قصة قصيرة
عاشقان
عادل كامل
رن
الهاتف..رفع السماعة..وراح يصغي:
-
]أعرف أنك الآن بلا عمل: الساعة الواحدة..الموظفون في هذا الوقت يشكون
الضجر..إليس كذلك؟
دعني أثرثر:
صديقي أنت
لا تعرفني قط. لم ترني ابداً لا في الماضي البعيد ولا في الماضي القريب..أنا
أعرفك..أعرف متى تستيقظ..ومتى تذهب إلى دائرتك..وأين تذهب بعد الدوام..هناك حانة
صغيرة تذهب إليها. الحانة الصغير تلك أهم من الأشياء كلها. أنا أتكلم بصدق معك
لآني أحبك. أجل امرأة ما تحب رجلاً..الأمر بسيط وعفوي ومشحون بالعاطفة البيضاء.
أكيد: العاطفة البيضاء التي لم تلوث بعد..وكم أود أن تبقى هذه العاطفة صافية وبلا
حدود. أنا اعرف أنك ستذهب إلى الحانة وتجلس هناك حتى الساع الخامسة عصراً، المهم
أنني أعرف عمق حزنك، أنا حزينة بعض الشيء..فأنا تعرفت عليك في المستشفى. كان مرضك
حقيقياً على الرغم من الأكاذيب التي أثيرت حوله. كنت مريضاً وكدت تموت في أية
لحظة. أنا كنت أقل مرضاً.
على كل،
لم تفكر قط بأنقاذ نفسك. كنت تحب الأحزان البيضاء، مثلي، وغير متمسك بشيء مهم في
هذه الحياة. بالمناسبة: أنا أعرف السيدة أمك..أمك وزوجتك..وشقيقاتك..أي أعرف
النساء اللائي تعيش معهن. النساء. هل نسيت أنك قلت قبل عامين: لا أعظم من المرأة،
أنا أعرف أنك تحاول التخلص من أساك بالحب على أنك أحببت الأوهام..أحببت كي تتخلص
من الخوف..من الفراغ..من الألم .. ولم تحب كي تتعرف على الأبدية الأخيرة.. أنا
مثلك في أشياء لا تحصى لكنك لا تعرف ماذا تريد..لا تقاطعني أرجوك.. أعرف أنك تعرقت
الآن.. ورجف جسدك.. وتود أن تطير مثل عصفور.. وأعرف أنك لا تود أن تصغي إلي ّ..
أعرف ..لكنني ضجرة بعض الشيء .. بل جداً..أنك الوحيد الذي يعرف ما يفعل الضجر في
النفس. في القمة الداخلية عندما تفلت من أرادة المرء. لا..الآن أشعر ببعض السعادة
ولكن لماذا أنت؟ .. هذه مشكلتي طبعاً..لماذا انت بين ملايين الرجال؟. هذا عذابي
أنا في الأخير. وأنا سعيدة بهذا العذاب، من يعلم؟ لا أعرف. ربما أنا أزداد عذاباً
كلما أزددت سعادة. يقال أن العذابات المشتركة تقود إلى سعادات متماثلة..كلا..لا
علاقة لي بالنظريات، فأنا فتاة بسيطة..فلاحة، وأخيراً موظفة..لا تضجر مني أيها
السيد..فانا اللحظة كدت أنهي المكالمة وأقول:
لا معنى
لهذا كله. لا أقول أنا وحيدة وأنت رجل وحيد..أليس كذلك؟ فلم لا تتحدث بطلاقة.
عذراً: لم لا تصغي لي أولاً..كي أستمع إليك بعد ذلك؟ هل تعلم أني أود الأستماع
لصوتك العذب بحزن أزلي..أليست تلك جملتك؟
لا أسئلة ولا
أجابات فانا أعرف أنك مريض وغير مريض..تشكو من التعب وأنت تتمتع بقوة خيالية.
لا تضحك.
أكتف بالأبتسامة. فعل أمر. ولكوني أحبك أقول: كان عليك أن تعيش منذ زمن بعيد..أي
ستقول كان..لا، أنا لا أحب الحديث عن الرماد. أنا أحب أن أتكلم عن الحديقة التي
تورق في الروح..ترى هل تعرقت مجدداً أم ضجرت؟ يقال أنك مثلي تجيد الكلام..ويقال
أنك مثلي تجيد الأصغاء. حسناً..أبداً من جديدة: أنا أعرف ما لا تعرفه عن
نفسك..أعرفك أنت..أنت الأبعد..وأنت المستحيل.. والمشكلة أتني أعرفك وأنت لا
تعرفني. فأنا أعرف أنك تحب الموسيقى..وتستمع إليها في آخر الليل عندما تكون
وحيداً..وفي تلك اللحظات لا تقوم بأي عمل كان..تصغي وتتأمل وتخرج إلى الحديقة، ثم
تذهب إلى سرير النوم، معها، مع من تحب..أما أنا فأكون قد أنهيت فاصل الأستماع إلى
الموسيقا..كي أنام مع أحلامي. أنت لديك أحلام كبرى..مثلي تماماً لكني لا أود أن
أموت. أنت قلت: المرأة سيدة الأحلام، وأنا أكرر: الحياة تمضي. بالتأكيد أنك تود أن
تعرف من أكون..هل أنا حقيقة أم هناك لعبة..بل ستتساءل: أهذا وهم؟ حمداً للرب أنك
من الرجال الذين لا يعرفون الشك مثلي، لا أعرف هذا قط..لآني مازلت في مقتبل
العمر..ثم ها أنت تسمع، وكدت أقول ترى..صوتي عبر الأسلاك: وأنا سأتكلم وأتكلم حتى
اللحظة التي تغلق فيها الخط..وأعتقد أنك لن تفعل ذلك..سأتكلم..فأنا ضجرة قليلاً أو
كثيراً..على أني أود أن تبقى هكذا تستمع لصوتي وهو يزداد قسوة..وليونة..مرونة وحلاوة..صوتي
الذي لا أمتلك ما يفوقه جمالاً، يفوق لون شعري العسلي. لا تضحك. الرجال يحبون لون
شعر المرأة قبل عينيها..أنا أعرف أنك تعذبت بسبب الجسد، يا صديقي الأعز، وتعذبت
بالروح أيضاً..لا تضحك. اعرف أنك فكرت بهذه المزحة كلها. بل تساءلت: من يدفع ثمن
المكالمة الطويلة؟ بل قلت: يالها من مزحة ثقيلة. للحق أنا جربت الأتصال بأشخاص لا
أعرفهم..لكنهم، في الغالب كانوا يودون التعرف عليّ حالاً. أما أنت، أنت
الوحيد..أنت..فلا تفكر إلا بحدائق الروح..ولهذا أزجي لك هذا الخطاب..هذا الكلام
الذي لا أريد نهاية له. سيدي. أعرف أنك الآن تنتظر أن تذهب إلى حانتك الخالدة.. لا
للقاء الناس..بل لأحتساء كأس من البيرة المثلجة..لكنك هناك في أعماقك تود أن
تهرب..تفر.. ترى لماذا لا تهرب إلي..أعتقد أني عطلت الخط..وشغلته..ثم أن الجميع
غادروا الدائرة..أنه لفضل عظيم أن تجد من يصغي لك في هذه الايام. بالمناسبة وأنا
سعيدة أنك مازلت تستمع إلي ّ. سأذهب كي أراك هناك..هناك..هناك، وداعاً[ .
وأغالقت
الخط، على أن الرجل أو لنقل السيد رئيس القسم، كان قد ترك الهاتف وغادر منذ البدء
ولم يصغ لأية كلمة قط، على أنه كان يجلس في حانته الصغيرة مع عدد من الأصدقاء
عندما أقتربت منه فناة جميلة بهرت أنظار الجميع وقالت له:
-
هل تسمح أن أحدثك قليلاً؟
نهض وجلس معها. تعرق. خجل. ترى ماذا سيقولون
عنه، بل كيف سيعالج الموقف، تساءل ثم أصغى لها..
-
هل كنت واضحة معك؟
رعب، لقد حدس توا أنها
هي..هي التي لم يحتمل سماع صوتها أو حتى التعرف عليها..وها هي أمامه.
-
أكيد ..
وتلعثم .. ثم أضاف:
-
بالمناسبة..كنت أصغي إلى عشرة أصوات في آن واحد..قالت حالاً:
-
أعرف فوضاك..كان يود أن يهرب إلى أي مكان، إلى الشارع أو الى البيت بدل هذا
الحوار الذي هزه..لكنها قالت:
-
أنت رجل خجول جداً..
-
ماذا أفعل؟
-
آه .. حسناً هذا عظيم..
سكتت ثم سألته حالاً:
-
لماذا أنت هكذا؟
أجاب ببرود:
-
أنا هكذا ..
فقالت: يبدو أنك..معذرة..لابد أن تذهب إلى
المستشفى.
قال : هذا
أكيد.. الأسبوع القادم..أنا قلت لأمي وشقيقاتي وزوجتي..أني مريض..نعم في الحقيقة
لابد أن أذهب إلى أي مكان..
-
كلا .. بل إلى المستشفى..
-
ولماذا إلى المستشفى؟
-
لآني سأرقد فيها، الأسبوع القادم.
-
آه فهمت، الآن فهمت.
ثم أضاف بهدوءوبلا خجل:
-
هيا ننهض.أنا لا أحتمل البقاء في هذا المكان.
قالت صارخة:
-
أنهض.
ورفعت صوتها:
-
أنهض.
ثم قيل بعد ايام أنهما رقدا في مستشفى
الأمراض النفسية..وماتا هناك، بهدوء. وفي رواية ثانية أنهما أفترقا حالاً. ولم يعد
يعرف أحدهما الآخر، وفي وراية ثالثة أنهما لم يذهبا إلى المستشفى بل ذهبا إلى
النهر، وغرقا هناك..وفي رواية رابعة أنهما عاشا سوية في دار السيد رئيس القسم،
حياة سعيدة. لكن الحقيقة مازالت غامضة وستبقى هكذا.
17\4\1987