في هذه المقهى ، وإن بقي سحرها حاضراً في مخيلته ، والسبب فيما يبدو أنه وقبل أن يداهمه الجنون ، كان يخوض فيها مع بعض أصدقائه من مثقفي المدينة حوارات وسجالات فكرية ساخنة ، فهو كان يعمل مدرّساً لمادة اللغة العربية في إحدى ثانويات المدينة ، وكان محباً للاطلاع ونهماً لقراءة مختلف أنواع الكتب ولا سيما التاريخية والفلسفية والفقهية ، قيل عنه إنه كان قاسياً جداً مع طلابه ، وإنه كانت تنتابه نوبات شديدة الوطأة بحق بعض طلابه المشاكسين فيعمد إلى ضربهم بكل ما أوتي من قوة ، خاصة وأنه يمتلك قامة مديدة وجسد مفتول العضلات ، وفي إحدى هذه النوبات ضرب أحد طلابه فكسر يده ، وهناك من يؤكد أن الضربة تسببت بمقتل الطالب ، الأمر الذي أدى إلى فصله من وظيفته .
وقد ترك ابتعاده عن الوظيفة ، وكذلك توقيفه وسجنه في نفسه أثراً مدمراً ، فلم يجد ما يفعله بوقته الفسيح ، سوى أن يذرع الشوارع بجيوب فارغة وهو يسب ويلعن ويتعمّد أن يصدم المارة ولا سيما الفتيات ، فإذا اعترضه أحدهم هاجمه بكل وحشية ، ومن أجل ذلك كان الجميع يخشونه ويتحسّبون له .
وأخيراً ، تم إبلاغ بعض الحزبيين ، فرفعوا الأمر للأجهزة الأمنية باعتباره خطراً يهدد أمن المواطنين ، سارعت هذه فألقت القبض عليه ، وقيل إنه بقي تحت عنايتهم ورعايتهم المركّزة أكثر من شهر ، ليخرج بعدها مهدود القوى ، وازداد هذيانه ، ثم ليدخل بعدها في طور الجنون المطبق ، وإن كانت تأتيه بعض لحظات من الصحو ، فيأخذ يستحضر من الكتب التي قرأها بعض الجمل والمسائل التي تتضمن أفكاراً ويلقيها بصوته الملائي الأجش على المارة من حوله وهو جالس على الرصيف خارج المقهى يدخن بشراهة ممسكاً عصىً قصيرة غليظة لا يتوانى عن استعمالها ضد كل من يعترض طريقه أو يسخر منه ...
سألت بعض الأصدقاء عن سبب امتناعه من دخول هذه المقهى ، وخاصة في الأوقات التي يكون الجو فيها بارداً أو شديد البرودة ، فيخبرني أنه طالما حدثت مشادات كلامية كثيرة في السابق بينه وبين بعض الشيوعيين الذين كانوا على الدوام يسفّهون آراءه ويفنّدون مزاعمه ، ومن أجل ذلك فهو ينفر منهم ومن مقهاهم ، ولكنه ، مع ذلك يبقى يحن إليها ...
في بعض الأوقات تبدو الصورة المرتسمة في ذهنه عن بعضهم شديدة الوضوح ، حين يخرج أحدهم من المقهى يرمقه بنظرة مستخفه يتبعها بجملته الشهيرة ؛ أبو فسوة ، أحمر ! وإذا مر من أمامه من يعتبره أقل شأناً تكون الجملة هكذا ؛ أبو فسيوة ، أحيمر !
وإبان فترة الحصار القاسي ، عانى غالبية الناس من الجوع وخواء المعدة ، إلا رشيد ، ازداد شراسة وقسوة تجاه أصحاب المطاعم ولا سيما تلك التي تبيع الگص ، فيقف مبهوراً أمام الشيش ، ويأمر العامل بأن يقص له من الشيش ، فيقتطع له ما يشاء ، فيأخذ بتعبئة عدد من الصمون ، وإذا كان العامل جديداً أو حاول منع رشيد فتلكّأ بتنفيذ مطالبه فإنه يقلب الشيش على رأسه ويأخذ بتحطيم كل شيء ، ومن أجل ذلك فإن هناك اتفاقاً سرياً مضمراً بين رشيد وبين أصحاب المطاعم ، حيث يتم استقباله بصدر رحب ومن دون جلبة وتصبح الأمور وكأنها قضاءً وقدراً ...
يتوجب عليك ، إذا رأيته يمشي على الرصيف ، أن تتنحى جانباً وأن تفسِحَ الطريق له ، حتى يمرَّ ويمضي ، وكأنك بإزاء إعصار ، ولكنك إذا أرهفت السمع له ، فستطرق سمعك جملة اعتاد أن يرددها مراراً وتكراراً وهي ؛ " أمشي وأنا نائم ، نائم وأنا أمشي !
في بعض أوقات صحوته ، لا يتوانى عن تناول بعض المماحكات الكلامية ومن ضمنها استفساره حول الآية القرآنية ؛" وما تلك بيمينك يا موسى" ، فيعقب قائلاً بصوته الأجش ؛ هل يُعقل يا رب العالمين أنك لا تعرف ما بيمين موسى حتى تسأله هذا السؤال الذي لا معنى له ؛ " يعني أنته تغّشّم روحك " ؟!
ومع أنه دخل عالمَ الجنون بصورة قطعية ورسمية ، إلا أن الجميع ظلوا ينادونه بـ الأستاذ ، وظل هذا اللقب لصيقاً به حتى النهاية ، وإن بدأ لقب آخر بالبروز أيضاً وهو ؛ رشيد المخبل .
لا أحد يعلم على وجه اليقين كيف يقضي المجانين الهائمون على وجوههم أوقات ليلهم ، وربما لا يعلم غالبيتنا أين ينامون ، ولكن ، من المؤكد أنهم يختارون أمكنتهم التي لا تعدو أن تكون خرائب المدينة المهجورة ، يتشاطرونها مع الكلاب الضالة التي تخرج ليلاً وتهجع نهاراً ، فيتخذ كل منهم مأواه بحسب قدرته على فرض نفسه ووفقاً للتعاطف الذي يبديه الناس القاطنون بالقرب من هذه الأمكنة ، وبطبيعة الحال فإن مجنوناً مثل رشيد لديه كل هذه السطوة والقوة الجسمانية سيعثر على المكان الأفضل ، فها هو في إحدى ليالي الشتاء يتدثر ببطانيتين سميكتين وإن كانتا قذرتين
وإلى جواره ثمة امرأة ، أجل امرأة !
إنها سعدية المجنونة أيضاً بجسدها النحيل الضئيل ، والتي وجدت فيه ما يُطمئنها ويوفر لها الحماية من هجمات بعض الشبان الليلية ، وقد عرف الجميع أنها مسكينة وسلسة القياد ، حتى أنها ربما تغيب عن رشيد ثلاث أو أربع ليالٍ متتابعة ، لتأتي بعدها منهوكة القوى تفوح من فمها رائحة الخمر وإن كانت جيوبها مليئة النقود التي يغدقها عليها بسخاء بعض سواق السيارات الماجنين ، يبقى رشيد واجماً شارد الفكر معطياً ظهره إليها ، ممتنعاً عن التحدث معها ، هي تحاول أن تكلمه ولكنه لا يستجيب ، إنه الآن هامد مثل صخرة ، هو بالتأكيد يعرف كل شيء وأين كانت ، فالناس في المدينة يعرفون علاقتهما ، وبالأحرى هي من يتحدث ويهذي بأمر علاقتها به بوصفه زوجها ، فيُخبره بعضهم عن بعد على سبيل التشفي والمناكدة بأن زوجته سعدية كانت يوم أمس في أحضان بعض سواق سيارات النص ريم ، فيُعلّق قائلاً بصوته الأجش ؛
- أدري هاي البربوگـ ما تتوب !
وأخيراً وبعد مداعبات وتوسلات مصحوبة ببكائها وأنينها في بعض الأحيان يرق قلبه لها ، فتمد يدها إلى جيوبها وتخرج النقود وتفرشها أمامه ، يبدأ بعدّها ، وترتيبها ضمن فئات ، ثم يلفها في كيس ويخبّئها في مكان ما وسط فوضى غرفتهما العطنة ...
على أنه ، وهو في حمى النشوة يحتضنها ويشدّها إليه بقسوة وقوة ، حتى لتكاد أنفاسها أن تنقطع ، ما تلبث أن تتهادى وتتداعى إلى مخيلته في أحيانٍ نادرة صورٌ من الماضي السحيق ، فيرى وجه حبيبته المشع التي أضحت خطيبته فيما بعد ، كان هو في المرحلة الرابعة والأخيرة من كلية الآداب ، بينما هي في المرحلة الأخيرة من كلية الصيدلة ، وأثناء فترة غرامهما التي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات ، كانت الأنظار مصوّبةً على الدوام إليهما ، بوصفهما عاشقين مثاليين يطمح غالبية الطلاب في أن يحذو حذوهما في الوفاء وعمق المشاعر ، وكذلك في اعتنائهما المفرط بهندامهما ونوع العطر المميز الذي يستخدمه كلٌّ منها .
كانت مثل هذه الرؤى والأخيلة المزركشة تنتابه في أوقات نادرة جداً ، وإن كان يجد صعوبة بالغة في الوصول إلى وضوح الصورة المطلوب ، ثم ما يلبث أن يُسدل الستار ويتشوّش أمامه كل شيء ...
فكّر رشيد أنه ربما يداهم المنزل مفتوح الأبواب دوماً أحد اللصوص أثناء غيابهما ، فيستولي على مدّخراتهما وبعض أثاثهما ، فأحضر في إحدى المرات كلباً ضخماً ، الأمر الذي جعل رفيقته الوجلة تصاب بالهلع والذعر ، حتى أنها هربت واستمرت مختفية لمدة أسبوع ، وظل يفتش الخرائب بحثاً عنها ، وأخيراً عثر عليها ليصحبها معه عنوة ، وبعد أن هدأ روعها عاد الاطمئنان إليها رويداً رويداً ، وأصبحت تألف الكلب ويألفها كذلك .
حظي هذا الكلب السائب بدرجة باذخة من العناية والرعاية ما لم يُتحْ لكلبٍ سائبٍ آخر أن يحظى به ولا سيما الطعام الشهي الذي كان يجلبه له من أرقى المطاعم .
في يوم ما ، عاد رشيد إلى المنزل في وقت أبكر من المعتاد ، أقلقه أنه لم يسمع نباحاً مرحّباً بمقدمه ، وخشي أن يكون قد هرب ، أو اصطحبته كلبة معها ، خاصة وأنه في الآونة الأخيرة أخذ يسمعه وهو يصدر عواءً شجياً فهم منه أنه نوع من النداء لأنثى من بيني جنسه ، لعل إحداهن تأتي فتقيم معه في هذه البحبوحة .
سار بحذر بضع خطوات ليجد جثته متكوّمة في إحدى الزوايا ، وللحال أدرك أن كلبه لم يمت ميتة طبيعية ، فهو ، ولغاية الأمس كان في أوج قوته ونشاطه ، لا بد أن ما يخشاه ويتحسّب له وقع الآن ، هرع إلى الغرفة فوجد أغراضها متناثرة ومبعثرة ، أزاح بعض العاديات التي كانت على هيئة كدس صغير تفوح منه رائحة نتنة ومقززة ، مد يده ، لم يجد الصرة الخضراء ، مد يده إلى مكان آخر لم يعثر على شيء ، وأخيراً أدرك أن أحدهم دسَّ سُمّاً إلى كلبه ، ليستولي على مدّخراتهما التي هي حصيلة كدّهما لسنوات طوال ، غامت الدنيا أمام عينيه ، أحسَّ أن جسده بدأ ينهار ، وأن رجليه أخذتا ترتجفان ، بصعوبة بالغة جرجر نفسه باتجاه جثة كلبه جلس بقربه ، وأخذ يجهش بالبكاء المرير والعويل ، وفي اليوم التالي حمل بعض أغراضه وارتحل عن المكان .
يؤكد البعض ممن يسكن بالقرب من المكان أنهم سمعوا في تلك الليلة عواءً بشرياً مديداً لبعض الوقت ...
في مراحل لاحقة ، وفي حالات نادرة جداً ، إذا داهمه مرضٌ ما وأحسّ بشدة وطأته فإنه لا يجد مفراً من أن يجرجر قدميه نحو الصيدلية ...
يراها كما لو كانت هي المرأة ذاتها التي كانت تتمشى معه في باحة الكلية فلم يزدها تقدم العمرِ إلا سطوعاً وتوهجاً .
في لحظة صفاء ذهني نادر تنتابه ، يلقي كلٌّ منهما نظرة حيرى إلى الآخر تنم عن صدمةٍ وأسف ، يأخذ الدواء بيده المرتجفة ويخرج مسرعاً مرتبكاً ، تاركاً دمعة أو دمعتين على موازئيك الأرضية ....