بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 4 مايو 2013

قراءة في مجموعة حامد الراوي "هوامش كحل" عادل كامل



قراءة في مجموعة حامد الراوي "هوامش كحل"
الإقامة في السفر


عادل كامل
[1]
    إن كانت قصائد حامد الراوي كتبت لتقاوم صدمة الغياب، أو لتمتد بديمومتها، فالشعر لم يترك إلا أثره وهو يحول الأصوات إلى علامات:
[يتسللون من التراب ليسجدوا   
ويغادرون إلى التراب ليولدوا]
   كأنها ترجعنا ـ العلامات ـ إلى عصور ما قبل الكتابة؛ تلك التي تركت أصواتها تسكن رسومات الجدران، وفي المجسمات، وفي ما دفن في الرماد. إنها (الرهافة) أو أقدم جذر لتعريف الصدمة، إزاء عالم لا تمتلك فيه الأشياء، ولا النبات، ولا الإنسان، إلا ان تمد جسورها من اللازمن إلى التتابع، والتأمل، والعراك، كي تجد أنها كوّنت نظامها في الاندثار.
    فما ـ هو ـ الشعر..؟ أهو اختزال مسافة الصدمات، أم مراقبتها، أم ـ هو ـ الذي يعيد صياغة النهايات بمقدماتها..؟
   ألا تبدو أسطورة (سيزيف) المعاقب، برفع الصخرة من القاع إلى القمة، مرة بعد أخرى، وحتى نهاية الدورة، قد ردمت الفجوة مع من اصدر القرار، وان دوره لم يعد   تنفيذا ً، للأمر، بل مساحة له، وانبثاقا ً لوجود غير قابل للإدراك، أو التعرف، وهو الشبيه بما قاله إبليس لآدم، بعد ان سأل الأخير الأول: لماذا أغويتني، فقال: وأنا من أغواني، بحسب الغزالي في واحدة من استجاباته للعبور من الكلام إلى الصمت!
     إن الراوي، هنا، لا يروي، بل وجد كيانه يدوّن امتداده بين السابق على الحضور، والملحق بالغياب: انه يعيد نسج الثيمة ذاتها التي بلورها السومري وهو يبحث في مفهوم: (حياة)، في (إنانا)، بما يتضمنه من عناصر الجدل، وإشارة إلى أقدم إشكالية ستبقى كلما بلغت نهايتها، تجد  تدشينا ً يعيد نسج نظام: الميت من الحي، كما الأخير، لم يخرج إلا من الموت.
     لكن هذا كله اشتغل عليه المعري، لا بصفته شاعرا ً، أو فيلسوفا ً، بل لأنه أبصر في تاريخ الحضور وهو يتلمس انحداره، كالدورات، نحو ما هو ابعد من: اللغة، ودوافعها، ومضامينها، ورمزيتها، ومشفراتها، كي ندرك ان حامد الراوي، هو الآخر، حمل لوعة أسلافه أو سابقيه، في التأمل الانطولوجي، بعيدا ً عن مشاعر الأسى والأسف، هذا النسق بين الانفتاح والانغلاق. فالإنسان، في لمحة موجزة للزمن، تضمن شهادة المعاقب، بلا ذنب، ولكن، بحسب سومر أيضا ً، المذنب بالولادة.
    على ان فصل (المعنى) أو استحالة تحديده، عن اللغة، يبقى قائما ً، مادامت الأخيرة، أحيانا ً، ليست سوى حجابا ً، كالحياة برمتها ما ان تتوارى حتى تستعيد معناها، بعد الموت، وجودا ً لا تمتلك اللغة شيئا ً تقوله عنها.
    فهل الشعر ـ كالحياة ـ آلية للعبور، إنما، لهذا الذي يصعب حتى استبصاره بعد التدشين، أم هو السفر من غير خاتمة، لكن، الذي غدا إقامة، حتى بصفتها تضمنت نفيها..؟
    فالشعر، في هذا السياق، ينحاز إلى (الاستجابة) إن كانت غواية، أو قيدا ً تضمن حريته، أو  إنعتاقا ً مقيدا ً، إن لم يكن ـ هو ـ علامة لها، ولغزها، كالعدم ممتدا ً، الذي كان خاتمة لنهاية عصر بابل، قبل دخول العدد على الصفر. فثمة تلقائية اكتملت فيها مباديء النظام، إنما، للتدشينات افتتاحات لم تكتمل، وحتى إن بدت تامة الزمن.
   فليست الكلمات، هي التي، في البدء، بل محركاتها، وهي التي لم تترك إلا مقاومة لمحوها، بعد ان أصبحت امتدادا ً للغياب. وكأن الحضور ذاته، لم يخف هذا الذي اشتبك بعناد مع عوامل محوه، واندثاره.
[2]  
    لا يكتشف جواد الحطاب، في مقدمته لقصائد حامد الراوي، بل يستنتج ان الشاعر (مراوغ بامتياز)، بالتوقف عند:
1 ـ اصطياده الشعر، بكمين الشعري، كامتداد أو كتعبير عن مفهوم الصيد.
2 ـ وما اذا كانت تجربته تنتمي إلى النسق العمودي، أم القائم على التفعيلة الحرة، أو النثر...، كي يستنتج ان التجربة في انسجامها مع الذات لتمثل مركز الشعر.
3 ـ ان الشاعر لم ينس المحرك الأزلي لشيطان الشعر (المرأة) فقدم لنا ـ يقول الحطاب ـ: نفسه عاشقا ً في زمن تخشبت العواطف فيه وأضاعت سحر رومنسيتها..ليقودنا إلى "عالمه الأليف كلما: أضاع الطريق إلى موته"
4 ـ ولا يغفل الحطاب ان جمهور الشاعر هم: العشاق والمجانين!
     كي يختتم إشاراته، بمقدمتها: أظنني قلت لكم ـ في البدء ـ انه شاعر مراوغ.
    فـ: (المراوغة)، لا تخص الشعر، بل الشاعر. بمعنى ان الحطاب بدأ من الشاعر ـ نحو الشعر، كي يسمح لنا ـ ولمن يتعقبنا ـ البدء من الشعر ـ نحو الشاعر، للانشغال بإشكالية مازالت كلما تعرضت للتفكيك، تمتد في المجهول: ما الشعر؟
   إن الكلام، مهما بلغ ذروته، في التجريد، كما في الإشارات عند المتصوفة، أو عبر المشفرات، في الأنظمة المنغلقة، بل حتى لدى الوعاظ أو الكهنة ..الخ، لن يوجه إلى: لا احد. واللا احد، كماهية، هو الذات، لأنها هي جزء من نظامها، وليس علة في ذاتها، أو تامة، أو من غير علة.
    فالشعر ـ كذروة في الكتابة، هو هذا الذي يتناثر في المرآة، أو الذي يقع خلفها، وهو السابق عليها والملحق بها أيضا ً. هو التاريخي ضد التاريخ، وهو، في الأخير، مساحة للتدشين:
[نطأطئ أعمارنا واقفين
ونسأل: هل من دليل على موتنا
كي نموت]
ماذا غير ان نعيد قراءة آلاف الآثار التي تركها إنسان المغارات ـ من الرماد إلى المدافن ـ  تحكي المحنة ذاتها؛ لأن قانون الصيد، في دورته، يسمح للضحية ان لا تكون فائضة. ولعل انشغالات جلجامش ـ الباحث عن ديمومة إمبراطوريته/ والمجد الذي اغتصبه أو كوّنه ـ عند أسوار أوروك، استنتج ذلك: لا ديمومة للمحكوم بالفناء. فأي دليل هو هذا الذي يمتلك نفي الدال في هذا التساؤل الانطولوجي، حتى اذا لم يكن جلجامش قد أدرك ان الخاتمة كانت جزءا ً من مقدماتها..؟
     ان حامد الراوي ينصص، يدفن ويوّلد، بنسق القانون ذاته. فهو يمنح المعقول بعده الآخر، ليس الشك، بل اليقين وقد تعرض للدحض. فالواقعي ظل، والأخير، لا ينفصل عن المحنة؛ محنة اكتشاف اللامرئي، كي يدوّن ـ باختيار ما لم يختره ـ في محنة الاختيار: لا لأنها محنة مرور، أو استغاثة، بل محنة إقامة محكومة بمكوناتها: تاريخها اللغوي، وتاريخها الايكولوجي:
[عبثا ً تخون لكي تخون
عبثا ً تداهن أو تهادن
ان ذاكرة الخيول
تمتد من معنى الصهيل
إلى
الصهيل]
   فالدورة تحافظ على لغزها، ليس خارج اللغة ـ كإحالات ـ وليس داخل اللغة ـ كتعبير ـ، بل كتأمل شارد توخى الإفاقة، أو الاستعانة بها، لمغادرتها. مرة أخرى، لا مراوغة، ليس لأن الشعري انتقل من المعنى إلى الصوت، ومن الصوت، الكلمة، الى المعنى، بل لأن الشعري بلغ مداه.
[مر العشاق على المعنى، واختلفوا فيه
كل يبحث عن معناه
لكني أعني
لا أعني إلا
أني
يحلو لي]
    فالمرور ليس غواية، أو مراوغة. فقد كان مدني صالح يرى ان حسن التخلص يماثل المعنى لكن من غير إفراط: انه ما قصده اليوت في الأرض الخراب: الجفاف وقد غدا غيابه تام الحضور. فأين يكمن المعنى، عندما تأخذ الأصوات طريقها إلى الغياب..؟ لا اعتراض يجد معادله في الاستجابة، لأنهما ـ معا ً ـ يدحضان الإرادة. لكن الكلمات ذاتها ـ في الشعر ـ تراوغ، تبتعد كي تظهر، وتتوارى كي تقترب. لكنها ليس محنة شعر، وشاعرية، وشعرية، بل حفريات في الأصل: الورطة. الأمر الذي لم يسمح للمراوغة إلا ان تتكتر، أو تقشر، أو تستبعد، كي:
[يتناسلون من الهواء
ويسقطون
على الخواء
ويرحلون]

    فالفناء شبيه بوجود لا مرئي؛ توارى، كي تغدو الحياة حدا ً بين لا وجودين، إنما، ليس ثمة عدم، لا بالمعنى المثالي ولا بقوانين الحركة، أو الزمن، فالجسور لا تمتد إلا في إقامتها،كما يقيم العاشق في عشقه، مستبعدا ً لحظة الإفاقة، وكما كانت رابعة العدوية قد عززت مبدأ العشق، بالتخلي عن ذاتها، كي تكسبها، فان ما لا يعّرف، لا يظهر إلا وقد أصبح خارج مداه، لأن الوجود ـ بأي معنى من معانيه ـ لم يتشكل بقوة حضوره، أو بلغز غيابه، وإنما استدعى هذا التأمل: تدشين التقدم ـ أو التراجع ـ في المجهول.
[3]
   لم تكن تحذيرات جورج ارول، بعد الحرب العالمية الثانية، حول تراجع دور اللغة، إلا تشخيصا ً لعصر كان (هيغل) قد لفت النظر إليه، بموت الفن، وتفكك عالم المثل، وتخليه عن ملغزاته، لصالح: التاريخ القائم على التراكمات، والاندثار.  انه عالمنا الذي يتقدم في المجهول، إن كان يحدث في أعلى الهرم، أو في القاع. فهي النتيجة ذاتها التي دونتها ملحمة جلجامش: اعمل بالحدود التي تمتلكها. ولم تكن حكمة الملحمة عمياء عندما طلبت من جلجامش ان يكون التاريخ هو ما يصنعه الإنسان، بحدود انجازه.
   حامد الراوي، في قصائده، يجعل المغادرة، وما ينحدر، ويمر، ويعبر، إقامة.  إنها اللحظة ذاتها التي صاغت دوافع من صاغ علامات في مواجهة زوالها: انطولوجيا محكومة بعللها، ولكنها لن تصبح خالصة، لأن (الخالص) لا معنى له خارج: الكلمات ـ الفن.
[أقيم ـ وحولي شتاتي
عزاء يليق بأيامنا، لا تموتي
ولا توغلي في النعاس الخجول
قفي عند باب الذهول
وقولي: سلام على الآفلين]
    لكن الشعر، إن فسر، غدا عددا ً في المعادلة، لأن ثمة ما هو أعمق من الخسارة، سكن الصفر، أي العدم ممتدا ً، يجد انبثاقه، حتى في عصر موت الإنسان. انه سكن غيابه عبر الاستثناء، حضور تجمعت فيه الغيابات، إنما الغواية تبقى عنيدة:
[ وأنا في حضرة خمس زنابق غامضة اللون
ان افتح بابا ً شرقيا ً
واطل على روحي
وارتب راسي
اعني شعري
قافية قافية لأنام]
    لأن المعنى لا يتوارى، بل ـ هو ـ في الأصل ـ غواية لغز:
[ مع من تقف
مع من تسير
وإذا دعاك السيف
هل تنسى ذراعك في السرير
أو سوف تحشر
عمرك المحموم
في حجر]
   فالمعنى سكن عبوره، لأن كل لحظة (قنص) ما هي إلا بحكم الغياب. فالشعر لا ينتهي عند خاتمة، كما في النثر، بل يستعيد مقدماته/ تدشيناته البكر التي لا تموت. انه الإثم بلا معاقبة، وهو ـ إذا ً ـ طهرها: سكن الأزمنة في اللازمن. فالشعري فناء أكوان لم تنشأ بعد. رثاء بلا سواد. تاريخ تراكمت أسفاره من غير حوادث، ومن غير صفحات. اهو لوعة خالصة...؟ لا ـ هو ـ في هذا النسق: المشي خلف ظل غدا ومضات، وصار يمتلك فضاء الأثير. فالشعري ـ عند الراوي ـ يكف عن الخسارة، بعد ان كف عن الربح، فثمة:
[هنا مرتقى الروح لا تلتفت إذ ْ تموت
وكن هادئا ً... ربما ... فالبيوت
 تضيء قناديل أطفالها مرتين
 ونم هانئا ً فوق ثغر السكوت
وكرر قنوتك
كرر نعوتك
حاول ... وحاول
ولا تلتفت إذ ْ تموت]
    الشاعر لا يتحدث عن تاريخ، وعصر، وكائنات فحسب، بل عن جذر، وعن أصول لهذا كله كامنة في ما هو أعمق من: اللغز. إنما اللغز يتم التوغل فيه، مثل سفر اكتمل بغياب الدرب، وبغياب المسافر، إنما لحظة التوهج شبيهة بمن ذهب ابعد من الزمن، كي يستيقظ الشك، براءة تقاوم عادات الأعراف.
   وها هو الشعر يحافظ على نظامه: الكلمات، بعد ان توخى الاستحالات:
[أضعنا الطريق إلى موتنا،
والتفتنا إليك
وكنا على بعد ذاكرة من غيابك
نحاول ان نستعين عليك بأنسابنا
كل عرق عناق
مرائين كنا، ولكننا أوفياء
وكنا نقشر أصواتنا، كي يظل الغناء
نقيا ً كما تشتهي
يا عراق]
فالتاريخي أصبح موقفا ً، وقضية، إنما، كي تمتلك  البذرة عنادها، وتصير هي نفسها تتابعا ً. فالزمن يمتلك ازدواجيته: الزمن المنحدر من اللاحافات، نحو، وفق منطقنا، نحو اللاحافات، إنما الشعري يغدو لمحو: قنص ـ وصيد ـ وخسائر، وهي التي تضمنت كل ما سكن (الكلمات)، من مشفرات، تحيلنا إلى ما قبلها ـ والى ـ ما بعدها. فالمحنة محنة ذات إزاء إشكالية لا حضور لها، عدا وجودها كأثير توارثت فيه ومضاته.
كي يذكرنا الشاعر ـ ضد الشعر ـ وضد الشعري، ولكن ليس من غيرهما:
[ نطأطئ أعمارنا واقفين
ونسأل: هل من دليل على موتنا
كي نموت
لنسقط من كوة في الكلام المعمى
ونحسبنا صاعدين
هنا مرتقى الروح، لا تلتفت، فالبلاد
ترتب أطفالها الميتين
وترزمهم واحدا ً واحدا ً بالوصايا
وتدمغهم واحدا ً واحدا ً بالدعاء
نشير إلى نجمة في الخواء
ونطفئها قانتين]
   فالكلمات لا تنتقل من المخفي إلى الظاهر، ولا من السطح إلى القاع، لأنها لا تؤدي دور الراصد للمرور، بل للإقامة ذاتها وقد أصبحت هي الكلمات.
فـ:
[ هل من دليل على موتنا
كي نموت]
    سؤال يستعيد لغز الصفر، الصفر المتحرك، المتضمن عدده، كاليقين بصفته قاصة أسرار، وشكوك، وليس مرورا ًمن غير الحفر في ما سكن الكلمات، وصاغ نظامها في التعبير. لأن صمت الكلمات ـ في الشعري ـ يكتم المرور وقد تجمد كعلامة يعيد (الآخر) صياغتها وهو يستأنف لحظة التأمل، وليس لحظة الغياب.
    فإذا كان علماء الفيزياء، يجهلون ما هو سابق على الزمن، فان الشعراء، لعوامل تكوينية خاصة بالرهافة، والمراقبة، يتابعون حركة الزمن: ليس من أين أتى، أو إلى أين يتجه، وإنما الظلال التي توجت مصادر الإضاءة، وسكنتها.
   لأن التدوّين، عند الشاعر، يبصر:
[على حجر، يظل لنا سجود
وتهتريء الخطى وبها نعود
ونهدأ ـ قيل ـ نهدأ، ثم نغلي
فيورق فوق ثغر الجمر عود
ويومئ للبعيد رماد كف
ونحن على أصابعها شهود]
   فالشعري يغدو كلمات مضادة للكلمة، كما السلعة محكومة باندثارها، لكنهما يتجددان، كما العشق، ابعد من الكلمات، ومن الأشياء، والعشاق، للمعنى ذاته وهو يدشن لغز (إنانا)، متوجة بالإقامة في العبور، بعد ان بعثر الزمن تاريخه وغدا ابعد من براءته، وآثامه، فما هو اشد إيلاما ً من الموت، ليس الموت، بل الرحمة! وهنا تسمح لنا ومضات حامد الراوي ان نتوسع في تخطي حدود الظلمات، حتى لو كانت قد تضمنت مرورها، وحتى لو كانت الخاتمة قد تأسست بمثل هذا العبور.

ليست هناك تعليقات: