الثلاثاء، 27 مارس 2012

القمة النعمة أم القمة النقمة ؟؟- كاظم فنجان الحمامي







القمة النعمة أم القمة النقمة ؟؟

كاظم فنجان الحمامي


مثل بقية الزوابع والأعاصير حصلت القمة البغدادية على اسمها قبل وقوعها, فاكتسبت اسمها من الأسواق العراقية, التي قفزت فيها أسعار الطماطة إلى أعلى معدلاتها بمقياس أسواق البصرة, فبلغت (2500) دينار للكيلو الواحد, فأطلقوا عليها (قمة الطماطة) منن باب التندر. .

نأمل أن تكون هذه القمة فاتحة خير على العراق وأهله, ونأمل أن تحمل لنا الأخبار السارة, لكنها كتمت أنفاس بغداد منذ الآن, وشلّت حركتها قبل انعقادها, وسط إجراءات أمنية مشددة, فتكاثرت الحواجز, وتعطلت المصالح العامة, وأغلقت الطرق والمنافذ الرئيسة بين الكرخ والرصافة, فحققت القمة أولى نتائجها الايجابية عندما أطلقت ماراثونات المشي بين أحياء بغداد وضواحيها,

فولدت اكبر تظاهرة شعبية لترشيق الأجسام المترهلة, وتخفيف الأوزان الزائدة, وتحولت بعض الشوارع العامة إلى ملاعب مفتوحة لممارسة لعبة كرة القدم لطلاب المدارس المتعطلة بمناسبة انعقاد القمة. .

غرقت بغداد في فوضى مرورية, وانقسم الناس بين صابر ينتظر الفرج, وبين متشائم لا يرى خيرا في الجامعة, في حين راح السياسيون المعارضون يواصلون التحريض ضد القمة, ويتوعدون بعرقلة أعمالها بكل الطرق الصبيانية المتاحة, وغير المتاحة. .

من المؤمل أن يزورنا الملوك والرؤساء العرب الذين قاطعونا وخاصمونا, ومارسوا ضدنا أبشع أنواع التنكيل, وسيأتي معهم الطاقم الجديد من الرؤساء الذين انتجتهم معامل الربيع العربي, وستجمعهم القمة مع الطاقم القديم, وتمنحتهم فرصة التعارف مع بعضهم البعض, وفرصة تبادل اللقطات التذكارية, واكتساب المهارات القيادية في ممارسة الحكم الميكافيلي بصيغته الرقمية المبتكرة. .

كان الرئيس القمري (اكليل ظنين) أول الواصلين إلى بغداد, فهل (ستتكلل) أعمالها بالنجاح ؟؟, أم تخوننا (الظنون) بالجامعة ؟؟. .

يقول نبيل العربي الرئيس الحالي للجامعة: ((إن مجرد عقد القمة العربية في بغداد (انجاز) من انجازات الجامعة في ربيع عام 2012)). .

ونحن نقول لا يمكن ان نعدها من الانجازات, ولا من المنجزات ما لم تسفر نتائجها عن تحرر العراق من مقصلة البند السابع على أقل تقدير. . .

الاثنين، 26 مارس 2012

الصورة عادل كامل-قصة قصيرة


قصة قصيرة

الصورة
عادل كامل
لم تتصور الخالة . في يوم من الأيام أن تستقبل إبن شقيقتها في وضع مزر كالوضع الذي تراه فيه الآن، فسألته على الفور . وبصوت قوي برغم إنها تجاوزت الستين من العمر.
-"ما الذي حصل لك يا ولدي ؟!"
ذلك لأنها أشرفت على تربيته . منذ الصغر، يوم فقد والديه، فكان بمثابة ولدها الوحيد، وقد أحبته وأشرفت على زواجه.
لم يجب، كان خائر القوى، على الرغم من ان الساعة لم تتجاوز الثامنة مساء .
فقالت مرة ثانية موجهة السؤال إليه :
-"هل حدث لك مكروه ؟"
رفع رأسه بهدوء وقال بصوت متعب :
-"إنها طردتني "
لم تصدق، فهما يعيشان معا منذ عشرين سنة لكنها خمنت انه يعاني من حالة سكر .. فقالت بطريقة غير مباشرة :
-"سآتي لك بالطبيب "
فقال بلا مبالاة:
- "الطبيب هو الذي أوصلني إلى هنا.. كنت قد ذهبت إليه.. وتحدثنا في الأمر .. ثم قلت له .. لا فائدة، فقال لي : أسترح " .
وسكت، كان يتخيل الساعات التي يمضيها وهو يراقب الأشجار.. خاصة بعد أن أحال نفسه إلى التقاعد .. والساعات التي يمضيها وحيدا في غرفته، تلك العزلة .. وتلك الأصوات التي كان يسمعها في الليل ..وعويل الريح .
رفع رأسه ونظر اليها، وهو يبتسم بمرارة، قالت :
ـ "طردت ؟ لم افهم قصدك "
ورفعت صوتها :
-"انك مريض ياولدي .. كيف فعلت ذلك ؟"
المرضى هم الذين يطردون .. وهكذا هم كبار السن .. وتلعثم .. دخن. كانت خالته متجمدة وهي تراقبه. كان شاحبا، ولم يكن يظهر عليه أنه في الأربعين من عمره. هكذا تخيلته . مازال في سن العشرين، متوقد الذاكرة، قوي البنيان، عدا عن انه مازال يعاني من الخجل .
قال بعد صمت
-"لا تقلقي .. لست بحاجة إلا إلى غرفة وسرير" .. لم يكن يفكر في شيء محدد. كلمات صديقه الطبيب تدوي في رأسه . كلمات مبهمة .. غامضة .
قالت له خالته
- "سأحضر لك العشاء .. لابد انك جوعان "..
-"اجل .. ولكن ليس الآن . أنا بحاجة إلى الماء .. بحاجة الى الماء .. أشعر بجفاف في جسدي كله".
دخن مرة ثانية .. وسكب قليلا من الخمر في جوفه . لقد اعتادت خالته ذلك منه منذ كان طالبا في الجامعة . يوم كان يعيش معها في البيت نفسه إلا أنها شعرت بالرثاء لشيء ما، لا له . ثم قالت على حين غرة .
-"ولن تعود اليها؟"
-"لقد طردتني .. الا يكفي أن تفعل هذا ؟!"
-ولم تأت بأي شيء من مقتنياتك الشخصية .. ملابسك وتلك التحف التي "جمعتها خلال حياتك ؟"
-"ماذا افعل بها !"
-"تركتها لها ..لهذه الـ …"
قاطعها، وهو يستعيد بعض قواه :
-"لا فائدة من هذا الكلام .. ولا فائدة من هذه الأشياء ."
وضحك متابعا، غير مكترث لما حدث :
-"لم آت بأي شيء لسبب بسيط.. آه.. لكي تبقى تتذكر كل ما في ذلك البيت .. إنها تعيش وحيدة بين الجدران أيضا ً " وأغلق فمه متذكرا إنها لم تترك سرا من أسراره لم تبح به لسكان الحي كله. انه فجأة أكتشف ذلك، قبل ايام قليلة .
ثم قال بألم دفين :
-"سأعود الى غرفتي القديمة .. هذا كل ما في الأمر …"
سألته :
- "وماذا ستفعل بحياتك .. ياولدي .. هل ستبدأ من جديد؟"
ابتسم بسخرية، وهو يتكلم بصوت قاطع :
-"جئت لأموت هنا "
كان الزمن يمضي بثقل . نهضت الخالة وأعدت له الطعام .. أما هو فكان أكثر وعيا.. وأكثر لا مبالاة . كان يتكلم . بهدوء، عن البرد .. وانه تجول في المدينة وشاهد الأطفال:
-"أجل .. كنت أشعر بالسعادة وكأني أرى أطفالي .. آه .. لا أجمل من هذه الكائنات".
ورفع صوته:
- " لقد تخيلت نفسي طفلا في العاشرة .. وهناك، رجل مطرود، وحيد، معزول، يهدده الزوال يتأملني لكني شعرت بالقوة فجأة : هؤلاء الأطفال سيكبرون.. سيكملون دراستهم ويتزوجون .. ويشيخون.. ثم تمر الرياح الصماء عليهم . لم احزن كثيرا.. بل جلست أمام النهر . نفس المكان الذي كنت اقرأ فيه .. وهو المكان الذي أحببت فيه " .
سكب آخر ما تبقى من الخمر لديه في جوفه دفعة واحدة .. وتركها تتكلم:
-"لا تحزن .. انك في ريعان الشباب .. سأعثر لك على أجمل امرأة .. إن ما تبقى من المال، لدي، يكفينا ويزيد .. لا تحزن .."
أبتسم :
-"أني هربت من الاحتضار هناك .."
-"آه .. والآن لنرتب الغرفة .."
قال في نفسه .. نفس الغرفة .. نفس النوافذ والستائر ونفس السرير والاشياء كلها مازالت في أماكنها.. صورة أمي .. أمي .. وصورة والدي أيضا. معلقتان فوق الجدار المقابل لرأسي وأنا أحدق فيهما وأستمع إليهما.. الأشياء كلها لم تتغير .
وهكذا قال لها بصوت مرتجف :
-"وملابسي مازالت معلقة .."
وفتح أحد الصناديق الخشبية .. وراح يداعب دماه القديمة .. ملابسه يوم كان في العاشرة .. كتبه المدرسية .. ثم أغلق الصندوق.. وترك جسده يسقط فوق السرير .
وكان يستمع إلى صوتها الاليف :
-"غدا، سنجدد أثاث الغرفة .. وسأجعلك تبدأ حياتك من جديد .. أما عن مصير اطفالك الثلاثة، وإبنتك الوحيدة، فانهم غدا أو بعد غد، أو بعد سنوات سيأتون الى هنا.. الى هذا البيت ".
وبثقل رفع رأسه وتمتم :
-"لديّ أمنية واحدة ياخالتي، امنية واحدة فقط .. ان نذهب غدا الى المصور. والتقط صورة لكي تضعيها هنا، الى جانبيهما، فوق .. الجـ ..دار .. ".
ثم أعاد رأسه الى الوسادة، بهدوء ومن غير احلام، رقد الى الابد .
لكن خالته برغم اساها، وفي اليوم التالي عثرت له على صورة، ونفذت وصيته، مدركة ان الباب الذي أوصد سيفتح في يوم من الايام .
1989

الجمعة، 23 مارس 2012

مع جلالة الملك في قلب الهور-كاظم فنجان الحمامي






مع جلالة الملك في قلب الهور


غريب على الخليج

ربما يعاتبني أحبابي في العراق على تركيزي في الكتابة عن البصرة, ويعلم الله إن العراق كله من شماله إلى جنوبه هو الرمز الشامخ لمعاني الوئام والألفة والتسامح, جمع الناس كلهم في إطار واحد, وخندق واحد, وقلب واحد, وكان كريما معهم عندما وفر لهم الخيرات من الأرض الخصبة, والماء الزلال, والمناخ المعتدل, فالعراق كله هو الأقرب إلى قلبي وروحي ووجداني, بيد إن البصرة الصابرة الصامدة هي المدينة التي شغلت تفكيري, وهي العنوان الرئيس للصمود والكبرياء العراقي, وكان أبناؤها هم الحصن المنيع, الذي تحمل الثقل الأكبر من الويلات والمصائب. .

فالبصرة ملعبي ومدرستي, وبيتي وحديقتي. عشت فيها طفولتي وبراءتي, وأمضيت فيها ربيع شبابي, وأجمل سنوات عمري, فحرمتني منها الأقدار, ورمتني خارج أسوارها, وغادرتها مكرها, أحن إليها صباح مساء, حتى بعد أن اشتعل رأسي شيبا, وحتى بعد أن انحنى ظهري, وذبل عودي. .

حينما أراجع صفحات الصبا والشباب, وتعيدني الذاكرة إلى أيام البصرة المطيرة, وكيف كنا نخوض المياه بجزماتنا السود غير عابئين بالأوحال, غير مكترثين برذاذ السيارات العابرة. نمر بسوق الهنود فتجذبنا الروائح الزكية إلى أشهى أنواع التوابل وأكثرها جاذبية,

نحوم حول عربة (الشلغم) قرب ساعة (سورين) كما النحل الباحث عن الرحيق في بخار القدرور الغنية بشراب الدبس, فنتناول منها ما نشاء بعشرة فلوس أو أقل, ونلهو برش الملح فوق أطباق الشلغم المحلى, فتختلط عندنا المذاقات في الأجواء الشتوية الملبدة بغيوم البصرة الممطرة, ثم نتجمع أمام دكان زرزور أبو الكرزات, ونجري مسرعين كلما مررنا على واجهات مطعم (بومباي), نهرب من إغراءات روائح السمبوسة والباكورة والتمن البرياني, رواح ومأكولات شهية لا تُقاوم, خصوصا بعد ان صرفنا آخر فلس عندنا. .

كبرنا وصرنا شبابا لا تتجاوز أعمارنا السابعة عشر, جمعتنا مقاعد الدراسة والجيرة وهوايات أخرى, بيد ان هواية الصيد صهرتنا في فلسفتها التي كانت تتطلب منا التسلح بالصبر والذكاء وحدة البصر, وعلمتنا الخشونة والنوم في العراء وسط الهور, وبين غابات القصب, وفوق أكوام الأحراش والبردي, وعلمتنا الاعتماد على أنفسنا في مواجهة تحديات البيئة الريفية الزاخرة بالمسطحات المائية المترامية الأطراف. .

اذكر إننا في العطلة الربيعية لعام 1954 كنا في رحلة إلى هور الحمّار, واتفقنا على المغادرة فجرا بسيارتي الجيب من طراز (لاندروفر), فهيئنا ليلا, ووضعنا طعامنا ومعداتنا وبنادقنا استعداد للرحلة, ثم انطلقنا بعد منتصف الليل الى بيوت أصدقائنا, وكانوا جميعا في الانتظار على أهبة الاستعداد, يدفعهم الحماس نحو خوض المغامرة المرتقبة بروح رياضية عالية, كان السكون يخيم على البصرة, والطرق خالية من العجلات والمارة, فوصلنا (أبي صخير) قبل حلول الفجر, وتوجهنا إلى (علوي) عن طريق السادة البطاط, الذين كانت تربطنا بهم أواصر ألفة ومحبة. .

كان في طريقنا مخيم من مخيمات الاستراحة الملكية, قالوا لنا انها عبارة عن موقع ملكي يقضي فيه الملك الراحل فيصل الثاني وخاله عبد الإله بعض الوقت في الصيد, وكان وكيلهم صياد محترف, وعلى قدر كبير من الخبرة, ويتمتع بمرونة وبساطة في التعامل مع الصيادين, واسمه (روبي انكورلي). وصلنا إلى هناك وكان الظلام يلملم ما تبقى من خيوطه إذانا ببزوغ الفجر. .

اقتربنا من المكان, فشاهدنا أنوارا ساطعة توحي لنا بالتوقف والترجل, وكان الطقس شيد البرودة, فإذا نحن في نقطة عسكرية مؤلفة من عناصر الحرس الملكي, فجاء كبيرهم وطلب منا الترجل بأدب جم, وبعبارات لطيفة, ثم خرج علينا رجل اسمر, طويل القامة, يرتدي معطفا شتويا, ويضع على رأسه يشماغاً أحمراً, قال لنا والابتسامة لا تفارق وجهه: ((صبحكم الله بالخير يا وجوه الخير, أنا عبد الله المضايفي مرافق جلالة الملك, اطلب منكم الابتعاد عن محرمات المحمية قدر المستطاع)).

فقلنا له بصوت واحد: ((إننا في طريقنا إلى مكان آخر يبعد أكثر من خمسين كيلومترا عن محرمات المحمية)), فودعنا بابتسامته التي استقبلنا بها, وتمنى لنا التوفيق والسلامة. .

لم تكن هناك مدرعات ولا مصفحات, ولا مصدات خراسانية, ولا حواجز إسمنتية, ولا وجوه مبرقعة, ولا نظرات حاقدة, ولا نبرات زاجرة. .

قضينا أربعة أيام في جوف الهور بين الأدغال والبردي, مستمتعين بالصيد الوفير, وجمال المناظر الخلابة في ذلك الفردوس الطبيعي, كان الهور جنة من جنات عدن. وكان الصيادون من أبناء الهور يواصلون النقر على الصفيح الفارغ (التنك), ويطلقون الصيحات العالية لتوجيه الأسماك نحو شباكهم, لم تكن لديهم سموم ولا مواد قاتلة, ولم تصلهم وقتذاك تقنيات الصيد الجائر بالصعقات الكهربائية. .

عقدنا العزم على العودة إلى بيوتنا, فجمعنا محصول الصيد كله, تمهيدا لتقسيمه على وفق القاعدة العادلة, التي تقول: ((الواحد للكل, والكل للواحد)). .

قفلنا عائدين بعد الظهر, ووصلنا المخيم الملكي عند العصر, فطلب منا الجنود التوقف, فتوقفنا على الفور, وخرج علينا عبد الله المضايفي, فسلم علينا, وطلبنا منا مواصلة السير نحو البصرة, لكننا سمعنا صوتا يأمره بتأخيرنا برهة, التفتنا إلى مصدر الصوت فشاهدنا جلالة الملك الشاب الأنيق بوجهه المنير المشرق, يرتدي ملابس الصيد, وعلى وجهه ابتسامة طفولية معبرة, فطلب منا الترجل من السيارة, وكنا في غاية الحرج بسبب ملابسنا الملطخة بالطين والوحل, وأحذيتنا المبتلة بالماء, فتقدم نحونا وصافحنا من اليمين إلى اليسار, الواحد بعد الآخر, وسألنا عن صيدنا, وهل كان صيدا وفيرا يستحق التعب, فأخبرناه بأنه كان وفيرا, فطلب أن يلقي نظرة عليه, فشاهد أكوام البط والإوز, وتأملها طويلا بعين الصياد الماهر, ثم سألنا عن أسلحتنا, فاحضر كل منا بندقيته, أخرجت بندقيتي من محفظتها الجلدية من دون تأخير, وقمت بتركيبها بخفة ومهارة, وكانت من صنع ألماني من معامل (كروب), تأملها جلالة الملك بإعجاب, ووضعها على كتفه, وأبدى ارتياحه لخفة وزنها. فشعرت بطبيعتي البدوية تطلق لساني بعبارات الود, فقلت له: ((مولانا إقبلها مني هدية)), فابتسم برقة متناهية, وقال: ((هاي البندقية صديقك. . شلون تتخلى عن صديقك)), حينها أطرقت برأسي خجلا, فهممنا بركوب سيارتنا, ونحن نرفع أيدينا بتحية الوداع, لكنه أصر على أن نشرب الشاي في ضيافته, ولم تفلح محاولاتنا الجادة بالاعتذار, ألح علينا فدخان بعده إلى وسط الاستراحة الملكية, وفوجئنا بأثاثها البسيط, وديكورها المتواضع, وما هي إلا لحظات حتى جاءت أقداح الشاي ومعها بعض قطع الكيك والبسكت, وكان يسألنا عن أساليبنا في الصيد, واستفسر منا عن نوع الخرطوش المستعمل, فقلنا له إننا نستعمل الخرطوش الانجليزي, ماركة (إيلي), وكنا نشتريه من محل (صموئيل عنتر), فنهض من مكانه ودخل غرفة مجاورة, خرج بعد برهة ومعه خادمه حاملا صندوقا من الخرطوش من نوع أمريكي, يسمى (رمنكتون), وهو من الأنواع التي لا تتوفر في الأسواق, وقال لنا هذه أفضل الأنواع أهديها لكم متمنيا لكم النجاح والتوفيق, فتبادلنا نظرات السرور, وشكرناه بلطف على هذه المكرمة اللطيفة, ثم ودعنا وسار معنا إلى الباب الخارجي, وربت على كتفي بلطف مذكرا إياي بعدم التخلي عن بندقيتي, فقال: ((ها. . مو تتخلى عن بندقيتك)). .

انطلقنا غير مصدقين إننا كنا في ديوان الملك, وشربنا معه الشاي, وأهدانا خرطوشا أمريكيا لم نسمع به من قبل, كان شابا متواضعا, بسيطا, مبتسما, لم يكن فظا غليظا متعجرفا متكبرا, ولم يكن جبارا ظالما, ولم يكن ميالا لمظاهر الترف والبذخ, ولا ميالا للتباهي بالمظاهر المسلحة, وكان موكبه الملكي أقل بكثير من موكب مأمور مركز الشرطة في إحدى القرى الريفية المتروكة الآن خلف جدران التهميش والإهمال. .

اما بالنسبة للهور فكان زاخرا بالعطايا والخيرات, غنيا بالموارد والثروات, كان نابضا بالحياة في كل الفصول والمواسم, لكنه يرقد الآن بين مخالب عفاريت التجفيف والتجريف. . .

وهاي وين ؟؟؟, وذيـﭻ وين ؟؟؟. . . .

غالب المسعودي - قل ولا تقل الهمرجة والهمبلة

الثلاثاء، 20 مارس 2012

الواقعية الروسية بريشة الفنان ارسن كربانوف












الملكة لاما -عادل كامل:قصة قصيرة


قصة قصيرة
الملكة لاما
عادل كامل
ارتدت ملابسها الموشاة بالذهب وغادرت غرفتها باتجاه الصالة .. لم يكن هناك إلا فريق الأطباء يتزعمه كبير المشرفين على صحة القصر.. نهض الجميع .. كانت الملكة تداري غضبها بابتسامة دقيقة وموجزة .. وبعد ان جلست فوق كرسي العرش سمحت لفريق الأطباء بالإصغاء إليها .. ولم تتعب نفسها بشرح حالتها .. فقد قال كاتم أسرارها ان احد أسنانها لم يعد يؤدي وظائفه على نحو إمبراطوري، وإنها كادت تعاقبه، لولا مرعاة خاصة منها نحوه فقال كبير الأطباء، انه استدعى الخبراء في شؤون العظام والمفاصل والذاكرة والدماغ وكافة خبراء تحضير الارواح وعلوم الغيب … وأمرهم بإجراء اللازم . ثم قال انه استنتج بان آلام الأسنان لا تتعارض مع متطلبات الحكم . ابتسمت باختزال، وهي تصغي لكاتم أسرارها يخبرها عن قيام احد الدويلات بأحداث شغب فهزت رأسها استجابة لقرار أزلي شكل هيكل إمبراطوريتها الكبرى . إن قطع الرؤوس يوازي وضعها في المقدمة . لكنه أجابها باستحالة تنفيذ الامر … فاحداث الشغب تحدت وتعدت ماهو مسموح لها. ضحكت بألم مكتوم إنما أعترفت أن الديدان تسللت الى قصرها .. ومن القصر الى مخدعها.. ومن مخدعها الى جسدها حيث أستقرت في الأسنان.
قال كبير خبراء الاسنان انه سيجري الفحص الشامل ولن يسمح للداء بالاستفحال: إننا مجندون لخدمة ملكتنا المقدسة، ملكة الغابات والمياه العذبة وملكة كل ذكرى ستبقى مدونة فوق أوراق السنين. قالت حسناً واستسلمت لخبراء العظام بعد ان أمرت بطرد كل من يشغل خيالها بقضايا الدويلات والطاعون وزحف الجفاف نحو بكر الأراضي الخضر.استسلمت وهي تردد ان الديدان استقرت في قلب نظام الحكم. وكان فريق العمل مثابراً بلا إصغاء، إنما كان كاتم أسراراها يدوّن أوامرها وينفذها على الفور.. كان يفعل ذلك بمسرة خارج حدود سعادته الشخصية .. كذلك كانت تردد ان الموت ليس خاتمة احتفالات الدويلات .. فالقدر كله ليس الا ضيق أفق. أجل : فهناك دوما استحالة تزعزع اغراء الوعي بالصبر والفخامة : ثمة دائما طاعون اعظم من الرخاء..
وأستمرت تتكلم .. وكان فريق العمل يؤدي واجبه.. حتى أن أحد الاطباء همس للآخر، هل نحن في مهرجان ؟ فقال الاخر له إننا في صالة عمليات القصر، ومثل ذلك الهمس اجابت عنه الملكة بكلمات مدوية : ان خيالي يدرك حدود ذاكرتكم . فقد كانت تستجيب لخيالها الامبراطوري .. الامر الذي اربك عمل الاطباء، وكاد يشل عملهم.. فقد باءت جهودهم بالفشل وهم يتخطبون بتحديد عوامل فساد الاسنان .. ثم انهم لم يعثروا على مكان استقرار الاعداء.. بل قالت، وهي في حمى الكلام، ان الحماقات تسبق سلالم المجد، انه المرض أو الموت المستعار. وفكرت للحظة بسطوتها وحدود دولتها الكبرى، بمجدها وما كتب عنها، بجمالها الذي سحر أمراء البلاد والأعداء، وبكنوزها التي لا تغيب عنها الشمس، فكرت بذلك وقالت إنها الآن لا تريد الاستسلام لمرض عابر وخال من الجمال . وقالت إنها ستأمر بضرورة تفكيك الخيال.
استمر عمل فريق الأطباء، بأناة وصبر، وعلى الرغم من ان الملكة كانت قد أمرت بإيقاف سريان الزمن، إلا انها كانت تخشى على أسنانها من عدم الطاعة، وقد يسري هذا الداء على فريق الاطباء . فأمرت بايقاف العمل وغادرت الصالة.
كان نهار ما قبل التاريخ يتعكر بشغب غبار دبق.. ثم ان حديقة القصر بدت لها بالية، فالاشجار واقفة مثل صخور زلزالية، والازهار ترتجف فزعاً من حتمية ذبولها ..كانت الملكة تفهم أسرار نسغ الاشجار، فأمرت بايقاف عمله:
لا ضرورة في هذا النهار المتحجر لهذا العبث.
نفذ الامر باشارة منها وقيل أن النسغ ذاته قد أوقف عمله.
فغابة القصر تمتلك قدرة ذاتية على اداء عملها في تنفيذ اوامر جلالة الملكة، الا ان سموها – حسب تعبير ابنها – امرت باعادة الالوان الى الورود على نحو ينسجم مع خيالها الا بعد، لكنها لم تبتسم على مدى زمن تفكيرها في حادث اغتيال جلالة الملك، الملك الذي ترك مملكة بلا حدود لكنه لم يترك وريثاً.. حينذاك اغتالت ابن اخيه، وكل الذكور المنتسبين الى سلالته ونصبت نفسها ملكة شرعية.. وبعد عام اعلنت ان السماء عقدت معها قرانا روحيا ستنجب منه ولدا . وجاء الولد إبن السماء والبرية خليفة ً ووريثا لها على عرشها . وكان هذا قبل نصف قرن، ثم بعد ذلك اعلنت نظريتها عن عدم شرعية أي زواج ومن أي نوع:
فالولد الواحد هو الخليفة الواحد …
وكان السكان منذ تسنمها العرش حتى الالم الفادح الذي دخل سواحل فمها الذهبي في استسلام لرقصات ودبكات هزت أقصى مناطق العرش، والملكة ذاتها لم يغب عنها الشعور بجدوى أو لا جدوى ذلك.. فالرقص الهستيري في شعاراته وهتافاته يماثل الصمت او الحالات المماثلة عند ذوي الطاقات بالغة التعقيد والحساسية . انما لم تفقد الامل بانها اعادت للحياة الاولى رونقها . ذلك لانها الغت كل أوامر صاحب الجلالة زوجها ومسحت آثاره من الخيال.. حتى انها نفذت شعار حرق كل ماهو مكتوب ودمرت بهذا المطابع وحرقت الورق ، ذلك لان تعلم القراءة والكتابة سيدفع بالابرياء للتلوث بسموم فكر الاعداء .. وهكذا حصنت مملكتها من التعامل مع الخارج، وطردت الاجانب وكل من أختلطت بدمائه عناصر مغبرة او صفراء او حمراء او زرقاء بل انها علمت شعبها انه لا الوان هناك عدا لون صفاء شفافية الروح. ومثل هذا الكلام شرحه بلغاء القصر وكبار العلماء فصفق الشعب وسط الرقص الذي مازالت تستمع اليه .. فالملكة بعد ان الغت خطاب الكلام وحروف المعرفة علمت شعبها لغة الضوء، اللغة التي يتفرد بها السكان عن العالم بأسره.. والتي لايمكن سرقة اسرارها او تعلمها او ترجمتها كذلك تم تحطيم عرش الماكنة والتعاليم الوافدة واعدمت نصف شعبها لسلامة النصف الآخر .
مر ذلك بخاطرها وهي تجلس فوق كرسيها الابونسي وهي تأمر باستدعاء فريق آخر. كانت تردد منذ نصف قرن ان تلف الاسنان يعني دمار الحكم وانهيار الامبراطورية .. ولهذا اصدرت امرها بخلع الاسنان وقلعها لدى الجيل الاول .. بينما أكتشف خبراء الطب الكبار الجنس الجديد الخالي من الاسنان الذي لايجيد بمهارة فائقة الا رقصة الهستيريا حتى الموت .. وكان كل من يموت بفعل الرقص يمنح شارة انوثتها الخالدة . الانوثة التي غدت كالاستقلال حتى لو تطلب الامر استحضار أرواح الاسلاف أو كل من سيلد بالقوة، إنما تفتتت النتائج لديها وهي ترى أنها فاقت خيالها العنيد. ولم تبتسم لاحد حتى لولي العرش المغبون المهمل. هذا الولد الذي دون بالضوء خطاه، وكانت الملكة لاما تدرك انها بلا ولد.. حتى ان ليلة عرسها السرية تلاشت فتلاشى الوجود لديها كله. ولم يدخل الولد نائب سر الملكة معها في جدل او حوار.. حتى انه لم يتحدث عن وهم الم الاسنان المزعوم خشية ان يذهب ضحية كما ذهب نصف عشاق الملكة. فقد كانت في طبيعتها لاتعثر على بغيتها في ذكر من ذكور العالم .. الا انها لم تسمح لجبروتها ان يتمرغ بوحل هزائم الشائعات أو التندر الصامت. هكذا هزمت جسدها وتحدثت طويلا الى أمتها كجسد صاف منقى لم يمسسه الإثم ولا فساد الأزمنة، ورقص لها الناس لعفتها وشجاعتها في مواصلة الكلام.. فهي الملكة الوحيدة التي استطاعت ان تلقي خطبة على مدار السنة . ولا يعني هذا ان الناس كانوا يتابعونها تماما .. لان التقاليد حتمت ان يكون الوعي مشوباً بعكسه.. كما إنها الوحيدة التي لم تذهب الى سريرها طوال هذا الوقت . إنما رفضت كل جلال التقديس والأبهة عدا ما كان يدفعها الى الحفاظ على الاستقلال.
"أيها الولد .."
بإشارة لا صوتية منهـا جاء ابنها بفـريق أطباء ثالث لتحديد النتائج.
كانت لا تنظر بل تلقي الكلام البديل لكلمات الأسلاف وهم يغطسون الى الاعماق.
ولم ترفع يدها الى الاعلى . كانت الاشياء تهبط أمامهاا. لتتذكر ليلة عرسها السرية والولد الذي جاء بدماء زمنية . لم يكن الموت يفزعها إنما الاسنان أوجعت فيها خيالها. فهي لم تعد تنتمي الى المصطلحات المعروفة .
كانت ترغب أن تقتلع ماضيها كله وتسير صافية كضوء في مساره المجهول: لاوعي ولا كدمات ولا أمة يحاصرها الغبار: لاجسد معتل ومملكة مشيدة بتواريخ لعنة : لا ضوضاء اشباح ولا رقصات هستيرية لبشر اضاعوا اقدامهم في مسالك الاحلام والرغبات . كانت تود إعادة قانون وجودها.. " ويالها من هزيمة وريح تنذر بالشر " ذلك لان اسنانها كانت تصل .. بعد أن فشل الفريق الثالث بعمل شيء وكان الابن يراقب .. والملكة لاتصغي لاخبار الشغب الدموية وإنما لمسار العشق المغبون .. كانت تحلم أن تقوم بعمل فذ ينسيها ليلة إغتيال زوجها والدماء التي سفحت جزافا من أجل إرساء نظامها..ففي السنوات الماضية وفي لحظات مماثلة كانت تعثر على تسليات تجعلها بلا ذاكرة.. ذات يوم فازت بالمصارعة . ومرة أقامت اعظم تجربة لها بالرسم وبزت أقرانها، وفي مرة ثالثة اتخذت الطب مهنة وقامت بإجراء عمليات للدماغ وصنعت العجائب حتى ان الطب ولسنوات طويلة مازال يدين لها بالولاء المطلق. إلا انها الوحيدة لم تكن راضية ولاجسدها تركها للراحة ولا نفسها أستقرت ولا روحها عرفت السلام، وكان الابن يتدارس الامر بسرية بالغة العتمة أمر ملكة الامة ويعالج الامر معالجةلاتثير الشكوك. فبعد الاستقلال الذاتي والوهمي استقرت أمور الرعية تحت قوس الرقص والغناء والجماع الحر الليلي الجماعي والفردي حول موائد ذبح الحمقى والثيران المخصية، وكانت الملكة تشارك رعيتها الاستقلال والعزلة، فليس التاريخ ان تكتب صفحاته انما ان تعيشه، ومعنى ذلك انك تبدعه.
كفى .. كفى .. ايها الفريق الطبي الاحمق …
وصرخت :
- " اتركوني وحيدة " .
لم يبق، كنسب يخص تقاليدها، الا الوريث الذي رأت فيه الاثام،معها. هذا إبن لا أحد، ورفعت صوتها .
- "أقترب.. تعال اليّ" .
وبسرية اللغة اللامية كادت ترسله الى قدره الاخير لولا ان اسنانها اعادت لها ذكرى مسار المنحدرات الملكية: الارتقاء الى الاعماق، فلم يجبها كقرار مكمل لخطة إنقاذ البلاد.
- "وانت ماذا ستفعل لانقاذي ياصبي الحكم القادم ..؟" .
بعد صمت أسطوري قال انه سينقذها من المأزق .. فسيأتي بأسنان الذئاب لتختار منها أجودها، راقت لها الفكرة، لكن من ذا الذي سيمسك بذئاب البرية ياصبي العرش القادم ؟
وتساءلت ايضا : ومن سيختار لي أسنان الحكمة التي لاتنظر الى يسار أو يمين؟.. قال لها ان الذئاب كلها في متنزه الامة، وسيأتي بملك الذئاب الذي لم يخنه أحد، لاذئب في البرية ولاملك الذئاب إلا وسيسجد لك ياصاحبة العرش.لم تستسغ فكرته لكنها لم تفكر بشن حرب لا لانها لاتمتلك أسلحة بل لان قانون فروسية لاما لايعترف بوجود الاعداء، وكاد الابن يتدبر تنفيذ خطته لولا إنها، نادت بفريق رابع لحسم أمر الالم الذي كان يشتد ويضرب بعيدا بعيدا داخل جسدها الملكي : الجسد المكور المغلف بالذهب والماس والمزين بالجواهر .حتى انها أحست بثقل جلدها عليها.. وثقل الضوء وبشاعة كل زمن الاحتفالات المجيد. وعندما شاهدت الشك ينتاب خيال وريثها الوحيد أخفت أسلحتها وراحت تتحدث عن وهم يتعقبه وهم أبعد بأنها لن تحارب بأسلحة من صنع الاعداء بل إنها ستحارب بالنور وقوى الهواء والاسرار التي لن تعلنها لاحد الا في ساعة الصفر . وكانت تخطب بلغة لاما وحشد الفريق الرابع يعالج اسنانها بعناية بالغة الدقة وهي تكرر انها لن تحارب بجيش من وهم، انها ستهزم الجميع عندما تتخلى عن فكرة النصر، لان النصر هو في نهاية المطاف اعادة الاستقرار الى اسنان جلالة الملكة.. وكانت تسمع دبكات الشعب والرقص وترى الارواح ترفرف كأنها نثرت نثرا منثورا.
ووجد فريق عمل الاطباء نفسه ازاء محنة، فليس في أسنان امبراطورتهم مايدعو الى الفزع والى كل هذا القلق الذي بلغ صداه ضمائر السكان.. بل قيل ان بعض الاخبار قد تسربت الى خارج البلاد.. وثمة إشارات غير مباشرة تدور حول تصدع رأس البلاد، لكن كبير الأطباء كاد يجزم بوجود علة سرية .. غير واضحة، تسبب الأضرار الجانبية لسواحل الأسوار المحيطة بأحد الأضراس .. وان هذه العلة تختفي عندما تشعر بالخطر، لكنه كان يدرك مغزى إعلان ذلك عند الملكة وأي مشاعر حزينة لديها سيسببه الأمر، فراح يشغل خياله ويشحذه عله يعثر على تبرير لمواصلة العمل.. فالقضية لم تعد عابرة بعد ان استقبلها الشعب بحيرة وارتباك .. وبعد ان بدأت الحياة بالتوقف عن مسارها المعتاد.
وكانت الملكة تكتم غيظها كبركان يجمع ناره بقوة اعتى الأوهام طبيعية ..كانت تبدو قد استسلمت لخيانة القدر .. ولسفالة الزمن في تجمده الملكي .. إنما كانت تبحث عن مأوى لهزيمتها بعيدا عن ذاكرة شعب لاما الطيب، المسالم، الودود، الذي انتابه الفزع لأنباء القصر.. ما يحدث من عجز في اداء فرق العمل الطبي وهي تنذر، كالشر، بقدر غامض ينتظر البلاد كان المأوى لديها المستحيل بعد ان تشظت ذاكرتها وصار خيالها يتجمع في أعلى درجات حرارات الوجد والانبهار بتألق الانوار والمشاعل الاولى، كانت تعشق شعبها عن حق كرسالة لا مفرمن ادائها في زمن خال من الكلام والرسالات . وهي تدرك ان لا أحد سيطلع على ذلك بدافع الغاء الكلام والتاريخ، ولم تبذل جهدا كبيرا مع السكان فقد كانوا يمتازون بصفات النور ونسائم الفجر: طيبون وخيرون بالفطرة، إنما لا أحد بلغ فضاء خطابها البعيد… فبعد أن تخلت عن أنوثتها راحت ترسم لمعالمها الشكل الاخر، هذا الذي، بعد ليلة اللذة السماوية الارضية، أنصهر فوق مساحات الامتداد، وقد ادرك السكان سر جورها ضد جمالها الذاوي المتفجر عجرفة وجلالا وقسوة…فإلى جانب سلوكها العجائبي، كانت تحافظ على أنوثة جسدية خالصة لايقدر قدرها الا من سبر مراحل مابعد اللذات العابرة. وتلك اشارات تركها العاشق لديها على مدى نصف قرن من تكرار الحرمان وانبعاثه الفضي على الرغم من الفتن والشغب وأحداث العصيان التي كانت تحدث، فترة بعد فترة، كأنها دورية، وكان ثمة من يشرف عليها على نحو بالغ الدقة، إنها كانت، وهي لاتفكر الا في كلابها الملكية الجائعة التي لم تذق الا خطبها العذبة، بقدر ومصير ونهاية الفريق الطبي الرابع، ولما رفعت نظرها كأمر ملكي بحتمية اتخاذ القرار كانت الامور قد سارت حسب الامر الملكي، وبعيدا عن انكسارات القلب تجاه الملك الراحل وبعيدا عن قدر السكان وحتمية انطفاء الشموس واستحالة الاشياء الى غياب بلوري تذكرت يوم قادت فرسها نحو البحر وحاولت الافلات من دقات الزمن.. كان ذلك ابان الاحتفال بتسنمها زمام المملكة، عندما مشت فوق الماء وعادت الى غابتها تاركة الشعب يتندر بلا خيال رصين للاحداث القادمة ففي تلك الليلة ظهرت ومعها قرارات الخلاص، وفي اليوم التالي، بعد ان غاب نصف الشعب، كان النصف الاخر قد أتقن اسرار وبهاء وخفايا رقصة الموت والاشباح و … .
نهضت ..كان العرش يرتج تحت قدميها وسارت باتجاه غابتها، كان ولي العهد، الابن يرافقها، لم يتكلم . ولم تتكلم ، كانت تود اعلان اسفها ان مملكة برمتها صمدت ضد قدرها، ان علماء الاسنان قد خيبوا املها بقمع الفتنة قبل ان تتحول الى فلكلور وعالجت الامر بنشيد صامت قدر له ان يذهب الى العدم. لكن الابن أصدر أوامر بلغة استثنائية، صرخت الملكة بعويل مكتوم، لقد تساقطت أسنانها كلها وصارت كأنها بلا عرش ..قال الابن بلغة الاسلاف:
- "سيشرح أمين اسراري لك ذلك ". ووجدت نفسها تجيد لغتها الاولى :
- "ستقطع رأسي اذا ً؟ ".
كلا … انك الان تسيرين باتجاه طريق المنفى … لقد اعددنا لك غابة جديدة ..
- "وملكة بلا مملكة .. بلا "
- "مثلما كانت المملكة بلا ملك ".
- "ايها الوغد!"
- "ايها الوغد الملك هكذا تكلمي . الملك الوغد الذي سيعلمك نظام الاشياء.. ايتها الراحلة ! "
وأعلن عن تأسيس أسلحة جديدة وإعادة نظام الاب القديم .. لم يصدم الشعب على الرغم من الاستقرار العميق، فقد كان الملك الجديد قد مهد لهذا القرار بترتيبات مناسبة .. أعاد الاتصال بالعالم كله .. وأعاد للهواء عناصره المحتجزة وترك الهواء يمر ويتنقل وحيداً بين الاشجار خارج قسوة الخيال الفولاذي . كان السكان منذ ذلك الوقت، يؤدون رقصاتهم على نحو مضاعف .صرخت الملكة .
- "ملكة بلا اسنان، واأسفاه ياابن الزنى .!"
- "لست انا السبب ايتها القديسة " .فقالت بلامبالاة:
- "ايها الولد ".
- "ايها الولد الملك … تعلمي، ايتها المنفية، الكلام مع الملوك الجدد " .
- "خيانة "
وتابعت الصراخ :
- "كنت أشم رائحة الخيانة .. كانت الديدان، منذ زمان بعيد، تعبث بهذا الجسد… وكانت مملكتي تترنح، كان حرسي يرقد في موقد الموت.. وكان جلدي يوشي بروحي عند الليل . وأ اسفاه …
قاطعها وهو يقترب منها : - الان هوذا طريقك … طريق المنفى .. ام علي ان اغلق الباب صرخت متابعة .- سانتظرك .. هناك .. في ركن من اركان غابتي ..
ابتسم وهو يتكلم :
انذاك سأرقص حتى الفجر، رقصة مملكة لاما .. رقصة هذا الوهم الذي استنزف العمر … والذي كاد ان يستنزف الخيال .. انذاك سأغلق الباب .. انا الآخر … بانتظار قبضات جدد ستحطم المفتاح باتجاه طريق أبعد من هذا المنفى .. وأبعد من هذا الخيال، أبعد من هذا الميلاد وأبعد من كل موت كنا لانحسب له كل الحسابات . سأرقص حتى لا أرى من الطارق .. وحتى لا أرى الباب ".

( النوروز ), بين الأسطورة والمعتقد والطقوس!!! حامد كعيد الجبوري


( النوروز )
بين الأسطورة والمعتقد والطقوس!!!
حامد كعيد الجبوري
تحتفل شعوب العالم أجمع يوم 21 / 3 بعيد شعبي يسمى عيد ( النوروز ) أو ( النيروز ) ، وفي ليلة 21 / 3 يتساوى الليل مع النهار بعدد ساعاته ، وأعتاد العراقيون على تسميته ب ( النوروز ) ، وهو لدى الشعوب الفارسية والكردية يعني اليوم الجديد ، ويترجم من اللغة الكردية ( ضوء جديد ) أو يوم جديد ، ويروى أن الشعب الكردي كان تحت قبضة حاكم فارسي جائر يسمى ( الضحاك ) بحوالي 4200 ورأي آخر3500 سنة قبل ميلاد السيد المسيح ( ع ) ، وأستطاع البطل الكردي ( كاوه الحداد ) أن يقتل هذا الحاكم لذا عد ذلك اليوم عيدا للشعب الكردي ، ومنهم من يرى الضحاك ملكا أشوريا كانت له أفعيان تحرسانه ، ولظلم الضحاك كان يطعم تلك الأفاعي من ( مخ ) الأطفال ، وفقد كاوه 16 ستة عشر ولدا من ولده لتغذية تلك الأفعيان ، وبقيت له بنت واحدة وحينما طلبت للقتل واستخراج ( مخها ) عمد كاوه لحيلة وهي ذبح شاة وتقديم ( مخها ) لتلك الأفعيان ، ونجح كاوه بخطته هذه وصعد لقمة الجبل مع أبنته هاربا بها ، عرف الشعب الكردي بما فعله كاوه الحداد ففعلوا مثل فعلته وبدؤوا يرسلون أولادهم للجبل مع كاوه ، بدأ كاوه تدريب هؤلاء الأطفال على القتال وحين أصبح عددهم كافيا هجم بهم وبقيادته على حصن الضحاك وقتله وأشعل النار بدار الضحاك وعلى قمة ذلك الجبل ، وأمر جنده الأطفال أن يصنعوا ما صنعه ، وتقول الأسطورة الكردية أيضا أن الشمس لم تشرق طوال سني ظلم الضحاك ، وحينا قتل أشرقت الشمس فجر ذلك اليوم 21 لذا سمي اليوم الجديد أو الضوء الجديد ، ويقول المصريون أن النوروز عيد فرعوني وهو أول يوم في السنة الزراعية الجديدة وأتت النوروز من المفردة القبطية ( ني _ يارؤو ) لموعد اكتمال فيضان النيل ) بروايات وتأويلات كثيرة ، وتحتفل الشعوب الفارسية لمدة أسبوعان تتوج لذروة الاحتفال يوم 21 / 3 ، وتصوم الطائفة البهائية لمدة 19 عشر يوما تسبق يوم النوروز ، والنوروز أحد الأعياد لديهم وهو يوم 21 /3 .
تقول الأساطير اليونانية أن الأرض تحمل على أحد أكتاف الإله ( أطلس ) وفي ليلة 20 – 21 / 3 يرفع الإله أطلس الأرض من مستقر كتفه لينقلها الى الكتف الآخر وخلال هذا الانتقال للأرض من كتف لآخر قد يرى أحد المارة من الحيوانات هذا التحول فيقال أن الأرض قد تحولت على استقراء ونبوءة وفأل ذلك الحيوان من خير وشر ، وأما الأساطير الهندية والفارسية تقولان أن الأرض ترفع على قرن ثور ، وفي ليلة 20 – 21 / 3 ينقل ذلك الثور بحركة جبارة الأرض من قرن لآخر ، وكما الأسطورة اليونانية بخصوص ما يشاهده من الحيوانات المارة أثناء لحظة التحويل ، والظاهر أن هذه الأسطورة وصلت للعوام من الناس وهذا أحد أبناء شيوخ عشائر ( الجبور ) من الفرات الأوسط ويسمى ( حميوي ) قد تعلق قلبه بإحدى الغجريات وأسمها ( بدرية ) ، وحين معرفة والده بهذا العشق أمر تلك العوائل الغجرية مغادرة منطقة سكناه ففرحت زوجة ( حميوي ) برحيل الغجر عن ديارهم فقالت هذا ( الدارمي ) ( منهو اليكل لحميوي بدرية شالت / وأنكسر كرن الثور والدنية مالت ) ، وأما المعتقدات العربية العراقية بعيد النوروز فتقول ، أن ملوك المناذرة كانوا يخرجون ليلة النوروز فأي شئ يلاقي في طريق الملك من الحيوانات فأن الأرض تدور عليه ، ولهم فأل حسن وسيء لما يؤولونه لتلك الحيوانات التي يراها الملك ، أو يراها الثور ، أو الإله أطلس ، ويعتقد الكثير أن مسألة الأبراج متأتية من هذه التنبؤات ، وفي الموروث من الأدعية الإسلامية لمختلف مذاهب المسلمين ليوم تحويل السنة ( النوروز ) أمثلة تروى بذلك ومنها ( يا مغير القلوب والأحوال غيّر حالنا لأحسن حال ) ، ويروى أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( ع ) أوتي له بطبق من ( الفالوذج ) التي تصنع من الحليب ويضاف لها السكر ويسميها العامة ( محلبي ) ، قدمها له ( زواطا ) فأستطعمها علي ( ع ) وقال له ما هذا ؟ ، فقال أنه النوروز يا أمير المؤمنين ، فتبسم علي ( ع ) وقال له ( نورزونا كل يوم يرحمكم الله ) ، وهي دلالة لعدم استهجانه واستنكاره لهذا العمل ، و ( زواطا ) هو جد الإمام أبو حنيفة ( النعمان بن ثابت (رض )) .
للنوروز طقوس قد تتشابه بالحواضر العربية والعراقية ، ويعده الأطفال عيدا ثالثا لهم بعد الفطر والأضحى ، وتختلف الناس وحسب الأحوال المالية للاحتفال بهذا العيد ، الفقراء منهم تصبغ ( الدشاديش ) لأطفالهم الأولاد والبنات لتظهر أنها جديدة ، والأغنياء يشترون لأبنائهم الجديد من الملابس ، وكل عائلة غنية أم فقيرة تشتري لأبنائها الذكور الصغار والكبار جرارا من الفخار يسمى ( أبريق ) له فتحة جانبية ينزل الماء منها تسمى ( بلبوله ) ، والإبريق صغير الحجم لا يتعدى أن يستوعب قدح أو قدحان من الماء ، وللإناث صغارا وكبارا أيضا ما يسمى ( شربه أو تنكه بضم الميم وسكون النون وفتح الكاف ) ليس لها مكان لخروج الماء إلا من فوهتها ، وهناك من النساء الحوامل الذي لا يعرف ما في بطونهن من حمل ذكور أم إناث ، وعدم معرفتهم حينذاك لعدم توفر ما يسمى بأجهزة ( السونار ) ، ولمثل هذه الحال من الحمل يشترى ما يسمونه ( تُنُك بضم التاء والنون ) وهو بحجم ما ذكرناه مضافا له يدتان ( عروتان ) يمينه ويساره ، وتتفنن النسوة بزينة أباريق أولادهن الذكور – غالبا – مضافا لما عليه من زينة وأصباغ اصطناعية حمراء وخضراء وصفراء ، فيصنعن من أكياس ( الجوت ) أو قماش ( الململ ) حزاما يطوق تلك الأباريق ويضعن به حبات من الحنطة أو الشعير يلف تلك الأباريق بمدة مناسبة ، فتنبت تلك الحبيبات بذلك القماش وتستقي ماءها بما يرش عليها من الماء وبما تمتصه من جدار الإبريق المملوء ماءا ، وتكبر هذه النبتات العشبية ولها منظر جميل يأخذ بالعيون ، وفي تلك الأيام لم تكن صناعة الدواجن كما هي الآن ، وأغلب البيوت تربي الدجاج المحلي لينتج للعائلة ما تحتاجه من البيض ، ولم نعتد على رؤية البيض الأحمر وقتذاك ولا نرى إلا البيض الأبيض في الأسواق ، ولا أعرف لم كانت أمهاتنا يردن لون البيض أحمرا يوم النوروز ، فيضعن قشور البصل مع البيض حين إنضاجه فيصبح أحمرا ، ولكل فرد من أفراد العائلة بيضتان حمراوان مسلوقتان ، ونجبر من أمهاتنا أن نأكل تلك البيضتين المخصصتين لنا كي لا تصاب عيوننا بمكروه الى العام التالي ، ومن الطقوس أيضا وضع مائدة ( صينية ) تحوي على سبع سينات ، مرة قلت لأمي أن مجموع السينات ستة وليست سبعة ، ضحكت لذلك وقالت أن السمسم فيه سينان ، ونجد بتلك الموائد السمسم مخلوطا ومسحونا مع السكر وهو ما نحبه كثيرا ، والسمك ، وشئ من أغصان شجرة ( الياس ) ، والكرفس ، والخس ، و ( الساهون ) وهي حلوى تصنع من الزيت و السكر يميل لونها الى القهوائي الغامق ، وبعض النسوة يعملن شراب ( الأسكنجبيل ) عوض أحد هذه السينات ، والميسورون من الناس يشترون الحليب وتعمل النساء منه أواني كثيرة من ( المحلبي ) ، ويتفنن بصنعه فيضعن تحت ( المحلبي ) وبنفس الإناء طبقة من ( الزردة ) وهي عبارة عن رز مضاف له السكر ومادة من التوابل لونها أصفر تسمى عند العامة ( صبغ الزردة ) ، ساعات الضحى تخرج العوائل مستقبلة النوروز الربيعي الى البساتين القريبة أو التجمعات التي يرتادها الناس أيام أعيادها ، وفي ( حلة ) العطاء والخير بابل نذهب صحبة أمهاتنا وآبائنا الى قرية ( العتايج ) حيث مرقد العلامة العتائقي الحلي ، وهناك يتحلق الشباب لأداء رقصة ( الجوبي ) ، ولكل فرقة عازفها الذي يعزف على ( المطبك ) المصنوع من سيقان القصب فتخرج منه أصواتا راقصة ولا أشجى منها ، والعازف الماهر يستمر عزفه شهيقا وزفيرا دون انقطاع ، والمغني ينشد ( عالجوبي الجوبي الجوبي / والحنه لاخت ثوبي ) ، وعائلات أخرى تذهب الى مقام ( عمران بن علي بن أبي طالب ( ع ) ) ، ومجاميع أخرى تذهب لمقام نبي الله أيوب ( ع ) ، وعوائل أخرى تفترش حشائش البساتين المحيطة بالحلة الفيحاء .
اختلفت التسميات لعيد النوروز في أغلب الحواضر العراقية ، قسم أسموه ( النوروز ) ، وآخرون ( الحول ) ، وقسم أسموه عيد الشجرة ، وقد تكون تسمية ( دخول السنة ) الغالبة في العراق ، وقد أشار لهذه التسمية الشاعر العراقي الكبير ( مظفر النواب ) قائلا ( ودخول السنه من ألكاك / يافي النبع وأطعم / عطش صبير لافركاك ) .

السبت، 17 مارس 2012

ليلة التمثال-قصة قصيرة- عادل كامل


قصة قصيرة
ليلة التمثال
عادل كامل
لا أحد يعرف اسمه الحقيقي، عدا لقبه الذي اشتهر به، وهو " المثال" أو "النحات" وحتى هذا اللقب لا أحد يعرف كيف حصل عليه أو من اطلقه لكي يتميز بين رجال حينا .
كان هاديء الطباع، متوسط القامة، يخرج في الصباح ولايعود الا قبيل الغروب .أعزب . ولا احد رأى معه أحدا . إلا أنه كان موظفا في الغالب، ومن النمط الذي يؤدي عمله بدقة وصمت فلم تكن لديه علاقات تذكر، ولم يكن وجوده على مدى ربع قرن في حينا… وان أسرار حياته لا تعني أحدا. ويبدو انه استسلم لهذا الأمر، بطيب خاطر.. ففي الليلة الغامضة، ليلة التمثال، اختفى من داره، ولا احد يعلم الى أين ذهب .
في مساء تلك الليلة، ولأسباب اجهلها، كنت أراقب المثال في غرفته، وهي صالة متوسطة الحجم، وقد انتصب أمامه تمثال لسيدة … كنت أراقب الرجل من نافذة صغيرة وهو، كما يبدو، يضع اللمسات الأخيرة، لقد تذكرت هدوء الرجل… أما في تلك اللحظات . فكان يتكلم بصوت حاد، مرتفع . وهو يشرب الخمر. كدت اهرب، لولا الفضول الذي جعلني أراقبه، قال للتمثال :
" وألان سأوشك على النهاية .. منذ ربع قرون وأنا اعمل، بلا كلل… "
وسأل نفسه :
" هل صورتك على حقيقتك يا عروسي… هل أنت هي ..؟ "
وتجمد .. ابتعد عنها … وأضاء مصباحا ذهبيا… ثم اقترب من التمثال:
-" لا اعتقد ان هذا الحجر سينطق ليقول لي : حسنا .
فعلت . أوه … أنا لا أحب المرأة وهي تتكلم . لا أحبها وهي صامته. أنا في الواقع لم أحب إلا هذا الخيال الذي رافقني طوال حياتي .. هذا الخيال العنيد … المؤلم… الجميل أكنت احبك حقا أم كنت أخاف منك؟ لا ابحث عن إجابات، أنا في نهاية حياتي وعلي أن أغادر ياأيتها المرأة العنيدة …"
ثم أبتعد عنها … جلس يقلب في مجموعة من الاوراق… كان يدخن ويشرب بلذة . أنا في الواقع لا أشرب لكني أعرف ماذا يفعل الخمر في بعض الرؤوس :
-" لم أكن أشرب لا نساك او اتذكرك… كنت لا أعرف غير ان أصنع هذا المجد."
ورفع صوته:
-" هذا الوهم . عندما انتهى من قصتي معك سأغلق هذا الكتاب . بالتأكيد كنت معي كل هذا الزمن … وكنت اعترف لك .. اكتب لك .. واغني. الاف المرات قلت انت نجمتي وكنت اعرف، في اعماقي، ان المرأة هي المرأة، والوهم هو الوهم… والقدر هو القدر لكن لا … أنا اخترتك من بين نساء الارض … ها …ها… أقصد من بين نساء هذه المدينة … فأنا لم أزر أي مكان غير هذا المكان، غير هذه المدينة.. وأحببتك" اقترب منها قليلا:
ـ" ماذا تقولين عن نفسك .لن ينطق الحجر ألان .. فانا اعرف أسراره .مثل القبر الذي لايتكلم .. إنها الأسرار التي تقود الى الأسرار .أسرار بسيطة مثل نسمات فجر .. لكن كلا ياروحي ..أنا أحببت التمثال الذي فيك ..وما فيك في التمثال .. وفي هذه الليلة سانتهي من قصتي كلها .فبعد اليوم لن أراك ولن..لن.. أعود اليك ..لقد منحتك حياتي، ثم، بهدوء، سأمنحك ِ موتي أيضا"
شرب وكان يدخن ..وقد جلس فوق الأرض:
ـ"علي أن أضع آخر اللمسات ..بل آخر لمسة..قبل أن أستمع الى صوتك .."
وصمت فترة طويلة من الزمن.كان يكتب ويدخن .ثم نهض وكان يدور حول التمثال . صرخ :
ـ" لماذالاينطق الحجر؟ اووه..أعرف.. أنا الوحيد الذي يعرف..يعرف سر هذا الصمت ..فأنا لم أعش قصة حب عابرة.كنت أدرك بعقل غامض ماذا كان يحدث لروحي من صخب وجنون ..إنما لم أسمح لخيالي إلا بهذا العبور . انه ليس القدر.. إنه أبعد وأعمق من هذا الليل .لو كنت معي لكنت امرأة مثل كل النساء.."
ورق كلامه:
ـ" كنا ندور في المدينة، معا،وكنا مثل نجمتين. لقد قلت لك ذات مرة: الحب لايختلف عن الوهم .فجاة لا أحد هناك .الحياة تبقى.. وأنا أردت أن يبقى هذا الحب .هل أنا على وهم..ستقولين،بسخرية :لا.لا.لا.ثلاث مرات،إنه صياح الديك..إنه الخصب الذي أفسده الزمن .لكن حبي لك صار قصة.."
وصرخ :
ـ "علي أن أصمت، في آخر ليلة من ليالي عمري.على الرجال أن يعرفوا ثمن الكبرياء .حتى اللص الجيد وهو يقتل يرفع راسه الى السماء.القتلة والعشاق لاينظرون الى مزابل الدنيا .الكلاب فقط تبحث عن العظام .ياله من مثل وسخ، غير لائق، وأنا في آخر ليلة معك يا تمثالي "
أقترب منها :
ـ"لا أعرف هل أنت على قيد الحياة ام ستبعثين حية مرة ثانية . التراب بشر، نساء ورجال واشجار وطيور ومنقرضات لاتحصى ..وأنا عند لحظة الحب المقدسة الاولى، بالعقل المتوهج والمر، أبعدت صمت الكلام. تفسخ اللذات، لكن، لسوء القدر، كنت مثاليا ..هل تصدقين اني أنا أستسلمت لك، على مدى ربع قرن وكأنك أنت أو لاأحد.أريد أن أعترف لك، المرأة لا التمثال:
اني لو كنت عشت معك، لذهب هذا العمر كله، كما يذهب زمن الاشجار . هل أبدعت شجرة سرها بسر أعمق منها .أنا فعلت ذلك بدافع الجنون . كنا في العام الاول لانعرف ماذا سنفعل بعد الجامعة .انا اصبحت موظفا وعاشقا لهذا الصمت انت، لااعرف مصيرك ولا قدرك ربما الان أنت اميرة عند أحد أثرياء المدينة..ماذا لو كنت معي؟..ماذا كان سيحصل من أخطاء ؟أنا كنت أتغذى بالخيال والاحلام والرغبات المستحيلة .أتذكر مرة واحدة قلت لي فيها : أترك الخمر .فقلت لك:كان عليك ان تقولي ذلك على نحو مختلف .العشاق لايتكلمون باصوات مرتفعة .عشقتك كنجمة على الرغم من انني أعرف أن حجرتنا برمتها ستذهب الى مصيرها .كل شيء الى زوال.ولم ابك أو أحزن أو أتراجع.كانت الحياة عنيفة وقوية ..لكني لم أبدل تمثالي"
كدت اصرخ فالرجل يتكلم على نحو عجيب.. لقد سحرني منجذبا إليه لدرجة اني فكرت أن أطرق الباب عليه.. الا اني تريثت .. فأنا كنت بمثابة جاسوس عليه.
تابع كلامه:
ـ" في ليلتي الاخيرة سارسم الابتسامة بضربة كنت أنتظرها منذ ربع قرن .
ستبتسمين للأجيال كلها… سعيدة بجمالك، خالدة بعض الوقت، بهذه الابتسامة المرة".
ونهض. كان مثل تمثال يحدق فيها. تراجع خطوة، وتقدم خطوة . لم يشرب ولم يدخن. كان يحدق في محيا التمثال الذي كان يشع فعلا. كنت أنا الذي أراه، وكان متجمدا تماما. وفي لمحة بصر، ضرب بأزميله ضربة شفافة خفيفة فوق نهاية الفم . كنت أتوقع انه سيصرخ " انطق" لكنه قال، بهدوء.
-"الآن انتهى عملي…"
فجأة، قالت له:
-" أريد ان أتكلم …"
لم أكن مخمورا….
-" تكلمي…"
-"تكلم أنت …"
-" الآن سيشيد هذا التمثال وسط المدينة .."
-"تحت الشمس المحرقة … وفي البرد. أيها الحبيب هل أنفقت حياتك كلها لتذلني …"
ورفعت صوتها :
-" ليراني عابر السبيل .. أكنت مقدسة في حياتك حقا؟ أم هكذا سيجلس السكير ويشتمني.. سيقول : لا يعترف الرجل الا لرجل … وسيلعن كل امرأة مثلي. وسيأتي الاطفال في النهارات ويتندرون مني .. وسأتحول الى ... وفي يوم من الايام سيأتي بعض اللصوص ويسرقونني . هل أنا روحك . بل ربما سيبصق علي مجنون. أو ستهدمني طائرات الاعداء… أو سأتحول الى عش طيور…".
تجمد تماما . كان يصغي اليها بذهول . ولم يفتح فمه . قالت :
-" أنت صنعت مني هذا التمثال وأنا كنت قد أحببتك بدمي وروحي. ماذا أفعل بهذا التمثال اليوم أو بعد اليوم و.؟ أنا لم اشع بالنور، كنت خجولة مثلك . كنا فقراء وكاد الحب ينقذنا لا من الفقر بل من العذاب… ثم لماذا لم تبدل تمثالك؟ الاخطاء كانت تلاحقك منذ البدء. ومن قال الانسان الى زوال… من قال العشاق لايتكلمون أو يرقصون أو تطربهم لعنات الغيوم . ثم اني لم أطلب منك أن تترك لذة الخمر إلا عندما كانت تقتلك . أنا كان الصمت عذابي ومسرتي .. ومثلك، أنا كنت نجمة . أنا على قيد الحياة وميتة. والبشر تراب. والحب المقدس يدوّن بالافعال . واللذة لاتذهب، وأنا لم أكن أنا بل أنا مثل امرأة ككل النساء."
صرخ :
-" سأغادر .. قلت إنها ليلة التمثال …"
-" لا … الى اين تذهب .. أنا صرت أحبك بروحي …"
وتابعت :
-" ربع قرن وأنا هنا سجينة معك "
-" وصنعت لك هذا التمثال …"
" أنتظر .. أين ستذهب … ولماذا أيها المثال العاشق ؟ "
لم يجب .. فقالت بكلمات رقيقة :
-"لن يراني عابر السبيل .. لانه لايمتلك البصر . وأنا كنت مقدسة في حياتك حقا لان السكير لن يشتمني بل سيتعلم الحب. بل سيقول : لولا المرأة لصارت الحياة قاسية قاسية . والاطفال كلما شاهدوا تمثالي في النهارات سيرقصون ويغنون.. والطيور ستكون سعيدة، تغرد وتغني وتسعد الناس .. وإذا سرقني اللص فانه لن يبيعني بثمن بخس .. وأنا روحك فالروح روح. والمجنون له أعذاره، أما الاعداء فأنا أمامهم حجارة وأعرف ماذا أصنع بهم دفاعا عنك ياأيها الحبيب الذي صنعتني من الصخر " .
قررت أن اهرب . وهربت بالفعل . لكني تريثت برهة سمعت " المثال" يقول لها:
-" من عذب من ؟… "
" لا احد"
أقترب منها . كانت قد تحولت الى امرأة حقيقية ثم أبتعد عنها.
قال :
- " خيالي " خيالي المر… سيطاردني الى الابد …"
-"أنت ستطارده .."
-"احدنا سيقتل احدنا .. آنذاك ستنتهي الحكاية .."
-"بل ستبدأ، أيها الرجل أنت علمتني الأسئلة … وسيكون لنا أبناء وأحفاد… يحملون الأسئلة .."
-" ولن تنتهي القصة بموتي …"
-إنها ستبدأ …"
فكر برهة وسألها :
" مع من ؟ .."
-" معك، معك أنت .. هل لديك شك ؟ "
ثم اختفى …
-" أين أنت ..؟"

لا اعرف لماذا فكرت إنها، وفي المكان ذاته، في حينا، ستشيد له تمثالا..فنهاية القصة، أو بدايتها، تتطلب هذا الحل، لكني في واقع الأمر، أهملت الموضوع، ولم انتبه له، إلا عندما، في ليلة باردة، تحولت الى تمثال.


1992

الجمعة، 16 مارس 2012

البصرة وإن جار الزمان -كاظم فنجان الحمامي






البصرة وإن جار الزمان

غريب على الخليج

لقد فاض طوفان الأشجان حتى صار تسونامي. .
فقد كنت أتشمس في حديقتي الصغيرة, أتأمل نخلتي البرحيتين وقد تفتقت طلعاتها, ويقوم الفلاح بتلقيحها, وأنا أراقبه وهو يأتي كل موسم لتلقيح البرحيتين البصريتين وتشذيب كربها وسعفاتها وربط عذوقها حينما تثقل ثمارها .. شممت رائحة اللقاح (فكبسلتني) مثل حشاش مصري في نشوته تحت أشعة الشمس الدافئة .. غادر الفلاح بعد أداء عمله وجلست على الكرسي تحت أشعة الشمس .. وحلقت في سماء غير سمائي, طرت خفيف الجناحين كطيور القطا إلى بصرتي وبيتي وأصحابي .. أغفيت في مكاني حالما بأنني في البصرة وفي بساتين الجنوب أشم رائحة اللقاح والقداح والجوري مخلوطا بنسمات من شطنا الذي كان رائعا ..

غمرتني ذكريات عزيزة, استعرضت في خيالي أيام الصبا والشباب والبصرة وأهلها الطيبين, كنت مغمض العينين وكأني في نشوة حلم وردي, تحاصرني خيالات الماضي.. الشمس ليست شمسي, ورائحة الطلع ليست رائحة بساتيني .. شمسي هناك تدغدغني بحنان بالغ .. تسلمني إلى إغفاءة طفولية حيث يأتي الحاج عبود رحمه الله والد نجم بقوري الشاي (السنكين) بعد وجبة دسمه من الصبور والدولمة .. فنشرب حتى الثمالة .. ما ألذ الشاي في ربوع بلادي ؟ تذكرت أيامي في هذا الفصل الربيعي حيث كنا كصيادين نودع الموسم حين كانت الطيور المهاجرة تستعد للعودة إلى مواطنها واليوم اسأل نفسي : أليس هناك عودة للوطن بعد 42 سنه من الاغتراب ؟ ..

حتى الطيور تريد العودة إلى أعشاشها, وهي تقطع عشرات الآلاف من الأميال, ونحن على مرمى حجر من الوطن ولا نستطيع الوصول إليه, ؟ الجنسية والجواز والهوية لا تنتزع الإنسان الشريف من جلده, فالحنين يسري في شرايينه نارا تلظى .. أتمنى زيارة مدينتي وبيتي, والتقي أحبائي الذين غادر معظمهم عالمنا المضطرب دون أن نحمل نعوشهم فوق أكتافنا, ولا نقرأ الفاتحة على قبورهم, ولا نحضر مجالس عزائهم.. إنها والله حسرة لا تزول, استغرقت في أحلامي الوردية وأنا استنشق رائحة اللقاح وافتقدت رائحة الصبور المشوي والدولمة البصرية والطرشي الخصيباوي والخبز الحار وأغنية (على درب اليمرون أريد اكعد وأتاني) .. يا ترى هل سأرى بصرتي كما تركتها قبل الاحتلال؟. هل استطيع أن أنام قرير العين من دون أن يفاجئني زوار الفجر للبحث عن السلاح أو إلصاق تهمه (4 إرهاب), أو صفة إرهابي تكفيري, وهابي, أو بعثي صدامي ؟ .. هل استطيع أن أنام في بيتنا بالصنكر, الذي تم هدمه ظهرا على صوت طير (الشكرك) المزعج, بعد أن غفت عيوني على تغريد البلابل ؟ , هل سأرى الوجوه البصرية, التي تشع بالطيبة والمحبة ؟, أم وجوه كالحة كذئاب جائعة ؟.
تساؤلات كثيرة تدور في البال .. ثم تختلط الأمور فأرى الكآبة مخيمة على أولئك الطيبين الذين كانوا عنوانا للعراقي المضياف الدمث الأخلاق, الذي لم تغيره المآسي والمحن, فكم مرت عليه من كوارث, لكنه كان صامدا فقد حارب أعداءه الخارجيين بكل ضراوة, ودفع الدماء والأرواح رخيصة, ورد كيدهم إلى نحورهم, لكنه اليوم يحارب من ؟. أيحارب الذين يدعون بعراقيتهم وانتمائهم وهم الذين ساموا هذا الشعب الذل والهوان والجوع ؟, وكيف يقتل العراقي أخاه ؟, وكيف يداهم الجندي والشرطي بيت أهله ؟, ويحطم أثاثهم ويروع أطفالهم ؟, ويغادر بابتسامة صفراء تشفيا وحقدا.. إن جاءك الضيم من عدو فلا حول ولا قوه إما أن يأتيك من ابن وطنك فهي الطامة الكبرى ..

أتمنى العودة, فعلى الأقل تستقر أجسادنا فوق الثرى, الذي ولدنا عليه لكن أن تموت كمدا في بيتك وأنت تشاهد إن القتلة والمجرمين واللصوص هم من مواطنيك وليسوا أعداءك فلا تملك إلا أن تتمنى جحيم العدو ولا جنة هؤلاء.
استيقظت من أحلامي التي استحالت إلى أحلام رمادية أعادتني بقسوة إلى عالمي, وأنا أطيل النظر إلى النخلتين البصريتين اليتيمتين اللواتي ربطن مصيرهن بمصيري, على الأقل يشربن ماءا حلوا, وينعمن بالأمن والأمان, فلن تصرخ مثل نخلات الجنوب من الظمأ والإهمال, ومن الماء المالح المسموم بمخلفات مصانع جارة السوء .
لا ادري هل سيكتب الله لي أن تكتحل عيني برؤية بيتي وصحبي وحديقتي وشمسي ؟. أم أظل اقطع باقي الخطوات في صحراء الاغتراب ؟؟؟. .
تلك كلمات أثارتها رائحة طلع النخيل, والويل كل الويل لو كانت معها نسمات القداح والجوري حينها سيفلت العقل من مكانه .إلى الله المشتكى. .

غالب المسعودي - التفتزاني ولغز الايمو

غالب المسعودي - التفتزاني ولغز الايمو

الاثنين، 12 مارس 2012

ثمن معجزة الكهرباء-كاظم فنجان الحمامي

ثمن معجزة الكهرباء

جريدة المستقبل العراقي 11/3/2012

كاظم فنجان الحمامي

قبل بضعة أيام وصلتني رسالة الكترونية من أخي الكبير الأستاذ سهيل المطوري, تروي قصه طفلة صغيرة كانت في يوم من الأيام بطلة لمعجزة إنسانية وقعت في مكان ما من هذا الكون الفسيح, سأعيد عليكم قراءتها هنا بعدما أخبركم بما تركته في نفسي من انطباعات وهواجس ماانفكت تقفز أمام عيني كلما تعمقت في تفاصيل المعجزة التي تحققت للطفلة, وقارنتها بما يحصل في بلد الأحاجي والألغاز والمعجزات من غياب تام للكهرباء التي أضحت عودتها من المعجزات. .
لقد كانت تلك الطفلة سببا في استنفار ملائكة الرحمة, فتحقق الحلم الذي كاد أن يكون مستحيلا بمبادرة طيبة من رجل واحد تعاطف معها, وهب لنجدة شقيقها, فمتى تتحرك عواطف أصحاب الحل والربط حتى يوفروا لنا الطاقة الكهربائية التي نصبت أبراجها فوق أكتاف المستحيل, ولوت أسلاكها حول أعناق الأمل فخنقته في عز الصيف, وشحنت مولدات التعقيد بأمبيرات التعطيل, فتبدد الحلم القديم في سراب الوعود المؤجلة. .

رجل واحد فقط عصفت به الغيرة والحمية, فتفجرت على يده القدرات الإنسانية الخارقة, ورجال وضعنا ثقتنا بهم, وذرفنا الدموع خارج مكاتبهم المحصنة, فأشاحوا بوجوههم عنا, وتركونا نلوذ بالظل خوفا من أشعة الشمس الحارقة. .
لا أريد أن أطيل عليكم, اقرءوا القصة ثم احكموا على الذين تباطئوا في تأمين الطاقة الكهربائية لشعب عريق يعيش منذ ربع قرن في أفران خط الاستواء. .
توجهت الطفلة سارة, ذات السادسة إلى غرفة نومها, تناولت حصالة نقودها من مخبئها السري في خزانتها, ثم أفرغت محتوياتها على الأرض, أخذت تعد بعناية ما جمعته من نقود في الأسابيع الفائتة, ثم همست في سرها: ((إنها بالتأكيد كافية, ولا مجال لأي خطأ)), أعادت النقود إلى حصالتها, ولبست رداءها, وتسللت من الباب الخلفي متجهة إلى الصيدلية, التي لا تبعد كثيرا عن دارها. .
كان الصيدلي منشغلا, فانتظرته صابرة, بيد إنه لم ينتبه إليها, فحاولت لفت نظره دون جدوى, فما كان منها إلا أن أخرجت قطعة نقود معدنية من حصالتها, فألقتها فوق زجاج الطاولة, التي يقف وراءها الصيدلي, عندئذ انتبه إليها, وسألها بصوت عبّر فيه عن استيائه: ((ماذا تريدين أيتها الطفلة, ألا ترين كم أنا مشغول في مناقشة شقيقي القادم من شيكاغو, والذي لم أره منذ زمن بعيد ؟)), فأجابته بنبرة طفولية حادة: ((إن شقيقي الصغير مريض جداً, وبحاجة لدواء اسمه (معجزة), وأريد أن اشتري له هذا الدواء)). .
أجابها الصيدلي وعلامات الدهشة ترتسم على وجهه: ((عفوا صغيرتي, ماذا قلتي ؟؟؟)), فاستأنفت كلامها قائلة بكل جد: ((شقيقي الصغير اندرو يشكو من مشكلة في غاية السوء, يقول والدي أن هناك ورماً في رأسه لا تنقذه منه سوى (معجزة), أرجوك أفدني حالا ؟؟)). .
أجابها الصيدلي بلهجة متعاطفة معها: ((أنا متأسف يا صغيرتي, فأنا لا أبيع (معجزة) في صيدليتي)).
ردت عليه الطفلة بثبات, وقالت له: (اسمع, أنا معي ما يكفي من النقود لشراء الدواء, فقل لي كم الثمن حتى أدفع لك الآن ؟؟)).
كان شقيق الصيدلي يصغي لكلامها, فتقدم منها, وقال لها: ((ما نوع المعجزة التي يحتاجها شقيقك أندرو ؟؟)). .
إجابته الطفلة بعينين مغرورقتين بالدموع: ((لا أدري, ولكن كل ما أعرفه, إن شقيقي مريض جدا, قالت أمي إنه بحاجة إلى (معجزة), وقال لها أبي إنه لا يملك نقودا تغطي تكاليف العملية الجراحية, لذا قررت أن استخدم نقودي)), فسألها شقيق الصيدلي مبديا اهتمامه: ((كم لديك من النقود يا صغيرة ؟؟)), فأجابته مزهوة: ((معي دولار واحد, وعشرة سنتات, ويمكنني أن اجمع المزيد إذا أحببت)). فأجابها مبتسما: (يا سلام. . دولار واحد وعشرة سنتات, يا لها من مصادفة, إنها تساوي بالضبط ثمن المعجزة التي يحتاجها شقيقك)), ثم تناول منها المبلغ, وامسك بيدها, طالبا منها أن تقوده إلى دارها ليقابل والديها, وقال لها: أريد رؤية شقيقك أيضا.

كان ذلك الرجل هو الدكتور (كارلتون ارمسترونغ) جراح معروف, وهو الذي تبرع بإجراء العملية الجراحية للطفل اندرو على نفقته الخاصة, وكانت عملية ناجحة, تعافى بعدها اندرو تماماً.
بعد بضعة أيام, جلس الوالدان يتحدثان عن تسلسل الأحداث منذ اليوم الذي تعرفوا فيه على الدكتور (كارلتون) وحتى نجاح العملية, وعودة اندرو إلى حالته الطبيعية, كانا يتحدثان وقد غمرتهما السعادة. قالت الوالدة في سياق الحديث: ((حقا إنها معجزة)), ثم تساءلت: ((ترى كم كلفت هذه العملية ؟؟)). .
رسمت الطفلة على شفتيها ابتسامة عريضة, فهي وحدها تعلم إن (معجزة) كلفت بالضبط دولار واحد وعشرة سنتات. .
تصوروا معها دولار واحد وتحققت معجزتها, ونحن معنا مليارات الدولارات ولم تتحقق معجزة الكهرباء. .
وقفت وحدها تبتهل إلى الله حتى تتحقق المعجزة, ونحن نقف بالآلف, لكننا نبتهل بقلوب مشتتة ونفوس متنافرة فلم تتحقق معجزة الكهرباء في ديارنا. .
وقف معها رجل واحد, ونحن وقفت معنا طوابير من فرق التكنوقراط, والوزراء والأمراء, ولم تتحقق معجزة الكهرباء. .
ترى ما هو الثمن الحقيقي لمعجزة ثبات التيار الكهربائي واستقراره في عموم المدن العراقية ؟. ومتى تتوقف آخر مولدة منزلية عن الضجيج ؟. .
--

الجمعة، 9 مارس 2012

غالب المسعودي - فانتازيا النص وثقافة الجسد

( اليوم عيد )-حامد كعيد الجبوري


( اليوم عيد )
الى ( ل ) تفحصي قلبك ستجدينني فيه
حامد كعيد الجبوري
اليوم عيد
اليوم البس كل عمر
عمري الجديد
اليوم اصعد للسمه
وأشتم الكمر
اليوم أجيب النجمه
ترجيه الحبيبي
اليوم ما ألبس حزن
ألبس حرير
أمطرز أبماي النده
ويمطر عشك
بيدي أمشط ليل صبري
وأغزل خيوط الفرح
وأغسل همومي
وعطش كل السنين
وأهمس بأذنك هلاهل
يا كمر يا عالي ردلي
شوف كذلة تلبس عيون السنابل
ويركص البيدر غرام
اليوم أطش الروح
بيد الله عتب
إني رايد
كل حلاتك
كل حلاتك
واشرب شفافك عنب
اليوم طعم الفرح هيل
أركض أركض
ما تصل روحك تعب
اليوم طول السهر ليل
ليل ما يخلص سوالف
تلعب أنهودك رطب
طاير أجناحين شوكي
وانثر النجمات بدروب الهوه
اليوم أشوفك تلعب بروحي
تراتيل ونشيد
اليوم كلبي بيك
يكبر
يكبر وينزل بنفسج
ويزرع بحضنك بريد
اليوم عيد
وغير عيدك ما أريد
غير كلبك ما أريد
وما أريد

آخر الديناصورات الغادرة-كاظم فنجان الحمامي



آخر الديناصورات الغادرة
من كان في قلبه شك على غدر هذا الديناصور فلينظر ويشاهد بنفسه هذا الفلم الذي أذاعته قناة العربية, ثم يحكم بنفسه على مدى تدني الفكر التعسفي إلى المستوى الذي تمخض عن طرد آلاف القطريين المسالمين, وتجريدهم من حقوقهم, ومصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة, في حين لاذت قناة الجزيرة بالصمت المطبق وتكتمت على الخبر الفاجعة,
ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم, وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين الصابرين.
http://s1130.vuclip.com/4e/bd/4ebd506ebd47f29ae58231048c928eb1/ba123207/4ebd_w_2.3gp?c=315804242&u=1615777887&s=BNeGJepin22F9FDB0
كاظم فنجان الحمامي
اختار عمر المختار الشهادة بمخالب الديناصور السفاح (غراسياني), فقاتل الغزاة بكبرياء الأبطال, ودافع عن دينه وعرضه ووطنه ببسالة وشهامة, حتى جاء اليوم الذي وقف فيه في قاعة المحكمة مرفوع الرأس, ثابت الجنان, وعبثا حاول القاضي أن يثني عزيمته, ويغريه بالعفو العام, مقابل أن يكتب بخط يده بضعة كلمات يلتمس فيها العطف والرحمة من الجلاد الايطالي, ويبدي فيها فروض الولاء والطاعة, ويتأسف له ويذعن لإرادته, فرد عليه الأسد الشيخ بهذه العبارة الخالدة:
((أن السبابة التي تشهد في كل صلاة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, لا يمكن أن تكتب كلمة باطل))
كان عمر المختار رحمه الله أنموذجا رائعا من نماذج العز والشرف والإباء والتضحية والإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد, في حين انقلبت الصورة هذه الأيام, وظهر علينا مراهق تسلق سدة الحكم في غلطة من غلطات التاريخ. غدر بأبيه الأمير العجوز, سلب منه الحكم والصولجان, طرده خارج البلاد شر طردة, استولى على عرشه, صادر حقوقه كلها في انقلاب تلفزيوني على قناة الأكشن السياسي, ثم طمس ذكره في الدنيا قبل الآخرة, واختار الوقوف مع الغزاة في حروبهم التوسعية المفتعلة ضد العواصم العربية كلها من دون استثناء. .

فكان الله في عون الأمة التي يتآمر عليها هذا الديناصور الغادر الذي ماانفك يتحين الفرص لتدمير أشقائه العرب من حكام الأقطار المجاورة له, فالذي يغدر بابيه يسهل عليه الغدر بأخيه ؟؟, والانكى من ذلك انه كتب اسمه بالحروف العبرانية التوراتية على بوابة أحدث المستوطنات الصهيونية, وتبرع وحده بدفع تكاليف المستوطنة, التي تعد من أجمل المستوطنات وأكبرها في عموم الأرض العربية المحتلة, ومن لا يصدق هذا الكلام يراجع الروابط التالية ليرى بنفسه مشاهد الافتتاح والحفل المقام لهذه الغاية ؟؟. .
http://www.youtube.com/watch?v=H2X-7W7XII8
http://www.youtube.com/watch?v=C2-5swyk7V8
http://www.youtube.com/watch?v=2rurwlWRSYY
من كان يصدق أن يأتي علينا زمان يتخاذل فيه حاكم عربي إلى هذا الحد, فيبني في بلاده أكبر القواعد الجوية الحربية للبنتاغون, ويمنحهم من الامتيازات والمزايا والعطايا ما لم يمنحه لأي بلد عربي, حتى صارت مدرجات تلك القواعد الجوية هي الأطول في جميع مطارات الشرق الأوسط, فزاد طولها على 4500 مترا, وارتفعت حظائرها فوق الأرض كقمم الجبال, وباتت تضم آلاف المقاتلات والقاصفات, التي انطلقت من هذا المكان بالذات لتدك حصون بغداد والمدن العراقية الأخرى؟, فلا خير في الزمان الذي يتآمر فيه علينا متذبذب, اختار التمسح بأذيال حكام تل أبيب, وصار رفيقهم النجيب, وصديقهم الحبيب القريب, أحاط نفسه بفريق منتخب من وعّاظ السلاطين, ومعهم جوقة من المضللين ؟, يتباهى دائما بمؤسساته الإعلامية التحريضية, التي لعبت دورا كارثيا في إذكاء نيران الفتنة الطائفية بين المسلمين, وتمادت في الإساءة إلى شعوب المنطقة وحكامها ومنظماتها, فتبا لمن يتآمر علينا. ألا تبا له ولأسياده وحاشيته. .
تميز بكراهيته للعرب, انفرد بصلافته, حرص كل الحرص على صداقته المتينة مع تل أبيب, تعاطف مع شباب اليهود, شملهم برعايته, سمح لهم بالالتحاق في جامعات عاصمته, كان سخيا معهم إلى الحد الذي تبرع فيه بتسديد نفقات دراستهم وإقامتهم وتنقلاتهم من جيبه. .

لا شك إنكم تعرفونه جيدا, وربما تعرفون عنه الكثير من الأسرار والألغاز, لكن المثير للقلق والباعث على الخيبة انه صار هو الذي يقود حملات تمزيق الشعوب العربية, وهو الذي يتحين الفرص لضرب سوريا, وتقسيم ليبيا, وتهميش السعودية, و(تفليش) اليمن, وهو المحرض الرئيس في هذه الفوضى العارمة, التي تفجرت في البلدان العربية وحدها من دون غيرها من أقطار السماوات والأرض, وهو الذي يعد العدة لتفجير أكبر الحروب الكارثية في حوض الخليج العربي بين إيران والكيانات العربية الآمنة المطمئنة, وسيقحم العرب في حروب بركانية تحرق الأخضر واليابس. .

نحن يا جماعة الخير نعيش أبشع فصول المأساة, فالذي يحدث أمامنا اليوم لا يصدقه العقل, خصوصا بعد أن صار هذا الحاكم, هو الذي يضع النظريات الثورية, وهو الذي يطلق المواعظ السياسية, وهو الذي يشرح للقادة العرب أصول الحكم الديمقراطي, وهو الذي يرعى الانتفاضات العربية من مراكش إلى سد مأرب. .
والله يستر من الجايات. . .

الجمعة، 2 مارس 2012

حينما تفيض صدورنا غيضا نلجأ بأحزاننا في العراق الى المقابر -حامد كعيد الجبوري


حينما تفيض صدورنا غيضا نلجأ بأحزاننا في العراق الى المقابر
حامد كعيد الجبوري
( هموم وكبر )
وحشه دياركم سكان الكبور
بقت بس الأسامي وكومة حجار
نمتوا بالأمان وماكو ناطور
ولا تعرف حزن وهموم تحتار
ولا بالك تشغله اتحيطك أنمور
ولا تسمع البينه أشصار ما صار
تناخه الدود بيكم ياكل أبدور
بعيون الورد وخدود جمار
يوميه طبك كل ساع عاشور
وزفينه الشباب شموس واقمار
من يهيج حزني أتضيك الصدور
نحجي للكبر ما يكشف أسرار
هم عدكم قوائم تعرف الزور
متروك الأصيل وتصعد أشرار
متحزمه المنيه جفوف ناعور
عميه وما تعرف زغار وكبار
عفتو للأهل مليتوا القصور
جيرانك كبر ويزورك الجار
هم عدكم مصيبه وكلكم حضور
وتسمعون النواعي أحزان وأشعار



الخدمتك ما أجوا ولدان والحور
بصوانيهم يفوح الهيل وأزهار
دنيتكم هظيمه وحلك تنور
ونكلتوها جحيم النار للنار
تحاسبتوا ولكيتوا هناك دستور
ميزان العدل وحساب جبار
هم كبرك أمصفح بيه مستور
عن عين الشعب وسيوف الأشرار
السياسي وبرلماني كبره محفور
الفقير الحافي يمه تنام تجار
شما تجمع ذهب وتظنه مذخور
تصبُّح والمنيه أتمسي خطار
------------