الخميس، 19 يناير 2017

أختام *-عادل كامل

























أختام *



الختم الرابع


عادل كامل

 [7] مقاربة ـ كاظم حيدر (أ)
    في التشكيل العراقي الحديث، كان كاظم حيدر، لسنتين أو ثلاث سنوات، يواجه آثار اليورانيوم. كان باسلا ً في التعامل معه، شبيه بحكاية (أيوب) جرب حد ان الأذى بلغ أقاصي جسده، لكنه لم يجدف. كاظم حيدر ، هو الآخر، بحسب الطبيب الكوبي المعالج الذي حاورته، بعد رحيله بيوم، ذكر لي ان الفنان مات باطمئنان تام، فلم يولول، كمعظم المرضى، أو يتفوه بغضب. كان كاظم حيدر، قبل شهور، وفي لندن، قد رسم سلسلة من الرسومات، شبيهة بأختام عراقية قديمة، سومرية أو أكدية، وقد أزاح قشورها، ليرسمها من الداخل: شبكات أوردة، وشرايين باللونين الأحمر والأزرق. كان يصوّر محنته، محنة جسده، هو، وكان يراقبه عن بعد أيضا ً.كان شيّع جسده، قبل الموت، كآخر وثيقة له مع الحياة. عندما سألته: هل لديك تصوّرا ً بصرياً عن العالم الآخر..؟ أجاب بالنفي..! ربما كان سؤالي غريبا ً، ولكنه برهن لي انه كان متوازنا ً، ولا يرغب ان يكون مضطربا ً في قضية لا جدوى من التوقف عندها.
    في رسائل (علي النجار) إلي ّ، أراه اجتاز مفهوم (التعبير)، والتضرع، والاستعانة، نحو الانغماس بعمله الفني، وقد امتزجت تأملاته لجسده ـ وللعالم كفراغ مشغول بما لا يحصى من الذرات ـ بخامات وخلاصات تكمن فيها استحالة فك المعنى عن سياق النص ومعالجته كعلامة تكاملت فيها عناصرها. فلم يتوخ طلب الاتكاء على احد، أو استدراج عاطفة ما يدرك أنها، تأتي وتذهب بعلتها، إنما لم تغب عنه رهافة انه لم يخلق فائضا ً، أو خلق كما تخلق الأشياء متضمنة معناها في ذاتها، بمفهوم عمانوئيل كانت، وإنما هناك علاقة ما بالغة الدقة بين الكلي والأجزاء، مثلما هي علاقة بين الأجزاء والكل الكوني. فجسده لم يعد قابلا ً للتلف، وفي الوقت نفسه ليس باستطاعته ان يبلغ خاتمة المقدمات التي دارت بخله، ذات يوم، حول الإنسان، ولغزه. وكأنه ـ في هذه التجارب ـ سمح للأبدية، ولحافاتها غير المقيدة بحافة، ان تميز بين صانع الموت، والآخر الذي سيبقى يحدق فيه! أبدية الأسئلة وقد سكنت، لبرهة، زوالها العنيد!
[8] مقاربة ـ محمود صبري (ب)
     اذا كان علي النجار قد جعل جسده (وثيقة/ ختما ً) كما فعل أسلافه في سومر، وفي أكد، من غير استثناء هاجس التعارض بين اللامحدود وحدود خامات الجسد وقيود وعيه ـ فان محمود صبري، في خمسينيات القرن الماضي، كان صوّر القهر عبر الشهيد، بصفته نذرا ً أو أضحية بانتظار اكتمال دورتها. فاللاوعي ـ وبرمجته أو سياقه الحتمي ـ لم يقلل من منح الشهادة سحرها، والانجذاب إليها. عمليا ً انه سيغدو نظاما ً في حماية المركز (السلطة/ أو كل من يمثلها) وكأن التجانس بين اللاوعي ـ الحتميات ـ والنظام الاستبدادي للدكتاتوريات ـ من كبير الصيادين إلى المتحكم بالمصائر ـ مسلمة لن تدحض. وعلى كل أولى محمود صبري نصوصه في الرسم، نظام الختم أيضا ً. مانحا ً المشهد الجمعي للصراع أولوية دمج فيها الذات، في سياق تصوير المتضادات. فلم يكن في خمسينيات القرن الماضي، في بغداد، إلا لمحات غامضة عن حقبة ما بعد الحداثة: من الألسنية/ البنيوية/ وموت الفن، وصولا ً إلى التفكيك ـ عدا بزوغ إشعاعات شاحبة للوجودية، في مواجهة كلاسية النضال ضد الاستغلال، والهيمنة. كانت الوجودية بمثابة التمهيد لعزل الذات، وليس لمنحها قدرتها على التأمل الانطولوجي، لكن محمود صبري، سينفذ سلسلة تتفرد بمنح الفن شهادة حياة: شهداء أو ضحايا في مواجهة القهر السياسي (اليورانيوم الرمزي)، ولأجل مصائر تقاوم التزوير، وقد تمسكت بأحلامها، حد سكنها.
   
 [9] مقاربة ـ عادل كامل (جـ)
     هناك آخر، آخر محدد أو بحكم المجهول، لا تتوخى الجسور القطيعة معه، أو المصالحة. وقد يدخل الوهن، الحذر، الظن، التراخي، عائقا ً، ولكن ثمة آخر شبيه بالوهم ـ أو بصفته غائبا ً، كي يبعث رغبة خالصة تتوخى عملية الاتصال، وديمومتها...؟ لا أتخيل ان هناك حركة ـ من غير ارتداد أو تقدم ـ حركة، حتى على صعيد التجريد، باستطاعتها ان تبلغ الصفر.
    يقودني هذا إلى ان هناك (في المشهد الكلي ـ وفي أدق تفاصيله) يصعب رؤيته أو تتبع مساراته كانهمار أمطار تسقط عشوائيا ، إنما بنظام خارج قدرات الرائي ـ المراقب، في القدرة على الاستنتاج. وعلى كل، هناك آخر ـ حتى لو كان جحيما ً بحسب كلمة لسارتر ـ له دوره في ديمومة التصادم/ الحركة. آخر لا يسكن خلايانا حسب، بل نسكن خلاياه. وانتظام أشكال الحركات، ستبقى تحتوي اتساع الاضطراب، لتذهب ابعد من حدود الحركة، نحو مجالها اللامحدود.
    قد اجهل لماذا اخترت الجسد علامة ـ كمركز ـ لمسافة متعددة الأبعاد، مساحة يحدث فيها التقاطع، والتداخل، وانشغالاته، وإنما هل ثمة غير الجسد، حتى في أقاصي التجريد، محركا ً: الجسد بصفته غدا التقاء ما لا يحصى من العناصر، والروافد بمختلف خصائصها، كي يشكل وحدة: صورة لجوهر داخل منظومة متآلفة من النوع ذاته: نباتا ً كان أو حيوانا ً   أو خامات معادن..الخ
    تلك الصور للجسد لن تغيب عن الحواس، منذ تشكلها ألبدئي. فالعلاقة تبرهن أنها جزء من نظام حالما يتهدم، لأي سبب من الأسباب، سيعيد بناء تشكله بالصورة ذاتها، أو بتعديلها، أو على نحو مغاير.
     جسدي في المرآة ـ وليس عبر مقارنة أخرى ـ لن يمتلك إلا ان يتوحد مع ما لا يراه فيها: انه لا يرى شيئا ً محددا ً، عدا استغراقه بالعثور على معادل للتوازن.
     في لوحة لي ترجع إلى عام 1976، شديدة الصلة بتجربة ما يتعرض إليه الجسد من تعذيب. ربما هي تناور بمعناها، على خلاف نصوص علي النجار: فضيحة عصر أو آثام حضارة. مناورتي ذاتها لا اعتقد أنها بحاجة إلى إيضاح. فهل أغفلت أنني رسمت أثرا ً يعلن عن معناه: تناثر أجزاء الجسد وتحولها إلى وحدات معزولة بعضها عن البعض الآخر: أصابع/ عين شاردة/ وفم يكتم صرخة/ وجمجمة بدت متداخلة ببقايا الوجه.
    انه ختم معاصر، يلبي نظام أقدم النصوص: وظيفته في مواجهة التحرر منها، معناه وهو يستدرج ما بعد المعنى، ورمزيته وقد أعادت بناء واقعيته النائية.
     في أختام علي النجار، لا توجد لذّة جمالية باذخة،  كالتي شغلت 90% من الفنانين العرب أو العراقيين: بل ثمة ما هو مضاد لها، لا بحثا ً عن مأوى في غريزة الموت، بل في مواجهة أنظمة لم يمت الإنسان فيها فحسب، بل المضي في عالم خال ٍ من مستقبله، وماضيه أيضا ً. فثمة انجرار إلى تيار (السوق) سمح للربح ان يستثمر أدوات الموت من غير اعتراض يذكر. فالحروب تشن، باستخدام وسائل الإعلام المتطورة، وجرجرة العاطلين عن العمل، بل وحتى العقلاء، إلى مهرجان لا احد فكر في خاتمته. والفن ـ كجزء من خطاب عام ـ لم يمتلك الكثير في مواجهة صانعيه إزاء شفافية التلوث!، والتفكيك بما يتضمنه من غوايات آنية، لا اجتماعية، تشّرع للربح النظام ذاته الذي تأسست عليه الأنظمة الدكتاتورية.
    قطعا ً ليس الفن أداة جارحة، حتى عندما يتمسك برسالة ما من الرسائل، إنما، في الأقل، لا مبررات كي يتحول إلى (سلع جمالية باذخة للترفيه) تزّين جدران تعزل العالم إلى من هم يتحكمون بالمصائر، والى مصائر اندثرت، أو في طريقها إلى الاندثار.
     سيقال، مرة بعد أخرى، إنها لعبة تتجاوز لاعبيها، لعبة ترك البشر في نزاع دائم، على ان الضحايا، في هذا القانون، بالدرجة الأولى، أكثر مسؤولية في صناعة اشد الطغاة جورا ً، ولا معقولية، ولكن، بشرعية لا تنقصها أوهام الأبدية، والخلود!
[10] المنافي وعلاماتها
    لم يعد لدى علي النجار سوى تراكمات انخلاعات، وذاكرة زاخرة بعلامات منافيها، ابتداء ً بالوطن إلى المدن البديلة، إلى مفهوم تتهدم فيه الحدود الوهمية، أو الرملية، المتحركة، كي يصبح الجسد وحيدا ً في مواجهة المجهول. فالجسد ـ وسيغدو رمزا ًلملايين فتك بهم اليورانيوم ـ غدا علامة حضارة قائمة على سياق تقسيم البشر فيها إلى من هم خارج (التلوث) والى ـ ما كان يثير قلق دستويفسكي ـ بتلال النمل: الشعوب التي تم معالجتها بجدران عازلة، وقوانين بالغة التشدد،بأكثر من ممارسة تحافظ على ما آلت إليه، تحت نفوذ الإعلان، والأسواق، والاندثار.
    جسد علي النجار، رمزيا ً، يعيد إحياء أقدم شعيرة للأضاحي: انتزاع القلب، في احتفال دموي، تحيط به النار، وإعادته إلى المجهول. لكن جسد الفنان، في نصوصه، صاغته ملوثات عصر (الحداثة وصولا ً إلى العولمة)، ودخول العالم، في نهاية المطاف، إزاء تهديدات يصعب تداركها، فضلا ً عن تأثير التلوث في المجال الجيني، بانتظار نهاية ـ أو فاتحة عهد اقل لا مبالاة  تجاه  المصائر.
    رسوماته ليست إعلانات لاختيار عالم خال ٍ من أسلحة الدمار الشامل، الأسلحة (البيضاء) أو (النظيفة)، ولأجل حفنة من أثرياء، وسحرة عالمنا، في استبدال بناء متنزهات، ومزارعاً، ومصانعا ً تتوازن فيها رغبات الناس مع أحلامهم فحسب، بل لبناء المزيد من الأسلحة المستحدثة في محو الحياة، بمختلف صنوفها، وفي مقدمتها الإنسان.
     نصوصه ستوضح حقيقة تلوث: الفضاء/ المياه/ الأرض، بإحصائيات دولية، لا تعزل قارة عن أخرى، في نهاية الأمر. فالإشعاعات لم تثبت انها علامة انتهاك، بل ـ بالوثائق ـ مشهدا ً للموت ذاته. ومن غير كلمات، فان نصوص الرسام العراقي ـ بعد نصف قرن من العمل المتواصل ـ لا تنطق بأيديولوجية أحادية، أو بمذهب ختاميا ً، أو لصالح معتقد ضد آخر، بل تلفت نظرنا إلى طريق يبدو انه سيكون وحيدا ً ألا وهو أننا بانتظار حكماء ـ في العلم والفلسفة والاقتصاد وفي باقي حقول الحياة ـ يعملون على إعادة بناء فلسفة خارج مفهوم الانتصار، وسيادة قارة على قارة أخرى، أو جنس على جنس آخر، فالدعوة المروعة التي تبناها (هانتغتون) في كتابه (صدام الحضارات) تكون قد بلغت الصفر. الأمر الذي يرسخ منطلقات مغايرة للتصادم، بكل أشكاله، وحتى الرياضية منها ـ كما أشار أريك  فروم إلى ذلك ـ لعالم يتطهر فيه (الدماغ) من الجينات المسببة للعنف، وأوهام المجد والاستمتاع بمحو البشر، أو إعادة صياغتهم كمخلوقات بلا هوية، كأشباح كافكا، يساقون إلى حتفهم ككلاب!



[11] قصدية اللا قصد!
    مع ان نصوص عام 2011 أخضعها للتشذيب،  كي تتحول إلى: بقع/ فراغات/ علامات هندسية متداخلة شبيهة بمخلفات تأكسدت، ذات ألوان حادة، صافية، وملوثة حد التجريد بمختلف معالجاته الرمزية، والتعبيرية، والهندسية ...الخ إلا ان هاجس الفنان مكث يتتبع اثر (الموضوع/اليورانيوم) في نصوصه الفنية: فلا قطيعة أو فصل بين بنية وبنائية أو ترتيب العناصر من غير مركزها المعلن: الانشطار، التخريب، والمحو. فهل نصوصه الفنية بحاجة إلى الشرح، وكان (الضحايا) لن يشاهدونها، ولا المتابعين، إلا مع إيضاحات، أو مقدمات..؟
    ربما الأمر لا يخلو من قناعة ان هناك، في الفن، كما في الكيمياء، أو في المناهج الغنوصية، أو الأمراض العصية على التفكيك، خفايا تكتم كتماناتها بمشفرات يصعب ان تلمسها أدوات الحفر، والتحري، مما يسمح للفن ان يذهب حيث الغموض لا يتقاطع مع أشكاله وعلاماته ورموزه وعناصره الخارجية. كلاهما يعملان بالصور (من الكون إلى ملامس الخامات والى باقي العناصر)، إلى جانب القصد، في المحافظة على ديالكتيك التجربة، وأبعادها.
    فاليورانيوم لم يخترع كغذاء، أو لعبا ً للأطفال، أو رموزا ً للتسلية، والرفاهية، بل أصبح جزءا ً من فعل يلبي، إلى جانب القصد، لا قصدية يصعب وضعها في القفص!
    هل قصدت الإشارة إلى ما هو ابعد من ذلك، غير نزعة التدمير التي توازنت فيها غريزة الموت بإرادة البقاء، كتاريخ عامر بالتصادم، والعنف،حد الجور والمحو، إلى ذات الحكاية التي تروى عن ادم، عندما سأل إبليس:  لماذا أغويتني؟ فلم يجد الآخر إلا رداً بسؤال: وأنا من أغواني؟ فهل (موضوعية) الفنان بريئة من الذهاب إلى إثارة قضية ان للعذاب، في مختلف أشكاله، دربه المشفر، وليس ما ظهر عليه من استدراج للعواطف حسب! وإلا لماذا مكث فن التعذيب، بالانتقال من اللا إنساني إلى عالم حقوق الإنسان، والديمقراطية، والشفافية، وجد، في أكثر المثل رصانة، قبولا ً، واستعدادا ً، وتكلفة باهظة الثمن، فضلا ً عن الحماية القانونية أيضا ً!
     إنها إشارة تحيل تجربة علي النجار إلى نشوة حياة ستبدأ فيها الفلسفة بالبحث، مجددا ً، عن عالم لا نعرف اهو آت من العدم، أم ذاهب إليه..؟
   علي النجار الذي تجمعت في تجاربه خبرة طويلة، بدءا ً بالإقصاء عن (الأم/ الأرض) مرورا ً بدروب التصادم، مع الثقافات البديلة، وليس انتهاء ً بالجسد وهو يكتوي، ويفكك، إزاء مصير شبيه بالعائد إلى العدم أكثر مما هو خارج منه، يدرك ان البطولة لم يقصد منها الحصول على ثمار، أو ملذات، أو نجاة شخصية إزاء هزائم الشعوب، وتنوع هلاكات المذاهب، والأنواع البشرية، وتفتتها، إنما، ببساطة، انه شبيه بموقف متصوف، أو مازال يتمتع ببراءة من يجتز العام الأول من عمره، وقد حكم عليه بالرجم، أو النفي، أو الموت، لن تقتله إلا وردة!
[12] لوعة عصور
     يعيد علي النجار، كرسام وككاتب، للختم القديم قدمه: انه لا يجرجره، كما تستخرج الآثار أو الهياكل أو البقايا، ولا يدفع به نحو المجهول. فالفن عنده غدا مأوى غير قابل للانغلاق، وغير مشرّع بلا حافات أيضا. فهو الحاضر بموقعه في دورة الزمن ـ زمن الإنسان وتاريخه. وما تثيره أختامه، المنجزة توا ً، إنها شاهدة على عصر: التلوث/ فقدان المناعة/ الانشطار، والأذى الذي صنعه الإنسان ضد الإنسان، ليضع حدا ً لمصيره في نهاية المطاف.
    ففي أدبيات حضارة وادي الرافدين إشارات تتحدث عن نهاية الخلق، أي زوال البشر. وفي مقدمة أسبابها: اللغط/ الضوضاء/ التهريج/ أي: التلوث. فهناك ـ إلى جانب أدوات القتل والفتك المختلفة ـ ما ينسب إلى البناء الفوقي: اللغة. فالأخيرة تتبنى انساق البناء والهدم، وعندما لا يمتلك الباحث إشارات تكفي لاستبدال الوهم بالثابت، والزائل بالأبدي، فان تلك النصوص منحت اللغة ما سيمنحه (اليورانيوم) في فعالية الانقضاض على الحياة ذاتها.
    ولقد تحولت أختام علي النجار لدي ّ، إلى اتصال بهدم الجدران العازلة، والحدود، والفجوات بين المنافي. فبعد ان عزلت نفسي، بين أربعة جدران ـ إلى جانب سطح الأرض والسقف ـ أكون قد امتلكت حرية ان أكون حرا ً في حدود المستطيل أو المكعب الذي أنا داخله: أي حريتي في حدود هذا الاختيار. فقد أتى على الإنسان زمن فقد فيه حتى حرية ان يختار عزلته، أو موته في الأقل.
    أختام الفنان على النجار، تحكي لوعة عصور، وأمم، وشعوب، ومحن نكبات لا وجود لها في مملكات النبات، أو الحيوان! فلم يعرف ان فتك نبات بنبات، أو حيوان بحيوان، كما سيفتك الإنسان باختراع أندر الأنظمة والتشريعات على جعل الكراهية غير قابلة للدحض: فضحايا حماقات ما ينسب إلى الحكماء، والعلماء في شتى مجالات العلم، تكللت بصياغة ابرع فنون التدمير، والمحو، وكأن ما سعى إليه الجنس البشري، في زمنه الوجيز، قياسا ً ببعض المخلوقات المعمرة، يؤكد استحالة منع وجود أسلحة قادمة بفنون الفتك، لا بالإنسان أو بالحيوان أو بالنبات، بل بالبيئة المكونة لنشوء الحياة.
    فقد تغدو الأسلحة المستخدمة لليورانيوم، شبيهة بالحجارة عند سكان الكهوف، وكالسيوف والرماح  عند الفرسان في البراري، وكالصواريخ عابرة القارات في عصر حداثة أوروبا، وكاستخدام إشعاعات فائقة الأذى، يزعم أنها نظيفة، في عصر العولمة، والشفافية، والديمقراطية، والنزاهة، وفي عصر حملات الإيمان، والاحتماء بالمقدسات...الخ ليس إلا مقدمة لزمن مفرّغ من المعرفة، والى مدن خالية من البشر، والى عدم غير قابل للامتداد.  

قراءة في قصة سفر الفناء لعدنان المبارك
كتابة بنسق الختم وكلمات عند حافات الصمت


[1] حد بين حدين: إشكالية المسافة
     اللغة تخفي أيديولوجيتها، لأنها تتستر عليها، وعلى ما تخفيه، لكنها لا تخفي سرها، فهي، في الحالة الأولى، تعمل لغاية محددة، فيما لا تمتلك اللغة إلا ان تنتهك السر، أو تدمره، أو تعلن عن عجزها في المناورة. لكن الفن ليس لغة، كعمل اللغة في الاتصال والمحاورة، وإنما تبقى الاقتراب من سبر نشأتها، بمجموع العوامل، وفي مقدمتها الإنسان ذاته. فهل الإنسان ـ كباقي الكيانات الناطقة ـ يسعى الوصول إلى الذروة: العجز، واستحالة فك المناطق التي لا تعقبها مخفيات تتطلب جهدا ً، ووعيا ً، وأدوات توازيها في الانتقال من الملغز إلى مكوناته.
     وبمعنى ما فأنهما ـ لغة الفن ـ والفن الذي استدعى استخدام اللغة، يشتركان/ وينفصلان في تكوين معادلة برهنت عن تدرجها من الوظيفي إلى الديمومة، ومن المعلن إلى المتستر، ومن القابل للتفكيك إلى استحالة تتبع أثره، وقد غاب، أو اختفى تماما ً.
    فالأيديولوجيات، بمعنى الأقنعة، والتصوّرات، تحافظ على مسافة ما، تتسع وتتقلص، لمن منحها حضورها، الأمر الذي يجعل ديمومة الصراع، كديمومة الحركة، تهدف إلى ما هو ابعد من السطح، والظاهر، والقناع، لكنها ـ تلك المناطق النائية ـ تمتلك كل ما سيجتمع في الأثر: الختم. وفي مكونات هويته. إنما لا تمتلك الأخيرة إلا في حالة الاضطراب ان تعلن عن ذاتها، أي في حالة الاندثار أو الموت. وبمعنى مباشر: عن الديمومة، أو الإرادة، أو الاستجابة لاستكمال الدورة.
[2] السؤال: ديمومة الاستحالة
     لماذا تستحيل اللغة عند عدنان المبارك إلى (ختم): إعادة بناء ما تم حفرة، نبشه، بالأحرى محاولة الاشتباك معه من غير خسائر، وترك المعنى يعمل بالية دورته! ولأن لاوعي الكاتب لم يتنصل عن تاريخ لا وعيه المعرفي، سمح لوعيه بالتجول في تلك المناطق. كان الختم خلاصة فلسفة ان العدالة (في الأصل) إشكالية. فالعبد ـ في المحاورة السومرية ـ لن يسمح للسيد بالذهاب ابعد من موته. وقد دوّن الكاتب السومري، في الختم، استحالة عزل اللغة عما تخفيه/ وعما تعلنه، في هذا الديالكتيك. فاللغة ـ بعد ان تقول ما تريد إيصاله ـ تسكن مأواها: هذا الذي لا يمكن تجنبه: ان العدالة لن تكمن إلا باستكمال دورة الإنسان: موته، كي يبعث، ويبعث كي يرى ما هو ابعد من موته. أساطير ديموزي تفصح عن مدى استبصار السومري للحد من التناقضات، وجعلها، بدل التصادم، تأخذ نسق التكامل. فالشقيقان، الراعي والمزارع (قابيل وهابيل مستقبلا ً) لن يقتل احدهما الآخر، بل سيكمل احدهما عمل الآخر. انه سبر استثنائي لجوهر العدالة في الفكر السومري، دون إهمال ان (أيوب)، في الأخير، يترك سؤالا ً لن يجد إجابة إلا عبر ما سيضاف، ويقلب، في العصور اللاحقة. فأيوب لم يجدف، وضمنا ً، لم يول (الشطان) ـ ولا نعرف كيف تسلل الأخير إلى مجلس الإله ـ إلا عدم الاكتراث، الذي سيراهن عليه الإله، في حواره معه. فأيوب لم يسأل: ما الحكمة من الامتحان...؟ لأن أيوب حدد وجوده بالمحدود، فهو من التراب واليه يعود، عدا ان (النفس) أو (الروح) ستحل لغزها، وعملها، مادام الامتحان لا يخص الذات العليا، بل يخص الزمن، والأخير، لا يصح ان يذهب ابعد من زواله.
    هذه الإشارة التي تعزل الزمن عن (داخله) أنتجت آلاف الأختام ـ الألواح، بما فيها من تشريعات، وقبل كل شيء: أنتجت فنها، بنية الختم، كبناء استمد قوته من عناصر الحياة ذاتها: مرئياتها ومخفياتها معا ً. ومثال أيوب، في نجاحه، لن يعّول على الزمن إلا ممرا ً حسب، أي درجة ـ مساحة، من العبور، وهو الذي سمح له ان يتساءل: من منا في مأزق! سؤال سيتكرر طالما استعاد الفن هويته، لغة تفند الوظيفة لدمجها بما لا يثير الشك، في مواجه فنائه.
[3]  سِفر الفناء
     كما يعمل الختم (تجانس عناصر: الوعي/ اللغة/ الزمن/ الوظيفة، وضمنا الهيئة مع ما يذهب ابعد منها) ـ لكن ليس بالمعنى السوريالي: سبر مناطق اللاوعي/ أو اللاشعور، في إشارات لبريتون وبياناته، بل بقلب السوريالية وجعلها لا تترنح، بل تعيد صياغة المسافة  ذاتها بين نهايتها والمقدمات ـ فان عدنان المبارك يفتتح قصته (سِفر الفناء) باستشهاد لإميل سيوران، بما يصح ان يكون خاتمة: "كان هناك زمن حين لم يكن أي زمن". فماذا يستطيع، غير (الختم/ اللوح) وليس النص كما تداولته الحداثة الأوروبية وصنعته ـ ان يبنيه. فما ـ هو ـ غير الزمن ـ سوى الوجود خارج اللغة، وخارج أية وسيلة للتقدم، أو حتى للارتداد، أو للمراوحة. انه ليس العدم، إلا اذا كان العدم، بحسب فلاسفة بابل، ذروة إرادة الآلهة. وهذا ما تحول إلى إشكالية عند الهنود، عندما اضطروا لوضع حد بين الصفرين. إنما، في الأصل، كان ثمة ما هو سابق على الزمن: أي الذي لا تستطيع اللغة ان تمنحه وجودا ً. فهل ستأتي التكملة فائضة، للبرهنة أنها كانت قد بلغت خاتمتها، في الأصل، أم لأن الكاتب، عدنان المبارك، لم يغادر مفهوم لغز تكون بذرة الخلق الأولى ـ لأنها لم حتى بعدم تدخل الآلهة أو عدم وجودها في الأصل: تحكم دورة البذرة، دورة المفتاح في القفل، فيغدو السَفر/ الرحلة، كواجب الوجود ـ ولكن للذات في مواجهة فنائها، فينغلق السؤال بالإجابات. فالسومري كان منتبها ان شفرة الإجابات كامنة في السؤال نفسه، وهذا ما سيقوله ماركس، بعد خمسة آلاف سنة. بمعنى: ان العدم وجد امتداده في المساحة المشغولة بالزمن، كي تتحدد المعضلة في إطار: العناصر ـ وحركتها، وليس بفنائها. فالإنسان غير مخول لذلك، الأمر الذي دفع بالكاتب السومري للتفريق بين أهداف: عناصر الخلق، وبين مفهوم الخلق. إنها مسافة توارى فيها العدد بين ان يضع الصفر إلى اليسار أو إلى اليمين. لأن المعادلة تامة، في أصلها، أما ظاهرها، فانه سيحافظ على زمنه، وتاريخه. وضمنا ً كل ما يتعلق بالعدالة: لماذا  حكم الموت سابق على الولادة! وهو الذي شوش ـ وشكك، في منطق يحاول بناء تصور للآلهة، أو لدورها في بتكبيل المحدود بالطاعة، والشقاء، واللا متوقع، تزكية للذي يستحيل ان يكون له وجود، لا بالتأويل، ولا بالصورة، ولا حتى بالمشفرات! الختم الذي سيعيد بناءه عدنان المبارك، يدمج ثقافة (كلية) تمد الذات لمغادرة الزمن، كي لا تحصل أو تجني على ما كان جلجامش يبحث عنه، بل عن دحض وهم هذا الذي لا وجود له، إلا في حدود الزمني ـ وقد كانت خاتمته سابقة على الحضور.
   فهل يمكن ان ترفض الولادة، وهي مكبلة بالصفر، أي بانعدام الإرادة، إن أميل سيوران يسترجع تاريخا ً ينسج بنسقه هذا الذي تحول إلى (ختم/ لوح) لدى المبارك: العدد بين الصفرين!
[4] عودة إلى سِفر الفناء

     ليس لأنها حملت عنوان المجموعة، وإنما لأنها تمتلك مفهوم الصدمة، في مواجهة الاحتواء/ الاندماج، أو الرضا بما هو سابق على اللغة، أو بما هو ابعد منها.
  فمختار محمد المظهر، ولد ونشأ في بقعة نسيها الله والشيطان معا ً. لكن غدا عضوا ً في عالميا سيعمل في استعادة لغز حياته. الا انه سيدرك كم هو محكوم بالقيود، في مشهد المراقبة، والمحاسبة، فهو لم يعد نسيا ً منسيا، لكنه لم يغادر مساحتها. إنها المعادلة ذاتها الأولى: المطلق ـ والمحدود. فيهما مقيد بالأخر..؟ إنما السؤال هو: ما العمل.. وليس أين يكمن الخلاص. لأن السؤال لم يعد منفصلا ً عن الإجابة، لأن التطبيق لن يعدل ما تمت برمجته. والباقي تتمات للأصل: النسج ثم التفكيك. وهو الذي رسم مسافة هائلة بين الوعي والمصير. لقد أدرك، وهو المراقب من قبل أجهزة تعرف ماذا يعمل، عبر تأسيس جماعة لا ترى أملا ً في التعديل، ولا في الإصلاح. فالإنسان حيوان مزمن، ووجوده ليس إلا وجودا ً قهريا ً، والحياة برمتها مبرمجة بأنظمتها (الكلية/ وحرية الإنسان مقيدة بها ضمنا ً) من اللاحافات إلى أدق اشتغالات الدماغ، ومن العدم إلى الوعي، لكن ليس بالعدم، بل بظله. هذا النموذج ـ وهو واحد من ملايين فروا من منافيهم الوطنية نحو العالم، المنفى الأكبر، ولكن، قياسا ً ومقارنة بالمعنى، أو بالجوهر، سيبرهن باستحالة وجود حقيقة. إنها لعبة برمجة تعيد صياغة ما دعاه (توينبي) بالتحدي والاستجابة. إنما سيدرك ان شيئا ً مستقيما ً لن يتحقق مادام الأصل بدأ بقطعة خشب معوجة (استشهاد آخر بعمانوئيل كانت) يوضح، ان وعي مختار محمد المظهر، لم ينشغل بتفكيك اللعبة. فكلاهما، الله والشيطان، يعملان خارج الضحية!
    مرة أخرى يبرز (أيوب) في المشهد، ليس رمزا ً للمعنى في تحمل ما لا يحتمل حسبن بل للبرهنة ان الشيطان لا يعرف ماذا يعمل، كما المركز، بصفته مطلقا ً، لا يعلن إلا ما كتم. فالشطان لن ينجح (لكنه نجح في القصة) بإيذاء البشر، وإثارة غيظ الله. لأن ما سيسمى بالزمن لن يغادر سِفر فنائه: عقمه، فهو باطل في الأصل، وفي الأصل، كان السومري قد فرق بين من خلق (تحت)، من الوحل والدم، والآخر، الذي لا تدركه الأبصار. لكن الله لن يخسر، والشيطان لن ينتصر، إنما القصة تحكي باللغة، الإطار ذاته في محاورة العبد والسيد، وفي محاورة المتفائل والمتشائم، مثلما في أسطورة أيوب: لن يحصل الإنسان إلا على المسافة التي هي مجموع الاندثارات.فالخسارة وحدها هي أعلى درجات الكسب، مثلما الصمت هو أعلى مراحل الحرية!
     أين هو الختم في قصة لم تكتب لرفع معنويات مخلوقات رازحة تحت، في المستنقع، الذي هو الوضع البشري، ولم تكتب لتمجيد الوهم، أو المضي ابعد من برنامج (العشوائية) في عالم يتعرض لازمات تراكم رؤوس الأموال، وفي وضع لن يدور المفتاح في قفله، إلا بمزيد من الهدم، والتنكيل، والمحو.  ان القصة تعيد للذهن ان (العادل المعّذب/ المعاقب من غير سبب) المطرود بوشاية أو لأي سبب، لم يخن دوافع النعمة التي فقدها، وغدا في الجانب الآخر، مع (القطيع/ العامة/ الناس) لكن ـ في سِفر الفناء، يترك القاص نموذجه يستعرض عبارات منتقاة لحكماء وفلاسفة، وهي عبارات مدوّنة في ألواح الذاكرة الحضارية ـ الثقافية العراقية، قبل ان يخترع الانكليز العراق الحديث، وقبل ان تحاول أية قوى تجديد هذا الاختراع تحت عناوين أخرى ـ بمعنى ان الكاتب ـ بوعي أو بتفكيك قيوده ـ يعيد صياغة الحكاية ذاتها التي تحدث في كل زمن، والتي تحدث في كل مكان، إنما، اشتغل الوعي، مرة أخرى، كوعي جلجامش إزاء الموت/ وكوعي أيوب إزاء المعاقبة/ وكوعي العبد إزاء سيده القابض على مصيره/ فالثنائية/ والتعارض، لا تتكرر كي لا تبدو الحياة قلما (هنديا ً/ أو مسلسلا ً مصريا ً أو تركيا ًيفجعانا بالمواعظ او الغوايات/ أو انتصارا ً أمريكيا ً ملطخا ً بالرماد والخراب/ او صينيا ً قادما ً محملا ً بالوعود والآمال ) في تصوير امتدادات حكاية مشحونة بما هو ابعد من الصخب ـ كما في ولولة بنجي فوكنر، وليس هو الموت ككلب كما في خاتمة رواية القضية لكافكا، او نهاية وليد مسعود في رواية جبرا إبراهيم جبرا ـ وبما هو ابعد من المعنى، لأن الأسئلة لم تعد متعلقة بالإجابات، وليست مرتبطة بأصل نشوء خلايا الحياة في عفن الكهوف او في المستنقعات فحسب، بل الوعي راح يحفر في كل ما لا وجود له، كي يدلنا على أعذار أنتجت هذا الانشغال، المحكوم بالخساسة، والخوف، وليس بالحزن أو الأسى ـ بحسب الحكمة الصينية القديمة ـ  وهو الممهد لدرب امتد من العدم، كي يستكمل دورته،  كما قال فلاسفة العراق ـ قبل ان يصب البلد باليباب عندما اختره الإله انكي الرجل المخصي والمرأة العقيم سلالات لا تعمل إلا على إدامة سِفر فنائها ـ وتجمعت فيه، كما في ألواح الحكمة ـ من سومر وأكد وبابل وأشور وصولا ً إلى آثار دماء ضحايا كل من سعى إلى تدمير العقل، والإرادة، والمنطق! فالشيطان القديم سيجد تحديا ً دائما ً طالما التراكم سيقسم البشر إلى متضادات، تحديا ً يسمح له بالمراقبة، كي لا ترى الضحية كم الجلاد توغل بعيدا ً في العدم، لأن لذّات الجلادين وحدها غير قابلة للتصالح مع الزوال، ذلك لأنها لم تر ابعد من باطل الأباطيل: البشر في مواجهة كراهية تضع ـ بين حين وحين ـ العالم عند حافة دورة من دوراته.




تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


ليست هناك تعليقات: