السبت، 20 يونيو 2015

"أول النهار"* لسعد القرش : لماذا تم تجاهل هذه الرواية المهمة؟-هشام بن الشاوي



"أول النهار"* لسعد القرش : لماذا تم تجاهل هذه الرواية المهمة؟

هشام بن الشاوي

مدن  تحلق في سماوات الخيال :
 تعودنا أن نتجول مع كتّابنا العرب في مدن القاهرة، الدار البيضاء، دمشق، بيروت، عمان وغيرها من المدن والعواصم العربية... نتسكع في شوارعها، ونتلصص على أزقتها و أحيائها الخلفية، لكن بعض الروائيين  يميلون  إلى "اختراع" مدن وهمية؛ مدن متخيلة، ستبقى خالدة في ذاكرة القرّاء الشغوفين بالسرد، ويجد الكاتب  في هندسة تلك المدن  متعة لا تضاهى؛ متعة لن يعرفها سوى من اكتوى بنار الحكي، لا سيما وأن الرواية - بخلاف باقي الأجناس الأدبية- فن حياكة التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، فيحلق  بخياله على بساط الريح  فوق شوارع وبيوت مدينته، متأملا أحوال البلاد والعباد. ومن بين هؤلاء الكتاب نذكر على سبيل المثال لا الحصر : محمد البساطي في رائعتيه : "الخالدية"، تلك المدينة التي لا وجود لها إلا في خيال  بطل الرواية، الممزق بين عالمين، ثم روايته :  "دق الطبول"، التي لجأ فيها إلى خلق  إمارة وهمية بالخليج، وهناك عزت القمحاوي في  "مدينة اللذة"، وجمال ناجي في "مخلفات الزوابع الأخيرة"، وأخيرا وليس آخرا.. سعد القرش بروايته الماتعة "أول النهار".
•· رواية المكان و الأجيال :
بخلاف باقي الكتّاب، لجأ القاص والروائي سعد القرش في محكيات "أول النهار"  إلى بناء قرية  "أوزير" على ضفاف النيل، في أوائل القرن  العشرين، ونخمن أن صعوبات كثيرة قد صادفته، للإلمام بتلك الأجواء، في غياب كتابات أنثربولوجية عربية. و يشترك  سعد القرش مع جمال ناجي في أنهما  بنيا المدينة/القرية من الصفر، وبعدد محدود من الأهالي، ثم  تطرقت الروايتان معا للعلائق الجديدة للأهالي بالمكان وتشابكها مع الأحداث والمصائر والأطماع الفردية، ثم تراتبية المجتمع عبر أكثر من جيل. ففي رواية القرش ثمة ثلاثة أجيال تتوارث سيادة القرية، حب المكان وحمايته من الأخطار الداخلية والخارجية،  بينما أبطال رواية ناجي يتقاذفون كذبة ملكية أرض، ليبقوا سادة المدينة. 
لقد استطاع الجد/ الحاج عمران، وهو اسم على مسمى، أن يعمر المكان مع الناجين من القرى الأخرى، فبنى "أوزير"، بعد أن محاها فيضان النيل، على أساس  العدل والتسامح بين الأديان والأجناس، جعلها قرية حصينة، وسعى إلى مقاومة الظلم والاستبداد والعبودية، حيث  صار بيته ملاذا للعبيد والفلاحين الهاربين من جور الأسياد، وفي ليلة زفاف حفيده سالم استعاد هيبته في القرية، بعد أن دبر مكيدة لرجال الباشا  مع مروان ابن خليل الطوبجي، الذي سعى للانتقام  لموت أخيه صفوان، فكان ثمن  تطهير القرية حفيده سالم، الذي  لقي مصرعه بعد ساعات من زفافه مثل أبيه مبروك، ولم يتحمل عامر موت أخيه، فهام على وجهه كالمجنون، بينما عمران  اعتبر ابنة العبد الأرميني هوجسيان مسؤولة عن موت الحفيد والابن، في حديثه مع مربيته  حليمة: " بنت العبد قتلتني مرتين.. قتلت ابني ودفعت ابنها للموت". بينما حليمة تعتبرها منحوسة، فكل من يرى عريها يموت؛ أمها ماتت بعد ولادتها، زوجها مبروك، سقط من فوق سطح البيت ليلة زفافه
عاريا، وكذلك المملوك الذي رآها عند النهر، أثناء محاولتها الانتحار، إضافة إلى ذلك فقد بقيت هند ساذجة، حتى بعد أن صارت جدة، فتنهرها حليمة، كلما بدأت في الحديث عما حدث ليلة الزفاف :  "خلاص يا مفضوحة".
•· القلق الوجودي :
على عكس باقي شخوص الرواية، يشترك عمران وابنه مبروك في  معاناتهما من الفقد وفي الاغتراب، فالأب عمران يظنه من لا يعرفه مجنونا، وهو يلعن الأشباح، ويقذف السماء بحجر، متذمرا من عبثية الأقدار، وتلك اللعنة الغامضة التي تطارده كل خمسين عاما. أما مبروك فينظر إلى السماء: " تساءل عن معنى الموت. عن ضياع بلد بكامله، في لحظات غضب لفيضان أحمق، يلتهم العابد والعاصي. عن غياب عروس في الطمي، قبل أيام من تحقق حلمها بالزواج. عن انطفاء فرح أمها بزفافها، بل عن عدم تمكن هذه الأم من الحزن، على عروس ماتت بلا عزاء. ولعن حياة تأتي في لحظة نشوة، وتذهب عبثا. يأتون من عدم، ويذهبون إلى عدم، فلماذا لا يُعفون من هذا العناء؟". 
•· الولي الحشاش: 
بموت أخيه سالم، اختفى عامر من القرية، وعند لقائه بامرأة، (وقد كان زير نساء، لا تسلم من حبائله حتى العاملات في الحقل، بل يتفنن في إذلالهن)، وعند ممارسته الحب مع تلك المرأة، نفر البغل، وخلع أحد أوتاد الخيمة، فسقطت فوقهما، ولم يباليا بذلك...  ثم  باركته وليا، وأشاع  عنه جيرانها الصلاح والتقوى، فزاد مريدوه، وتناقل الناس كراماته، وتهافتت عليه  النساء يهبنه أنفسهن، ولكي لا تتعذب روحه لحظة خروجها، مثل روح أخيه الذي مات  فوق ظهره، دون أن يدري.. لجأ إلى الحشيش، للإفلات من الألم،  متمنيا أن يأتيه الموت وهو نائم أو سكران، حسب  بوحه للقهوجي على الله، الذي كلف بالبحث عنه.
وبعودته إلى البيت، سيتحسر على السنوات التي ضيعها بعيدا عن صفية بنت الحلبي، وبعد خروجه أعلن زواجه بها، فاعترضت الأم  هند لأن صفية  بلا أصل، بينما الجد عمران بارك زواجه معتبرا رحلة الجنون قد بدأت مع ابنه مبروك، الذي اختار  بنت العبد زوجة، أمّا الجدة حليمة، والتي تعتبر أروع الشخصيات النسائية بالرواية، (بل إنها تبدو لي مرسومة بنفس الروعة، التي رسم  بها محمد البساطي شخصية الجدة في روايته "أوراق العائلة"). إنها شخصية آسرة في لحظات ضعفها وقوتها، ساحرة بأمومتها الفياضة، رغم أنها لم تتزوج، لاذعة بتعاليقها، وتزداد سحرا في شيخوختها.
توبخ الجدة حليمة الجدة هندا، فيقبل عمران يدها، كي تكف عن سباب أمه :  "فدفعته بقوة لا يدري من أين لها بها:
     ـ وأنت، يا سُخام الحلّة، كيفك حَبَك ساعة وصولك!
     وأتبعت بشيء من الغيظ:
     ـ وعلى الدقيق يا فاجر !
     طمأنها:
     ـ خير ربنا ما له حدّ يا جدّتي.
     وابتسمت فأحس عامر بالراحة:
     ـ لكنك يا جحش أقلقت نومي!". 
بعودة عامر، تتنفس أوزير الصعداء، حيث سيتولى وأهالي القرية التصدي للجنود الفرنسيين، لكنه سرعان ما يقع في الأسر، ولن يتم الإفراج عنه إلا بتوقيع هدنة،  مقابل إطلاق سراح الأسرى الفرنسيين، وبموت صفية وهي تنجب إدريس ويحيى، يعتبر عامر ابنيه قاتلين صغيرين، فرّقا بينه وبين زوجته، وسرعان ما سيغرق  في ملذاته بعد  زواجه بالأرملة زهرة، فتنقلب الأوضاع، ويتمكن منصور ابن على الله القهوجي (الذي وشى بعامر) من كسب ثقة عامر، ثم بسط نفوذه على القرية.   
•· تواطؤ النقد والإعلام:
تتميز رواية سعد القرش بلغتها الشاعرية،  وانسيابها السردي الآسر، الذي يذكرنا بـ"أحمر خفيف" لوحيد الطويلة، و"ليلة عرس" ليوسف أبو رية. لكن ما يثير الاستغراب هو هذا التجاهل المتعمد لرواية رائعة كهذه، علما أن روايتي  القرش والطويلة تتفوقان  على "عمارة يعقوبيان" و"عزازيل"، اللتين تعتبران من الكتب الأكثر مبيعا...
 ترى من المسؤول عن مثل هذه المذابح الأدبية، والتي لا تقل بشاعة عن  جرائم إبادة الأقليات؟ لماذا تقابل "أول النهار" بكل هذا الصمت الكريه؟ هل يكفي أن يتم إقحام بعض الاكليشيهات السياسية أو الدينية في المتن الحكائي دون توظيفها فنيا، أو بمعنى أصح :  دغدغة الثالوث المحرم لكي تتسلل - في غفلة من الزمن- إلى  قائمة الكتب الأعلى مبيعا، بغض النظر عن المستوى الفني للعمل، وموهبة الكاتب، وهذا يكون على حساب نصوص متميزة لكتاب مكرّسين؟
رواية "أول النهار"  تستحق- وهذا أقل تقدير لها- أن تترجم إلى  فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني، لاسيما وأنها  تتوفر على كل مقومات  الفرجة البصرية.. من إثارة، وحالات إنسانية،•·  ومشاعر متضاربة، وأحداث متشعبة، فضلا عن وجود جزء ثان  للرواية، وهو رواية  "ليل أوزير"، وربما كان سعد القرش يعكف على كتاب الجزء الثالث.. يكفي أن موت صفوان على يد شيخ البلد  كان  انتقاما من حركة الحمار العفوية، إذ حرك رأسه، فأصاب شيخ البلد في حجره، فضحك السادة الجالسون معه، وظنهم يسخرون منه، فضرب رأس الحمار بسوط، فنفخ من منخريه ما ازدرد من برسيم، ومال جلباب الرجل إلى الاخضرار. 
فازت هذه الرواية بالمركز الأول في جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في مجال الرواية


جديد شاكر النابلسي: لماذا حولنا الإسلام إلى حجاب وإرهاب؟ :


جديد شاكر النابلسي: لماذا حولنا الإسلام إلى حجاب وإرهاب؟


عن المؤسسة العربية للدراسءات والنشر في عمّان وبيروت، صدر للمفكر الأردني شاكر النابلسي كتابه الجديد (الإسلام وجراب الحاوي.. لماذا حوّلنا الإسلام إلى حجاب وإرهاب؟). وفي هذا الكتاب، يشرح النابلسي الأسباب والدوافع التي أدَّت إلى استغلال الإسلام على هذا النحو السيئ من قِبل جماعات "الإسلام السياسي"، الذين نشطوا وانتشروا، بعد الثورة الخمينية عام 1979، وبعد اغتيال الرئيس السادات عام 1981.
وقد كُرِّس جزء من فصول هذا الكتاب، لنقد مواقف وآراء الفقهاء المزيفين، الذين تحاملوا على المرأة، وشوَّهوا تاريخها، وزوَّروا الكثير من النصوص المقدسة، لخدمة أغراضهم السياسية والاجتماعية، متجاهلين، وغافلين عن التموضع الجديد، والتقدم الحضاري، الذي أحرزته المرأة العربية في العقود الأخيرة. ومن هنا، اشتمل الكتاب على عدة فصول كشفت دور هؤلاء الفقهاء في عدائهم للمرأة، منها: "الفقهاء وذم النساء"، وكيف تمَّ قهرهن. و"الفقهاء وفوبيا النساء". وقد ركَّز النابلسي في هذا الشأن على قوله، أن معظم الفتاوى تمت من خلال أحاديث نبوية موضوعة وغير صحيحة، وكلها يدور حول ذم المرأة، والحطِّ من دورها، وقيمتها في المجتمع، وذلك من خلال الفصل، الذي جاء بعنوان "لا عين لفقهاء إلا على النساء."
 وفي الباب الثاني من الكتاب، تعرَّض النابلسي لظاهرة "الإسلام السياسي"، وهي الظاهرة التي تُشغل العالم العربي الآن، من خلال نقاشه للتيارات الدينية/السياسية في العالم العربي، وكشفه لأسباب انتشار الأيديولوجيات المتطرفة، والأزمة التي يتعرض لها التيار الديني. ويتساءل النابلسي : ماذا لو حكم فقهاء السياسة الدينية ؟
وهو يؤكد بعد ذلك، أن المسلمين في محنة، وقد امتحنوا بهذه المحنة الإسلام امتحاناً عسيراً وظالماً. ويتساءل مرة أخرى عن استعداد مصر لاستعادة الخلافة الإسلامية. ويعيب على المسلمين سُنَّة وشيعة هلوساتهم في انتظار "المهدي"، وفي الفتاوى المضحكة، التي مكَّنت لأعداء الإسلام لكي ينالوا منه.
ويتطرق النابلسي في هذا الكتاب، إلى قيام بعض زعماء العالم الإسلامي بسرقة أموال المساعدات الغربية. ويحذر الغرب في فصل " وباء الدكتاتوريات الإسلامية يلتهم المليارات" من دفع المساعدات نقداً خوفاً من سرقتها، وينادي بتقديم مشاريع تنموية بدلاً من المساعدات المالية. وفي ختام الكتاب، يُخصص النابلسي عدة صفحات، لتوثيق الجدل المهم في الليبرالية، والدولة المدنية، والتعليم الديني، الذي جرى في السعودية قبل سنوات، بين الأصوليين والليبراليين.
وقد أهدى النابلسي كتابه للمفكر التونسي العفيف الأخضر، وقال في مقدمة الكتاب:
" لا أدري هل نحن نحسن إلى القرآن الكريم، عندما نُحمِّله كل هذه الأوهام، التي لا يحتملها أي كتاب آخر في التاريخ، أم نحن نُسيء إليه؟
وهل نحن بعملنا الجنوني المخبول هذا، نريد تأليب أعداء الإسلام على الإسلام، أم نريد كيدهم، وإغاظتهم، بادعائنا الباطل، أن كتابنا المقدس يحوي ما لا يحتويه أي كتاب آخر، سواء كان سماوياً، أم أرضياً؟
قطعاً نحن نُسيء إساءة كبرى إلى القرآن الكريم، وإلى الإسلام ككل، بهذا التبجيل الممجوج، من حيث نقصد، ومن حيث لا نقصد."



مجلة الادب العربي المعاصر

http://www.calameo.com/read/00429572501912aae3f0c

(تأملات في الكتابة القصصية)-ماري ودي كارفاليو/ البرتغال


  (تأملات في الكتابة القصصية)

ماري ودي كارفاليو/ البرتغال






ترجمة سعيد بنعبد الواحد
     السرد شكل من الأشكال التي أوجدها الإنسان لينظم و يمنح قانونا، و معاني، و أخلاقا لعالم لم يشكل على مقاسه. يكفي أن نصعد (أو ننزل؟) خمسين كيلومترا انطلاقا من كوكبنا كي يصبح " ما يوجد في الأعلى و ما يوجد في الأسفل" (و أستعمل هنا عبارة الكيماويين اليونانيين) شيئا غير قابل للإدراك.
يكشف علماء السرديات عن تصنيفات طويلة، دقيقة و مفصلة للقصة، و آلياتها، و فروعها عبر القرون. ليس من السهل دائما فصل القصة عن الأنواع الأدبية الأخرى، ليكون الحجم، ذلك المعيار الأساسي، هو الأنسب في نهاية الأمر: القصة سرد قصير. و مع ذلك، يمكن، في المقابل، تقديم نصوص ذات نبرة شعرية، يعتبرها الكثيرون قصصا. يمكن أيضا لبعض السرود القصيرة، نظرا لكثافتها، أن تتجاوز الحدود، فيصعب علينا أن نقدر كم يجب ان يكون حجم قصرها كي لا تحسب على القصة. هل يمكن اعتبار " الليالي البيضاء" لدوستوفسكي قصة أم novela، أي رواية قصيرة (بالمفهوم البرتغالي للكلمة)؟ بمعنى آخر: هل يعتبر قصة ذلك النص الهجين الذي يضم خصائص تشير إلى نوع أو أنواع أدبية أخرى؟
لكن بالمقابل، هل ينتمي إلى مفهوم القصة ذلك النص القصير جدا(ما هو حجم قصره؟)، و القريب أحيانا من الحكمة؟ علينا أن نستحضر نصوصا، مثل " قصص في دقيقة واحدة" للهنغاري إستفان أوركيني2، بعض نصوص الكاتب الأرجنتيني بورخيس، أو غونثالوم طافاريش3.
يبدو أن الحكايات التي تظهر فجأة في نقط مختلفة من العالم، بالتزامن، و تطرح نفس المواقف و الشخصيات، و تتولد عنها، في كثير من الأحيان، اكتشافات لغوية و تأثيرات مضحكة تعود إلى غابر الأزمنة، تنتمي إلى نفس المجال الذي تتآلف فيه الدهشة و الحكمة.
في كثير من الأحيان، ثمة ما يشبه انتقام الإنسان من العبث و مفارقات العالم، التي هي بشكل ما غير مستوعبة، مع ما ينتج عن ذلك من سلم و هدوء. لكن هناك أيضا، مقابل عالم مفارق، اقتراح مفارقات و لعب عبثي من ابتكار و إبداع الإنسان خاصيتها أنها وُضعت على مقاسه، و أملتها إرادته و ليس إرادة عالَم خارجي يستعصي فهمه.
في الأدب البرتغالي، كان النثر التخييلي المهيمن عدة قرون هو القصة، قبل روايات الفروسية، و يمثل في كثير من الأحيان أصداء حكايات آتية من الماضي البعيد، و من ثقافات و حضارات أخرى. يبدو ان نقاش علماء الأنتروبولوجيا يدور حول مسألة ما إذا كانت الحكايات قد تم إبداعها بالتزامن في أماكن مختلفة، و تستجيب لدوافع متشابهة؛ أم أنها إنتاج و إعادة إنتاج مستمران لبطل، أو حدث، أو حاجة، أو مظهر من مظاهر الذكاء أو الخيانة، يتم اكتشافه و الإخبار به في مكان و تاريخ محددين، بقصد خلق أصداء له عبر الزمان و المكان.
هناك من  بحث في البنيات الخفية و الموحدة لكل الحكايات، و يستمر هذا النقاش في أوساط لا يهتم بها الكُتاب، لأنها مهمة هؤلاء، بالخصوص، هي  الاشتغال بالكتابة انطلاقا من المادة الخام و ليس من التصنيفات.

لكننا لا نكف عن التساؤل عن بحث السندباد و عوليس، و لا عن  أوجه التشابه بين نصر الدين، و الألماني تيل أولينْسْبيغل4 أو الإسباني بيدرو أورْذيمالاس5، أو البرتغالي بيدرو داش مالاش آرتيش6.
سواء في الأصوات القديمة في " بانشانترا"7 أو " ألف ليلة و ليلة"، في الحكايات الشعبية التي زينت بالنجوم ليالي طفولتنا، في الحكايات التي يرويها البدو غير الرحل أو البحارة المتجولون (والتر بنيامين)، أو في الحكاية الساخرة لألفونس ألي8، أو القصة السوداء و المرعبة لإدغار آلان بو، أو " مقطع من حياة" لموباسان أو إسّا دي كيروش9، أو حدة و كآبة هيمنغواي، و قساوة فلانري أكونور، في أناقة أسلوب كردوزو بيريش10، هناك دائما هذا العمق من الحكمة، و الدهشة، و التمرد الشاهد على مبرر وجودنا كبشر، دائما قصد السمو فوق ذواتنا، أو طمعا في بلوغ هذا الهدف.
ــــــــــــــــ
* منقول من (مختارات قصصية) حملت عنوان: "الحرب الغريبة" للكاتب البرتغالي ماريو كارْفالْيو.
1 ـ وضع الكاتب هذا النص النظري في شهر دجنبر 2009 بمناسبة صدور هذه المختارات القصصية بطلب من المترجم.
2 ـ كاتب و مسرحي من هنغاريا(1912 ـ 1979). من أهم مؤلفاته: أساطير قصيرة جدا (قصص من ثانية واحدة) الصادر سنة 1970 (المترجم)
3 ـ كاتب برتغالي، من مواليد سنة 1970. يكتب القصة و الرواية(المترجم)
4 ـ شخصية خرافية من أصل ألماني (القرن14) عرف بمزاحه. يرمز إلى مقاومة الهولنديين للاحتلال الإسباني.
5 ـ شخصية فلكلورية إسبانية يعود أصلها إلى القرون الوسطى. تتميز بدهائها و مكرها الكبيرين. خلده ثربانتيس في مسرحية بيبدرو أورديمالاس (المترجم)
6 ـ شخصية فلكلورية برتغالية معروفة في الحكايات الشعبية و قصص الأطفال (المترجم)
7 ـ أقدم كتاب للحكايات الهندية. وضع باللغة السنسكريتية في السنة الثالثة قبل الميلاد (المترجم)
8 ـ كاتب فرنسي ساخر من القرن التاسع عشر (المترجم)
9 ـ كاتب برتعالي من القرن التاسع عشر. كتب الرواية  الواقعية و القصة القصيرة (المترجم)
10 ـ كاتب برتغالي عاش بين القرنين التاسع عشر و العشرين. يكتب الرواية و القصة في إطار التيار الواقعي (المترجم).



بادية الرماد" إصدار روائي جديد للكاتب المغربي محمد كروم-


بادية الرماد" إصدار روائي جديد للكاتب المغربي محمد كروم








عن دار " كلمات" بالرباط، صدرت. مؤخرا للقاص والروائي المغربي محمد كروم رواية تحمل عنوان: " بادية الرماد" في 97 صفحة من الحجم المتوسط، والتي تم توقيعها بالمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء يوم الجمعة 13 فبراير 2011.
الرواية تحكي عن عالم البادية والتحولات التي يعيشها بسبب الزحف العمراني على المدينة وظهور مشاريع ضخمة سياحية ورياضية مما فتح شهوة المستثمرين على الأرض، فيحدث الصراع بين الناس البسطاء ورجال السلطة، كما تصور جانبا كبيرا من الحياة البسيطة لأهل البوادي مما يجعلها نوعا من التأريخ للمنطقة التي دارت فيها الأحداث، وفي خضم الصراع تنبثق العواطف والأحاسيس الجميلة فيظهر الحب وأشياء أخرى.
وتقدم الرواية عالمها بلغة تمتزج فيها الشاعرية والسخرية والنقد اللاذع وقد لا تتحرج فتكون نابية أحيانا.
والكاتب محمد كروم قاص من تارودانت (جنوب المغرب)، أستاذ التعليم الثانوي لمادة اللغة العربية، خريج جامعة القاضي عياض شعبة اللغة العربية وآدابها، من مواليد إحدى القرى الصغيرة المترامية جنوب مدينة مراكش ( 39كلم) والتي تسمى ( الشويريج) بين مراكش وأمزميز، يمارس الكتابة الصحفية في عدة منابر جهوية وأحيانا وطنية، كما نشرت له مجموعة من المقالات الأدبية والنصوص القصصية بعدة منابر إلكترونية، يتحمل مسؤولية التنشيط الثقافي والمسرحي بالمؤسسة التي يشتغل بها، صدرت له سنة 2008 مجموعة قصصية بعنوان: " شجرة القهر" وله عدة أعمال قصصية في انتظار النشر
.


فاطمة الزهراء المرابط : كاتبة من أصيلة /المغرب


الجمعة، 19 يونيو 2015

نصوص-غيمة النار-المتوكل طه



نصوص
غيمة النار

المتوكل طه  


قطراتُ الجمرة تحت البحر تتضور منذ الأزل المُبْهم، هي نطفة السلطان المخلوع، ليبقى على سرج الهتاف وسنابك النصر المثخن بالسباع الصرعى. رآها النسر فهوى مثل السهم النيزك، وبمنقاره الفدائي فثأ اللؤلؤة المحظوظة، فصعدت حتى بلغت السطح المجعّد، وكنتُ أطيش على زجاجي الرخو، فانسربت حتى دخلت الإبرة إلى نخاعي. فما بالي أحمل هذي الذّرات المصبوبة، كأنها الدم الملكيّ الذي يتوجني ابنَ رسولٍ لم يدرك رفعته النبوية؟

***
غزالة حامل بأجنّتها تقطع الدرّب إلى شجرها، فتضربها مركبةُ الجيش، فتطير الغزالةُ وتسّاقط حبّاتُ رحْمها المدمّاة، وتتدحرج بعيداً مشقوقة البطن، والفوران الأحمرُ يتدفّق، والزغب مهروس تحت العجلات!
جاء الفلاّحون من القرى المجاورة، ولمّوا أشلاء الغزالة، وجمعوا معها الأجنّة المسحوقة، وأقاموا عليها الصلاة!
يقولون: نبعٌ من عصافير مضيئة يتدفق عالياً كنافورة من شذرات لامعة ترسم شكل قلب مكان ارتطام الحديد مع أمّ الصغار.
ويقولون: ناي يعلو كالغبش أو الغلالة يتكوّر كبطن الحامل وينفجر رذاذاً بلّورياً، حيث انسحقت الشمسُ مع نجومها التي لم ترَ النور.
ويقولون: بكاء خفيف يصدر عن الحجارة والأغصان وجذوع الشجر وأنامل العشب وتبر التراب في فضاء استشهاد الحامل الصعب.
ويقولون: إن جمرات بيضاء تنبض في الليل، كلما وسوست العتمة وادلَهمَّ الليل، فتخرج الطيور من أعشاشها تؤنس وحدة البياض الشجاع.
ويقولون: ما فتئت قطرات ندى بطنها المخمليّ ترهج كالذهب على جنبات الطريق، وإن الشجن يعلو كلما عصفت الرياح، أو مرّت العجلات القاتلة.
وقالوا: إن الغزال المكحّل الذي فَقدَ غزالته المدهومة قد تحزَّمَ بالإثمد، وجنّحت شظاياه على بُعد وردة من الحاجز المنعوف.
***
 بستان الشوك مليء بالتين ومراهقة اللوز، والطير حبيس الأعشاش، ونزّ الخيط الوردي إلى أن رفّ على شباك امرأة عذراء، ووقف على صحن الكفّ، وكادت تشكو، وهبطت حبّتان، نـَفـَرتا كالكرسنّة الألماس، ففهم الريش وتعافى، وعاد إلى لبن الحبّات.
*** 
السيدة العمياء/ العدالة ما زالت عمياء. فاشعلوا أيها السائرون دماءكم لتقودوا الطريق الى الميزان.
***
ثمة حيوان منقرض، يستيقظ في جسد حثّيّ، يبدو متماسكاً ببدلته وربطة عُنقه، ويلوّح بسبابته محذّراً الأرضَ من الدوران.
إنه يريدها أن تقف أمامه مطأطئة الرأس، عارية الصدر، وتفرد جسدها جسراً لوحوشه اللاهثة، والدم يتدلى خيوطاً غليظة من أشداقها !
هو أبن المسخ، الذي أقْنَعَهُ صمتُ العقود، بأنه أكبر من مكوّنات الخليقة، وأعلى من مآذن الصلاة.
إنه بلا أيّ ملمح آدمي، أو كثافة بشرية. وعلى العلماء أن يبدأوا البحث عن مخلوقات مهولة، تلبس أزياء روما، وتنسى بأنها أكثر هشاشة من حرف الهواء الذي يخرج من بيت النمل الوثني، الذي أخذ شكل أفواهها المعتوهة. 
***
صدى الصيحات، عادةً ما يتلاشى، إلاّ صيحات الدم ! 
*** 
لن تخفى تلك اللفحة الحارة، فالمزمار خمرة نافذة، وهذا الفيضان بعض آثاره، وذلك النهار بعض نوافذه، وأكاد أخرج من هيكلي لأمسك بفضّته السابحة، وما زلت على قناعة تامة بأنه وحش النضارة والفرح، الذي أضعه على رأسي، وأمشي على مياهه العذبة. 
***
هيرودوس، الإمبراطور المجنون الذي كان يصيب الحديد بالرعب، قد أكلته الديدان وهو يعاني من سكرات الموت في أريحا، التي لم تكن حينها شرفة للقمر والليل البهيج، بل كانت مُلوحةً ورطوبةً وذباباً زاد من معاناة الإمبراطور المختنق بقلبه المتضخم ورئتيه المنتفختين بالماء وبحشرجته الذابحة.
هيرودوس هذا طلب من معاونيه، وهو على فراش العذاب، أن يقتلوا يوم موته ألفاً من علية القوم، حتى تنوح النساء والبيوت، ويحسب الناس أن ذلك العويل هو حزن على هيرودوس. 
***
السجين الذي استعصى على مربعات الاحتواء، وعلى الحذف والإلغاء والإضافة، انفجرت لعبته بين يديه، فالرسّام الوهاب ضاق به ذرعاً، وكان يريده بحجم جُرْمه القصير الضئيل، لكنه طائر من أرض العماليق يئزّ على المنارات، فيشعلها بوعوده الأكيدة، إنه الآن حُرّ مثل مُلصقه الذي يحرس المدينةَ والناسُ نيام. 
*** 
أوقفه الحاجز، كانوا مستنفرين كالطوفان، وبعد أن أتمّوا حفلة الذّل والتفتيش والتنبيش عن الهواء، قالوا لامرأته أن تخلع كل ملابسها، فثمة وطن سينفجر في بطنها، وارتفع الصراخ الوحشي المجنون، وانغلق العقل- سيعرّونها غـَصْباً-... وبعد دقائق كان دمه يشق جداول نحو الشجر اليابس على حافة المجنزرات، وامرأة تستلقي دون ثياب! 
***              
مثلما تركتم أجسادَكم للرصاصِ أيها الفارهونَ الذين أخطأَتْهم صُدفةُ الضرورةِ- وكان ذلك في حُلمٍ مصنوعٍ من جلودِ العبيد- اتركوا باقةَ الوردِ البسيطةِ وغربالَ البكاءِ الناشفِ، وخلّوا الوعلَ ينزُو قبل أن تصطادَهُ الأنفاسُ، فقد كان الطريدةَ والصّيادَ. وهو نحنُ المُسرنمون الشهودُ على الصفقةِ. واتركوا الرأسين العاشقين ليأتيَ صوتُ البحرِ العارم! ومثلما تركتُم المقصلةَ صَدِئَةً لِغَلبةِ الخَرسِ وهدوءِ التأويلِ وألعابِ النساءِ المستريحاتِ.. اتركونا في وديانِ الجنونِ البريئة. فالحقيقة ما تُريدون سَمَاعهُ عن النارِ أو الانكسارِ.. بعد أنْ خاتلتم البرَّ والَفرَسَ، ووأدتم الأغنيةَ، وتركتمونا ننتظرُ مواقيتَ موتنا ونخيطُ أكفاننَا بأقلامنا في أزمانِ اللّهو والحليب القليل، وجعلتمونا آباءً لأطفالٍ يستثمِرون ويرقصون على موتِ ثوبِ الحكايةِ والحقل. والحقيقةُ أنكم قبيلةُ الحداثةِ الميّتةِ التي لَبسِتْ قِناعَ قاتلها ولعبتْ أدوارَهُ الُمفزعَةَ، في أرضِ كنعانِنا القَديمةِ، وأرضِ نبيّكم الجديدةِ، فنحنُ الفائضون عن الحاجةِ.. الذين باعت أُمُّهمُ شَعرها وساقهم الطوفانُ إلى عُنفٍ خائبٍ لم يحمل في أحشائه النبيَّ المنُتظَر. ولم تعرفوا أن الذي يقتل فَرْدَاً عليه أن يحفر قبرين، فلماذا آثرتم الرايةَ النقيضةَ وذبحتُم الصباحَ؟ وفي شرايين أبنائكم خريرُ النارِ ودفءُ الدم الذي جعلتموه مفارقةً للذريعة الكابية! ولماذا.. وقد وضعتم إطارَ الطريقِ إلى الموتِ فلا تتركونا نترنّحُ قليلاً، ونَصْرُخُ قليلاً، ونبكي كما لم تبكِ الآلهةُ المذبوحُة من جِذْعِها فوقَ جُثَث أبنائِها؟ فاتركوناَ.. واتركونا نبكي على الشجاعِ الذي لن تراه البيوت.



اصدارات جديدة-"الكاميليا والرمان" رواية تشهد على عصر الفساد-محمد الحمامصي

اصدارات جديدة

"الكاميليا والرمان" رواية تشهد على عصر الفساد



محمد الحمامصي




يبني المثقفون تصوراتهم دائمًا، على أننا مقبلون على عصر مظلم، ويكونون، حين يتصورون ذلك، في عمق أعماق ذلك العصر المظلم، وقد سئل نجيب محفوظ، وكان بطله "سعيد مهران" في "اللص والكلاب" يعاني عصرًا شديد الإظلام من القهر والظلم والاستعباد، لماذا لم ينجح سعيد مهران في أي من مرات انتقامه، وهو على حق، فأجاب: لأن الفرد لا يغيِّر.
يمثل الشمردل البتانوني شمردل، بطل رواية عمرو عبد السميع الجديدة "الكاميليا والرمان"، الصادرة عن الدَّار المصرية اللبنانية، بطلًا عصريًّا بامتياز، حيث لم يغيِّر بموقفه العنتري في آخر الرواية، واقع الفساد الذي مسخه، وحوَّله شبحًا وظلًا لشخص تافه، وفاسد يمثل طبقة ضربها العفن والتحلل، غرقت في صفقات بيع الأوطان، بعد نجاحها  في بيع الأوهام، في ظل حكومات مستقلة شكلًا، جاءت بعد عصر الاستعمار، لتمثل الاحتلال الداخلي الذي يمتص موهبة الموهوبين، ويتاجر ويستنزف أبناء الطبقات الدنيا، من نبغ منهم، يعمل تابعًا، ومن منحت قدرًا من الجمال، تصبح محظية، تحت مسمى زوجة، والإصلاح ومحاربة الفساد شعارات حاضرة وطنانة تخفي في طياتها أبشع أنواع القهر والزيف والادعاء فضلًا عن الضحالة والركاكة الفكرية والشعورية.
تبدأ الرواية فيما يشبه التمهيد الموسيقي، أو اللحن الناظم للسيمفونية كلها، لأن مشهد البدء يقع في قلبه مباشرة ختام المأساة بالتطهر والاعتراف الرومانسي الطوباوي، تبدأ بمدخل وصفي لجنازة عسكرية يحضرها رئيس الوزراء وهو مدخل لا يتجاوز الطريقة الوصفية للجنازة ومن فيها، حيث يدور أغلب الأحداث في ذهن الشمردل، وهي جنازة عالم مزيف، أصبح وزيرًا هو بشير جار النبي، ابن اللواء، أسطورة الكيمياء وعز مصر وفخرها في المحافل العلمية الدولية، وهو لم ينجز مما هو عليه شيئًا، فقد كان هناك الشمردل الذي يعد أبحاثه في الكيمياء، وهو العبقري ابن الفقراء، ويكتب خطب بشير جار النبي بعد أن صار وزيرًا، المسخ العبقري، في ظل الواجهة البَّراقة، حتى المرأة التي حلم بها وتمناها واشتهاها، نالها بشير منه، وها هو بشير قد مات ليواجه الشمردل رحلة ضياعه.
يتوالى دخول الشخصيات على مسرح الرواية، على طريقة سرد المرايا، كل شخصية بتمهيد لها، تحكي ما شهدته من جسم الحدث، وهي طريقة معقدة وصعبة، تحكي من وجهة نظرها حينًا، وتضيف تفاصيل إلى الحدث الرئيسي حينًا آخر، سيطر فيها عمرو عبد السميع على شخصياته فنطقوا بلسانه، وكل الأحداث تتداعى على ذهن الشمردل أثناء الجنازة، وقت موت الإله الذي مسخه، الشمردل الشخصية الطاغية التي يتوجه السرد منها وإليها، المرايا المتداخلة، والوجوه المتعددة في السرد، نذهب إلى نقطة محددة : مأساة الشمردل.
تسع وثلاثون شخصية روائية، من لحم ودم، يمكن تعيينها والإشارة إليها، وتلك مراوغة الرواية الحقيقية، تخييل منطلق من واقع، وواقع دونه الخيال، تسع وثلاثون شخصية تتعرى أمام نفسها، وأمامنا، وكشف دواخل الشخصيات ونزع القناع عن مدَّعي الفضيلة، مدّعي الحسب والنسب والقيمة، أكثر الثيمات التي يكتبها عمرو عبد السميع، وأكثرها كراهة بالنسبة له، وكأنه أخذ على عاتقه تطهير الحياة من المزيفين والمدعين، عثر الروائي، إذن، على تيمته المحببة التي تشكل له كنزًا، يجيد كتابته، ويجيد تأمله وتعريته، رافدًا سرده بأنهار صغيرة، تصب في مجرى عميق، من الغناء الشعبي، إلى الشعر، والمثل العاجي والفصيح، حتى ليلجأ أحيانًا إلى طريقة الخطابة.
أراد الراوي تعرية عصر بكامله، من الفساد المحلي إلى الدولي، تمويل الجامعات الخاصة، وسرقة الأبحاث، ولعبة الأعوان والمقربين، فساد الصحافة والصحف والنفوس، لعبة حقوق الأقليات، وآليات خلق العملاء، أراد تشبيك كل شيء، في كل شيء وقوله مرة واحدة وإلى الأبد، الرغبة في الخلاص من المعرفة الضاغطة.
إدانة عصر بكامله، وقعت بعض الشيء في الرومانسية والمثالية، ليت الشمردل، لم يقف في العزاء الرسمي ليفضح الوزير المزيف، وعالم الكيمياء الذي لم يدخل معملًا في حياته، ليت الشمردل لم يعترف بأنه هو من ألف الأبحاث، وكتب رسالتي الماجستير والدكتوراه للعالم الجليل عز مصر وفخرها، أراد التطهر بعد موت الإله، أمام الملأ، وأمام الفضائيات والنجوم المزيفين، ليعود بعدها مع أبيه الخارج توًا من حياة مذلة مُهانة من تحت امرأة غنية، لم يكن لها غير آله، ليعود مع أبيه إلى القرية يعلِّم الأطفال العلم والكيمياء التي باعها لمن يدفع.
اللغة لامست حدود الشاعرية أحيانًا كثيرة مستعينة بالجهر والنبر، الخفوت والهمس، وفق وقائع تحدد وتبرر اختياره.




علم الجمال:أطروحة التعبير في الهندسة- عدنان المبارك

علم الجمال
أطروحة التعبير في الهندسة

عدنان المبارك


لغاية أمد قريب ُُفسِِّّرت الهندسة geometry ( تعني باليونانية قياس - metres الأرض - geo ) بصورة لا تربطها بأغراض التعبير. فالزخرف الهندسي لايقوم مثلا بأيّ وظيفة أخرى غير الزينة. إلا أن بعض الباحثين يؤكد على نشوئه الدال على مخاوف معينة في الإنسان أو أنه يعبّر عن مساع ٍ ما لديه. ومعلوم أن المنظر الألماني المعروف فلهلم فورنغير W.Worringer طرح مفهوما مفاده أن الإنسان القديم أراد الحد من إعتباطية عالم الظواهر من خلال رموز الضرورة بواسطة الصور الهندسية . فهذا الإنسان الذي أقلقته وأجهدته الحياة بحث عن كل ما هو غير حيّ يزيل القلق من الغد ويحل محل الإستمرارية الثابتة. ويكتب أيضا في مؤلفه المعروف ( الفن الغوطي ) بأن الخلق الفني كان لدى الإنسان القديم إنفلاتا من الحياة وعشوائيتها ، والإبقاء بأسلوب تعبيري على شيء هو أسمى من الظواهر وذي طابع ثابت. إذن لم ينشأ الزخرف الهندسي ، وفق فورنغير، من الحاجات العملية ولا من الرغبة في التزيين بل كان تعبيرا عن هروب الإنسان من عالم الظواهر البصرية التي أثارت قلقه بتنوعها وتغيراتها وعشوائيتها. فهو لم يقدر على تنسيقها في نظام مترابط للأسباب والنتائج. وفي الوقت ذاته خلق عالماً لكل ما هو مستقر وأكيد ومطمئن ، عالم القيم الثابتة والمطلقة والتي صارت مضامينا دينية عندما تمّ جمعها.
معلوم أن الخط المستقيم لا وجود له ، بالأساس، في الطبيعة. وعندما رسم الإنسان القديم هذا الخط كان مدركا لأستقلاليته عن القوانين الطبيعية ( العضوية ) ، كما كان يعي بأنه يفعل شيئا يتجاوز الآخر الحي ، شيئا غير بيولوجي ولا يحوي أيّ تقديم أو تمثيل للحياة. فلاغرابة إذن في أنه ربط بهذه الخطوط المستقيمة والشخوص المخلوقة منها ، مشاعره الدينية. إن هذه الخطوط و الشخوص والأحساس بالمطلق كانت ، على السواء ، خارجية ، متسامية transcendent أزاء الطبيعة التي تؤثر على الحواس حسب. وفي كلتى الحالتين حصل إجتياز عالم الظواهر البصرية ( المرئية ). وبذلك نشأ الوعي بوجود تماثل بين العناصر الهندسية وكلّ ما هو إلهي وضروري . وقبل أن تخدم الهندسة الأغراض العملية ( القياسات ) وتصبح علما كانت تؤدي وظيفة تعبيرية. فلقد كانت بالنسبة للإنسان هروبا من القلق كما عبرت عن الأحاسيس المتسامية والآلوهية والمطلق. وبين الوظائف المذكورة تبين أن الأولى كانت الأقل بقاءا. فالإتصال المتكرر والمستمر بين الإنسان وظواهر الطبيعة أدى الى إدراكها وفهمها وإكتشاف أحوال الترابط والإعتماد المتبادل بينها، كما قاد الى المهارة في نشوء إحداها نتيجة قيام الأخرى وبذلك زال تدريجيا القلق و الخوف اللذان رافقا إحتكاك الإنسان بالطبيعة. وبهذه الصورة أصبح العالم الخارجي أليفا. ومع تقدم معرفة الإنسان بهذا العالم إزدادت ثقته به ايضا. ونتيجة لذلك تبدل الفن أيضا وصار تقديميا. ومنذها بدأت الهندسة تخدم الأغراض العملية سواء في الحياة أو الفن. ومن الصعب إدراك تطورالعمارة والتصوير والنحت الأنتيكي بدون المعرفة الهندسية التي مكنت من وضع القواعد والنسب التي أصبحت فيما بعد لدى الأغريق وغيرهم ، أساس الجمال. الا أن تلك الهندسة كانت غير مرئية. فقد حجبتها ( طبيعية ) الأشكال المستعارة من الواقع المراقَب والتي لم يتذكرها المتلقي المندهش بالأشكال العضوية للطبيعة والتي شملت البنية أو الهيكل. لقد تبين أن الوظيفة التعبيرية للعناصر الهندسية والتي يكون أساسها التعبير عن المطلق ، هي الأكثر ديمومة. وفي الحقيقة أحدثت الثقافة الأوربية ، هنا ، تغيرات جوهرية إعتمدت بالدرجة الرئيسية على الإختفاء النسبي لأحاسيس الآلوهية كشيء يحوي التسامي المطلق ويتخطى كل ما هومعلوم. فتصوّر الإله إرتبط لدرجة معينة بالواقع الأرضي. وفي الدين اليوناني كانت متقدمة للغاية عملية ( أنسنة ) الآلهة. كما إنتقلت العناصر

الأنثرومورفولوجية فيما بعد الى المسيحية . فالمسيح أصبح إنسانا بالمعنى المورفولوجي . وهكذا فالآلوهية كفت عن أن تكون ظاهرة لا صلة لها بالعالم المحيط بالإنسان. ومنذها ظهرت مفاهيم ما يسمى بتقديس المادة. وفي النتيجة فقدت الأشكال الهندسية دورها في التعبير عن المطلق ولكن الى حد معين .

لقد صارت الخطوط المستقيمة والدوائر والمثلثات وغيرها أشياءً عادية أي غير نادرة الا أن بساطتها وسهولة مسك الشكل فيها قد دفع الى قيامها بمهمة التعبير عن مضامين معينة يصعب طرحها في حقل فني آخر بالأساليب الأخرى. وهذه المضامين خصت قوانين العالم الطبيعي الشمولية أو الواقع المتسامي الذي يكون مدركا بشتى السبل. وغالبما نلقى ، هنا ، من يقول بأن ما يخدم التعبير عن المضامين العامة هو اللغة التي تتعامل كلماتها مع العام أي مع أصناف الشيء وليس الخاص. فنطاق الأفكار والتصورات المرتبطة بهذا المصطلح وذاك ليس بالثابت ، فمثلاً قد يكون بهذا الضيق أو تلك السعة. وفي المصطلح الفلسفي توجد أسماء كثيرة ذات نطاق إستخدام با لغ السعة. مثلا كلمة الوجود تعني كل ما هو موجود فعلا في حين أن لغة الفنون التشكيلية هي الملموس ، فالمصوّر يقدم برتقالة ، نخلة ، إنسانا معينا, وبذلك يتم تقييد العام الا أن الفنانين سعوا منذ القدم الى التغلب على هذه المحدوديات عن طريقين : التجريد والرمز.
وفي الحقيقة يكون التجريد الجزء الأساسي من عمل الفنان الذي يعيد خلق الواقع المرئي. وهذا الفعل هو نتيجة لموقفين. الأول ينشأ عندما تنبذ عناصر ( الموتيف ) بسبب إستحالة مسكها عند إستخدام تقنية فنية معينة ( مثل الحركة في التصوير أو النحت ) أو لإعتقاد الفنان بأنها ليست بالمهمة أو الضرورية من الناحية الفنية. وفي الحالة الثانية يرتبط فعل التجريد بالبحث عن جوهر الشيء المعاد خلقه. وهذا يخص الأسلوب الأرسطوطاليسي في فهم المحاكاة وتقديم الواقع في الفن حيث يتم التأكيد ، بدل الإستنساخ الأمين والسلبي ، على إستخلاص الصفات العامة أي النموذجية والضرورية والمناسِبة لإظهارالأشياء. وفي المحصلة تنشأ صورة تعميمية محرومة من صفات الأشياء الملموسة التي تعتبرعابرة وجاءت بها المصادفة لكنها تظهر جوهر تلك الأشياء .
وإذا كانت عملية التجريد قد قطعت أشواطا بعيدة ونبذت صفات كثيرة يصل الفنان حينها الى الأشكال الهندسية .. وهذا رأي الكثيرين من فناني ومنظري العصور الحديثة. ويكفي أن نذكر هنا سيزان الذي نظرالى كامل تعقيد أشكال الطبيعة من خلال ثلاثة أشكال هندسية هي الأسطوانة والكرة والمخروط ، أو التكعيبيين أو ممثلي الفن التجريدي الذين تناولوا مشاهد الطبيعة من خلال الأشكال المهندسة أو تحويلها الى عناصر هندسية .
وفي ( يومياته ) يكتب باول كلي : يمضي نظري بعيدا وهو يتغلغل دائما في أجمل الأشياء . وغالبما يقولون بأنني عاجز عن رؤيته . إن الفن هو رمز عملية الخلق عامة. والرب لم يكترث البتة لمراحل ترافقت زمنيا بفعل ( الصدفة ) .
وقد ينشأ هنا مثل هذا السؤال : أين هي حدود فعل التجريد وأين تنتهي عملية تحّول الصورة ( الشبيه) الى الرمز ( التجريد) ، وما هو الفارق بينهما ؟ وقد تصعب الإجابة إذا لم نأخذ بمعيار
 النسبية عند تقدير الفعل التجريدي. ومعلوم أن الرموز تعبر، بالأساس ، عن مضامين لاتطالها حاسة النظر أو المخيلة. فهي إما أن تكون مضامينا تصوّرية صرفة ذات طابع تجريدي واسع و إما مضامينا تخص الواقع التجاوزي ( المتسامي ) الذي لا نتعرف عليه عن طريق الحواس .
وعادة ً تكون مصادر الرمزية ُمدرَكة بأسلوبين : عقلاني وغير عقلاني. الثاني تشكل تحت تأثير أفكار كارل يونغ القائل بأن الرموز تنشأ نتيجة العمليات الجارية في لاوعينا والتي ُتطرَح علينا جاهزة. كذلك فهي تنشأ في الذهن تلقائيا وتأتي الى العالم بكامل ( سلاحها ) شأن أ الربّة أثينا الأسطورية التي ولدت مدججة بالسلاح من رأس زيوس ، أو كما يقول يونغ فالعمل الرمزي يصوغ شكله بنفسه و( ما أراد المؤلف أن يفعله يكون مرفوضا ، وما لم يرد قبوله عليه أن يقبله ). فنحن لانخلق أيّ شيء عن وعي بل نقوم بتفسيرٍ عند إستخدام عقلنا ، وهذا التفسير ليس بالكامل على الدوام. فالمضمون الدلائلي للرمزلا يمكن إستغلاله كاملا. أما الأسلوب العقلاني في إدراك الرمز فهو يفترض أن الرمز هو الشيء المدرك حسيا لكنه لا يستند الى عامل التماثل الذي لا يعتمد بدوره على الشبه في المظهر.
وتساعدنا التقاليد ا لفيثاغورسية على فهم مباديء التمثيل الرمزي المميِّز للهيئات الهندسية . وقد تمثلت عناية فيثاغورس بالأعداد والهيئات في خلق ( المتتابعات ) الرياضية المنطقية أوالمباديء الأخرى التي قد تطبّق في الحياة اليومية. وكما يجد كولن ولسن في كتابه الممتع ( المستور The Occult ) فعقل الفيلسوف اليوناني كان يرتكز على التماثل analogy ومبدأ أن كل حقيقة خاصة يمكن أن تكون رمزا لشيء أكبر. مثلا تكون ثلاثة هي المثلث وأربعة هي المربع وهكذا دواليك. بهذه الصورة ُمنحت الأعدادُ الملموسية ولم ُيفصل الكم عن النوع . وكان منطلق نظام فيثاغورس الصوتى ثلاثة فواصل موسيقية intervals تنشأ عند تقصير الأوتار في الأماكن المناسبة : الدرجة الثامنة في السلم الموسيقي octava ( 1 : 2 ) والخامسة quint ( 2: 3 ) والرابعة quarta( 3 : 4) . أما مباديء الهارموني فهي تكون مفهومة كمرافقة صوتية لوترين مختلفين وفق العلاقة الرياضية 2 : 1 , 3 : 2 , 4 : 3 . وعلى هذه الأعداد ( أي من واحد الى أربعة ) علق الفيثاغورسيون أهمية خاصة . فمجموعها ( 1+2+3+4 )هو العدد عشرة وهو رقم مقدس .. وإعتقدوا بأنهم حين إكتشفوا الجوهر العددي للهارموني الموسيقي أفلحوا في التعرف على هارموني كل وجود كامن في الأسرارالمماثلة للعلاقات العددية. وكما يقول ولسن وجد الفيثاغورسيون أن الخلق يبدأ من الوحدة الربانية والصرفة ، من عدد ( واحد) ثم يتطور حتى الرباعي المقدس. فالأعداد الأربعة الأولى تلد عشرة أي العدد المقدس الذي يبدأ منه كل شيء. ولكي ندرك هذا المفهوم بالشكل الصحيح لابد من الإشارة الى أن الفيثاغورسيين فهموا الوحدة بشكل مغاير لفهمنا. فلدينا يكون ( واحد ) هو العنصر الصحيح لتحقيق الجمع ( مثلا 1+1 +1 +1 = 4) بينما رأى الفيثاغورسيون العكس صحيحا. أي أن الوحدة أعلى من جميع الأعداد وليس من الممكن جمع الوحدة. فالأعداد لم تنشأ نتيجة عملية الجمع أو مضاعفة المفرد بل من إنقسام الوحدة الأولية. كذلك فالفهم الفيثاغورسي لإشكاليات العدد يمكن الأخذ به في الحقل الهندسي. مثلا ينشأ المثلث حين توضع أربع نقط قي صف واحد وفوقه أخر من ثلاث وثالث من إثنتين ورابع من واحدة . وهذا يثبت أن المثلث عند الفيثاغورسيين رمز أسطوري أيضا...


إن هذا العرض الموجز لمبدأ الفهم من خلال التماثل يسمح بإدراك ماهية الصلة بين عنصرين غير متشابهين بصرياً . وكما يقول أرسطوطاليس في ( الميتافيزيقا ) فقد أخذ الفيثاغورسيون بالكثير من أحوال التماثل عند النظر الى اشياء غير موجودة أو ناشئة. فهذه الخاصية للأعداد تمثل العدالة والثانية الروح والثالثة العقل والرابعة الحظ وهلم جرا. ويحصل هذا التمثيل إذا إعتمدت علاقات الأشياء بالأعداد والأشكال الهندسية والتي تمكن من التعبير عن الأولى من خلال الثانية ، على أسس معقدة تخص مباديء الوجود نفسه. ووفق الفيثاغورسيين فكل شيء في الطبيعة منمنذج في الأعداد ، ومن خلال العلاقات الناشئة بينها يمكن كشف جوهر جميع الأشياء. ومعلوم أن مفاهيمهم أثرت على معظم الفلاسفة والفنانين ا . وهي من خلال أفلاطون وبويثيوس Boethius ألقت بتأثيرها على الفن الروماني . فالمثلث المتساوي الأضلاع يرمز في هذا الفن الى الآلوهية وليس لجماله بل لخصائصه الهندسية. وعامة كان المثلث ُيعتبر الشكلُ الأول ولأن كل شكل يمكن أن يقسم الى مثلثات كثيرة عندما ترسم الخطوط من وسطها الى زواياها . إذن كل مثلث ينقسم الى مثلثات وليس الى غيرها. كذلك فالمثلث المتساوي الزوايا الناشيء نتيجة لتقسيم المثلث المتساوي الأضلاع الى نصفين ، هو ذلك الشيء الذي يعبّر عن الإنسان. وهذا التغيير مرتبط بظاهرة فقدان التوازن الذي يميز المثلث المتساوي الأضلاع .
ووفق منظور مباديء التماثل بين هيئات هندسية معينة وأحوال وجود تجاوزية transcendent ومثالية ideal كان يراعى مبدأ الوعي بوجود صفات مشتركة رغم أنها تتكشف بأشكال متباينة. ومن هذه الصفات هناك الكمال . وقد إكتشف الكمال ، بمعناه الأستيتيكي ن في بعض الأشكال الهندسية والأفكار القائلة بأن العالم المرئي ُبني وفق مبدأ الكمال أو أنه الكمال ، حسب أفلاطون ، أو حين تتم المطابقة بين الآلهة والعالم ذاته ، حسب الرواقيين والحلوليين ، أو أنه الرب كما قال ديكارت ولايبنتس، رغم أنه في لاهوت العصر الوسيط المسيحي وُضِع الربُ فوق الكمال الذي كان يدرك بالمعنى الأنثولوجي والتقني والأخلاقي ، وفي كل منها إقترب هذا الكمال من الأشياء المُدرَكة قابلة التصور والتي يمكن مسكها بالصور، أو أنه كان يبتعد عنها أيضا. أما الفنانون الذين أرادوا التعبير عن فكرة الكمال فلقد كان عليهم العثور على المعادل الرمزي والمرئي. وكان بالإمكان البحث عنه في الواقع المحيط بنا وإختيار ماهو أكثر كمالا فيه الا أنهم توجهوا في الغالب نحو الهندسة باحثين فيها عن العناصر التي قد توميء بفضل صفاتها المدركة حسيا ووفق مبدأ التماثل ، الى الكمال اللامادي. وهناك من يجد أن الشكل الهندسي المنتظم هو مدخل الى الكمال والنموذج. فالهندسة تتجاوز كلَّ لاكمالٍ سببه الإنحطاط المرتبط بجريان الزمن. كما أنها رؤيا المطلق الذي يسعى اليه الإنسان.
ولابد لكل إضطراب يتعرض له الكمال وكل تناقض تتصف به الأشياء المرموز اليها ، من أن يعثر ، وفق مبدأ التماثل ، على إنعكاس له في الأشكال الهندسية التي هي محض رموز. وبقدر ما يكون لعبة النقائض فليس بإستطاعته أن يحتوي على أيّ معنى من معاني الدائرة التي ترمز ، هنا ، الى الوحدة والكمال.
كذلك يمكن أن يكون نطاق المعاني المرموز اليها بواسطة الأشكال الهندسية أوسع بكثير. ومرةً قال المعماري الإيطالي المعروف بالاديو A. Palladio عن الشكل الدائري بأنه مغلق بمحيط واحد لا يمكن العثور فيه على البداية ولا النهاية كما لا يمكن التمييز بين شكل وآخر ، فالبعض شبيه بالآخر وكلها تسهم في شكل الكل كما أن هذا الشكل الذي يكون محيطه بنفس البعد في كل نقطة عن مركزه يصلح ، برأي بالاديو ، أفضل من غيره ل( إدراك الوحدة والجوهراللامنتهي وعدالة الرب ). وهذه الأمثلة خصت المباديء الأساسية التي تتحكم بالعالم والوجود التجاوزي أوالمثالي أيضا. وتمَّ التعبير عنها بواسطة الرمز الهندسي في التصوير والنحت والعمارة في كل مكان .
وقام فنانو القرن العشرين بأكبر المحاولات الساعية الى خلق وسائط هندسية غير تقديمية ( أي تجريدية ) ورمزية للتعبير عن الأغراض المذكورة . وأبرز مثال يقدّمه بييت موندريان الذي كان واقعا ، شأن فاسيلي كاندينسكي ، تحت تأثير الثيوصوفية أي المذهب القائل بالفناء بالذات والبقاء بالله. وقد بحث هذا الفنان الهولندي الكبير عن القوانين العامة للوجود مستثنياً المظهر الخارجي للأشياء الطبيعية. وفي البدء أخذ بأسلوب منهجي لعملية التجريد محاولا الكشف عماهو شمولي من خلال نبذ الصفات الطارئة للأشياء .الا أن هذا الطريق ، وكما ذكر في طروحاته النظرية ، قد سمح له بتحقيق مستو معين للتعميم حسب ، أي أنه لم يصل الى ما يسمى بالقياسية regularity الأكثر عمومية. وكانت خطوته الأولى الإنفصال عن تقاليد المحاكاة في الفن والأخذ بالمبدأ الرمزي. وكان يرى أن جوهر الوجود تعبرعنه العلاقة بين قوتين كونيتين خالقتين وهما كل ما هو نشِط دينامي أي العنصر الذكوري الذي يجسّده الخط الشاقولي ، والعنصر الأنثوي أي كل ماهو سلبي ويرمز اليه الخط الأفقي. وعلامة الصليب التي تنشأ من الأخذ بهذين العنصريين البسيطين بزاوية قائمة كان لدى موندريان التصوّرَ التشكيلي للكون.
وكان يبدو أمراً ممكناً أن إستخدام الرموز الهندسية يتيح التعبير، بواسطة التماثل العام ، عن العامل الشمولي للعالم. وكما قال موندريان فالحكمة القديمة طرحت العلاقة الأبدية بين العنصرين الداخلى أي الروحي ، والخارجي أي الطبيعة ، وذلك بمساعدة علامة الصليب. وهذا الرمز قد يكون رغم ذلك وسيطة تعبيرٍ للتصوير التجريدي الفعلي شأن أيّ رمز آخر، ولأن الرمز هو تقييد من ناحيةٍ وإشارة مطلقة من ناحية أخرى. ولهذا السبب كان موندريان يدرس إمكانية التعبيرالمباشر للعلاقات التجريدية التي إعتبرها جوهر الواقع. وطالما أن المادة تحجب العلاقات نجد أن موندريان قد سعى الى الحد من الشكل واللون وخصائصهما الطبيعية التي تؤثر على حواسنا. وهكذا نبذ كل ما هو مشكل وكل ما يميز الرمزية الهندسية التي تتصرف بملموسيات حسية كالهيئات المشكلة figures سواء المرسومة منها أو الملونة والتي ترتبط في الذهن بفكرة شيء عام ومثالي ، ومن أجل تصوير العلاقات ذاتها كما قال. ولإظهار العلاقات ذاتها ( بالرغم من أنها على درجة كبيرة من الشمولية ) لجأ موندريان الى التبسيط النسبي للوسائط التشكيلية تجريدها من كل معنى. وكان القصد أيضا التوصل الى تحييدها وجعلها حواملاً غير ملحوظة لتلك العلاقات. وكانت الأشكال الهندسية وسائطاً تشكيلية من جديد إلا أنها بدون توجهات المحاكاة أو الأخرى الرمزية .
ويصعب القول أن موندريان وصل الى غايته الا أن المرحلة النيويوركية في فنه كانت لجوءا الى الرمز أي حين رسم تلك الخطوط الشاقولية والأفقية المتقاطعة والمكونة من تلك المربعات الصغيرة المملوءة بالألوان الفاقعة. وبرأي ميشيل سيفو M. seuphor كانت تلك اللوحات صورة رمزية لنيويورك بشوارعها المستقيمة المتقاطعة بزوايا قائمة وبأضوائها الساطعة وغير ذلك.
يرى كلود ليفي – ستروس أن الظواهرالأساسية للحياة الذهنيية والتي تقرر وتحدد أشكالها الأكثر شمولية توجد على مستوى التفكير اللاواعي. ومباديء هذا التفكير يراها مشتركة لدى جميع الناس ، وهي مرتبطة بالمباديء الأساسية لعمل عقولهم ، وفي نتائج هذا العمل يمكن ( العثور على أشكال نشاطٍ تخصنا والآخرين ، وهي شرط كل حياة ذهنية لكل الناس والأزمنة ).
أوليست الأشكال الهندسية الأساسية من ثمار هذا التفكير اللاواعي ؟ وفي عام 1921 كتب أوزنفان A.Ozenfant وجينيريه ( لي كوربيزيه ) : إذا أريتَ أيّا كان من البشر ، فرنسيا أم زنجيا أم آسيويا ، كرة البليارد ( وهي التجسيد الأكمل للكرة التي صنعها الإنسان ) لإكتشف كل واحد من هؤلاء البشر ذات التحسس بالفورم ، وهو تحسس غير متبدل وأوليّ .
وقد يكون منظر الأشكال الهندسية مثيرا لأعمق طبقات اللاوعي من تفكيرنا أي التي هي مشتركة بين جميع البشر. وليس بصدفة أن قال مؤسسا مدرسة ( النقائية Purisme ) هذان أن الإنسان حيوان هندسي. فروحه خلقت الهندسة التي تلائم أعمق حاجاتنا الى النظام ، والأعمال التي تؤثر فينا أكثر من غيرها هي التي تكون مدركة فيها الهندسة. وهو أمر محتمل أن الهندسة لاتعبر عن شيء محدد وأن مسعى الفنانين في تحويل عناصرها الى إشارات هو أمر غير جوهري وطاريء يرتبط بثقافة ما أو حقبة تأريخية معينة. الا أن هذا لايعني إنتفاء وظيفة الهندسة في توفير الإتصال بين الناس والذي يتم على مستوى التفكير اللاواعي أو لا يتيح لي أن اكتشف في النتاج المُهندَس على يد الإنسان الاخر شيئا كامنا في أعمق طبقات عقلي وأناي ...




الخميس، 18 يونيو 2015

قصة قصيرة الوباء- عادل كامل

 قصة قصيرة

الوباء

عادل كامل
ـ آن لك أن تهرب...، فقد عثرنا على ممرات ...، وشقوق...تيسر لنا الهرب.
     رغم الظلام والبرد والغبار، فقد راح يراقبهم يبتعدون، مهرولين، وزاحفين، الواحد بعد الآخر، غير مكترث لدعواتهم له بالفرار، وبمغادرة حفرته.
وسمع آخر يخاطبه بصوت خفيض:
ـ فلا تكن عنيدا ً...، فالوباء يتقدم...
     فردد مع نفسه: وما الفائدة من النجاة...، وأنا ـ متابعا ـ لست إلا ذروته. فان قبعت، هنا، فسأهلك، وإن هربت فسأحمل موتي معي، أو هو من يحملني معه، في متاهات الموت! فالنهاية سابقة على مقدماتها!
   ورفع رأسه لمشاهدة الممر: لا احد....، وقد خلى من المتسليين.  ففكر انه أصبح وحيدا ً، كما كان قد أمضى سنواته الأخيرة في عزلة. فأرسل نظرات إلى البعيد، رغم كثافة الغبار، وحلكة الظلام، فثمة أجنحة تتجاور، متلاصقة، وأخرى موزعة بحسب خارطة الصنوف، في الحديقة: الأقفاص الكبرى، ذات القضبان الحديدية المتينة، وذات المشبكات، لصقها مساحات محاطة بالأسلاك، وأخرى بالجدران الخشبية، وهي مستقلة عن الصالات، والكهوف، وبعيدة نسبيا ً عن المركز، ولكنها لا تبتعد كثيرا عن المغارات، الخاصة بالأنواع المفترسة، والأخرى الأقل شراسة، وقد شيدت بجوار التلال التي تشرف على المستنقع الكبير...، وثمة، في الوسط، ترتفع أعمدة منصة الاحتفالات الكبرى،  ووزعت داخلها شاشات تعمل على مدار ساعات الليل، وفي الخلف، فكر، أقيمت المحرقة، بجوار السجون، والسراديب، والمصحات، وأجنحة المرضى والميئوس من شفائهم.....، فكف عن التفكير، وتراجع خطوة للخلف كي يسترد أنفاسه، فقد شعر بالبرد، يتسلل، مع الخوف، إلى جسده الضامر.. ليس من الوحدة التي أحس بها، توا ً، بل لأنه رفض مشاركتهم قرارهم بالفرار، والخلاص من الخطر الذي سيسببه البقاء بانتظار ما سيحصل بسبب الوباء.
   لم يحتمل لسعات البرد، ولا رائحة الغبار، فغادر الحفرة، ووقف يراقب، فلمح مجموعة من الجرذان تغادر، مسرعة، بلا تردد، في خطاها، تتبعها أسراب من الطيور الكبيرة، والصغيرة، تقفز، خلف قطيع من الماشية، الخراف خلف الماعز، والجمال خلف الزرافات، وأفراس النهر وراء الجاموس، والدببة تهرول خلف الأرانب..، والبرغوث وراء الثيران، والخنافس خلف البعوض، مبتسما ً بلا إرادة، فقد تخيل حكاية سفينة نوح، بالمقلوب، فبدل الاحتماء بالسفينة، أصبح الفرار منها طوق نجاة. كلا، أجاب بمرح، لأنه تذكر المسيرات الجماعية المليونية التي طالما تأملها، عن بعد، وقد اشترك فيها الجميع؛ لإحياء ما لا يحصى من المناسبات، ذلك لأن الهلاك يحصل من غير تمهيدات، ولا إنذارات مباشرة.
ـ أنت...؟
صاح، بعد أن لمح شبحا ً يزحف، فلم يتلق ردا ً، فصرخ الأرنب بصوت أعلى:
ـ أنت...، أيها الحمار..، أيها التيس..، أيها الجحش، أيها البعير!
اختفت الظلال، هي الأخرى، في الظلام الحالك، ممتزجة بعتمة الغبار.
فتساءل بشرود، ومن غير قصد:
ـ لِم َ لا اهرب...، فحتى نوح هرب من الطوفان؟!
وراح يقهقه، مخففا ً من وطأة الخوف، وشعوره بالعزلة، ومن عصيان أوامر الجماعة:
ـ أنا لم اهرب عندما كان ذلك مشروعا ً، ومتاحا ً لي، ولم أسافر عندما كان السفر متعة! فهل اعص بعد أن صار الهرب  ضرورة...؟ ودار بخلده، انه عندما كنت حرا ً، وطليقا ً، لم يختر إلا حفرته، وحديقته، فهل يرتكب إثما ً بعد أن تساوت لديه النهايات، والمسافات، وغدت غير مختلفة إلا بتمويهاتها...؟
    ود لو كان قد اخبر أفراد أسرته، والمجاورين له، ومعارفه، وباقي الأصدقاء...، بالأمر الذي لم يبح به، وأخفاه، منذ زمن بعيد، ولكنه لم يجد أحدا ً يخبره بما تستر عليه، وتوارى حتى محاه من ذاكرته، داخل ملفاتها السرية:
ـ وماذا لو بحت بما توارى وتلاشى وغاب في نفسي...، بعد أن غمر الطوفان الأرض ومن عليها، وبعد أن زالت علاماتها...؟
صمت لبرهة، وأجاب:
ـ فانا قلت لماذا نموت كأننا لم نولد...، ولماذا نولد وكأن لا عمل لدينا إلا انتظار الموت. فقلت وأنا اكتم فزعي: أن تلك الفجوة بينهما اندمجت، انصهرت، تلاشت، حتى لم اعد أميز أيهما علي ّ اختياره، وأيهما علي ّ نبذه...؟
لا احد. وقال لنفسه:
ـ لا احد.
   ترك بصره يتتبع بقعا ً معتمة رمادية لها حافات مشوشة تبث أصداء خطاها فوق التراب وهي تبتعد، فلم ينشغل بها، فقد عاد يقهقه:
ـ فانا نفسي اجهل ما الذي تبقى...مني، كي اعمل للحفاظ عليه...؟
متابعا ، وهو يرى شبح ثور يجري خلف كبش:
ـ فانا لم اعد اعرف إلى أي الفصائل انتمي...، فهل أنا ذئب أم حمامة، هل أنا حصان أم تمساح، هل أنا نملة أم باز، هل أنا فرس نهر أم صقر، هل أنا فقمة أم حرباء، هل أنا وحيد قرن أم أيل، هل أنا خنزير أم بلبل، هل أنا سمكة تحولت إلى طير، أم أنا ولدت قردا ً، أم إنني صرت، بمرور الأيام والسنين، مجهولا ً يمشي خلف مجهول، أم إنني أدركت استحالة أن أكون كائنا ً آخر غير هذا الذي اجهله....؟
   فجأة أصغى إلى حركة تحدث داخل الحفرة، فشعر بنغزات من الألم، في صدره، وفي أعلى رأسه، وبخوف يشل قدرته على التفكير:
ـ من...؟
لم يختف الصوت، ولكن لم يأته ردا ً، فقال، وقد عاد إليه مرحه:
ـ انه ـ هو ـ صوتي النائم!
فعاد يراقب:
ـ ما الذي تنتظره ...، والباء يزحف، يدنوا ...؟
لم يصدم بالصوت:
ـ وهل سأنجو منه لو ذهبت إلى البرية، أو إلى البحر، أو إلى البلاد البعيدة الخالية من العلل الفتاكة، أو إلى الحدائق التي اضمن فيها وجود عدالة لا تنتهك فيها حقوق الضعفاء، ولا حقوق الأبرياء، أو حتى لو غادرت هذا الكوكب الزاخر بالخراب...، والجور...، وفقدان المناعة؟!
ـ كن عاقلا ً لمرة واحدة في حياتك أيها العنيد...؟
ـ قصدت أن تقول لي: كن مجنونا ً لمرة واحدة وانج من الذل ...، غادر!
   ولم يجد قدرة لديه على مقاومة الضحك: يتحدثون عن العقل، وبعد قليل سيتحدثون عن الحرية، وبعدها يسرفون بالشفافية...، من يعلم، فقد يتحدثون عن الفردوس، وعن الإلهة العادل...، كأنني أنا هو من اختار الجنون.....، وكأنني أنا هو من اعرض عن السلامة...؟
صمت، ليسأل نفسه:
ـ تُرى من ذا يضع المسافات بينهما....، وأنا، منذ قرون، وقرون، وقرون...، انهمكت بالبحث عنها..، فقلت: نولد لنموت، كأن عملنا خطة مدبرة لبناء هيكل الموت، ومجده الزاخر بالابتهالات! فهو وحده الذي لا يموت...، لا يتقدم أنملة ولا يتخطاها أبدا ً.
ـ وهزمت...؟
ـ سيدي، أنا لم اهزم لا لأنني لم ادخل الحرب، ولم أخض أوارها، مكرها، وخرابها، فحسب، ولكن لأن الهزيمة سابقة في وجودها علي ّ...، وعليك، مثلما هي النهايات كامنة في مقدماتها.
ـ لو كان الأمر هكذا ...، كما تقول، فلم اخترت أن لا تتحول إلى ..
آ ..
صدم، فتراجع خطوة:
ـ أنا هو من يسأل هذا السؤال.

ـ ولم تجد ردا ً، ولا إجابة شافية..؟
ـ كنت أقول لِم َ لا نعيد حياكة حياتنا على النحو الذي يليق بنا...، بدل أن نموت كأننا لم نولد، ونولد كأننا لم نمت...، فركلوني، وجرجروني، وسلبوني حقوقي، فصرت لا اعرف من أكون....، امشي وأنا واقف، ابكي وأنا اضحك، أهرول وأنا ازحف...، احلم وأنا غاطس في الوحل..
  دوي صوت انفجار شديد ملأ الفضاء:    
ـ تدريبات.....!
ـ يا أحمق..، الوباء انزل ضربات قاصمة في الأجنحة، والحظائر، والزرائب...، وهو يدنو...، من غير مقاومة تذكر...
ـ آ ...،  قرون وأنا أفكر في محنة هذا الوباء...
ـ ومكثت تتأمل، تراقب، تخمن، ولم تقاومه، ولم تعالجه، ولم تهرب منه...؟
    وجد رأسه يسقط فوق الأرض من شدة الضحك:
ـ الحمار لا يميز بين الهزيمة والنصر...؟
ـ من...؟
ـ اختف!
ـ آ ....، السيد ابن أوى أم السيد كبير الفئران....؟
ـ اختف....، كي أتوارى معك، ونجد فسحة للتستر.. وملاذا ً للاحتماء.
رافعا ً صوته قليلا ً:
ـ ولكن لماذا لم تهرب يا سيدي...، الست أنت مدير جناحنا...، والمسؤول عن هذه الجبهة...؟
ـ وماذا ستقول الضفادع، وماذا سيقول البعوض، والقمل، والبرغوث، والذباب، وباقي الحشرات ...، عني؟
ـ كأن الهزيمة بحاجة إلى أسباب، ومبررات، بعد أن شيدت لنا هذه الصروح: المغارات، الكهوف، السراديب، الأقفاص، البرك، المستنقعات، فضلا ً عن هذه الحيطان، والجدران، والأسوار المحصنة بالأسوار ...؟
ـ آ ....، صحيح...، فانا هو من أمر ببنائها!
ـ فلا احد ...، لا اليوم، ولا في أي يوم آخر، سيتحدث إلا عن نصرك المبين...، لأن الهزيمة، في الواقع، ستذهب مع الريح، أما هذه الأقفاص، شواخصها،أطلالها، آثارها، وبقاياها، سيدي، فلا احد يقدر على زحزحتها من الوجود!
ـ أسكت...، دعني أسبقك في الدخول...
ـ حذار...، قد تجد صمتي راقدا ً فلا تصطدم به، كي توقظه..!
ـ الم ْ يهرب صمتك بعد..؟
ـ لا! فانا أصبحت حارسه الأمين!

ـ كنت اعرف انني ساجد من لا يتخلى عني، في مثل هذه المحن..
ـ ولا أنا..!
ـ لا اصدق.
   فرد بصوت متلعثم:
ـ سيدي، صمتي وصوتي، مثل المسافة بين ميلادي وموتي، مسافة تامة!
ـ آ ....، فهمت، مثل اقتران المستنقع بالضفادع، والضفادع بالمستنقعات.
ـ تقصد ...:الحرية وجدت للأحرار، والأحرار وجدوا للحرية! مثل قولك: لا همّ للعبيد إلا بديمومة عبوديتهم؟
ـ لا أريد أن اختلف معك كثيرا ً....، لأن القانون من غير أدلة، كالأدلة من غير قانون!
ـ سيدي، وهل هناك قوة قادرة على قهرك، ومنطقك ولد من غير شوائب...؟
 لم يجب، فساد الصمت برهة، تخللها دوي انفجار شديد:
ـ هذا هو صوت بغل لم يهرب من الكارثة...!
ـ لا ..، لا اعتقد ...، فانا اعتقد انه عويل حيوان يذبح!
ـ لا تفزعني، فلا احد مكث في هذه الأجنحة...، فالثيران ولّت الأدبار بعد أن رأت النعاج والماعز تحّوم بأجنحة مستحدثة مع أسراب من الأسماك الطائرة مع البرمائيات ذات الأنوف المستطيلة عندما تحولت الطيور  إلى زواحف، والمفترسات أصبحت تدّب، والثدييات تتلوى كالثعابين ...
    سكت، ليسأل مدير الجناح:
ـ سيدي، هل هناك وباء حقا ً...، هل رأيته، وشاهدت علاماته، أم إنها واحدة من الإشاعات...؟
ـ ماذا تقول أنت...؟
ـ أنت المدير...، أما أنا...، فلم اعد اعرف إلى أي الفصائل انتمي...، تارة أبدو مثل القنفذ، وتارة مثل النعامة...، وفي الغالب اكتشف إنني خليط من المنقرضات التي انحدرت إلى ماضيها الأبعد...، فانا لم يعد مصيري يعنيني، ولا هو يفكر بخلاصي... أصبح كل منا سببا ً للآخر، ونافيا لها في ذات الوقت. فالأعمى الذي يمشي خلف أعمى وحده لم يعد يكترث للشموس...
ـ في الواقع، لدينا معلومات تؤكد انه شبيه بما تحدثت عنه...
ـ أتقصد إن سواحل العفن لا تستحدث إلا ...
قاطعه ولم يدعه يكمل:
ـ أصغ...، فالوباء يزحف، بعد أن كان يتسلل...، أصبح يرفع رأسه بعد أن كان بلا رأس..
ـ سيدي، يقولون انه استولى على الأبواب، واحتل الممرات، بل وسمعت الدعلج الأعور يؤكد إن المحرقة سقطت أيضا ً...
ـ إشاعات...، لا تصدق...، فكما قلت: هذه الأقفاص ستبقى شوكة في أفواه المغرضين الأعداء، وليس في عيونهم كما يقال، فهي وحدها ستشهد بنصرنا.
ـ سيدي...
ـ نعم.
ـ نصركم ليس بحاجة إلى أبراج، وعمارات، وقلاع، وقصور...، يكفي إن لدينا هذه الحفر...، الدهاليز...، السراديب، المغارات، الأنفاق، والمجاري...
ـ صحيح...، ولكن لماذا الفرار العام، وهذه الهزيمة...؟
   صفن لحظة:
ـ اعتقد إنهم ذهبوا للسياحة، أو لمشاهدة مباراة العصر بين البرشا ويوفانتس...؟
ـ آ ...، تذكرت...؛ تشّجع من ؟
ـ أنا اختلف مع صمتي، فهو من مشجعي رعاة البقر،  وصوتي متذبذب، تارة يضحك على الجميع، وتارة يتلذذ بضحك الجميع عليه! فمادامت المسافات اختلطت بحدودها فلا معنى للتسويات!
لم تجب على سؤالي؟
ـ آسف، سيدي..
ـ وإلا أرسلتك إلى ...، المحرقة.
ـ سيدي، لا تفعل، أنا من مشجعي الميناء، بعد أن كنت من أنصار الشرطة، ثم وجدت صمتي ينحاز إلى الوزراء، لكن المأساة، سيدي، اختلطت بالفكاهة، والعطر غدا جيفة،  لأن الشفافية ساوت بين جهنم وبين الجنة، وبين الثواب والعقاب!
ـ آ ...، أيها الملعون...، الآن عرفت لماذا لم تهرب!
قرب رأسه منه كثيرا ً:
ـ أنا أيضا ً أريد أن اعرف...! لماذا لم اهرب من الجحيم؟
ـ ها، وتعترف...، أيضا ً...؟
ـ أنا لم أتعرض للجلد، ولم يسلخ جلدي، ولم ترض عظامي، ولم أتعرض للصعقات، ولم يدر الحبل حول رقبتي، فانا أتكلم بطلاقة، حر  كأن أمي ولدتني توا ً!
ـ أنت لم تهرب كي تعرف من منا هرب، ومن منا لم يهرب...، فضلا ً عن معرفة ما الذي سيحدث...؟
ـ لن يحدث شيئا ً أبدا ً...، بعد أن أصبحت الأجنحة خالية منا، منذ زمن بعيد! فعندما تظن إن الخراب لا وجود له فما معنى البحث عن الأسباب..؟
ـ أنا لم اهرب...، وأولي الأدبار...، ألا تشهد لي بذلك؟
ـ نعم، فأنت هو من ذهب ابعد من ذلك!
ـ مثلك؟
ـ ليس تماما ً...، فأنت ستتصالح معهم، وكأن الوباء نعمة، والاغتصاب هبة، وتعود إلى منصبك، أما أنا...، فلا احد سيفكر بإصلاح حفرتي التي ولدت فيها، أو ربما سيردمون فتحتها، وأبقى داخلها حتى من غير شق اخرج منه لتنفس الهواءّ
ـ اسمع...، أنا خائف قليلا ً...!
ـ عجيب...، القائد لا يخاف...،لأنه محصن، مزكي، تأتيه البشارة من الأعلى ومن الأسفل...، فهو، من شدة الخوف، يكتسب مناعة المجد. فأنت مثل الموت الذي لا يموت، بعد أن لم يجد الموت شيئا ً يأخذه منه!
ـ دعنا نحتمي بحفرتك، فالوباء اقترب كثيرا ً، فانا اشم رائحته...! لانها لا تحتمل، ادخل، هيا ادخل كي استدل بك...
ـ سيدي، إنها محض حفرة، وتتكون من ممر واحد...، ومن جدران رخوة، تنتهي بفراغ يرقد فيه شبحي الصامت، فلا تكلمه، فهو نائم، والنائم كالميت، كلاهما بانتظار اكتمال الدورة..!
  لكزه:
ـ حذار أن توقظه.
ـ آ ...، قبل قليل قلت: لا مسافة بين نهاية اللعبة وبدايتها...، فلم التوجس، الحذر، والخوف مني؟
ـ سيدي، أيها المدير، لم تعد الحياة لعبة، ولا ملهاة، إنها أصبحت هذا الذي تفقده...، وهكذا فانا لا أثق إلا بما ستنتزعه مني.
ـ وماذا تبقى منك ...؟
ـ هزيمتي...، فأنت رأيت كيف وزعت بالتساوي على الجميع...، فلم تنتصر الديناصورات على الفئران، ولا التماسيح على كائنات سواحل مستنقعاتها العفنة...!
ـ دعك من الحزن، فالظلام يزداد شدة، كالبرد يتقلص، والغبار راح يزداد كثافة.
ـ هذه هي علامات الساعة، ساعة حديقتنا، ومنصتها، وساحة احتفالاتها! فهي نهاية لا احد يقدر على وصفها.
ـ اسكت، دعني اسمع صمتك ماذا يقول!
ـ حتى في هزيمتك تبحث عن ربح...؟
ـ هذا هو فائض العفن! ومع ذلك تجد من يتحدث عن فائض الكرامة، والفداء!
ـ عدت تؤيدني...، وإلا لكنت هربت معهم، ونجوت مع الناجين، بدل ....
ـ أنا اختنق...، فصمتك بدأ يتسلل إلي ّ...، انه سابق على الكلام...، وماض ٍ ابعد من غيابه!
ـ آمل أن لا تصاب به...، فأين اذهب بك، بعد أن هدموا المشافي، وخربوا الأقفاص، والزرائب، وهدموا الحفر فوق رؤوسنا، وفككوا أحلامنا ونثروها فوق المزابل.... فلم تعد هناك حتى حانات، ومراقص، وبيوت للسعادة، والمسرات....، لا أطباء ولا ملائكة، فالكل هرب...، ومن لم يهرب توارى في ظلمات الجحور.... أو تحول إلى حجارة، أو إلى نبات!
ـ أرجوك...، لا تهددني بالطرد، فانا الآن في رحم الأرض، وفردوسها!
ـ لكنك لن تصمد...، معي، لأنك لا تحتمل هذا النصر!
ـ النصر...؟
ـ آ ...، أيها الشقي، لا أريد أن أراك تتمرغ، تتلوى، وتتدلى.....، وأنت تمد يدك تتسول قليلا ً من الهواء، وأنا ارتويت من الهزائم!
ـ قبل قليل سمعتك تتحدث عن النصر...؟
ـ يا حمار...، سيدي، هذه تمويهات!
ـ أتخدعني..؟
ـ لا! أنا اخدع نفسي... فالنصر لا يستقيم من غير الهزائم، كالفردوس لا تراه من غير الوهم!
ـ انك تعاقبني...؟
ـ من أكون..، ها، من أكون كي أعاقب من عاقبني ولم يبق لي إلا أن أوغل في جلد ما تبقى مني...؟
دوى انفجار هز جدران الحفرة، فتابع:
ـ ربما يحتفلون ....، بالنصر، فانا اسمعهم يرحبون بالوباء!
ـ دعني أغادر..
ـ من منعك، سيدي؟
ـ صمتك تسلل إلي ّ، واحتل ضميري، بعد أن استوطن جسدي، حتى أني لا اعرف أين هو فمي، وأين هو رأسي..!
ـ ها، ها أنت أصبحت مثلي، لا تعرف إلى أي الفصائل تنتمي...، أصبحت خليطا ً من العقارب والخنازير والبرغوث...
ـ .....
ـ مت! يا للسعادة، ولكن الغريب انك لم تهرب!
سمع صمته يخاطبه:
ـ لم تصمد اشد المخلوقات شراسة، يا ...، بعد أن سقطت الأجنحة، الواحد بعد الأخر، وبعد أن تم احتلال الساحة الكبرى، والمنصة....
ـ ومديرنا الخالد...؟
ـ اسكت، إنه يتدلى...، علقوه، ولكنه مازال يخطب! إلا تسمعه...؟
بدأ يزحف نحو فتحة الحفرة:
ـ آ ...، المدير، زعيمنا مازال يزعق بالمجد، والعظمة، والثأر...
ـ أنت...، أيها البغل، ماذا تفعل؟
ـ هل تتحدث معي...، أيها الغريب...؟
ـ لِم َ لم ْ ترحب بنا....، وتحتفل أسوة بالآخرين.
ـ ولكني لم اعد حتى بغلا ً...، فانا اجهل من أكون كي أرحب بكم، أيها..
ـ آ ....، حقا ً ماذا فعلوا بك...
دار بخلده وهو يخاطب صمته:
ـ أنا لا اقدر أن افعل شيئا ً أبدا ً، فجسدي تخلى عني، وروحي أصبحت ترفرف في الظلمات، مع البرد، بصحبة الفراغات ..
صرخ الغريب:
ـ اخرج.
ـ لا اقدر...، فانا هو كل ما تبقى من هزائم هذه الحدقة، وغبارها.
ـ لا تحزن...، لأننا سنعيد لكم بناء الممرات، والأسوار، والجدران، والدهاليز، والحفر، والمجاري،...، وسنشيد لكم احدث الأقفاص، والمغارات، فانتم، بعد اليوم، أحرار كأشعة الشمس، رغم دخان الحرائق، وأطياف الموت.
سأل صمته بصوت خفيض جدا ً:
ـ كيف ارجع وأعود دابة، أو أصبح نباتا ً، أو حفنة رمل في ساحل هذا المستنقع..؟
لكزه صمته:
ـ أسكت...، فالوباء مازال يبحث عنا...!
ـ آ ...، أين نتوارى...؟
ـ اخرج.
ـ ماذا تقول...، وأنا لا اعثر على نفسي!
ـ كما قلت لك...، اخرج كأنك لا تعرف ماذا حصل... ، وماذا جرى.
ـ يا صمتي...، لا ترتكب الإثم!
ـ لكنهم سيهدمون الحفر على رؤوسنا، فيصبح الأعلى قاعا ً، واليسار يمينا ً، والأتي ماضيا ً.
ـ سأخرج...، ولكن ماذا افعل..؟
ـ لا تفعل شيئا ً، من طلب منك أن تفعل....؟
     سمع الغريب يرحب به:
ـ اذهب وشاهد ساحة الأعياد...، فالأحرار يوزعون الحرية لم ينشدها، مجانا ًن، بلا قيود وبلا شروط!
ـ آ ...، صحيح، فانا قبعت دهرا ً في الظلمات، فلم اعد أر سوى الليل يتمم ليله وما توقف عن استكمال دورته بعد!
سمع صوت المدير يخطب بصوت مرتفع:
ـ  وسنعمل على تهذيب العاصفة، ونطهرها، ونبني.... وسنطلب من السماء أن تأتي بالأمطار، بدل هذا الغبار، وسنطلب من الشمس إن تأتي بالشفافية بدل هذا البرد، فتزدهر البراري، وتمتلئ الحقول بالزرع ...
   سمع الهتافات ترتفع، عاليا ً، والأرض تتمايل، كأنها وربت، وراحت ترقص طربا ً:
ـ وسنعيد بناء الأسوار، والممرات، والزرائب، والحظائر لكل من لم يهرب، ولكل من صمد، وتحمل نكد الأيام وذاق مرارتها...، وسنمنحكم وسام الولاء للحديقة، من النوع الأول...
بحث عن صمته، فلم يجده، ليلمح الثور، مدير الجناح، يقف عند المنصة، مصغيا ً الى المدير:
ـ  قلت لكم، بحسب أدق التقارير، والمعلومات، والشهود، انه تم القضاء على الوباء تماما ً...، وما تبقى منه، سيهزم، أو يولي الأدبار، أو يهلك كمدا ً....، فالبرد لن يسمح للأشرار التطاول على أقفاصنا، ومنجزاتنا، ومجدنا...، فالبرد سيعاقب كل من تسول له نفسه العدوان والاعتداء على مجد هذه الحديقة وقد استعادت حريتها وأصبحت مشرعة توزع هباتها على الأحرار....ونبراسا ً للحفر في أسفار الخالدين.
      وعاد يبحث عما تبقى منه، فوجد الثور يخاطبه، مصادفة، رغم الهرج، والأصوات الصاخبة، المرتفعة:
ـ اخرج من حفرتك!
ـ أنا لا اعرف من خرج منا، ومن لم يخرج!
وضحك بهستيرية:
ـ حتى لو لم اخرج...، فإنهم يجدون ألف ألف وسيلة لا يدعوني فيها ارقد بسلام فيها...، آ ...، عندما يصبح الصمت واعظا ً للدوى، والأبدي يبحث عن قليل من التراب...، والجمال يتستر بحفنة من الغبار!
تابع المدير يصرخ بأعلى صوته:
ـ قلت لكم لا تخجلوا من حفركم..، ولا من أدرانكم، ولا من ماضيكم....
فقال له هامسا ً عبر ممرات الأثير:
ـ سيدي، أنا بانتظار الحصول على حفرة جديدة!
ـ ستحصل عليها، حالما تتخلى عن صمتك، هذا الذي كنت تجهل هل كنت تتبع خطاه أم هو الذي يمشي خلفك...
ـ آ ...، سيدي، أنا مازالت ابحث عنه! فانا لم اعد أجد نفسي!
    وسقط من شدة الضحك، فعاد السيد المدير، من أعلى المنصة، يخاطب الملايين:
ـ ها انتم تشاهدون ما يحدث، أمامكم، فهذا هو واحد من الذين نذر حياته  للعيد الأكبر، حرية الأحرار، وأحرار الحرية...
   لم يجد جسده كي يمسك به، بعد أن فقد أي اثر لصمته، فلم يكترث للبحث عن مبررات لغيابه، أو للبحث عن فراغ يتوارى فيه، ولكنه لا يعرف كيف وجد شيئا ً ما ـ لم يعد يعنيه ـ يتطاير مع الغبار، وثمة، للمرة الأولى، أحس بأنه غدا متحررا ً من صمته، ومن كلماته، فراح يتلاشى في الفضاء.
16/6/2015