السبت، 25 أغسطس 2012
إضاءة-ما لم تنقله الفضائيات-حامد كعيد الجبوري
إضاءة
ما لم تنقله الفضائيات
حدثني بمن ... أثق به كثيرا وبعنعنة موثقة جدا يقول ، حدثني الفيل بن الفيلة ، نقلا عن الحمار بن الحمارة ، مصدره الفرس بن الحصان ، عن البغل أبن أخت الحمار قائلا ، أنقذت الحكومة العراقية الوطنية المنتخبة جزاها الله خيرا العملية السياسية التي بناها العراقيون ( طابوكة طابوكة فوك روس الخلفوهم ) ، ولولا أن تتدارك الحكومة ما حدث في البرلمان العراقي الذي أختلف لأول مرة ، نؤكد أول مرة في حياته داخل قبة البرلمان ، البرلمان متفق على توزيع الحقائب السيادية وغيرها بين الكتل ، ومتفق على قرصنة وزرائهم على المال العام وبعلم الجميع ، ومتفق على أن يبنوا الأمن العراقي الوطني بطريقة ( دمج ميليشيات ) أحزابهم من الأميين والمتخلفين وأصحاب السوابق ضمن الحلقات الرئيسية لدوائر الأمن والجيش والشرطة ، ومتفقون ، ومتفقون .... ألخ ، ومن عجائب الدنيا هذه الأيام أن يختلف البرلمان العراقي بسبب جوهري وحيوي وانتخابي جدا ، أراد الأخوة البرلمانيون الكورد أن يمنحوا كل عائلة كوردية تحت قبضتهم الحديدية وغيرها من العراقيين مبلغا من المال مقداره 100 دولار أمريكي للعائلة بمناسبة عيد الفطر السعيد لهم البرلمانيون ، وقرروا الانسحاب من العملية السياسية ما لم يؤخذ بمقترحهم الوطني ، وثارت ثائرة القوائم السنية البرلمانية ، وقالوا وهددوا بتعليق عضويتهم في البرلمان ما لم يعطى لكل فرد عراقي 30 دولار أمريكي ، وأما القوائم الشيعية المحبة لمذهبها والنادبة و ( اللاطمة ) ( حسينها ) صباح مساء هددت بالتآزر مع بقية الكتل البرلمانية وسوف تسحب ثقتها من رئيس الوزراء ما لم يتم تنفيذ مطلبها الجماهيري المرسوم ، ولأنها تريد أن لا تتوافق مع طلبات البرلمانيين الآخرين فقالت على الحكومة أن تدفع 50 دولار لكل فرد عراقي ، رافعة سماء المنحة كما رسمت من الآخرين ، والغريب أن لا أحد من الفضائيات كان في قبة البرلمان لنقل هذه الأخبار التي تسر وتفرح الشعب المبتلى بالكهرباء والخدمات والإرهاب ، وحمدا لله وصلت كل هذه الأفكار بقدرة قادر عليم للحكومة العراقية الرشيدة والراشدة ، فقررت الاجتماع فورا لتدارك وتلافي هذا السقوط الحتمي للحكومة والبرلمان والعملية السياسية برمتها ، وقدم سعادة وزير المالية لفخامة رئيس الوزراء المقترح التالي ، نجمع المبالغ المطلوبة 100 دولار زائد 30 دولار زائد خمسون دولار فتكون النتيجة 180 دولار ، ولأن الحكومة الرشيدة أرادت إجهاض هذا التآمر المراد منه إسقاط هيبتهم ودفاعا عن هذه الهيبة ، لذا أقترح أن يعطى لكل رب أسرة 80 دولار ولكل فرد من أفراد العائلة 50 دولار ، وبلغت الوزارات بالأعمام والمصارف لتنفيذ الأمر ، وهكذا انتشلت الحكومة العراقية الموقف الذي كاد يؤدي بالبلاد لهاوية محتومة ، وأخرست الأصوات النشاز ، للإضاءة ....... فقط .
استدراك : كذبة العيد السعيد تيمنا وتجذيرا لكذبة نيسان
قصة قصيرة-أنا قتلت الإمبراطور-عادل كامل
قصة قصيرة
أنا قتلت الإمبراطور
لم يثر القصر، فيّ ، رهبة أو ريبة ، بل ولم أتردد ، أو تراودني فكرة التراجع. كان يبدو لي مثل جرة كبيرة، جرة مزخرفة بطلسمات وحزوز وأشكال هندسية منتظمة ، فخطر ببالي ، انها، كالتي في بيتنا. كانت خزانا ً غريبا ً لحفظ الحبوب والزيوت والحوم . وكدت اضحك ، لأن القصر لم يعد فخما ً أو مثيرا ً للأبهة والفخامة ، لولا انني تداركت ، ان جدي الذي قتل غدرا ً ، والذي كان قد شارك في حروب القوقاز في أعالي جبال روسيا ، والأنضول ، قد عثر على جرة لم تكن سجنا ً للمارد الاكبر ، الذي كان من يعثر عليه تتحقق له أمنيات العمر ، بل كانت محشوة ، حد استحالة تفكيك محتوياتها ، بليرات وقطع تحمل صورا ونقوشا ً لملوك غريبي الاشكال .. ولا أحد يعرف ماذا فعل جدي بها ، مع اننا لا نستبعد انه أعادها الى دجلة ، الذي يقع بيتنا بمحاذاته . كان القصر جرة أسرار ، دار بخلدي ، لكن القصر لم يثر فيّ أسئلة .. فأنا كنت أحتفظ ، داخل رأسي ، بزوايا ومناطق أعرف كيف أرتب فيها أفكاري وأسراري .. وغاب القصر ، وغابت الجرة ، عندما دفعت بجسدي النحيل نحو الباب ، ومشيت متمهلا خشية أن اقع في كمين ، أو أقع متلبسا ً في فعل لا مناص قد يجرجرني إلى الفضائح . ثم دفعت جسدي ، ونظرت إلى الوراء : كان الفجر باردا ً، وأشعة الشمس مازالت تحمل رائحة بثت فيّ شجاعة التقدم ، حيث لم أشعر إلا وأنا لصق جدار حفرت عليه أشكال كائنات داخلة في صراع أثار في ّ قشعريرة الهزيمة ونشوة النصر . حدقت بعمق بحثا ً عن الإمبراطور .. فلم أجد ، أمامي ، إلا كائنا ً ضخم الجثة يصدر أوامره ، الى جنده ، ومن حوله ، قادته ، وقد تقدمته كوكبة من الفرسان والاسود . آ ... لا أعرف لماذا بدا لي المشهد مسليا ً ، لا لأنه من الماضي ، بل لأنني حزنت ان تذهب الأساطير ، كجرة جدي ، وتختفي ، بكنوزها . فكرت ان هذا الذي أراه ، الذي أراد أن يكون صخرة تتحدى الزمن ، لا يبعث في ً الآن إلا ذكرى غامضة ، تركتها تغيب وتأخذ مكانها في الحفظ .
كان الإمبراطور القديم يرسل نظراته الى الأمام ، كأنه يحثنا على التقدم . بيد إنني ، وأنا أستدير نحو مكان ضيق ، فكرت في الكائن الذي كنت اقصده ، وليس الذي تحول الى أثر ، هذا الذي أحفظ كلماته كاملة ، كأنها دوًي الرعد بعد أزمنة جدباء .
- (( ماذا تفعل هنا ؟ ))
كان هو ذا صوت صديق والدي ، وقد لامس جسدي من الخلف ، فحدقت في عينيه ، نافذا ً داخله حتى جعلته يكتم صوته داخله . قال
- : (( ستنفذ خطتك بمفردك إذا ً ؟ ))
لم أسمح له أو لنفسي بفسحة تردد :
- (( أجل ))
لا أعرف كيف ومتى تعلمت إن الكائنات تنقسم الى قسمين لا أكثر ، النوع الذي يمتلك الفعل ، زمنه ، والآخر ، الذي تذره الرياح وتلعب به العواصف . وأنا لم اختر إلا الذي قدره ألا يكون صلبا ً ليتحطم وأن لا يكون رخوا ً ليزول ، لكني لست نوعا ً ثالثا يقبل التصدع . عندها عدت الى نفسي ، فلم أجده . غاب الآخر . فلم أعر الأمر أهمية تذكر . دفعت جسدي الى الأمام ، نحو باب مصنوع من الخشب وقد شغل بعناية كأنه مرقد . أمسكت القفل .. كانت نقوشه دائرية ، وفي الوسط ، وجوه متداخلة يحار المشاهد في تفسيرها . آ ... اللعنة على من صنعك كم كان يفكر في إضاعة وقتي .. بيد أنني اجتزت الباب ، بخفة . فالقفل صار بين أصابعي عجينة طرية ، وتركته سائلا ً ذاب في الأسفل .
ها أنا في القاعة الكبرى .. وفي الوسط ، تقع منصة الإمبراطور .. كان جدي لوالدي يقول : لا تدع نفسك ، وأنت تنظر في محيا جلالته ، ان تنشغل بما هو منشغل فيه ، ولا تحدق في عينيه ، فالإمبراطورية كلها ستنقلب ضدك . لكن لا أحد هناك .ز اقتربت من المقاعد المجاورة ، حيث ، في الأسفل ، جرار متراصة .. حتى كدت أسأل نفسي : ما معنى قصر ؟ لم اسمح لنفسي ان تلهو ، فانا حرصت ألا أكون ضحية أخطاء ، ما ، حتى لو كانت صائبة.
- (( هنا سيجلس الإمبراطور .. ))
رحت أرتب الاحتمالات ... مكان الحرس ، والحرس السري .. الحرس الاستثنائي .. الحرس الخاص .. والحرس الذي يشرف على الجميع .. لأنني ، في الحالات كلها ، لن أكون مرئيا ً .. أو هكذا على ّ ان أكون ، عندما أتقدم من جلالته وأقوم بتنفيذ خطتي . لكن ماذا لو فشلت ؟ لم أفكر .ز بل كنت قد ألغيت فكرة الفشل وأية طريقة للخلاص . لقد عزمت ان أكون ضحية توازي الفعل . فالهرب أو التفكير بالخلاص لا يعد الا رذيلة لمثل هذا الفعل . القتل . القتل المقدس .
بيد إن صوتا ً غامضا ً أخترق جدران أفكاري ، كان واضحا ً ، قويا ً ، بدأ يرن ، ليبلغ درجة الأذى . فأغلقت المنافذ ، لكن ، بلا جدوى ، فقد كنت أنا الذي أستدعيه ، عبثا ً ، في لحظات تسبق تنفيذ الفعل .. وتركته يرتفع :
[ لقد رأيت الإمبراطور - وهو روح العالم – يخرج من المدينة لكي يذهب مستطلعا
: وانه ، في الواقع ، لإحساس خارق رائع يحسه المرء إذ يرى فردا ً مثل هذا متمركزا هنا في نقطة ، ممتطيا ً صهوة جواد ، يمتد الى العالم ويهيمن عليه ] *
عدت أتفحص المكان ، وأنا أعود لا أصغي الى أحد . كنت واضحا ً مثل أفكاري تماما ً .. ففي الأسبوع القادم ، في مثل هذا اليوم البارد ، سيلقي جلالته خطاب القرن .. وسأكون جالسا في الترتيب الذي يقع خلف حاشيته ، هنا ، فوق مقعد فخم حفرت عليه نذر التنفيذ .. وماذا .. ؟ كانت محض كلمات عابرة .. فأي نذر هذا الذي أتكلم عنه قبل التنفيذ . هنا ، ومن هنا .. ستكون المصائر قد أخذت ترتيبها في الواقع ..
جاء صوت صديق والدي ، يكرر كلمته الأولى :
- (( ستنفذ خطتك بمفردك إذا ً ؟ ))
في شرود نادر بين الفعل الجمعي والفردي الخالص حلمت بالقرار الذي يتضمن الإجابة المحكمة ، أجبت :
- (( لا توجد ثغرة عابرة بإمكانها أن تفسد المصائر ))
ودار بخلدي ، متذكرا ً ، لعنة حلت على صديق لي أوقعه الخوف في جحيم الموت ، إنه سمح أن يسأل ذاته : أكان هذا هو القرار الوحيد ..؟ لأنه سأل نفسه متابعا ً : وهل كانت هي أحكم الخطط ؟ فتم القبض عليه .. وتعرض إلى حفلات إنتزاع المخفيات .. فسلخ له جلده ..ثم ترك ليستريح، وليشفى ، هكذا ، كانوا ينتزعون الجلد بعد الآخر .. وعندما لم يبق منه إلا العظام ، أعترف انه لم ينفذ إلا دفاعا ً عن كرامة سحقت .. وانه - ودوّنت كلماته وتناقلتها الأفواه سرا ً – لو عاد الى الحياة ، فلن يكرر إلا الفعل ذاته .
كان صديق والدي يقف أمامي ، عندما دار بخلدي : أتراه سيخبر والدي .. ؟ لكنه قال لي :
- (( أنا لم أر والدك منذ أسبوعين .. قل له ، سأزوركم قريبا ً ))
لم أصدق ما حدث إلا عندما كنت طليقا ً تحت السماء .. كم كانت زرقاء حتى أخذت أبكي وأنا احك جلد ظهري بساق شجرة . لكن ماذا لو ذهب هذا الرجل وأخبرهم بالأمر ... ؟ كلا .. لأنه عمليا ً يشاطرني نيتي .. إلا أني أزدت رعبا وأنا لأتساءل : الا يندم ، مع نفسه ، في لحظة ضعف .. أو .. عندما تشتغل دودة الندم في ضميره ، وهو الذي يشغل مركزا ً كبيرا ً في القصر ؟ هل يترتب عليّ إبعاده هو .. قبل .. أن يعيدني بذورا ً كونية مع عناصر الكون ؟ لم أجب .. بل إنشغلت ، لثانية ، تحت زرقة السماء ، وقد دثرتني بحنان أليف ناعم غريب .. آ ... لو لم أولد كي لا أكّلف بمثل هذا الفعل الذي لا يخلو من براءة قابلة للدحض .. كلا .. لأنني صرت ، وأنا أتنقل في الغابة الكبيرة ، ومنها خرجت الى المدينة ، أفكر في الاحتمال الآخر : ماذا لو حدس جلالته ، وأستبصر ، هو ، هو الإمبراطور ، وليس سحرته أو عرافاته ، ما سيحل به .. ماذا ... ؟ لا أحد يصدق ماذا فعلت في الشارع .. لقد أخذت أضرب الأرض حتى فقدت وعيي . كنت أقول في أعماقي : إذا كان جلالته لا يقدر أن يحدس مسار خطتي كاملة ..فأنه ليس إلا شبيها بالذي كان جدي قد أخبرنا حكاية تروى عنه منذ دهر . قال إنه رفض طعاما ً جاءت به سيدة بالغة الفتنة . فقالوا : لماذا لا تتناوله ؟ فقال لهم : إنه طعام مسموم . وعندما جاءوا بالسيدة الى الإمبراطور .. سألها : لماذا هذا الفعل ؟ قالت : لأنني قصدت أن اعرف هل تقدر ان تعرف ماذا عملت لك .. وها أنت تبرهن للعالم كله انك عرفت وانك الإمبراطور حقا ً . فعفى عنها. لكن أحدا ً لم يرها بعد ذلك اليوم .
كنت قد أستعدت طاقة احتمال معالجة قضايا ما قبل الموت وبعده ، وأفعال الاطياف داخل أجزاء اللامرئيات ، واللامتناهيات ، وحدوس هؤلاء الذين تصنعهم أندر الاقدار .. وصرت لا أكترث لأي فعل قد يعرض خطتي للعراء والفشل . فوقفت أمام بائع عجوز واقتنيت منه حلوى .. وبادلته الكلمات . كان يهز رأسه وأنا أتحدث عن طيف القدر الذي لا تقدر الأقدار أن تحرفه . لا أعرف أكان قد حدس كلامي : لو كان يمتلك قدرة السلامة فلن يكون لفعلي إلا الإهمال والزوال . هز البائع رأسه وقال لي :
- (( ياولد .. عد الى البيت .. أحدهم يناديك .. ))
ليس لدّي قدرة الرد عليه . غادرته في الحال . بيد ان مخيلتي جرجرتني إليها . ها انذا أقع في مسار لم أفلت منه . ماذا لو سألني الإمبراطور ، شخصيا ً ، وطلب مني إيضاحات تناسب القرار .. سأبتسم وأقول له : سيدي ، انك تحاكم الذي نذر نفسه للموت ، لأنه سبب الأذى للآخرين ، ولا تسأل نفسك : هل يمتلك الضحية أية قدرة على أفعاله .. ومن ذا الذي جعله لايرغب إلا أن يتلاشى ، وأنت ، سيدي ، تعرف ان الذي يفعل هذه الافعال من أرق الكائنات رهافة ، واكثرهم سلامة عقل ؟ هل توجد لذة خالصة للقتل .. أم قتل النفس هو مسار لهدف أبعد .. أم .. سيدي .. هو لا إرادة خالصة صنعتها إرادات قهرت الإرادة الأولى ؟ سيقول لي : هل جننت أم أصبحت فيلسوفا ً ؟ سأقول حالا ً : سيدي ، أنت قتلت الفلاسفة وسعيت الى .. قتل .. الفلسفة .. وأنا .. سعيت ان أقتل القاتل . سيقول : خذ . سيطلق النار عليّ .. مع أنني ، في تلك الأبديات الخاطفة تخيلت السيف يعبر عبري .. تخيلت الفاصل بين الرأس والجسد .. وتخيلت الرصاصات يستقرّن داخلي : البذور الكونية الاليفات .. هاتفا ً : انه الفعل الوحيد ، ياسيدي ، الذي يناسب أفعالنا . وأنا لم يكن لدّي إلا أن أنجزه حتى نهايته . فان كان لديكم ، خلاف هذا ، فدعني أغادر قصرك .
كانت وجوه المارة كالحة ، مدببة ، مثلثة ، تحاصرني ، محاولا ً أن لا أندمج فيها . كانت الوجوه شاحبة حد تلاشيها مع شحوب أشعة الشمس : إنها كانت تسد الطريق عليّ . أدركت ، في برهة ، انني لا أكن لها إلا ضربا من العداء والازدراء وليس عليّ ، إلا ان أكون خارجها . كنت أخشى الاندماج بها والتلاشي معها وهي تبعث موجات من الدوي والضربات المتكررة فوق أسفلت الشارع الصلب .
وكنت وحيدا ً. وجلست ، داخل جدران غرفتي ، أمام نافذة نصف مغلقة ، أدوّن أدق التفاصيل التي مرت عليّ. ولا أعرف كيف انتهى النهار ، ليحل الليل ، الزمن الذي أندثر فيه في عمق السكينة .
مساءً ، أمام شاشة التلفاز ، ظهر الإمبراطور . كان يتكلم بسعة ، لا يبتسم ، وكدت لا أفكر إلا في عباراته المندمجة التي تجعل الآخر في متاهة . ما الذي يريد أن يوصله إلينا .. والي أنا تحديدا ً ، بصفتي أتمتع بحضور غير زائد أو ناقص بين الموجودات الأخرى .. كان يحدق فيّ .. فسرت في داخلي رعشة باردة جعلتني اكف عن الأسئلة ، واستسلم لمراقبته صامتا ً .. هل كان عليّ أن أغادر ، لأن الإصغاء أليه قد يشكل ضربا ً من التأييد ، وليس مراقبة لها أهميتها في المصير . فجاء صوت والدي عنيدا ً :
- (( تابع ، فجلا لته يذهب بعيدا في ... ))
شرد ذهني ، برهة ، ولم أفق ، إلا والإمبراطور يخاطبني شخصيا ً :
- (( الأزمنة تذهب ، لكنها لا تختفي إلا عبر امتدادها .. وهزات الوجدان الكبرى تزداد إثباتا داخل الكرامات الجليلة .. ))
ماذا أقول .. ؟ كنت أزداد ، أنا الآخر، عنادا ً في تنفيذ خطتي . فلم أدع كلماته تتسلل داخل صناديق رأسي . لقد كنت لا أخشى شيئا ً كفزعي من الاستسلام لكمائن كلماته حيث تفضي إلى الاسترخاء ، وتماثل المتضادات . والآن ما الذي علي ّ أن افعله ؟ وأنا أدرك انه لم يلق خطابه في اليوم والزمن المحدد .. كما إنه لم يذهب إلى القاعة الإمبراطورية الكبرى .. ؟ ها .. هل .. متندراً على أفكاري وخططي التي باءت بالفشل .. كانت نهاية جديرة بمقدماتها .. محملا ً مشروعي نتائجه المناسبة .. وأناس اكتشف عزلتي بعيدا ً عن العائلة ..
في اليوم التالي ، مساء ً ، زارنا صديق والدي ، ناثرا ً عطره الفريد في قاعة الاستقبال . الغريب انه لم يلفت نظر والدي إلى شيء، بل ناولني خطاب الأمس ، مطبوعا ً بعناية ، مع خطابات صادرة حديثا ً .. قال والدي ، وهو يرمقني بنظرة عابرة :
- (( تأجيل الموعد ، لأسباب تدرك إنها لم تعد .. في هذا الفصل .. ))
كتمت فرحة كادت تقضي عليّ : عظيم .. كأن القدر يلعب حيث أقود خيوط اللعبة . فعادت مشاهد القصر أمامي .. وأبوابه .. ومداخله .. وممرراته السرية :: وصالة العرش .. والكرسي ... و...
ثم وجه صديق والدي الكلام إلي ّ :
- (( سأصطحبك معي ، إذا كان ذلك يسرك .. ))
لم أشعر بالخديعة تأخذ مكانها اللائق ، كما شعرت بها ، في ذلك السياق . انه الكمين الذي لا مناص لا اعترض عليه كي أكون أنا أول ضحاياه . لا لأنه جاء ليستدل على خطتي أو من اجل استنطاقي والتعرف على احتمالات أن أكون لاعبا مموها عليه مسارات الخطة ، بل ، ببساطة ، إن القرار ذاته سيكون سيد الأدلة القاطع ، ضد كل الاحتمالات المغايرة . ولا اعرف كيف غادرنا .. تاركا ً فيّ جمرات مازالت تنتظر انبثاقها من أعماق الرماد . قلت : هو ذا الدرس الأول في التحليق عاليا ً ، وإلا لن يكون لوجودي إلا هامشا ً خارج الواقع . كان عليّ آلا استرجع الأحداث ، مع نفسي ، خشية أن تكون هناك رقا بات قادرة على التقاط ومضات الأدلة وفضح الشفرات . لأنني أنا شخصيا كنت تعلمت هذا العلم الفريد .. وكنت قد وضعت علاماته المباشرة . فالطاقات لا تتقاطع إلا عند تحولها من فضاء إلى فضاء آخر . . ورجل الرقابة يمتلك مؤشرا ً للاستدلال على هذا التقاطع ، فيمتلك الوقت ، الحل الوحيد الذي تترتب عليه المتتاليات والنتائج . لأنني شرعت أدوّن قنا عات فذة لها أثرها لدى كل آخر لامسته الرهافات الكبرى . فأنا احلم أن يكون الحلم سيد النظام . بيد إن الزمن غدا متوقفا .. زمن الإمبراطورية وأيامها وفصولها الرتيبة ، بل كان ، أمام الأزمنة ، يتراجع متدحرجا نحو ماضيه. فرحت أطالع كل النصوص التي تؤرخ مسيرته وشخصيته .. كلمة كلمة ، وعبارة عبارة ، وجملة جملة ، وصفحة صفحة ، فكم بدت لي مسيرته ناصعة حد إنها امتلكت قدرتها على الاختراق .. وقد بدا لي ، وأنا احلل ، أن القدر ليس إلا فعلا ً يواصل بحنكة أثره في الحريات والمصادفات والمصائر . فكدت أصعق أمام الأدلة كلها التي لا تجعل مني سوى هذا الفعل .. إن فعلته أو لم افعله .. ويالها من هزيمة أن تشم رائحتها قبل أن تشهد أشكالها ونهايتها . هزيمة أنك لا تقدر إلا أن تشغلها ، بصبر علماء الباحثين عن أوليات الجذور الكونية وبذورها اللامرئية .
بيد إن هزيمة لا تماثلها هشاشات المكاسب الضائعة ، راحت تدق في ظلام ملفات ذاكرتي . وأي قدر آخر لا يمتلك إلا براهينه على ما قلت ، عندما بعث الإمبراطور ، طالبا ً مقابلة والدي ، حيث ذهب ، وعاد حاملا ً كنوز السعادات . لقد جعله الإمبراطور علامة لقصره . فأهداه أرضاً إضافية ، تجاور أرضنا ، أمام دجلة . وضمناً ، سمعت والدي يخبر أمي أن أفراح الأعالي ، وجدت طريقها إلينا ، واليّ أنا تحديدا ً .. حيث أبدى والدي إستعداده ليجعلني واحدا ًمن أتباع القصر .
وكنت أكرر أمثلة أعرفها في التجلد والصبر . فصارت السبل أقل إلتباسا ً والتواء ً ... ثم إنني ، وإن لم أجتز العشرين من عمري ، صقلت حد الاكتفاء . فصرت أبدو أمامهم كالصخرة التي تعبر من أمامها العصور .. والأجيال .. فلم أضع خطوة في موضع التساؤل .. ولم أدون كلمة تخدش حياء النص . فانا قررت أن امتلك حكمة من صار عمره الزمن كله .. المكان الذي لا تغيب الحركة فيه إلا لأنها المكان ذاته متسعا ً للمديات . فأي مسرة لا تخدشها الصغائر أو الوشايات ، هي تلك التي راحت ترتب لي خطاي . وهل كان للبرد ، كي امرض ، حسابه المختلف . لم أبح بكلمة .. لقد رتبت ملفات ذاكرتي بما يجعل المسارات متناسقة . لكني صرت ورقة ذابلة كما كانت تكرر أمي ذلك داعية الأقدار والصالحين والأطهار وكل من ترتفع فوق مرقده منارة ورجالات المدينة الأخيار إلا تأخذني العاصفة كما جاء ت بي .. ها انذا أعرف إنني صرت محتضرا ً ، لأنني لم أبح إلى أحد ، ولا لنفسي ، أنني لم أكن أقاوم التصادمات إلا بقوة إرادة الموت والاحتضار . فمنذ متى تضرعت بيوم مضاف ؟ وهل يجدر بي فعل ذلك كاشفا ً عن الهشاشة التي انقلبت فخامة لدى أراذل القوم ؟
وفجأة كان الإمبراطور بمجده ، وأوسمته ، وأبهته ، وصوته الأجش ، يقف أمامي. كانت فرصة جعلت الهوامش تمتد حيث المركز قلب المعادلات . هو ذا الذي كنت احلم أن أقف أمامه أجزاء لا حساب لها في الزمن ، يحدق فيّ ، متضرعا ً إلا أذهب مصادفة في الأبديات ، بل أن أمند .. وسمعته ينطق :
- (( أيها الولد .. أنا خاطبت القدر ، ليجعلك صالحا ً ابد الدهر ... ))
وروى حكايات أكوان تتهامس في مصائرها . ثم عاد يحدثني عن جدي الذي لامست بصيرته حافات الليل ن ولم يسر ، باتجاه نهارات لا مناص إنها لا سواها ، حكمت دورتها ومضت في السبيل . ثم أعترف هامسا ً لي في عزلتي انه في قديم الزمان كاد أن يختطف قلب أمي ، لولا إنها تبعت نجمتها وغابت . كدت أقول : ما الذي تريد أن تقوله يا جلالة الأب الإمبراطور ؟ كدت أحبط له نواياه .ز فانا لم يكن القتل لديّ سبيلا ً لبذرة يولدّها موتها .. ولست معنيا بقتل الأب .. وأي قتل يحمل قانون الدورات .. والأساطير . بيد أنني غيبت الكلام ومحوته داخل ملفات ذاكرتي ، جاعلا الوعي شفرات لا تلفت النظر في عبارة ما تتطلب التأويل والريبة . فما الذي عليّ أن أقوله لجلا لته ، وقد جعلتني الحمى طيفا ً يثب بعيدا ً عن اغواءات الأرض :
- (( جئت ، أيها الذي سيبقى أسمه .. ))
كاد يقاطعني إذ قرأت الأبعد الكامن في صمته . قلت :
- (( أنت الوالد الذي جاء .. ))
قرب رأسه مني وهمس في أذني :
- (( جئت أقتلك . ))
أي تحوّل أوقعني في الشرود والمتاهات ، فانا لا اعرف ماذا فعلت تحديدا ً .. فقد كانت أبواب الدار موصدة : باب البيت ، وباب الحديقة ، وباب المطبخ .. كلها ، كانت موصدة .. وعندما عدت إلى سريري ، لم أر إلا ظلاما تشوشه ومضات طيفية وصوتا رقيقا يلامس سمعي
- (( أين كنت ؟ ))
وكانت أمي واقفة أمامي :
- (( أرجوك عد إلى سريرك .. ))
إنها المرة الاستثنائية التي حلمت فيها إلا أكون حيا ً . لقد كدت أجمع قواي وأمسك بالسكين التي أضعها تحت وسادتي وأقطع بها حكاية ولدت هذا الصخب والإثم .. لولا .. أن ... الإمبراطور .. كان قد ظهر .. واضحا .. أمامي .. كان ساحرا ً ، يبث هالات قزحية لها عطر الألفة والسكينة فكدت أبكي . كما أفعل أمام مشاهد الأشجار والفجر والطيور .. أبكي حد التلاشي .
وسمعته يرفع صوته :
- (( كنت أعرف انك تحمل صفاتي .. ))
كيف ؟ سألت نفسي في ذعر مكتوم . وأصغيت إليه :
- وكنت أعرف أنك مثلي تماما ً ... ))
كيف ؟ سألت نفسي خارج الرقابات المحتملة ، وقراءات باثات الأعماق .. لكن جلالته تابع كمحارب أعداؤه يكملون إليه صولة الإنجاز :
- (( كنت أعرف انك رسمت خطة بارعة لقتلي . ))
تجمدت تماما ً ، وأنا اصغي ، بقوى ميتة :
- (0 أنت فعلت ذلك قبل أن تولد .. ))
صمت ، كي أدرك ، ضد معرفتي كلها ، أية هزيمة كان عليّ أن أتذوقها كاملة :
- (( من قتلك يا جلالة الإمبراطور ... ؟ ))
أبتسم ، كالذي تنحني له الأزمنة والأمم :
ـ ((أنا .. أنا هو الذي فعل ذلك ))
أي سلام مضاف وقع فوق قلبي . فماذا كنت سأفعل لو لم يقع ذلك .. وأي عواطف كدت أطلقها عيدا ً بانتظار ألا يكون موتي قد سبق ولادتي . بدل أن اصدق أن ليس للنهايات فاتحات وجداول وانبثاقات .
رفع رأسه ، مبتسما ً بإيجاز ، تاركا ً كلماته منذرة :
- (( لن أقتلك .. ))
صحت :
_ (( أنا هو الذي سيفعل ذلك . ))
سمعت أمي تقول :
- (( مسكين .. لا يمكن أن يكون إلا شبحا ً ))
- (( أنا هو الذي سيطلق النار .. ))
- (( كن هادئا ً ))
بعد مضي وقت .. مليارات الأجزاء التي تداخلت ، أفقت .. أو هكذا وجدت نفسي أتلمس أصابعها . كان شعرها الأسود يحيط بمحياها الأبيض .. وكانت تحدق فيّ كأنها تتضرع .. الا تفقدني .. إنها أمي إذا ً .. فسألتها بشرود :
- (( من هذا الذي كان معنا ليلة أمس .. ؟ ))
- (( لا أحد ))
تجمعت في َ قوة أنفجرت في صرخة :
- (( من كان هذا الغريب .. ؟ ))
- (( قلت لك لا أحد .. ))
أعدت رأسي إلى الوسادة . كم هي لذيذة ولينة هذه الوسادة ، التي بعثت في ّ الأحلام ، وجعلتني أتنقل ، من كوكب إلى كوكب آخر ..
- (( وكنت تتهامسين معه .. ؟ ))
- (( ماذا قلت .. ماذا تقول .. ماذا تقصد .. ؟ ))
- (( هو .. هو .. الشبح .. قناعه أم هو ذاته .. ؟ ))
- (( من هو .. ؟ ))
- (( هذا الذي ينتظر .. ألـ.. . ))
- (( يا ولد .. إنك نصف ميت .. ))
ثم ، وأنا أفكر في البذور البكر لخلايانا ، وبالتسلسل الذي أتخذ أشكالا متراصة ، ورخوة ، كنت أراه يقف أمامي . كنت وحيدا ً مرميا ً في نهاية السرير .. لا أمتلك قدرة الاستجابة لعمل من الأعمال .. كنت ككائن داخل قوقعة ، وقد انتزعت ورميت في العراء . كان يتكلم بصوت عذب ، ناعم ، وكنت أصغي إليه باستسلام تام . أي صوت هذا الذي باستطاعته أن يشكل مجدا ً من الصلابات والغرائب .. فأستسلمت لرغبة بالبكاء .. قال فجأة :
- (( لن تقدر أن تفعل ذلك .. أيها الولد .. ))
رفعت رأسي قليلا ً :
- (( ماذا تريد مني ... ؟ ))
- (( أريد أن تنقذ نفسك ، وترجع إليها ، فأنا نفسي لم أشيّد هذه الإمبراطورية ، إلا بالرجوع إليها .. ))
ثم أختفي ، كشكل ضاع بين الإشكال ، فجوة إندمجت بالفجوات .. سألت نفسي : كيف تنبثق الأشكال ، وتبدو كأنها أخفت سرها وهي تمتلك دورها في استكمال مصيرها . ليس ثمة ما هو فائض أو زائد ... يحدث .. في الرأس أو خارجه ..
ذهبت إلى الحديقة .. وتأملت أمواج دجلة .. وسمعت أصوات الحمامات وهن يسردن حكاياتهن بين الأشجار . كان مشهد النخيل ساكنا ً .. وكنت لا أقدر إلا أن أثب ، من مكان إلى آخر .. ولم أر كائنا ص غريبا ً معنا . كانت أمي تحدق في الأمواج .. ولم أكن منشغلا بالأسئلة .. فقررت ، بلا إرادة ، العودة إلى داخل البت ، من الباب الخلفي .. وصرت وجها لوجه أمام والدي . كان وحيدا يجلس في غرفته ، يرتل ، ويمسك بكأس أعاده إلى مكانه ، بجوار إناء يشبه السمكة .. حدقت فيه ، وكنت أكلم نفسي : أحيانا ، نبدو إننا ننتمي إلى سلالات لا أصل لها ..
0 (( ليس هذا مهما ً ، أجلس .. ))
قلت في نفسي : حتى إنني صرت أجهل عبث الكلمات ونظامها ..
- (( قلت لك ، اجلس ))
ساد الصمت بيننا زمنا بلا حدود . كان الزمن مقفلا ً . وكان كل منا يرغب بالانسحاب .. والمغادرة .. والاختفاء . بيد أنني شعرت ، في لحظة ، انه لا يرغب ان يفقدني . أية صدمة لا توصف يخلقها اختفاء الابن ، قبل الأوان ؟
- (( والآن عد إلى سريرك .. ))
- (( حسنا ً ))
- (( في يوم ما .. ستكبر .. ولن .. تندهش .. ))
لم أقدر أن أعود إلى النوم غلا قبيل الفجر . لقد وجدت نفسي ملقى في مكان آخر ، وقد مضى عليّ نصف قرن .. كنت مهدما .. خائر القوى .. كي أرى الشبح ، أو الطيف ، أو الدكتاتور ذاته ، أمامي . كان يتكلم بصوت ناعم ورقيق :
- (( أعرف إنك مازلت تحمل الرغبة ذاتها .. ))
لا أعرف عن ماذا أتكلم .. ومن يكون هذا الذي شغلني حد غياب التذكر ، وماذا يربد ؟ تركته يتكلم :
_ (( هيا ، أفعل ، ونفذ خطتك التي امتدت طويلا ً ))
- (( ماذا تقول ... ؟ ))
- (( قلت أفعل الذي شغلك كثيرا ً .. قلت اقتلني واسترح ))
ارتديت ملابسي ، على عجل ، وذهبت إلى القاعة . كانت غاصة بالبشر .. كائنات لا اعرف من أين جاءت ، مكدسة ، ولا تسمح لك بالحركة أو بالمرور .. لم يكن جلالته حاضرا ً .. بيد انه كان مثار كلام الناس جميعا ً .. كنت وحيدا أنتظر تنفيذ خطتي التي مضى عليها زمن طويل . أية رغبات تنبثق ، حادة ، كأنها القدر ، هي التي ترتب مسارات الأحداث ؟ سألت نفسي : هل كنت عاهدت الإمبراطور ألا أسمح ، حتى لخيالي ، أن يشط أو يأخذ هذا الاتجاه .. ؟ هل كنت تابعا من أتباعه .. وهل يتحتم عليّ ، أن اترك الزمن يعمل عمله ، وأقول لهم ، أين .... ذهب ... الماضي ؟ همس صديق والدي في أعماقي : لن يأتي أبدا ً .. وأضاف : هناك أمور ستكون ضدك تماما ً .. وقال بأسلوب آمر : غادر .. حالا ًً .
أي إحساس مرير يعيد لي ترتيب مشاعري وأنا أتأمل المارة : كلا .. لم تكن مرارة ـ بل لامبالاة لا تخلو من الصلابة . فأي اعتراف ضمناً بالهزيمة جعلني أراقب الرجال والنساء داخل المدينة . من منا الفائض ؟ دار بخلدي ، وأنا أردد : كلانا له مذاق الموت الذي ينمو ، ينبثق ، الذي صار هو الموت الذي لا يموت . لا أعرف هل فقدت الوعي ، أم تقيأت .. أم كنت جريحا ً .. أو تحولت إلى أجزاء متناثرة ، الأمر الوحيد الذي لا أشك فيه هو إنني كنت أحمل معي مدية .. كنت كمن يبحث عن ... ضحية .. هي التي تستدعيني إليها . كنت أضرب الأرض بلا مبالاة .. بشرود .. بتردد .. وكان لصوت أقدامي فوق الأرض صدى فريد .
ثم أفقت .. كان جسدي يهتز ، من الداخل ، ويرتجف : أين أنا ؟ سألت نفسي .. مكتشفا ً عبث الأسئلة . كانت الأصوات عالية ، مدوية ، وتأتي من الجهات كلها .. أصوات يوم الحشر .. أصوات الكائنات التي مضت ، وها هي ، تتجمع ، مثل خلايا تواصل إنشطارها الهندسي .. أما أنا .. فكانت أفكاري تنمو نموا ً رياضيا ً . كانت الحشود تأتي من الجهات المختلفة .. من البساتين والأزقة ، وكأنها تخرج من الأنفاق . هل اختفى ضحيتي التي طالما فشلت حتى أن أؤذيها بنظرة ! وهل خرج الناس احتفالا بهذا الغياب .. أم .. انه ضرب مبهم من الدورات والانتظارات القهرية ؟ أفقت ، مرة أخرى ، أمام حشود كان عددها في ازدياد ، وقد اصطحبت الطبول ، ومختلف الآلات الموسيقية . كانوا يرقصون .. بجنون لا يشبه الرقص . كانت ثمة هستريا . وعندما اندمجت بكتلة بشرية ، شممت رائحة روث ، وبول .. فكنت أستمع إلى أصوات حيوانية .. وأرى ... قطعان المواشي وقد انحدرت مع القادمين من الحقول والبوادي والقرى النائية : ثيران وأغنام وأبل ودواجن وفيلة وكلاب وطيور ملونة كبيرة وصغيرة وفد حشرت معنا حتى لم أقدر إلا أن أضحك بصوت مرتفع ، بلا تردد ، وأنا أقول في نفسي : إنها ذاتها السفينة التي تحدث عنها جدي .. ماذا قلت ؟ لم انتظر إجابة .. لأنني كنت ، وجها لوجه ، أمام شبحي .. فهل أفعلها .. وأطعنه .. ؟ كان الإمبراطور يتقدم ، بمحاذاتي ، تاركاً عطر جسده ينتشر في الفضاء .. وعرفت ، بالرغم من استحالة الإصغاء لعبارة واحدة ذات معنى ، إن جلالته سيلقي خطابه .. ضربت الأرض برفق ، مستسلما ً ، مستعيدا ً أزمنة الكلام . طالما كان يمضي الأيام فوق المنصة ، متحدثا ً عن مزارع الروح ، وحتى عن محاصيل الذاكرة ... هكذا ، شاهدت المراسلين وأجهزة النقل والبث تشتغل ، وكأننا في عيد . لأن كل الذي كنت أراه ، كان يحدث مباشرة ، وعلى الهواء .. فهل كنت مازلت محموما ً ، أو أتستر بما أجهله ؟ دار رأسي ، فأنا لم أعد اصدق أنني أمتلك قدرة الفصل بين القشور والثوابت ، أو بين الوعود والنهايات . فكلما أزداد تراص الناس في أكبر ساحات المدينة ، تضاءل وجودي حد التلاشي . حتى كدت أتراجع ، تاركاً مخططاتي تتبدد وتزول . لكن خطاب العرش الأخير جعلني أتريث : ما الذي أراد أن يفعله طوال هذا الزمن .. هذا الذي كان ، أمامي ، تنحرف أعتى العواصف أمامه ، ولا يصير الرجال ، إلا قشور بصل . وكضؤ هابط من المجهول ظهر جلالته ، منتزعاً منا صمتنا الأبعد . كان مثل طيف يخرج من الخفاء ، طوال عقود ، محميا ً بالأسرار التي صاغت مصيره .
ولم ينطق إلا عندما جمد الكلام في رؤوسنا . لم أقترب .. ولم أبتعد .. كنت أشغل المكان الذي لامناص هو المكان الوحيد المحدد لي .. وهنا ، بين الفجوات الصلبة ، استسلمت لخدر الذهول .. كان جسدي لينا ً ، رغوا ً ، كأنني انتزعت من قوقعة ، وقذفت بعيدا عن نفسي . أما الإمبراطور ، فكان يتحدث عن الذي كنا لا نقدر أن نراه.. كنا كتلة بكثافة الصفر . وكدت أتراجع ، ولا أفكر أفكارا ً صبيانية . لكن صديق والدي همس في أذني :
- (( لم أخبره .. هل تصدق ؟ ))
وقال متابعا ً ، قبل أن احدد مكانه في الحشد :
- (( انه لم يعد يكترث لك .. ! ))
فقلت في نفسي : متى أكترث لنا كي يكترث لي ..
وفي اللحظة المناسبة الوحيدة التي كنت أقدر أن أحقق فيها انتزاع قدره منه، كنت ، بهدؤ ، مستسلما ً ، أحدق فيه ، كأنني أحدق في المجهول. كنت مثل خشبة، أو صخرة . أتراني كنت أمتلك قدرة التفكير واختيار الفعل الوحيد الذي كرست له حياتي كلها ؟ فقد كان يتكلم عن القرون القادمة ، كأنه يحدق في أشكال لايراها إلا وحده .
صفق الجميع بصوت كالرعد ، فكادت السماء تقع فوق المدينة . لكننا كنا نراه ، بإشارات منه ، يبعد الخطر عنا ، ويعيد للفضاء مداه الكامل . كان يبدو لي انه أسكرنا بحلم لا نقدر أن نتخلى عنه . آه ... لأنني ، في لحظة ، تذكرت كيف دخلت القصر ، تلك الجرة الكبيرة المزخرفة المزدحمة بالأبواب والممرات المزينة بالنقوش والتماثيل ، وذلك الفضاء الكثيف المعّطر بالسكينة والخشوع . تذكرت أنه زارنا ، وقدم لي ، لي أنا شخصيا ً ، هدية عيد ميلاد الأرض ، وبادلني طرائفا شفافة . إنني أكاد لا أصدق أنني فعلت ذلك ، في حضرته .. أكان ذلك ، كما يحدث لنا الآن، مرتبا ً بانسجام مع اتفاقاتنا الخفية ؟
كان صمت الحشد تاما ً . لأنه كان قد كف عن الكلام . كان صمتنا إصغاء كالذي يحدث في الأساطير ، أو الأحلام . ولم تكن إلا لحظة مماثلة عنيدة كنت أقف فيها أمامه ، بثبات ، وأنا أمسك بالمدية ، متوجعا ً نحوه ، وبكل قواي ، غمدت النصل وجعلته يستقر في أعماق الجسد المقدس الذي كان قد أختفي . ماذا فعلت ؟ سمعت لغطا ً ، وضوضاء ، ولم أكن أدرك ما الذي حدث ، بعد ذلك ، لولا إنني ، أفقت ، وأنا في حديقة الدار ، أمام النهر . ولم يكن لدّي متسعا ً من الوقت كي أتساءل ... فقد شاهدت السيدة والدتي مقطعة متناثرة الأجزاء فوق العشب .. تسمرت مثل تمثال أحدق في محياها الذي تحول إلى قطعة بيضاء .. كانت تبتسم ، ولم تتكلم . فلم أقترب ، ولم أتكلم . لأنني هرولت باتجاه الباب الخلفي ، صاعدا ً السلالم الخشبية .. لا أفكر إلا في الاختفاء . بيد إنني لمحت والدي ن كما في مرات لا تحصى ، يجلس في ركنه ن يلعب الشطرنج . فقررت أن أستنجد به ، أو لعله ينقذني . فانا كنت لا اعرف ما الذي كان يحدث .
قلت له :
- (( جئت .. أنا جئت ... يا والدي العزيز .. ))
قال بصوت هاديء ، وهو ينقل الفيل إلى مكان بعيد :
- (( أجلس ))
بعد صمت لا أعرف كم دام ، سألني ، في ذهول :
- (( من قتلها ؟ ))
قلت وأنا انتزع الكلمات انتزاعا ً :
- (( هو .. هو الشبح .. أنتزع روحها .. ))
- (( لا ... ))
- (( من يكون القاتل إذا ً ؟ ))
ثم ، وهو يتابع إكمال كلماته ، قال :
- (( إذهب وجمعها ))
عدت إلى غرفتي .. أغلقت الباب . لم تكن ثمة مرآة .. بيد إنني كنت أرى جسدي كله ، في مرايا لا تحصى . كنت واقفا ص أمسك بالمدية .. وقطرات الدم مازالت تلوثها ... وبهدؤ ، رفعت يديّ ، وتركت النصل يستقر في القلب . أية لذة كانت تسري في ّ من الأعلى إلى الأسفل .. ها هي لذّة الموت تسري في ّ ناعمة ، ثم فجأة سمعت أصواتا ً تدوي ، تزمجر . وكنت أطلق النار .. فترتفع الأصوات من الجهات كلها . لم اعد امسك بالفأس ، أو المدية ، يل بسلاح آخر ، من الفولاذ ، مصوبا ً فوهته نحو المركز ، في القلب والرأس , .... في ّ .. وقد أرتفعت الضجة عاليا ً ، وكانت الأرض تزلزل ، وثمة رائحة ما نفاذة ملأت الهواء : عطر الدم ولونه يمتزجان بزرقة الفضاء . وكنت أرقص , وسط العالم ، والأصوات ترتفع عالية ، قوية ، من الجهات كلها .ما الذي حصل .. أين المرايا ، ولماذا تكورت الجدران من حولي كأنها علبة ... أين أنا ؟
- (( من .. ؟ ))
نهضت .. كان الإمبراطور ذاته يقف أمامي وقد طالت لحيته بلونها الأسود الداكن كثيرا ً ، أنا الذي رأيته حليقا ً ز كان متعبا ص . وكدت أسأله إن كان هو الإمبراطور ذاته أم انه بعث بأحد مساعديه ؟ كانت تصوراتي مشوشة حد الوضوح الذي لم تعد فيه الأسئلة ذات شأن . فانا غمدت المدية عميقا فيه و ... وأطلقت الرصاص عليه ... وها هو أمامي ، ها هو جسده يشهد على وجود آلاف المنافذ والشقوق والثقوب .. اقترب مني مبتسما ً .. ولم يتكلم . كان يحدق في ّ بلا مبالاة ، شارد الذهن .
- (( اجلس .. ))
وجمعت قواي ، مضيفا ً :
- (( كان ينبغي أن أفعل ذلك .. ))
هز رأسه .. كأنه صورة . لأنني تذكرت المرات التي نجا فيها من الموت .. حتى أصبحنا نشك أن يكون هو ذاته الذي حكم البلاد أزمنة لا أحد يعرف كيف سيعاد كتابتها ومن ذا الذي ، داخل ممرات هذا الحلم ، يمسك بخفايا الحبال التي صاغت المشاهد..
- (( هل ترغب أن أتي لكم بالماء أو .. ؟ ))
رفع يده اليمنى ، ملوحا بها ، وغادرني . أما أنا فكنت أحاول تفكيك الذي مازال يحدث .
ها أنذا داخل جدران منيعة ، وقد وضعت في الوسط . كانت الغرفة مثل كوخ القصب ، مستطيلة ، والجدران شيدت بإحكام من حولي . لم أكن أرغب إلا بالقليل من الهواء الذي لا أعرف كيف كنت أحصل عليه .. لقد تخيلت وجودي يماثل أول خلايا بذور الحياة فوق هذا الكوكب . وكان الظلام ، كالضؤ ، لا يسمح لي إلا باستعادة الذي مازلت أفكر فيه . ها انذا أكف عن الحلم ، حتى إن صديق والدي ، في ذات ليلة باردة ، أتاح لي فرصة نادرة للهرب . قلت له : وأبن يمكن أن اذهب ، والأرض كلها غدت علبة مرمية في ظلام كثيف .. ؟ لم يسخر مني .. وأنا لم أندم أنني لم افعل ذلك .. فقد كانت يد الإمبراطور قد احتلت ذاكرتي ، وها هي تهيمن على أعمال رأسي الذي بدأ يكف عن الحلم . كنت ، عبر الفصول ، وتوقفات الأزمنة ، أسترجع لذائذ أيام الطفولة .. فكنت مازلت أشم رائحة الفجر بمحاذاة الأمواج أمام بيتنا ، وأصغي للبلابل تغرد .. ثم .. سرقت أحلامي ، ولم يبق لديّ إلا أن أحلم باستعادتها . أحلم انني كنت أحلم . مات والدي ولم تمت أمي ، وأنا مازلت اسكن فضاءات علبتي بما تيسر لي من أحلام وأضطرابات كانت تحفر ذاكرتي على اقتناص المصائر . كان شبح جلا لته قد أحتل جغرافية الامتدادات كلها ن في كون لا يتكون من حافات ، عدا الموضع الذي أقُتطع من الفراغ وصار مأوى لي ـ أرى عبره ، مصائر العابرين والقادمين . بيد إني كنت أزداد يقينا ً ، بعد كل حقبة ودهر ، وعقود من الويلات والنكبات والكدر العميق ، أنني غير مسؤول عن مصيري إلا في حدود الرضا بهذا العقاب . لقد بحت لصديق والدي ، معترفا ً ، انني لم أكن احلم أن أفعل فعلة شنيعة .. بل كنت لا أحلم إلا أن أراقب ضفاف الأحلام ، حيث أمضي مع نبضات الأثير الذي يكون هذا الذي تكون ويتكون . فقالوا كلمتهم في ّ ، وعزلوني كمخلوق منشق ، وفائض ، ومبتور العقل . وكم تلذذت ، قلت له ، بالباطل الذي اشتعلت به ، تحت رعب آليات مرور الأيام وطلب الخبز .. لم أكن أمتلك إلا قدرة أن أبدو ، في العتمة ، إلا إمبراطورا ً صغيرا ً ، حشرة داخل قوقعة ، في زمن تجمد فيه الزمن .. وازداد يقيني حد غياب النفي والتمرد ، بان إدراك استحالة الخلاص هو ضرب من الخلاص .. وإنتظار الموت ، هكذا ، هو أملي الرائق في بناء خصائص حياتي داخل هذا الشيء المكور ، الذي شيدته بالدموع وبتوقفات نبض القلب . ثم فجأة سمعت ضجات عالية ، كتلك التي استمعت إليها ، قبل سنوات بعيدة .. فقربت رأسي – لأنني لم أعد أمتلك حاسة محددة كي أتعرّف عليها بما كان يحصل – من الجدران . كانت الأرض تزلزل .. والأصوات تدوي .. وأدركت ، ولكن لا أعرف كيف أدركت ، إن جلالة الإمبراطور قد زال من الوجود . لقد أغتيل . فصرخت .. داخل حدود مملكتي ، أنا قتلته .. أنا قتلت الإمبراطور . وكان هناك من يصدق ، وآخر يعترض ، وثالث يسخر ، ورابع لا يكترث للأمر .. أنا قتلت الإمبراطور . كنت أصرخ بقوة كل الذي محاهم جلالته ومسح آثارهم من الوجود ، بقوة كل الأصوات التي أختفت ، وبكل قوى الأجساد التي أطيح بها .. أنا قتلته .. أنا فعلت ذلك . ولم يتسلل الخوف إليّ حتى بدرجة أنملة أو .. فخفت .. خفت وأنا أسأل نفسي : كيف لا تخاف أيها الخائف ؟ بكيت ، ولم اعثر على كائن يحميني أو ألوذ به . كانت الأرض خالية ، مثل صحراء بلا أطراف .. لم أر فيها القوافل ، ولم أر الأمراء ، ولم أر الواحات ولا المدن . كانت الرمال تتساقط من الجهات كلها ، وكانت الأرض رخوة ، تعرقل حركتي . كان الكون خالٍ إلا مني . فجلست مستسلما ً أبكي أطلب من يعيدني إلى حفرتي ، علبتي ، سريري .. فأنا لم أعد أعرف أأنا في جرة ، أم في مصح ، أم أعيش في عائلة منفية في حدود جدرانها . ولم يعثر علىّ أحد .. ولم أفلح في التشبث بأحد .. كنت أراهم يضربون الأرض ، يهو سون ، يهرجون ، يتقافزون ، وكأنني صرت الذي تدوسه ملايين الأقدام بعد الموت ، كما الخرافات اللذيذة تقول ، طيفا ً أو شبحا ً .. كنت أثب ، واقفز ، وأهمس : أنا صرعت الإمبراطور . بيد إنها غدت حكاية بلا أصابع .. وكانت صلعاء ! فصرت لا أسمح للغضب أن يتسلل إلى أعماقي .. فأنا لم أعد أكترث أن أكون حقا قد ولدت أو لم أولد .. أن أكون حيا أو ميتا ً .. أن أنتظر الاستيقاظ أو الاندثار .. أن أكون أنا الذي قتلته أو يكون هو الذي قتلني .. أنا كنت ، ولا أعرف كيف حدث ذلك ، أدرك أنني لم أجرح حتى بشرة الزمن أو قشرته ، ولم أقطف حتى وردة .. فقط تذكرت أنني تعرفت على صبية أحببتها كما يحصل في كتب الأساطير ، وإنني جعلتها حمامة ، وكنت ادعوها بحمامتي ، يا حمامتي .. أنا هو غصنك ، أنا هو عشك .. في هذه الغابة .. لكن الصبية سخرت مني وجعلت مني هزأة .. لأنها أرادت أن أفعل كما يفعل كل الرجال في آخر الليل .. فهربت . ونجوت منها ، كما نجوت من الأيدي التي طاردتنا طوال قرون .
ها أنذا أعود إلى ركن صغير داخل جدران غرفتي ، مستسلما للذة غامرة أجهل أسبابها ، إن لم أكن لا أريد أن أتعرّف عليها ، وقد ابتعدت الأصوات أو صارت نائية حد الاختفاء ، كما لم تكن ثمة روائح أو أضواء أو عوامل تكوّن عوامل التذكر ، ولانبثاق . والغريب أنني لم أكن أفكر في وسيلة للفرار أو الهرب أو النجاة . لقد أدركت إن الاستحالة هي ذاتها التي صارت منفذا استثنائيا ً للذهاب إلى الأقاصي .. أن أحلم إنني مازلت أستعيد مصيري كله .. أقتطف من الاستحالة هذا الذي أنا فيه .. أرى الذي في طريقه أن يكون واقعا ً . الزمن الذي لم يذهب والذي أراه معي يشاطرني حفرتي أو سريري أو عملي . فهل سأخاطب نفسي : ماذا فعلت بها ، أيها الملعون التائه المخبول ؟ كلا .. يا .. أنا مازلت أمتلك قدرة الاستدراك .. قدرة دفع الخيط أو سحبه وليس تركه يذهب أو منعه من الدخول . ويا لهذا الفرح الذي لا أعرف أأفرح به أم هو الذي صار يتندر مني ، وعلى ّ ، أنا الذي أكاد أكون ولدت ورحلت بالترتيبات التي لم أكن طرفاً فيها ...
- (( ماذا .... ؟ ))
ها أنذا أستيقظ .. من يعلم .. قد لا تكون سوى أضطرابات لا تقع إلا في الجانب الأخر ، ولكن في المسار ذاته .. من الحكاية ذاتها . ها أنذا أراه ملتحيا ، كوحش وقع في الأسر ، أمامي . أراه مهدما ً ، يكاد ، مثلي ، مستسلما ً للذهول . ً هو ذا الذي لم يقدر أي إمبراطور إلا أن ينحني أمامه.. ويصير ممسوحا .. متلاشيا ً .. هو ذا الذي كانت كلماته تجد من يجعلها سارية قبل أن تلامس الهواء .. هو ذا الذي شيّد ، في قلب الغابات والوديان والصحارى قصوره ، هو ذا الذي كان لا يعرف ماذا يفعل أمامه أعتى العتاة إلا أن يستسلم ويصير كائنا ً رخويا ً .. هو .. ذا .. الذي .. كاد يلقّب بكل ألقاب وصفات من اجتاز عتبة الزوال .. هو ذا الذي صرنا نعرف أنه عبر هوة الموت ..
هو ذا ..
أمامي يجلس يداعب لحيته بهدؤ .. ولم يلتفت لوجودي أو يثره هذا الوجود .. وإنما مثله ، كنت أحلم ألا أحلم حتى في مثل هذا الحلم .. فهل أخبره كيف كنت ، في يوم قديم ، كدت أطلق عليه النار ، وأجعل المدية تعمل عملها في قلبه الدموي .. لا ... فقد كنت ، مثله ، أحمل دوافع خطاه التائه وهو يتنزه في متاهاته البعيدة .
لكني .. بهدؤ .. ناولته المدية ..
- (( ما هذا .. ؟ ))
- ((المدية التي كنت قررت أن .. ))
- (( ومن منعك أن تفعلها .. ؟ ))
لم أجب .. بل كنت لا أرغب إلا بالعثور على مكان لا أرى فيه الذي آلت إليه جذور القصة .. نهاية ما لها بداية لا تنتهي وكأنها الليل يتعقب بالمرصاد رائحة نهارا ته ، حيث حياتنا لا تولد الا عبر ما بينهما ..
- (( أعدها إلى مكانها .. ))
وأضاف :
- (( المدية التي لا تعمل في المرة الأولى .. ترتد عليك ... ))
جمعّت قواي وصحت :
- (( أيها الإمبراطور العظيم ، انك أفلحت في قتلي الآن . ))
- (( ومن قال انك تقدر أن تموت ؟ ! ))
فكرت عبر الوهم الأشد كثافة من كل الكثافات والحقائق ، في أعماقي السحيقة ، متندرا ً ، وأنا أدون في ورقة أخفيتها ، أو اختفت من تلقاء نفسها : إنني لم أكن ، في يوم من الأيام ، متطرفا ً حد النجاة من التطرف ، ولم أكن متزمتا أو مناصراً للمحافظين على رتابات لا تتصدع داخلها قوى البدائل والمغامرات ، بل كنت اشك عميقا ً بالذي كان يجرجرنا من متاهة إلى أخرى ، ذلك اليقين الراسخ بان ما سينجز لا يمتلك ما أخفاه الدهر البائد ، فهي لعبة يد صاغت من التراب كل هذا الذي شغلنا ، وهي لعبة راحت تلعب بكل أزمنتها ، ولا يمكن عزل حدودها الا بخيوط واهية من الالتماعات العابرة . إنني اكتم ذات الصدمة التي عرفها جدي ودفنها معه في أعماق جراره وقذف بها إلى دجلة : أن هذا الذي صنع عبر الصبر والشقاء والعذاب والتجلد هد بلحظة بلغت ذروتها في الجنون والشطط وإنعدام الشرف ، لا تقارن بدهر من الزحف والكد والكتمان والسكوت : ما الذي أمتلكه كي لا أكون أكثر من رماد متناثر هو كل ما خلفته غابة هذا الوطن .. ؟ وهل يقدر أحد يمتلك ذرة نقاء أن يلومني أني شاركت الحلم مساره حد التلاشي ؟
هكذا صرت وحيدا ً ، معزولا ً ، لا أصغي إلا لأصوات نائية تعبر الفضاءات . همست ، إليه ، أو في نفسي ، إن المرارات السود عندما تبلغ هذا الحد ، لن تدوم . مثل الذي يصنع الموت لت يتلقى إلا لذعاته . وقد كانت هي المرة الوحيدة ، عبر قرون ، وقد كفت في ّ الضجات ، وأنا أستسلم لموت أنتظر أن أسكن سكينته التي لم أتذوق منها ، إلا حكاية يرويها ولد لم يغادر جدران أيام صباه ، ولم يحتم إلا بنوافذ أحلامه التي سرقت منه ، وترك وحيدا ، معزولا ً ، وهو لم يجتز عتبة بذور الحلم .
بغداد / الغزالية
26 / 5 / 1989 –16 / 12 / 2003
* عن ( هيغل ) / فرانسوا شاتليه . وزارة الثقافة والإرشاد القومي / دمشق – 1976 ص 31 [ هيغل / 1806 مراسلات / الجزء الأول ]
الجمعة، 17 أغسطس 2012
قصة قصيرة- ضفـاف-عادل كامل
الخميس، 16 أغسطس 2012
هل كان رشيد أو البهلول مجنونا ؟,الجزء الثاني والأخير,حامد كعيد الجبوري
الأربعاء، 15 أغسطس 2012
هل كان رشيد أو البهلول مجنونا ؟-أم نحن المجانيين !!!,حامد كعيد الجبوري
( أيا .......... لا ..... ) ، سأل الأستاذ الدكتور ( محمد جابر شعابث ) أبن عمه رشيد قائلا ، متى تنهي شطر البيت لقصيدتك المنتظرة يا رشيد ؟ ، أجاب رشيد كلما وضعت قلمي بيدي لأكمل ، ينتابني الغثيان والدوار والصداع فأهملها ، ترى من الشجاع فينا وأكمل ما بدأه رشيد ؟!!!!. ( رشيد عبد الجليل علي شعابث الزبيدي ) حلي من محلة ( الجامعين ) ، ولادته بداية أربعينات القرن الماضي ، ذكي حاذق منذ نشأته وطفولته وصباه وشبابه ، يقول رشيد لست ذكيا ومتفوقا كما تظنون ولكني فقت الأغبياء فبُرّزت على الآخرين ، وهذه فلسفته ورؤيته الخاصة ، فقد والدته وهو لم يدخل المدرسة ، ورويدا رويدا بدأت أمه المتوفاة لا تأتيه في منامه إلا بين الحين والآخر ، حتى نسي ملامح وجهها ، وتزوج والده بأخت زوجته ( خالته ) ، له شقيق أكبر منه ببضع سنين ( جعفر ) ،كان والدهما رحمه الله يصحبهما لمحل عمله ( النجارة ) في السوق الكبير قريبا من مسجد ( الكطانه ) ، ولكن متى يصحبهما الى العمل ؟ ، يصحبهما للعمل قبل آذان الفجر ليئدوا الصلاة جمعا ومأتمين- صلاة الجماعة - بعالم دين ، وطفل هكذا عمر لابد أن يضجر من هذا الخروج المبكر فيقول ( أمشي نائما أو نائما أمشي ) ، وربما يسقط أرضا وهو يسير فينجده والده ، دخل أخوه الأكبر المدرسة ، ولأن رشيد يحب المعرفة لكل شئ بلا سؤال لذا يتوجب عليه أن يرى ما يضع أخوه من كتب ودفاتر وأقلام في جراره ، أذن كيف يتصرف ، تمارض صباحا مدعيا الحمى وتركه أبوه وأصطحب أخاه ( جعفرا ) الى الصلاة والعمل ، ما أن خرجا وثب رشيد من فراشه وبدأ يخرج كل ما تقع عليه يده ، ومرت بسلام ، طفولة شرسة وذكية ومشاكسة لابد سيكن لها حديث طويل ومعروف لكل المدينة ، ساهم والده كثيرا بصنع هذه الشخصية الغرائبية ، وكيف كانت تلك المساهمة غير المقصودة ؟ ، الوالد أمي لا يحسن القراءة والكتابة ، متوسط الحالة المالية ، لا يأكل أن لم يعمل ، عمله بسيط ( نجار ) يصنع ( الجاون ، وكاروك الأطفال – المهد - ، وربد المسحاة ) ، والحلة آنذاك لم تكن إلا هذا السوق المسمى السوق الكبير ، ويقابله سوق أصغر منه في الصوب الصغير للحلة الفيحاء ، تزوج الوالد بثلاث نساء لا حبا في الزواج والإنجاب ، ولكن زوجته الأولى أم رشيد توفيت ، فتزوج بأختها لرعاية الأطفال ، ولأنها لم تنجب تزوج بأخرى ، لم يكن اهتمام الأب منصبا على رشيد صاحب الطاقات الجبارة الذكية ،بل وزع الوالد حنانه وعطفه مساويا للجميع ، وبما أن رشيد كثير المشاكسة والمناكدة مع أقرانه كان يُؤنَب – رشيد - كثيرا من والده وعمه وأصحاب والده ، دخل الصف الأول ابتدائي وسرعان ما سرّع له لينتقل لصف أعلى ومن ثم أعلى ، وهذا النبوغ المبكر جعله يفخر بنفسه ويجدها أفضل من الكثير ممن حوله بما في ذلك أصدقاء والده الكبار الذين يجتمعون بمحل النجارة ليتحدثوا بشؤون كثيرة منها الدين والسياسة ، لذا علق رشيد بهاذين البابين ، السياسة والدين ، ويقول الكثير ممن عرفوه أن رشيد كان ميالا للأفكار اليسارية والماركسية ولكنه لم ينتمي لحزب ما ، وبجانب ذلك كان محبا ومغرما بقوميته العربية ودينه ومذهبه ، ولحبه لهذا عشق العربية منذ نعومة أظفاره ، وكذلك تشجيع مدرس اللغة العربية له ، لأنه بدأ ينظم الشعر الفصيح وهو بمراحل الدراسة المتوسطة ، ومرة تحدى والده وأصدقاء والده ليعربوا له بيتا من الشعر عرضه على مدرسه ، ( فصاحة الأعراب زرع مثمر / وبها يصان العرض والوطن ) ، قال له أحد أصدقاء أبيه لمن هذا البيت يا رشيد ؟ ، ضحك رشيد ساخرا بهم لأن البيت من نظمه ، أحب وأعجب ( رشيد ) كثيرا بشخصية الزعيم الراحل ( عبد الكريم قاسم ) ، أجتاز المتوسطة والإعدادية بتفوق وقبل بكلية الشريعة ، وهنا تبدأ محطة الصراع الأول مع الذات ، المحاضرات التي يعطونها له تختلف كثيرا عن المفاهيم التي آمن وأقتنع بها ، ومع ذلك كان من المتفوقين ومن الطلاب الذين يشار لهم ، ومنحه أستاذه ( د مصطفى جواد )رحمه الله لقب شاعر الكلية ، وتوقع له أن يكون واحدا من أعلام اللغة العربية ، وكثيرا ما كان يطلب من رشيد أن يمر عليه لغرفته الشخصية في الكلية ليعيره من الكتب ما يضن بها على غيره ، رشيد جسم لا يحتمله عقله ، وعقل لا يحتمل أفكاره ، وأفكار ترفض الذل والخنوع وتريد أن تنشر ليستفاد منها ، فاضطربت عنده الرؤى ، لم يكن له صديق في الكلية ، أعتزل عن الطلبة ، وكلما حاولوا إخراجه لحياتهم أبت شخصيته الانصياع لما يريدون ، ولا أعلم لم كتب رسالة لوالده يخبره فيها أنه ينوي الانتحار ، جن الوالد لهذه الرسالة وأخذها لأخيه ( جابر ) لأنه الأقرب لرشيد ، طالبا منه الذهاب الى بغداد لمعرفة ما ينوي رشيد لنفسه ، يقول رشيد فوجئت بعمي بدار الطلبة ، كيف أتصرف ؟ ، وأين ينام العم ، وماذا سيقدم رشيد لعمه من طعام ؟ ، كان العم ذكيا لينجد رشيد من محنته التي يظن ، وأصطحب رشيد لأقرب مقهى في باب المعظم وتحدث مطولا مع أبن أخيه ، وكانت النتيجة أن ألتزم رشيد بدراسته وكليته ، لأن العم أقنعه بأن والده كبُر ويحتاج لمعونته لتربية بقية أخوته ، في العطل الصيفية كان رشيد يعمل لتلبية متطلباته الشخصية من ملابس وكتب يضاف لما يمنحه له الوالد ، ولكن أي عمل يعمله رشيد ؟ ، فرشيد شخصية متفردة ، يستنكر التعالي عليه من قبل الآخرين ، يرفض المعونات من الأقارب وخاصة العم شبه الميسور ، لأنه يعتقد أن المُنح تسلب الكرامة ، استأجر عربة لبيع المرطبات ( الموطا ) ، يدفعها بعضلاته وقوته المشهودة ويذهب بها الى خارج المدينة فجرا ، ويعود بعد صلاة العشاء بعد أن يبيع كل بضاعته ، عرف ( الجمجمه ) ، و ( العتايج ) ، و ضواحي ( النيل ) وغيرها من القرى المحيطة بالفيحاء الحلة ، كل ذلك كي لا يراه أحد من المعارف والأقارب ويستهجن منه ذلك ، بعد أربع سنين تفوق على الجميع وعاد الى الحلة يحمل شهادته الجامعية ، لا ينسى رشيد ذلك اليوم الذي قبل فيه يد والده ، وطبع الوالد على جبينه قبلة ابوية حنونة اعادت لرشيد كل توازنه وحرمانه ، ضحك الأب بوجه ولده وقال له ( بويه بعد لتكلي أعرب فلان شي ) وضحكا معا ، أقام عمه ( جابر ) وليمة لتخرجه ، مدت أم ( شوقي ) زوجة العم يدها لتعطي رشيد مبلغا من المال ليشتري له ( قاطا ) ورباطا وقميصا وحذاءا لأنه سوف يباشر عمله الوظيفي مدرسا للغة العربية والدين ، وكعادة رشيد رفض ذلك المبلغ ، دخل لمدرسته وبدأ الطلاب يلتفون حول أستاذهم لطريقته الحديثة والمسلية لإيصال المادة اللغوية لهم ، عصرا يذهب الى مقهى ( حسن علي ) في سوق العلاوي قرب مسجد الكطانه التي أحبها بل عشقها، وفي هذه المقهى يتواجد أصدقاء والده القدامى ، معارفه ، شباب من اليسار العراقي ، ولأن رشيد قد دلته بصيرته الثاقبة عن الأوضاع السياسية للبلد فقد بدأ يُصرّح هنا وهناك ، وفي صفه عن تلك الأوضاع ، ومعلوم أن صفوف الدراسة لا تخلوا من المتبرعين لنقل ما يدور للجهات المعنية ، ومعلوم أن المقاهي مرتع خصب لرجال الأمن ، يعرف رشيد ذلك ولكن رسالته التي يحملها تقول له عليك واجب الكشف والفضح لهكذا ساسة جوف ، لم يستمع لنصيحة والد أو عم أو أبن عم أو صديق ، عصر أحد الأيام ورشيد يجلس على أريكته بمقهى ( حسن علي ) وكثير حوله وهو يتحدث لهم عن العراق ومظلوميته حضر شرطيان سألا من ( رشيد ) ؟ ، صاح عاليا أنا رشيد ، قالا تفضل معنا لمركز الشرطة ، قال لهم وبأي تهمة ؟ ، أجابا لا علم لنا وطلب منا هكذا ، نهض رشيد معهما ومد أحد الشرطة يده ليمسك يد رشيد ، جذب رشيد يده وصرخ بوجه الشرطي ( أتركني كلب ) ، سار أمامهما وكأنه هو من يقتادهما ، وصلوا لنهاية شارع العلاوي – السوق الكبير – انعطفوا يسارا صوب مديرية الشرطة ، مقابل أسواق ( الأورزدي ) حاليا ، مجرد دخوله لمركز الشرطة وإدخاله لغرفة ( النذارة ) وهكذا تسمى وتعني غرفة الانتظار ، وموقعها يمين الباب الرئيسي للمديرية ، لم يكن رشيد مطلوبا للشرطة ولكنه كان بغية أمن بابل ، وهذان الشرطيان ما هما إلا مخبران سرّيان ، بعد دقائق دخل أربعة من رجال الأمن يحملون هراواتهم وانهالوا على رشيد ركلا وضربا بتلك الهراوات ، هل يُسلم صاحب الفكر والعنفوان الشبابي نفسه فريسة بهذا الشكل ، كلا ، أستطاع رشيد أن يصيب كل هؤلاء بجراح دامية ، وأحدهم كسر له رشيد يده ، والكثرة تغلب الشجعان العزل ، وهكذا سقط رشيد مغميا عليه في غرفة ( النذارة ) ، وهذا الشرطي الأمني المزعوم هو ضابط أمن يرتدي ملابس مدنية تعرفه أسرة رشيد ، ولطالما أرسلوا لأهل الضابط من يسترضيهم وتقديم الدية لهم ولكنهم بعنجهية أمنية يرفضون ، اليوم الثاني أفاق رشيد الذي أدمي من كل مكان بجسمه ووجد فوق رأسه والده وعمه ، وبدأت المعاناة الحقيقة لرشيد ، خرج من التوقيف ليباشر عمله في مدرسته فوجد نفسه منقولا الى القرى والأرياف البعيدة ، وضابط الأمن لم يكف عن متابعة رشيد وجلوسه بمقهى ( الكطانه ) التي يعشقها ويعشق سوقها الكبير وناسها البسطاء ، وتكرر استدعاء رشيد ولأكثر من مرة ، وقد يكون رشيد سببا بفقدانه ملاذه الوالد ، أحد الأيام حضرت سيارة من الشرطة لمدرسة رشيد ، وافق مدير المدرسة خوفا من الأمن أن يصحبوا رشيد معهم ، قال رشيد الى أين ؟ ، قالوا له الى المستشفى لأننا نظن أنك مريض ، لم ينفع معهم شئ ، أخذوه الى المستشفى وأجري فحص طبي صوري له ، قال له الطبيب أنك تحتاج لحقنة ، قال رشيد لا أشكوا شيئا دكتور ، قال الطبيب خذها من باب الاحتياط . يتبع رجاءا
الأحد، 12 أغسطس 2012
عرب وين طمبوره وين...!!!؟؟؟ حميد آل جويبر
بينما كان المسبار الاميركي "كيورياسيتي" يوشك ان ينهي رحلة في الفضاء مضنية كلفته ثمانية اشهر او اكثر من عمره الغض ، وبينما كان العالم المتحضر يوشك ان يحتفل باحدى انجازاته العلمية الباهرة ، وبينما كانت إدارة الطيران والفضاء الأمريكية "ناسا" حابسة انفاسها ، عاضة على النواجذ مع اقتراب مختبرها من سطح المريخ ... وبينما كان التاريخ البشري يستعد ليثبت يوم الاثنين السادس من آب 2012 كيوم تاريخي للعلم ... وبينما كان رئيس اعظم دولة - الذي الغى برنامجه النومي في ذلك الهزيع من الليل - يتابع عبر وسائله الخاصة اقتراب بلده من تحقيق فتح جديد في الفضاء ... وبينما كانت وكالات الانباء المرئية والمكتوبة تتسابق في تغطية الحدث الاكبر ... وبينما كانت " "كيورياسيتي" المرهقة توشك ان تلثم عجلاتها الستة تراب المريخ الاحمر ... وبينما كان هذا المعمل الالي العملاق في تجهيزاته وتقنياته يوشك ان ينهي رحلة 566 مليون كيلومتر " الرقم دقيق ولا داعي لفرك العيون" قطعها بسرعة تفوق سرعة الصوت بسبع عشرة مرة ... وبينما كان هذا المختبر العائم يوشك ان يرسل اولى صوره الالكترونية من ذلك البعد الخرافي الى محطة المراقبة في كاليفورنيا ... وبينما ... وبينما ... بينما ... وصلتني رسالة حملتها نفس الشحنات الالكترونية التي حملت رسالة المريخ الى الارض ، لكن من صديق "مفسبك " بدرجة كلوز فريند يدعوني فيها لان انضم الى مجموعة من المؤمنين احيت ليلتها تلك في التضرع والابتهال الى الباري تعالى جده ليبطل كيد الكائدين ويرده الى نحورهم بافشال عملية الهبوط ، باعتبارها مؤامرة ، مكشوفة الاهداف لغزو فضاء رب العالمين ، لتحقيق مآرب دنيوية دنيئة ... ولم افرط بدوري بتلك الفرصة المتاحة للدعاء حيث كانت اللحظات الاخيرة التي تسبق الامساك عن الطعام استعدادا لصيام اليوم الاثنين ، فدعوت الله ضارعا بكل ما اوتي صدري من حرق بان يهدي هؤلاء الاصدقاء الذين من الله علينا بمعرفتهم بفضل مبتكر اميركي شاب ديانته يهودية استطاع ان يجمع نحو مليار انسان في كيان افتراضي يوشك ان ينافس الهند وربما الصين في عدد السكان . ليت شعري كم هو بالضبط عدد افراد المجموعة المؤمنة التي احيت ليلتها تلك في الدعاء ، وليت شعري كم مجموعة في عالمنا الما يسمى بالاسلامي او العربي كانت تفعل الفعل المشين ذاته . ثم لماذا اريد ان ادري ، وقد خابت كل تلك الدعوات التي لا تنسجم مع العقل ، فيما استجيبت الدعوات القلبية الخالصة التي كان يزفر بها مع كل نفس مهندسو "ناسا" وخلفهم الملايين ممن يحترمون هدية العقل التي حباها الباري عز وجل خليفته في الارض ، استجيبت هذه الدعوات لانها كانت اقرب الى منطق السماء تحوم حول ذلك المسبار المتارجح في الفضاء والذي حل اليوم ضيفا ربما ثقيلا على سطح المريخ الذي آثر حياة العزلة منذ خلقه الله . "ناسا" وفي ظروف اقتصادية ضاغطة خصصت مليارين ونصف المليار لانجاح مشروع علمي ليس له اي مردود مادي ، وضعت له نسبة نجاح تقل عن اربعين في المئة . وكدت افقد تماسكي وربما دموعي ايضا عندما كنت اصغي لرئيس المهندسين المكلفين متابعة الرحلة وهو يقول بان فريقه المكون من خيرة مهندسي الغبراء والفضاء بذلوا كل ما بوسعهم من اجل انجاح الرحلة ، واستدرك قائلا : اتوقع لها النجاح ، فاذا فشلت فانها ستؤسس لنجاح مستقبلي سياتي لاحقا ... اعي تماما كم هو صعب ان تتعاطف الى هذا الحد مع مشروع اميركي حتى وان كان علميا لا يمت بأدنى صلة لسياسة واشنطن في الشرق الاوسط . وانك اذ تفعل ذلك فانما كمن يسير على حسك السعدان . فتهمة العمالة جاهزة ، وسيترتب عليها انك تقبض - ما الله يعلمه - ثمن عمالتك بالورق الاخضر الذي يسر الناظرين ، وان لك تاريخا طويلا في معاداة الامتين الاسلامية المجيدة و العربية الواحدة ، ذات الرسالة الخالدة ... وصولا الى كل ما يمكن ان تبتكره عقولنا الراجحة من تهم . وهكذا ينتهى بنا الامر !!! كتلة من الحديد ترسل رسالة من السماء من بعد ملايين الكيلومترات تطمن اهل الارض بسلامة وصولها ، وانا استلم رسالة من اهل الارض تدعوني لادعو الله ليطيح بكتلة متوقدة الذكاء من الحديد والاسلاك تحل الان ضيفا على المريخ . وهكذا يتضح الفرق بين الرؤيتين وهو فارق يساوي بالضبط المسافة النجومية التي تفصلنا الان عن كيورياسيتي . لكن الانكى والادهى من كل ذلك هو وجود من يرى ان الغلبة لنا وان هذه الغلبة قادمة كلمح في البصر او هي اقرب من ذلك . ترى من سيلومني الان لو كبست على خيار"ديليت" لهذا الصديق الكلوز جدا ؟
السبت، 11 أغسطس 2012
الخميس، 9 أغسطس 2012
غروب وقصص قصيرة جدا-عادل كامل
[ غروب ] لم تكن قد تعودت صناعة أشياء ذات قيمة.. إنها في الأربعين، ولم يشغلها الزمن، أو انها امرأة عاقر..ولم يكن ليخطر ببالها هذه الإشارات،الاوهي تتأمل أشعة الشمس من وراء زجاج النافذة، كانت الأشياء كلها مرتبة ونظيفة، لكن فكرة ما، راحت تتبلور لديها..كانت الساعة الثامنة صباحا، وهي في اجازة اعتيادية، وقد تناولت فطورها،وجلست في لحظة تامل لاتعرف نتائجها . لقد مات زوجها منذ عام تاركا لها ثروة وذكريات، لم تعد تشغلها.. بل لااحد شاهدها متذمرة وعندما كانوا يطلبون الزواج منها كانت تقول ان المرأة لاتتزوج اكثرمن مرة، وعندما كانوا يذكرونها بمواهبها القديمة كانت تجيد حسن التخلص بابتسامة موجزة وبكلمات إعتذار شفافة. في تلك اللحظة الصباحية، وعند اقتراب فصل البرد، شعرت بألم في صدرها.. لم تحدده، بل حتى انها لم تراجع طبيبها منذ رحيل زوجها، على الرغم من تكرر الثقل في قلبها، وهو احساس لم تعلن عنه لاخشية اتهامها بالوسواس، بل لأنها كانت تتجاوز تلك الحالة، فتشغل نفسها بأدق تفاصيل البيت،الذي كانت تعيش فيه شبه وحيدة..فالعلاقات الاجتماعية عندها شبه معدومة،كما إنها لم تعد تحتمل الدخول في حوارات، إلاانها لم تكن إنطوائية فالابتسامة المختزلة الشفافة لم تغادرها، وقيل إنها تغيرت بعد رحيل زوجها، لكنها لم تفقد آمالها غير المعلنة،وهي آمال لاهي، ولاسواها، يعرف شيئا عنها،إنها ضرب من الإغراء الداخلي بمواصلة الحياة، فهي لاتظهر عواطفها، أو تشكو، أو تتذمر،إنها، ولم تعلن ذلك لأحد، كانت لا تريد أن تشغل نفسها بصناعة أشياء ذات قيمة، لكن وهي تتنفس هواء الصباح، وتتأمل أشعة الشمس فوق الاشياء، كادت تعترف بأن نهاية حياتها قد أقتربت،لكنها لم تنبس بكلمة، وطردت شبح انها قد تكون مريضة، بأي مرض يثير الشبهات أو الأقاويل،وطردت من ذهنها أية أفكار حول الموت والحياة..كما لم تسمح لذاتها بالحديث عن أصوات داخلية، أو نوايا عدوانية من قبل الاخرين، كما لم تشعر بالاثم لاي عمل قامت به ، فقط كانت تحدق في أشعة الشمس حتى تلاشت معها وأختفت. [ مرآة ] قبل نصف قرن كانت المرآة التي يحدق فيها كبيرة ، وكان كلما تقدم فيه العمر، تميل المرآة الى التقلص، وهاهو، في صباح يوم بارد، جلس يحدق في مرآة صغيرة جدا، لم يكن يرى فيها شيئا. [ ظلال ] بينما كانا يتبادلان كلمات الاطراء أو الحب ، أمام نهر المدينة الكبير، كان كل منهما يردد في أعماقه.. لايكفي هذا.. وعندما حدق كل منهما في محيا الآخر، أدركا للحظة استحالة الكلام إلا أنهما كانا لا يحتملان الصمت. قالت: انت منقذي الوحيد.. ولن أبحث عن كائن آخر، قالت ذلك، وهي تعرف خفايا أعماقها، إنها لا تستطيع ان تعيش بعيداً عنه. قال: لا أختلف معك في شيء .. أنت نجمتي الوحيدة. وهو يعلم ، قال في نفسه، أنه من العبث البحث عن أمرأة أخرى . كانا في الخمسين أعزب وأرملة ، لكنها قالت: -انك مازالت تحب تلك الفتاة… -قبل ثلاثين سنة.. ودار بخلده انها الغيرة، فهي مازالت تحب زوجها وتردد أسمه، وهو أيضا مازال يتذكر، فتاته الوحيدة التي اختارت مكانها الخفي في ذاكرته… وبينما كانا يتكلمان في أشياء تنقذ الموقف من نهايته، سألت نفسها: ماذا لو عاد زوجي الى الحياة ، وجلس أمامي هنا ، أمام هذا النهر، حيث كنا نجلس، نراقب الأشجار وأشعة الشمس والعشاق .. ماذا لو عاد زوجي الآن؟ وسأل نفسه، بالصوت المكتوم نفسه: لو أنها معي، تلك الفتاة اليافعة ، تحدق في زرقة السماء، يوم كنا نجلس معا ونفكر في مستقبلنا.. إنها اختفت.. وشاركت حياتي أمرأة ثانية .. ليست بديلة .. لكني لا أستطيع أن أعيش بعيداً عنها. كان كل منهما يحدس ماكان يدور في أعماق الآخر .. الا ان القصة لابد ان تستمر ..وكانا يتأملان أمواج النهر .. همس فجأة : هذه هي قصة معظم البشر .. أجاب : واأسفاه . و عادا يحدقان في امواج النهر، ثمة صيادون في الضفاف البعيدة، وأشجار النخيل تترك ظلالها فوق الماء. كانت أشعة الشمس الذهبية تترك بريقاً رقيقاً شفافاً فوق أعالي الأشجار، وكان يجلس من حولهم مجموعة من العشاق الفتيان. حدقت في عينيه، بتوقد، وكانت تطلب منه مغادرة المكان ، كذلك حدق في عينيها ، دون أن يضعها بديلا لفتاته، ومضى معها بصمت . [وكان يتكلم] كان يتكلم .. لايعرف مع من .. ولا يريد أن يعرف مع من .. كان يتكلم بحرارة ، بتدفق، بدقة ، ولم يفق إلا بعد أن سمع من يقول له: -مع من تتكلم ؟ لم يكن يتكلم مع نفسه أو معها أو مع شخص محدد .. كان يتكلم مثلما فعل لسنوات طويلة ؟ قالت هامسة: -إنك تكلمت الى نساء كثيرات .. والى أصدقاء .. والى .. تكلمت وتكلمت .. كان يبكي ، لكنه رفع صوته: -لم أكن أنا الذي كان يتكلم .. -بل أنت .. يا لك من رجل صادق .. شفاف .. -لأنني أتكلم .. وحدق في عينيها ، في شعرها وقد غزاه الشيب ، في تجاعيد محياها ، في أصابعها النحيلة : قالت : -انها رحلتنا جميعا .. كلمني عن رحلتي … -حسنا .. وكان يتكلم .. لايعرف مع من .. والى من.. ولا كان يريد أن يعرف من كان يصغي إليه في هذه الدقيقة. [رسالة ] بعد أن أنجز كتابه عن مصائر المجتمعات ، ووضعه جانبا راح يطالع في رسالة موجهة إليه، قبل نصف قرن، كانت مكونة من عشرة أسطر، بسيطة، ولكنه لايعرف لماذا احتفظ بها ، طوال هذا الزمن.. ولما كان يعود إليها ، في كل يوم ، خلال العقد الأخير من حياته، ان لديه مئات الرسائل المماثلة ، إلا انه وضعها في صندوق قديم ، أعاد قراءة الرسالة ، مرة ثانية وثالثة . قال انها تكاد تكون بلا معنى ، ثم إنها تعود الى زمن بعيد، بل في الغالب، دار بخلده ، أن صاحبة الرسالة قد تكون في عداد الموتى، أو انها، في جانب آخر، لم تعد تتذكر حتى أسمه، ولاشهرته.. ولاما يعاني من أمراض الشيخوخة ، وقرأ بشغف " أحبك مثل نجمة.. مثل قطرة ندى فوق برعم مبلل بفضاءات هذا العالم ".. وقرأ ، بعد ان أشعل عود الثقاب ليدخن " لاتتركني .. فسأبقى أتعذب حتى آخر لحظة في حياتي ".. -لكن أين هي ؟.. وتساءل : من تكون؟ . اني في الواقع لا أحب الا هذه الرسالة ، هذه الكلمات الغامضة .. حسنا.. حمد الله إن لديّ رسالة تعيد لي الحياة .. فماذا كنت سأفعل ، وأعيش ، بدونها ؟. ولا أحد يعرف ، كم مرة طالعها ، قبل أن يعثروا عليه ميتاً، وهو يحدق في الكلمات . [حادث غير مثير] ما الذي أراد أن يقول لها " لست أنا المسؤول عن الحادث .." أم كان يريد التحدث عن العرس؟ كان يسير معها صامتاً ، متعباً، وشارد الذهن، ولم تكن ، هي تفكر في شيء، لقد قررت الا تجرح مشاعره ، وهي تعترف له باستحالة الارتباط ، فالعمر مضى .. لكنه قال لها : حسنا- إننا نتقدم.. أجل .. قالت بصوت حزين .. ولم تكمل ، شعرت انها لاتستطيع تركه، لا بالنسبة لها، بل له، فهي اجتازت محنتها.. وها هي لا تريد أن تتخلى عنه وهو يعيش محنة خلفتها هي له" الحب " كذلك دار بخلدها أنه لم يتخل عنها في أكثر الايام تعاسة، وضربت الارض برفق، كانت تراه شاحباً، شارد الذهن.. ما الذي حصل؟ سألته، فلم يخبرها بالجريمة التي وقعت لجاره.. قتل سبعة أسخاص دفعه واحدة.. ليس هذا فقط .. تمتم مع نفسه ، بل كانوا يتفسخون على مدى ثلاثة أيام قبل أكتشاف الحادث المروع.. بل أبتسم لها ، حسنا، ورفع صوته.. مالعمل – أحيانا أشعر إننا نسير الى المجهول .. ولم ينتظر ردها.. كان يتكلم معها بوعي غائب : الى مكان غامض بارد قليلاً.. بلا هواء .. بلا أصوات .. وسكت – ربما آفاق .. وجدها تتخلف عنه عدة خطوات..آه .. أين أنت؟ وكاد يعترف لها ان الاشياء تحدث تلقائيا .. دون تدخله، إنما توقف وشاهدها تتقدمه عدة خطوات " الى أين ؟" لقد شعر ان خللا ما، لايكمن في علاقتهما .. " إنما" وكان يريد ان يحمّل نفسه مالا تتحمل، لكن لماذا أهملت الجثث ثلاثة أيام كاملة؟ قالت بصوت هاديء: تبدو مثل المريض؟ وشرد ذهنه.. وعندما آفاق لم يرها تتقدم .. أو تتأخر.. كان يعرف من ذا الذي كان يسير معه، هي .. هي التي أحبها .. أم أي مخلوق آخر، يقوده الى الفضاء البعيد.
اصدار جديد-حفل تأبيني لذاكرة ما-تأليف: إيمان أكرم البياتي
الثلاثاء، 7 أغسطس 2012
الشاعر الغنائي ( محمد علي القصاب )-حامد كعيد الجبوري
; الحديث عن الشاعر الشعبي الغنائي ( محمد علي القصاب ) حديث طويل ومتشعب ، ويأخذ أبعادا وحيثيات لا تلم بعجالة ، سبق وأن تناولت حياته وشعره بإيجاز واضح ، وكتب عن الراحل القصاب الكثير من المهتمين بالأدب الشعبي ( رحيم الحلي ، كاظم السيد علي ، صلاح اللبان الذي حقق ديوانه ) ، وأخيرا همس بأذني أحد الأصدقاء قائلا لم لا تكتب عن ( محمد علي القصاب ) وعلاقته بالسلطة الحاكمة المتعاقبة ، وكان لصديقي ما أراد ، بداية الثلاثينات ( 1934 م ) من القرن الماضي ولد الشاعر الحلي ( محمد علي القصاب ) ، بمعنى أنه أدرك الحكم الملكي والجمهوري في العراق ، وتوفي الراحل عام 2003 م ولم يشهد الأحداث التي مر بها البلد بعد سقوط صنم الدكتاتورية البغيضة ، وطبيعة الشاعر محمد علي القصاب الابتعاد عن ( تيل الحكومة ) كما يقال في المثل الشعبي ، لأنه وبصريح العبارة رجل مسالم يخاف من أن يذكر أسمه بشئ حتى وأن كان شجارا بين فلان وآخر ، ومعلوم أنه صاحب طرفة لا يجارى بكيفية صياغتها ، وناهيك أنه يحمل صوتا جميلا وأداءً مميزا بالغناء ، ويقال أيضا أنه من علم الفنان سعدي الحلي طريقته الغنائية المتفردة التي كانا يؤديانها سوية في حفلات الختان وحفلات الأعراس والمناسبات الخاصة ، والشاعر القصاب لم ينتمي لحزب بعينه ولكنه كان وطنيا بوعي فطري لمجالسته أكثر من صديق له يحمل هوية سياسية معينة ، ولأنه شاعر مميز ومعروف فلابد وأن تقع عليه أنظار الساسة ليطلبوا منه مدح أحزابهم ، أو تمجيد الشخصيات السياسية المعروفة ، وهذا الحديث لا ينطبق على فترة الحكم الملكي إذ لم أسمع أن أحدهم طلب من الشعراء الكتابة لتلك الأحزاب ، وما يقال عن الحكم الملكي يمكن أن نقوله عن النظام الجمهوري الذي فجّر ثورته الشهيد ( عبد الكريم قاسم ) رحمه الله ، ولا يعني هذا أن شاعرنا القصاب لم يكتب للثورة الفلسطينية من خلال قصائده المنبرية الحسينية ، لأنه كان مؤديا ناجحا لتلك القصائد ، وربما قصائد مدح كتبت للجيش العراقي حينما واجه الصهاينة خلال الحروب المتعاقبة معهم ، ومن الطرف التي ينقلونها عن الشاعر القصاب ما حدث معه عام 1968 واستيلاء البعث على السلطة ، ومعلوم أن البعثيين آنذاك أرادوا تحسين صورتهم أمام الشعب العراقي ، لذا سمحوا للمواكب الحسينية أن تقام بمحافظات العراق الشيعية ولحين منعها عام 1975 م ، وبما أن القصاب هو شاعر ومؤدي- ( رادود ) - القصائد الحسينية لمحلة ( المهدية ) فقد طلب منه المحافظ ( هاشم قدوري ) أن يذكر الحزب بشئ من المدح أثناء ترتيل القصائد الحسينية ، وكما قلنا أن القصاب يخاف كثيرا من الساسة والمسئولين لذا قال للمحافظ ( تامر أستاد ) ، في اليوم الثاني والقصاب معتليا المنبر لم يتطرق للحزب بشئ ، فقال له المحافظ بعد نهاية قصيدته ( مُله – هكذا كان يسمى - هم ما ذكرت الحزب ) ، أجابه القصاب ( أستاد نسيت ) ، في اليوم الثالث والقصاب على المنبر قال المحافظ رافعا صوته ( مله لتنسه اليوم ) ، مسك القصاب قصيدته بيده وقرب فمه الى ( الميكرفون ) وقال ( أخوان تدرون الحسين شنو وصه زينب ليلة العاشر ، كلها خويه زينب ديري بالج على العيال والنسوان وأكو بالصندوك مالي كراسات لازم توزعيها على الناس بالكوفة وبمسجد الشام ، سألته زينب كالت خويه شنو هاي الكراسات ، كلها هاي كراسة الثورة العربية مال حزب البعث العربي الأشتراكي ) ، ولا أعتقد بصحة هذه المقولة وربما أطلقت للطرفة فقط ، ولازم القصاب الكثير من الأصدقاء وهم يروون – من الرواية – عنه الكثير من هذه الطرف ومنها ، كان ( أحمد حسن البكر ) متعلقا بزيارة الأمام ( الحمزة ع ) ، ولا يكاد يمر شهر إلا و( البكر ) يزور ذلك المرقد الشريف فقال عن ذلك القصاب ( أبشركم اليوم الحمزه صار عضو فرع الأيمة ) ، ومن طريف ما ينقل عن القصاب أنه سيق جبرا الى ما يسمونه الصف الوطني ، الذي أنتظم فيه الكثير من الشيوعيين قسرا أيضا ، حدثهم مسئول الصف الوطني قائلا ( رفاق شنو هيه أمريكه اللي تريد أتطب أفغانستان ويّ روسيا عله مود تتحارب مو صعبه علينه باجر بس يأمر الحزب نشيل تواثينه ومساحينه ونهد عليها فد هده ، ومنرجع ألا تسقط أمريكا ) ، أبتسم القصاب بوجه المسئول وقال له ( عمي هذا شلون الحجي أشو أحنه طبينه الكويت قسمونه أثلث أقسام ، رفيقي إذا رحنه لمريكا حرام بعد ميطلع من عدنه المخبر ، بويه خليها سكته ) ، وقوله ثلاثة أقسام مرتكزا على العقوبات الدولية التي قسمت العراق من خلال خطوط العرض الى ثلاث أقسام ، ومعلوم أن الفنان سعدي الحلي له علاقة وطيدة جدا مع الشاعر القصاب ، ويقال أن الفنان الحلي لم ينصف القصاب ، لأن المردودات المالية التي كانت تأتي الى الحلي لا يحصل القصاب على شئ منها ، رغم أن القصاب هو صاحب الكلمات ، وهو الذي يعطي الطور الغنائي الى الحلي ، ومع كل ذلك لم يتبرم القصاب و يشكوا لسعدي هذا التجاهل ، رغم معرفة سعدي الحلي أن القصاب لا يملك حتى أجرة العودة لداره ، وفي أحدى الجلسات الليلية كما يروي الصديق المغترب الفنان ( حمودي شربه ) ، حضر لتلك الجلسة رجل طويل القامة ، مفتول العضلات ، يرتدي الملابس الزيتونية ، حاسر الرأس ، مسدسه بنطاقه ، وكما يقول الفنان ( حمودي ) حينما شاهد القصاب هذا الرجل الداخل على جلستهم لاذ القصاب بسعدي الحلي خوفا من ذلك الرجل الطوّال ، قال سعدي للقصاب ما بك ( محمد علي ) ، أجاب القصاب ( سعدي شوفه ولك هذا يمكن جاي يا خذنه للأمن ) ، نظر سعدي الى القادم وعرفه تماما وقال مخاطبا إياه ( ولك وين جنت البارحة ليش ما جبت ...... مو أحنه متفقين ) ، عرف القصاب من هو القادم ، وما هو عمله ، فقال القصاب مخاطبا إياه ( ولك شوف مو جاي لابس زيتوني وحاط مسدس عبالك أتخوفنه ، ولك أحنه حكومة خبلناها ) ، والقصاب رحمه الله كان عفيفا جدا ، لم يتسول بشعره كما الآخرون ، وكانت تربطه علاقة مجالس أنس مع الفريق ( عدنان خير الله طلفاح ) وزير دفاع الطاغية صدام حسين ، التي بقيت أسرار قتله مبهمة ليومنا هذا ، وكان عدنان يبعث بسيارته الخاصة لتجلب له الشاعر القصاب ، لأن القصاب نديم لا يجارى ، ولم يأخذ من عدنان درهما واحدا قط ، ولم يطلب منه معونة يذكرونها ، وللتاريخ نقول أيضا أن الشاعر ( حميد سعيد ) له يد بيضاء على الشاعر القصاب ، فهو الذي درّج أسمه ضمن القوائم التي كان الطاغية يكرم بها مداحيه من الشعراء والفنانين ، وهو الذي أوجد فرصة عمل وظيفي الى الشاعر القصاب ، وهناك طرفة جميلة نختم بها حديثنا عن القصاب ، كان القصاب كريم عين ، ومعروف أن الذي يعيّن يبعث الى اللجنة الطبية للفحص ، جلس القصاب أمام طبيب العيون لفحص نظره ، وقال له الطبيب أغلق عينك اليمنى بهذه القصاصة ، ضحك القصاب وقال للطبيب أنها مغلقة دكتور ، بدأ الطبيب يسأل القصاب عن وضعية الرموز – الدوائر - وفتحاتها يمينا أم شمالا ، أعلى أم أسفل ، لم يستطع القصاب تمييز تلك الرموز بعينه الصحيحة ، قال الطبيب ( أخي أنت فاشل بالفحص الطبي ) ، ضحك القصاب وخاطب الطبيب قائلا ، ( راسب ميخالف بس بروح أبوك دكتور هم أنت شفت حرامي بكد الذبانه ، بويه دكتور شنو راح أتعين راصد جوي لو حارس نهاري ) ، ضحك الدكتور من هذه المفارقة الجادة ، وأعتبر القصاب ناجحا بالفحص الطبي وأستلم وظيفته
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)