الأربعاء، 8 مايو 2013

قصص قصيرة جدا ً-عادل كامل





قصص قصيرة جدا ً



عادل كامل
[1] صخور

    ضرب حجا ً بحجر، كي يستنجد بأحد ما، وقد أصبح وحيدا ً في الصحراء، بعد ان نجح في اجتياز الحدود، ونقاط المراقبة، ليسأل نفسه، ما اذا كان يمتلك قدرة للإصغاء، وتمييز ما تمثله الأصوات، في فضاء يحاصره من الجهات كافة، وهل باستطاعته ان يعرف ما اذا كان وحيدا ً حقا ً، مثل الصخور التي رآها متجاورة، متراكمة، ومتفرقة، أم انه مازال يأمل بالعثور على شريك له في العراء..
   وأعاد الإصغاء إلى الصوت، لحجرين، لهما صوت حاد، ناعم، كاد يرى ذبذباته تتلاشى أمامه: أتراها تأن، أم تشكو، أم تستغيث، أم لا معنى لتصوّراتي...؟ ودار بخلده انه لم يعد يميز ما اذا كان هو يفكر في الأصوات أم ان الأصوات بعثت فيه الأفكار...؟
   وكف عن التفكير، مرسلا ً نظرة امتدت مع الأفق: صخور سوداء، رمادية، وأخرى زرقاء وخضراء داكنة، منتشرة، ومتراكمة، ومتفرقة، ومتجاورة...، كأنها بقايا بركان قديم، أو أسوار مدينة غادرها زمنها، هامسا ً مع نفسه، من غير صوت: إنها ليست وحيدة...، فأنا هو الوحيد. ورفع صوته، قليلا ً، وخاطب نفسه: كلا، إنها ليست وحيدة، ولا أنا وحيد. ذلك لأنه، عندما خيم ظلام الليل، وقد ترك جسده بين الصخور، أحس بألفة طالما  افتقدها، فتذكر انه، في قريته، حلم ان يجد صخرة ما لا تتركه يذهب ابعد من حدودها: حدودي، وأنا لم اعد وحيدا ً أبدا.

[2]  رماد
   وراح العالم يفكك حفنة الرماد إلى أجزاء بالغة الصغر، حتى شعر انه فقد كيانه واخذ يحّوم بين فراغات وفجوات أجزاء الذرات. فدوّن ملاحظة في دفتره انه لا يراها إلا أكثر ترابطا ً، وتماسكا ً، وانه لا يجدها تقع خارج حدود وعيه لها: فثمة جسور لا مرئية بيننا لا تدعها تبتعد عني إلا وأنا معها نمتد داخل حدوها الشاسعة.
  ودوّن: إلا ان هناك ومضات واضاءات وتصادمات وتداخلات لا تكف تبث أصواتا ً خفيضة لها ألوان لا تحصى كأنها ..
   وتوقف عن الكتابة وهو يستنشق رائحة عطر نباتات رأى ذراتها تشغل المساحة ذاتها لذرات حفنة الرماد التي انشغل بتفكيكها في ذلك الصباح. فتتبع امتداداتها واتساعها وانصهارها حتى لم يعد يميز الألوان عن الأصوات ولا عن ملامسها وهي ترفرف بمحاذاة حافات جسده.
   فعاد إلى حفنة الرماد، فراها قد غابت، لكنها تركت بقعة رمادية شاهدتها تمتد مندمجة بظلال أصابعه وهي تغادر حدود الورقة، كف عن النظر، وقد أدرك انه غدا مراقبا ً، فترك بصره بتوحد بالأصوات، وبصره يتوارى ممتزجا ً بصمت الأصوات وهي تلامس حافات رغباته النائية.
[3] مرآة
  لمح بهدوء انه مازال يرى ما لا يحصى من الذرات أمامه خارج إطار المرآة وداخلها أيضا ً وهو لا يعرف ما اذا كان يحاور نفسه أم ان أحدا ً ما كان يحاوره، عندما، بالهدوء ذاته، فتح فمه وقال انه لا يرى سوى طائرا ً وقع في الفخ، وهو يراه يموت انتحارا ً بدل الاستسلام لشبكة الصياد. ابتعد عن المرآة كي يجد جسده أكثر التصاقا ً بها، تارة، ويراها تقترب منه وتسكنه تارة أخرى فيفقد المسافة بينهما: لكنك لم تكن طائرا ً، ولم تعش في البرية، ولم تقع في الفخ.  تاركا المرآة تفقد حدودها فيما كان جسده يتناثر ذرات ناعمة رآها تغادر الإطار، لتتكون، وتتلاشى، داخل إطار المرآة، مرة ثانية. إنما لمح ومضة لا صوت لها تسحبه فيرحل معها كي يرى الفراغات اتسعت وهو لا يمتلك إلا ان يبقى ضمن حدود المرآة: آ ...ه، ها أنا أدراك أيها الطائر انك تذهب ابعد مني وأنا أدرك تماما ً استحالة مغادرة هذه المرآة. إنما وجد أصابعه تتخلى عنه وهي تمتد مع الومضات حيث شاهد صمته يرسم لونا ً شبيها ً بطائر يحدق في عينيه، وقد وجد انه لا يمتلك إلا ان يتتبع اقترابه منه حتى لم يعد يكترث ما اذا كان ما رآه محض حلم سكنه، أم انه كان وحده يخفي رغباته بعيدا ً عن المرآة..؟
[3] متاهة
    وجدت نفسي لا امتلك إلا ان أؤدي ما طلب مني، مع أنني كنت امتلك قدرة وضع حدود أو مسافات بين تخوم أحلامي وشرودي، من ناحية، وبين الوهم وأعراض اختلاط عمل حواسي، من ناحية ثانية. طلبوا مني ان اصعد إلى الأسفل، وانزل إلى الأعلى، فعلت ذلك بإرادة من يجهل أأنا اخرج من الظلمات ان ارجع إليها، فمشيت خلف طابور، ثم رأيت طابورا ً يمشي خلف خطاي، لم أتعجب أو اندهش، فلم يكن لدي ّ الزمن كي اعرف ما اذا كانوا يراقبونني أم أنا هو من كان يراقبهم، قالوا المربع دائرة، والهرم  فراغ قاعدته في القمة، ومنحوني الرماد كي استخرج منه النار، والماء كي انسج منه أبوابا ً، ولم تكن لدي ّ قدرة الاعتراض على استبدال أصابعي بأجنحة، وراسي بصندوق، فلم أميز الظل عن النور، ولا الغائب عن الحاضر، بعد ان زخرفوا جسدي بأشكال كنت أتعقب حركاتها، ثم أخيرا ً لم أجد شيئا ً اعترض عليه، فأمروني ان امشي فوق حبل، لا وجود له، فبلغت نهايته، ليطلبوا مني ان ارجع، فرجعت، فأدركت ان القصة لا بداية لها، مثلما أنني أصبحت اجهل ما اذا كانت ثمة خاتمة لها. فوضعت نقطة لكنني لم استطع ان أغادر الكلام.
[4] مسافة
    عندما لم تعد تصلني رسائلها المكتوبة بخط يدها، وكادت ذكراها تأخذ طريها إلى الغياب، لم اعد منشغلا ً بإقامة علاقة تفضي إلى المصير نفسه. إلا أنني ...، وجدنها، مصادفة، عبر شاشة الحاسوب، تحدق فيّ. فاستعدت ـ من غير شعور ـ تعرجات كلماتها المتلاصقة، وخطها الناعم، والفراغات المشغولة بإضافات وتعديلات واعتراضات برسومات طالما استمدتها من عصور موغلة في القدم...، إنما عندما وجدتها تبادلني الابتسامة الأولى التي جرجرتني إليها، لم تكن لدي ّ قدرة وضع مسافة بين ومضات فتاة بلغت خاتمة العمر عنها وهي تهرول في الغابة. فلم  تكن لدي قدرة محو المشهد، إنما، تركته يستكمل فاتحته، ويأخذني معه، مرة أخرى، إلى الغياب.
[5] رصاصة
 مازلت أتخيّل الرصاصة الكامنة في السلاح المصوب باتجاه جبيني، وأنا أصغي إلى صوت الرجل الملثم:
ـ هل هو أنت عادل كامل..؟
قلت له وأنا أتحسس الرصاصة تخترق جمجمتي وتستقر في موضعها المحدد لها، في مركز الذاكرة:
ـ وكيف عرفت، وأنا نفسي اجهل من أكون ..؟
ـ هويتك لدي ّ، أم لديك ما تريد ان تبوح به ..؟
     تساءلت، مع نفسي، كم ثانية علي ّ ان أتحملها كي لا أراه، وكي لا يراني، وربما كأن شيئا ً ما لم يحدث.  أفقت، بعد ان لمحت مرور الرصاصة باتجاه آخر. فكم ثانية استغرقتها الرصاصة للعبور من سلاحه كي تستقر في رأس رجل لم يرفع بصره عني، وأنا أيضا ً مازلت أحدق فيه.
[6] حضور!
    لم يكن بحاجة ليرى ان أمامه أكثر من لغم، وبجواره، من اليسار، كتلة بشرية لا يعرف إن كانت لشاب يافع، أو لفتاة في ريعان الصبا، وعلى اليمين منه، شاحنة أو عربة أو دراجة مفخخة يجهل لحظة انفجارها، ولم يكن بحاجة ليرى ان كائنا ً ما مجهولا ً يحمل كاتما ً يتتبع خطاه، من الخلف ...، فهل باستطاعته ان يتقدم، أم عليه ان يتراجع، أم يتجه إلى اليسار، أم إلى اليمين، لأن السماء ذاتها، رآها رمادية، وملونة بالدخان والغبار، والأرض، تحت قدميه، زرعت بالعبوات. آنذاك أدرك انه لا يمتلك حلا ً كي يؤكد انه اجتاز الجهات كلها حيث لم تعد ثمة مشكلة، مادام ـ هو ـ يمتلك حضورا ً ما لغيابه، عدا انه كان واحدا ً من الحشد. فقرأ قصيدة الملا عبود الكرخي(المجرشة)، مع نفسه، وترك جسده يذهب إلى المجهول.
[7] اضطراب
    أأنا هو الذي أغيب عن العالم، أم ان العالم هو الذي يغيب عني..؟ كذلك دار بخلده، بشرود، وهو  يراقب ان فجوة ما آخذة بالاتساع، تارة، وتتقلص حد الصفر، تارة ثانية.
    كان لا يعرف كيف أصبح محاصرا ً بجدران تسوّرها جدران أخرى، إنما لم يستبعد فكرة ان الجدران كانت سابقة على وجوده، وستبقى قائمة بعد غيابه.  وعاد يسأل نفسه من غير إرادة: أهو يبتعد عني أم أنا ابتعد عنه..؟ كي يجد الفجوة تتسع حتى فقدت حدودها، ثم يراها تتقلص حتى تغدو بلا حافات. وعندما حاول استعادة الأسباب التي منحته الاستجابة للحياة، وجدها غائبة، بلا ملامح، ولا علامات لها، كي يدرك انه لا يمتلك الأسباب المغايرة لها، كي يستجيب لرحلة الغياب. آنذاك لم يجد ما يستعين به كي يبرهن انه يمتلك إرادة نفي الإثبات، وليس لديه قدرة إثبات النفي، إنما لم يكن يمتلك قدرة الاختيار، مثلما لم تكن الأوامر، بشأنه، أكثر من ذرات لم ينشغل ما اذا كانت تقترب منه لتلامسه أم أنها تمتد وتبتعد كي يرى انه لم يعد منشغلا ً بها، مثلما لم يعد منشغلا ً ما  اذا كان العالم فائضا ً عنه، أم هو الذي أصبح فائضا ً عن الموجودات.
[8] الدكتاتور
   قال مساعد الجنرال يخاطب آمره:
ـ ليس مهمتنا إسقاط الدكتاتور، سيدي!
ـ ما المهم اذا ً..؟
ـ المهم ان نتعرف على الأسباب التي صنعت الدكتاتور.
ـ وماذا أيضا ً..؟
ـ كي لا نستبدل الدكتاتور بآخر!
    آنذاك أمر الجنرال حرسه الخاص بزج مساعده في السجن، لكن المساعد، قبل ان يتوارى إلى الأبد، قال:
ـ لم اقصد انك ستكون الدكتاتور الجديد، بل قصدت انك لن تقدر ان تحافظ على الدكتاتورية إلى الأبد!
[9] متاهة
    لا استطيع ان احدد ملامحه، ولا هيأته، ولا أي اثر له عدا انه طلب مني ان امشي خلفه. لم اعترض. لأنني كنت لا امتلك قدرة اتخاذ أي قرار آخر. فتح نفقا ً فدخلت. لا أتذكر كم مضى علي ّ من الزمن، إنما، وأنا أعيد حساب الأيام والأسابيع والأشهر والسنين، لم اعد لمرور الزمن، فلا أنا في حلم، ولا أنا في كابوس، ولا أنا امتلك قدرة تمييز ما اذا كنت حيا ً أو ميتا ً، أو تحديدا ً ما اذا كنت داخل مدينتي أو خارجها، إنما مكثت أتتبع ظله، تارة، وأنا استدل باستنشاق ما يتركه من رائحة تارة أخرى، عبر الممرات، وأنا اجتاز الأنفاق، من سراديب إلى مغارات، كي أجد أنني لم اعد امتلك إلا ان أتجاهل ما كان يدور في راسي، ولكن الذي لم أبح به كان وحده قد سمح لي بالحفاظ على عدم إثارة غضبه، أو دفعه إلى اتخاذ أي قرار قد يكون حاسما ً.  ثم اعترف لي أخيرا ً بأنه لا يمتلك شيئا ً ما يقوله، فلم يعتذر، لا لأنني لم أطالبه بالاعتذار، بل لأنه لم يخطر ببالي ذلك، سمح لي ان أجد نفسي وحيدا ً، عند بوابة، كي ابتعد عنه. فانا تحررت منه بشروطه إنما يخيّل إلي ّ أنني لم استجب لها تماما ً، فمشيت، ووجدت نفسي استنشق الهواء، وارى أشجارا ً، ومنازل، وأنا أصغي لأصوات طيور، وللمرة الأولى وجدت أنني امشي فوق الرمال، وأصابعي تقودني إلى مساحة بلا أفق.
   فجأة وجدت من يمسك بي، لم استطع ان أرى ملامحه، ولا هيأته، ولا أي اثر باستطاعتي ان أميزه، وقال لي:
ـ تصالحت معه..؟
ـ مع من؟
ـ مع الموت!
   لم أجد الكلمات المناسبة للحديث عن حياة أصبحت بلا هيأة، ولا اثر دال عليها، لكنني فتحت فمي:
ـ لا! لم أتصالح معه، ولا هو، سيدي، تصالح معي!
   آنذاك تركني ابتعد عبر درب لم يشغلني ما اذا كانت له نهاية، أو حافات، مثلما لم أكن معنيا ً ما اذا كان يتتبع خطاي. كان الوقت آنذاك بلا لون، ولا صوت، وليس ثمة ما يدل عليه، وأنا أيضا ً لم أكن مهتما ً ما اذا كنت امشي فوق طريق ممحو، أو أنني سأستعيد ما حدث لي في ذات يوم، لأنني كنت، مرة ثانية، لا امتلك قدرة تحديد ما حدث لي، وأنا أجد من يتتبع خطاي، حيث لم اعد معنيا ً بما جرى لي في ذلك اليوم.
[10] اختيار
   ـ لماذا تخليت حتى عن رغبتك في تنفس الهواء..؟
     لم يجد كلمة للرد، أو التوضيح، فمكث يحدق في عينيه، من غير شرود، أو فزع، أو لامبالاة. كان يرى كيف ينسحب الهواء، ويغيب، كالزمن، لم يعد يرفرف، كي يحدق في الفراغ، وقد غدا بلا لون، ولا كثافة، ولا امتداد.
ـ انه الاختيار الوحيد الذي جاء بعد استحالة ان تكون لدي ّ اختيارات أو ...
   ووجد انه، بهدوء، يغيب، في اللحظات التي رآها تتوارى، من غير اثر، أو طلب مساعدة، أو استغاثة، كي لا يبوح بالسر الذي تخلى عن كتمانه طوال حياته، تام الحضور، ولا ينتظر تأويلا ً أو دحضا ً بعد الآن.
[11] مساواة
ـ أراك تبتسم، مرحا ً، يا صديقي العنيد، بعد ان اعتقدت انك لن تعود إلى أيام مرحك الأولى؟
     تمتم بفم رخو تاركا ً كلماته تخرج مبعثرة:
ـ صديقنا المطرب ...، الذي غادرنا، قال أنني ابن زانية، وقال أنني عملت جاسوسا ً، وأنني استنجدت بالموت..!
ـ عجيب، وماذا قلت له؟
ـ سألته، من أخبرك، فقال: أمي!
   ابتسم الآخر، ثم أغلق فمه برهة، كي ينفجر  ضاحكا ً:
ـ وكأنه تجاهل انه ولد لأم عقيم!
ـ وكيف عرفت، يا صديقي..؟
ـ أمي أخبرتني، قبل ان ترحل إلى العالم الآخر، وقالت لي، أنهما، أمه وأمي، لم تتركا مخصيا ً لم تنجبان منه وضيعا ً، يشهر بالناس، ووضيعا ً ، مثلي، راح يدافع عن وضاعته! لا لأننا ولدنا في القاع، بل لأن القاع أنجبنا فسمح له ان يهرب ليشهر بنا، ونحن تشبثنا بالقاع كي ندافع عن وضاعتنا!
ـ مساواة!
  وغرق في الصمت، لبرهة، ليجد انه راح يحدث نفسه، بصوت خفيض:
ـ أكيد ان أمي أدركت لا جدوى الاعتراف، فولدها، لم يعد لديه ما يخسره، كي يحزن عليه، حيث المطلوب، في الأصل، إدامة هذا الذي غدا بلا خاتمة، وقد اتسعت مساحته، وأصبحت بلا حافات!
ـ حقا ً لا ديمومة إلا للذي لا يدوم!
[12] اعتراف
    ـ انهض.
    أنا لا اعرف منذ متى لم أصغ إلى مثل هذا الأمر. نهضت. قالوا: تقدم. تقدمت. فانا لم امش خطوة اثر خطوة منذ زمان بعيد، ثم وضعوني أمام جمهور غفير من الناس. قالوا لي: تحدث. حقا ً أنا لا أتذكر منذ متى لم يعد لدي ّ فم أغلقه، فكيف سأتكلم.  رفعت أصابعي بحثا ًعن شفتي ّ، وعندما عثرت على فمي، لم أر أمامي إلا وجوها ً دائرية، ومثلثة، ومستطيلة، ومربعة، وأخرى غير منتظمة، لا علامات تميزها، فسمعت من يخاطبني ـ وأنا في شرود ـ: تكلم.
    لا أتذكر ماذا قلت، لأنني لا أتذكر منذ متى لم أتكلم، ومنذ متى صمت، ولكن الزمن امتد حتى لم يعد لدي ّ زمن آخر اصمت فيه، أو أتكلم.
    فجأة عجت القاعة بالتصفيق. فقالوا لي:
ـ انهض!
   نهضت، ثم سمعت من يقول:
ـ الآن عد إلى مأواك.
     لم ارفع راسي كي أرى ما كان يحدث لجاري، الذي لم أره يفتح فمه منذ زمن بعيد، فأصغيت إلى صوت كان يذهب ابعد مني، فكنت، منذ تلك اللحظة، أتتبع محوه، كي لا يراني احد، وللحق كي لا أرى أحدا ً أيضا ً. وأنا اردد من غير كلمات في نفسي: يا ليتني كنت ذرة رمل في أي جحيم عدا هذا الذي مازال يستنطقني وأنا اجهل هل غادرته، أم أنا مازلت أتشبث به؟
[13] ديمومة
   ـ تعال قل لي، كيف نجد حلا ً لهذه المعضلة.. متابعا ً:
ـ  فانا لا اعتقد ان إمبراطور كوكبنا، ينتظر منا الطاعة، حد محونا، بل هم أتباعه يقولون ذلك، فانا لا اعتقد أننا، في ما نبذله طوال حياتنا من كد وشقاء في هذه الدنيا، له المعنى ذاته الذي، في نهاية المطاف، ينتهي بالفراغ، والموت! فالأول يخلو من المنطق، مثل الآخر الذي هو ضده تماما ً. 
   ابتسم زميله الذي طالما شاطره العزلة، والابتعاد عن الصحب، وسأله:
ـ هل كنت تريد ان تقول ان المعضلة التي لا سبيل إلى حلها، ليست معضلة؟
ـ تماما ً...،ولكن اخبرني ما هي ...؟
ـ لو أخبرتك، فعلي ّ ان أجد حلا ً لمعضلتك، كي أجد الخاتمة، التي بلغت النهاية ذاتها التي بلغها الجميع!
ـ تقصد إننا لا نمتلك إلا استكمال هذا الذي، كلما تقدمنا فيه، غدا لا ينتظر إلا الزيادة، كما لا يقبل إلا المزيد منها. وأضاف:
ـ فضع صمتك حيث للكلام المعنى الذي يمنح التأويل عبوره من المجهول إلى ما هو ابعد منه. فأنت مثل ذرة بين عدد لا نهائي من الذرات، جميعها تسكن ذرة إنما خارج أدوات الحساب!
ـ حقا ً، الآن، صرت أدرك لماذا إمبراطور كوكبنا لن يدعنا نتنفس إلا كي ندرك لو أننا تخلينا عنه، فإننا سنضطر إلى السير في الدرب ذاته الذي يقود إليه أيضا ً. فاختر، يا زميلي، ان لا تختار، كالنار التي عليك ان تطفئها بالنار، وكالمسافة التي عليك ان تسلكها كي تجد من يسلكها بعدك كي لا تكون ثمة نهاية لهذا الحوار!
[14] وصية
   قبل ان يذهب إلى النوم قرأ وصية جده:
ـ " لم اقرأ ذلك في كتاب، أو نقلا ً عن احد، أو كنت اطلعت عليه صحيفة، بل شاهدته، وجاورته، وغطست فيه، ألا وهو ختاما ً هذا الذي لم يعد يرد بخاطري، وأنا أرى تتمات تلك المقدمات الشبيهة باللعنات، كأنها القدر، إزاء اختيار طالما حلمت ان أراه، لكن لا الظلمات لها نهاية، ولا النور باستطاعته سبر أغوار قدراتي على تحمل ما  لا يحتمل، الأمر الذي صنع مني واحدا ً شبيها ً بهؤلاء الذين تراهم، عبر الأزمنة، إن خالفتهم دفنوك، وإن تجنبتهم لم تجد شيئا ً ما تعمله, وها أنت تراني يا حفيدي كيف مارست البرمجة ذاتها التي سمحت لي بالوصول إلى هذه الخاتمة: الذهاب إلى النوم...! بعد عقود، لم اسمع فيها كلمة واحدة إلا ورأيت الريح تمحوها، ولم أر فعلا ً يدوم أكثر من زمن زواله. ولو قمت بقراءة كلماتي قراءة لقراءتك ستكتشف أنني لم أكن إلا واحدا ً من ذلك النمل، الرمل، إن غادر مساره هلك، إن سلكه فلا غبار عليه، كي تدرك إنها لعبة إن لم تجد لعبها فكأنك لم تدخلها، وأخيرا ً، لا اختيار تقدر ان تختاره إلا الذي لا تستطيع أبدا ً ان تختار سواه!."
ترك تكملة قراءة ما في الوصية، وقال مع نفسه:
ـ ليس لديّ سوى ان اذهب وحيدا ً إلى النوم، فان لم افعل فانا لن اقدر على تحديه مهما مكثت مستيقظا ً. ولكن يا جدي هل استمتعت بالظلمات وأنت تتوهج في سبر أغوارها؟
[15] ضريح
    لم يبق لديه من الأثاث، أو الأدوات، أو ما له قيمة لسد نفقات النقل، وشراء مساحة من الأرض، يتوجب دفع ثمنها، للحفار، ولصاحب المقبرة. لقد حسبها بعشرة أضعاف راتبه التقاعدي، مما جعله يبحث عن مبالغ تسد نفقات النقل، والحفر، وشراء شاخص يحمل اسمه، لكنه كتم ومضة ساخرة تخيل فيها انه، في ذات يوم، حلم ان يكون ضريحه كهرم خوفو، أو كتاج محل، أو كتمثال الحرية! لولا انه لمح حلا ً ما دعاه للاسترخاء: النار. إنما سرعان ما صدم بهواجس الميتافيزيقا، فأعاد حساباته، مرة أخرى.
    لا قيمة للأدوات الخشبية، أو المعدنية، أو غيرهما، وهذا ما يجعله ينتظر ستة أشهر أخرى، ولكن قد لا يؤجل الموت حضوره، وقد شم، منذ أيام، الرائحة ذات الأصوات الرنانة، عبر أحلام كانت تمحو أثارها بنفسها وتتداخل دامجة اضطرابها بالبصريات والمجسمات المتعددة الأبعاد. لكن انتظار جمع الرواتب أحبط لديه فكرة الانتظار،مما اضطر ليسأل نفسه: ربما هناك من يشتري ...، وسكت. ثم سأل نفسه بشرود: ربما يعاقبني الله! فقال بعد برهة:  كي أساعد إنسانا ً آخر بحاجة إلى قلب أو شريان أو غدة ...! إنما كتم الجواب لأنه قال انه لو كان يمتلك أعضاء لم تبلغ نهايتها لكان عاش حتى يستطيع جمع مبلغ الدفن.
   فكر ان يذهب ويبحث عن مكان بجوار ضفاف النهر، هناك، ما أن يرى انه لا يقدر على التنفس، حتى يدع الماء يجرفه.لا..لا..لا...، ورفع صوته: كم مرة كدت افعلها لولا البرد. إنما لم يفعلها لا في الصيف، ولا عندما كان منشغلا ً بمراقبة فصل في الربيع. 
    وطرد فكرة ان يحفر، داخل غرفته، حفرة بحجم سريره، ويرقد فيها، لأنها تتقاطع مع القوانين، والأعراف! فماذا يفعل ..؟ شرد ذهنه: لمن..؟ ولم يجب. مد يده متلمسا ً حافات رأسه، ووجهه، وتركها تلامس عنقه...، ثم أضاف، وهو يشم أصوات معادن يتناثر صداها:
ـ انهض!
     لكنه استعاد، في لحظة، قبل ان يستعد للنهوض، انه باع الغرفة التي يسكنها، والتي تعود ملكيتها له، ووقع العقد، شرط ان لا يتلف صديقه، الكتب التي كان اقتناها قبل عقود، وما دوّنه، والخاتم الذي طلب منه ان لا يسرق، بل ان يدفن معه...، لأن ذلك كان بمثابة وفاء لوصية قديمة، حيث أصبح المبلغ لا يكفي كأجور للنقل، والحفر، والشاخص حسب، بل كأجور عن إعلان لنشر خبر وفاته، لكن ـ وقد نهض بلا مبالاة ـ تذكر ان صديقه قد يسرق المبلغ، بعد جمعه، فماذا يفعل آنذاك، وهو الذي لم يقدر ان يطالب حتى بعدم سرقة أحلامه في الحياة، فألغى الصفقة، لا بدافع الشك الذي زعزع آخر أمل له في الوجود، إنما كان قد وعد جاره، بعد الموت ـ وبوثيقة تنص على تنازله عن ممتلكاته ـ  ان تكون بمثابة امتنان لصداقة ما لا غبار عليها.
   إنما، عند الفجر، كان يرى طيفا ًيغادر جسده، يرفرف، ويغادر جدران الغرفة، ليرى انه غدا يمتد، ويتسع، خارج حدود وعيه، وبعيدا ً عن الهواجس التي كادت ان تعيده إلى الحياة!

     

ليست هناك تعليقات: