السبت، 13 فبراير 2016

مكابدات عزيز بن عذاب-مؤيد داود البصام

مكابدات عزيز بن عذاب


القادم من سومر..
مكابدات عزيز بن عذاب


محفوظ داود سلمان



1
… ويقال أنكَ قادمٌ من سومر ..
لكن سومرَ غادرت في الريح ، أو دلمون
قد رحلت بعيداً في بحار …
2
ويقال أنكَ سومريٌ حالمٌ …
لكنما أنكيد قد سُكب المساء كخمرة في
حانة منسيةٍ وتحطمت فيها الجرار ..
3
ويقال أنكَ قادمٌ من بابلٍ…
مازلت تبحث عن إله الشمس ، والكلمات
لم تكتبْ على كسرٍ من الفخّار او
مزق الحجار…
4
كانت عذارى النهر تأتي
حاملات جرارهنّ
وكان يقطر من جدائلهنّ نزفٌ من ندى
وتجيء أسراب من الورشان تقفو
خطوهنّ من القفار…
5
ويقال من آشور كنتَ تجيء ، والثور
المجنحّ كان يحمل في جناحيه النجوم ، ويحرس
الاسوار فجراً ، في جبينكَ لم يزل وسمٌ
من الصحراء تعبرها ومن أرض البوار…
6
ويقال أنكَ طالع من ألف ليلة ، إن ليلتكَ
الأخيرة ما آبتدت ، مازال يفتضّ الزنابق
وهي تقطر في البكارة شهريار …
7
والسندباد يغادر المدن الجميلة فوق ظهر الحوت
منتظراً يجيء النجم ، او يأتي المجوس وليس
ثمَّ نبوءةٌ تأتي ولا ومض آنتظار …
8
هل كنت تحمل نخلكَ الدامي صليباً فوق ظهركَ
كنت مشروعاً لتقتل كل يومٍ في الفيافي والوهاد …
9
ما كان غير الله في جنبيكَ ، هذا الفيض
يأتي من دمائكَ ، أو يفيض بدجلةٍ
هذا الرماد …
10
ام كنت قد ضاقت بكَ الكلمات ، لا تكفي العبارة
أو تعبّر عن رؤى ، هل كنت تجمع في المحارق
ماتبقّى من سهاد…
11
هل كنت رباً قد أكلنا تمره جوعاً ، وليس هناكَ
في أجراننا حشف يذوق النمل منه والجراد …
12
ويقال أنكَ قادمٌ من سومرٍ …
تنأى بعيداً ليس من جلجامشٍ يأتي ولا عشب الخلود
13
هل كنتَ ترحل في 
غيوم الأفق ، ام تأتي مع
الامطار ، تهبط ذات يومٍ أنتِ مشتملٌ
وليس هناكَ أبعاد تخبرّ عن مدى أو عن حدود .



مكابدات عزيز بن عذاب وحلم السومري...

     - مؤيد داود البصام

ما بين العنوان وثيمة النص، يضعنا الشاعر محفوظ داود سلمان، في عمق القضية التي دعته لاختيار نصه المشتبك والمختلف وحواره المنبجس من عمق الرؤية والرؤيا التي خزنها عن بطل قصيدته(عزيز بن عذاب )، المنشورة في جريدة الزمان العدد 4766، يقدم القصيدة في البداية عبر عنوانها الباذخ والمجهول، حينما يتقدم اسم الفاعل،(القادم من سومر ) في الافتتاح على الرغم من إل التعريف، إلا انه يبقيه مجهولا، ليظهر لنا الحركة الدرامية التي يخلقها الفعل، وتجعلنا ندير الرؤوس ونتساءل، من القادم من الزمن الغابر ؟،هكذا تنمو مقاطع القصيدة، في ظل الفعل الذي يتسيد مجمل المقاطع ليثبت حركية الانفعال وديمومته، بتشويق متلاحق بين السؤال والجواب والاستفسار، ما يعني أدراك الشاعر أنه يتعامل مع زمنين في آن معا ً، الماضي والحاضر اللذين يتجسدان في استحضار الزمن الماضي إلى الحاضر بشخص (عزيز بن عذاب)، ليجعلنا في لحظة ترقب وتساءل عن القادم المجهول من أعماق التاريخ، من بلاد سومر وأكد وبابل، على وقع أصوات سنابك خيل الغزاة، وصهيل الخيول المندفعة المدافعة بالمقابل عن أرض الإسلاف، منذ بداية التاريخ والحضارة والصراع مشتبك على أرض لم تتوقف الأحداث الجسام على أديمها، قبل أن يدخل في صلب القصيدة، ليبدأ صيغة السرد قبل الشعر، ويعلنها في عنوانه الفرعي ويكشف عن مجهوله القادم، أنها (مكابدات عزيز بن عذاب ). أذن القادم كشف عنه ولكنه حدد لهو صفة، أنه يحمل مكابدات وآلاماً يخزنها في أعماقه، منذ فجر الحضارة وليومنا هذا.
من هو عزيز بن عذاب وما هي قصته ومكابداته؟
         عزيز بن عذاب بن حسون، خزين الشرود الفلسفي في البحث عن المجهول والحقيقة، وصرخة فيثاغورس (وجدتها)، في عالم أضاع توازنه وراح يبحث عن المخلص، واحد ممن يتبعون عقلهم وقلبهم بآن واحد، ولا يسكتون على ضيم مهما تعاظم شان القائمين على ظلم العباد، من بين هذه الزحمة وتراكم الأفكار وتلاطمها، ظهر وألقت به الرواسي من رحلة آجتاز بها التاريخ والسهول والجبال والوديان ليحط ركابه في بلد الرشيد وحسين مردان وعشرات من الطائعين والمتمردين على أرادة السلطان في مختلف وجوهه وأشكال حكمه، طولها الزمني بمدى تاريخ ارض سومر وأكد وبابل التي تجاور مسقط رأسه (مدينة كربلاء)، فهو أبو بابل وسومر وعشتار، سليل الحكاية التي لم ترو كاملة، عما حدث على ارض كرٍّ وبلاء إلا على ألسنة الرواة بعد ذلك، ونقلتها الألسن وآمنت بها دون أن تراها، إثناء ترحاله في الفترة الزمنية التي غادر مدينته كربلاء، إلى مدن العالم الأخرى  تخلى عن الحج الذي يحني ظهور الكثير، كطقس دنيوي لتقديم الطاعة للعائلة والعشيرة والمدينة والدين والمذهب والفئة والجماعة والحزب والإيديولوجية، وتمثل بالكون كله، وراح يفكر ويتأمل عالما غير عالمنا الضاج بالسوء والنميمة والدمار والاستغلال والكذب والجشع، يرنو لعالم النقاء والإنسان الجديد، ورود تتفتح على أنغام موسيقى عذبة، وشدوا لبلابل يحركها هواء عليل نقي، فتحولت لديه البقعة التي يحبها وتعيش معه ( أرض كر وبلاء ) العالم باجمعه ، هي ليست في رأيه ارض كر وبلاء، وإنما عالم من الفنتازيات والمخيال الجامح الذي نقله من جزء إلى كل، ليحمل مأساة قرون ترزح تحته آلام وأفكار وآراء المأساة التي تعيش في سرير النوم وبين الجدران وعلى الأسطح وفي الشوارع والطرقات والعقول والقلوب، يغفو ويصحو على أصوات عشرات الرجال والنساء والأطفال مثل يوم الحشر، يصرخون ( ياحسين، ويندهون أبا الفضل العباس للخلاص ).
قرء منذ بواكير حياته سارتر وكامو وكانت وسبينوزا، واستمع لرؤى ماركس وانجلز وعبر المصدات والقواطع والحدود المليئة بالجنود المدججين الذين يبحثون عن ثوار (كومونة باريس ) مع لينين والثوريين في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ليصل إلى مونمارتر ودهاليز الفوضويين والسرياليين والدادائيين، ويجالس أصدقاء تازار وبريتون ولويس أراغون، ويشتبك في النقاش والحوار، منذ عقود في درابين الحيدرخانة وطرقات شارع الرشيد الخلفية، وباب الشرقي وشارع أبي نؤاس، وسار يحف الخطى مع صديقه سلام مسافر للحاق بأمير الصعاليك الشاعر عبد الأمير الحصيري قبل أن تفوتهم حفلة الليل النؤاسي، طارد أحلامه مع جيفارا وهوشي منه وثورات الشباب في كل إنحاء العالم، وكل طرقات حاملي الشعلة التي ما انطفأت إلا على أيديهم قبل أيدي الطغاة، بعد فراق ثلاثة عقود ونيف، يظهر عزيز بن عذاب يجلس على تخت في مقهى حسن عجمي، ويشير صديقي السينارست والفنان طه حسن إلى الجالس أمامه، الذي اكتشفه قبلي حال دخوله المقهى، شاهده جالسا وحده يتأمل قبل إن تطأ قدماي المقهى، وكنت أنا القادم متأخرا في تلك الجمعة، وسألني طه هل تعرفه ؟ عزيز عذاب في تلك اللحظة من الانبهار والدهشة التي قدر لنا إن نعاود اللقاء، بعد سنين من الفراق دام عدة عقود، أجده أمامي واسمع صوته الجهوري، يردد إنا عزيز بن عذاب من عرف كل شئ ورأى كل شئ، ولم يصمت لأني أبن هذه الأرض التي أورقت الحضارة على أديمها وأينعت زهورها، بلدي الذي احتله الأوغاد ودمروا بناءه الحضاري، وشتتوا مثقفيه وعلماءه، والقوا بما تحقق في غياهب المجهول، هو عزيز بن عذاب الجرئ منذ كان في عز الشباب، لم يتوقف عزيز عذاب المتخرج من كلية الصيدلة والذي عاشر مظاهراتها وإضراباتها في السنين الغابرة، عن الدفاع عن عظمة البناء الحضاري الذي تأسس في العراق عبر سبعين عاما ليعيد ألق حضارة وادي الرافدين، ولكنه تهدم برمشة عين، تحت سنابك دبابات المحتلين الذين قالوا إننا محررون، هو من المثقفين الذين أدركوا الكلمة وعاشروها، بكثرة القراءة والاطلاع، فهو قد قرء ما يوزن بالأطنان، وخزنه في كتلة صغيرة، يحملها على كتفيه، أنه حمل مخيف إذا ما انطلق ليتحدث في إي موضوع هو يرغب إن يتحدث عنه، لأنك دائما ما تجده منصتا جيدا يستمع بإذن فار، ولا تفوته شاردة ولا واردة، حتى إني اندهش بعض الأحيان كيف لم ألاحظ قول المتحدث، لأنه يعيد كلامه نصا، ولهذا فهو ودود ومخيف ومرعب في آن معاً، لا يستطيع المقابل إن يفلت من نقده إذا أخطأ، فهو يواجهه بما تحدث فيه بالنص، وكأنه آلة تسجيل، عزيز بن عذاب روح هائمة في حب الثقافة، والثقافة مزروعة في داخله، شخصية مختلف حولها، وينظر له الوسط الثقافي قبل عامة الناس بشئ من الغرابة، لأنه شخصية تحمل ندرتها وفرادتها وقلقها، يحمل هم الإنسان العراقي والإنسان عامة، لم يتخلّ عن الدفاع عن الحق، أينما حل وفي أي موقف كان، من هنا تأتي مكابدات عزيز بن عذاب مع عالم من الكذب والزيف، أنه يتعايش كل لحظة مع آلام شعبه وأمته، يعيش مأساة تدمير بلده أمام عينيه، والحلم الأزلي الذي راوده منذ مطلع الشباب مع كل الوطنيين والثوريين، أن يتشكل عالم أسمه العراق، فكيف تناول الشاعر محفوظ داود سلمان هذه الشخصية الفريدة والقلقة في قصيدته (القادم من سومر ).
(1)
ويقال أنك قادم من سومر
لكن سومر غادرت في الريح، أو  دلمون
قد رحلت بعيدا في بحار
*******
هذا هو المقطع الأول الذي يبتدئ فيه القصيدة، بالتساؤل ويوجه سؤاله إلى القادم حسب رواية الآخرين، وقبل أن يتلقى الجواب، يجيب هو نفسه عن تساؤله، ويشرح المفارقة. لقد استطاع محفوظ داود بشاعريته وقوة إدراكه وتفحصه للشخصية، من التقاط مجسات الموضوع الذي كتب فيه، فهو يحاور شخصية غير اعتيادية، لهذا لا يترك لها المجال للتحدث، إنما ينقل لها هواجسه واستفساراته، وما يقوله الآخرون، فهو ليس الوحيد الذي أكتشف المجهول، وأن كان لا يعرف عنه شيئا، ولكنه يدركه ويعرفه، وهذا هو سر قوة القصيدة، تتحدث بالمجهول وتروي عن المجهول وتجيب عن المجهول. روعة القصيدة أنها تختلف عن كل ما كتبه الشاعر محفوظ داود من شعر سابقا، ففيها ما يمتلكه من قوة اللغة والتلاعب في الألفاظ، وهذه المتعارضات بين السؤال والجواب، وبيان نابع من قوة إدراك وعين ثاقبة، لا تصور الشخصية وتكتب عنها انطباعاً خارجياً من السطح، وإنما ترسم الشخصية، فكريا واجتماعيا ونفسيا من الداخل، وتضعها في إطارها الحقيقي، عبر منظور يسحب التاريخ ويعيد تركيب سرده بما يتناسب وروح الشخصية التي يكتب عنها، ويغوص في أعماقها، ليستخرج كنهها، وتموضعها في الماضي والحاضر.
" ويقال أنك سومري حالمُ...... ويقال أنك قادم من بابل......ويقال من آشور كنت تجئ...... ويقال أنك طالع من الف ليلة، إن ليلتك الأخيرة ما آبتدت.. " .أنظر إلى التحولات في بدايات المقاطع، في اختصار تاريخ العراق، بكل حضاراته التي ظهرت على أرضه، مختصرا إياها في هذه الشخصية، وعبر ضربات تكرر السؤال الذي ينبش في التاريخ ويعيد تركيبه على ضوء ما يراه في عمق هذه الشخصية، ثلاثة عشر مقطعا، ست مقاطع منها ترديد لأقوال الآخرين، وباقي المقاطع، تساؤل الشاعر للشخصية، في هذا النص يتحرك محفوظ عبر التاريخ، ليكشف لنا أن الشخصية التي يروي عنها، تحمل كل هذا الإرث الحضاري ومفاهيمه، وتضع وجود العالم ووجود تاريخها كفة بكفه، وهنا تأتي مناجاة الشاعر لبطل القصيدة ليذكره في نهاية القصيدة، ليقول له انك تحلم، لان كل الأشياء تغيرت وأنت ما زلت تحارب، وان حربك هي مكمن معاناتك ومكابداتك وهذا هو ما وراء النص الذي أراد الشاعر أن يوصله لنا في المقطع السابع عما جاء في كلمة ( مكابدات )، " والسندباد يغادر المدن الجميلة فوق ظهر الحوت منتظرا ً يجيء النجم، أو يأتي المجوس وليس ثم نبوءة ٌ تأتي ولا ومض انتظار "، هنا يكشف الشاعر محفوظ عن السر الذي احتفظ به عبر المقاطع السابقة ليوصلنا إلى حقيقة معرفته بما يحدث. " في المقطع الثامن بعد إن يستنفد الشاعر مقاصده في التعريف ببطله يبدأ الحوار مع الشخصية بالمواجهة عن حاضرها، يذكر لبطله كل ما قيل ويقال، يحاوره مباشرة عن مكابداته وآلامه، ليعرف حقيقة ما جاء عنه الخبر. " هل كنت تحمل نخلك الدامي صليبا ًفوق ظهرك .. كنت مشروعا ً  لتقتل كل يوم في الفيافي والوهاد.." ، يقوم الشاعر باستشعار الأشياء والحوادث، ويضع في داخل كل سؤال قضية ما حدث وما يحدث في العراق، في وطن السومري الذي أجتاحه الجراد، وعاث فيه الفساد، " أم كنت قد ضاقت بك الكلمات، لا تكفي العبارة أو تعبّر عن رؤى، هل كنت تجمع في المحارق ما تبقى من سهاد.." ، أن الشاعر محفوظ في ملاحقته لبطله من أجل أن يصل إلى الحقيقة المخزونة في داخله والتي يحملها كمكابدات تعيش معه، يحاول أن يجيب عن التساؤلات التي سبقت قراءة القصيدة، من بداية الافتتاح بالعنوان، ( القادم من سومر .... مكابدات عزيز عذاب ) ليربط بين هذا القدوم المفاجئ والعجيب، وبين ما يحمله هذا القادم من ارض سومر التي توالت عليها المآسي في كل الحقب، وكل واحدة من هذه الحقب تحمل آلاما ً  ومآسي ما حدث لهذه الأرض، وكأنما يتحدث بلسان عزيز عن الصورة المعاكسة التي يجب إن يكونها وتكونها ارض سومر،  " هل كنت رباً قد أكلنا  تمره   جوعا ً، وليس هناك في أجوائنا حشف يذوق النمل منه والجراد..." ، وهو لا ينسى أن يذكره بالحلم الذي جاء معه من تلك الحقبة الزمنية  وليومنا الحاضر، ولم يتحقق منه شيئ سوى الدمار والخراب، وهذا هو الذي يجعله يكابد، " ويقال أنك قادم من سومر ...  تنأى بعيدا ً ليس من جلجامش يأتي ولا عشب الخلود. " ، وإذ ينهي الشاعر محفوظ قصيدته يكون قد حدد الغاية من كل كتابتها، ويتوجه لسؤال عزيز بن عذاب، وهو يقول له لو لم يكن في هذه الأرض وكنت في أرض أخرى، " هل كنت ترحل في غيوم الأفق، أم تأتي مع الإمطار، تهبط ذات يوم ٍ أنت ِ مشتملٌ .... وليس هناك أبعاد تخبرُ عن مدى أو عن حدود ."



إنجاز إبداعي .. يستدعي حضوراً مؤثراً-حميد سعيد

إنجاز إبداعي .. يستدعي حضوراً مؤثراً


حميد سعيد


يعود الشاعر محفوظ داود سلمان،  في مجموعته الشعرية " خمارة بلقيس " إلى الشعر كما ينبغي أن تكون العودة في بهائها، وبها يُعيدُ إلى الشعر بعض بهاءٍ ، ضاع في متاهات لا حدود لها، حتى صارت قراءة قصيدة تنتسب إلى جوهر الشعر وتتوفر على مقوماته ، لا تتحقق إلا في استثناءات نادرة .
كانت بدايات الشاعر في بواكيره، قد لفتت إلى قصيدته الأنظار ، أو هذا ما كان مني وأنا أتابع بداياته، بشغف حقيقي، وأنتظر منه ، إضافة إبداعية إلى القصيدة الجديدة، في مخاضاتها وتعدد توجهاتها وسعة أمدائها وكثرة أصواتها وضجيجها .
غير أن الفتى البصري الحيي ، غاب طويلا ، وكاد صوته أن يضيع ، وربما أنا الذي ضيعه إلى حين، في ما كنا فيه من مشاغل وانفعالات ذاتية ، وقضايا لطالما أبعدتنا عما كان ينبغي أن لا نبتعد عنه.
في السنين الأخيرة ، يفاجئني محفوظ داود سلمان ، بقصائد ، أقرأها، فلا تفارقني، وأُعيد قراءتها فأتوقف عند ما يختار من موضوعات، تتمثل قضايا وجودية ، في محيط شعري ، يتوزع بين موضوع من دون شعر، وبين ما يعده أصحابه شعراً، من دون موضوع .
غير أنه، في ما قرأت له من قصائد في السنين الأخيرة ، ومنها ما ضمته مجموعته الشعرية " خمارة بلقيس " لا تأخذ أهميتها وشعريتها ، من موضوعاتها وإنما من مقوماتها الإبداعية ، فكرية وجمالية .
فهي ، تُغْني شعرية الموضوع ، بلغة شعرية متوازنة ، لا افتعال فيها ولا تمحل ولا تهافت، تكاد تحقق فرادتها، بُنىً ومعجماً، ولا تذهب بعيداً عن معاصرتها ، فإذا قلنا : إن للغة هذه القصائد ، ومن ثمَ لغة الشاعر محفوظ داود سلمان، خصوصيتها في ما تتوفر عليه من خصائص ومواصفات ، فليس في هذا القول ما يخرجه عن موضوعيته .
إن لغة هذه القصائد بقدر ما تمتلك شخصيتها، فإنها تكرس شخصية القصيدة ، ولا تتحقق هذه الشخصية بمعزل عن الإيقاع الداخلي للبنى اللغوية ، وبقراءة جادة ، يمكن أن نكتشف إن إيقاعات القصيدة، داخلية أكثر مما هي إيقاعات خارجية، فالتزام الشاعر في قصيدته ، بالتفعيلات العروضية ، لا يجعل منها مجرد إيقاعات خارجية، بل تدرك كإيقاعات داخلية ، تتكامل مع الفكر واللغة .
ومما تتميز به قصائد " خمارة بلقيس " كثافة التناص ، حيث إن التناص فيها، ينفتح على الشعر قديمه ومعاصره، حتى يكاد يشمل مساحة واسعة ومتشعبة ، ونجد هذا التناص في  مصادر عربية وأجنبية ، ويتمثل أشخاصاً وأحداثاً ورموزاً، ويتداخل التثاقف مع هذا التناص، من خلال مصادر ثقافية كثيرة هي الأخرى، وهذه المصادر تاريخية واجتماعية ، دينية وملحمية وأسطورية، غير أن التناص والتثاقف ، لا يثقلان النص الشعري ، عند الشاعر محفوظ داود سلمان، في قصائد " خمارة بلقيس " ولا يظهران على السطح منه، كما تظهر الملصقات على سطح لوحة تشكيلية، أو كما يظهر التضمين على سطح قصيدة ما، اتكأ شاعرها، على تضمين أبيات من الشعر أو مقاطع لشاعر آخر.
بل تتكامل داخل النص ، كما هو الحال حين ينمو كيان حي، شجرة مثلاً، فتكون القصيدة أكثر ثراءً في شعريتها وأكثر استقطاباً في التلقي، أعمق في مضمونها وأجمل في شكلها.
وهي في كل ، ما حاولت التوقف عنده من سماتها، والإشارة إليه، تتوحد هذه السمات من خلال ما تعبر عنه من موقف، ليس طارئاً ولا شعارياً، بل هو موقف جمالي ووجودي في آن واحد، وهذا ما يكرس الفرق بين الإبداع وضده ، ليس في الشعر حسب، بل في جميع أجناس الكتابة وأنواع الإبداع .
إن كل ما ذكرته آنفاً، ليس سوى قراءة ، لم أحاول خلالها التخفف من إعجابي بالنص المقروء، حتى لو تركت انطباعا ً لدى آخرين، بأنها قراءة متعاطفة، وليس من قراءة صادقة، تخشى التعاطف مع بهاء النص المقروء.
وقد يفصح مثل هذا الانطباع عن ملامح قراءة نقدية أخرى، أو قراءات نقدية أخرى، تختلف كلاً أو بعضاً، مع ما ذهبت إليه في قراءتي هذه، أو تتناقض معها، ومثل هذه القراءة أو القراءات لا تنتقص من أهمية النص المقروء ، بل تكتشفه، فالنصوص الإبداعية هي التي تجعل فضاء القراءات أكثر سعة، وهي التي تهيئ المجال ، لفعل عدد من القراءات، حتى في اختلافها.
إن ما أنجزه الشاعر في قصائده هذه، ليس من مبالغة ، حين يقال عنه، إنه إنجاز إبداعي مهم ، وليس من الوهم أن نتوقع له حضوراً مؤثراً، على صعيدي قراءات التلقي وقراءات النقد .


**

الغياب.. عندما يكون غيابا ً كاملا ً. ترنيمة عشق للوطن والأهل والحبيب ..- مؤيد داود البصام

الغياب.. عندما يكون غيابا ً كاملا ً.
ترنيمة عشق للوطن والأهل والحبيب ..

                               -  مؤيد داود البصام
من الأسطر الأولى وهي تبوح عبر القصائد لصديقتها الشاعرة والمبدعة بشرى البستاني في مقدمة الديوان، تضعنا بمواجهة الحقيقة المرة، ويحيلنا عنوان الديوان للناقدة والشاعرة والمترجمة مي مظفر الجديد (غياب ) ، الذي صدر بعد خمسة دواوين، إلى لحظة الفقدان التام لما تريد أن تعلن عن وجوده، لأنها تجرد الصفة من إل التعريف، وتجعله صفة مطلقة ٌ، وتضعنا في صلب الموضوع الذي تعيش غيابا ته، حينما تتحدث عن الغيابات وليس الغياب الواحد، غياب كل شئ وعلى رأسه الأرض والأهل والحبيب، وتضع القصائد المتأخرة والمتقدمة في هذا الديوان ما بين 2009- 2014، إلا خاتمة الديوان قصيدة الغريب عام 2007. ووضعت القصائد بفصول ( غياب. تجليات. طيور مهاجرة. ) على ضوء الحالة الشعورية والزمنية، بعد المقدمة والإهداء، لتعبر عن حالة وجدانية متشعبة الأحداث، ولكنها متصلة ببعضها البعض في الرؤية العامة والبعد النفسي والوجداني، تقص عن لوعة الغياب والذي تحكي فيه كيفية حلوله بديلا ًعن الحضور الذي كان يسود حياتها، بمكابدة وجودية صعبة، وما تحملته من مشقة وأناة، على الرغم من كونها تلوذ إلى قوة تحكمها بداخلها لتسكت الآهة في أعماقها ، وتطرح الحزن جانبا ً من أجل أيجاد الموقف الذي يعيد ما فقدته، وهي على إدراك بان لا شئ سوف يعيد ما انكسر من حلم وواقع، عالم يولدُ من جديد في واقعها تتناسل فيه الوحدة والغياب " لا تقصي ما شهدت / لن يبالي بالذي مر أحد / جمعي حزنك وامضي / بين أسراب من الطير المهاجر / واحملي من بيتك المنهار صورة / تؤنس الوحشة في ليل طويل .. لا مسامر. " ص21، أية مأساة ترويها في العلاقة مع الغياب هنا، فيها توحد وجداني مع ذات تنتمي لوجود قائم وعالم ملئ حولها، ولكنها فجأة تجد الغياب بعدم وجود حتى من يشارك ما يخفف من المأساة، فيها وحشة قاتلة، أن ترى كل شئ ينهار وليس هناك من يقف لينظر ويواسي، ( لن يبالي بالذي مر أحد ) أنها لحظة وجودية شاقة ومدمرة، الإحساس بالعدمية، ألا إننا من خلال القصائد المتأخرة ندرك، إن هذه الوحشة التي بدأت مع المواجهة بين الوطن والغاصبين، أخذت مداها ليس كقضية نفسية وحسب، بل الوجود والكينونة، عندما امتدت يد الغاصب لتعصر وطنها وبيتها وحياتها وذكرياتها التي عاشتها. ولم يبقى سوى صورة تحملها لأحلام تؤنس وحشتها، وحبيب يرافق رحلتها. ( كلهم جاءوا: جيوشا ًودروعا ًوأساطيل / ترامت في البوادي والبحار / كلهم جاؤوا ليجتثوا الفراشة من بساتين النخيل.) ص19. يتحدث الديوان عبر قصائد موشاة بالحزن والألم عن وطن ضاع، والأهل والأصحاب في الشتات، وذكريات هدمت، ولكن أملها ظل في الحبيب الذي شاركها الرحيل والمأساة، ( هو لا ينظر في عيني سوايا / وانأ نفسي تماهت في نفوس كبلادي./ أصبحت شتى.. وأهلي / قدم ٌ في هذه الأرض وأخرى / تنشد البحر لتنأى وتجوس.) ص30 . فهي تروي مأساة ما حل في بلادها من خراب، الذي أنطبع على حياتها، تضع هنا المقارنة بين البؤرة التي يتركز فيها تفكير المتبقي من ذاك الوجود الذي دمر، ولم يبقى إلا ما في عيني الحبيب والعلاقة الحميمة التي تبقيها على الأمل، وهي تعيش بين التشتت الذي تعيشه نتيجة تبعثر الأهل والأصحاب في شتى بقاع الأرض، وبين مدينتها التي طبعت ذكرياتها في كل جزء وفي كل هاجس من حياتها.( أحياء بغداد انطوت / لم يبق غيرُ حديقة مهجورة / وصحيفتين بلا حروف في نهار ٍ كلما انتحرت عقارب ُ وقته / أبقت على وهم الرجوع. ) ص35 ، لحظات انطمرت بها مسيرة حياة وسنين، فأية آهة أو ألم سيحمل هذا العبء الثقيل، في انتظار عودة الوطن والحبيب، وكلاهما يشغلان الحيز ويغلقان الفراغ، وألان يمتد الفراغ ليشغل حيز الوجود كله، " في الطابق العلوي من سكن تزلزل واندثر/ دفنت حقائبنا المليئة بالصور / الساكنون تشردوا، وتعاهدوا, / تركوا على الجدران ما أوصوا به. ونسوا هناك حقولهم، / في ملعب الإغراب مرمى أو هدف " ص49.. ولكنها مازالت تحتفظ بالوشيجة مع صديق العمر الذي يشاركها الهم، وتبث له بوحها. إلا أن القدر أراد للغياب إن يكون أكبر مما نستطيع أن نوقف من نزف الجروح. لهذا جاءت القصائد،  أن كانت في الكلام عن فجيعة الوطن والأرض أو الحبيب لتربط هذا الحس الإنساني بفاعلية، من خلال عنوان الديوان بالمتن والعناوين الفرعية، فهي تتواصل بنفس ملتهب حزنا على فقدان أعز الأشياء لديها، وهو ما يجعل حياتها هواجس ولجوء إلى المطلق، بعد أن كانت قصيدة عشق وشوق، أنها تلملم الأشياء بحثا عما ضاع.." أتعبني التحليق / والأرضُ تحتي تشتعلُ / يا إلهي .. / دلني إلى موطن فيه أستريح . " ص78، انه ألتوق للعبور إلى الحضور برفقة الصديق بعد كل هذا الغياب، ولكنه الغياب الذي امتد للصديق والحبيب، وجعل الأشياء محض فراغ.." أيها الطائر المسرعُ نحو المجهول تمهل / ريثما أجمعُ أشتاتي وأتبعك / كلانا معلقٌ بين الأرض والسماء / كلانا مشنوق بفضاء لا متناه ." ص82. هذا الفراغ الذي جعل من الغياب واقع بكل قسوته، ونقل الواقع بكل بهائه إلى لحظة سوداوية تحيط الواقع وترسم خطوط مستقبله، أن ديوان (غياب ) جسر عبور، باحت فيه مي عصارة قلبها وعقلها، لتضعنا في وسط جحيم، ما نعيشه باليوم واللحظة في ترنيمة عشق للوطن والأهل والحبيب. ضمن تجربة ذاتية، شكلت عمق تجربة الجميع. وهي إذ تستفتح الديوان بقصيدة تعيد فيه الغائب حلم وهاجس.. " ملكة ُ الليلِِ / والقداحُ / روائحُ بغداد / دمعُ العين ودمُ القلب / وأنت في كل مكان. " (عمان. 2014) ص14.....تختتمه بقصيدة الغريب، لتعلن غربتها مع الواقع الجديد الذي هي فيه قبل أن  يحدث الغياب ... " غريبٌ أنت في أرض غريبة / تحلقُ عالياً أو تستكين../ غريبٌ أنت عن كل فضاء / فلا تحزن / " إن الغريب من الله قريب " ( عمان. 2007).ص92.

الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 3/3 -سعد محمد رحيم



الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية  3/3  

سعد محمد رحيم
الذات والآخر في كتاب ( الأجنبية ):
كتاب ( الأجنبية ) لعالية ممدوح يقع على تخوم ثلاثة أجناس أدبية هي؛ الرواية، والسيرة الذاتية، والمقالة.. ولأن المؤلفة تدرك صعوبة تجنيس كتابها كتبت على غلافه عبارة ( بيوت روائية ). فهو من جهة شذرات من سيرة متماسكة، تحكي عن ثيمة محددة. وهو من جهة ثانية مقالات تتناول الوضع القلق غير المستقر لمهاجرة عراقية عربية تحاول إثبات هويتها الشخصية لممثلية بلدها في العاصمة الفرنسية باريس، وأمام سلطات تلك المدينة. هي القادمة من بلاد العرب حيث "الاسم واللقب... هما نوعان من المعتقل"ص124. وإذا ما جمعنا هذه الشذرات/ المقالات التي ترتبط بعلاقة تتابع ـ تجاور يمكن أن ننعتها مع بعض التحفظ بـ ( الرواية ). طالما هناك شخصية رئيسة تتنقل بين بيوتات الرواية الافتراضية العديدة بحثاً عن بيت آمن يوفر لها الدفء والحميمية والحرية، فضلاً عن شخصيات ثانوية تشكِّل مع الشخصية الرئيسة بأفعالها متناً حكائياً معقولاً.
وثيمة حكاية الشخصية الساردة بضمير المتكلم هي السعي لنيل الاعتراف.. الاعتراف بأنها هي وليست أي شخص آخر!. هي الضحية لسلطة بطريركية ذكورية محمية بقوة القانون، تحاول اجتثاث ذاتها وجسدها من سجن الزوج الذي لا ترغب فيه. الزوج الذي يريد إعادتها إلى بيت الطاعة في بغداد، بعدما استحوذ على جميع أوراقها الثبوتية. فيما هي تروم استعادة كيانها والمضي قدماً ـ هي الناضجة الراشدة ـ من غير وصاية تمسخ وجودها.
يذكِّر هذا الكتاب بعوالم كافكا، لاسيما في روايته ( القصر ).. بذلك الضياع الحارق والمرعب بين أروقة الأجهزة البيروقراطية بمناخها الموحش العدائي، وقلبها البارد، وخطتها المحكمة في السيطرة والتحكم. حيث تحس بأنك مُراقب، مريب، ولا أحد يدلك على ما يجب أن تفعل، وكيف عليك أن تتصرف، وما الكلمة المناسبة التي عليك أن تقولها في موقف ما، وما الكلمة غير المناسبة التي عليك تجنبها فيه.. ثمة فحص حيادي قاسٍ للنوايا والضمير، فحص قد يفضي إلى سوء فهم وسوء حكم، وعبث بالمصير.
الساردة التي لا اسم لها في النص تعيش أزمة علاقة مع زوجها بعدما هربت منه، إلى بلاد أخرى.. هو يريد امتلاكها كتحفة، وهي لا تريد أن تكون ممتلكة على الرغم منها.. هو قادر بحكم الشرع والقانون، وهي مختلفة:
"دائماً تصوّرت أن بمقدوره الوصول إليّ ولو بطوربيد حربي. قلت له هذا في إحدى السنوات فأطلق ضحكة مجلجلة كعادته:
ـ اللعنة، لديك العيوب والأخطاء كلها لكنك لا تعوضين جميع النساء اللواتي في حوزتي"ص19.
هذه اللغة الذكورية النرجسية المتغطرسة تضعها في أفق التحدّي، لتأكيد هويتها، بوصفها أنثى تمتلك وعياً وإرادة على الرغم مما يعتورها من خوف في عالم لا يبالي بأمثالها.. الخوف الذي خبرته من سنين سحيقة؛ "خوف لم يسقط أي شيء من حسابه. إقامته حُدِّدت بين الأمتار ورموش العين، لكن لم تتحدد إقامته بزمن أو تاريخ معين فيظهر بجميع التجليات التي يمكن تصورها"ص23. وليمتد حتى إلى الجمال؛ الجمال الذي لا ينقذ بل الذي يفضي إلى الهلاك. في مقابل إدراكها الاستثنائي الذي يجعلها ترى الجمال في وجود الآخر؛ "لم أكن أفهم ما هو الجمال بالضبط، لكني كنت أعرف امراً بسيطاً، هو أنني حالما ألتقي من سأغرم به فذاك هو الجمال"ص44.
كانت ثمة حدود صارمة، وأحياناً غير منصفة، لكل شيء.. هي هناك؛ حيث تحيا المرأة في عالم مغترب حتى وهي في بيتها ووطنها، بدءا من اغتراب الجسد بين المحرّم والخليع.. بين ما يسمح به وما لا يسمح، وحتى ذلك النوع من الاغتراب الوجودي حيث تشعر بأنها ليست في مكانها الصحيح، ولا في العصر الذي يلائمها. حيث يكون ملاذها الوحيد؛ الكتابة، ففيها يمكن فقط لمن هم في محنة كمحنتها من البحث عن الذات، والرهان ضد الخوف واليأس والموت.. تتحرى عن ماضيها لتتيقن من حاضرها.. لتتأكد من هويتها الحقيقية؟.
يبرز سؤال الهوية في المنعطفات الحادة المؤشكلة من الحياة. وها هي الساردة ترغب في التعرف على هويتها بعدما غادرتها أشياؤها الحميمة، وبعدما تفكك عالمها القديم.
"فقد تكيفت حياتي مع الأسى الشديد وأنا أشاهد حطام بيتي وهو يتفكك حجراً بعد حجر وطابقاً بعد طابق وفرداً بعد فرد كما حصل ويحصل مع بلدي بالضبط" ص39.
محنة الساردة هي اختزالها في أوراق رسمية لم تعد بعهدتها، بعدما استولى عليها زوجها الذي عافته لتكسب حريتها وإنسانيتها.. فما يثبت ( أنانا ) عبر الوثائق أمام الآخرين قد يجعلنا أكثر شكاً بأنفسنا.. هنا تكمن قوة السلطة، سطوتها، قدرتها على التحكم بالنفوس والأجساد.. إن وثائق إثبات الشخصية، في عصرنا التقني المعلوماتي، أهم من الجسد، من العقل، ومن تاريخ الشخص المدون منه وغير المدون..
"أريد ثلاثة شهود يشهدون بأنكِ فلانة بنت فلان وأنك ابنة فلان وفلانة وزوجة لفلان وأم لفلان.. وأن جواز سفركِ العراقي السابق واللاحق هو هو لم تعبث به يد .. أو.."ص113.
إنها الأجنبية.. إنها الآخر الذي يرمي إلى نيل الاعتراف.. الآخر الخائف. هنا تصبح الساردة لا مركز العالم الذي تنظر منه، بل الهامش الذي يُنظر إليه. والنظرة التي تشملها تعرّيها، تحاول فضحها، هكذا تحس؛ إنها نظرة شكاكة، مهدِّدة، لا أبالية بطريقة ما.
ومع سعيها المحموم لاسترداد هويتها من خلال الوثائق تحاول الساردة تعلم اللغة الفرنسية، فهي تعيش منفى اللغة أيضاً.. طاقتها على تعلم اللغة الفرنسية تخذلها، هي الكاتبة العربية في أرض ثقافة غريبة.. ما يذلها الآن هو الخوف أيضاً.. الخوف الذي يسلِّمها للضعف والنسيان.
تخبر عسر الانتقال بين هويتين لغويتين متباينتين.. تفشل في الولوج إلى اللغة الأخرى، في مواجهة الموانع النفسية والاجتماعية والتاريخية. وها هي تتيه بين بلدين ولغتين وثقافتين.. تعيش الاغتراب المزدوج؛ الانشطار الوجودي والنفسي واللغوي والثقافي.. ولا تستطيع امتلاك أي من الاثنين كما تتمنى: "إننا لم نفلح لليوم أن تحبنا بلداننا كما نريد ونشتهي. إجرائياً فشلت في التوقف عن الجري وراءه، وفشلت أكثر في التعرف عليه. الأجنبية كنت هناك وما زلت هنا في فرنسا. كنت أظن أن البلد يصلح أن يكون مادة نصيّة خارقة للعادة، ونعيش على نفقتها وتحت وطأة ثقلها"ص93.
تفتح اللغة مسارب للهوية، وأخرى إلى الهوية مثل شبكة أوردة وشرايين تبقيها، هي القلب المسكون بشغف الحياة، على قيد الحياة.
"كان أدورنو يقول: ( الأوطان مؤقتة على الدوام ). ربما أكثر من هذا. لكن اللغة، أية لغة تفتح ثلمة في جدار وبناء الآخر، وأنا أود بإخلاص الاقتراب من هذا الآخر، فكنت أشعر بشيء من التشوّهات الحقيقية التي تتكفل بها اللغة إن كانت كيت أو كذا وكأنني أحيا بين إقصاء صوتي الأنثوي والإنساني، ضمن صمتي اللغوي؛ العجز عن التحدث بطلاقة أو أو... كما لو كنت أعيش حيفاً أو قهراً ما بين اللغتين"ص69.
إنها تبغي ذاتها؛ ذاتها المحرَّرة من موجبات الهوية/ الهويات التي لم تخترها بمحض إرادتها.. الذات الرامية إلى الاختلاف، لا المطابقة.. إلى الحرية، لا السجن الهووي.. الحرية التي تخفق في نيلها تمنحها لشخصيات رواياتها.. المدينة التي لا تستطيع امتلاكها تملّكها لتلكم الشخصيات. فتتعلم من شجاعتهم وتجاربهم.. يغدو التخييل منقذاً والكتابة مخلِّصة.
"وأنا أحضر شخصيات رواياتي وتصرّفاتها ولا أبددها سدى. باريس برحابتها وعالميتها تدفعني للاشتغال على تدريب كائنات رواياتي على فعل الحرية".ص73.
بين الخوف والتباس القصد وسوء الفهم والشك تتقلب الساردة بين يدي السلطة الممثلة بالآخر.. إنها نتاج تاريخ بعيد وقريب مترع بإشكاليات لا عد لها.. قادمة من بلاد منقوعة بالإيديولوجيا، وتقوِّم البشر على أساس القرابة الإيديولوجية.. بلاد لم تحسم رهانها الحضاري في الحاضر، ولم تثبِّت الحد الأدنى من شروط هويتها.. تواري المشتركات لصالح ما يشعل الفتن، ويُكثر الخنادق.. إنها ألعوبة السياسة أولاً وأخيراً، السياسة بشكلها البربري، الساذج والأعمى، والكاره للحياة. السياسة التي تعرف كيف تقوِّض وتطرد غير أنها لم تتعلم كيف تبني وتأخذ بالأحضان.
"قلتُ، لا بأس، بالكاد يثق الآخر بي ومنشأ ذلك ليس عيباً في شخصياتنا نحن كعراقيين. هي أهوال السياسة، غواية هذا الحزب الـ.. ضد ذاك، لا تسامح هذه الطائفة مع تلك، أو هو عناد الذكورة ضد غنج الأنوثة، لم لا؟"ص117.
هذا القدر من الخيبات والخذلان يضرب بقسوة جارحة.. تشعر أنها لم تعد قادرة على الشغف والغرام.. وحين تخبرها صديقتها هيلين بأن الأوان قد آن للبحث عن عشيق فرنسي تضحك، وهي تدرك أن هذا الحل ليس ممكناً، الآن في الأقل، وأن مثل هذه العلاقة ستكون مؤذية وهي في هذه الحالة من التدهور النفسي، ماكثة بين ثقافتين ولغتين وعالمين، ولكن كما لو أنها في اللامكان. وهي واعية أشد الوعي بأن الهوية حين تنكمش تمسخ الذات وتصادر الحرية، وتشوش معنى الوجود. وأنها بحاجة إلى الآخر، المناظر والضد.. القرين والند.
"إن الهوية، هويات المرء لا نستطيع المكوث داخلها بصورة تبسيطية وروتينية جداً. فهي تبني وتؤسس مشكلة، فلديها مداخل شتى وعليها أوزار لا تحصى لكن هذا المرء يبقى في حالة من التحولات لا تتوقف إلا بالمغادرة عن هذه الدنيا ولا يجوز تصنيفها فقط على هذه الشاكلة أو تلك، فأنا لست أنا وحدي إلا ومعي هذا الغير"ص163.
تسرد كل هذا بروح معذبة لكن ساخرة أيضاً، السخرية تعيد لها توازنها النفسي والذهني، وتخفف عنها عبء القلق والخوف.. وذكرياتها حاضرة ابداً، ولعل هذه الذكريات هي التي تزيد من معاناتها في رحلة البحث عن الهوية، وكأنها تريد تأكيد عراقيتها من طريق المجاز والشعر.. بلاغتها مباشرة مرهفة. وها هي حين تحصل أخيراً على جواز سفرها العراقي الجديد تستحضر صورة جد محلية وهي تصف هذه الهبة المنتظرة بعدما أصبحت أخيراً بين يديها: "جواز سفري العراقي الحديث الطازج والصادر للتو: تموز 2011 يشبه رغيف محلة باب الآغا الشهيرة في بغداد: لذيذ ورخيص وابن أوادم. كاغده صاغ سليم، محبوك بطريقة لا يدخلها التزوير والفبركة والفساد لا من الأعلى ولا من الأسفل"ص185.
تخرج عالية ممدوح من الذات إلى العائلة إلى المدينة إلى العالم ومن ثم تعود إلى الذات، تقرن الخوف بالسياسة والتاريخ، وتدخله في إهاب الأدب.. تحكي عن الكآبة الحزبية في وطنها، عن مآسي المواطن المنبوذ في بلاد العرب مثلما تجسدت في التراجيديا التي صنعها البو عزيزي وهو يحرق نفسه.. وفي مراحل رحلتها هذه كلها تحكي عن الخوف.. الخوف هو بطل كتابها الذي لا يُضارع.
الخاتمة
الرواية هي أكثر الأجناس الأدبية بعداً عن الوثوقية الصارمة والدوغمائية والانغلاق لأنها، إن أُحكمت صَنعتها، هي كتاب الحياة.. تتشكل في تيار الحياة الحي الساخن، ولذا لا تقبل أن تكون خطاباً جوهرانياً قاراً.. ولن تحتمل تمثيل هويات متمركزة على نفسها، متعصبة، جوهرانية، وسترفض رؤية للهوية، كما يريدها بعضهم، ويصفها جلال شوقي بأنها "كينونة متجانسة كاملة وناجزة في زمان ومكان ما، سكونية غير متفاعلة ولا متطورة، إنها ليست نسيج الواقع الحياتي"(5).
بقي سؤال الهوية الهاجس الأساس للشخصية الرئيسة في أغلب الروايات العراقية حتى وإن لم تفصح عن ذلك بصورة مباشرة.. كان السؤال المحرِّك، الظاهر أحياناً، والخفي في معظم الأحايين: من أنا إزاء نفسي وإزاء الآخر، من أنا في العالم؟. ولأن الهوية ترتبط بمشروع الشخصية، ولأن المشروع قد يتعرض للخيانة أو لسوء الفهم والتقدير، أو للإخفاق، والسقوط، فإن وعي الشخصية بذاتها وهويتها يتعرض بالمقابل للتشوش والالتباس.
واليوم، قد تكون الرواية واحدة من أمضى الوسائل لخروج الإنسان من وحشة المناخات التي تتخلق تحت وطأة صراعات الهويات القاتلة، وهي الهويات ما تحت الوطنية. في مقابل أن انتعاش السرد الفني في فضائنا الثقافي سيقوِّض شيئاً فشيئاً تلك السرديات الكبرى كلها التي تغذي الكراهية والعنف والإرهاب.
يورد الروائي الجزائري واسيني الأعرج، في دراسة له، هذه الملاحظة اللافتة:
"غيّرت الرواية اليابانية الجديدة النظرة القاصرة إلى الياباني المجنون بالحروب والدم والفعل الانتحاري الطقوسي، من خلال أعمال موراكامي الذي أظهر في كل نصوصه، الشخصية اليابانية المعاصرة التي تواجه مصيرها الإنساني غير المعزول عن بقية المصائر البشرية الأخرى وهاجس الحرية الذي يشكل انشغالها الأول والأخير".
والحقيقة أن موراكامي ليس الوحيد من بين الروائيين اليابانيين من حقق هذا، بل سبقه إليه روائيون يابانيون آخرون، مثل ياسوناري كاواباتا وكنزابورو أوي وكوبو آبي وغيرهم.. ويمكن أن نجد أمثلة من آداب شعوب أخرى عرفت نتيجة خوضها لحروب فتاكة بأنها دموية، عدوانية، فغيرت الكتابة الروائية التي أنجزها مبدعوها هذه النظرة، كما فعل روائيون ألمان مثل هاينريس بول وغونتر غراس وماريا ريماك، بُعيد الحرب العالمية الثانية، وهؤلاء لم يُدينوا فكرة الحرب وحدها، وإنما قدّموا شخصيات مختلفة عن الصورة المتمثلة في أذهان الآخرين عن الأمة الألمانية والفرد الألماني.
فهل بمستطاع الرواية العراقية أن تضطلع، اليوم، بمهمة تغيير وجهة نظر الآخرين عن الشخصية العراقية والأمة العراقية، تلك التي تشوهت صورتاهما في وسائل إعلام مختلفة وفي أنظار مجتمعات عديدة، نتيجة الحروب العبثية الخارجية منها والأهلية التي أكرهت على خوضها، أو كانت من ضحاياها، طوال العقود الأربعة الأخيرة؟.

الهوامش
(1) ( السرد وأسئلة الكينونة؛ بحوث مؤتمر عُمان الأول للسرد ) جمع وإعداد د. حاتم بن التهامي الفطناسي.. كتاب دبي الثقافية 77 فبراير 2013. ص66ـ67.
(2) ( الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار ) د. إدريس الخضراوي.. رؤية للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ ط1/ 2012. ص145.
(3) ( بول ريكور... الهوية والسرد ) حاتم الورفلي.. دار التنوير.. بيروت 2009. ص35.
(4) ( إشكالية الأنا والآخر: نماذج روائية عربية ) د. ماجدة حمود.. سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ العدد 398 مارس 2013. ص30.
(5) سعيدة بن بوزة ( الهوية والاختلاف في الرواية النسوية في المغرب العربي.. بحث دكتوراه.. 2007ـ2008. ص25.
(6) ( السرد وأسئلة الكينونة؛ بحوث مؤتمر عُمان الأول للسرد ) مصدر سابق ص18.

المصادر
الكتب النظرية:
د. إدريس الخضراوي ( الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار ).. رؤية للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ ط1/ 2012.
حاتم الورفلي ( بول ريكور... الهوية والسرد ).. دار التنوير.. بيروت 2009.
د. حاتم بن التهامي الفطناسي [ جمع وإعداد ].. ( السرد وأسئلة الكينونة؛ بحوث مؤتمر عُمان الأول للسرد ).. كتاب دبي الثقافية.. فبراير 2013.
( إشكالية الأنا والآخر: نماذج روائية عربية ) د. ماجدة حمود.. سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ العدد 398 مارس 2013.
سعيدة بن بوزة ( الهوية والاختلاف في الرواية النسوية في المغرب العربي.. بحث دكتوراه.. 2007 ـ 2008.
د. محمد برادة ( الرواية العربية ورهان التجديد ) كتاب مجلة دبي الثقافية ـ مايو 2011.
الروايات:
أحمد خلف ( الحلم العظيم ).. دار المدى 2010
قاسم محمد عباس ( المحرقة ).. دار المدى ـ دمشق 2010
عالية ممدوح ( الأجنبية ) دار الآداب ـ بيروت 2013.
عامر حمزة ( سابرجيون/ دار فضاءات ـ عمّان 2014.
نزار عبد الستار ( الأمريكان في بيتي ).. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت/ 2011.
مهدي عيسى الصكر ( الشاهدة والزنجي ).. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1988.


لا مستحيل يقف أمام أرادة الأنسان-الفنان مرتضى ناجي:







لا مستحيل يقف أمام أرادة الأنسان-الفنان مرتضى ناجي

في زيارتنا انا والفنان جميل الكبيسي لشارع المتنبي يوم الجمعة , متابعة للظواهر الثقافية في اروقة الشارع ,زرنا معرضا شخصيا لقنان واعد فتي يبلغ من العمر سبعة  عشر عاما, هو معرضه الشخصي الاول ,ادهشنا بإمكانياته الرائعة في الرسم ,رغم انشغاله في الدراسة وهو طالب في السادس الاعدادي , من المتفوقين في دراسته, لكن المحزن انه كان مصابا بشلل ولادي في اطرافه الاربعة, لكن عقله كان متوهجا , هذا ما دلت عليه نظراته وقوة شخصيته ,انه اثبت فعلا لا مستحيل امام ارادة الانسان, انه الفنان مرتضى ناجي  , تحية لمن تحدى الاعاقة بمستوى من الاعمال تفوق فيها على الكثير من مدعي الفن والثقافة.

الجمعة، 12 فبراير 2016

رشيد المخبّل-كيف تكون مجنوناً ولا تعرفك المدينة ؟:أحمد الحلي

رشيد المخبّل
أحمد الحلي
كيف تكون مجنوناً ولا تعرفك المدينة ؟

كثيرةٌ هي الأبحاث والكتابات التي تناولت ثيمة الجنون ، هذا العالم الشائك الفسيح والغريب ، الذي من شأنه أن يثير من حولنا جملة من التساؤلات التي  لن نعثر لها على حلولٍ ناجعة وشافية ، لسنا هنا بصدد  الوقوف عند هذه الظاهرة  أو إيجاد تحليل لها ، فلمثل هذه المهمة خبراؤها والمختصون بها وهم علماء النفس .
على أننا وقبل كلِّ شيء ، نود أن  نثبّت بعض الجمل الموحية التي رسمت ملامح وأعطت مؤشرات ، فقد أبدع بعض أصدقائنا الشعراء في رسم صور غاية في الجمال والإتقان ، ونحن هنا نتحدث عن الشاعر صلاح حسن الذي أطلق في ديوانه "مسلة الرماد" صيحته الشهيرة ؛
أنا مجنون لسبب وأنتَ عاقلٌ بلا سبب
لتبقى أصداؤها وانعكاساتها تتردد بيننا ومن حولنا بلا انقطاع ...

يعرف الجميع أن رشيد الملقّب بالأستاذ  أو المخبّل يخشى الجلوس في  هذه المقهى ، وإن بقي سحرها حاضراً في مخيلته ، والسبب فيما يبدو أنه وقبل أن يداهمه الجنون  ، كان يخوض فيها مع بعض أصدقائه  من مثقفي المدينة حوارات وسجالات فكرية ساخنة  ، فهو كان يعمل مدرّساً لمادة اللغة العربية في إحدى ثانويات المدينة ، وكان محباً للاطلاع ونهماً لقراءة مختلف أنواع الكتب ولا سيما التاريخية  والفلسفية والفقهية ، قيل عنه إنه كان قاسياً جداً مع طلابه ، وإنه كانت تنتابه نوبات شديدة الوطأة بحق بعض طلابه المشاكسين فيعمد إلى ضربهم بكل ما أوتي من قوة ،  خاصة  وأنه يمتلك قامة مديدة وجسد مفتول العضلات ، وفي إحدى هذه النوبات  ضرب أحد طلابه فكسر يده ، وهناك من يؤكد أن الضربة تسببت بمقتل الطالب ، الأمر الذي أدى إلى فصله من وظيفته .
وقد ترك ابتعاده عن الوظيفة ، وكذلك  توقيفه وسجنه في نفسه أثراً مدمراً ، فلم يجد ما يفعله بوقته الفسيح ، سوى أن يذرع الشوارع  بجيوب فارغة وهو يسب ويلعن ويتعمّد أن يصدم المارة ولا سيما الفتيات ، فإذا اعترضه أحدهم هاجمه بكل وحشية  ، ومن أجل ذلك كان الجميع يخشونه ويتحسّبون له .
وأخيراً ، تم إبلاغ بعض الحزبيين ، فرفعوا الأمر للأجهزة الأمنية باعتباره خطراً يهدد أمن المواطنين ، سارعت هذه  فألقت القبض عليه ، وقيل إنه بقي تحت عنايتهم ورعايتهم المركّزة أكثر من شهر ، ليخرج بعدها مهدود القوى ، وازداد هذيانه ، ثم ليدخل بعدها في طور الجنون المطبق ، وإن كانت تأتيه بعض لحظات من الصحو ، فيأخذ يستحضر من الكتب التي قرأها بعض الجمل والمسائل التي تتضمن أفكاراً  ويلقيها بصوته الملائي الأجش على المارة من حوله وهو جالس على الرصيف خارج المقهى يدخن بشراهة ممسكاً عصىً قصيرة غليظة لا يتوانى عن استعمالها ضد كل من يعترض طريقه أو يسخر منه ...
سألت بعض الأصدقاء عن سبب امتناعه من دخول هذه المقهى ، وخاصة في الأوقات التي يكون الجو فيها بارداً أو شديد البرودة ، فيخبرني أنه طالما حدثت مشادات كلامية  كثيرة في السابق بينه وبين بعض الشيوعيين الذين كانوا على الدوام يسفّهون آراءه  ويفنّدون مزاعمه ، ومن أجل ذلك فهو ينفر منهم ومن مقهاهم  ، ولكنه ، مع ذلك يبقى يحن إليها ...
في بعض الأوقات تبدو الصورة المرتسمة في ذهنه عن بعضهم شديدة الوضوح ، حين يخرج أحدهم من المقهى يرمقه بنظرة مستخفه يتبعها بجملته الشهيرة ؛ أبو فسوة ، أحمر ! وإذا مر من أمامه من يعتبره أقل شأناً تكون الجملة هكذا ؛ أبو فسيوة ، أحيمر !
وإبان فترة الحصار القاسي ، عانى غالبية الناس من الجوع وخواء المعدة ، إلا رشيد ، ازداد شراسة  وقسوة تجاه أصحاب المطاعم ولا سيما تلك التي تبيع الگص ، فيقف مبهوراً أمام الشيش ، ويأمر العامل بأن يقص له من الشيش ، فيقتطع له ما يشاء ، فيأخذ بتعبئة عدد من الصمون ، وإذا كان العامل جديداً أو حاول منع رشيد فتلكّأ بتنفيذ مطالبه فإنه يقلب الشيش على رأسه ويأخذ بتحطيم كل شيء ، ومن أجل ذلك فإن هناك اتفاقاً سرياً مضمراً بين رشيد وبين أصحاب المطاعم ، حيث يتم استقباله بصدر رحب   ومن دون جلبة وتصبح الأمور وكأنها قضاءً وقدراً ...
يتوجب عليك ، إذا رأيته يمشي على الرصيف ، أن تتنحى جانباً وأن تفسِحَ الطريق له ، حتى يمرَّ ويمضي ، وكأنك بإزاء إعصار ، ولكنك إذا أرهفت السمع له ، فستطرق سمعك جملة اعتاد أن يرددها مراراً وتكراراً وهي ؛ " أمشي وأنا نائم ، نائم وأنا أمشي !
في بعض أوقات صحوته ، لا يتوانى عن تناول بعض المماحكات الكلامية ومن ضمنها استفساره حول الآية القرآنية ؛" وما تلك بيمينك يا موسى" ، فيعقب قائلاً بصوته الأجش ؛ هل يُعقل يا رب العالمين أنك لا تعرف ما بيمين موسى حتى تسأله هذا السؤال الذي لا معنى له ؛ " يعني أنته تغّشّم روحك " ؟!
 ومع أنه دخل عالمَ الجنون بصورة قطعية ورسمية ، إلا أن الجميع ظلوا ينادونه بـ الأستاذ ، وظل هذا اللقب لصيقاً به حتى النهاية ، وإن بدأ لقب آخر بالبروز أيضاً وهو ؛ رشيد المخبل .
لا أحد يعلم على وجه اليقين كيف يقضي المجانين الهائمون على وجوههم أوقات ليلهم ، وربما لا يعلم غالبيتنا أين ينامون ، ولكن ، من المؤكد أنهم يختارون أمكنتهم التي لا تعدو أن تكون خرائب المدينة المهجورة ، يتشاطرونها مع الكلاب الضالة التي تخرج ليلاً وتهجع نهاراً ، فيتخذ كل منهم مأواه بحسب قدرته على فرض نفسه ووفقاً للتعاطف الذي يبديه الناس القاطنون بالقرب من هذه الأمكنة ، وبطبيعة الحال فإن مجنوناً مثل رشيد لديه كل هذه السطوة والقوة الجسمانية  سيعثر على المكان الأفضل ، فها هو في إحدى ليالي الشتاء يتدثر ببطانيتين سميكتين وإن كانتا قذرتين
وإلى جواره ثمة امرأة ، أجل امرأة !
إنها سعدية المجنونة أيضاً بجسدها النحيل الضئيل ، والتي وجدت فيه ما  يُطمئنها ويوفر لها الحماية من هجمات بعض الشبان الليلية ، وقد عرف الجميع أنها مسكينة وسلسة القياد ، حتى أنها ربما تغيب عن رشيد ثلاث أو أربع ليالٍ  متتابعة ، لتأتي بعدها منهوكة القوى تفوح من فمها رائحة الخمر وإن كانت جيوبها مليئة النقود التي يغدقها عليها بسخاء بعض سواق السيارات  الماجنين ، يبقى رشيد واجماً شارد الفكر معطياً ظهره إليها ، ممتنعاً عن التحدث معها ، هي تحاول أن تكلمه ولكنه لا يستجيب ، إنه الآن هامد مثل صخرة ، هو بالتأكيد يعرف كل شيء وأين كانت ، فالناس في المدينة يعرفون علاقتهما ، وبالأحرى هي من يتحدث ويهذي بأمر علاقتها به بوصفه زوجها ، فيُخبره بعضهم عن بعد على سبيل التشفي والمناكدة بأن زوجته سعدية كانت يوم أمس في أحضان بعض سواق سيارات النص ريم  ، فيُعلّق قائلاً بصوته الأجش ؛
- أدري هاي البربوگـ ما تتوب !  
وأخيراً وبعد مداعبات وتوسلات  مصحوبة ببكائها وأنينها في بعض الأحيان يرق قلبه لها  ، فتمد يدها إلى جيوبها وتخرج النقود وتفرشها أمامه ،  يبدأ بعدّها ، وترتيبها ضمن فئات ، ثم يلفها في كيس ويخبّئها في مكان ما وسط فوضى غرفتهما العطنة ...
على أنه ، وهو في حمى النشوة يحتضنها ويشدّها إليه  بقسوة وقوة ، حتى لتكاد أنفاسها أن تنقطع ، ما تلبث أن تتهادى وتتداعى إلى مخيلته  في أحيانٍ نادرة  صورٌ من الماضي السحيق ، فيرى وجه حبيبته المشع التي أضحت خطيبته فيما بعد ، كان هو في المرحلة الرابعة والأخيرة من كلية الآداب ، بينما هي في المرحلة الأخيرة من كلية الصيدلة ، وأثناء فترة غرامهما التي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات ، كانت الأنظار مصوّبةً على الدوام إليهما ، بوصفهما عاشقين مثاليين يطمح غالبية الطلاب في أن يحذو حذوهما في الوفاء وعمق المشاعر ، وكذلك في اعتنائهما  المفرط بهندامهما ونوع العطر المميز الذي يستخدمه كلٌّ منها .
كانت مثل هذه الرؤى والأخيلة المزركشة تنتابه  في أوقات نادرة جداً ، وإن كان يجد صعوبة بالغة في الوصول إلى وضوح الصورة المطلوب ، ثم ما يلبث أن يُسدل الستار ويتشوّش أمامه كل شيء ...
فكّر رشيد أنه ربما يداهم المنزل مفتوح الأبواب دوماً أحد اللصوص أثناء غيابهما ، فيستولي على مدّخراتهما وبعض أثاثهما ،  فأحضر في إحدى المرات كلباً ضخماً ، الأمر الذي جعل رفيقته الوجلة  تصاب بالهلع والذعر ، حتى أنها هربت واستمرت مختفية لمدة أسبوع ، وظل يفتش الخرائب بحثاً عنها  ، وأخيراً عثر عليها ليصحبها معه عنوة ، وبعد أن هدأ روعها عاد الاطمئنان إليها رويداً رويداً ، وأصبحت تألف الكلب ويألفها كذلك .
حظي هذا الكلب السائب بدرجة باذخة من العناية والرعاية  ما لم يُتحْ لكلبٍ سائبٍ آخر أن يحظى  به ولا سيما الطعام الشهي الذي كان يجلبه له من أرقى المطاعم .
في يوم ما ، عاد رشيد إلى المنزل في وقت أبكر من المعتاد ، أقلقه أنه لم يسمع نباحاً  مرحّباً بمقدمه ، وخشي أن يكون قد هرب ، أو اصطحبته كلبة معها ، خاصة وأنه في الآونة الأخيرة أخذ يسمعه وهو يصدر عواءً شجياً فهم منه أنه نوع من النداء لأنثى من بيني جنسه ، لعل إحداهن تأتي فتقيم معه في هذه البحبوحة .
سار  بحذر بضع خطوات ليجد جثته متكوّمة في إحدى الزوايا ، وللحال أدرك أن كلبه لم يمت ميتة طبيعية ، فهو ، ولغاية الأمس كان في أوج قوته ونشاطه ، لا بد أن ما يخشاه ويتحسّب له  وقع الآن ، هرع إلى الغرفة فوجد أغراضها متناثرة ومبعثرة ، أزاح بعض العاديات التي كانت على هيئة كدس صغير تفوح منه رائحة نتنة ومقززة ، مد يده ، لم يجد الصرة الخضراء ، مد يده إلى مكان آخر لم يعثر على شيء ، وأخيراً أدرك أن أحدهم دسَّ سُمّاً إلى كلبه ، ليستولي على مدّخراتهما التي هي حصيلة كدّهما لسنوات طوال ، غامت الدنيا أمام عينيه  ، أحسَّ أن جسده بدأ ينهار ، وأن رجليه أخذتا ترتجفان ، بصعوبة بالغة جرجر نفسه باتجاه جثة كلبه جلس بقربه ، وأخذ يجهش بالبكاء المرير والعويل ، وفي اليوم التالي حمل بعض أغراضه وارتحل عن المكان .
يؤكد البعض ممن يسكن بالقرب من المكان أنهم سمعوا في تلك الليلة  عواءً  بشرياً  مديداً لبعض الوقت ...
في مراحل لاحقة ، وفي حالات نادرة  جداً  ، إذا داهمه مرضٌ ما  وأحسّ بشدة وطأته  فإنه لا يجد مفراً من أن يجرجر قدميه نحو الصيدلية  ...
 يراها  كما لو كانت هي المرأة ذاتها التي كانت تتمشى معه في باحة الكلية فلم يزدها  تقدم العمرِ إلا سطوعاً وتوهجاً .
 في لحظة صفاء ذهني نادر تنتابه ، يلقي كلٌّ منهما نظرة حيرى إلى الآخر تنم عن صدمةٍ وأسف ، يأخذ الدواء  بيده المرتجفة ويخرج مسرعاً مرتبكاً ، تاركاً دمعة أو دمعتين على موازئيك الأرضية  ....

الأربعاء، 10 فبراير 2016

قبل أن يرضع حفنة التراب-نجاح المصري زهران

قبل أن يرضع حفنة التراب
إلى مساءٍ لم يكتب عن أباريق خاوية 
الى الريح التي تؤرخ أول الجرح
إلى صرخة الأطفال 
أقدم اعتذاري
عن تزاحم الصدأ بفُلكي
عن يدي الفارغة
لكأسِ خمرٍ شرب القمر
لم يجد التاريخ بعبق المناجل
وتذكر زفير الكتب
شهقات البيادر
وتشنج البيوت التي لم يصلها النور
أخاف
أغفو على عطشي
على صدرِ تينةٍ ترزق الفلاحين
و أبكي الأرض
الأمومة
المخذولين على صدر البشر
حتى يطل الشحوب بجلدي
 بزي الشقاء
أحمل صرة جسدي
هنا
هنا التيه وحناجر التعب
والزيتون
يسألني عن زيته وأطفالي
عن سحابة التهبت بجفاف الماء
ألتهم بعض النبيذ وأحشائي
فأنسى أحوالي
وبين هذا
وعناق الزيتون والدفاع عن الأغصان 
يركض الحلم
حاملا حبره النبوءة الى السِحر
الى حفنة القمح
ورشة عطر تُبرق الى حيث ما أريد
كم أتوق إليك أيها الكائن بأنفاسي
قبل أن تتصلب شراييني
وينزف الليل 
حتى تخوم انساني
لأمنح
الإنسان لغة الإنسان
قبل أن يرضع حفنة التراب

وسؤال الأكوان

الظاهرة الادبية كموضوع لعلم الأدب فصل في علم الأدب و موضوعه . -د.انور غني الموسوي

الظاهرة الادبية كموضوع لعلم الأدب
فصل  في علم الأدب و موضوعه .
العلم هو مجموعة ابحاث وفق منهج معين في ميدان معين لاجل الوصول الى قواعد متناسقة بخصوص ميدان دراسته . و لا بد لكل علم من موضوع يبحث فيه . و الأدب هو ظاهرة انسانية ، و لو حللناها الى عناصرها الاولية لوجدنا تلك العناصر بين ما يقع في مجال المؤلِّف و التأليف و بين ما يقع في مجال النص و المؤلَّف ، و بين ما يقع في مجال القراءة سواء كانت قراءة عادية او اختصاصية وهي ما تسمى بالنقد الأدبي . لكن من الواضح ان الأدب ليس اياً من تلك الجهات ، و انما هو في الوعي الانساني نظام معقد من العلاقات بين تلك الجهات ، بعبارة ثانية الظاهرة الادبية هي النظام الانساني المتشكل من مجموعة علاقات بين عناصر الادب الاولية من المؤلف و النص و القراءة . اذن فما يبحث فيه علم الادب هو نظام العلاقات بين تلك الجهات و الذي يمكن ان نسميه بالظاهرة الادبية . فموضوع علم الادب هو الظاهرة الأدبية ، فهو ليس النص و لا المؤلف و لا القراءة .
فصل في منهج علم الأدب
من الواضح ان كل من المؤلف وهو الانسان و ان النص وهو جزء لغوي خارجي و القراءة وهي عملية ادراك ،   يمكن ان تبحث من جهات مختلفة ، اي يمكن ان تتناولها في علوم مختلفة  ، و منها علم الأدب ، فلا بد من منهج متميز و راسخ و واضح جدا للبحث الأدبي يميزه عن باقي العلوم ، كما انه من المهم ان يكون هذا المنهج منتجا للقواعد و القوانين و الا لن يكون قادرا على تحقيق العلمية . و من خلال تأريخ الادب و النقد فانا نجد ان اكثر مناهج النقد علمية هي ما تعلق بالاسلوب ، مثل علم البلاغة العربية و النقد الاسلوبي الحديث ، و لقد بينا في كتابنا ( النقد التعبيري ) ان تطبيقات النقد التعبيري و ما انتجه من مفاهيم ( مابعد اسلوبية ) و المتمكنة من الوصول الى معارف مضبوطة و دقيقة بخصوص الخلفيات الفكرية و المعرفية و الجمالية للمؤلف و عملية التأليف ، و تجليات ذلك في النص ، و انعكاس العوامل الادبية بمعنى عام و التعبيرية و الجمالية بمعنى خاص في معادلات نصية ، و ما توصل اليه النقد التعبيري من مفاهيم بخصوص القراءة و مكانيزما الاستجابة التاثرية و الجمالية . فانه يكون جليا ان منهج و تطبيقات النقد التعبيري الاسلوبية هي الاكثر قدرة على تحقيق  منهج التحليل الادبي العلمي، فتتبع اسلوب المؤلف او بمعنى اكثر تفصيلية بحث طريق تعبيره  هو من اكثر المناهج موضوعية و لو قلبنا اتجاه البحث بان يكون عن طريقة تجلي الاشياء في التعبير يكون للبحث الاسلوبي معنى اكثر تطورا . فالخلاصة ان منهج البحث الاسلوبي مع التوسع مابعد الاسلوبي للنقد التعبيري و بحث طريقة التعبير الادبي عن الاشياء او طريقة تجلي الاشياء في التعبير الادبي هو المحقق لعلمية المنهج الادبي .
فصل في عناصر الظاهرة الادبية
لقد اوضحنا ان موضوع علم الادب هو الظاهرة الادبية و ان البحث الادبي يسعى للوصول الى قواعد و قوانين بخصوص الظاهرة الادبية ، تكون تلك القواعد هي علم الادب .
و لحقيقة ان الظاهرة الادبية هو نظام علاقات بين جهات و مواد انتاجها و وجودها و المتمثلة بالجهة التأليفية و الجهة النصية و الجهة القراءاتية ، فان القواعد تكون مختصة بما بين تلك الجهات من علاقات ، كما انه يمكن تحقق علوم مستقلة ادبية مستقبلية خاصة بالمؤلف فيسمى ( علم المؤلف ) مثلا و علم خاص بالنص فيسمى ( علم النص ) و علم خاص بالقراءة فيسمى ( علم القراءة ) لكن هذا يحتاج الى تراكم معرفي ، وهو وان كان امرا حاصلا مستقبلا بلا ريب لتوفر مقوماته الا ان القاعدة المعرفية غير متوفرة الان ، و سيكون علم الادب و ما يحقق من معارف و تراكمات المدخل و الطريق الى طهور تلك العلوم الجزئية التخصصية .
ان اوضح نظام رابط بين عناصر الظاهرة الادبية اعني المؤلف و النص و القارئ هو الاسلوب او طريقة التعبير ، و طريقة تجلي تلك الجهات بما هي عوامل تعبيرية عميقة  في الوحدة التعبيرية اي المعادل التعبيري . اذن الجامع المسائلي لابحاث علم الادب هو المعادل التعبيري وهو الوحدة التعبيرية التي يتجلى فيها العمل الادبي ، اي ما يعبر به المؤلف في النص عن الاشياء و ما يتلقاه القارئ و ما يصل اليه من ذلك التعبير ، بهذه الطرق يتضح و بجلاء   موضوع مسائل الادب الخارجي و الواضح البعيد عن الظنية و الضبابية و الغموض . و ان الجلاء و والوضوح هو من اهم صفات المعرفة العلمية . و ستنبحث في مناسبات قادمة الاسس النظرية و و خصوصا نظام ( العوامل- المعادلات  ) التعبيرية للمقومات الثلاث للظاهرة الادبية اعني المؤلف و النص و القراءة .

الأحد، 7 فبراير 2016

أختام*- عادل كامل
















أختام*


عادل كامل
[8] أسئلة
    هل ثمة أسئلة يستحيل صياغتها بالكلمات، ونقلها من مواقعها النائية، إلى الآخر: عبر الكلمات، أو عبر أية لغة، حتى لو كانت تجريدا ً خالصا ً: موسيقا، أو مشفرات لونية، رمزية، أو متعددة الأبعاد، مركبة، مختزلة، محورة، أو مقنعّة بأسلوب يحافظ على ديناميتها الداخلية، بنيتها، كي يبقى على علاقة مع الآخر: ظل الذات، أو المجتمع، أو التاريخ، أو في مواجهة الميتافيزيقا...؟
    بالأحرى، هل ثمة أسئلة تنبثق من غير إجابات (كحفنة رماد لكائنات حية أكملت دورتها في الطبيعة/ الوجود)، بمعنى هل ثمة لا أسئلة، بل امتدادات، لأن ما يحدث للفنان، يحدث للأشجار، أو للطير، أو للقتلة...؟
   على إن الإجابات، هي الأخرى، تخلو من الإثارة، إن لم تكن تتضمن أسئلتها...، بل تخلو إلا من الامتداد ذاته لتلك اللا أسئلة،  بعد تحول الحركة العشوائية، إلى حركة، خارج نطاق الحواس، والحدوس، والمراصد، والمختبرات...؟ مثل فواصل الصمت، في الأصوات: درجات. كالحرارة في ذروتها، تحت درجة الانجماد، أو فوق درجة الغليان.
    ذلك لأن غياب المعيار، في النهاية، يقابل وجود معايير (الهرم): رمز أي اله قديم يأمر رعاياه بالنذور ـ والطاعة، وهي التي تذهب إلى أقدم من برمج نظام (الهرم): سلطة ما أن تهرم، حتى تجد من يعيد إليها قوتها، باستبدال الأقنعة، لكن بالحفاظ على:  اللا ـ سؤال، تحت هيمنة إجابات بعدد الأتباع.
    فما الذي كان يدور في رأس النحات منعم فرات، وهو يحدق في عالم لا تتوازن فيه الإجابات بأسئلتها، ولا الأسئلة بإجاباتها...؟
     أسئلة لا تبلغ نهايتها: اللا معنى، لأن النحات صاغ منها موقفه إزاء الاستحالات.
   وها أنا لا أجد دربا ً يقود إلى خاتمة، فالمقدمات تجرجر نهاياتها وتعبر، لتتشكل المقدمات مرة ثانية، إلى ما لانهاية، ضمن عمل استحالة تكامل الأجزاء. فالمثلث يمتلك تعددية بتعددية حتميات تكونه، لكنها جميعا ً تحكي ما لا يروى، لأن الدوافع ذاتها سابقة على تشكلها، مثلما ستتوارى، عبر أشكالها، مع احتفاظها بكينونتها، بحسب رؤيتي لها أنا المحدود ـ إزاء هذا الذي لا استطيع التعرف عليه بأدواتي ـ لا بالفن، ولا بالكلمات.


