الاثنين، 26 مارس 2012
الصورة عادل كامل-قصة قصيرة
قصة قصيرة
الصورة
عادل كامل
لم تتصور الخالة . في يوم من الأيام أن تستقبل إبن شقيقتها في وضع مزر كالوضع الذي تراه فيه الآن، فسألته على الفور . وبصوت قوي برغم إنها تجاوزت الستين من العمر.
-"ما الذي حصل لك يا ولدي ؟!"
ذلك لأنها أشرفت على تربيته . منذ الصغر، يوم فقد والديه، فكان بمثابة ولدها الوحيد، وقد أحبته وأشرفت على زواجه.
لم يجب، كان خائر القوى، على الرغم من ان الساعة لم تتجاوز الثامنة مساء .
فقالت مرة ثانية موجهة السؤال إليه :
-"هل حدث لك مكروه ؟"
رفع رأسه بهدوء وقال بصوت متعب :
-"إنها طردتني "
لم تصدق، فهما يعيشان معا منذ عشرين سنة لكنها خمنت انه يعاني من حالة سكر .. فقالت بطريقة غير مباشرة :
-"سآتي لك بالطبيب "
فقال بلا مبالاة:
- "الطبيب هو الذي أوصلني إلى هنا.. كنت قد ذهبت إليه.. وتحدثنا في الأمر .. ثم قلت له .. لا فائدة، فقال لي : أسترح " .
وسكت، كان يتخيل الساعات التي يمضيها وهو يراقب الأشجار.. خاصة بعد أن أحال نفسه إلى التقاعد .. والساعات التي يمضيها وحيدا في غرفته، تلك العزلة .. وتلك الأصوات التي كان يسمعها في الليل ..وعويل الريح .
رفع رأسه ونظر اليها، وهو يبتسم بمرارة، قالت :
ـ "طردت ؟ لم افهم قصدك "
ورفعت صوتها :
-"انك مريض ياولدي .. كيف فعلت ذلك ؟"
المرضى هم الذين يطردون .. وهكذا هم كبار السن .. وتلعثم .. دخن. كانت خالته متجمدة وهي تراقبه. كان شاحبا، ولم يكن يظهر عليه أنه في الأربعين من عمره. هكذا تخيلته . مازال في سن العشرين، متوقد الذاكرة، قوي البنيان، عدا عن انه مازال يعاني من الخجل .
قال بعد صمت
-"لا تقلقي .. لست بحاجة إلا إلى غرفة وسرير" .. لم يكن يفكر في شيء محدد. كلمات صديقه الطبيب تدوي في رأسه . كلمات مبهمة .. غامضة .
قالت له خالته
- "سأحضر لك العشاء .. لابد انك جوعان "..
-"اجل .. ولكن ليس الآن . أنا بحاجة إلى الماء .. بحاجة الى الماء .. أشعر بجفاف في جسدي كله".
دخن مرة ثانية .. وسكب قليلا من الخمر في جوفه . لقد اعتادت خالته ذلك منه منذ كان طالبا في الجامعة . يوم كان يعيش معها في البيت نفسه إلا أنها شعرت بالرثاء لشيء ما، لا له . ثم قالت على حين غرة .
-"ولن تعود اليها؟"
-"لقد طردتني .. الا يكفي أن تفعل هذا ؟!"
-ولم تأت بأي شيء من مقتنياتك الشخصية .. ملابسك وتلك التحف التي "جمعتها خلال حياتك ؟"
-"ماذا افعل بها !"
-"تركتها لها ..لهذه الـ …"
قاطعها، وهو يستعيد بعض قواه :
-"لا فائدة من هذا الكلام .. ولا فائدة من هذه الأشياء ."
وضحك متابعا، غير مكترث لما حدث :
-"لم آت بأي شيء لسبب بسيط.. آه.. لكي تبقى تتذكر كل ما في ذلك البيت .. إنها تعيش وحيدة بين الجدران أيضا ً " وأغلق فمه متذكرا إنها لم تترك سرا من أسراره لم تبح به لسكان الحي كله. انه فجأة أكتشف ذلك، قبل ايام قليلة .
ثم قال بألم دفين :
-"سأعود الى غرفتي القديمة .. هذا كل ما في الأمر …"
سألته :
- "وماذا ستفعل بحياتك .. ياولدي .. هل ستبدأ من جديد؟"
ابتسم بسخرية، وهو يتكلم بصوت قاطع :
-"جئت لأموت هنا "
كان الزمن يمضي بثقل . نهضت الخالة وأعدت له الطعام .. أما هو فكان أكثر وعيا.. وأكثر لا مبالاة . كان يتكلم . بهدوء، عن البرد .. وانه تجول في المدينة وشاهد الأطفال:
-"أجل .. كنت أشعر بالسعادة وكأني أرى أطفالي .. آه .. لا أجمل من هذه الكائنات".
ورفع صوته:
- " لقد تخيلت نفسي طفلا في العاشرة .. وهناك، رجل مطرود، وحيد، معزول، يهدده الزوال يتأملني لكني شعرت بالقوة فجأة : هؤلاء الأطفال سيكبرون.. سيكملون دراستهم ويتزوجون .. ويشيخون.. ثم تمر الرياح الصماء عليهم . لم احزن كثيرا.. بل جلست أمام النهر . نفس المكان الذي كنت اقرأ فيه .. وهو المكان الذي أحببت فيه " .
سكب آخر ما تبقى من الخمر لديه في جوفه دفعة واحدة .. وتركها تتكلم:
-"لا تحزن .. انك في ريعان الشباب .. سأعثر لك على أجمل امرأة .. إن ما تبقى من المال، لدي، يكفينا ويزيد .. لا تحزن .."
أبتسم :
-"أني هربت من الاحتضار هناك .."
-"آه .. والآن لنرتب الغرفة .."
قال في نفسه .. نفس الغرفة .. نفس النوافذ والستائر ونفس السرير والاشياء كلها مازالت في أماكنها.. صورة أمي .. أمي .. وصورة والدي أيضا. معلقتان فوق الجدار المقابل لرأسي وأنا أحدق فيهما وأستمع إليهما.. الأشياء كلها لم تتغير .
وهكذا قال لها بصوت مرتجف :
-"وملابسي مازالت معلقة .."
وفتح أحد الصناديق الخشبية .. وراح يداعب دماه القديمة .. ملابسه يوم كان في العاشرة .. كتبه المدرسية .. ثم أغلق الصندوق.. وترك جسده يسقط فوق السرير .
وكان يستمع إلى صوتها الاليف :
-"غدا، سنجدد أثاث الغرفة .. وسأجعلك تبدأ حياتك من جديد .. أما عن مصير اطفالك الثلاثة، وإبنتك الوحيدة، فانهم غدا أو بعد غد، أو بعد سنوات سيأتون الى هنا.. الى هذا البيت ".
وبثقل رفع رأسه وتمتم :
-"لديّ أمنية واحدة ياخالتي، امنية واحدة فقط .. ان نذهب غدا الى المصور. والتقط صورة لكي تضعيها هنا، الى جانبيهما، فوق .. الجـ ..دار .. ".
ثم أعاد رأسه الى الوسادة، بهدوء ومن غير احلام، رقد الى الابد .
لكن خالته برغم اساها، وفي اليوم التالي عثرت له على صورة، ونفذت وصيته، مدركة ان الباب الذي أوصد سيفتح في يوم من الايام .
1989
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق