الأحد، 29 يناير 2017

أختام *- عادل كامل















أختام *





 الختم الخامس


عادل كامل

 " أرجو أن يصار إلى طباعة أختامك  ورسوماتك, فهي بعض من كدك الفني.
لا يسعني إلا أن  ارفع رأسي فخرا بمنجزك الثقافي والفني."
علي النجار/ 2017





                                                                              [ إن الفنان، وهو يؤلف عمله الفني، لا  يدرك نسبة واحد بالألف من 

تفسيراته الممكنة]


غيورغي غاتشف


[1] التتابع: ابعد من الغياب/ أو الحضور تاما ً


     لا أريد لبصري، وربما لأصابعي، أو باقي حواسي، أن تغادر أداة السومري في الحفر فوق الطين، فأنا ابني بالكلمات مأواي، كما يبني الطائر عشه: الم ْ يلمح باشلار إلى ذلك كعلاقة بين قلب الطائر وعشه: المكان كقلب وقد غدا شعرا ً! فانا أكاد اسمع كلماتي تغادر (ما قبل) ماضيها كي تأخذني معها إلى (ما بعد) موتي. أليس هذا ـ ولا اعرف لماذا تذكرت الشاعر سامي مهدي ـ مقاربة لتعريف الشعر: ان ننتقل من المجهول ـ بزوالنا ـ إلى ما بعد الكلمات، لغزا ً يذهب ابعد من حضوره ـ وابعد من غيابه! سر وجود كائنات وجدت مصيرها لا علاقة له بما شغلها: لا بالحواس ولا بالعقل ولا بمخفياتهما أيضا ً، إنما بعلاقة لا غياب فيها وقد أصبح الحضور تاما ً.
   وها أنا اترك أصابعي تعمل كي أتتبع عثراتها، وتوقفاتها، وما تريد ان تقول.. لكنني اعرف ان الفن ليس اختيارا ً خالصا ً، أو لعبا ً حرا ً، كأنه من غير علة، أو قد عزل عن مكوناته، مثلما أدركت منذ زمن بعيد ان الحرية، كي تحافظ على ما فيها من سر، فإنها الضرورة وقد غادرت قيودها: حرية لا تذهب ابعد من هذه القيود، ولكنها ستمنح هذه القيود تاريخ الإنسان: مجده وعبثه، رمزيته وعدمه، عناده وتلاشيه.

[2] أدور، بمعنى: أتسمر!
     ها أنا أدور، كالسومري الذي تحدث عن الدورات: دورة الفرد، دورة السلطة، ودورة الأرض، ودورة الكون، الأمر الذي سمح له ان يجد دافعا ً إلى: الكتابة/ الفن/ الحكمة. ومع أنني لا اعرف ـ إلا عبر الآثار ـ ذلك الزمن السحيق، لكني أكاد أعيد سكني عند ضفاف الفرات، وأنا أعيد قراءة شريعة أور نمو، بين كائنات استبعدت العنف عن حياتها، فلم تدع الراعي يسفك دم المزارع، كما في قابيل وهابيل في النص التوراتي، بل صاغت مفهوما ً تكامليا ً سنجد أصداءه في ديانات الهند، والصين القديمتين؛ وهي الذروة ذاتها التي بلغتها ملحمة جلجامش: الخالد ليس من لا يموت، بل الذي يمتلك قدرة ان يمتد صانعا مصيره، كأقدم قانون للمصالحة بين السماء والأرض، وعمليا ً، لا نستطيع إغفال العلاقة بين من تراكمت الثروات عنده، وبين من سلبت منه. ففي بنود الشريعة ان الإنسان لا يمتلك إلا ان يحافظ على المسافة النائية بين من في الأعالي وبين من صنع من الطين.
    أدور، بمعنى، أتسمر! فانا مثل المسمار (إشارة إلى تماثيل الأسس) أجد أنني لم اعد معزولا ً ـ وأنا أؤدي عمل الحرية كضرورة، وأؤدي دور الضرورة عندما لا تكون الحرية وهما ً، فالمسمار ما هو إلا علاقة إقامة. انه إشارة لمفتاح بين اللاحافات ـ وحافتي: إقامتي. وهنا أجد العالم وقد تحول الى بستان، فاستعيد نسق الاسطورة في صياغة تدريباتي، لا بصفتها تسلية، ولا بصفتها عقارا ً، ولا  بصفتها عبثا ُ، او ما شابه ذلك، بل واجبا ً مضادا ً للواجب: قهرا ً للقهر. ففي الفن ـ أجد أني أؤدي دور المسمار، لا دور الريح أو الزمن، فالأول علاقة، والثاني(الريح أو الزمن) امتداد عبر فواصل. ذلك لأن المسمار ذروة عمل: انه كد الإنسان وكلمته.  

[3]المسمار ـ ابعد من الدفن
      وربما كان للصليب، قبل ثمانية آلاف عام، المنقوش والمحفور والمرسوم فوق فخاريات أعالي الفرات، وجنوبه، إشارة لضرب من الصلح اثر اشتباكات أو تصادمات. فالصليب سيأخذ الشعار الذي اختاره (هتلر) (وكأنه فعل ذلك بوحي من نيتشه)، شبيها ً بالصليب المعقوف المرسوم فوق سطوح فخاريات أعالي الفرات: لأنه رمز إلى مركزية السلطة، وحدودها. فالسلطة هي حصيلة ما لا يحصى من الكد، حد الحرب، وهنا يلتقي قصد هتلر ويفارق: فهو شعار سلطة تحكم الجهات أربع، وعند هتلر، يتكرر القصد، ولكن في عالم يصعب حكمه خارج ديمومة الاشتباك.
    إلا أنني أجد المسمار ـ الصليب ـ من جانب الرأي العام إلى الخاص، كي يتشكل عبر الدفن. فالميت مسمار، هو الآخر، وشغف الأحياء بموتاهم لن يفقد دوره أو حضوره. فالذاكرة لم تصبح مستقبلا ً معزولا ً عن مقدماتها/ جذورها.  وهنا يأخذ القبر محتوى وشكل المسمار ـ الصليب أيضا ً: انه البذرة التي يتحتم ان تدفن، كي تنبت، كتأويل لأقدم آلية قتل لا واعية للإله ديموزي. فلو لم تقم (إنانا) ـ في لا وعيها ـ بإنزال حبيبها إلى العالم السفلي الذي لا عودة منه، لأصبح وجوده صنو الريح!
    وليس لزمن قصير مكث سكان وادي الرافدين يندبون مأساة ديموزي، بقتل البطل ـ أي دفن البذرة ـ فسيتكرر الفعل ـ ضمن دورة وجود الإنسان ـ لتمنح الانتظار، بعد ذلك، جدلية الديمومة ـ والامتداد. الم ْ يدون الحكيم السومري: ما من امرأة ولدت ابنا بريئا ً قط! حتى أصبحت الأخيرة رمزا ً للأفعى، ورمزا ً للشيطان. من ثم دخلت اللاوعي الجمعي، وقد جعل منها الحكيم (ماني) نشاطا ً مقترنا ً بالعتمة ـ العدم. وبمعنى ما: فالحياة مكثت تمتد، مثل عمل المسمار، لا يكتفي بالحفر، والنقش، بل لأنه سيذهب ابعد من الدفن.
[4] ما بعد/ وما قبل ومضات الغياب
     فيشرد ذهني، في محاولة التأويل، حول منهجي في التفكير: هل ثمة برمجة صاغتها حتميتها، أم أنها وجدت بتعديلاتها، خارج عمل المشفرات الوراثية، وعمل الجينات..؟ أي ان المضاف، يتكّون بحسب السياق ذاته حتى لو قمت بدحضه!  فالمصادفة لم تحدث من تلقاء ذاتها، كي تأخذ هذا النظام المشفر، من اللا مرئيات إلى الوعي، ومن الدماغ إلى المجرة، ومن اللا حافات إلى ما هو خارجها!  أتذكر ـ في هذا الجزء من اللحظة ـ أن احد الفلاسفة الأتراك، وبلذّة متصوف، أو عاشق، أو فنان، قال ان الله يقع خارج هذا كله! ولا أرى انه أضاف حرفا ً ليعزز بديهة ان الخالق وحده ليس بحاجة إلى برهان. فهناك: واجب الوجود. لكن حدود عمل الوعي تصطدم، وتشتبك، في المحدود: الانشغال بالموت، والولادة. فالإنسان يأتي إلى الدنيا ـ بحسب المثل الصيني القديم ـ في الحزن ويموت فيه. على ان فرحا ً ما بالحياة وبالموت، له سياقه العنيد: حتميته ـ: العمل. ومرة أخرى لا تبدو اختياراتي خالية من الإثم! فانا بعملي الفت النظر ...، ثمة متراكمات، كنوز صغيرة لفتت نظر اللصوص! ومثلما لا اعرف كم فقدت، من أحلامي ومن ممتلكاتي المجهولة، جرحت، وبالحزن وحده ذهبت إلى روحي: كل هذا يأخذ موقعه في الأثير: غبار المجرات، والنجوم، والأثير الممتد بين لا حافات الفضاءات. فأصغي إلى صوت موتي: أيها الولد ـ أيها العجوز ـ انك لم تذق بعد ما بعد اللذّة! فعد راقب ومضات قلبك وهي تنسج بأصابعك هذا الختم: محو الفراغات. فلا تغضب، ولا تتذمر، وإلا من يطرق بالمطرقة فوق المسمار، وإلا من سيذهب من غير ظل، بعد ان فقد نوره، ويكمل تتمات اللغز، وإلا من يحتفل بالراحل، ومن يحتفل بالحبيب، وأنت ـ وأنت كباقي الغائبين في ومضات حضورهم، وكالبشر وقد أغوتهم فخاخ ما بعد/ وما قبل ـ هذا الحضورـ تمشي في جنازة الريح، وأنت تشيّع زمنك متتبعا ً الأثر وقد سبقك في الغياب !


[5] الطيف: اكتمال دورة المقدمات بنهاياتها
     ليس، كما ألمحت، ان ما أراه يتوارى، هو ان أرى حضورا ً للفن ذاته، كعدم يغادر أبديته، ليسكن المسافة ما بين الخامات والبصر/ اليد، ولكنه ليس شيئا ً مغايرا ً. ان أصابعي، مرة ثانية، تمنحني العزاء: لن أتتبع موتي! ها أنا أراه يحدق في ّ، فأموت، كي اتركه يغادرني، لكنني ـ في روحي النائية ـ أدرك استحالة صياغة هذا، أو الإمساك بأثره. فانا  سأتوارى، ضمن آليات الدورة! وأعترف أني وضعت علامة التعجب لسؤال خطر ببالي قبل الكتابة: ماذا لو عدت أشاهد الزمن يرتد إلى الوراء، كما افعل بفلم أراه بالمقلوب: من الموت إلى لحظة الولادة، والى ما قبل الخلق! ثم، أواصل تتبع الانسحاب إلى ما قبل التكوين! كي أتساءل: هل تخطيت حدودي...؟ لا! فأنا ـ بداهة ـ مركب من الأبعاد اللا محدودة بدا ً من الزمن إلى ما قبله، فأنا موجود في الوجود حد استحالة وجود نقيض له، عدا تحولات الأشكال، تبعا ً لمحركاتها.
    ألا يحق لي ـ كي لا ادع الفكرة تغيب ـ ان امسك بنظام سمح لي ـ خارج إرادتي ـ ان امتلك هذا الحضور...؟ أم، لأن الحضور وقد بلغ غيابه، سمح لي بما ليس غائبا ً، وبما ليس حاضرا ً، لأمر ما شبيه بالطيف، أو بما لا يمكن رسم مروره، أو وصفه بالكلمات...؟ هل تراني أصبحت نائيا ً عن جسدي، عن أصابعي، وعن رأسي، كي أوثق حالة شبيه بالصفر، التي تكتمل فيها الأبعاد، أو بالأحرى، ترجع إلى أصلها! كي يحافظ الأثر على دمج المقدمات بنهاياتها، لكن عبر هذا المرور، وقد اكتسب زمنه، ومنفاه، سواء بسواء...؟

في التشكيل العربي المعاصر ثراء التعبير , عند الفنان صلاح جياد- ماضي حسن




في التشكيل العربي المعاصر
ثراء التعبير , عند الفنان صلاح جياد

 




  ماضي حسن  
عند بدء الملامح الاولى , للتشخيص , والتامل , والاستدراك , تفصح لنا اعمال الفنان التشكيلي ( صلاح جياد المسعودي ) المولود عام 1947 البصرة , باعماله المعاصرة , ايحاءات الصراع لجزئيات المفردات , اذ تتحول التفاصيل التي تشكل اللبنات الاولى للخلاصة التكوينية , من سياق النمط - الاستاتيكي - الساكن - الى - حركة - ديناميكية متشابكة الاطراف والجذور , تبدوا لنا كذلك بالاستناد , والاستمداد , من المنهجية التفكيكية للاجزاء , والتي تمنح البعد الاخر, الى التطابق مع المفهوم السائد في الحداثة الادبية , بما تتضمن موت - الكاتب - وانشغال المستلم , او , المتامل بحيثيات وصخب - ادرامية الحدث - على نحو مثير , واستغراقي , طفحت معالم تلك التجارب وتغيراتها المتعاقبة , بعد مخاض طويل , استمد جذورها منذ دخوله معهد الفنون الجميلة عام 1964 - 1968 والتي ارست اسسه الاكاديمية , والاشتراطية الدراسية الملزمة , والملتزمة , فضلا عن تحويل تلك الطاقة المختزنة ,التي ارست اسسها التطبيقية في مجال الصحافة , ومنها - مجلة الف باء - ويعد احد المساهمين في تاسيسها عام 1967 وبعدها بسنتين , اشتغاله في صحافة الاطفال , وهو طالب في اكاديمية الفنون الجميلة , لقد كانت تلك المساحات التطبيقية للفنان - صلاح جياد - قبل مغادرته العراق عام 1976 الى باريس ليستقر فيها , نشاطا يكسب الخبرات , عالما ابتكاريا , واستكشافا , واضافة , للمخزون التعليمي الى منتوج مرئي يتداوله , ويتلقاه , قراء , يستدعي من الفنان , الرعاية الجدية , والدافع المعنوي , نحو تطوير الواقع المعرفي , والخبرة , الى واقع التلقي الواسع الافق , والرسمي , اذ تتحول مخزونات المعرفة التعليمية ومستوى القدرات الى مراقبة واستقصاء وترقب لردود الافعال والنتائج والملاحظات , تلك هي نتائج العمل في مجال المنشورات الاعلامية , لاسيما في السنوات المبكرة , المصاحبة الى زمن الدراسة التعليمية في الاختصاص , والاختيار المحض , لاتجاه تحقيق هاجس الشعور الذي ينغز الموهوب مبكرا , لاختيار طرق التخصص . بهذه المقاييس نستنتج لما توصل اليه الفنان - صلاح جياد - بقوة مقدرته الادائية , وبالتاسيسات الاكاديمية المدروسة مذ , كان طالبا في معهد الفنون الجميلة , وما تلاها في اكاديمية الفنون , وبنشاطاته ضمن المجال الاعلامي , كانت تتنوع في افاق مجالاتها الاسلوبية , وحسب متطلبات الضرورة المكلف بها , حيث ارفدها بقدراته الادائية , وارفدته تراكما للتجربة , والخبرات , والبحث عن ارساء اسس التحول, نحو ركوب موجة الاكتشاف لمعالم البناء الحر , وموجة الحداثة , بصورة غير مماثلة , او مناظرة للحركة السائدة , بل هي نتاج تلقائي لخلاصة تراكم التجارب من جراء كثافة وتنوع غمار الممارسة الادائية بمهارة , لقد اقترن ذلك بمن جايلوه عن قرب, مكانا , وزمانا , ومرحلة واحدة , كالفنان فيصل العيبي , والفنان هادي نعمان , ووليد شيت , ومحمد مهر الدين , وغيرهم , تلك النخبة التي تجمع بين جيل عقدي الستينيات, والسبعينيات , لها مميزات التاكيد على الاستجابة الحماسية للواقع الموضوعي , وما تضمنه من احداث دراماتيكية مختلفة , سواء على الصعيد الاجتماعي , اوالسياسي , وكذلك صراعات المنطقة العربية ابان احداث عام 1967 , وما تلاها عام 1973 , فضلا عن اصدام التضادات بين اطراف , وثبات , وحوافز التقدم , مع مناقضاتها الاخرى المختلفة , والمتعددة الاوجه , والوسائل , ولكن النتيجة واحدة , هي التخلف, وتكبيل المجتمع باثقال , واحباطات , يحصد نتائجها الان , وبتزايد واستمرار , لقد كان هذا الجيل من الفنانين والادباء , او فئة المثقفين بشكل عام , ومنهم موضوع بحثنا الفنان - صلاح جياد - يحركهم هاجس الوعي , والادراك , والبحث عن الحلول , يتجسد ذلك الوعي الفكري بالنتاج الابداعي , وبحسب الاختصاص , لقد كانت اعمال الفنان- صلاح جياد - تمتلك في تاسيس جذورها ذروة من الحماس الوجداني الثائر نحو امتداد تجسيدات من ماثلوه بذلك الاتجاه كالفنان محمود صبري , ولكن بروحية ونزعة تتلائم مع قدراته الاكاديمية واسلوبيته الخاضعة الى مساحة التجريب المستمر , ان ايصال دفق النزعات الجامحة بقوة وبتعبير عالي الى الاخرين : باثارة, وانتباه, واختصار , لابد من الاستعانة بمهارة الوسائل المتبعة : بقوة الفرشاة عند الرسام , واليات التنفيذ الاخرى نتيجة التمرس المكثف , وبالبدايات , والخطوات البديهية , الاكاديمية , ولقد تجلى ذلك وضوحا للعيان , في اعماله الواقعية - للفلكلور العراقي - في المتحف البغدادي ابان السبعينييات , هو , مع نخبة من الفنانين الذين جايلوه , كما ذكرنا انفا , لذلك شكلت نتاجاته الفنية اللاحقة مرحلة ناضجة , ومتحركة في كل ابعادها الفكرية , وثيماتها المبطنة , عن طريق مراحل السمو الاتقاني , والادائي للاعمال , سواء عن طريق التاسيس الانشائي , او هيرمونية اللون , وملائمته مع ثيمة الهدف , او موازنة وحدات التفاصيل التكوينية . .
   


- تحولات .. وامتداد -
برغم التحولات الادائية الحداثية للفنان - صلاح جياد - الا انها تسمو بعملية , الترابط الشكلاني , كامتداد لتاسيسات البنية التركيبية للتكوينات , لاسيما ثرائها في - منظومة الاشباع اللوني - وبذلك فان خصوصية الايحاء الاسلوبي تبقى تلامس شخصية الفنان , بهدوئها الحكيم , والمتامل على وفق , تفسيرها السايكلوجي , ومن الامور التي تكتشف لنا كمتابعة للتحولات المرحلية , والاسلوبية , والنمطية , للمبدعين , تبقى توءكد هوية الفنان باول خطوة , اللمحات للمتابع , والمستدرك , حين يستند الفنان كما ذكرنا على خطوات اتقانه التاسيسي , وعلى عكس ذلك تذهب السمات العامة هباءا, في حالة التحولات , الحدية , والمفاجئة عند القفزات, المفتعلة, لدى فاقدي الاتقان الاكاديمي , ان التعريج على هذه الموضوعات في محل دراسة فنان له تاريخ , وحاضر , يحقق ما نصبو اليه من مغزى مهم , كإسناد مرجعي في مجال المقارنة والتوكيد , لما يسود الان موجة من العبث الاتقاني , وسوء فهم - الحداثة - وما بعدها - وباصداء, وتشجيع بما يعادلها من دخيلي الوسط المعرفي , النقدي , او الاعلامي , لدرجة زرع غشاوة الوهم المختلط , بلا شك لقد زحفت تلك الموجة في بلدان محدودة , ومنها بلدنا الام - العراق - لدرجة ضياع الاصالة بين اختلاطات الامواج , ولكنني ارى انها ستتفلتر بالتدريج بعد تراكم كميتها , بعد بلوغ مرحلة السخرية , وعودة الى افصاحات, واشارات الاعمال المعاصرة للفنان - صلاح جياد - فان ما تتضمنه دلالات الثيمة الابداعية للاعمال تتلائم وتنسجم مع قوة اشاراتها العنيفة في الصراع الجدلي للاجزاء , فلكل مفردة لها, ضرتها , ولهذا تجد فورات من الاحتدام العنيف في بنية الاشكال , ثم بين المفردات للشكل الواحد من التكوين , ويتكامل ذلك بوجه اخر بمساحات المتضادات اللونية , ان تلك المنظومة من الاحتدامات , تشعر في خلاصة صراعاتها التفصيلية , تركن الى حالة من الانسجام الملخص في نتائج البنية العامة للتكوين , اي ان التفكيك المعنف للمفردات , تسمو عليه حالة الترابط الموحد , كاحدى مستلزمات عناصر الفن التشكيلي , توحد حركاتها الصاخبة , ومتضاداتها اللونية , وملامسها الشكلية التي توحي الى ملامح النحت - الناتيء - لذلك فعملية هيجان الصراع لم يكن مقتصرا على نمطية التضادات الشكلانية , واللونية, وانما الى محتوى اشارات الملمس , بمجاوراتها المختلفة , تتضمن اعمال الفنان - صلاح جياد - موضوعات متداخلة بين مرجعيات التراث العراقي القديم , كالوجوه السومرية , واجسادهم القوية الغليضة , ومعالم المفرات المعمارية لتلك الفترة , وكذلك مفردات لوجوه واجساد معاصرة , تتخللها معالم من المفردات الفلكلورية , كالاهلة, والقبب , وغيرها من المرموزات , والسميائيات المتداخلة في الانساق التكويني , تتزاحم تلك الاختلاطات بين مرموزات الارث , ومفرداتها المعاصرة , لتشكل تكوينات ممتعة . .
       
    

من الملاحظ إن الفنان صلاح جياد : يهتم كثيرا بعملية التوازن الشكلي , والتوازن الاشكلي للبناء الإنشائي , إذ نجد حتى- التوازنات الاشكلية - تتلاءم مع إيقاعاتها الحرة للمفردات , والتوازن يحصل احيانا بحالة التبادل المتناظر بين التكوين الرئيس لموضوعة العمل , وبين الفضاء المطلق , ولم يدع للفراغات تنتاب الفواصل بين المفردات , بالرغم من تعددها , وازدحامها , فلقد يعالج ذلك بمليء المساحات بالمادة اللونية بواسطة المتضادات والتباين بين الداكن , والفاتح , وتترابط تلك الاشكال بخطوط رشيقة , تشبه أنسجة الخيوط , لتخلق نوعين من الهدف البنائي للتكوين :  1 - هدف ترابط التوحد التكويني ,  2 - هدف حركة الاشياء الراكدة باتجاهات معاكسة لها  . وبالرغم من حرية الحركة للأشياء وتجردها من نسبها الذهبية , الا ان هذه الاشكال يخترقها تكوينا , من نفس فصيلة اللون , والتكوين , ولكن حافاتها تتسم بدقة حافات حدودها , لذلك نجد ان الصراعات المحتدمة التي تحدثنا عنها ليس في نطاق الاهداف الفكرية , والثيمات , وانما في بنائية تكويناتها التشكيلية , وفي اغلب اعماله التعبيرية المعاصرة لم يعمد إلى اظهار تضادات لونية بطريقة الكونتراس , وإنما بتضادات العتمة ومساحاتها الصغيرة مع الفاتحة , لذلك نرى العمل يمتليء بثراء غزير للمفردات بتعقيداتها وكثافتها المزدحمة , كما ان الخطوط تنقطع عن مواصلة استمرارها افقيا , وعموديا بانحناءات , او استدارات تشكل اوصالا للحروفية , وبعض اعماله يعمد الفنان الى جعلها على نمطية الايقونات بايقاعاتها المتكررة . .

الشاعر الويس هيركويت الجبل الرائع في الادب النمساوي-ترجمة: بدل رفو


ترجمة


الشاعر الويس هيركويت الجبل الرائع في الادب النمساوي



   
ترجمة: بدل رفو

ـ1 ـ مسافراً   
 
هل توجد
النقطة
في آخر الطريق
نقطةُ...يمكن ان نقول وقتها
وصلنا،
والى هنا
ولكني ! لا اصدق
ولم ابق مؤمناً
بالعينين
الطريق امامي وورائي
هو ذاته
منذ ان برحت
فقد ظل كما هو
النقطة..
في اخر الطريق
دائماً هي ذاتها
ورائي وامامي
ولكن!
ان اقفل عيناي
وان ابقى ،كي لا يصرعني التعب
ثانية
وهذا ايضا ..
كان نوعا من الهروب.

2ــ تجربة نووية   
  
ثقب في الارض
لا باس به
ثقب في المكتبات
من (لاوتسى الى غوته وكراهام كرين) لاباس به
قارة او قارتين
مقلوبتان على ظهريهما
بين الهيدروجين واليورانيوم
حتى تبتلع امعاء الارض
وامعاء البرلمان
والمسارح على الهواء الطلق
لغاية ان تبتلع الهواء
مثل تلك الغيلان (جمع غول)
في العصور الاولى
التي تلحس المستنقعات
باعناقها الطويلة
ولكن!
ليست طويلة كالمسافة
بين المريخ ونيويورك
وغير بعيدة كالمسافة
من موسكو الى القمر
طويلة واطول
عبر الاسكا والهند
صوب مقبرة(القديس بيتر)*
(مقبرة القديس بيتر)* موجودة في مدينة غراتس النمساوية
ـــــــــــــــــ
الشاعر ألويس هيركويت:
ولد الشاعر ألويس هيركويت عام 1925, في مدينة غراتس النمساوية , مركز مقاطعة شتايامارك .
ــ توفي عام 2002 بعد صراع مرير مع المرض في مدينة غراتس .
ــ ينتمي الشاعر الراحل الى عائلة عمالية وتسلسله الحادي عشر بين اخواته , اشتهر واكتسب الشاعر شعبية كبيرة من خلال حسه المرهف وادوات تصاويره الشعرية الرائعة في اعماله الادبية ومنها الجبل الرائع ,محطات في الريح ,الهروب من اوديسيوس.
ـــ لقد كان الشاعر اسير حرب اثناء الحرب العالمية الثانية , وبعد عودته من الاسر , وفي بداية شبابه طبعت في ذاكرته مرارة الحرب العالمية الثانية,فأخذ يعالج نفسه في هذه المرحلة الصعبة من حياته ,باللجوء الى الدراسة والعمل مع الصحفيين .
ــ اولى قصائده الشعرية كانت الاتاوة السوداء في الستينيات .
ــ تخرج الشاعر من كلية الاساطير الشعبية ولعب دورا كبيرا في تطوير الادب النمساوي في مقاطعة شتايامارك بصورة خاصة وفي النمسا بصورة عامة .
ــ بلغ ادب الشاعر الراحل في السبعينيات قمة النضوج والابداع وهذا ما لوحظ في اسلوب وتعابير دواوينه الشعرية والتي تقدر ب 20 ديوانا , وكذلك نشر كتابا نثريا واحدا وهو القمر في حديقة التفاح.
ـ نال الشاعر اثناء مسيرته الادبية عددا غير قليل من الجوائز واول جائزة كانت عام 1955 .
ــ يعتبره النقاد والمهتمين بالادب النمساوي عمودا من اعمدة الادب النمساوي.



لم لايكفيك عمري؟!- جلال وردة زنكَابادي

شعر
لم لايكفيك عمري؟!


   
* يا
حلماً يكفي كل الأعمار
لمَ لا يكفيك عمري؟!
- لأنني أعصيك
وأنت عاشق تطيعني
* أما كفاك تستعبدني؟
- أهجر جسدك الكهف
إلى حيث ينبض مطلقي
حتى تجيش قصائدك الكئيبة
كأقواس قزح كمان دون أوتار
ماوراء لغتي التي تنكّيء وجعك الكتيم
ماوراء إشراقاتي الدفينة
في فردوس صمتي وهمس أغواري
* إذن؛
أشهد أنني إعتنقتك يا موسيقاي الآتية
يا كآبة تبهجني
فما أمرّ/ ألذ أسراري!


الباحث والمؤلف المصري يوسف زيدان الثورة الحقيقية هي تحرير للعقول وقطيعة مع النظم السلطوية- أجرَت المقابلة: سوزانه شاندا ترجمة: نادر الصرّاص





حوار

الباحث والمؤلف المصري يوسف زيدان
 الثورة الحقيقية هي تحرير للعقول وقطيعة مع النظم السلطوية




أجرَت المقابلة: سوزانه شاندا
ترجمة: نادر الصرّاص
1/2
حقق المؤلف المصري يوسف زيدان نجاحاً فائقاً وحجم مبيعات كبيراً لرواياته. لكنه ليس مؤلف روايات فحسب، بل إنه أيضاً فيلسوف وباحث في تاريخ العلوم، ويرأَس كذلك قسم المخطوطات القديمة في مكتبة الإسكندرية. زيدان يرى أن الروح الثورية تكمن في القدرة على كسر هيبة الحاكم ومُساءَلة السلطة. سوزانه شاندا اِلتقته وحاورته في مكان عمله في الإسكندرية.
نحن الآن في مكتبك الواقع في مكتبة الإسكندرية، قرب المكان التي كانت توجد فيه مكتبة الإسكندرية القديمة المشهورة عالمياً. ماذا يعني العمل في هذا المكان التاريخي بالنسبة إليك؟
عندما بدأتُ بكتابة أطروحة الدكتوراة هنا في الإسكندرية، بدأ في الوقت ذاته الحديث عن بناء مكتبة جديدة، في الموقع نفسه الذي كانت فيه مكتبة الإسكندرية القديمة المدمَّرة. وكان بإمكاني النظر من سطح مبنى الجامعة إلى الساحة التي كان مخططاً للمكتبة أن تُبنى فيها. أهمية هذه المكتبة تتجاوز مجموعة الكتب التي تضمها. إنها مركز للفكر والفلسفة والعلم. أنا بدأت العمل في المكتبة عندما كانت قيد الإنشاء، كمستشار في مجالات الإرث الحضاري والمخطوطات، وفي الوقت ذاته كنتُ أساهم في بناء حلم، لأن هذا لم يكن مجرد إعمار مبنى أو مكتبة، بل حلماً في إحياء الروح الحرة والعالمية في الإسكندرية.

المكان الذي تقع فيه مكتبة الإسكندرية حالياً، كانت تقع فيه ذات يوم مكتبة الإسكندرية التاريخية الشهيرة أيضاً، وهي أهم مكتبة في العالم القديم. والعمل في مكتبة الإسكندرية يعني بالنسبة ليوسف زيدان تحقيق حلم، لأن إعادة بناء المكتبة: " لم يكن مجرد إعمار مبنى، بل إنه تحقيق حلم في إحياء الروح الحرة والعالمية في الإسكندرية "، كما يقول زيدان.
كيف كان شكل الإسكندرية في الماضي؟
عندما كنتُ طفلاً، كان يعيش هنا الكثير من اليونانيين والإيطاليين، الذين كانوا جزءاً من مجتمعنا. بعض أصدقائي تزوجوا فيما بعد مِن نساء إيطاليات ويونانيات، ولم يشكل هذا مشكلة قط. ثم جاءت ثورة عام 1952 التي كانت مصيبة، لأن الجيش يفهم فقط في أمور الحرب، وعقليته تتمحور حول الدفاع عن حدود البلاد ضد غزو الأعداء. ولكن حكم الجيش للبلد يشكل دائماً كارثة بالنسبة لهذا البلد.
الجيش يمسك اليوم أيضاً بزمام السلطة في مصر. ما الذي يُميِّز ثورة 25 يناير 2011 عن ثورة عام 1952؟
إنها أول ثورة حقيقية في مصر. ثورة عام 1952 لم تكن ثورة، بل انقلاباً عسكرياً. ما نحن بصدده الآن لم يحدث أبداً في تاريخنا، لأنَّ ما حدث بدأ كحراك في المجتمع. لقد حصل الكثير في مصر منذ يناير 2011، وتأثير الثورة يظهر على عدة مستويات، في الحياة اليومية، وفي علاقات الناس بين بعضهم البعض، وفي الشوارع. كل المناحي تأثَّرت. الثورة ليست بالشيء الصغير، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل، لأن الجيش لا يزال يحكم، ولأن الكثيرين من ممثلي النظام القديم ما زالوا يزاولون نشاطاتهم.
كيف تنظر إلى الوضع في البلاد حالياً؟
الوضع حرج جداً، ولكنَّ كثيراً من الأشياء تعتمد على تصرفاتنا وعملنا والخطوات التالية التي سنتخذها. المصريون والمصريات يعملون بجد من أجل بناء مستقبلهم. أنا أساهم في ذلك من خلال مقالاتي الأسبوعية، والحوارات على فيسبوك، والندوات، ومن خلال رواياتي وكتبي الأكاديمية. والانتخابات التشريعية كانت خطوة واحدة من خطوات كثيرة.
لأي حزب صوتَّ أنت؟

رواية "عزازيل" ليوسف زيدان تدور حول استجواب السلطة. نجاح هذه الرواية في مصر يُظْهِر وجود تحوُّل وتغيُّر في طريقة تفكير وفِعْل سُكَّان مصر: فالناس بدؤوا يطرحون الأسئلة - و"طرح الأسئلة هو بداية المعرفة "، كما يقول زيدان.
أنا أعطيتُ صوتي لليبيراليين. لكن ليس لدي أية مشكلة مع الإسلاميين. فأنا أبحث في مجال الإرث الحضاري، وهذا المنهج العلمي لا يناسب تفكير الإسلاميين، ولكنهم ليسوا أعدائي. الطريق الليبيرالية هي ليست الطريق الوحيدة، ولكنها أفضل الطرق من أجل إحراز التقدم سريعاً. في كتابي "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني"، أعرض كيف أن اللاهوت الإسلامي مبنيّ على اللاهوت المسيحي، وأنه كذلك متصل بالأفكار اللاهوتية اليهودية. الاعتقاد السائد يقول بأن القرآن مُنَزَّل، لكنَّ اللاهوت نفسه ليس منزلاً، بل هو من صنع المفكرين المسلمين، وهو ليس نقياً بالدرجة التي يتصورها الكثير من المسلمين.
بعد أن نشرتَ عدداً لا يُحصى من الكتب الأكاديمية، نشرتَ كتاب "عزازيل" الذي حقق نجاحاً كبيراً في المبيعات. ما الذي دفعك لكتابة الأدب؟
لم يكن هذا قراراً واضحاً من جانبي، فأنا أعمل منذ فترة طويلة على إزالة الحدود في داخل الإرث الحضاري، وكذلك الحدود بين الصوفية وتاريخ العلوم. وعندما كنتُ بصدد تأليف نظرية في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، نصحني معلم لي بأن أحاول التعبير عن أفكاري هذه فنياً، إما عن طريق كتابة قصيدة أو قصة أو رواية، وذلك لدعوة القراء إلى التمعن في هذه الأفكار. فكرة معلمي هذه أعجبتني، وهكذا قمتُ بكتابة أول رواية لي بعنوان "ظل الأفعى".
الكثيرون من أصدقائي وزملائي صُدِموا من هذا وسألوني مرتاعين مما فعلته، قائلين إنني نشرت العديد من الأبحاث العلمية الناجحة، ومتسائلين عن هدفي من وراء هذه الرواية. هذه الرواية حققت مبيعات عالية. ومن ثم جاء كتابي الجديد "عزازيل" الذي لم أستطع إلا نشره كرواية. لقد كنت في حاجة إلى الخيال وقوة المجاز، وبهذا كان بإمكاني أن أصل إلى شريحة أكبر من القُرّاء وليس فقط إلى القراء الأكاديميين، الذين يقرؤون كتبي عادةً.
رواية "عزازيل" تضع علامات الاستفهام على موازين السلطة، وهذا لم يكن ممكناً في مصر حتى قبل فترة قصيرة من الزمن. هل غيّرت الثورة الناس أنفسهم؟ هل أحدثتْ ثورة في عقليتهم؟
بالتأكيد. لقد حدث انقلاب في تفكير الناس وتصرفهم، وذلك بعد كل هذه السنين من التعليمات والإجابات وموقف السلطة من الشعب، السلطة التي كانت تريد إقناع المواطن بأنه لا ينبغي أن يستخدم تفكيره، بل أن السلطة تفكر بدلاً عنه في الأمور السياسية والدينية. كل كتبي تعالج موضوع طرح الأسئلة. لأن طرح الأسئلة هو بداية العلم وبداية المعرفة. ونحن يجب علينا أن نطرح الأسئلة ذات المعنى العميق، عن أنفسنا وعن وجودنا. علينا أن نبحث عميقاً.
رواية "عزازيل" تتخذ منهجاً تنويرياً...
...وهو منهج ناجح جداً. وهذا يعني أنه يمثل جانباً خفياً من مصر. لقد كان الكُتّاب يشكون لفترة طويلة، مِن أنّ الناس في بلادنا لا يقرؤون الكتب، ولكن هذا تغير الآن.

يوسف زيدان يعرف مدى أهمية القراءة للشعب المصري في هذه المرحلة التي تتسم بالتغيير وعدم الاستقرار، لذا فهو يقول إن "الناس يحاولون أن يجدوا مخرجاً لهم من البؤس، ولذلك يحاولون أن يزيدوا من مستوى الوعي لديهم عن طريق القراءة".
أصبح للقراءة شعبية الآن. لماذا؟
هناك عدة أسباب. النقاشات السياسية والأدبية الواسعة في الإنترنت ساهمت بشكل كبير في هذا الموضوع. في الآونة الأخيرة ازدادت السلطات السياسية ضعفاً، والناس يحاولون أن يجدوا مخرجاً من البؤس، ولذلك يحاولون أن يزيدوا من مستوى الوعي لديهم عن طريق القراءة. وهم لا يقرؤون الروايات فقط، فالكتب الأكثر مبيعاً في مصر هي دراسات اجتماعية وكتب عن الإرث الحضاري، وكتب مسلية مثل "تاكسي... حواديت المشاوير" لخالد الخميسي، أو رواية "عزازيل". ولكن كتاب السيرة الذاتية للفائز بجائزة نوبل للكيمياء، المصري أحمد زويل، حقق أيضاً مبيعات عالية.
هل مهَّد الكُتاب الطريق للثورة؟
أدب المدونات ناجح جداً، لأن الناس يريدون معرفة كل شيء. ولكن هذا النوع من المعرفة كالوميض، ليس مُستداماً. لكنني في اعتقادي أن أي نوع من الأدب يساهم في تثقيف الناس وزيادة معرفتهم عن أنفسهم وعن الغير. ومن الرائع أن تشجع الناس على القراءة. أنا مثلاً أدير صالونين ثقافيين في كل من القاهرة والإسكندرية، وهناك إقبال كبير عليهما، خاصة من قبل الشباب. وهذا شيء يسعدني كثيراً، لأن الشباب هو المستقبل.

وُلِد يوسف زيدان عام 1958، وهو أستاذ في الفلسفة الإسلامية ومتخصص في الصوفية. كما أنه أيضاً مدير قسم المخطوطات التابع لمكتبة الإسكندرية. وبالإضافة إلى العديد من المنشورات العلمية، نَشَر يوسف زيدان العديد من الروايات، ومنها رواية "عزازيل" التي تُرجِمَت إلى إحدى عشرة لغة، وفازت عام 2009 بالجائزة العالمية لآداب اللغة العربية، وجائزة بوكَر العربية.

الاثنين، 23 يناير 2017

اعتراف وقصص قصيرة أخرى-عادل كامل




اعتراف وقصص قصيرة أخرى



"... إن الحيوان لا ينتج إلا ما يحتاجه هو بالذات أو ابنه، إنه منتج أحادي الجانب، في حين أن الإنسان منتج شامل، والحيوان لا ينتج إلا بدافع حاجة جسدية مباشرة، على حين ينتج الإنسان حتى وهو متحرر من الحاجة الجسدية، بل أن الإنسان، بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا ينتج إلا عندما يكون متحررا ً منها..."
ماركس


" اكذب، كي اكذب، لنصدق إننا جميعا ً قلنا الحقيقة"

" ليس المؤلم أو المأساوي انك لا تجد إجابة أو حلا ً للمعضلة التي لا حل لها، بل المأساوي والمؤلم انك لا تجد مصيرك إلا مكرسا ً للإبقاء عليها، بل وللحفاظ على ديمومتها، ولكن على نحو تغدو فيه المأساة والمؤلم حالة اعتيادية، يحرص الجميع على جعلها يومية، مألوفة، بعد تقشيرها من الأوهام، والأساطير، والخرافات."


[1] اعتراف
  ظن السيد فرويد أن الاعتراف أفضل وسيلة لتلافي الانفجار، أو للخفيف عن الموت كمدا ً...، ولكنه، في لا عيه العميق، لم يفطن انه لفت النظر إلى أن الاعتراف ذاته ينطوي على كتم الكتمان الذي لا علاج له حتى بالموت!
ـ لم افهم قصدك...؟
ـ آ...، انك أما لا تريد أن تفهم...، في الواقع: انك لا تمتلك أدوات الفهم، أو بالأحرى انك لم تخلق للفهم، ولتعرف أن الاعتراف ينطوي على كبت أعمق من هذا الذي نبوح به، أو نعلنه!
ـ آ ...، ذهبت بعيدا ً!
ـ هذا جيد، كخطوة أولى للفهم...، لأن الكلمات، في الأصل، أداة عمياء استخدمت لخداعنا كي نبتهج بالأنوار!

[2] لغم
سألت البقرة الثور الذي نز عليها:
ـ هل تشعر بالراحة، يا سيدي؟
ـ آ...، نعم، اشعر براحة أغوارها سحيقة!
ـ ماذا تقصد...، بعد أن منحتك البهجة...؟
ـ اقصد انك ِ ستحبلين بعجل..، أما يشتغل في حراثة الأرض، وأما أن يرسل إلى المصارعة، وأما للدوران في الطاحونة، وأما لجر البضائع، وحمل الأثقال، وأما للذبح! فكيف لا اشعر بالراحة وأنا  أؤدي دور القاتل!


[3] حكمة
  خاطبت الحمامة ابن أوى الذي كاد يصطادها:
ـ  سمعت احدهم يردد كلمة سقراط: الدولة شخص كبير والفرد دولة صغيرة! حتى كاد الرجل يفطس من الضحك!
ـ وأنت ِ ماذا تقولين أيتها الحمامة الوديعة؟
ـ أنا أقول إذا كان سقراط لم يطلب العفو، ولم يهرب من الحكم، فان دولة باستطاعتها أن تصدر هذا القرار لا يمكن أن نعزل سقراط عنها!
ـ اقتربي قليلا ً، أرجوك، حتى أخبرك بما هو أعمق من حكمة سقراط...!
ـ مع أنني أجلت موتي قليلا ً بالتخلص من مكرك..، إلا أنني أرى موتك وان طال أمده أو قصر، فان وجودك ذاته لا يغدو إلا مثل هذه الدولة التي لا هم لها إلا بالقضاء على حكمائها!


[4] علاج
   سألت الغزالة رفيقتها، وهما يشاهدان دخان المعارك وغبارها عبر شاشة التلفاز:
ـ أنا لا اعرف هل ينبغي إرسال هؤلاء الذين يقتلون بعضهم البعض، والذين يعشقون الموت عشقهم للحياة، إلى المصحات، أم نرسل هؤلاء الذين يصطادونهم مثل طرائد للصيد...؟
ـ لا تحزني، يا رفيقتي، فالدورة لم تكتمل، لأن هؤلاء الذين يذبحون بعضهم البعض الآخر، الذين يعشقون الموت عشقهم للحرية والخلاص...، سينهضون من موتهم لتقمص دور أشرس المفترسات...، ويذهبون إلى ساحات القتل..!
ـ ولكنك لم تجيبيني على سؤالي: من الأجدر بإرساله إلى المستشفى لتلقي العلاج ...، ومن الأكثر مرضا ً..؟
ـ وهل هناك علم باستطاعته الإجابة على سؤال: ما الشر، وهل وجد من غير نفع....، كي نضع دواء ً أو عقارا ً لا يقسم  الفصائل إلى عاشقة للموت، والى أخرى لا هم ولا عمل لها إلا على صناعته، وديمومة ازدهاره؟!

[5] جرثومة
ـ ها أنت رأيت ماذا فعلت اللبوات بالضبع المسكين...، فبعد المطاردة، أمسن به، ورحن يلهون به، حتى أردينه قتيلا ً...، ثم بعد ذلك تركن جثته هامدة فوق الدغل..
ـ لم يفترسنه...؟
ـ كن ّ ينتقمن منه، بثأر عميق، لأنه طالما كانت الضباع تعتدي على أشبالهن بالقتل...
ـ آ .....، الآن أكاد افهم لماذا يحدث الأمر نفسه لدى البشر...؛ فهم لا يقتلون من اجل قضية تستحق القتل، بل من اجل اللهو، واللعب، والدناءة...، لأن الإنسان عدو نفسه قبل أن يبحث عن عدو في الآخرين!  فهو لا يربح إلا هزيمته في نهاية المطاف! بل لأنه وجد كي لا يربح شيئا ً يذكر!
ـ آ ...، انظر إلى التراب...، أتستطيع أن تميز من كان هو القاتل ومن كان هو الضحية، أتميز  من كان شهما ً نبيلا ً ومن كان نذلا ً خسيسا ً...، من كان وديعا ً ومن كان متعجرفا ً دنيئا ً...، فأين هو المفترس وأين هي الطريدة؟
ـ يا صديقي، لكن لا احد يريد أن يتعلم، ولا احد يتعض، ولا احد يندم حتى!
ـ لكن، يا صديقي، أنا تتعمق محنتي عندما أتساءل: وماذا  لو حصل الصلح، وساد العدل، وعم السلام، فبعد أن عرفنا أسباب العدوان والحروب القذرة...، فما هي أسباب السلم، وهي، في الأخير، لا تعمل فيها إلا الجرثومة ذاتها التي قادت اللبوات لقتل الضبع وتركه يتعفن فوق الدغل في الغابة؟!


[6] خاتمة
ـ لِم َ لاذوا بالفرار...، هربوا، حتى من غير كلمة وداع..، أو اعتذار..، وتركونا في المحنة؟
  فرد عليه بصوت واهن:
ـ  بل السؤال: ما الذي أبقانا ...؟
ـ لا تكترث...، سيعودون...، في يوم ما!
ـ ها، ها، ليزوروا مدافننا.
ـ إن وجدوا لها على  أثرا ً.
ـ آ ....، يا شريكي في المحنة، لا هم شاركونا موتنا، ولا نحن شاركناهم مسراتهم في المنافي...، وهذا كل ما يقال عن قصة خاتمتها سابقة على بداياتها!

[7] أسطورة
   قال الظلام للنور:
ـ  قلت لك لا تفتح علينا أبواب جهنم...، وتدعهم يخرجون، هذا يرى انه انتصر على الآخر، وذاك لا يتبجح إلا بالثأر....!
فأجاب بصوت خفيض:
ـ ما شأني أنا...، لولاك...، أيها الظلام، بعد أن بذرت فيهم جرثومة البحث عن الخلود...!
ـ أنا، وما شأني أنا،  فانا أغلقت عليهم أبواب جهنم، فلو  لم يروا نورك لمكثوا هامدين، ساكنين، راضين، لا لغط، ولا صخب، ولا سفك دماء!
أجاب النور بعد لحظات صمت:
ـ  دعنا  نعقد صلحا ً...ن فلا تعتدي علي ّ، ولا اعتدي عليك.
ـ آ....ه، أتطلب المستحيل ...؟
ـ لا...، ولكني فكرت بالتسوية، بيننا، وبعد ذلك ننظر في الأمر.
ـ لو كان الأمر بإرادتي لكنت تركتهم يغطون في سبات عميق.
صرخ النور:
ـ كان عليك أن لا تدع مخلوقاتك  تراني!
ـ  هذه هي المعضلة، كلما عثرت لها على جواب، بزغ السؤال الذي يجعلها أكثر شغفا ً بالبحث عن المستحيلات! فلا أنا استطعت أن أجثك، ولا أنت تمكنت من القضاء علي ّ.


[8] حقوق
ـ انتهكت حقوقي، وتقول لي هذه هي الشهامة، سلبتني حياتي وتقول لي هذا هو الحرية، محوت أحلامي وتقول لي هذه هي العدالة....، فاخبرني  ما الذي يمكن للدكتاتور أن يعمله ...؟


[9] عويل
ـ ازعق، اصرخ، اعو، انبح، اجأر، أنهق، انعق....، حتى لو كان صوتك يبلغ بوابات السماء...، فلا احد يسمعك، وإن سمعوك، فلا احد يكترث لك، وإن اكترثوا لك، فليس لديهم صلاحياتك لنجدتك، وإن كانوا يمتلكون ما يقدمونه لك، فلا يفعلوا ذلك أبدا ً...، وإن فعلوا شيئا ً من أجلك فأنهم سيمنحونك قوة أعظم على العويل، بعدها، تبحث عن الصمت فلا تجده!


[10] ديمومة
سألت البعوضة الفيل:
ـ  لو أجرينا، أنا وأنت، منازلة بيننا، فمن، في تصوّرك، سيحقق النصر؟
صمت طويلا ً، وأجاب:
ـ سأضطر للبحث عن حكيم كي يخبرني بالجواب.
ضحكت البعوضة:
ـ لا...، يا سيدي، لا تبحث عن حكيم أو أحمق...، فالمنازلة مستمرة، ولم تتوقف، فما عليك إلا أن تصفق للمنتصر تارة،  وهو ينزل اشد الضربات بالخاسر، وان تصفق للخاسر وهو بانتظار العودة إلى الحلبة، للثأر، تارة ثانية!


[11] لا يسمحوا لنا
ـ علينا أن نزرع..، فالأرض واسعة، والمياه وفيرة، والشمس تملأ الرحب..
ـ لا يسمحون لنا.
ـ إذا ً علينا أن نعلم أولادنا، فالعلم نور.
ـ لا يسمحون لنا.
ـ إذا ً لنبني مشافي، ومصحات، للمرضى، وبيوت للعجزة، والمعاقين، وللذين سيولدون بعدنا.
ـ لا يسمحون لنا.
ـ ما المسموح العمل به إذا ً...؟
ـ أن يقتل الجار جاره، والطالب أن يذل أستاذه، والأعمى يقود المبصر، الابنة أن توشي بأمها، والأم أن تنتهك حقوق ابنتها، الأب يغدر بابنه، والابن ينتقم من أبيه...، لأنه إن لم نفعل هذا ستكون لدينا وفرة زرع، ومصانع نعمل فيها، ومدارس للمعرفة، آنذاك يعم الرخاء، فلا ثكالى، ولا أرامل، ولا أيتام، لا مهجرين ولا مهاجرين، لا مغدور بهم ولا مكظومين، لا حروب ولا صخب ولا خراب.
ـ أرجوك، اخبرني، من هذا الذي لا يسمح لنا ...؟
ـ أنت تعرفه، وأنا اعرفه، ولكن لا احد يسمح لنا إلا بديمومة هذا الذي نراه يزول..!


[12] ما الغرابة؟
  مر موكب الفأر الأكبر بحراسة فيلق القطط السمان، يتبعه موكب الغزال بحراسة جحافل النمور، ثم أعقبهما مرور موكب الخروف الأعظم بحماية فصائل الذئاب...
 فضحكت الحمامة  وهي تسأل رفيقتها:
ـ  ما اغرب هذا المشهد...
ردت عليها ساخرة:
ـ ما الغريب في الأمر...، فلولا  حماية الصقور والنسور لنا لكنا في عداد الغائبين..!

[13] جذور
   انتهزت القرود غياب حارس الجناح، فسرقت خمره، وراحت تشرب تحت ضياء القمر بسرور تام.
قال الأول:
ـ الحارس الحمار يقول أن نسبه يرجع إلينا..؟
فسأله الثاني:
ـ  وأنت ماذا تقول؟
ـ دعني ارتوي من هذا الخمر الأبيض الشفاف...، أولا ً، فانا الآن أصبحت بلا نسب!
ـ انتبه...، فبعد قليل سيعود الحارس، فهل ستصر وتقول أنك بلا نسب، أم تتراجع وترتد؟
ـ لا اعتقد انه سيفلت من فرق القتل المنتشرة في كل مكان.
ـ ولكن ماذا لو عاد، ووجدنا سرقنا خمره...؟
ـ سنخبره بالحقيقة...!
ـ وما ـ هي ـ هذه الحقيقة؟
ـ  لو كنت اعرفها ـ يا حمار ـ  لارتكبنا حسنة وأجهزنا عليه، وتزعمنا قيادة هذا الجناح، في هذه الحديقة الخالدة، بدل أن نولد قردة، ونعيش قردة، ولا نموت إلا ونحن منشغلين  بالأصول والجذور الأنساب!

[14] حكمة
  أفاق البوم من كابوس ليرى الفيلة تواصل دك الأرض دكا ً عنيفا ً، حتى استيقظ كل من في الغابة، فتقدم البوم من فيل مازال يرفس ويضرب بخرطومه الهواء...، فسأله:
ـ ماذا يجري...، لطفا ً؟
ـ لقد أوقعنا الثعلب في الكمين...، ولكن الماكر توارى، فقررنا أن نمحو أثره من الوجود!
ضحك البوم:
ـ كنت أظن أنكم حكماء!
فسأله الفيل:
ـ وهل اكتشفت إننا حمقى؟
ـ لا! بل أكثر حماقة حتى من الحمقى!
ـ هل أنت جاد يا حكيم الظلمات؟
ـ تماما ً...، لأنني  كدت اصطاد الثعلب لولا إنكم لم تسمحوا لي بذلك!
ـ ماذا تقول؟
ـ وأنا أغط في حلم عميق...، سمعت الثعلب يستنجد بي كي أنقذه من بطشكم!
ـ ولماذا تركته يهرب؟
ـ  لم اتركه يهرب...، بل أرسلته إليكم..، كي يخبركم بضرورة التزام الهدوء، واحترام نظام الغابة!
ـ صحيح...، هو جاء ليخبرنا بأمر...، ولكنه اختفى.
ـ لم يختف...، انه مازال يراقبكم ساخرا ً من حماقاتكم أيها الأصدقاء.
   اقترب الفيل من البوم وسأله همسا ً:
ـ لكن ما مغزى هذه الحكاية؟
ـ مغزاها  هو امتحان عقولكم!
ـ هل تقصد إننا حمقى، رغم ضخامة أبداننا؟
ـ اذهبوا وتعلموا من الثعلب...، قبل أن تخربوا الغابة وتحولها إلى خراب!


[15] الغيمة تسأل
   سألت الغيمة رفيقتها:
ـ ما هذه الأصوات؟
فأجابتها:
ـ هذه أصوات اختلط فيها العويل بالنحيب بالأنين...، فانا اسمع استغاثات الثكالى..، وعياط الأرامل...، وحشرجات المحتضرين...، ثمة أصوات يتامى ومرضى ومعاقين ومستضعفين تدندن...، وهناك أطياف أصوات المغدور بهم، ورنين أشباح الموتى، وتضرعات من لم يلدوا بعد....
ـ آ .....، دعينا نبتعد عن هذه المدينة...، ونبحث عن بلاد أخرى بأنظارنا!

[16]الذئب يفترس جسده
    شاهد الحمار الذئب يعض جسده...، فاقترب منه، وسأله:
ـ أرجوك...، ماذا تفعل؟
ـ ألا تراهم سجنونا وتركونا بلا طعام داخل هذه الأقفاص...، فلم يعد لدينا إلا أن نفترس أنفسنا، بعد أن أجرينا تصفية الحساب مع الذئاب الأخرى.
ـ واأسفاه...، لا أنت تستطيع أن تغادر سجنك، ولا أنا استطيع دخوله!
قال الذئب غاضبا ً:
ـ أتسخر مني أيها الحمار؟
ـ سيدي، مضى زمن السخرية منذ زمن بعيد، فنحن الآن في عصر لا يستطيع فيه احدنا أن يمد العون حتى لجاره في هذه الحديقة.
أجاب الذئب بسؤال:
ـ أراك أصبحت كومة عظام؟
ـ ولهذا ـ سيدي ـ رغبت أن تخلصني منها وتترك روحي ترفرف في المجهول!

[17] معرفة
ـ هل تعتقد أن سقراط كان صادقا ً عندما قال: "أني اعلم شيئا ً واحدا ً وهو أني لا اعلم شيئا ً"؟
ـ أنا هو من يتساءل: وكيف عرف ذلك لو لم يختبر المعرفة كي يدرك عمليا ً إنها  غير قابلة للفهم!
ـ ولكنه قال: لا اعرف شيئا ً؟
ـ  وأنا اكرر: كيف عرف انه لم يعرف  شيئا ً...، فأما انه كان على خطأ، ونال جزاءه بالموت، وأما انه كان على صواب، ومكثت حكمته ترن داخل رؤوسنا الجوفاء!


[18] رجاء
   بعد أن استولى زعيم الجرذان على جناح النمور، واتخذ قرارا ً بوضعها في الأقفاص، وأمر بترك الطيور طليقة في الحديقة، سمح  لمساعده بالكلام:
ـ سيدي، إن كبير النمور يأمل أن ينال عطف سيادتكم ويعامل كعصفور...!
ضحك كبير الجرذان:
ـ اخبره  انه سينال عطفنا برفاهية لم يحلم بها حتى إمبراطور النسور!


[19] رفاهية أيضا ً
   قال الضبع لزميله:
ـ كم أنا مسرور بهذه الحروب...، فإنها لم تعد تتعبنا بالبحث عن القوت!
أجاب الآخر مذعورا ً:
ـ كأنك، أيها الضبع الحكيم، تدعو إلى ديمومة الحروب التي لا توفر لنا إلا الطعام الوفير؟
ـ لا!  ولكن ألا ترى إن الرفاهية لو تحققت، فإنها ستقضي على الجميع؟
ـ ولكن الحروب لن تترك لأحد أن يحقق نصرا ً حاسما ً على الآخر...، لأنها ستقي على الجميع، وآنذاك ستزول الحياة برمتها من الوجود؟
ـ وكذلك الرفاهية، يا زميلي العزيز، لو دامت، فإنها ستقضي علينا أيضا ً.

[20] حرية
  سأل الحمل حديث الولادة أمه:
ـ  متى يأتي الزمن الذي تشبع فيه الذئاب...، وتكف عن افتراسنا؟
ـ في العالم الذي لم يرجع منه احد!
ـ هذا يعني إنها ستولد من غير أنياب ومن غير مخالب؟
ـ لا...، ستولد بأنياب ناعمة، وبمخالب شفافة!
ـ ولكن ما الفائدة من ولادتنا ... إذا ً؟
ـ كي نمحو تاريخنا القديم، ونحتفل بالحرية!
ـ آ ...، الآن عرفت لماذا يرفعون شعار: نموت، نموت، نموت من اجلها؟
صاحت أمه به غاضبة:
ـ وهل تريدنا أن نعيش نعاجا ً كالعبيد إلى الأبد؟
ـ آ....، الآن فهمت لماذا أحيانا ً نطلب الموت فلا نجده!
12/1/ 2017

السبت، 21 يناير 2017

في التشكيل العربي المعاصر- ماضي حسن




في التشكيل العربي المعاصر
علي النجار
انعكاس الأحداث على مسيرة الفنان التشكيلي








ماضي حسن 
الفنان التشكيلي - علي النجار - المولود عام 1940، والذي تخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1961، كانت هجرته من العراق عام 1997 ، كغيره من الفنانين وأصحاب الكفاءات العلمية والمواهب الإبداعية، البعض منهم سبقوه،  وآخرين تلوه لاحقا ، وللأسباب التي لا يحتاج إلى تكرار طرحها، لاسيما عند العقول التي تفهم قيم الحياة بعين ورؤى منفتحة واسعة، وبتفكير إنساني يحل معضلات الظلم والفوارق الطبقية والتعصبية والجاهلة، تلك المفاهيم حملتها الفئة الواعية التي ساهمت في تأسيس الثقافة العراقية المعاصرة، بأنواعها المختلفة، التشكيلية والمسرحية والأدبية، والتفكير الحر للسايسلوجيا الاجتماعية، وغيرها من التنوعات التي تشهد لها وقائع التاريخ والأسماء المعروفة - العلمانية - التي حركت وأسست تلك الأنشطة بعد غياب وضمور عبر قرون، وآخرها الفترة العثمانية، هذه الأسماء مدونة تاريخيا وإنتاجا، وأغلبهم أساتذة، لازال البعض منهم أحياء، برغم طغيان موجة التصدي وإلانكسار إلى فعل التخريب والجمود، والعودة إلى ماسبقها من ضمور .





في هذا المجال وبخصوص موضوعنا عن الفنان والناقد - علي النجار - كانت رحلته لذات الأسباب التي ذكرتها آنفا، برغم انتعاشها في مرحلة السبعينيات، إلا إن الإجبار القسري إلى وحدانية الأفكار المتعصبة، لاتجبر الفئة المثقفة إلى التقيد والخضوع إلى ضيق الإتجاهات التي تتعارض مع شروط نجاح حرية الفن، لقد كانت تلك المراحل الزمنية والمكانية، وأنواع أحداثها، إنعكسا جليا على مضامين أعماله التشكيلية، ولقد تحررت من قيود ومكبلات الواقعية، منذ المرحلة الأولى في دراسته في معهد الفنون الجميلة، برغم مايمتلكه من إمكانية أكاديمية في الأداء والإتقان ، والأسباب تعود إلى إنفعالية هواجس الإستجابة، إلى تجسيد مضامين الأفكار، فضلاً عن الإطلاع والتأثر بالمدارس الحديثة، ومنها التجريد التعبيري، لكن من خلال قرائتي التأملية لأعماله، أجد مرونة وتنوع، وعدم التقيد بأسلوبية محددة، وحتى التوصيف الذي فسر بسوريالية الأعمال، إلا إنها لم تتقيد بتلك الأطر المألوفة، وأود أن أشير هنا إلى أن السوريالية ذاتها، أيضا خضعت إلى مراحل مختلفة في الصيغ والتنفيذ، منذ بداياتها الأولى للفنانين - مارك شاغال – ودي كريكو - عام 1910، وما تلاها من مراحل تجسدت عند الفنان - سلفادور دالي - والتي تميل إلى المبالغة في حيثيات التجسيد الكاريكاتيري للأشياء، لتفعيل عامل الإثارة والإنتباه عند المشاهد، لذلك نجد إن أعمال الفنان - علي النجار - فيها نمط من الإنفرادية التي تتداخل فيها تعدد الطرق وانعكاس خلجات ذاته للأحداث والأفكار التي تراوده، معرفة وأحداثا.







وبالرغم من كونه من جيل الستينيات، إلا إنه لايخضع إلى تحديدات زمنية، وإن أعماله في هذه المرحلة تتسم بعلاقة الرواية بالتشكيل، ولقد كانت وسائل التعبير عنده لاتقتصر على التعبير الفني، وإنما بكتاباته التحليلية النقدية، التي تجسدت بمؤلفاته المطبوعة والمقالات المنشورة، لقد كانت أجواء النتاج الفني، قد تتواءم مع حيثيات الشعور الوجداني في مكان الغربة في  - مالمو - جنوب السويد، خلال مراحل تتعدى الربع قرن. 



- مراحل التأسيس -
لقد كانت مراحل تأسيسات الإبداع الجمالي، أو بمفهوم -الاستاطيقيا-الجمالية، تجسدت من خلال إكتسابه التأملي والتطبيقي العملي، على خامات الخشب والزجاج وبمهارة مبكرة لحياته منذ الطفولة، من خلال إنتاج - والده - المهني لنجارة الصناديق الخشبية الفلكلورية بطواويسها وزخرفتها النباتية، ولقد تجسد ذلك عمليا في مرحلة المتوسطة، ليتحول إلى مرسم أشبه بالأستوديو الخاص به، ولذلك منذ هذه المرحلة المبكرة وفي مرحلة الخمسينيات  تميز الفنان - علي النجار - بأساليب رومانتيكية وكلاسيكية، من خلال مصادر متنوعة، وبجهود شخصية خارج نطاق الإشراف التدريسي، أما في المراحل الاحقة بعد إكمال دراسته المنهجية التربوية للمعهد، بلاشك .. وبما أن الفن العراقي حاله حال الفنون العربية الأخرى، هي حديثة التأسيس، بعد إنظمار وتوقف للنمو، لأسباب معروفة، لذلك فإن مراحل التأسيس المعاصر للحركة التشكيلية في العراق، لابد أن تكون هناك تأثيرا مهما  في دفق مدارسها الأوربية الحديثة والمتنوعة، وإن رواد الحركة التشكيلية تمت دراستهم في الدول الأوربية تحديدا، لاسيما بعد ازدهارها، خلف أعقاب عصر النهضة، ولذلك، كانت تلك المدارس والأساليب الفنية من المصادر المهمة لأزدهار ونمو حركة التشكيل في العالم العربي ومنها العراق، لذلك إتسمت أعمال الفنان - علي النجار - بطابع الحداثة المرنة، ومنها التجريد التعبيري، والسوريالية بطريقته الخاصة التي تتجسد فيها شخوص - هيلامية - الأبعاد والتشخيص البصري، إذ نجد غموض في التلقي المباشر، ولكنه يستوقف المتأمل لأنسيابية المتابعة الزمنية، سواء كان ذلك في موادها المائية الشفافة، أو الزيتية، أو مواد أخرى متنوعة، منفذة على الورق، أو القماش، وفي ما يخص الألوان المائية، فإنها تتسم بالشفافية الهيرمونية الانتقال، ولكنها كثيفة الإشباع اللوني المفروش بعفوية ومهارة عالية، تتجسد فيها الأجساد والأعناق والأطراف، ولكن بصيغ تعبيرية رمزية، وبإختزال تجريدي، أما العامل الآخر الذي أصبح رافدا ملهما يثير الشجون والمشاعر التراجيدية للحماس في صيغ التعبير، هو عامل ما مر به الفنان – علي النجار - بأزمة صحية انتابته بألم ووجع، عام 1993، ولقد كان التجسيد في التعبير لتلك الحالة، هي استمرار ديمومة الحياة، بطريقة الوجود الأثري لمنطق التعبير البصري والتبصيري، والإصرار على تجاوز تلك  المحنة بالصراع المعنوي، والإبداعي، كانت موضوعاتها تتكون من أجساد ممددة على - سديات - تخضع للعلاج والعمليات بسبب أزماتها الصحية، ولقد كانت أعماله الفنية تسمو عليها طابع الخيال الميتافيزيقي مثلما أوصفها الناقد  جبرا إبراهيم جبرا، أما الفنان شاكر حسن آلسعيد فإنه يوصفها بالفنتازيا، والمفهومان يلتقيان في الوصف ذاته، إلا إنني أرى إن أعماله، هي ردود أفعال لواقع مرئي يتصل بتراجيدية الألم الفعلي للبشرية، ومالمسه شخصيا من عوائق فكرية مستقلة أمام منظومات قسرية إجتماعيا وسلطوية،  ولكن اللجوء إلى اللغة الرمزية، هي بسبب سلطات الرقيب القسرية آنذاك، وقبل المغادرة عام 1997، يبقى الفنان - علي النجار -  فنانا متميزا بمواصفاته الأخلاقية المتواضعة والأصيلة، بعيدة عن موجات الترويج الساطع لشخصيات، سادت الحركة التشكيلية في وقتها الحاظر، إلا إن المتابعات الحرة من قبلنا ستوثق وتدون أثر منتجاتهم الإبداعية المتفردة له، ولأمثاله من المتميزين لمراحل أجياله، ولقد تركوا أعمالا في متاحف العراق، منذ عقود تأسيس الحركة التشكيلية، إلا إن تلك الأعمال المهمة لأسماء رائدة ، تم ضياعها وإزالتها كليا بعد عام 2003، وبذلك كل هذه المؤشرات تؤكد على تآمر معلن، على إلغاء، ثم إيقاف التنوع الثقافي الأصيل، ومنه الأعمال التشكيلية في الرسم، والنحت، والخزف، توثيقا، وديمومة .
‏‫


الخميس، 19 يناير 2017

أختام *-عادل كامل

























أختام *



الختم الرابع


عادل كامل

 [7] مقاربة ـ كاظم حيدر (أ)
    في التشكيل العراقي الحديث، كان كاظم حيدر، لسنتين أو ثلاث سنوات، يواجه آثار اليورانيوم. كان باسلا ً في التعامل معه، شبيه بحكاية (أيوب) جرب حد ان الأذى بلغ أقاصي جسده، لكنه لم يجدف. كاظم حيدر ، هو الآخر، بحسب الطبيب الكوبي المعالج الذي حاورته، بعد رحيله بيوم، ذكر لي ان الفنان مات باطمئنان تام، فلم يولول، كمعظم المرضى، أو يتفوه بغضب. كان كاظم حيدر، قبل شهور، وفي لندن، قد رسم سلسلة من الرسومات، شبيهة بأختام عراقية قديمة، سومرية أو أكدية، وقد أزاح قشورها، ليرسمها من الداخل: شبكات أوردة، وشرايين باللونين الأحمر والأزرق. كان يصوّر محنته، محنة جسده، هو، وكان يراقبه عن بعد أيضا ً.كان شيّع جسده، قبل الموت، كآخر وثيقة له مع الحياة. عندما سألته: هل لديك تصوّرا ً بصرياً عن العالم الآخر..؟ أجاب بالنفي..! ربما كان سؤالي غريبا ً، ولكنه برهن لي انه كان متوازنا ً، ولا يرغب ان يكون مضطربا ً في قضية لا جدوى من التوقف عندها.
    في رسائل (علي النجار) إلي ّ، أراه اجتاز مفهوم (التعبير)، والتضرع، والاستعانة، نحو الانغماس بعمله الفني، وقد امتزجت تأملاته لجسده ـ وللعالم كفراغ مشغول بما لا يحصى من الذرات ـ بخامات وخلاصات تكمن فيها استحالة فك المعنى عن سياق النص ومعالجته كعلامة تكاملت فيها عناصرها. فلم يتوخ طلب الاتكاء على احد، أو استدراج عاطفة ما يدرك أنها، تأتي وتذهب بعلتها، إنما لم تغب عنه رهافة انه لم يخلق فائضا ً، أو خلق كما تخلق الأشياء متضمنة معناها في ذاتها، بمفهوم عمانوئيل كانت، وإنما هناك علاقة ما بالغة الدقة بين الكلي والأجزاء، مثلما هي علاقة بين الأجزاء والكل الكوني. فجسده لم يعد قابلا ً للتلف، وفي الوقت نفسه ليس باستطاعته ان يبلغ خاتمة المقدمات التي دارت بخله، ذات يوم، حول الإنسان، ولغزه. وكأنه ـ في هذه التجارب ـ سمح للأبدية، ولحافاتها غير المقيدة بحافة، ان تميز بين صانع الموت، والآخر الذي سيبقى يحدق فيه! أبدية الأسئلة وقد سكنت، لبرهة، زوالها العنيد!
[8] مقاربة ـ محمود صبري (ب)
     اذا كان علي النجار قد جعل جسده (وثيقة/ ختما ً) كما فعل أسلافه في سومر، وفي أكد، من غير استثناء هاجس التعارض بين اللامحدود وحدود خامات الجسد وقيود وعيه ـ فان محمود صبري، في خمسينيات القرن الماضي، كان صوّر القهر عبر الشهيد، بصفته نذرا ً أو أضحية بانتظار اكتمال دورتها. فاللاوعي ـ وبرمجته أو سياقه الحتمي ـ لم يقلل من منح الشهادة سحرها، والانجذاب إليها. عمليا ً انه سيغدو نظاما ً في حماية المركز (السلطة/ أو كل من يمثلها) وكأن التجانس بين اللاوعي ـ الحتميات ـ والنظام الاستبدادي للدكتاتوريات ـ من كبير الصيادين إلى المتحكم بالمصائر ـ مسلمة لن تدحض. وعلى كل أولى محمود صبري نصوصه في الرسم، نظام الختم أيضا ً. مانحا ً المشهد الجمعي للصراع أولوية دمج فيها الذات، في سياق تصوير المتضادات. فلم يكن في خمسينيات القرن الماضي، في بغداد، إلا لمحات غامضة عن حقبة ما بعد الحداثة: من الألسنية/ البنيوية/ وموت الفن، وصولا ً إلى التفكيك ـ عدا بزوغ إشعاعات شاحبة للوجودية، في مواجهة كلاسية النضال ضد الاستغلال، والهيمنة. كانت الوجودية بمثابة التمهيد لعزل الذات، وليس لمنحها قدرتها على التأمل الانطولوجي، لكن محمود صبري، سينفذ سلسلة تتفرد بمنح الفن شهادة حياة: شهداء أو ضحايا في مواجهة القهر السياسي (اليورانيوم الرمزي)، ولأجل مصائر تقاوم التزوير، وقد تمسكت بأحلامها، حد سكنها.
   
 [9] مقاربة ـ عادل كامل (جـ)
     هناك آخر، آخر محدد أو بحكم المجهول، لا تتوخى الجسور القطيعة معه، أو المصالحة. وقد يدخل الوهن، الحذر، الظن، التراخي، عائقا ً، ولكن ثمة آخر شبيه بالوهم ـ أو بصفته غائبا ً، كي يبعث رغبة خالصة تتوخى عملية الاتصال، وديمومتها...؟ لا أتخيل ان هناك حركة ـ من غير ارتداد أو تقدم ـ حركة، حتى على صعيد التجريد، باستطاعتها ان تبلغ الصفر.
    يقودني هذا إلى ان هناك (في المشهد الكلي ـ وفي أدق تفاصيله) يصعب رؤيته أو تتبع مساراته كانهمار أمطار تسقط عشوائيا ، إنما بنظام خارج قدرات الرائي ـ المراقب، في القدرة على الاستنتاج. وعلى كل، هناك آخر ـ حتى لو كان جحيما ً بحسب كلمة لسارتر ـ له دوره في ديمومة التصادم/ الحركة. آخر لا يسكن خلايانا حسب، بل نسكن خلاياه. وانتظام أشكال الحركات، ستبقى تحتوي اتساع الاضطراب، لتذهب ابعد من حدود الحركة، نحو مجالها اللامحدود.
    قد اجهل لماذا اخترت الجسد علامة ـ كمركز ـ لمسافة متعددة الأبعاد، مساحة يحدث فيها التقاطع، والتداخل، وانشغالاته، وإنما هل ثمة غير الجسد، حتى في أقاصي التجريد، محركا ً: الجسد بصفته غدا التقاء ما لا يحصى من العناصر، والروافد بمختلف خصائصها، كي يشكل وحدة: صورة لجوهر داخل منظومة متآلفة من النوع ذاته: نباتا ً كان أو حيوانا ً   أو خامات معادن..الخ
    تلك الصور للجسد لن تغيب عن الحواس، منذ تشكلها ألبدئي. فالعلاقة تبرهن أنها جزء من نظام حالما يتهدم، لأي سبب من الأسباب، سيعيد بناء تشكله بالصورة ذاتها، أو بتعديلها، أو على نحو مغاير.
     جسدي في المرآة ـ وليس عبر مقارنة أخرى ـ لن يمتلك إلا ان يتوحد مع ما لا يراه فيها: انه لا يرى شيئا ً محددا ً، عدا استغراقه بالعثور على معادل للتوازن.
     في لوحة لي ترجع إلى عام 1976، شديدة الصلة بتجربة ما يتعرض إليه الجسد من تعذيب. ربما هي تناور بمعناها، على خلاف نصوص علي النجار: فضيحة عصر أو آثام حضارة. مناورتي ذاتها لا اعتقد أنها بحاجة إلى إيضاح. فهل أغفلت أنني رسمت أثرا ً يعلن عن معناه: تناثر أجزاء الجسد وتحولها إلى وحدات معزولة بعضها عن البعض الآخر: أصابع/ عين شاردة/ وفم يكتم صرخة/ وجمجمة بدت متداخلة ببقايا الوجه.
    انه ختم معاصر، يلبي نظام أقدم النصوص: وظيفته في مواجهة التحرر منها، معناه وهو يستدرج ما بعد المعنى، ورمزيته وقد أعادت بناء واقعيته النائية.
     في أختام علي النجار، لا توجد لذّة جمالية باذخة،  كالتي شغلت 90% من الفنانين العرب أو العراقيين: بل ثمة ما هو مضاد لها، لا بحثا ً عن مأوى في غريزة الموت، بل في مواجهة أنظمة لم يمت الإنسان فيها فحسب، بل المضي في عالم خال ٍ من مستقبله، وماضيه أيضا ً. فثمة انجرار إلى تيار (السوق) سمح للربح ان يستثمر أدوات الموت من غير اعتراض يذكر. فالحروب تشن، باستخدام وسائل الإعلام المتطورة، وجرجرة العاطلين عن العمل، بل وحتى العقلاء، إلى مهرجان لا احد فكر في خاتمته. والفن ـ كجزء من خطاب عام ـ لم يمتلك الكثير في مواجهة صانعيه إزاء شفافية التلوث!، والتفكيك بما يتضمنه من غوايات آنية، لا اجتماعية، تشّرع للربح النظام ذاته الذي تأسست عليه الأنظمة الدكتاتورية.
    قطعا ً ليس الفن أداة جارحة، حتى عندما يتمسك برسالة ما من الرسائل، إنما، في الأقل، لا مبررات كي يتحول إلى (سلع جمالية باذخة للترفيه) تزّين جدران تعزل العالم إلى من هم يتحكمون بالمصائر، والى مصائر اندثرت، أو في طريقها إلى الاندثار.
     سيقال، مرة بعد أخرى، إنها لعبة تتجاوز لاعبيها، لعبة ترك البشر في نزاع دائم، على ان الضحايا، في هذا القانون، بالدرجة الأولى، أكثر مسؤولية في صناعة اشد الطغاة جورا ً، ولا معقولية، ولكن، بشرعية لا تنقصها أوهام الأبدية، والخلود!
[10] المنافي وعلاماتها
    لم يعد لدى علي النجار سوى تراكمات انخلاعات، وذاكرة زاخرة بعلامات منافيها، ابتداء ً بالوطن إلى المدن البديلة، إلى مفهوم تتهدم فيه الحدود الوهمية، أو الرملية، المتحركة، كي يصبح الجسد وحيدا ً في مواجهة المجهول. فالجسد ـ وسيغدو رمزا ًلملايين فتك بهم اليورانيوم ـ غدا علامة حضارة قائمة على سياق تقسيم البشر فيها إلى من هم خارج (التلوث) والى ـ ما كان يثير قلق دستويفسكي ـ بتلال النمل: الشعوب التي تم معالجتها بجدران عازلة، وقوانين بالغة التشدد،بأكثر من ممارسة تحافظ على ما آلت إليه، تحت نفوذ الإعلان، والأسواق، والاندثار.
    جسد علي النجار، رمزيا ً، يعيد إحياء أقدم شعيرة للأضاحي: انتزاع القلب، في احتفال دموي، تحيط به النار، وإعادته إلى المجهول. لكن جسد الفنان، في نصوصه، صاغته ملوثات عصر (الحداثة وصولا ً إلى العولمة)، ودخول العالم، في نهاية المطاف، إزاء تهديدات يصعب تداركها، فضلا ً عن تأثير التلوث في المجال الجيني، بانتظار نهاية ـ أو فاتحة عهد اقل لا مبالاة  تجاه  المصائر.
    رسوماته ليست إعلانات لاختيار عالم خال ٍ من أسلحة الدمار الشامل، الأسلحة (البيضاء) أو (النظيفة)، ولأجل حفنة من أثرياء، وسحرة عالمنا، في استبدال بناء متنزهات، ومزارعاً، ومصانعا ً تتوازن فيها رغبات الناس مع أحلامهم فحسب، بل لبناء المزيد من الأسلحة المستحدثة في محو الحياة، بمختلف صنوفها، وفي مقدمتها الإنسان.
     نصوصه ستوضح حقيقة تلوث: الفضاء/ المياه/ الأرض، بإحصائيات دولية، لا تعزل قارة عن أخرى، في نهاية الأمر. فالإشعاعات لم تثبت انها علامة انتهاك، بل ـ بالوثائق ـ مشهدا ً للموت ذاته. ومن غير كلمات، فان نصوص الرسام العراقي ـ بعد نصف قرن من العمل المتواصل ـ لا تنطق بأيديولوجية أحادية، أو بمذهب ختاميا ً، أو لصالح معتقد ضد آخر، بل تلفت نظرنا إلى طريق يبدو انه سيكون وحيدا ً ألا وهو أننا بانتظار حكماء ـ في العلم والفلسفة والاقتصاد وفي باقي حقول الحياة ـ يعملون على إعادة بناء فلسفة خارج مفهوم الانتصار، وسيادة قارة على قارة أخرى، أو جنس على جنس آخر، فالدعوة المروعة التي تبناها (هانتغتون) في كتابه (صدام الحضارات) تكون قد بلغت الصفر. الأمر الذي يرسخ منطلقات مغايرة للتصادم، بكل أشكاله، وحتى الرياضية منها ـ كما أشار أريك  فروم إلى ذلك ـ لعالم يتطهر فيه (الدماغ) من الجينات المسببة للعنف، وأوهام المجد والاستمتاع بمحو البشر، أو إعادة صياغتهم كمخلوقات بلا هوية، كأشباح كافكا، يساقون إلى حتفهم ككلاب!



[11] قصدية اللا قصد!
    مع ان نصوص عام 2011 أخضعها للتشذيب،  كي تتحول إلى: بقع/ فراغات/ علامات هندسية متداخلة شبيهة بمخلفات تأكسدت، ذات ألوان حادة، صافية، وملوثة حد التجريد بمختلف معالجاته الرمزية، والتعبيرية، والهندسية ...الخ إلا ان هاجس الفنان مكث يتتبع اثر (الموضوع/اليورانيوم) في نصوصه الفنية: فلا قطيعة أو فصل بين بنية وبنائية أو ترتيب العناصر من غير مركزها المعلن: الانشطار، التخريب، والمحو. فهل نصوصه الفنية بحاجة إلى الشرح، وكان (الضحايا) لن يشاهدونها، ولا المتابعين، إلا مع إيضاحات، أو مقدمات..؟
    ربما الأمر لا يخلو من قناعة ان هناك، في الفن، كما في الكيمياء، أو في المناهج الغنوصية، أو الأمراض العصية على التفكيك، خفايا تكتم كتماناتها بمشفرات يصعب ان تلمسها أدوات الحفر، والتحري، مما يسمح للفن ان يذهب حيث الغموض لا يتقاطع مع أشكاله وعلاماته ورموزه وعناصره الخارجية. كلاهما يعملان بالصور (من الكون إلى ملامس الخامات والى باقي العناصر)، إلى جانب القصد، في المحافظة على ديالكتيك التجربة، وأبعادها.
    فاليورانيوم لم يخترع كغذاء، أو لعبا ً للأطفال، أو رموزا ً للتسلية، والرفاهية، بل أصبح جزءا ً من فعل يلبي، إلى جانب القصد، لا قصدية يصعب وضعها في القفص!
    هل قصدت الإشارة إلى ما هو ابعد من ذلك، غير نزعة التدمير التي توازنت فيها غريزة الموت بإرادة البقاء، كتاريخ عامر بالتصادم، والعنف،حد الجور والمحو، إلى ذات الحكاية التي تروى عن ادم، عندما سأل إبليس:  لماذا أغويتني؟ فلم يجد الآخر إلا رداً بسؤال: وأنا من أغواني؟ فهل (موضوعية) الفنان بريئة من الذهاب إلى إثارة قضية ان للعذاب، في مختلف أشكاله، دربه المشفر، وليس ما ظهر عليه من استدراج للعواطف حسب! وإلا لماذا مكث فن التعذيب، بالانتقال من اللا إنساني إلى عالم حقوق الإنسان، والديمقراطية، والشفافية، وجد، في أكثر المثل رصانة، قبولا ً، واستعدادا ً، وتكلفة باهظة الثمن، فضلا ً عن الحماية القانونية أيضا ً!
     إنها إشارة تحيل تجربة علي النجار إلى نشوة حياة ستبدأ فيها الفلسفة بالبحث، مجددا ً، عن عالم لا نعرف اهو آت من العدم، أم ذاهب إليه..؟
   علي النجار الذي تجمعت في تجاربه خبرة طويلة، بدءا ً بالإقصاء عن (الأم/ الأرض) مرورا ً بدروب التصادم، مع الثقافات البديلة، وليس انتهاء ً بالجسد وهو يكتوي، ويفكك، إزاء مصير شبيه بالعائد إلى العدم أكثر مما هو خارج منه، يدرك ان البطولة لم يقصد منها الحصول على ثمار، أو ملذات، أو نجاة شخصية إزاء هزائم الشعوب، وتنوع هلاكات المذاهب، والأنواع البشرية، وتفتتها، إنما، ببساطة، انه شبيه بموقف متصوف، أو مازال يتمتع ببراءة من يجتز العام الأول من عمره، وقد حكم عليه بالرجم، أو النفي، أو الموت، لن تقتله إلا وردة!
[12] لوعة عصور
     يعيد علي النجار، كرسام وككاتب، للختم القديم قدمه: انه لا يجرجره، كما تستخرج الآثار أو الهياكل أو البقايا، ولا يدفع به نحو المجهول. فالفن عنده غدا مأوى غير قابل للانغلاق، وغير مشرّع بلا حافات أيضا. فهو الحاضر بموقعه في دورة الزمن ـ زمن الإنسان وتاريخه. وما تثيره أختامه، المنجزة توا ً، إنها شاهدة على عصر: التلوث/ فقدان المناعة/ الانشطار، والأذى الذي صنعه الإنسان ضد الإنسان، ليضع حدا ً لمصيره في نهاية المطاف.
    ففي أدبيات حضارة وادي الرافدين إشارات تتحدث عن نهاية الخلق، أي زوال البشر. وفي مقدمة أسبابها: اللغط/ الضوضاء/ التهريج/ أي: التلوث. فهناك ـ إلى جانب أدوات القتل والفتك المختلفة ـ ما ينسب إلى البناء الفوقي: اللغة. فالأخيرة تتبنى انساق البناء والهدم، وعندما لا يمتلك الباحث إشارات تكفي لاستبدال الوهم بالثابت، والزائل بالأبدي، فان تلك النصوص منحت اللغة ما سيمنحه (اليورانيوم) في فعالية الانقضاض على الحياة ذاتها.
    ولقد تحولت أختام علي النجار لدي ّ، إلى اتصال بهدم الجدران العازلة، والحدود، والفجوات بين المنافي. فبعد ان عزلت نفسي، بين أربعة جدران ـ إلى جانب سطح الأرض والسقف ـ أكون قد امتلكت حرية ان أكون حرا ً في حدود المستطيل أو المكعب الذي أنا داخله: أي حريتي في حدود هذا الاختيار. فقد أتى على الإنسان زمن فقد فيه حتى حرية ان يختار عزلته، أو موته في الأقل.
    أختام الفنان على النجار، تحكي لوعة عصور، وأمم، وشعوب، ومحن نكبات لا وجود لها في مملكات النبات، أو الحيوان! فلم يعرف ان فتك نبات بنبات، أو حيوان بحيوان، كما سيفتك الإنسان باختراع أندر الأنظمة والتشريعات على جعل الكراهية غير قابلة للدحض: فضحايا حماقات ما ينسب إلى الحكماء، والعلماء في شتى مجالات العلم، تكللت بصياغة ابرع فنون التدمير، والمحو، وكأن ما سعى إليه الجنس البشري، في زمنه الوجيز، قياسا ً ببعض المخلوقات المعمرة، يؤكد استحالة منع وجود أسلحة قادمة بفنون الفتك، لا بالإنسان أو بالحيوان أو بالنبات، بل بالبيئة المكونة لنشوء الحياة.
    فقد تغدو الأسلحة المستخدمة لليورانيوم، شبيهة بالحجارة عند سكان الكهوف، وكالسيوف والرماح  عند الفرسان في البراري، وكالصواريخ عابرة القارات في عصر حداثة أوروبا، وكاستخدام إشعاعات فائقة الأذى، يزعم أنها نظيفة، في عصر العولمة، والشفافية، والديمقراطية، والنزاهة، وفي عصر حملات الإيمان، والاحتماء بالمقدسات...الخ ليس إلا مقدمة لزمن مفرّغ من المعرفة، والى مدن خالية من البشر، والى عدم غير قابل للامتداد.  

قراءة في قصة سفر الفناء لعدنان المبارك
كتابة بنسق الختم وكلمات عند حافات الصمت


[1] حد بين حدين: إشكالية المسافة
     اللغة تخفي أيديولوجيتها، لأنها تتستر عليها، وعلى ما تخفيه، لكنها لا تخفي سرها، فهي، في الحالة الأولى، تعمل لغاية محددة، فيما لا تمتلك اللغة إلا ان تنتهك السر، أو تدمره، أو تعلن عن عجزها في المناورة. لكن الفن ليس لغة، كعمل اللغة في الاتصال والمحاورة، وإنما تبقى الاقتراب من سبر نشأتها، بمجموع العوامل، وفي مقدمتها الإنسان ذاته. فهل الإنسان ـ كباقي الكيانات الناطقة ـ يسعى الوصول إلى الذروة: العجز، واستحالة فك المناطق التي لا تعقبها مخفيات تتطلب جهدا ً، ووعيا ً، وأدوات توازيها في الانتقال من الملغز إلى مكوناته.
     وبمعنى ما فأنهما ـ لغة الفن ـ والفن الذي استدعى استخدام اللغة، يشتركان/ وينفصلان في تكوين معادلة برهنت عن تدرجها من الوظيفي إلى الديمومة، ومن المعلن إلى المتستر، ومن القابل للتفكيك إلى استحالة تتبع أثره، وقد غاب، أو اختفى تماما ً.
    فالأيديولوجيات، بمعنى الأقنعة، والتصوّرات، تحافظ على مسافة ما، تتسع وتتقلص، لمن منحها حضورها، الأمر الذي يجعل ديمومة الصراع، كديمومة الحركة، تهدف إلى ما هو ابعد من السطح، والظاهر، والقناع، لكنها ـ تلك المناطق النائية ـ تمتلك كل ما سيجتمع في الأثر: الختم. وفي مكونات هويته. إنما لا تمتلك الأخيرة إلا في حالة الاضطراب ان تعلن عن ذاتها، أي في حالة الاندثار أو الموت. وبمعنى مباشر: عن الديمومة، أو الإرادة، أو الاستجابة لاستكمال الدورة.
[2] السؤال: ديمومة الاستحالة
     لماذا تستحيل اللغة عند عدنان المبارك إلى (ختم): إعادة بناء ما تم حفرة، نبشه، بالأحرى محاولة الاشتباك معه من غير خسائر، وترك المعنى يعمل بالية دورته! ولأن لاوعي الكاتب لم يتنصل عن تاريخ لا وعيه المعرفي، سمح لوعيه بالتجول في تلك المناطق. كان الختم خلاصة فلسفة ان العدالة (في الأصل) إشكالية. فالعبد ـ في المحاورة السومرية ـ لن يسمح للسيد بالذهاب ابعد من موته. وقد دوّن الكاتب السومري، في الختم، استحالة عزل اللغة عما تخفيه/ وعما تعلنه، في هذا الديالكتيك. فاللغة ـ بعد ان تقول ما تريد إيصاله ـ تسكن مأواها: هذا الذي لا يمكن تجنبه: ان العدالة لن تكمن إلا باستكمال دورة الإنسان: موته، كي يبعث، ويبعث كي يرى ما هو ابعد من موته. أساطير ديموزي تفصح عن مدى استبصار السومري للحد من التناقضات، وجعلها، بدل التصادم، تأخذ نسق التكامل. فالشقيقان، الراعي والمزارع (قابيل وهابيل مستقبلا ً) لن يقتل احدهما الآخر، بل سيكمل احدهما عمل الآخر. انه سبر استثنائي لجوهر العدالة في الفكر السومري، دون إهمال ان (أيوب)، في الأخير، يترك سؤالا ً لن يجد إجابة إلا عبر ما سيضاف، ويقلب، في العصور اللاحقة. فأيوب لم يجدف، وضمنا ً، لم يول (الشطان) ـ ولا نعرف كيف تسلل الأخير إلى مجلس الإله ـ إلا عدم الاكتراث، الذي سيراهن عليه الإله، في حواره معه. فأيوب لم يسأل: ما الحكمة من الامتحان...؟ لأن أيوب حدد وجوده بالمحدود، فهو من التراب واليه يعود، عدا ان (النفس) أو (الروح) ستحل لغزها، وعملها، مادام الامتحان لا يخص الذات العليا، بل يخص الزمن، والأخير، لا يصح ان يذهب ابعد من زواله.
    هذه الإشارة التي تعزل الزمن عن (داخله) أنتجت آلاف الأختام ـ الألواح، بما فيها من تشريعات، وقبل كل شيء: أنتجت فنها، بنية الختم، كبناء استمد قوته من عناصر الحياة ذاتها: مرئياتها ومخفياتها معا ً. ومثال أيوب، في نجاحه، لن يعّول على الزمن إلا ممرا ً حسب، أي درجة ـ مساحة، من العبور، وهو الذي سمح له ان يتساءل: من منا في مأزق! سؤال سيتكرر طالما استعاد الفن هويته، لغة تفند الوظيفة لدمجها بما لا يثير الشك، في مواجه فنائه.
[3]  سِفر الفناء
     كما يعمل الختم (تجانس عناصر: الوعي/ اللغة/ الزمن/ الوظيفة، وضمنا الهيئة مع ما يذهب ابعد منها) ـ لكن ليس بالمعنى السوريالي: سبر مناطق اللاوعي/ أو اللاشعور، في إشارات لبريتون وبياناته، بل بقلب السوريالية وجعلها لا تترنح، بل تعيد صياغة المسافة  ذاتها بين نهايتها والمقدمات ـ فان عدنان المبارك يفتتح قصته (سِفر الفناء) باستشهاد لإميل سيوران، بما يصح ان يكون خاتمة: "كان هناك زمن حين لم يكن أي زمن". فماذا يستطيع، غير (الختم/ اللوح) وليس النص كما تداولته الحداثة الأوروبية وصنعته ـ ان يبنيه. فما ـ هو ـ غير الزمن ـ سوى الوجود خارج اللغة، وخارج أية وسيلة للتقدم، أو حتى للارتداد، أو للمراوحة. انه ليس العدم، إلا اذا كان العدم، بحسب فلاسفة بابل، ذروة إرادة الآلهة. وهذا ما تحول إلى إشكالية عند الهنود، عندما اضطروا لوضع حد بين الصفرين. إنما، في الأصل، كان ثمة ما هو سابق على الزمن: أي الذي لا تستطيع اللغة ان تمنحه وجودا ً. فهل ستأتي التكملة فائضة، للبرهنة أنها كانت قد بلغت خاتمتها، في الأصل، أم لأن الكاتب، عدنان المبارك، لم يغادر مفهوم لغز تكون بذرة الخلق الأولى ـ لأنها لم حتى بعدم تدخل الآلهة أو عدم وجودها في الأصل: تحكم دورة البذرة، دورة المفتاح في القفل، فيغدو السَفر/ الرحلة، كواجب الوجود ـ ولكن للذات في مواجهة فنائها، فينغلق السؤال بالإجابات. فالسومري كان منتبها ان شفرة الإجابات كامنة في السؤال نفسه، وهذا ما سيقوله ماركس، بعد خمسة آلاف سنة. بمعنى: ان العدم وجد امتداده في المساحة المشغولة بالزمن، كي تتحدد المعضلة في إطار: العناصر ـ وحركتها، وليس بفنائها. فالإنسان غير مخول لذلك، الأمر الذي دفع بالكاتب السومري للتفريق بين أهداف: عناصر الخلق، وبين مفهوم الخلق. إنها مسافة توارى فيها العدد بين ان يضع الصفر إلى اليسار أو إلى اليمين. لأن المعادلة تامة، في أصلها، أما ظاهرها، فانه سيحافظ على زمنه، وتاريخه. وضمنا ً كل ما يتعلق بالعدالة: لماذا  حكم الموت سابق على الولادة! وهو الذي شوش ـ وشكك، في منطق يحاول بناء تصور للآلهة، أو لدورها في بتكبيل المحدود بالطاعة، والشقاء، واللا متوقع، تزكية للذي يستحيل ان يكون له وجود، لا بالتأويل، ولا بالصورة، ولا حتى بالمشفرات! الختم الذي سيعيد بناءه عدنان المبارك، يدمج ثقافة (كلية) تمد الذات لمغادرة الزمن، كي لا تحصل أو تجني على ما كان جلجامش يبحث عنه، بل عن دحض وهم هذا الذي لا وجود له، إلا في حدود الزمني ـ وقد كانت خاتمته سابقة على الحضور.
   فهل يمكن ان ترفض الولادة، وهي مكبلة بالصفر، أي بانعدام الإرادة، إن أميل سيوران يسترجع تاريخا ً ينسج بنسقه هذا الذي تحول إلى (ختم/ لوح) لدى المبارك: العدد بين الصفرين!
[4] عودة إلى سِفر الفناء

     ليس لأنها حملت عنوان المجموعة، وإنما لأنها تمتلك مفهوم الصدمة، في مواجهة الاحتواء/ الاندماج، أو الرضا بما هو سابق على اللغة، أو بما هو ابعد منها.
  فمختار محمد المظهر، ولد ونشأ في بقعة نسيها الله والشيطان معا ً. لكن غدا عضوا ً في عالميا سيعمل في استعادة لغز حياته. الا انه سيدرك كم هو محكوم بالقيود، في مشهد المراقبة، والمحاسبة، فهو لم يعد نسيا ً منسيا، لكنه لم يغادر مساحتها. إنها المعادلة ذاتها الأولى: المطلق ـ والمحدود. فيهما مقيد بالأخر..؟ إنما السؤال هو: ما العمل.. وليس أين يكمن الخلاص. لأن السؤال لم يعد منفصلا ً عن الإجابة، لأن التطبيق لن يعدل ما تمت برمجته. والباقي تتمات للأصل: النسج ثم التفكيك. وهو الذي رسم مسافة هائلة بين الوعي والمصير. لقد أدرك، وهو المراقب من قبل أجهزة تعرف ماذا يعمل، عبر تأسيس جماعة لا ترى أملا ً في التعديل، ولا في الإصلاح. فالإنسان حيوان مزمن، ووجوده ليس إلا وجودا ً قهريا ً، والحياة برمتها مبرمجة بأنظمتها (الكلية/ وحرية الإنسان مقيدة بها ضمنا ً) من اللاحافات إلى أدق اشتغالات الدماغ، ومن العدم إلى الوعي، لكن ليس بالعدم، بل بظله. هذا النموذج ـ وهو واحد من ملايين فروا من منافيهم الوطنية نحو العالم، المنفى الأكبر، ولكن، قياسا ً ومقارنة بالمعنى، أو بالجوهر، سيبرهن باستحالة وجود حقيقة. إنها لعبة برمجة تعيد صياغة ما دعاه (توينبي) بالتحدي والاستجابة. إنما سيدرك ان شيئا ً مستقيما ً لن يتحقق مادام الأصل بدأ بقطعة خشب معوجة (استشهاد آخر بعمانوئيل كانت) يوضح، ان وعي مختار محمد المظهر، لم ينشغل بتفكيك اللعبة. فكلاهما، الله والشيطان، يعملان خارج الضحية!
    مرة أخرى يبرز (أيوب) في المشهد، ليس رمزا ً للمعنى في تحمل ما لا يحتمل حسبن بل للبرهنة ان الشيطان لا يعرف ماذا يعمل، كما المركز، بصفته مطلقا ً، لا يعلن إلا ما كتم. فالشطان لن ينجح (لكنه نجح في القصة) بإيذاء البشر، وإثارة غيظ الله. لأن ما سيسمى بالزمن لن يغادر سِفر فنائه: عقمه، فهو باطل في الأصل، وفي الأصل، كان السومري قد فرق بين من خلق (تحت)، من الوحل والدم، والآخر، الذي لا تدركه الأبصار. لكن الله لن يخسر، والشيطان لن ينتصر، إنما القصة تحكي باللغة، الإطار ذاته في محاورة العبد والسيد، وفي محاورة المتفائل والمتشائم، مثلما في أسطورة أيوب: لن يحصل الإنسان إلا على المسافة التي هي مجموع الاندثارات.فالخسارة وحدها هي أعلى درجات الكسب، مثلما الصمت هو أعلى مراحل الحرية!
     أين هو الختم في قصة لم تكتب لرفع معنويات مخلوقات رازحة تحت، في المستنقع، الذي هو الوضع البشري، ولم تكتب لتمجيد الوهم، أو المضي ابعد من برنامج (العشوائية) في عالم يتعرض لازمات تراكم رؤوس الأموال، وفي وضع لن يدور المفتاح في قفله، إلا بمزيد من الهدم، والتنكيل، والمحو.  ان القصة تعيد للذهن ان (العادل المعّذب/ المعاقب من غير سبب) المطرود بوشاية أو لأي سبب، لم يخن دوافع النعمة التي فقدها، وغدا في الجانب الآخر، مع (القطيع/ العامة/ الناس) لكن ـ في سِفر الفناء، يترك القاص نموذجه يستعرض عبارات منتقاة لحكماء وفلاسفة، وهي عبارات مدوّنة في ألواح الذاكرة الحضارية ـ الثقافية العراقية، قبل ان يخترع الانكليز العراق الحديث، وقبل ان تحاول أية قوى تجديد هذا الاختراع تحت عناوين أخرى ـ بمعنى ان الكاتب ـ بوعي أو بتفكيك قيوده ـ يعيد صياغة الحكاية ذاتها التي تحدث في كل زمن، والتي تحدث في كل مكان، إنما، اشتغل الوعي، مرة أخرى، كوعي جلجامش إزاء الموت/ وكوعي أيوب إزاء المعاقبة/ وكوعي العبد إزاء سيده القابض على مصيره/ فالثنائية/ والتعارض، لا تتكرر كي لا تبدو الحياة قلما (هنديا ً/ أو مسلسلا ً مصريا ً أو تركيا ًيفجعانا بالمواعظ او الغوايات/ أو انتصارا ً أمريكيا ً ملطخا ً بالرماد والخراب/ او صينيا ً قادما ً محملا ً بالوعود والآمال ) في تصوير امتدادات حكاية مشحونة بما هو ابعد من الصخب ـ كما في ولولة بنجي فوكنر، وليس هو الموت ككلب كما في خاتمة رواية القضية لكافكا، او نهاية وليد مسعود في رواية جبرا إبراهيم جبرا ـ وبما هو ابعد من المعنى، لأن الأسئلة لم تعد متعلقة بالإجابات، وليست مرتبطة بأصل نشوء خلايا الحياة في عفن الكهوف او في المستنقعات فحسب، بل الوعي راح يحفر في كل ما لا وجود له، كي يدلنا على أعذار أنتجت هذا الانشغال، المحكوم بالخساسة، والخوف، وليس بالحزن أو الأسى ـ بحسب الحكمة الصينية القديمة ـ  وهو الممهد لدرب امتد من العدم، كي يستكمل دورته،  كما قال فلاسفة العراق ـ قبل ان يصب البلد باليباب عندما اختره الإله انكي الرجل المخصي والمرأة العقيم سلالات لا تعمل إلا على إدامة سِفر فنائها ـ وتجمعت فيه، كما في ألواح الحكمة ـ من سومر وأكد وبابل وأشور وصولا ً إلى آثار دماء ضحايا كل من سعى إلى تدمير العقل، والإرادة، والمنطق! فالشيطان القديم سيجد تحديا ً دائما ً طالما التراكم سيقسم البشر إلى متضادات، تحديا ً يسمح له بالمراقبة، كي لا ترى الضحية كم الجلاد توغل بعيدا ً في العدم، لأن لذّات الجلادين وحدها غير قابلة للتصالح مع الزوال، ذلك لأنها لم تر ابعد من باطل الأباطيل: البشر في مواجهة كراهية تضع ـ بين حين وحين ـ العالم عند حافة دورة من دوراته.




تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.