الجمعة، 23 مارس 2012
مع جلالة الملك في قلب الهور-كاظم فنجان الحمامي
مع جلالة الملك في قلب الهور
غريب على الخليج
ربما يعاتبني أحبابي في العراق على تركيزي في الكتابة عن البصرة, ويعلم الله إن العراق كله من شماله إلى جنوبه هو الرمز الشامخ لمعاني الوئام والألفة والتسامح, جمع الناس كلهم في إطار واحد, وخندق واحد, وقلب واحد, وكان كريما معهم عندما وفر لهم الخيرات من الأرض الخصبة, والماء الزلال, والمناخ المعتدل, فالعراق كله هو الأقرب إلى قلبي وروحي ووجداني, بيد إن البصرة الصابرة الصامدة هي المدينة التي شغلت تفكيري, وهي العنوان الرئيس للصمود والكبرياء العراقي, وكان أبناؤها هم الحصن المنيع, الذي تحمل الثقل الأكبر من الويلات والمصائب. .
فالبصرة ملعبي ومدرستي, وبيتي وحديقتي. عشت فيها طفولتي وبراءتي, وأمضيت فيها ربيع شبابي, وأجمل سنوات عمري, فحرمتني منها الأقدار, ورمتني خارج أسوارها, وغادرتها مكرها, أحن إليها صباح مساء, حتى بعد أن اشتعل رأسي شيبا, وحتى بعد أن انحنى ظهري, وذبل عودي. .
حينما أراجع صفحات الصبا والشباب, وتعيدني الذاكرة إلى أيام البصرة المطيرة, وكيف كنا نخوض المياه بجزماتنا السود غير عابئين بالأوحال, غير مكترثين برذاذ السيارات العابرة. نمر بسوق الهنود فتجذبنا الروائح الزكية إلى أشهى أنواع التوابل وأكثرها جاذبية,
نحوم حول عربة (الشلغم) قرب ساعة (سورين) كما النحل الباحث عن الرحيق في بخار القدرور الغنية بشراب الدبس, فنتناول منها ما نشاء بعشرة فلوس أو أقل, ونلهو برش الملح فوق أطباق الشلغم المحلى, فتختلط عندنا المذاقات في الأجواء الشتوية الملبدة بغيوم البصرة الممطرة, ثم نتجمع أمام دكان زرزور أبو الكرزات, ونجري مسرعين كلما مررنا على واجهات مطعم (بومباي), نهرب من إغراءات روائح السمبوسة والباكورة والتمن البرياني, رواح ومأكولات شهية لا تُقاوم, خصوصا بعد ان صرفنا آخر فلس عندنا. .
كبرنا وصرنا شبابا لا تتجاوز أعمارنا السابعة عشر, جمعتنا مقاعد الدراسة والجيرة وهوايات أخرى, بيد ان هواية الصيد صهرتنا في فلسفتها التي كانت تتطلب منا التسلح بالصبر والذكاء وحدة البصر, وعلمتنا الخشونة والنوم في العراء وسط الهور, وبين غابات القصب, وفوق أكوام الأحراش والبردي, وعلمتنا الاعتماد على أنفسنا في مواجهة تحديات البيئة الريفية الزاخرة بالمسطحات المائية المترامية الأطراف. .
اذكر إننا في العطلة الربيعية لعام 1954 كنا في رحلة إلى هور الحمّار, واتفقنا على المغادرة فجرا بسيارتي الجيب من طراز (لاندروفر), فهيئنا ليلا, ووضعنا طعامنا ومعداتنا وبنادقنا استعداد للرحلة, ثم انطلقنا بعد منتصف الليل الى بيوت أصدقائنا, وكانوا جميعا في الانتظار على أهبة الاستعداد, يدفعهم الحماس نحو خوض المغامرة المرتقبة بروح رياضية عالية, كان السكون يخيم على البصرة, والطرق خالية من العجلات والمارة, فوصلنا (أبي صخير) قبل حلول الفجر, وتوجهنا إلى (علوي) عن طريق السادة البطاط, الذين كانت تربطنا بهم أواصر ألفة ومحبة. .
كان في طريقنا مخيم من مخيمات الاستراحة الملكية, قالوا لنا انها عبارة عن موقع ملكي يقضي فيه الملك الراحل فيصل الثاني وخاله عبد الإله بعض الوقت في الصيد, وكان وكيلهم صياد محترف, وعلى قدر كبير من الخبرة, ويتمتع بمرونة وبساطة في التعامل مع الصيادين, واسمه (روبي انكورلي). وصلنا إلى هناك وكان الظلام يلملم ما تبقى من خيوطه إذانا ببزوغ الفجر. .
اقتربنا من المكان, فشاهدنا أنوارا ساطعة توحي لنا بالتوقف والترجل, وكان الطقس شيد البرودة, فإذا نحن في نقطة عسكرية مؤلفة من عناصر الحرس الملكي, فجاء كبيرهم وطلب منا الترجل بأدب جم, وبعبارات لطيفة, ثم خرج علينا رجل اسمر, طويل القامة, يرتدي معطفا شتويا, ويضع على رأسه يشماغاً أحمراً, قال لنا والابتسامة لا تفارق وجهه: ((صبحكم الله بالخير يا وجوه الخير, أنا عبد الله المضايفي مرافق جلالة الملك, اطلب منكم الابتعاد عن محرمات المحمية قدر المستطاع)).
فقلنا له بصوت واحد: ((إننا في طريقنا إلى مكان آخر يبعد أكثر من خمسين كيلومترا عن محرمات المحمية)), فودعنا بابتسامته التي استقبلنا بها, وتمنى لنا التوفيق والسلامة. .
لم تكن هناك مدرعات ولا مصفحات, ولا مصدات خراسانية, ولا حواجز إسمنتية, ولا وجوه مبرقعة, ولا نظرات حاقدة, ولا نبرات زاجرة. .
قضينا أربعة أيام في جوف الهور بين الأدغال والبردي, مستمتعين بالصيد الوفير, وجمال المناظر الخلابة في ذلك الفردوس الطبيعي, كان الهور جنة من جنات عدن. وكان الصيادون من أبناء الهور يواصلون النقر على الصفيح الفارغ (التنك), ويطلقون الصيحات العالية لتوجيه الأسماك نحو شباكهم, لم تكن لديهم سموم ولا مواد قاتلة, ولم تصلهم وقتذاك تقنيات الصيد الجائر بالصعقات الكهربائية. .
عقدنا العزم على العودة إلى بيوتنا, فجمعنا محصول الصيد كله, تمهيدا لتقسيمه على وفق القاعدة العادلة, التي تقول: ((الواحد للكل, والكل للواحد)). .
قفلنا عائدين بعد الظهر, ووصلنا المخيم الملكي عند العصر, فطلب منا الجنود التوقف, فتوقفنا على الفور, وخرج علينا عبد الله المضايفي, فسلم علينا, وطلبنا منا مواصلة السير نحو البصرة, لكننا سمعنا صوتا يأمره بتأخيرنا برهة, التفتنا إلى مصدر الصوت فشاهدنا جلالة الملك الشاب الأنيق بوجهه المنير المشرق, يرتدي ملابس الصيد, وعلى وجهه ابتسامة طفولية معبرة, فطلب منا الترجل من السيارة, وكنا في غاية الحرج بسبب ملابسنا الملطخة بالطين والوحل, وأحذيتنا المبتلة بالماء, فتقدم نحونا وصافحنا من اليمين إلى اليسار, الواحد بعد الآخر, وسألنا عن صيدنا, وهل كان صيدا وفيرا يستحق التعب, فأخبرناه بأنه كان وفيرا, فطلب أن يلقي نظرة عليه, فشاهد أكوام البط والإوز, وتأملها طويلا بعين الصياد الماهر, ثم سألنا عن أسلحتنا, فاحضر كل منا بندقيته, أخرجت بندقيتي من محفظتها الجلدية من دون تأخير, وقمت بتركيبها بخفة ومهارة, وكانت من صنع ألماني من معامل (كروب), تأملها جلالة الملك بإعجاب, ووضعها على كتفه, وأبدى ارتياحه لخفة وزنها. فشعرت بطبيعتي البدوية تطلق لساني بعبارات الود, فقلت له: ((مولانا إقبلها مني هدية)), فابتسم برقة متناهية, وقال: ((هاي البندقية صديقك. . شلون تتخلى عن صديقك)), حينها أطرقت برأسي خجلا, فهممنا بركوب سيارتنا, ونحن نرفع أيدينا بتحية الوداع, لكنه أصر على أن نشرب الشاي في ضيافته, ولم تفلح محاولاتنا الجادة بالاعتذار, ألح علينا فدخان بعده إلى وسط الاستراحة الملكية, وفوجئنا بأثاثها البسيط, وديكورها المتواضع, وما هي إلا لحظات حتى جاءت أقداح الشاي ومعها بعض قطع الكيك والبسكت, وكان يسألنا عن أساليبنا في الصيد, واستفسر منا عن نوع الخرطوش المستعمل, فقلنا له إننا نستعمل الخرطوش الانجليزي, ماركة (إيلي), وكنا نشتريه من محل (صموئيل عنتر), فنهض من مكانه ودخل غرفة مجاورة, خرج بعد برهة ومعه خادمه حاملا صندوقا من الخرطوش من نوع أمريكي, يسمى (رمنكتون), وهو من الأنواع التي لا تتوفر في الأسواق, وقال لنا هذه أفضل الأنواع أهديها لكم متمنيا لكم النجاح والتوفيق, فتبادلنا نظرات السرور, وشكرناه بلطف على هذه المكرمة اللطيفة, ثم ودعنا وسار معنا إلى الباب الخارجي, وربت على كتفي بلطف مذكرا إياي بعدم التخلي عن بندقيتي, فقال: ((ها. . مو تتخلى عن بندقيتك)). .
انطلقنا غير مصدقين إننا كنا في ديوان الملك, وشربنا معه الشاي, وأهدانا خرطوشا أمريكيا لم نسمع به من قبل, كان شابا متواضعا, بسيطا, مبتسما, لم يكن فظا غليظا متعجرفا متكبرا, ولم يكن جبارا ظالما, ولم يكن ميالا لمظاهر الترف والبذخ, ولا ميالا للتباهي بالمظاهر المسلحة, وكان موكبه الملكي أقل بكثير من موكب مأمور مركز الشرطة في إحدى القرى الريفية المتروكة الآن خلف جدران التهميش والإهمال. .
اما بالنسبة للهور فكان زاخرا بالعطايا والخيرات, غنيا بالموارد والثروات, كان نابضا بالحياة في كل الفصول والمواسم, لكنه يرقد الآن بين مخالب عفاريت التجفيف والتجريف. . .
وهاي وين ؟؟؟, وذيـﭻ وين ؟؟؟. . . .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق