السبت، 4 مايو 2013

ثلاث قصص قصيرة-د. بلقيس الدوسكي



ثلاث قصص قصيرة


د. بلقيس الدوسكي

سعادة

    هي طبيبة ماهرة في مجال تخصصها لكنها لا تكتفي بمطالعة المجلات الطبية وما يستجد في علم الطب، بل كانت تعد الدراسات والمقترحات والمواضيع العلمية، ومن اهتماماتها الأساسية اقتناء الكتب والإصدارات الثقافية والعلمية والأدبية والفنية وغيرها.
    تقضي أوقات فراغها اما بالمطالعة وأما بالعزف على آلة الكمان التي أجادت العزف عليها بمعظم الأنغام، فهي تعتقد ان للموسيقا تأثيرها المباشر على شفاء المرضى، وهي مسألة قديمة.
    وكان زوجها المهندس يأنس لعزفها ولمهارتها في طب العيون معا ً. وفي إحدى الليالي سألها:
ـ ماذا ترين في عيني؟
ـ أرى أشياء كثيرة.

ـ مثلا ً؟
ـ أرى الأفق الأزرق المليء بصور المحبة والحنان.
ـ وماذا بعد؟
ـ أرى صورة تجمع الحبيبين.
ـ من هما ..؟
ـ أنت وأنا.
ـ إنها أحلى الصور قاطبة.
ـ فهل ترى الصورة نفسها في عيني؟
ـ  وهل للموسيقا علاقة بالورد..؟
ـ نعم، وقد ثبت بعد الدراسات العلمية ذلك، فالورد يستجيب للموسيقا وله لغته القريبة من لغة الموسيقا وهي لغة هامسة غير مسموعة!
      كان زوجها يفتح معها موضوعا ً في كل مرة بعد ان تغلق عيادتها وتأتي إلى البيت مع انه لا يقل عنها ثقافة، ولكن ...، كل واحد منهما يستفيد من ثقافة الآخر في شتى المواضيع والاهتمامات. وفي ذات مرة سألته:
ـ لقد اقترحت علي ّ أكثر من سؤال، وأنا أحب ان أسألك.
ـ اسألي يا حبيبتي.
ـ بما انك يا عزيزي مهندس ناجح، فما أجمل التصاميم التي تفضلها؟
ـ التصاميم المتطورة، والمعاصرة، شريطة ان تحافظ على تاريخنا وحضارتنا، فضلا ً عن الجمالية التي تواكب إيقاع العصر.
ـ وما هي الجمالية التي تعتمدها؟
ـ استوحيها من الجمال الكامن في عينيك، ومن اهتمامك بعيني، وعيون الآخرين! 
ـ خاطرة حلوة، أكثر مما هي إجابة!
    وتناولت كمانها وعزفت له مقطوعة موسيقية عنوانها (حديث العيون) فاهتز لها طربا ً وداهمه النعاس، لكنها استطاعت ان توقضه بمعزوفة صاخبة بعض الشيء، فقال لها:
ـ الموسيقا العذبة، أما ان يغفو الإنسان على أنغامها وأما ان توقضه، فتوقض معه مشاعره الجميلة.
ـ حبيبي، أنا على موعد غدا ً لمعالجة عيون شابة جميلة، فدعنا ندخل إلى غرفتنا ونأخذ قسطا ً من النوم بدعوة من نداء قلبينا!
ـ وهل هذه الشابة أكثر جمالا ً منك..؟
ـ الجمال يا حبيبي، ليس جمال الوجه، وإنما هو جمال الروح، والقلب، وعذوبة الكلام، وصدق المشاعر.
ـ الذي أتمناه ان تكتبي القصيدة التي نظمها قلبي على شاشة عيوني عندما أنام، فهي أجمل ما تقرأين في الأحلام.
ـ متى تعلمت الشعر يا حبيبي؟
ـ من خصلات شعرك، ومن رموش عينيك، ومن الدفء الذي أحسه وأنا بجانبك.
ـ إذا ً، فانا أتمنى لك ان تكتب قصيدتنا.
ـ إنها قصيدتنا التي ندوّنها من غير كلمات، إنما نراها تنبثق بأجمل الألحان وأكثرها دفئا أيضا ً.


حكاية لك ِ ولي أيضا ً!



  استأنفت رحلتها مع هدوء أعصابها بعد ان كانت في ذروة غضبها وتذمرها مما عانته من أذى، ثم سلكت طريقا ً آخر غير الطريق الذي تعثرت فيه خطاها وأعطت لكل خطوة نقاطا ً من الضوء الأخضر وهي مصرة على اجتياز أي حاجز يعترض طريقها الجديد.
    وضعت الأمس وعذابها وراء ظهرها وأضرمت نار غضبها على  ذكرياته وصوره، ولم يبق منه أي اثر في سجل حياتها، لكنها حملت معها التجارب والعبر وحسبت لكل خطوة ألف حساب.
     نست الأشياء كلها عدا صديقاتها الحميمات اللواتي وقفن معها في أيام الشدائد، واشتاقت لزيارتهن بعد فراق طويل:
ـ أهلا ً يا صديقتي الحبيبة.
ـ لقد أوحشني غيابي عنك ِ، وهزني الشوق إليك ِ.
ـ ولكن لِم َ كل هذا الغياب الطويل الذي أقلقني؟
ـ لقد أرغمتني الأيام على هذا الغياب المر.
ـ وما هي أخبارك يا عزيزتي..؟
ـ بالنسبة لأخبار الأمس فقد طواها النسيان، وأما أخباري الجديدة فمازالت في الغيب، لأنني فتحت صفحة جديدة مازالت بيضاء.
ـ أسأل الله ان تمتلئ بأسعد وأحلى السطور والبشائر.
ـ شكرا ً يا عزيزتي.
ـ وماذا عن ..
ـ لا تكملي...، اعرف عمن تسالين، فالذي تسأليني عنه يا صديقتي قد حرق كل عهوده في لحظة واحدة غير متوقعة!
ـ ماذا فعل..؟
ـ فعل ما لم يكن بالحسبان أبدا ً، الأمر الذي جعلني أعيد النظر في حساباتي كلها، وأغيّر أسلوبي في التفكير وأتجاوز حدود ثقتي القديمة.
ـ لكنني يا عزيزتي أريد ان اعرف ماذا فعل هذا الرجل..؟
ـ الحديث عن خيانة هذا الرجل يستغرق وقتا ً طويلا ً.
ـ إذا ً، هي خيانة؟
ـ نعم، لكنها خيانة يندى لها الجبين ويرفضها أي إنسان يمتلك قليلا ً من النبل.
ـ لقد بدأت أتحمس كثيرا ً لمعرفة هذه الخيانة.
ـ ستعرفين التفاصيل كاملة عندما ينتهي الجزء الثاني منها!
ـ لكن دعيني اسمع الجديد في حياتك ِ.
ـ أنا يا عزيزتي، وبصراحة، لا اعرف لماذا يرفض أبي كل من يتقدم لخطوبتي، ولا استطيع ان اسأله عن السبب الذي لم يعلن عنه لحد الآن وتجهله حتى أمي، أمي التي اختلت به مرات عديدة لتعرف سر رفضه لكنه ظل مصرا ً على عدم الإفصاح عنه، وها أنا كما ترين قد أوشكت ان أتجاوز مرحلة الشباب، وتلك هي مشكلتي، إن لم اقل مصيبتي!
ـ أنا وأنت يا عزيزتي نعيش المعاناة نفسها، ولكن، ان بعض الشر أهون...، وأن مصيبتي كأنها من نسج الخيال أو الأساطير. وبعد أيام سأزورك مرة ثانية واروي لك الحكاية كلها.
ـ أهلا ً بك ِ ومع السلامة.
     وظلت هدى تتابع الأحداث وما سينجم عنها لكن حدسها كان يشعرها بان النهاية سيكون الخاسر فيها هو نفسه الرجل الذي داس على ضميره وخانها، وبعد ان انتهت فصول مسرحيته كلها، ذهبت إلى صديقتها وأخبرتها:
ـ الآن يا عزيزتي، سأقول لك ِ ماذا فعل هذا الرجل.
ـ نعم.
ـ اتفقنا أنا وإياه على موعد محدد للذهاب إلى المحكمة الشرعية لكتابة العقد، وفي اليوم المحدد ذهبت إلى المحكمة لكنني صدمت بالمفاجأة، فقد رايته هو وامرأة  أخرى جاء بها ليعقد معها عقد الزواج، فلم أتمالك أعصابي، فثرت عليه وأمطرته بوابل من اللعنات، وحين سمعت تلك المرأة ما قلته له، وعرفت بأنه خائن ومخادع، تركته وهربت وخرجت على أثرها، وبقي هو وحجه مشدوها ويدور في أروقة الشوارع بعد ان أفلس منها، ومني!
ـ يا له من رجل لعين.
ـ لهذا غيرت مساري في الحياة.
ت لك ِ الحق كله، يا صديقتي.
ـ إنها، إذا ً حكاية لك، ولي أيضا ً!


الحقيقة وظلها

      لا يريد ان يتعرف على أي إنسان من أبناء المنطقة ولا يريد حتى ان يسلم على أي واحد منهم عندما يذهب صباحا ً أو عند عودته مساء ً من العمل. وأحيانا ً لا يخرج من البيت طيلة النهار، أو خلال ساعات الليل.
    ولكن في المقهى القريب من بيته، دار الحوار التالي، فسأل احد رواد المقهى صاحبه:
ـ ماذا حدث للأخ عبد المنعم، لقد كان يسلم علينا ويجلس معنا في المقهى، وكنا نستفيد من حكاياته الجميلة، والنادرة، ولكنه فجأة انقطع عنا؟
ـ ربما يعاني من حالة معينة.
ـ لنفترض ذلك، لكن لماذا حين يمر من أمامنا يدير وجهه جانبا ً ولا يسلم علينا؟
ـ ربما سمع شيئا ً ما من رواد المقهى ..
ـ ولكن رواد المقهى يحترمونه ويحبونه.
ـ إذا ً، لابد ان هناك من سبب آخر!
ـ لقد أصبح وكأنه لا يعرفنا أبدا ً، أتراه أصبح متكبرا ً، بشكل مفاجئ، والله اكبر من المتكبرين جميعا ً.
ـ لا نستطيع ان نتهمه بالتكبر، قبل ان نعرف السبب.
ـ السبب واضح ولا يحتاج إلى نقاش.
ـ سأبعث زوجتي إلى بيت السيد عبد المنعم لتستفسر من زوجته عن أسباب انقطاعه عن الحضور إلى المقهى.
    وأرسل زوجته لتقابل زوجة السيد عبد المنعم:
ـ أهلا ً وسهلا ً، زارتنا البركة.
ـ شكرا ً يا عزيزتي.
ـ اطلبي يا جارتي العزيزة.
ـ  بصراحة أرسلني زوجي لاستفسر منك عن سبب انقطاع زوجك الطيب عن الذهاب إلى المقهى، والكل متشوقون إليه.
ـ زوجي يا عزيزتي، رجل حساس ولا يستسيغ النفاق، والطعن، والتشهير بالآخرين، وربما سمع شيئا ًمن هذا ..
ـ الم ْ يخبرك بماذا سمع؟
ـ لا أبدا ًفهو لا يبوح لي بالأمور الخاصة به.
ـ قولي له ما قلته لك، لطفا ً.
     عادت زوجة محمود وأخبرت زوجها بما سمعته من زوجة السيد عبد المنعم:
ـ إذا ً، سأقابله بنفسي مساء هذا اليوم، ولابد ان افهم منه الأسباب التي جعلته يقاطعنا، ويمتنع من الحضور إلى المقهى.
   في المساء ذهب محمود لمقابلة السيد عبد المنعم. فرحب به، فقال محمود:
ـ يا أستاذ عبد المنعم، زرتك في هذا المساء، نيابة عن رواد المقهى.
ـ أهلا ً بك، وبهم.
ـ شكرا ً. إنهم جميعا ً يريدون ان يعرفوا سبب انقطاعك عن المقهى خلال هذه الفترة.
ـ سأعود إليها عندما أتأكد بأنها أصبحت نظيفة!
ـ ولكن صاحب المقهى يحب النظافة، وهو يقوم بتنظيفها ليل نهار.
ـ أنا لا اقصد أرضية المقهى، يا أخي، ومحتوياتها ..
ـ إذا ً ماذا قصدت يا أستاذ؟
ـ  أقصد تنظيف الألسنة من شوائب الوشاية والإساءة والوشايات والنميمة التي تحدث فيها، وهذا ما كنت اسمعه فاكتم غيضي.
ـ معك الحق في هذا الجانب، ولكن لماذا تمر ولا تسلم علينا..؟
ـ لأنكم لم تحاولوا قطع دابر هذه الإساءات، بل تصغون إليها ولم تردوا عليها. وربما انتم وأنا، لوثت سمعتنا هذه الألسن في غيابنا. فحسبتكم من المشجعين لها، ولهذا قررت مقاطعة الجميع.
ـ ومعك الحق في هذا الجانب أيضا ً، ولكن يا صديقنا أستاذ عبد المنعم ليست الألسن كلها مصابة بهذا الوباء.
ـ كما تقول، لكن للوباء عدوى!
ـ سنقضي على الوباء، ونمنع أنواع الوشايات والإساءات في المقهى.
ـ لا شيء أفضل من الأحاديث النبيلة، والمفيدة، والجميلة التي تشد القلوب إلى بعضها، وآخر ما أقوله، لعن الله من يلعن الآخرين! لكنه تدارك وقال معتذرا ً:
ـ العفو والاعتذار والغفران أساس المعاملة، وليس مواجهة الإساءة بمثلها!




ليست هناك تعليقات: