الاثنين، 14 يوليو 2014

بين سرقتين.. «عمارة يعقوبيان» و«عزازيل»!-*خليل قنديل

بين سرقتين.. «عمارة يعقوبيان» و«عزازيل»!


*خليل قنديل


إن ما أثاره الكاتب التونسي المقيم في القاهرة كمال العيادي، أخيراً، في الصحف المصرية والعربية حول سرقة بعض الأعمال الابداعية العربية والمتمثلة بعملين إبداعيين، الاول هو رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني، والثاني رواية «عزازيل» للروائي المصري يوسف زيدان يعتبر بحق فضيحة للثقافة العربية على المستوى القطري والعالمي، حيث يسوق العيادي المثال تلو المثال كي يؤكد عملية السطو التاريخية هذه!
يقول العيادي في أحد مقالاته بهذا الخصوص «إن نجم علاء الأسواني بدأ بالانحدار بشكل مرعب ومؤسف خلال السنوات الثلاث الاخيرة بسبب قيامه بخطأ قاتل، وهو أنه استمر في الكتابة والنشر رغم انه يعرف أن الغرب تبنى مخطوط عباس الاسواني والده الساخر الجميل ولم يتعدَ دوره أنه يجمل بعض الأسطر للتضليل، فتحول المخطوط بقدرة قادر من عمل إبداعي لوالده يتناول فيه عمق المجتمع المصري من خلال زاوية مسكوت عنها، موضحاً أن الاهتمام العالمي بالرواية يجيء على خلفية اهتمام الرواية بأملاك اليهود في مصر. وقد أشار العيادي الى أن الأسواني وبعد الشهرة التي نالتها رواية «عمارة يعقوبيان» كتب روايتين، الأولى كانت «شيكاغو»، والثانية كانت رواية «نادي السيارات»، وفي هذين العملين تكشفت ركاكة المستوى الإبداعي عند الأسواني.

وفي المقال ذاته أوضح العيادي أن رواية «عزازيل» رواية قام بسرقتها يوسف زيدان عن رواية إنجليزية قديمة ومهملة لروائي إنجليزي كتبها عام 1853، وترجمها الى العربية عزت زكي باسم «هابيشيا»، ونشرتها دار الشرق والغرب في الستينات، والتي تتكون شخصياتها الرئيسة من بطل الرواية، وهو راهب من وادي النطرون.

وتدور أحداث الرواية حول العنف الذي ساد في أواخر القرن الخامس الميلادي، والإشكالية التي صنعتها الفيلسوفة المصرية ذات الأصول اليونانية «هيباتيا» في ذاك الزمان.

والحق يقال إن رائحة السرقة فاحت من العملين لحظة صدورهما، وكانت الثقافة العربية تهجس بكل هذا، لكن ما من أحد استطاع أن يجاهر بمثل هذه الكارثة الثقافية وإيضاح طبيعة السرقة في العملين إلى هذا الحد! لكنها ما من شك ستكون هذه الحالة علامة فارقة في الثقافة العربية، حيث سيتم التأريخ لعملين استحقا أفضل الجوائز العربية والعالمية، فضلاً عن الترجمات التي حصلت عليها هذه الأعمال.

وهذا بالطبع يكشف عن حالة الغباء المتأصلة في الثقافة العربية، حيث لا تتم الأسئلة عن أصل المضامين الكتابية وإلا ما معنى أن تحصل مثل هذه الأعمال الأدبية على كل هذا الاحتفاء من دون أن يخطر ببال مثقفينا السؤال عن أصل هذه الكتابة ومدى اللصوصية الكامنة خلفها!

ونحن قبل كل هذا نعترف بأن حضارات كاملة سرقت وتم نهبها، لكن المهم هنا هو فردية الحادثة وقسوة اللصوصية فيها، وهذا بالطبع يقودنا إلى تقديم كل الشكر للناقد التونسي كمال العيادي، وإلى كل حراس الثقافة العربية والعالمية الذين ظلوا يقفون للصوص بالمرصاد.
_______

*الإمارات اليوم

الأحد، 13 يوليو 2014

همنجواي في الحلة (9)- أحمد الحلي

كتاب في حلقات

همنجواي في الحلة (9)


                    أحمد الحلي

نداء الأمومة
اعتاد الناس في العراق أبان فترة الحصار ان يبتدعوا وسائل وأساليب  غير معهودة للصمود أمام شبح الجوع وخواء المعدة الذي بات يتهدد حياة الملايين ، وإزاء ذلك جلب في احد الأيام دجاجة ، وفي ذهنه مشروع لتربية الدواجن في حديقة منزله ، ليستفيد من بيضها ولحومها ، وبعد أن نفد بيض الدجاجة وأصبحت " كُركه " حسب التعبير الدارج ، جلب لها عشر بيضات ملقحة من السوق ووضعها في قُنِّها* ، وما إن مضى الوقت اللازم لتفقيس البيض حتى أخذت الكتاكيت تطل برؤوسها الصغيرة ، إلا ان فرحته وعائلته لم تدم كثيراً ، فقد التهم الموت الفراخ واحداً تلو الآخر : واتى عليها جميعاً ، وتكرر الأمر في المرة الثانية والثالثة والرابعة وأخيراً قررت العائلة نقل قفص الدجاج إلى إحدى زوايا سطح الدار حتى لا تبصر أعينهم تكرار وقوع المأساة ، وبعد انقضاء المدة اعتادت العائلة على مشهد رؤية الأب وهو يصعد إلى السطح ثم لينزل وبيده واحد أو اثنان من الكتاكيت الميتة كان الجميع مدركين في التالي انه لم يتبق سوى بيضة واحدة يوشك كتكوتها أن يرى النور لفترة وجيزة ، صعد ابو رياض في اليوم التالي ونزل من دون ان تحمل يده أي شيء ، فاستفسروا منه هل رميته من فوق أجابهم ، كلا، فما يزال قرب أمه حياً ، ويساورني إحساس أن هذا الصغير سيعيش هذه المرة ، فاستفهموا منه وكيف عرفت ذلك ؟ أجابهم ؛ رأيت عجباً ، إذ أبصرت أمه وهي تذودني بشراسة عنه ، ثم رأيتها ترفع رأسها إلى السماء وتقوقئ بطريقة غريبة لم أعهدها في الدواجن من قبل فهمت منها إنها تطلب من خالقها ان يستبقي لها هذا الكتكوت الأخير استجابة لنداء الأمومة التي يبدو إنها لم تذقها قط ، وبالفعل عاش الصغير .
_________________________
* قُن الدجاجة ؛ بيتها  .

كيس طحين

في أحد الأيام وخلال فترة الحصار ، وجهت الدائرة الحكومية التي يعمل فيها بوصفه سائقاً ، وجهته للذهاب بسيارته (البيكب) إلى بلدة المحاويل الواقعة إلى الشمال من مدينة الحلة بحوالي 20 كم لجلب بعض المستلزمات من مخزنها هناك ، وفي طريق الذهاب استوقف احد الأشخاص الواقفين على قارعة الطريق أبا رياض ، فتوقف ، فطلب هذا منه أن يقطر له سيارته العاطلة إلى بلدة المحاويل ، وفي ذهنه أن الـ (بيكب) سيارة شخصية ، وافق على قطر السيارة مقابل مبلغ (10) آلاف دينار ، وفي اليوم التالي ، فوجئ بمدير دائرته يستدعيه على عجل ليقول له بلهجة صارمة موبخة لقد رأيتك بالأمس وأنا ذاهب إلى بغداد وأنت تقطر بسيارة الدائرة إحدى السيارات المدنية العاطلة : فأنكر ذلك بشدة مشدداً على انه لم يسحب أي سيارة ، فأصر المدير ؛
ولكني رأيتك بأم عينيَّ هاتين .
فأجاب بذات الإصرار مبيناً انه لم يكن يسحب أيّ سيارة وإنما كيس طحين !      

شكر ومحمود
اقترب فرّاش الدائرة منه ، وسلمه مظروفاً ، وطلب منه أن يفتحه ، وبعد أن فتحه ، وجد فيه كتاب شكر وتقدير موجّه من مدير الدائرة إليه لحرصه وتفانيه في عمله رغم الظروف الصعبة والرواتب الشحيحة التي لا تفي بأبسط متطلبات الحياة ، وبدلاً من أن يفرح ، اغتاظ كثيراً فتوجه من فوره إلى غرفة المدير ، ليلقي على طاولته كتاب الشكر ، قائلاً له ؛ أنا لست في حاجة لكتاب الشكر هذا ، فقال له المدير ؛ ولم ذلك ؟ قال ، واستخرج من جيبه هوية أحواله المدنية ووضعها أمام عينيه فوق طاولته ؛ تأمل جيداً في اسميْ أبي وجدي ، إنهما شكر ومحمود ، فهم المدير المغزى ، فاستبدل كتاب الشكر بمكافأة مالية !

لوحة

أصيب في السنوات الأخيرة بضعف في بصره ، وبعد أن ذهب إلى أحد أطباء العيون أخبره هذا بعد أن فحصه بعناية ، أن الأمر يتطلب إجراء عملية جراحية ، من أجل (زرع عدسة) بحسب مسمياتهم . 
وفي الموعد المحدد ذهب إلى طبيبه ، وتم إجراء العملية ، وخلال مكوثه في البيت وانتظارا لرفع الخيط ، اتصل هاتفياً بأحد أصدقائه من الفنانين التشكيليين ، وكلفه بتنفيذ لوحة وأعطاه فكرة  تفصيلية عن المفردات التي يرغب في أن تتضمنها اللوحة ، وعندما حل موعد الذهاب إلى عيادة الطبيب ، تأبط اللوحة بعد أن غلفها بعناية ، رحب به طبيبه وطلب منه أن يضطجع على الكرسي المخصص ، إلا أنه قال له ؛ ليس قبل أن تشاهد هذه اللوحة ، و أخذا يرفعان عنها الغلاف .
ألقى الطبيب نظرة على موضوع اللوحة الذي لم يفهم منه شيئا للوهلة الأولى ؛ فقد رأى اللوحة مرسومة وفق الأسلوب التجريدي ، إلا أنه استطاع أن يميز شكلاً على هيئة عين ولكن بجناحين يطيران في الفضاء الفسيح ، وثمة تحتهما أجزاء من الخيط المتساقط ، وأخيراً استطاعت عيناه أن تقرآ عبارة مكتوبة بخط مموّه تقول ؛
فك الخيط يا دكتوري 
خلي يطير عصفوري
فرح الطبيب بهذه الهدية النادرة وأسرع فعلّقها في صدر عيادته .



السبت، 12 يوليو 2014

همنجواي في الحلة(8)-مرسوم رئاسي

كتاب في حلقات
همنجواي في الحلة(8)

مرسوم رئاسي
أحمد الحلي
من بين الأمور التي اهتم بها ، تربية البلابل وما يزال يتذكر احدها والذي أعطاه اسماً هو (حيدر) فكان يصطحب معه هذا البلبل أينما ذهب ، وفي إحدى المرات غفل حيدر عن نفسه قليلاً فهجم عليه قط كان متربصاً به ، فحزن كثيراً لفقده وقرر منذ تلك اللحظة ان يقلع عن تربية البلابل ، إلاّ ان ذلك لم يمنعه من أن يقوم بتربية إحدى القطط الشامية ذات الفراء الناعم الجميل ، وأطلق عليها تسمية (ميسون) ، وكانت على درجة عالية من الكياسة والتهذيب واللياقة ، حتى انه كان يعتبرها جزءاً من أسرته ، إلا انه فوجئ ذات يوم ان مجلس قيادة الثورة يصدر مرسوما يقضي بإبادة القطط والكلاب السائبة ، وان على الذين لديهم حيوانات أليفة في بيوتهم ان يذهبوا بها الى دوائر البيطرة القريبة ليُصار إلى حقنها بالمصل الخاص ضد انتشار الأوبئة ، وبدلاً من أن يعطوها المصل زرقوها بحقنة قاتلة ، الأمر الذي أدى ان يدخل في شجار عنيف مع موظفي الدائرة ، ليخرج بعدها حاملاً جثمان (ميسون) ، ثم ليقوم بدفنها وفق مراسيم خاصة .

 
الحبيس العاشق

منذ وقتٍ مبكّر ، وجد نفسه يعشق الطيور المغرّدة ، ولا سيّما البلابل ، التي كان يشعر بنشوة ما بعدها نشوة وهو يصغي إلى تغريدها منطلقاً من أشجار حديقة بيتهم في الكرّادة ، أو من حدائق البيوت المجاورة ، وحين كان يستولي على اهتمامه شيء ، فإنه كان يتقصّى كافة المعلومات المتوفرة عنه ، من خلال قراءة الكتب المتخصصة ، وكذلك سؤال الأشخاص الذين لديهم خبرة ودراية بهذا الأمر ، وعلى سبيل المثال حصل على معلومة ذات قيمة عززت لديه احترامه واهتمامه بالبلابل ، فقد قال له أحد القرويين ، إن البلابل تختلف كلياً عن باقي الطيور ، وهي تعشق الحرية بشكل غريب ، إذْ أنها الطيور الوحيدة لا تتزاوج قط وهي داخل أقفاصها حتى لا تورث العبودية لصغارها ، وعلى أية حال ، وكما يتذكر ، فقد اقتنى في إحدى المرات بلبلاً من النوع الذي يعيش في محافظة ديالى ، وهو نوع مميز بشهادة العارفين ، وكانت النصيحة الثمينة المقدّمة لمن يريد أن يقتني أحد البلابل ، وهذا الأمر ينطبق كذلك على الطيور المغرّدة الأخرى ولا سيّما الكناريات ، هو أن يعمد الشخص إلى وضع البلبل بمفرده في القفص ، فيكون ذلك دافعاً وحافزاً له لكي يغرّد ويجوّد في تغريده ، ربما من أجل أن تسمع البلابل الأخرى نداءه ، أو أن تغريده في مثل هذه الحالة يكون كغناء سجينٍ يرثي نفسه ، على ما آلت إليه أموره ، وفي إحدى الصباحات سمع تغريدة أخرى  شجية صادرة من بلبلٍ آخر ، خرج إلى الطارمة حيث كان القفص  معلّقاً ، فوجد بلبلاً آخر ، فهم أنها أنثى ، لأن الطائر الذي لديه كان ذكراً ، وظلا يتناجيان ويغردان ، غير آبهيْن لشيء من حولهما ، وقد استهواه هذا المشهد الفريد وطرب له ، وبعد مضي أكثر من أسبوع على هذا الحب الجارف بين الطائرين انتبه إلى أنه يضع نفسه في موضع القاسي الذي لا يرحم  ، فقرر أن يطلق سراح البلبل ، وهذا ما حصل ، فطارا معاً وحلّقا بعيداً ....

محرر البلابل

كان الحصار الاقتصادي يشدد الخناق على حياة الناس ، وكان من العسير على الكثيرين الحصول على النقود الكافية لكي ينفق على عائلته أو نفسه ، وقد أدى ذلك في الكثير من الأحيان إلى تفكك عرى العلاقات الاجتماعية ، بل وامتد ذلك إلى الروابط العائلية أيضاً ، فلم يعد الأخ يهتم أو يأبه بأخيه ، أو حتى الأب بأبنائه من حيث توفير المستلزمات الإضافية أو الكمالية بما في ذلك الملابس وبعض الحاجيات الصغيرة ، وفي أحد الأيام ، وبطريقة ما وجد نفسه يحصل على بعض المال ، وبينما كان يتجول ، كعادته في سوق الطيور ، رأى شاباً قروياً يجلس جانباً وبجانبه قفصٌ كبيرٌ  يحتشد بمجموعة كبيرة من البلابل ، وكما يبدو فإن هذا القروي قد نصب لها فخاً واصطادها في القرية التي جاء منها ، لاحظ أن أصحاب محلات بيع الطيور المغردة لم يأبهوا له ، أو هم أظهروا له ذلك ، من أجل أن يتطرق إليه اليأس من الحصول على المبلغ المناسب ، فيبيعهم البلابل بالسعر الذي يحددونه هم لا هو ، انتظر قليلاً ، ثم اقترب منه ، وسأله عن عدد البلابل في قفصه ، قال الشاب ؛ إنها أربعة وثلاثون ، سأله عن السعر الذي يريده ثمناً لها ؟ فكّر الفتى قليلاً ، ثم قال ؛ إنه يريد خمسمائة دينار ثمناً لها ، وبعد أخذ ورد معه ، وافق القروي على مبلغ 200 دينار ، وسلّمه المبلغ ، قال القروي ؛ ولكن كيف ستأخذها ، هل تريد أن تشتري القفص أيضاً ، أم هل ترغب بشراء قفص جديد ؟ أخبره أنه لن يحتاج إلى أي قفصٍ لها ، وطلب منه أن يمهله بعض الوقت ريثما ينتهي الأمر ، وطلب منه أن يمضيا معاً إلى حيث حافة النهر القريبة ، وهناك فتح باب القفص وسط  ذهول واستغراب القروي ، فأسرعت البلابل بالخروج والطيران بعيداً ، وأخيراً لم يتبق سوى بلبل واحد ، وخرج أيضاً وراقبه أبو رياض منتشياً ، ولم يتعجّب من أن هذا الطائر الأخير لم يشأ أن يهرب بذات الطريقة المتعجّلة التي هرب بها رفاقه ، بل رآه يحلق بتمهل ، ثم ليحط على أحد أسلاك الكهرباء فوقهما ، ثم ليطلق تغريدة آسرة  أخيرة قبل أن يحلّق عالياً ، فهم منها أنه يزجي إليه الشكر والعرفان نيابة عن رفاقه ورفيقاته البلابل ، التي يبدو أنها نسيت أن تقوم بهذا الواجب ، وهي في حمى الهرب من الأسر .


صدر للشاعر ناهض الخياط مجموعة ومضات بعنوان ايها البرق..........انت انا ! -



عن المركز الثقافي للطباعة والنشر-بابل-حلة
صدر للشاعر ناهض الخياط مجموعة ومضات بعنوان ايها البرق..........انت انا  !                       

الجمعة، 11 يوليو 2014

همنجواي في الحلة (7)-

همنجواي في الحلة (7)
كتاب في حلقات
عاصمة البلابل
تعد مدينة خانقين التي تبعد حوالي 150 كم إلى شمال شرق مدينة بغداد واحدة من أهم محطات الاستراحة والاستجمام في العراق ، نظراً لوفرة بساتين الفاكهة فيها والمناظر الخلابة واعتدال مناخها ، كما ان هذه المدينة هي عاصمة البلابل بامتياز أو هكذا كنت أسمّيها ، حيث كانت أعداد البلابل بالملايين ، أو هكذا خُيّل إليّ ، وكان تغريدُها لا ينقطع وخاصة حين تبدأ أشعة الشمس بمصافحة وجه الحقول ، بنهر الوند الذي يخترق وسطها ، لاسيّما وأن هذا النهر مليء بالأسماك ، وكنت اقضي أياماً طويلة في الصيد على ضفّتيه ، بالإضافة إلى ذلك كان مصفى الوند والمدينة المصغّرة المشيدة بالقرب منه قد أقامهما الانكليز في أربعينيات القرن الماضي ، وتم تخصيص عدد من الدور للموظفين والمهندسين الانكليز آنذاك ، وهناك كانت تسكن عائلة أخي ، حيث كنت أذهب إليهم بصورة منتظمة ، وغالباً ما يساورني شعور بأن هذا المكان هو الجنة أو على الأقل هو قطعة منها ، ذلك ان كافة بيوت الحي مرتبة ومنظمة تنظيماً هندسياً ينم عن حضارة وذوق رفيع ، حيث أن كل بيت مجهّز بأنابيب الغاز وموقد للتدفئة وفق الطراز الانكليزي ، والغريب في الأمر ان هذه المدينة التي رحل عنها موظفوها الانكليز إبان ثورة 14 تموز عام 1958 قد تم هدمُها بالكامل بعد الحرب العراقية الإيرانية التي اندلع أوارها في العام 1980 لتستمر لمدة ثماني سنوات احترق فيها الأخضر واليابس وأدت إلى تقهقر العراق في الميادين كافة ، في حين كانت الأمم الأخرى كتلك الواقعة في جنوب شرق آسيا تغذ الخطى في هذه المرحلة بالذات لبناء دول ذات طابع عصري ومنتجة صناعياً وبتكلفة اقل بكثير من تكلفة حربنا الجنونية الباهظة ، وعلى أية حال وقع المحظور ووقع الفأس على الرأس كما يقولون ، وقد ورد من السلطات العليا ببغداد أمر بهدم هذه المدينة الصغيرة أو الحُلم كما كانت تتجسّد لي ، وتم تفكيك مصفى الوند الذي يقع بالقرب منها ، بحجة ان هذا المصفى واقع تحت مرمى المدافع الإيرانية ، وإذا كان هذا الكلام ينطبق على المصفى ، فما ذنب بيوت هذه المدينة ، ان يصار الى هدمها وتحويلها إلى أنقاض ، وقد تبين لنا فيما بعد ان إزالة هذه المدينة من الوجود كان أمراً قد دبر بليل ، وانه كان بدوافع سياسية ، إذ ان عدداً كبيراً من سكنتها كانت لديهم ميول سياسية أخرى ، وقد توفرت لدي قرائن عديدة مماثلة في ، أقدمت فيها السلطات على إزالة أماكن بعينها بحجج ما انزل الله بها من سلطان .




صائد مواد احتياطية !
لم يقتصر ما كانت تخرجه سنارته من الماء على الأسماك والسلاحف وأفاعي الماء ، وانما تعدتها الى أشياء وحاجيات أخرى هي جزء من ذاكرة النهر وما يمور به من أسرار وخفايا ،  ففي إحدى المرات علق (الشص) على ضفاف نهر الحلة بشيء ثقيل ، فاستخرجه بعد عناء فإذا به مكواة قديمة الطراز مما كان يعمل على الفحم ، وفي أعقاب غزو الكويت راحت السنارة تستخرج متعلقات الحرب كالبصاطيل وأقنعة الوقاية من الغازات الكيمياوية وفي إحدى المرات استخرجت هيكلاً كاملاً لرشاشة أحادية ، ولعل أطرف ما يتذكره أن سنارته علقت إبان فترة الحصار بـ(جاملغ) أيمن لسيارة نوع مسكوفج ، فركنه الى جانبه واستمر بعملية الصيد ، وبعد قليل توقف احد السائقين بسيارته ، سائلاً إياه عن الثمن الذي يطلبه لهذا الجاملغ ، فرد ضاحكاً ؛ خذه مجاناً ، فانا لست بائع أدوات احتياطية .
وبعد أسبوع تقريباً ، إذا بنفس السائق يتوقف مستفسراً عما إذا كان قد استخرج الجاملغ الأيسر !





طائر الدراج
اعتاد أن يصف طائر (الدرّاج) بأنه طائر ذو لحم شهي  إلا انه مراوغ ماكر وعصي على الاقتناص ، ومع ذلك فانهم فطنوا إلى نقاط ضعفه ، كالأوقات التي تتطارح فيها الغرام والتي تشغلها عما حولها من أخطار ومكائد  ، وكذلك انبهارها بضوء مصباح السيارة عندما يحل الظلام ، فيقترب منه مبهوراً ، وعند ذلك نستطيع الإمساك به بسهولة ، وما زالت تتراءى أمام عينيه واقعة طريفة غير معقولة مع هذا الطائر ، ففي إحدى المرات أصابوا واحداً ببندقية صيد ، فأمسكوا به وأسرعوا إلى قطع رأسه خشية ان ينفق ، فأخذ جسده المقطوع الرأس يرفرف في الدغل القريب وحين جاؤوا لأخذه لم يجدوه ، وفتشوا عنه في الأمكنة القريبة ولكن دون جدوى ، فعلّق على ذلك قائلاً ؛ ان هذا جزء من مهارة الروغان التي يتصف بها هذا الطائر !



رواية جديدة لعادل كامل-عصر اينانا المستعاد-الفصل الثالث

لتحميل الفصل الاول والثاني والثالث يرجى النقر على الرابط ادناه
http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N

الأربعاء، 9 يوليو 2014

لأنه يقرأ ويكتب أصبح من حماية الزعيم !!!-حامد كعيد الجبوري

لأنه يقرأ ويكتب أصبح من حماية الزعيم !!!




حامد كعيد الجبوري
     ( حميد جابر عبود عيسى المطيري ) من مواليد بابل الحلة عام 1939 م ، نجح من الثالث المتوسط الى الرابع الإعدادي ، ولظروف خاصة لم يستطع أكمال دراسته ، أبلغ رسميا بوجوب مراجعة دائرة تجنيد الحلة يوم 1 / 1 / 1958 م لغرض السوق للخدمة العسكرية ، بموعده المحدد راجع دائرة التجنيد وبلّغ بموعد سوقه الجديد وهو 2 / 9 / 1958 م ، صبيحة 14 تموز اندلعت ثورة 58 الخالدة بقيادة الرمز العراقي الشريف الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم رحمه الله ، وبنفس موعد سوق الجندي المكلف ( حميد ) ألتحق الى مركز تدريب الحلة وبدأت صفحة جديدة بحياة الجندي المكلف ( حميد المطيري ) .
مركز تدريب الحلة :
   داخل مركز تدريب الحلة ومن اليوم الأول سأل الضابط من فيكم يقرأ ويكتب ؟ ، أكثر من واحد رفع يده دلالة أنه يقرأ ويكتب ، ولأن ( حميد ) خريج الدراسة الابتدائية ولم يكمل المتوسطة كان أكثرهم وجاهة ومقبولية لذلك جعلوه مسئولا عنهم ، أخبره الضابط أن عليه أن يأخذ مجموعته المؤلفة من ستة أشخاص الى أحدى القاعات وأغلقت القاعة عليهم ، يقول بقينا في تلك القاعة لحدود الساعة الثالثة عصرا ، جاء أحد الضباط وهو يحمل معه كتاب نقلنا الى وزارة الدفاع العراقية ، قادونا الى محطة القطار برفقة عريف انضباط مأمور وأنطلق بنا القطار لبغداد ، وصلوا لبغداد ليلا وكانت سيارة عسكرية تنتظرهم مع آخرين في محطة القطار وباتوا ليلتهم الأولى كحماة للوطن في مقر وزارة الدفاع .
( وصفي طاهر ) يلتقي المراتب في وزارة الدفاع العراقية :
      صبيحة يوم الثلاثاء من الشهر التاسع عام 1958 م كنا وكما يقول حميد مجموعة تصل لحدود 50 جنديا من مختلف المحافظات العراقية ، وبخاصة محافظات الوسط والجنوب  ، كلنا نرتدي الملابس المدنية ، أعطونا ملابس عسكرية وحذاء ( بسطال ) موضوعة بكيس كتاني كبير ، قالوا خذوها معكم وحاولوا إصلاح مقاساتها لتتلاءم مع مقاساتكم ،   واستمعنا نحن الجنود لمحاضرة ألقاها ضابط برتبة نقيب تخص الجيش وكتمان الأسرار والضبط العسكري ،  وبعد أن أنهى محاضرته قال لنا سيأتيكم ضابط وبرتبة كبيرة يريد أن يتحدث معكم ، دخل لنا ضابط طويل القامة جميل جدا يرتدي قميصا نصف كم ( نص ردان ) ، ويضع على رأسه ( السدارة ) ، وبيده عصى يسمونها عصى التبختر استطعت تمييزها ،  أنها غصن شجرة النارنج ، ضحك بوجه الجميع وهو يقول أهلا بكم في وزارتكم وزارة الدفاع العراقية ، وبدأ يسأل منا ونحن مجاميع من أين أنتم ؟ ، قلت له من محافظة بابل ، قال رجال كرام وعشائر شريفة ، مدينة علم وعلماء وشعراء ، وقال لآخر من أين أنت ؟ ، أجابه أنا من مدينة الديوانية ، قال عشائر عربية أصيلة وشيوخ ورجال ثورة ، ولآخر أجابه حيا الله أهل السماوة وحيا الله رجال ثورة العشرين الخالدة ، وقال للآخرين بما تستحق محافظاتهم ، وبعد أكمال هذه التساؤلات قال مخاطبا الجميع ، يا أبنائي أنتم صفوة مواليد 1939 ومواليد 1940 ، وأنتم من يعرف القراءة والكتابة ولذلك  تقع عليكم مسؤولية تعليم أخوتكم الفنون العلمية القتالية التي ستتعلمونها هنا  ، وأوصيكم أبنائي بهذا الشعب فهو منكم وأنتم منه ، لا تذهبوا لهذه المنطقة القريبة من وزارة الدفاع – اسماها لهم -  لأنها مشبوهة تسئ لسمعتكم وسمعة عوائلكم وسمعة جيشكم ووطنكم ، وهناك مهمة عليّ نقلها لكم وهي أن السيد الزعيم عبد الكريم قاسم يحتاج لقسم منكم يكونوا من ضمن حظيرة حمايته فمن يرغب فنحن نرحب به ومن لا يرغب فليس مرغما على أداء هذه المهمة ، الكثير منا وافق على هذه المهمة أما ( حميد ) فلم تحمله قدماه لهذه الفرحة الكبيرة ، سيصبح من حماية الزعيم عبد الكريم قاسم ، شئ عجيب لم يتحققوا من هو ، عائلته ، ميوله السياسية ، حبه وعدم حبه لزعيم الجمهورية الفتية ، ثم قال الضابط الكبير سنعطيكم أجازة من اليوم الثلاثاء وحتى الساعة الثانية بعد الظهر من يوم الجمعة القادم ، سيقدمون لكم وجبة غدائكم وتأخذون نماذج أجازاتكم وتذهبون لمحافظاتكم بحفظ الله ، قال أحدهم للضابط ( عمي شلون أروح لهلي أولا ما أندل وثانيا ما عندي فلوس ) ، ضحك الضابط بوجهه وقال ستوصلكم سيارات عسكرية ( لكراج العلاوي ) ومنها كل لمحافظته ، وسيارة أخرى ستأخذكم  لكراج ( النهضة ) وسنعطي لكل جندي ( دينار ) واحد ، قال أحد الجنود أنا لا أقبل الصدقة ؟ ، أجابه الضابط أنها ليست صدقة وإنما هي دين عليكم تعيدون الدينار عند استلام راتبكم الشهري ، قلنا ومن الذي سيقرضنا هذا الدينار أنت ؟ ، قال أنكم تزيدون على الخمسين جنديا وهذا المبلغ كثير علي دفعه ولكننا سنعطيكم من الحانوت ، وأمر الضابط  الكبير ضابطا أقل منه رتبة وقال له أعط لكل جندي دينار وأحرص على أن يتناولوا طعام الغداء وأرسل معهم من يوصلهم بسيارة عسكرية لكراج ( العلاوي ) وكراج ( النهضة ) ، سأل أحد الجنود ذلك الضابط الكبير قائلا من أنت سيدي ؟ ، أجابه ألم يعلمونكم من أنا ؟ ، قال الجندي كلا سيدي ، قال له أنا المقدم ( وصفي طاهر ) وخرج من القاعة وهو يودعنا قائلا أذهبوا لعوائلكم بحفظ الله .
   أصبح ل ( حميد ) دينار عراقي ، عشرون درهما ، أنه عملة ورقية ذا قيمة ليست بالقليلة مقارنة بسعر كيلو غرام من لحم الضأن بسعر ( 160 ) فلسا آنذاك .
   بدأت رحلة حميد التدريبية ونسب الى الفوج الأول لواء 19 ، أنه لواء الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم رحمه الله قبل الثورة ، وأصبح حميد بصنف المخابرة و عامل بدالة في وزارة الدفاع .
وجها لوجه مع الزعيم عبد الكريم قاسم :
  يقول حميد أخبرني مسئول ( البدالة ) أن الهاتف اليدوي الآلي لأحد ضباط الركن عاطلا وعليك أصلاح الهاتف ( التلفون )  بعد نهاية الدوام الرسمي ، يقول حميد أخذت عدتي للتصليح ( بلايس ، كتر ، درنفيس ، درج ، سلك تلفون ) وصعدت الى الطابق العلوي في وزارة الدفاع ولم أكن بقيافتي العسكرية الكاملة ، وأنا أحاول أن أتتبع السلك للتلفون المعطوب سمعت صوتا من أحدى الغرف ينادي ( يا ولد ، يا ولد ) ، وأعرف أني لست المعني بذلك النداء ، تكرر الصوت لأكثر من مرة ولا علاقة لي شخصيا بذلك ، فتحت باب تلك الغرفة وأصبحت وجها لوجه مع الزعيم عبد الكريم قاسم ، ارتعدت من الخوف بعد أن خاطبني بعصبية واضحة من أنت ؟ ، وماذا تفعل هنا ؟ ، قلت له سيدي أنا عامل البدالة ولدي واجب تصليح هاتف أحد ضباط الحركات ، قال ولماذا لم ترتدي قيافتك العسكرية كاملة ؟ ، أجبته سيدي انتهى الدوام الرسمي ؟ ، أجاب مبتسما ليطمئنني ولكنك لم ينتهي دوامك أنت عامل ( البدالة ) الخفر  ؟ ، قلت أعتذر سيدي ، قال كنت أنادي لماذا لا تجيبني ؟ ، قلت لا أعلم أنك تقصدني أنا ، قال نعم لا أقصدك وأريد ( المراسل ) أين هو ؟ ، أجبته لا أعرف أين هو سيدي ، قال أذهب وأخبره أني أريده ، ذهبت الى الحانوت ولم أجده ، الى مطعم الضباط ، مطعم المراتب ولم أجده ، لبست قيافتي كاملة وذهبت لسيادة الزعيم وطرقت الباب وسمعت الأذن بالدخول وقلت له لم أجد المراسل  سيدي ، قال لقد أضر بنفسه أذهب لمطعم الضباط وأتني بصحن ، وفعلا أتيته بالصحن وقال لي قلت لك صحنين ، أجبته ( والعباس سيدي كتلي ماعون وما كلت ماعونين ) ضحك بوجهي وقال لا عليك ولدي ، ناولني الصحن وناولته ذلك الصحن ، فتح الزعيم ( السفر طاس ) وأعتقد أن هذه المفردة تركية تتكون من كلمتين ( السفر ) و ( الطاس ) أدمجت وأصبحت ( السفر طاس ) لأنها تستخدم أثناء السفر والتنقل ، و( سفر طاس ) الزعيم  فيه ثلاثة أدراج ، الدرج الأسفل فيه ( المرق ) ، والدرج الوسط فيه الرز ، والدرج الثالث العلوي فيه قطع من الخيار والطماطم ونصف رأس بصل واليسير من الخضروات ، ورغيف من الخبز فوق ( السفر طاس )  أخذ ملعقته وبدأ يضع شيئا من الرز بذلك الصحن ، وسكب فوقه قليلا من المرق وقال لي خذه وتغذى به ، قلت له أكلت وجبة الغداء سيدي ، قال لي خذه يا ولدي ، رفعت الصحن بيدي فقال لا لا دع الصحن لي وخذ الباقي ، قلت له لا يكفيك هذا سيدي ، قال لا  فيه الكفاية ، يقول حميد أخذت ذلك السفر طاس وجلست لوحدي خوف أن يشاركني فيه أحد ، الرز نوع ( بصمتي ) ، المرق ( باميا ) ، ولحمة الضأن لا يزل طعمها تحت لساني لأنها لقمة شريفة .
اللقاء الثاني مع الزعيم قاسم :
    يقول ( حميد المطيري ) كنت بواجب الحرس فوق بناية وزارة الدفاع العراقية القديمة في باب المعظم ، وكنت أحمل بندقية ( سيمينوف ) محشوة بعشر أطلاقات حية ، سمعت حركة في السلم الذي يفضي الى السطح وما هي ألا ثواني وأنا وجها لوجه مع الزعيم عبد الكريم قاسم ولم يكن برفقته أي شخص آخر ، وقفت بمكاني وأديت له سلام الأمراء ببندقيتي ( السيمينوف ) والزعيم قبالتي وقف بوضع الاستعداد رادا عليّ سلامي بيده اليمنى ويده اليسرى لصيقة بجسده وعصا التبختر تحت إبطه الأيسر وبحركة عسكرية وكأن أمامه ( كاميرات ) تصوير تلفزيوني وقطعة عسكرية كبيرة ، قال ( جنبك سلاح ، أسترح  ) ، قال أسمك ؟ قلت ( نعم أني الرقم 31829 ج م مكلف حميد جابر المنسوب الى ف1 ل 19 سيدي ) ، وبدأ يسير أمامي وعيونه تتنقل مسرعة بيني وبين الجانب البعيد لضفة نهر دجلة حيث منطقة ( الجعيفر ) وبيده اليمنى عصا التبختر يضرب بها ساقه بحيث أسمع صوت سقوط العصا على جسده فأفز مرعوبا مع كل ضربة يضرب بها ساقه ، قال لي حميد من اي محافظة أنت ؟ ، قلت من الحلة سيدي ، قال منذ متى وأنت لم تتمتع بإجازتك الدورية ؟ ، قلت منذ خمسة أيام أتيت من أجازتي سيدي ، قال أذهب الى المقدم  الركن ( قاسم الجنابي ) وليعطك عشرة دنانير هدية ويمنحك عشرة أيام إجازة ، قلت له شكرا لك سيدي ، وعاد يتحرك كما بدأ بخطوات سريعة ذهابا وإيابا ، لمحني واقفا لأني كنت أريده أن ينزل من السطح فأتبعه فصرخ بي قائلا ألم أقل لك أذهب وخذ جائزتك وأجازتك ، يقول حميد كانت صرخته لي وكأن عشرة أشخاص  رفعوني من مكاني  ووجدت نفسي بمنتصف السلم مرعوبا ، حين وصولي الطابق الأرضي وعند نهاية السلم وجدت المقدم الركن ( قاسم الجنابي ) فبادرني بالسؤال ما بك ؟ ، حكيت له ما دار مع الزعيم فرد عليّ قائلا (( من هو ( دو مانك ) في الحراسة )) ؟ ، وتعني من هو بديلك بنوبة الحراسة فقلت له ج م ( فلان ) ، فقال لي أذهب وسلم له البندقية وانتظرني أمام باب غرفتي ، وفعلت ما طلب مني ودخلت لغرفة مرافق الزعيم وسلمني نموذج الأجازة وعشرة دنانير وهو يقول لنفسه ( والله العظيم الزعيم خلص راتبه وبديت أنطي من راتبي ) .
شاعر شعبي حلي يلتقي الزعيم عبد الكريم قاسم :
      يقول الجندي ( حميد جابر المطيري ) وقف بباب وزارة الدفاع شاب وسيم مع صديقه قبالة الباب الرئيسي لوزارة الدفاع مقابل محل لبن ( أربيل ) كما يقول حميد ، سألهما الحرس ما تريدان ؟ ، أجابا سوية نريد مواجهة الزعيم عبد الكريم قاسم ، قال لهما الحرس لديكما موعدا للمقابلة ؟ ، أجابا لا ، قال لهما أذهبا أذن من هذا المكان ، ولكنهما أصرا على البقاء ، حاول أمر الحرس أن يقنعهما بترك المكان ولكنهما أصرا على البقاء ، وبلحظات حوار أمر الحرس مع الشخصيين أتت السيارة التي تقل الزعيم قاسم ، هتف أحد الاثنين ( يعيش الزعيم عبد الكريم قاسم ) ، توقفت سيارة الزعيم ونزل من السيارة وسأل الهاتف من أنت ؟ ، وماذا تريد ؟ ، أجابه الهاتف أنا الشاعر الشعبي ( منير إبراهيم الحلي ) وهذا صديقي من الحلة أيضا وأحببنا أن نلتقي بك  لأننا نحبك يا سيادة الزعيم ، قال لهما أهلا بكما تفضلا معي ، وسار معهما صوب مقر عمله بوزارة الدفاع وهو يقول لدي 15 عشر دقيقة أمنحها لكم لأني على موعد مع صحفي أجنبي ، وأستمع الزعيم بغرفته لقصيدة تتغنى بالعراق أنشدها الشاعر ( منير إبراهيم الحلي ) ، قال له الزعيم شكرا لهذه المشاعر الوطنية ماذا تريد أيضا ؟، قال نريد أن نأخذ صورة معك ، وصورا نفسيهما مع الزعيم الشهيد قاسم ، قال الشاعر ( منير ) أريد صورة منك موقعة من قبلك ، أمر بجلب صورة ووقعها له الزعيم ، ضحك الشاعر بوجه الزعيم وقال أريد منك هذا القلم أيضا ، قال الزعيم أنك تستحقه ، وأمر سائقه الخاص بإيصالهم لكراج العلاوي في الصالحية وأعطى لكل واحد منهم خمسة دنانير ، ويقول حميد بعد أسبوع أعطاني المصور صورتين تجمع الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم مع الشاعر الشعبي ( منير إبراهيم الحلي ) وصديقه ، سألت حميد أين أجد الشاعر ( منير ) ؟ ، قال توفى منذ عشر سنوات وكان متزوجا من امرأة مغربية أخذت أولادها الى المغرب بعد وفاة زوجها وتركوا العراق .
موقف بعد العسكرية :
   يوم 11/7/ 1960 م تسرح الجندي ( حميد ) من الجيش بعد أن أكمل سنة وتسعة أشهر ، وتعلم صنعة تصليح الساعات اليدوية وفتح محلا للتصليح .
   يقول حميد عام 2001 م وقف على باب دكاني رجل يرتدي الملابس العربية ( عقال ، وكوفية ، وعباءة رجالية ) ومعه زوجته يتطلعان للمعروض من الساعات ، وكانت ساعة قديمة ماركة ( بتينا ) بوسطها صورة للزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم رحمه الله معروضة مع الساعات ، دخل الرجل لمحلي وسلم وقال ما هو سعر هذه الساعة التي تحمل صورة الزعيم ؟ ، قال له حميد أنها للعرض فقط وليس للبيع ، قال أرجوك أني أريد شرائها ، قلت له أنا معتز بها جدا لذلك لا أرغب ببيعها رغم ما سببته لي الكثير من التساؤلات من جهات كثيرة ، قال الرجل أرجوك أنا من مدينة ( الصويرة ) وكان الزعيم جارنا قديما ، يقول حميد أكراما لهذا الرجل لأبيعها له وعندي غيرها في البيت ،قال حميد للرجل أنها ساعة ثمينة وماركة قديمة وسعرها ثلاثون ألف دينار ، أطرق الرجل وبعد لحظات أخرج لي عشرة آلالاف دينار  وقال هذا عربون الساعة وسأجلب لك المبلغ غدا صباحا بأذن الله ، قال حميد خذ الساعة معك ، فرح الرجل وأخذ الساعة الكنز - كما يعتقد - منتصرا بنشوة الفوز بها  ، صباح اليوم التالي وجدت الرجل جالسا على باب دكاني ينتظر وصولي ، قلت له لماذا تبكر هكذا ؟ ، قال أتيتك لأمرين الأول أن لا أجعلك قلقا بانتظار المبلغ المتبقي ، وثانيا قلت لك أنا جار للزعيم قديما  وهذه الجورة تلزمني بالوفاء بما عاهدتك عليه ، قال حميد للرجل أنك بين خيارين أولهما أن تبقى معي لنأكل طعام الغداء ضيفا عزيزا عليّ ،  أو تأخذ المبلغ المتبقي هدية مني لك ، قال الرجل خياران أحدهما أصعب من الآخر أما البقاء فلا يمكنني ذلك لخشيتي أن تقلق عليّ عائلتي وأعذرني من قبول المبلغ المتبقي وهو حلالك ، أعطى حميد المتبقي من المبلغ لذلك الرجل أكراما للزعيم وهو في قبره المجهول .
   حميد المطيري الآن تاجر يستورد ويبيع السلع المنزلية ، ويتمتع بصحة جيدة ، ويبحث عن كل واردة تقال عن قائده الراحل الزعيم الخالد الشهيد عبد الكريم قاسم رحمه الله .
     
   

الثلاثاء، 8 يوليو 2014

همنجواي في الحلة (6) كتاب في حلقات-كتابة احمد الحلي

همنجواي في الحلة (6)
كتاب في حلقات

رفشان !! *
"بعد أن اضطررت إلى الهرب من العاصمة بغداد بعد أحداث عام 1963 ، استقر رأيي ان استوطن مدينة الحلة ، وهو نوع من التواري عن الأنظار ، بعد ان راجت في بغداد بضاعة كيل الاتهامات بين الناس  آنذاك ، وعقب استقراري في مدينة الحلة الوادعة والمتفتحة فأني شرعت باستئناف ماكنت قد اعتدت عليه من رحلات الصيد ، وفي احد الأيام ذهبت بسيارتي الى قضاء الكفل الذي يتضمن قبر النبي ذي الكفل بالإضافة إلى قبور عدد من أنبياء اليهود منذ عهد نبوخذ نصر وحاخاماتهم ، وعلى ضفة نهر الفرات رميت بسنارتي ، وبعد حوالي الساعة شعرت بآن الخيط يسحبني بقوة غير مألوفة فاعتقدت آن ثمة حوتاً صغيراً عالق بسنارتي ، سحبت الخيط بقوة شديدة ، وذهلت عندما شاهدت (رفشاً) كبيراً عالقاً فيها ، سحبته الى صفة النهر ، ولم استطع السيطرة عليه إلا من خلال جره من أطرافه الخلفية ، وبعد جهد ومشقة استطعت ان أضعه في الخانة الخلفية من سيارتي التي كانت من نوع (موسكو فج ستيشن) ، وفي طريق عودتي ، شاهد الزوار العائدون من النجف هذا المخلوق الغريب الكبير الرابض بسيارتي فتملكهم الفضول لمعرفة ما يكون ، واخذوا يحاذون سيارتي ويسيرون خلفي لكي يمعنوا النظر إليه ، ويبدو ان الرفش قد استمرأ هذا الوضع ، حيث أصبح نجماً فأستعاد ذاته وانتصب على رجليه واخذ يلوّح للزائرين من خلال زجاج السيارة ، واستمر هذا الاستعراض الذي هو اقرب شبهاً بزفة عرس الى حين وصولي الى تقاطع الحلة / نجف في مدينة الحلة ، وأخيراً وصلت إلى داري الكائن في منطقة الماشطة وخلال إنزالي لهذا المخلوق احتشد جمهور كبير من الناس ، كباراً وصغاراً ، رجالاً ونساءً يدفعهم الفضول لرؤية مأثرة ابو رياض الجديدة ..
وأخيراً استطعت إنزاله وسحبته إلى وسط حديقة بيتي وربطته بسلسلة حديدية هناك ، وأوصيت زوجتي بالاعتناء به طيلة فترة دوامي في مصلحة نقل الركاب التي كنت اعمل فيها سائقاً لإحدى حافلاتها ، على أمل أن أقدمه هدية إلى حديقة الزوراء في بغداد في وقت لاحق ، وفي احد الأيام عاد ثملاً إلى البيت فتراءى له الرفش تحت جنح الظلام حصاناً ، فامتطاه ، فإذا به يمشي به ، وامسك بعصا قطرها نصف انج وقربها من فمه فإذا به يقطعها بأسنانه الحادة بأسرع من لمح البصر ، " وما إن شاهدت أم رياض هذا المشهد المروع حتى صاحت بي ؛ " لو الرفش يبقى في البيت لو آني " وقررت المغادرة ، وفي حقيقة الأمر ، فإنها بعد ان رأت قوة أسنانه فإنها خافت على أولادنا من بطشه ، فوافقتها الرأي وهدأت من روعها وقلت لها اطمئني سوف اقتل هذا المخلوق ونتخلص منه ، وبالفعل أحضرت عصا غليظة وضربته على رأسه ، ولكنني سرعان ما ندمت على هذا التصرف الطائش الذي ينم عن جبن ، وقررت ان أعود به إلى النهر ، وهذا ما حصل .
احد الأطفال من منطقة مجاورة ممن شاهد الرفش حكى لأخيه الأصغر سناً ما شاهده ، فاخذ هذا يبكي في الليل مطالباً أمه وأباه بأن يذهبوا به لمشاهدة هذا الكائن الغريب ، " وقد علمت بعد ذهابي الى الدوام ، بأن أم الصبي جلبت ابنها معها في الصباح الباكر ، وأخيراً أوصلوها إلى بيتنا ،  دقت المرأة الباب ، فخرجت زوجتي ، فسألتها ؛ عيني ، هذا بيت ابو رفش ؟! قالت لها زوجتي متبرمة ؛ عيني ، عندنا في البيت رفشان ، رفش ذهب الى دائرته ، والرفش الآخر ذهب إلى النهر فأي منهما تريدين ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
*الرفش هو ذكر السلحفاة حينما يصبح كبيرا  في السن ، وقد أشيع في الموروث الشعبي العراقي عن قوته وقدرته على إغراق السباحين الماهرين أساطير كثيرة .

تشكيل الباب المفتوح... وحدات اللوحة التشكيلية وخفاياها - جاسم عاصي

   

تشكيل

               الباب المفتوح...
                       وحدات اللوحة التشكيلية وخفاياها





 جاسم عاصي


ينشغل النص ، مهما كان جنسه في مسألة مهمة تُشكّل صيرورته التي تُثير الحوار ؛ ألا وهي ماذا وراء كل هذا ...؟ هذا السؤال يُجيب عليه المنتِج للنص من خلال الحوار الدائر بين النص والمستقِبل له . وهي جدلية لا تقل أهميتها عن جدلية إقامة صُرح النص باعتباره معمار شهِد مراحل عديدة لإنتاجه . ولعل أهمها التأمل في ما هو ظاهر ، وكيفية عكس ماهو باطن . من هذا يكون ... التجريد مثلا ً يشكّل إقصاء لمظاهر المرئيات وخصائصها الجزئية والحسية (1) وهو خير تعبير عن خفايا النفس البشرية ، ذلك لأن المقدس ـ وكما أكد الموسوي ـ أو ـ اللامرئي ـ منذ القدم كان محور بحث شامل ، والذي دفع من حوله( الديانة والفن والأدب ) للتعلق برمز ما ورائي ، مخفي .. وبهذا يكون الجدل القائم بين الظواهر والأفكار ما يؤكد الأولوية المتحكمة بالإنتاج . فالأساطير التي تُسجل الوعي واللاوعي الإنساني في آن واحد .. يجري العمل من خلالهما على إزاحة هذا المفهوم أو الحراك ، من مبدأ الدفاع عن الصيرورة ثقافيا ً. وبهذا يمكن القول أنها ـ أي الأسطورة ـ باعتبارها واحدة من منظومات الفكر الأول ، اشتملت على حقائق يمكن أن تنكشف بوضوح إذا ما عرفنا كيف نفسرها ..(2) وبالتالي كيف نوظفها ، نحو قناع ثقافي الآن ، حيث شكّلت واحدا ً مركزياً لمظان المعرفة آنذاك ، ويتم ترحيل عناصرها على وفق جدلية الوجود واللاوجود ، والملائم أو غير الملائم ثقافيا ً ، فالثقافة ملك الأجيال المتعاقبة ، ويكون تداولها من باب مبدأ الحرية في الاستقبال والبث ، ناهيك عن تداولها من حيث إثبات الوجود وأحقيته . من هذا التأثر ينطلق المنتج ، سواء كان هذا التأثر بالأساطير أو جملة المفاهيم التي تُحدد مدارات تداول المعرفة ، على أساس تحقيق الثنائية في الوجود ( الأعلى وألأسفل ، السماء والأرض ، الروح والجسد الحسي المجسد والمخفي المتواري خلف الرموز والأشكال ) هذه الثنائيات تقود في النهاية إلى مستويين من النظرة ، تحددها نظرة واحدة جدلية هي ؛ المرئي واللامرئي . بمعنى ثمة سطح وآخر قاع . وهنالك مجسّد وآخر مُضمَر . وبهذا يمكن أن نحكم على حيوية النص أو عدمها من خلال غناه هذا . فالتجريد ، هو النظر إلى ما وراء الظواهر ، محاولين تأكيد رموز الظاهر ، على أنها دالات لما هو مخفي . من هذا يكون الضابط لفعل التجريد هو المتن الفكري ، الذي ينظر إلى كل مستويات المعرفة بموازين جدلية فاحصة ، وبالتالي يؤلف بينها ويوظفها بانضباط مبدئي معرفي . فالأسطورة مثلا ً هي متداول تتوفر عليه الأحداث والظواهر من خلال قنوات مجريات الواقعة ، لكن المهم في هذا هو كيفية اقتناصها لتحل كمكوّن معرفي وإنتاجي ، يُسهم في بلورة مفاهيم ذات مساس بالواقعى على شتى حراكاته وبناه .
على هذا الأساس يمكن فحص لوحات الدكتور الفنان ( شوقي الموسوي ) على أنها مجموعة رؤى متداخلة ، رائدها التجريب ، والتجريب للأشكال والبنى واحد من المجالات الحيوية التي يمارس من خلالها العمل على تحقيق الذات الإنسانية . فالفنان يخضع لضغط بيئي يخص النشأة ، ومعرفي يتعلق بكشف أسرار الأشياء والظواهر ، ذلك لأنه ومن خلال رسالتيه ( المرئي واللامرئي في الفن الإسلامي و  جغرافية الجدل في الفكر والفلسفة والفن ) وجدناه  يتحرك ضمن ضوابط فكرية واضحة ، وينحو باتجاه الحفر في ما هو مُضَمر في الموروث عبر اللوحة . فالذي جسده معرفيا ً وثقافيا ً في رسالتيه ومقالاته المنشورة التي تتناول الفن وحراكه من خلال رؤى المفاهيم والمتون الموروثة ، تكون محاولته هذه المرة لتأكيد ما هو متأمَلٌ فيه ، عاكسا ً آلية ذاتية لتوليف العناصر المشكّلة للنص ، مرورا ً بعناصر المعرفة عبر إدراك داخلها ومحركها الذاتي ، فالرموز عنده ما يؤكد هذا . إن لوحة الفنان ( شوقي الموسوي ) يتوجب النظر إليها من خلال قنوات عدة ، لأنها في الأساس تولدت من مثل هذه الدوافع والضواغط الإنتاجية .
البيئة والنشأة /

تشكّل البيئة في رسومات الفنان(شوقي الموسوي) مركزا ً. فهو وان اعتمد المخيّال في صوغ وحدات لوحته وبناها الشكلية والموضوعية ، إلا أنه يركن إلى الدلالة المنبثقة من خزينه المعرفي البيئي.ولعل أبرز ما يظهر على السطح من أشكال دالة على وفق مستويين : الأول /
بيئي بحت . بمعنى متعلق بالمستوى الريفي للمدينة . حيث نجد انعكاس خصائص البيئة على تشكلات لوحته ، تعكسها الألوان دون الدخول إلى التفاصيل . فالفنان يحاول أن يؤسطر اللون بإيجاد منطقة تفاعل بين الألوان المنبثقة أساسا ً من لون الشجر والنخيل والأزهار وحيوات بيئة الريف عموما ً وبين تصوراته لتأثيراتها ودلالاتها ، محاولا ً أن يخلق من اللون الأحمر كدالة على الشهادة كما في المثيولوجيا الإسلامية ، في إعطائه دلالة الأسطورة في كونه دالاً على التخصيب . وبهذا يولف بين متون التاريخ ، معتمداً جذراً مخصبا ً كرمز في شخصية الإله ( دموزي ـ تموز ) في الأساطير السومرية و( الحسين ) في المثيولوجيا الإسلامية .  فالترعرع بين أحضان مدينة مسورة بالريف ، ومتمسكة بخاصية العطاء الاخصابي بين البيئتين المدينية والريفية ، شكّل وحدة تعبيرية من شأنها أن تتعامل مع الألوان على نحو يشي بالنظرة الأسطورية ، أي أنه يتمسك بما يمنحه المخيّال الفني من جواز التعامل مع وحدات البيئة على هذا النحو . إن الفنان يعمد إلى أسطره اللون على وفق تدرجه وإيقاعه .
والثاني /
 مثيولوجي خالص . وهذا واضح من أسلوب التعامل مع الثوابت القدسية للمدينة ( كربلاء ) باعتبارها مدينة مزارات ، ومدينة تستقبل المتغيّر والمتبدل من خلال توافد الزوار ، وبالتالي تمارس في كل المواسم طقوس خاصة ، لا تشهدها المدن الأخرى . والفنان الذي ترعرع بين أحضانها وأثّرت فيه البيئة المحيطة ، بما شكّل محور إنتاجه الفني . لذا غدت هذه الشواهد والرموز تبحث عن حيزها الروحي  والابستمولوجي في اللوحة من خلال شفرات وعلامات مؤكدة على هذا  المنحى . الأمر الذي فعّل سطح اللوحة ، وقادنا على ما أكده الفنان باحثا ً فيه عبر مصطلح ( المرئي واللامرئي ) . ونحن إذ نجد مثل هذا التأثير الواضح في خلق حراك اللوحة .
إن تعامل الفنان مع وحدات البيئتين ، لم ينعكس بآلية أو سكونية تسجيلية ، بقدر ما مازج بين الرؤية الأسطورية ، والرؤية المشيولوجية ـ الدينية ـ ، الأمر الذي دفعه إلى تخليق النمط المتحرك والقابل للتفسير بسبب المعرفي الذي يُخصّب المنهج الفني .. وبما يشعره بأن طاقة الرؤية لايمكن أن تتجاوز فيض القياس ، إلا بالوصول عبر تبديات الألوان والإيقاعات التي تقترب من الموسيقى في شدة تآلفها وانسجامها ، وبما تبعثه من حراك نغمي لحظة النظر والمشاهدة . وهنا لابد من الذكر في أن هذا الحراك الدال على المعادل الفني ، يكون أكثر تأثيراً على الذات التي تستقبل اللوحة بكل تفاصيلها بمعرفة منتجة وفاحصة ومرتبطة أيضاً بمخيّال فني خالص  . فالشكل واللاشكل ، الحلم والواقع ،  يوصلان  إلى ذروة الإحساس بالزمن ...  (3) . وكما أكد الفنان (نوري الراوي) على قدرة التواشج مع الضوء في ميلودية لا تنفك أبداً عن ترديد أنغامها ، عبر صور وتعبيرات تتمرأى بصقيل سكون الماء ...(4) وهنا لابد من التأكيد على ما ذكره الفنان ( الراوي ) من أن الماء بسكونه ، وارتباطه بالتاريخ المثيولوجي للمدينة من خلال واقعة الطف والشهادة ، كوّن في لوحات ( شوقي ) إقنيماً يمكن أن نستشف خصائصه وتأثيراته من خلال ضربة الفرشاة ، التي تترك أثرها الطيفي الذي يتواصل بحركته  مع جريان المياه ، وكأنه بذلك يحاول  تحقيق معادلا ً تعويضيا ً عن مشهد العطش ،بإتباع إنارة السطح بانسياب الأزرق وخريره . فالبيئة والنشأة المتمثلة في خزين الذاكرة ، استطاعت أن تُشكّل مهيمنة معرفية . فالفنان يشتغل على اللاوعي الواعي . ذلك لأن التحولات الأبدية التي شهدتها المادة ـ بما فيها البيئة ـ خارج الوعي وداخله ، بحكم قانون لا علاقة له بالحرية أو الضرورة ، وإنما هو قانون متجانس بين الحدود ، كي يأخذ المشهد الجمالي في لحظة وجود وحدة الزمن . . (5)
من هذا كله يمكننا القول أن الفنان استطاع أن يتعامل مع الذاكرة الجمعية والفردية بإمكانية تنحو لعكس ما هو متمثل للواقع والتاريخ والفلسفة . وأرى أن رسوماته لا تنفصل عن أطروحاته في متون بحوثه ودراساته المعنية بالفن ، وبالأخص رسالتي الماجستير والدكتوراه ، حيث اهتمتا في هذا الضرب من المعرفة ، والمعرفة الاستقرائية لواقع تأثير التاريخ على الفن ، بكل تلك الإمكانيات التي يمتلكها التاريخ الأسطوري والمثيولوجي وفن العمارة الإسلامية وتعاشقها مع فن العمارة عند الشعوب الأخرى . وبهذا اكتسب الخاصية المعرفية التي أعانته في صياغة منهجه في الرسم .

التشكيلات والرموز /


لعل ما ذكره ( مارسيا إلياد ) في العود الأبدي ، واحياء ما اختزنه الإنسان في الذاكرة الفردية والجمعية ، شكّل  الحنين الطاغي إلى البدايات ، وذلك بعودة الحيوية إلى الأسطورة من جديد . وهنا نجد أن الفنان وسواه من الفنانين يتعامل مع الموروث من باب التوظيف والإحياء لما هو دال ومؤكد على حيوية كل المُعينات للوحة . فإذا ما درب عليه النص الأدبي من توظيف لذلك لأسباب فنية وموضوعية ، فإن التشكيل يتعامل بحذر مع مثل هذه المتون في حالة التوظيف ، ذلك لأن التعبير باللوحة محدد بجملة آليات ، لعل الخط واللون والظل والضوء تشكّل المساحة التي بإمكان الفنان التحرك في مجالها . غير أن حدود هذه الآليات تنفتح من خلال الموهبة المدعومة بالمعرفة وسعة الرؤية ، بما يجعلها قادرة على توظيف الرموز والأيقونات بكيفيات متعددة ومتباينة . والفنان ( شوقي الموسوي ) يتعامل مع الرمز باعتباره الآلية التي تُجيد المعنى . فما زال المعنى يتخذ له حرية واسعة لكي يتجسد على السطح ، فأن ذلك يكفل حيوية الرمز . إذ من الملاحظ على لوحات الفنان أنها تتعامل مع الرموز باعتبارها سرديات ذات محمولات تتعلق بمجموع المعاني التي تُشكّل المعنى المراد عكسه في اللوحة . لذا نرى ثمة تقنية تشتغل من أجل هذا ، بحيث ينبثق الرمز بحيوية ذاتية ، ليشكّل له موضعاً في اللوحة . ومن الرموز التي يتعامل معها هي الرموز الأسطورية المنبثقة أساساً من رحم المدينة النشأة ومركزها اللون الأحمر رمز الفداء والاستشهاد . غير أن الفنان يأتي على هذا الرمز من منطلق الانفتاح على دلالات أخرى ، تتشاكل مع منطق الحياة وحركة الكون . أي إعطائه بعدا ً كونيا ً من خلال ربطه برمز الخصب ، فالدم هنا رمز قادر على التكيّف في الدلالة ، فهو المخصِّب والمعطِّل لكل عوامل موت الحياة من خلال رمز تجددها ، سيّما ما يعكسه من فعالية الألوان التي هي الأخرى معنية على مستويين : الأول بعلاقتها مع بعض ، وثانيهما تشكيلها لإيقونة ذاتية . وهذا مما يدفع بالحيوية التي تختزنها إلى تجميع الدلالات في دلالة واحدة . وهكذا فعل الفنان مع الخطوط والظل والضوء ، فجعلها أكثر قدرة على إشباع المجالات داخل اللوحة . وذلك بتحويل العتمة إلى فسحة من الضوء الذي يحث على ترسيخ الأمل ضمن الظواهر في الحياة . وفي هذا يعمد الفنان إلى استثمار عناصر الطبيعة لتشكّل رموزاً أخرى مضافة . وهذا يشير إلى جدلية العلاقة الأولى في تشكيل الكون ، وينّم عن طبيعة الصراع الأزلي الذي حفل فيه الوجود ، متمثلا ً في أحداث تناولتها كتب البحث والكتب المقدسة ، على أنها نوع من التاريخ ، غير أنها في خلاصتها تشكّل نوعاً من الرموز التي استقر عليه الوجود . ولعل تشكيل الكون في قصة الخليقة البالية ، وصراع قابيل وهابيل ، والطوفان وغيرها من ( أحداث ـ رموز ) التاريخ البشري الذي غدا عنواناً حيوياً ومجالاً للاستثمار وتحقيق الدلالة بما تضمره هذه الرموز من حيوية ونشاط التعبير عن المعنى العام . فصراع الأضداد مثلا ً قد توفرت عليه لوحة الفنان ، معتبرا ً المقولة التي تؤكد أن الفنان الذي لا يضبط الحركة داخل اللوحة يفقد مكوناتها . بمعنى أن الفنان هنا معني بمرونة ما يطرح ، بحيث يوفر الكيفية التي يتحرك من خلالها الرمز المنبثق من مرونة عناصر الطبيعة . إن إضفاء حيوية عناصر الطبيعة على اللوحة يعني هنا خلق نوع من الوشائج داخلها ، والمحددة بحرية التعبير ، أوما يُطلق عليه بحيوية الجدل المطلق الذي يتحكم ويسيّر الأشياء . خاصة الأزمنة والأمكنة داخل اللوحة ، فالفنان هنا ملزم بإتباع الرمز الذي يُحيله إلى مجموعة انتماءات لأيقونات مستلة من الحاضر والماضي والوقائع التاريخية بصياغات يتحكم فيها المخيّال الفني ، القادر على ضبط الحركة وأسس التوائم بين الرموز التي غدت بمثابة رموز أزلية ، كالألوان ودلالاتها ، والقباب والمنائر والعلّيات بشكل عام ودرجة قدسيتها , وهذا يسحبنا إلى أن نحدس ما تضمره اللوحة من الكيفية التي يتعامل بها الفنان مع رموز المكان مثلا ً ، بحيث يُحولها إلى أماكن فنية خالصة ، مبتعداً عن تفاصيلها الانطباعية ، والاكتفاء بعناصرها المعبّرة كالأبواب والشبابيك ، والأشكال الهندسية كالمثلث والدائرة والمربع والحروف ، والعمل على تكييف دلالاتها على وفق الزمان والمكان لتكون مثار الأسئلة من خلال المنظور المكتَشَف بالملاحظة . وهنا نجد أن الفنان يعمد إلى تحويل اللوحة إلى جدار لمدونة ينوي تسجيل تأملاته عليه . فالحروفية مثلا ً اختلفت في دلالتها المستخدمة عما كان الفنان ( شاكر حسن آل سعيد ) يعني بها  ، واعتبار المدونة ـ الجدار ـ ذات بُعد صوفي  مثيولوجي على وفق العلاقات القائمة بين الرموز ، سواء كانت حروفية أو أشكال أخرى . فالعلاقة هنا ذات حراك سردي يُعين الأشكال على بلورة نوع من الدراما في اللوحة . فالأشكال غير متنافرة ، بل يجمعها إيقاع موسيقي واضح ، يمكن أن نشخصه بالتوافق الهرموني من جهة ، ومن جهة أخرى بحيوية الموسيقى في اللوحة . فالصمت الذي يبدو على اللوحة باعتبارها جدار ، أصبحت ذات صوت عكست العلاقات بين الخطوط والألوان ، وعمل فيه عنصر التكثيف والاختزال والتجريد دورا ً في خلق التوازن داخل مكونات اللوحة . فجداري ( شاكر وشوقي ) يمتلكان حيوية التدوين من خلال إطلاق الأنثيالات والانطباعات بما يشكّل ذاكرة زاخرة بتقادم الزمن .
وهنا لابد من التأكيد على أن الفنان ( الموسوي ) خضع في تشكيل محتويات لوحته ـ جداره ـ على مكون موروث استله من البيئة كما ذكرنا ، في حين نجد ( آل سعيد ) قد شكّل جداره على وفق تأملات صوفية خالصة . ولا نُبعد ( الموسوي ) عن حسه الصوفي هنا ، بل نراه يتعامل مع المكوّن بروحانية خالصة تقترب من روحانيات ( آل سعيد ) . وفي مجال الرموز نجد أن الفنان يولي أهمية لرمز الهلال باعتباره رمزا للقمر ( الإله سين ) ، ودال على الخصب ، يُرفد ذلك باقترانه باللون الأخضر والأحمر الذي هو لون رداء ( النبي يوسف ، سرجون الأكدي ، والإله تموزي ) وهو دال على الخصب حسب ما تقوله الأسطورة .
من هذا نجد أن كل هذه الفعاليات في التعامل مع الرمز ، هي بنى سايكولوجية عند الفنان ، تدفعه إلى البحث عن اللامرئي في المرئي . فالفنان يفترض دائما ً أن هنالك ظاهر ومُضمَر ، مرئي ولا مرئي  منظور وغير منظور . لذا كان بحثه الدائم في الأشكال والظواهر والرموز لها دليل على حيوية هذه النظرة الفلسفية المعتمدة على جدلية الوجود والمجسَدة في ثنائية الحياة والموت . وهو إنما لا يركن إلى الموت كظاهرة فناء بقدر ما يجعلها وينظر إليها على أنها ظاهرة بقاء وديمومة . وهنا لابد من التأكيد على أن الفنان لا يعتمد تبئيراً واحدا ً في اللوحة ، بل نلحظه يعتمد جملة تبئيرات في تشكيل المشهد العام .



الجسد كأيقونة /




يعتمد الفنان في بلورة صورة الجسد من رمز الشهادة حصرا ً ، وهذا التعامل أراه مجسَداً على وفق الخطاطة التالية :
                                                     ــ الحسين
            الشهادة = الرمز + إخصاب ======
                                                      ــ دموزي

من هذا نرى أن الفنان يستحضر الجسد في اللوحة بشكل غير تقليدي ، وإنما بشكله التعبيري ، وعلى وفق ما تتطلبه الضرورة لتجسيد ما تدّخره الذاكرة من مشاهد ، متعاشقة مع المكون الفكري الفلسفي  . فالجسد هنا ، يدخل من باب الاحتمال النصّي الذي يتوجب من خلاله التعبير وحل الإشكال في المشهد . كما وأنه نوع من الذاكرة التي تُعطي رمزها الدال على مركز وجود الأشياء والظواهر وطبيعتها . وهنا قد يكتفي الفنان بأجزاء من الجسد كالكف والقدم واليد والعين ، وبما يُضفي نشاطاً دالاً جديداً على محركات اللوحة .لكنه يترك ظلاله خلف اللوحة أو ضمن كادرها بشكل عام  ، لكن هذا يجسد أيضاً معنى الشهادة أولاً ، ويضفي على المعنى حراكاً آخر معني بكل التشكلات الواقعية وتشوهات الحياة جرّاء الحروب ثانياً، وبما يوحي بندرة الاستقرار السايكولوجي للفرد والجماعة . من هذا يتجسد مظهر الجسد في مشاهد كثيرة على وفق نظرته التي لا تبتعد عن منطق التاريخ ومروياته . ولعل واقعة الطف واحدة من العلامات التي يبني عليها الفنان معمار معانية ، عاكساً كل سوداوية الواقع ، عبر قناع التاريخ هذا ، دون الاعتماد على التفاصيل أو التقليدية في الطرح . فرؤيته لكل هذا الخزين الذي يحييه المشهد الآني ، يعتمد الاختزال والتكثيف في ما يراه الفنان في التاريخ وحركته ، لا رؤيته حسب مكتشفات المروية التاريخية . والذي يُشير إلى ذلك ويعمّـقه ، هي الحركة الموسيقية التي عليها مكونات اللوحة ، بما يُضفي نوعا ً من السردية التي تُحرك الأشياء والمحتويات ، لا أن تضعها في قالب جاهز مؤطر . وهنا يبرز تأثير الوقائع ذات الخاصية القدسية على ذاكرة الفنان ، وبما يخلق بعداً أسطورياً في كل ما يراه ويتعامل معه . فالجسد في اللوحة يتخذ له رمز الإخصاب والديمومة والانبعاث ، وهو ما درجت عليه أساطير وادي الرافدين حصرا ً . إذ نلحظ أن التعامل مع الجسد لا يتم على وفق فضاء محدود وضيّق من الناحية الفكرية ، بقدر ما نجده يُطلق العنان للذاكرة المعرفية ، والذاكرة البيئية وذاكرة المرويات الخاصة والعامة ، أي الذاتية والموضوعية أي تشكيله ثقافياً باعتباره يمثل منظومة فكرية خالصة . فالجسد في هذا المجال متداول معرفي ، يجري التعامل معه كأي مصدر ثقافي آخر كالمكان والزمان ومفردات الكونية ، تضاف إليها الذكورة وخصائصها . ألأمر الذي يقودنا إلى أن نكون متوازنين في التعامل مع الجسد ، سيّما الأنثوي منه . وهذا ما وجدناه متمثلاً في تخطيطات الفنان بحيث شكّل مشهدا ً دالاً على الخصب ، على الرغم من تشظيه ، مبقياً العلامات الدالة على الخصب ماثلة كالأثداء والأفخاذ ، وبقية الرموز الأخرى المعينة في تجسيد دالة الجسد الأنثوي . أما في جانب الجسد الذكوري ، فأنه كثيرا ً ما نجده متشظياً ، متأثرا ً بواقعة الطف . وهي استجابة للمكوّن المحرّك ، وليس للممكن المروي فقط . بمعنى يكون الاختيار العفوي للرموز يتم عبر الأثر والتأثير ، واعتبار سطح اللوحة الفارغ قادر على خلق المحركات وليس مجسدا ً لها فقط . أي لا يلعب السطح عند الفنان استجابة لجوّانيته فحسب ، وإنما يعتمد التخاطر والاستجابة . فهو بمثابة المستقبل والباث في آن واحد . لذا نرى أن العفوية في وضع الرموز ، يستند إلى نوع من التحاور بين الجدار ـ السطح ـ وبين الذات والموضوع . وكلاهما لا يخضع إلاّ إلى العفوية المنطلقة من البُعد المعرفي ، سواء للواقع المعبّر عنه ، أو للمتن التاريخي الذي ما زال يشغل الفنان ويمده بالطاقات التعبيرية . وهنا لابد من الإشارة إلى أن التجريد للأشياء لم يأت هنا على شكل إيماءات في التعبير فحسب ، بل أنها مستويات من التعشيق بين الخطوط والألوان في كل تدرجاتها ، مع ثيمة الصورة التي يُراد تجسيدها في اللوحة . ولعل البُعد المثيولوجي أعان الفنان على أن تكون الأشكال والرموز ذات بنية متحركة ، وحيوية في الدلالة . سيّما ذلك التخاطر الذي يشي بنوع من سعة النظرة ، كتعاشق وتناظر المئذنة مع الصليب ، ثم تعاشق الرموز العديدة كالمثلث والمربع والدائرة والهلال ، لتأخذ دورها في التعبير عن مظان خفية ، لكن اتحادها ووجودها على وفق حركة اللوحة التي كثيرا ً ما ترتبط بالبعد الموسيقي المعبّر عن حركة الزمن . وهو ما عبّر عنه ( الراوي ) في استثارة المتضادات ، في التوفر على الصمت والصوت .(6)  لوضع تشكيلات اللوحة في بُعدها الدرامي في التعبير ، أو بُعدها الملحمي ، لأن مكوناتها تستدعي بؤر التاريخ وحراك الواقع ، ومجموع العلامات الدالة على أبعاد تاريخية واسعة ، على الرغم من اختزال الفنان للسردية التاريخية وتحويلها إلى شفرات دالة يمكن جمعها في تبئير واحد . وفي ذلك تأكيد على ما ذكره الناقد ( عادل كامل ) (7) في كون الفنان لا يتخلى عن المعنى ، إلا بمنحه روح الموسيقى . وهذا يتصل بالطبع بالصمت و الصوت ، وحركة الداخل ، فهو يعمد إلى أن يُحيي تاريخ الأصوات بين جهاز السمع والصوت في فرضية فنية لا تنقطع عن القدرة الذاتية للفنان والطبيعة. إن البناء الدرامي للوحة ، أو ما يصطلح عليه البانوراما ، يتطلب محصلة رؤيوية للتاريخ ، ورؤية متفتحة تستند إلى معرفة ، بما يجعلها قادرة على خلق وشائج ، بين المشاهِد والظواهر ، سواء كانت هذه من عنديات التاريخ أو التأريخ التراجيدي ، أو أنها من رؤية الحاضر في كل إشكالاته .
إن تعامل الفنان مع الجسد بصورته التراجيدية يتشكل عبر مستويين ـ خاصة في تخطيطاته ـ . فهو بين التعبير عن الجسد المقموع ، الذي شكّل في الذاكرة والتاريخ رمزاً للتضحية . وهذا ما تقوم عليه نتاجاته كمؤثر في معظم لوحات الفنان . أو أنه يجسد الايروتيك الجسدي الأنثوي . غير أنه أيضاً يتعامل معه من باب رمز التخصيب . وهو ـ أي الجسد الأنوثوي ـ يعمل على كسر النمط الذي عليه شكل الواقع عبر تجسيد رموز الخصب كالأثداء والأفخاذ والبطن المنتفخة ، وهي رموز تستجيب لبعضها من أجل كسر الجمود وتصعيد الدلالة . أو كما ذكر الناقد ( عادل كامل ) .. التعبير عن حركة الداخل بين الموت والحياة ..(8) . ولعل تعاشق الرموز الأخرى مع الجسد الأنثوي ، دال على استكمال المشهد الذي يستجيب إلى الجوّاني عند الفنان ، وهي وجود الطير كعلامة على براءة الوجود وفطرته ، وحركة الخطوط الدائرية الدالة على حركة الزمن ، وبما يوحي بموسيقى تفيض على بانوراما اللوحة ، كاسرة الجمود المفترض من قبل المشاهِد . إن مجموع المؤثرات في اللوحة تستقبل الأسئلة الضمنية والمتوقعة ، وما ورود الرموز إلا استجابة تُقدم من خلالها العلة والمعلول ، السبب والنتيجة . وبالتالي تفتح آفاقاً واسعة ثرية من رموز المَشاهد والظواهر . وفي هذا نتوقف كثيرا ً ونحن نشاهد لوحات ( الموسوي ) في كونها لا تركن إلى السكون ، بقدر ما تتداخل مع حركة الطبيعة ، والحراك الموسيقي الكوني  ، الذي تلعب فيه الخطوط والألوان دوراً أساسيا ً. وهذا جميعه يُساعد على ترك الانطباع الدال على سعة رؤية الفنان المجسِدة للتفاؤل على الرغم من سوداوية الواقعة في اللوحة . وفي لوحة ضمن تخطيطات الفنان يضع صورة الآلهة بديلا ً متعاشقاً مع صورة الجسد الأيروتيكي . وهذا المعادل أيضا ً يحقق نظرة الفنان إلى الجسد الأنثوي وقدسيته ، باعتباره يجسد رمز الخصب ويعطيه سعة مساهمة في كسر جمود الحياة وسكونيتها  أو انحرافها . فالعقم مرادف للإخصاب . وهنا تكمن محاولة الفنان ؛ في كونه يعبّر عن هذا بالعلامات التي هي من أساسيات الفن  . لذا فالجسد في منظوره فهو رمز للعطاء ، ومخصِّب للحياة . ومن خلال هذا يُعيد دورة ظهور ( دموزي ) في مواسم الخصب والنماء ، متماثلا ً مع ظهور ( الحسين ) في عاشوراء . فالفنان كثيراً ما يستعير من كلا المستويين الأسطوري والديني ، وبهذا لا يحصر تجربته في ممارسة الفن في حيز محدود ، بقدر ما يفتح المعرفة طريقاً للتعبير.





المستويات الأخرى في التعبير /  




من الموضوعات التي اشتغل عليها  الفنان في لوحاته ، إضافة إلى ما ذكرنا ؛ هي ثيمات ذكرناها أيضاً  تتعلق بالرموز الموظَفة في الفن  ، لكن من خصائص اشتغالات الفنان ، أنه يُغيّر من نظرته وممارسته مع هذا الرمز أو ذاك فجدلية النظرة والفحص والتلقي المعرفي ، تواكب مثيلها في ممارسة الفعل الفني التطبيقي ، انطلاقاً ليس من  حساب إزاحة مؤثراته وخصائصه ، بقدر ما تنبع هذه الممارسة من الكيفية التي يتعامل بها مع مكونها  . فهو ينظر إلى الرمز على وفق حركته وحيوية مجاله المعرفي والدلالي . لذا نجده يُغيّر من طبيعة تعاشق الرمز مع المراد التعبير عنه بالفن . وبهذا يحقق الكيفية التي تتم بها العلاقة بين المتضادات ، التي تشكّل عنصر الصراع الذي يراه الفنان من زاوية نظره . هذه المتضادات المؤطرة بمجموعة تشكلات ذات حركة دائمة ، متكررة ومغيّرة لفعل موقعها داخل اللوحة ، بما تنتج دلالة تدفع باتجاه التخلص من هذا التبئير الذي يُحدثه الصراع بين المتضادات التي تعبّر عن حيثيات الوجود المكاني والزماني . هذا الاشتداد يخلق نوعا من الانفراج المتمثل في الأبواب والشبابيك والبؤر الضوئية أو الخضراء . فإذا كان الشباك يمثل فسحة من التطلع ، فإن الباب يفضي لمتغيّر . أي يوصل الخارج بالداخل من باب الانفتاح على الأوسع . فالأبواب عتبات تؤدي إلى داخل أكثر استقراراً وثراء . ومعظم أبواب الفنان تمتلك نوعاً من الهيبة والقدسية ، لأنها تقترن بالضوء الوافر أو الأخضر اليانع والداكن . وكلاهما إشارات للتخصيب . أما في تعامله مع  الرموز الاخرى كالقباب والمنائر والهلال ، فإنه يركن إليها ليحقق من خلالها تأثير العلّيات كما هي في المثيولوجيا والأديان القديمة والمعاصرة ، فالجبل والمذبح ، والزقورات تحولت على وفق النحت في الرمز إلى عليّات أخرى هي المآذن والقباب . وهذا يقودنا بطبيعة الحال إلى تأثيرات الأسطورة على الواقع ومن ثم على  الفنان . هذا التأثير توفر عليه من مجال السعة في الدلالة والتعامل ، وبما يتوافق مع سحر الأسطورة والعودة إليها حسب رؤية ( إلياد )  في العود الأبدي . فالفنان هنا بعودته إلى المتن الأسطوري ، إنما يحايث مطلقها ، ويجاور نظرته للواقع زمانا ً ومكانا ً . وهذا يتجسد بحيوية الذاكرة الفردية التي تعتمد في كل الأحوال على الذاكرة الجمعية ، انطلاقاً من الطقسية ورموزها المجسَدة في اللوحات . ومنها على سبيل المثال ( الرماح ، واقيات الرؤوس عند الفرسان ، الهلال المثبت على الرايات ، الدرع عند الفارس ، السيف ، الخيام ) وغيرها . كل هذه الرموز لها علاقة بمتن الماضي ، يتعامل معها الفنان على أنها دالات أسطورية مؤثرة ، يركن إليها حين تكون جدلية الصراع وشدته موكولة بآلية تعبير من هذا النوع . وكما ذكرنا فأنها من متعلقات الذاكرة وتبدياتها ، حيث تتجسد بأشكال متباينة تتخذ لها موقعا ً على وفق المعنى المراد التعبير عنه . وهي في مجملها تشكيلات موسيقية ، لأنها حافظت على حركتها ودلالتها ، حيث بدت مثلا ً الأجساد ـ في التخطيطات ـ على وفق تدوير وتداخل لولبي يشي بالحركة الموسيقية التي تُنشّط ذهن المشاهِد ، محركة معارفه وانطباعاته من خلال المشاهَدة . وهي رموز لا تبتعد عن رموز الشهادة التي هي رموز الخصب . وفي هذا يتغيّر اللون الأحمر وتتبدل دلالاته حسب موقعه مع بقية الألوان وعلى وفق متغيّر المعنى وحركته داخل سردية اللوحة . من هذا نرى أن الجسد لا يستقر على حال . بمعنى أنه لم يكن بمثابة بورتريت ، بقدر ما يمتلك حيوية مضافة إلى حركة حيوات اللوحة . وتكون الحركة في معظمها دائرية ، تستكمل دورانها من خلال رموزها . في حين يبرز اللون كقوة مؤثرة ، بما يمتلكه من قوة في بعض اللوحات ، على الرغم من حيادية الألوان في لوحات(الموسوي) والتي تترك للمشاهِد هامشا ً للاستنتاج والرؤية من خارج اللوحة نحو داخلها ، بتلق جدلي واضح . فالتعاشق بين الألوان كان محايدا ً أيضا ً فقلما تتوفر اللوحة على لون صارخ يُطغي على الأخريات . وهذا ما أكسب الألوان مرونة وانفتاحاً دلاليا ً .وأرى أن العفوية المعرفية ، واحدة من الأسباب التي قادت الفنان إلى مثل هذه الصياغة .
وبمثل ما فعل في معظم اشتغالا ته  ، فأنه أيضا ً حاول أن يُفرغ ما في ذاكرته على سطح اللوحة ، في ما يخص الرموز المتمثلة في الوجوه .  فالأقنعة هي استعارات لدلالات ، حاول الفنان أن يمنحها بعداً تناصّياً مع وجوه التاريخ وبما ينسجم مع الثيمة المراد التعبير عنها . وإن بدت أقرب إلى تشوهات وجوه ( بيكاسو) في تخطيطاته . فالقناع تعبير مجازي يُراد به الحلول في التعبير عن حالات متباينة . وفي اشتغال ( الموسوي ) نجد أن القناع في تناصّاته ، يتخذ له ناصية مثيولوجية قدسية من خلال توارد الخواطر . وما مجموعة الأقنعة التي حصلت عليها متغيرات دلالية واضحة ، فقد كانت تُحافظ على ذاتيتها ، إلا أن وجه المقدس بدا واضحا ً كتماثل صورة السيد المسيح ورأس الحسين ، في تناصّ تاريخي مبحوث سلفا ً . ليس من باب التشابه في الملامح ، وإنما هو دالة على شدة المخيّال الفني في تلقي المشهد ، وتأثير الروحي على الجسدي ، وتشخيصه على وفق محتوى الذاكرة . وهكذا فعل الفنان في مجموع سرديات الأقنعة التي أراها نصا ً تشكيليا ً واحدة ، يُكمل كل قطعة ـ لوحة ـ ما سبقها ويوصلها بما يلحقها . وهذا فعل درامي جسّدته اللوحة التشكيلية على أبهى صورها .
ما نريد أن نضعه خلاصة إلى تشوفاتنا للوحات الفنان ( شوقي الموسوي ) في كونه من الفنانين الذين يستجيبون إلى الذاكرة المعرفية والكونية ، لتكون مادة ثراء للفن . والموسوي ـ كما رأيناه ـ في لوحاته ،  استجاب لذاكرته التي هي ذاكرة المكان ذو القدسية المتمثل في مدينة ( كربلاء ) بما حفلت به عبر التاريخ القديم والمعاصر من مآثر وصور وحراك ، استحقت أن تكون مادة خصبة للإبداع . وفي هذا فعل الفنانون ومنهم
( جواد سليم ، محمد غني حكمت ، كاظم حيدر ، شاكر حسن آل سعيد ، فتاح الترك ) في كونهم استجابوا للمكون المعرفي الروحي الذي تربّوا عليه . كذلك تجسد ذلك بوضوح في لوحات الفنانين من كل الأجيال ومنهم الفنان الدكتور ( شوقي الموسوي ) .            


    --------------------------------------------------
هوامش /

1 ـ د. شوقي الموسوي / المرئي واللامرئي / رسالة دكتوراه .
2 ـ سيد القمني / الأسطورة والتراث / المركز المصري لبحوث الحضارة ـ القاهرة 1999  ص25ـ26
3 ـ نوري الراوي تصريح له في عام 2003 حول لوحات الفنان د. شوقي الموسوي .
4 ـ نفس المصدر .
5 ـ عادل كامل / جريدة العرب اللندنية العالمية 2001
6 ـ نفس المصدر أعلاه .
7 ـ مصدر سابق .
8 ـ نفس المصدر أعلاه .





قصة قصيرة-بلقيس الدوسكي

قصة قصيرة


الكتاب المفقود


بلقيس الدوسكي
    بحث كثيرا ً عن مسودات الكتاب الأسود الذي ينوي طبعه، والذي سهر الليالي الطوال في تأليفه، ولكن من غير جدوى، حيث لا يتذكر أين وضعها، أو ربما تكون قد سرقت ...؟
ان الكتاب الأسود يتحدث عن مرحلة عاشها مع جدته التي بلغت الثمانين من العمر، وكانت تروي له الحكايات الأسطورية، وجعلت منه طفلا ً خرافيا ً! وبعد رحيل جدته استعاد أساطيرها وراح يدونها حتى بلغت المئات من الصفحات، وأطلق عليها عنوان: الكتاب الأسود.
    كانت أساطير جدته مرعبة، ومن هذه الأساطير واحدة تحكي:
ـ ان ابنة الجيران طلبت منه ان يعيرها كتابا ً عن السحر، فأعارها  الكتاب وطلب منها ان تعيده له خلال يومين. لكنها ماتت في اليوم الثاني، فسار مع المشيعين إلى مثواها الأخير، وظل يبكي عليها ليل نهار لأنه كان يحبها حبا ً عميقا ً.
        وفي إحدى الليالي الحالكة الظلام، وكانت في تلك الليلة عاصفة هوجاء مخيفة أسقطت الكثير من الأشجار وهدمت الكثير من الدور، وكان الشاب يجلس في غرفته المظلمة، وإذا أحس بيد ٍ تمسك به...
    دبّ الرعب في قلبه وقال وهو يرتعش خوفا ً:
ـ من أنت..؟
ـ أنا حبيبتك الراحلة، أنا وردة!
ـ وردة...؟ كيف خرجت من قبرك...؟
ـ جئت أعيد الكتاب لك. فانا لن أخون الأمانة، ثم ان حبي إليك هو الذي أعاد لي الحياة!
ـ لكنني لم أرك ِ.
ـ ستراني في ذات يوم.
    ثم اختفت فجأة واختفى صوتها في العتمة، فخرج كالمجنون وراح يجوب شوارع المدينة المظلمة.
ـ أين أنت ِ يا حبيبتي وردة..؟
   جاء الصوت عبر الظلام:
ـ سأعود إلى قبري!
   وفي اليوم الثاني بدأ في كتابة أساطير جدته المخيفة التي عقدته منذ الطفولة، واسماه: الكتاب الأسود. وعندما فقده، ظل يصرخ بصوت رهيب:
ـ أين مسودات هذا الكتاب، من سرقها، وأين اختفت؟!