قصة قصيرة
عصر الحرير
-
بعد ان تحول الهمس إلى لغط، والأخير إلى قصص تسندها الشواهد، وبعد ان تحولت الإشاعات إلى أدلة، والشك إلى وقائع ملموسة، والظن إلى ثوابت، آنذاك اتسعت مساحة الفوضى، والجدل، فشملت أقسام الحديقة برمتها، من غير استثناء. لقد بدأ ذلك كله على نحو غامض، فقد تناقلوا ـ قالت الحمامة للغراب ـ أخبار مبهمة، ضبابية، وقيل هوائية، عن ولادات غريبة....؛ فاللبؤة وضعت غزالا ً، والدبة ولدت نعجة، والخنزير ولد فقمة، وابن أوى وضع تمساحا ً، والأسد ولد مهرا ً، والأتان وضعت كومة من الكرات الصغيرة، والكركدن ولد نعامة، والنمر ولد سمكة....
ـ غير سارة هذه الأخبار.
قالت الحمامة فرد الغراب:
ـ لم تعد أخبارا ً، ولا أوهاما ً، ولا ظنونا ً، فانا بنفسي رأيت الفصائل الجديدة تزحف نحو الساحة الكبرى...
ـ لإعلان التمرد أم لإعلان العصيان؟
ـ لا اعرف.
ـ ما الذي وجدته بالضبط، مادمت كنت رأيت المشهد ببصرك؟
ـ ربما هي نهاية عصر حديقتنا!
ضحكت الحمامة ساخرة:
ـ دعنا من النهايات...، فأنت تعرف ان نهاية العالم وضعت عند فاتحته...، فانا لا تفزعني الحقائق، مادامت نهاية عالمنا مقترنة بمقدماته..، لكن ـ أرجوك ـ اخبرني ما الذي جرى بالضبط، من غير وشوشة، أو تهويل..
راح الغراب يفكر، ولم يجب. فسألته الحمامة:
ـ دعني اسمع صوتك.
ذهل، وأجاب بخوف:
ـ لا امتلك قدرة على النطق...، فانا أفكر! لكن كيف حصل ووضع التيس قنفذا ً، والثور حبل وأنجب مخلوقات آلية، والبعوض راح يلد حبيبات تتحول إلى عصافير، والى ديدان طائرة، وكيف ولدت الحوت مخلوقات لا هي برمائية ولا هي مفترسة..
ـ غريب.
ـ والأغرب ان هذه المخلوقات المستحدثة كانت تطالب باسترداد حقوقها التي سلبت منها...، فانا سمعت زعيمهم يفكر! أي لا ينطق، لا يعوي، لا ينبح، لا يستغيث، ولا يستنجد!
صعقت الحمامة:
ـ أرجوك اشرح لي...، فانا انتمي إلى عصر الثدييات، وأسلافي من الزواحف...، فدمائي خليط من الشوائب والبذور والأضواء والظلمات.
ضحك الغراب، متسائلا ً:
ـ وهل انتمي إلى غير هذه العصور الـ ...؟
ـ دعك من المزاح، ومن الغزل، وقل لي ما الذي جرى في حديقتنا الخالدة؟
ـ عجيب...، فها أنا أدرك ان وجودنا غدا ًعتيقا ً، باليا ً، مندثرا ً...، بالأحرى لا وجود لنا بالمرة!
هز الغراب رأسه، وعبر بالذبذبات. ففهمت الحمامة انه قال لها ان التمرد ليس إلا الشرارة. فطلبت الحمامة منه:
ـ لا تتعجل، لا تسرع .. أرجوك..
فقال الغرب:
ـ هذه الكائنات، يا عزيزتي، ليست وهمية، ولا افتراضية، ولا من صنع الذهن، أو الخيال...، بل ولا من صنع المباديء، ولا من صنع الأيديولوجيات!
تساءلت بشرود:
ـ أن يلد الأسد سحلية، والدب فأرا ً، والحية تلد أرنبا ً برأس كوسج، والنمر يلد قردا ً...وتطلب مني ان لا أتعجب ..؟
تمايلت الحمامة، وكادت تفقد توازنها، فسألته:
ـ ماذا يريدون...؟
ـ لا يريدون شيئا ً! لأنهم أدركوا ان إعادة حقوقهم لا معنى له، ليس لأن ذلك بحكم المستحيل، بل لأنه فقد شرعيته...!
ـ ولكنك لم تخبرني من هم، أصلهم، جذورهم، وكيف امتلكوا إرادة الحضور ...؟
ـ هم، هم، هم الضحايا ....، قلت لك، هم الطرائد، والمظلومين، والمغدور بهم، المذبوحين، المحروقين، والممزقين شر ممزق، وهم أجزاء أجزاء الأصل الأول الذي استحال إلى طعام، والى براز، والى تراب!
ـ آ ...، فهمت، ولكن لماذا لا تعاد لهم حقوقهم...؟
أجاب بصوت متوتر:
ـ الم ْ أخبرك بان زمنك ولى...، وبرمجتك عفى عليها الدهر، وانك أصبحت عتيقة، غير صالة للاستخدام، ولا حتى للكلام!
ـ أتضرع إليك، اشرح لي، فقد أتعلم وأنا ـ كما تعلم ـ شغوفة بالمعرفة، فانا لا أريد ان أموت ضحية عقلي المفقود، ولا ضحية إرادتي المستلبة، ولا أحلامي الغائبة.
ـ حسنا ً، يا حمامتي، فبعد ان استبدلت الأدوار، اقصد ادوار الإنجاب والإخصاب والتناسل، وصارت الذكور تحمل بدل الإناث، ظهرت الفجيعة! وبدأ العصر الذهبي للظلمات!
ـ ماذا قلت؟
ـ قلت لا نهاية لفعل الغوايات، ولا خاتمة للولادات. فالكل يغتصب الكل كي يمتد المحكوم عليهم بالزوال...!
ـ حتى من غير معاشرة شرعية، ومن غير اتصال مباشر..؟
ـ لا حاجة لهذه الممارسات بعد اليوم، فهؤلاء هم ضحايا البراري والغابات والمستنقعات والكهوف والثقوب والشقوق والخرائب ...، هم الطرائد التي تم اقتناصها، وافتراسها، واغتصابها، وقد أصبحت تتشبث بدفاعات استثنائية، فسكنت أجساد جلاديها، ومغتصبيها...، كي تتكون مرة ثانية، وثالثة، وعاشرة، والى ما لا نهاية...، لتطالب بالعدالة!
ـ فهمت! فانا للمرة الأولى أفكر! ولكن ماذا بعد ذلك..؟
ـ لم يطالبوا بإنزال العقاب، أو بالثار، أو بالانتقام ...، فلو حصل ذلك فستكون النهاية قد بلغت ذروتها، فقد أكدوا ان مطاليبهم تستدعي استحداث فصائل لا تعوي، لا تولول، لا تنوح، لا تزأر، لا نهق، ولا تنبح ...، أي الانتقال من عصر الحواس والعقل إلى عصر ..
ـ لا تغلق فمك، تكلم، يا غرابي السعيد!
ـ إلى ...، إلى ...، إلى ...
وسكت، معترفا ً بأنه لا يمتلك أداة للتعبير، والإيصال، والتوضيح.
ـ فالأصوات التي تحولت إلى كلمات أصبحت أدواة متحجرة، بالية، حجرية، لقى، آثار، ونفايات، مثل أكوام من المزابل والخردوات والمخلفات.
ـ ها أنت تؤكد انه آن أوان زوال عهد حديقتنا الغناء؟
ـ اسمعي، يا حمامتي الجميلة..
ـ أنا مصغية لك يا غرابي العاشق!
ـ هناك، في خلايانا، يحدث ما اجهله، فانا أصبحت أفكر في الذي لا أفكر فيه!
فسألته بصوت فزع:
ـ وأنت من ولدك؟
ـ آ ....، بدأت أتلمس وجودا ً آخر غير وجودي.
ـ ماذا تقول...؟
مسترسلا ً:
ـ دعيني انظم إلى رفاقي...، وأشاركهم المطالبة بحقوقنا.
ـ وأنا ؟
فسألها بشرود:
ـ أكان جدك حمامة؟
لم يفزعها سؤاله، ولم يصدمها، بل بدأت ترفرف، كأنها فقدت ثقلها، وراحت تحّوم، وتدور، ثم اقتربت منه:
ـ طالما أحسست ان في ّ أضواء، وفي ومضات كائنات أخرى، إشعاعات، ملامس حريرية، ذبذبات ناعمة، غزل ابيض...!
ـ ها، أيتها المسكينة، أنت أيضا ً سلبت حقوقك منك...، فكم مرة اغتصبك اللقلق، والنسر، والبوم، والصقر...، ومن يعلم ربما هناك ...
ـ تقصد افترسني!
ـ لا فارق، ولا اختلاف إلا بحدود أخطاء التعبير، واللسان، فالاغتصاب مفهوم بلغ ذروته!
لم تجب. كانت تفكر. فراح الغراب يتتبع ذبذباتها الصادرة عن دماغها، حتى لكزها:
ـ أفيقي...، حبيبتي، آن لنا ان لا نعوي، لا ننبح، لا نولول، ولا نغرد أيضا ً.
فسألته بعد لحظة صمت:
ـ أأنت من هذا الجنس المستحدث...، يا ابن الضبع...؟
ـ لا اعرف ...، فالحقائق تؤكد ان السيد المدير لم تلده عنزة، ولم تحبل به خنزيرة، لا أبوه فيل ولا أمه بغي، فقد شاهدوه يغطس في البركة ولم يخرج منها إلا برأس سلحفاة، وذيل طاووس، وأصابعه تحولت إلى مجسات، فمه ثقب، وانفه تحول إلى بندول...، وقالوا انه اخذ يمشي فوق الحبال، مثل بطة، ثم تحول إلى حرباء، بعدها باض بيضة سوداء...، فصفقوا له طويلا ً، وهتفت له الحناجر بحرارة..!
قربت الحمامة رأسها من الغراب:
ـ قلت لي ان والدك كان تمساحا ً، وان أمك كانت غزالا ً ...؟
ـ آ ...، متى تحدث الصدمة، متى تدركين ان الكلمات دفنت مع الديناصورات.
ـ ماذا افعل..؟
ـ دعيني أخبرك بما رأيت...؟
ـ ألا يكفي هذا كي أحبل بكلماتك؟
ـ كم أنت خجولة! كأن أمك من الجن، وجدك من الريح! فانا رأيت التمساح عند البركة يلد من فمه، ومن باقي الثقوب، وقد انشق ظهره أيضا ً، آلاف الثيران ..، الغزلان، والضفادع...، بل وولد كائنات شبيهة بالبشر الأسوياء، فانا سمعت صدمات الولادة، وسمعت نهاياتها. لأن التمساح عاد يسترجع فرائسه، فراح يبتلع، من غير مضغ، كل ما تقيأه.
ـ يفترس أولاده؟
ـ هذه نظرية عتيقة، يا جميلتي، فالأب لا يفترس، ولا يغتصب، ولا يعتدي...، بل يدّخر!
ـ آ ....، هذه إذا ً نهاية عصرنا يا سيدي؟
ـ لا ...، فالذئاب، مثل الليوث، والنمور، والفهود، والصقور...، راحت تخرج أثقالها...، فتدب فوق البسيطة، حتى امتلأت، وفاضت، فنشبت الحرب، فراح الجميع يشترك في ذبح الجميع، وراح الكل يغتصب الكل، وراح الضعيف يأكل القوي، والنحيل يقطع رقبة البدين، حتى صارت النساء طعاما ً للضواري، والأطفال حرقوا أحياء، وانتشرت بدعة السحل، وشطر الأجساد، وبقر البطون، وقطع الأعضاء التناسلية ... عدا بتر الآذان، وجدع الأنوف، وقطع اللسان، وخلع الأسنان، وحشوا المؤخرات بالقنافذ،، فازدهر فرية المخبر، والتنكيل بكل عالم، وفاهم، وحكيم، لأن الجميع صار يعمل على إبادة الجميع، واجتثاثه، ومحوه من الوجود...، حتى بزغ فجر الاستنارة، وهو ما يسمى بعصر الحرير، قيل انه ارق من شفافية المال الزلال. فبدأت الأسود تستعيد، مثل شقيقاتها المفترسات، الحملان، الأرانب، الطيور، والأسماك...، حتى ظهر المدير، فجأة، برأس نحلة، وأقدام ماموث، له ألف جناح، وخمسة آلاف عين، ومائة ألف قضيب....؛ هائجا ً، لم يترك ذكرا ً، ولم يترك حجرا ً، ولم يترك عذراء، إلا واغتصبهم. وكان هذا هو عصر التراب، ثم أعقبه عصر النحاس...، ليمتد وينصهر بعصر الشفافية.
لكزته:
ـ الم ْ تتعب..، الم تصب بالوهن...، الم ترتو..، الم تشبع...، الم ْ تكتف؟
ـ هو ...، هو...، لم يرتو ولم يشبع ولم يكتف، بل قال انه مثل النار كلما توهجت قالت هل من مزيد، هل من مزيد من الأولاد، ومن البنات، من الحجارة ومن الشجر، حتى كاد عصر الشفافية ان يبلغ نهايته، لولا ان السيد المدير عاد ورشح للزعامة...، فحصل على ألف بالمائة، ومليار أخرى هبطت وخرجت ووفدت من كل فج غريب تؤكد طهارته، صفاءه، وانتمائه إلى الخالدين. فلا احد تجرأ أو لمّح بامرأة أو غزال أو لبؤة حبلت به، فهو لم يأت من الهواء، ولم يخرج من الماء، لا شوائب اختلطت بومضات تعاليمه، حجته انه من غير حجة، وبرهانه ليس بحاجة إلى براهين! ولكنه لم يدع الإلوهية، أو النبوة، وإنما عملت الدعاية طوال ساعات النهار والليل بوصفه لا يقل شأنا ً عنهما.
تركت الحمامة رأٍسها يتمايل، بين جناحيه:
ـ أكمل..، أرجوك، فانا أكاد أدمن عليك!
فسألها:
ـ أكان جدك ثورا ً وحشيا ً، أم سمسارا ً ناعما ً، أم تاجرا ً رقيقا ً، أم مدير شركة عابرة للحدود، وعابرة للعبور، عبورية الأصل وعبورية الاستحداث، أم كان أميرا ً للرمال، والدخان ..؟
ـ آه...، وهل أبقيت لي قدرة على الرد؟
خرجت الحروف من غير صوت، تومض، بموجات قصيرة، وأخرى لا مرئية، مثل إشعاعات فوق ضوئية تداخلت بالمرور والعبور من الأسفل إلى اليسار، ومن اليمين إلى القاع، مكورة، ومقعرة، تدور مع المغزل، فيتضاعف النسج، ويمتد في سواحل المجهول.
ـ كفى، فأنت مثلي ...، لم تلدك الكلمات!
وسمعها تولول:
ـ بل أنا ضحيتها.
مسرعا ً أضاف:
ـ لقد أصبحت، يا وردتي، بعد هذا العرس، من الماضي...، فقد انحدرت إلى الفناء!
متابعا ً، قال قبل ان يغيب، يوصيها:
ـ لا تتركي حديقتك، لا تتخلي عن قفصك، لا تخربي عشك، ولا تتعاوني مع الغرباء!
فصاحت بحزن بالغ:
ـ أين ستذهب، أين تهاجر، ولماذا تهجرني، وتتركني للظلمات؟
ـ سأبحث عن كوكب لا أجد فيه من يصغي إلي ّ، ولا أجد أحدا ً أتكلم معه، لعلي اعثر على ركن لا أجد فيه من يفترسني، ولا أفكر في افتراسه، لا يشي بي ولا ابغضه، لعلي لا أجد من لا يؤذيني، من غير سبب، وان لا أؤذيه مهما كان السبب!
قالت تنوح:
ـ لن تجد ..، يا حبيبي، لن تجد!
عندما غاب، بحثت الحمامة عن فمها، فلم تجده.
6/2/2015