[9] خلايا

    عندما تصبح الحياة، بمعناها الكلي، مثل من يقوم بقراءة كوكب تحول إلى حفنة من رماد! كتلة  غير منتظمة اجتمعت فيها الأزمنة، وكل جزء من أجزائها يحكي نهاية ما تجمعت كي تصبح علامة، مع أشياء ماثلة: مجرات ونجوم. فما المعنى المستخلص، لدى الدماغ/ الذات، وهي في الأخير، لا ترى أكثر من توقها لمعرفة هذا الماضي الغائب، المنسحب إلى الخلف، إلى ما لانهاية...؟
    إنها صدمة الاندماج، وديمومته. على أن رهافة هؤلاء الذين تمتعوا بقدرات تنظيمية في صياغة جسور مع هذا الممتد، المتحرك، والمخفي، لم ْ يمنحهم إلا قدرات شبيهة بهذا القليل من الرماد: التحولات، من الاندثار إلى الانبثاق، ومن الأخير إلى الاختفاء، لكنها التي تخفي قانونها. ففي يوم ما لن يكون لأعظم الاكتشافات إلا هامشا ً ثانويا ً إزاء اللا ـ كل، بما يمتلكه من دحض للأبعاد ـ والحدود.
    ها أنا لا استطيع ضبط عمل خلايا دماغي، وهي بعدد نجوم المجرة، ولها صلات ما، بالمجرات غير المكتشفة بعد، وليس باستطاعتي إلا أن أروض دوافعي واجعلها متجانسة مع هذا اللا ـ كل.
    فاكتشف، ببساطة، إن ما أستعيده، لا يذهب ابعد من اندثاره، فالدماغ لا يعمل بإرادتي، لا بحرية مائلة، ولا بعقلانية مروضة، بل عبر باثات تجعل الرماد، بين بين، لونا ً بلا حافات. فعملي ينتظم بالعلل، إنما اكتشف إن هذا كله خارج السيطرة.
   هل للفن هذا المعنى، كي يواصل الذهاب ابعد من مداه.....، أم اللا ـ كل، وقد غدا جزءا ً، لا يمكن عزله عن لاحافاته، وقد تحول إلى ختم: حدود، حافات، لها خصائصها...؟
    كان شاكر حسن يتحايل باللغة كي يمجد كيانا ً، في الأصل، يقع خارج مدى الأدوات. فكنت اعترف له ـ عندما كان الهواء يختلط بالدخان، وعندما كان العقل يتعرض للصدمات ـ بأننا لا نصنع فجوات، بعد أن انشغل الإنسان للاف السنين بصناعة الجسور. نحن، بدخول العالم في أتون العولمة، نتكيف مع عمل البذرة، بالدفن.  إننا لا نضع إلا كل ما يعرقل تخطينا نحو الخلاص. على إن ثوابته لم تصمد، ففي عالم يتعرض إلى التفكيك، نجد رهافته تؤدي دورها في رسوماته، ولعبه، بنشوة أربكت حياته، لكنها ساعدته على الاندماج.
   فهل باستطاعتي أن احمي هذا (اللغز): الدماغ، ولا ادعه يقودني، حيث لا أريد، وإنما أراه، ككتلة رماد استحالت إلى أثير....؟
     انه اللا شكل الذي تتحرر فيه الأشكال، من قيودها، كما يحرر الموت، الموتى، من المبرمجات: انه اللا كل يعيد إلينا غيابنا ـ وحضورنا، ولكن من ذا يستطيع أن يلمح هذا المرور....، والمعنى لا يستطيع أن يجد سكنه حتى في الكلمات؟


[10] ديمومة
  احد الدادائيين صرخ: كلنا دادا. ولكن ليس بمعنى كل الطرق تقود إلى روما، وليس بمعنى إن الضد يظهر ضده، وليس بمعنى يقود إلى التجانس، بفعل الوحدة، بل لأن اللا معنى؛ اللا معنى الخالص، لا يمكن أن يكتمل، إلا عبر هذا الحضور. ذلك لأن شرط الضرورة، شرط آليات ترابط العلل، المغاير لمفهوم: العلة من غير علة، والذي يجعل الصفر سابقا ً على العدد...، يدحض الحرية، ويدحض الديالكتيك، شرط إدراك استحالة استبعاده.  وإلا لكانت الدادا قد تحولت إلى أيديولوجيا، والى: قناع. إنها، عمليا ً، ضد ذلك. ولكنها أيضا ً تمتلك أسباب غيابها.
      هو ذا المنفى السابق، في وجوده، المسرح كالموت وحده يعرف ماذا يفعل، بما ينزله الموت، وكأنه اللغة سابقة حروفها، وكلماتها، أي معناها.
    ولكن المنطق الدادائي، في عمقه، يقترن بالجحيم. مع ان الأخير، لا يليق بالحكماء، فكيف يُنسب إلى الآلهة؟ فالتضاد يبزغ، ويستعيد الجدل ديناميته، فيتم وأد الدادا، كي تحافظ على ديمومتها: اللا معنى الخالص وقد فقد مبرراته، لأن العقاب، في الأرض، وفي الجحيم، هو ثمرة سابقة على النظام الهرمي، وسابقة على إرادة الحياة، ونظريات التطور.
    كل ما حاولته الدادا، ليس الصلح، بل قهر القانون، ولهذا  كانت ذروتها مؤجلة. فالدادائي ولد بجينات لم يساوم عليها، كي يستبدل سلطة بسلطة، ولم يهادن، لأجل سلام يتآخى فيه الذئب مع الحمل، والصياد مع الضحية. انه الفعل الذي رأى فداحة تاريخ عليه أن يطوى، ويمحى من نظام الوراثة. لكن أي حلم هذا من غير سلالة ورثت تحول المستحيلات إلى حكم، لأن الأخير، في الأصل، سيغدو كاتما ً للصدمات ذاتها التي سمحت للنظام الهرمي أن يمتد، وأن لا تكون له نهاية.
     ها هو الدادائي الجديد، أي كل فعل يحفر في  نظام اللا معنى ـ ولكن ليس هو العبث ـ يدّب، ليكتشف إن المواجهة وحدها لها مبرراتها في الطرق على قانون الهرم. لكن الموجودات من غير مركز شبيهة بقاعدة لا رأس لها، كي يكتمل المعنى، مرة أخرى، بصدمة المستحيلات.
    هو ذا المنفى يدجن المنفيين، وهو ذا اللا شكل يغدو: مثلثا ً. فالمنفي، بكل أفعاله، لا يمتد إلا في الأرض ذاتها، ولا ينتج إلا أشباحه. كتلك التي أفقدته صوابه. إنما النهايات، هنا، علامات مرور، وليست تزكيات أو استراحة أو مجدا ً. انه الدادائي الذي تعلم أن يقاوم الوهم العام، ولا يدع بصره، أو أصابعه، أو عقله، أو قلبه، أن يتعلق بالشوائب، بعد أن توحد بما فقده منذ غدا كيانه فاتحة للمستحيل.

* تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان:  أختام معاصرة.

الجمعة، 5 فبراير 2016

القصيدة النقدية و القصيدة العلمية مدخل الى الادب العلمي و الشعر العلمي .- د أنور غني الموسوي 5\2\2016

القصيدة النقدية و القصيدة العلمية مدخل الى الادب العلمي و الشعر العلمي .
لقد اطاحت الاسلوبية بفكرة الالهام و المصادر الفوقية الغامضة للشعر ، و بينت و بوضوح ان الشعر عملية اختيارية كأي عمل انساني ، لكننا مع ذلك نفهم الشعر و الادب عموما كظاهرة خارجية وهذا فهم مختلف عن فكرة الاسلوبية الا انه ايضا لا يخرج عن الاختيار بل اننا نفهم الشاعر و الاديب على انه ظاهرة خارجية ، لذلك نتعامل معه بشكل نظام خارجي مرتبط بعلاقات مع الخارج و يكون للخارج تأثيره على شكل الشعر و الادب في كل عصر .
ان الاختيار -  وهو المحور المركزي الذي تستند عليه الاسلوبية و النقد الاسلوبي - يمكّن من القول بوجود ( تقنيات ) في انتاج النص الادبي و القصيدة المعاصرة عموما ، و لا بد لأجل تحقيق نتاج معتبر في هذا العصر من ان يكون الكاتب على مستوى معين من القدرة الادائية و الامكانات التقنية للكتابة ، أي ان عليه ان يمتلك الحد الادنى من تقنية الكتابة ، و لا نقصد بذلك اللغة و اسسها فحسب بل تقنية انتاج الجنس الادبي المعين ، اذ ما عادت الموهبة كافية لانتاج نص ادبي ، و لأجل ان يكتب الانسان الموهوب قصيدة لا بد ان يمتلك التقنيات . و كما انه لا يمكن لورشات الكتابة ان تنتج كتّابا مبدعين من دون موهبة ، فان الموهوبين لا يمكن ان يكونوا مبدعين من دون امتلاك التقنية .
ان التقنيات الاسلوبية في الكتابة يمكن احصاؤها و استقراؤها بجلاء و وضوح مما يمكّن من تحقيق حالة ( الكتابة الادبية العلمية ) بحيث ان هذه التقنيات تبلغ حدا من الضبط يمكّن من تحقيق اقصى درجات التوقع في انتاج اهدافها حتى لو كانت شعورية ، و تحقيق حالة التجريبية و الرياضية . و قد يكون هذا الكلام مرفوضا بالكلية من كثيرين الا انه الحقيقة و الواقع ، و اننا نرى السينما كيف يتدخل العلم و بقوة في انتاج الاثارة فيها ، و ان الاسلوبية هي البوابة الواسعة في انتاج الادب العلمي و القصيدة العلمية ، و لا يجب ان ننسى ان النصوص البلاغية انما انتجت بواسطة تقنيات علم البلاغة ، و لقد بينا في مواطن كثرة ان الاسلوبية تقترب كثيرا بل و تحاكي البلاغة و ان النقد التعبيرية  المابعد اسلوبي الذي نتبناه هو الوريث الشرعي لعلم البلاغة ، و كما ان البلاغة حققت النقد العلمي و ان لم يكن بتلك النظرة الواسعة فان النقد التعبيرية بنظرته الواسعة سيحقق حتما النقد العلمي بكل مقوماته . وان تنظيري بهامش لكل قصيدة شعر اكتبها كما يلاحظ الكثيرون انما هو متأت من الشعور العميق بان الانتاج المهم انما هو بالقصيدة النقدية و بالنص الابداعي المتبّني للفكرة النقدية ، و لا يعني ذلك تراجعا في حرية الابداع و انما يعني النظر الى عملية الابداع من الخارج و توجيه عناصر التأثير فيها الى المواطن التي اثبتت التجربة و الخبرة بل و الاستقراء قوة تأثرها ، لذلك فان فكرة كون النص مقدسا بحيث لا يصح المساس بصورته و لبناته الاولى  و ان العبارة الابداعية مقدسة بحيث لا يصح تغيير صورتها ،  هذا الفكرة غير واقعية و يجب ان تلغى تماما بل يمكن تشكيل النص بصورة مختلفة كما يمكن كتابة العبارة بصورة مختلفة ، بل ان النص و العبارة الادبية التي تخضع للتعديل و المعالجة الرؤيوية و النقدية هي امتن و اكثر تأثيرا و ابداعا .و لقد وجدت ان العبارة الفنية و الشعرية التي  انما اجري عليها تعديلات مهمة و خاضعة لفكرة نقدية و مرجعيات جمالية و تأثيرية و تعبيرية تحقق تميرا في لغتها و اسلوبها و طبيعة تعبيرها و اشارتها و تأثيريتها بل و كمها الجمالي و التعبيري كما بيناها في اشارتنا الى النقد الكمي و النقطة التعبيرية الرياضية .
ان الاستفادة من التجريب العلمي و الاستقراء و الاحصاء و تبين العناصر الكتابية المؤثرة و اجراء التعديل الرؤيوي و الفكري و النقدي و بما ينتج نصا اجري فيه اشتغالات كثيرة سيكون مدخلا مهما و كبيرا نحو ادب علمي تطبّق فيه التقنيات العلمية المناسبة للادب ، وهذا طبعا يحتاج الى قوانين و قواعد في (علم الادب )  و (علم النقد )  و  (علم النص)  ، و هي فكرتنا  و مشروعنا الذي سنعمل عليه و الذي قطعنا شوطنا كبيرا في تحقيقه بل اننا يمكن القول اننا حققنا القصيدة النقدية بشكل واضحة و نتجه نحو تحقيق القصيدة العلمية .

د أنور غني الموسوي 5\2\2016