الجمعة، 19 أغسطس 2016

المركز الثقافي للطباعة والنشر بادارة المبدع‎ ‎ولاء الصواف


‎‎المركز الثقافي للطباعة والنشر بادارة المبدع  ولاء الصواف
 بابل - دمشق - القاهرة
صدر كتاب ( طرائف من الحلة ، مروّيات حكائية ونصوص أخرى ) للشاعر والباحث الاستاذ أحمد الحلي ، الكتاب صدر بـ 277 صفحة من القطع المتوسط ، زينت الغلاف صورة فوتوغرافية لشط الحلة الخالد بعدسة الفنان الفوتوغرافي المبدع عبد العالي الاشتري ..
الف مبارك للشاعر احمد الحلي منجزه الابداعي هذا
يطلب الكتاب من مكتبة المركز الثقافي للطباعة والنشر
الحلة - شارع الامام علي
موبايل
07721472444

07801168410

الخميس، 18 أغسطس 2016

ممرات الزمن-عادل كامل

قصة قصيرة




ممرات الزمن



عادل كامل

     ليس لأن قواه خارت، وفقد قدرته على النطق، وليس لأنه كان يرى النهاية لا مجال لتعديلها، أو مسها، تريث في مغادرة مغارته، بل لأنه خاف أن لا يتمكن من العودة إليها.
ـ ثم هل باستطاعتي العثور على من يصغي إلي ّ...، وقد ضجت الحديقة بالأصوات: خوار ونعيب وثغاء ونباح ورغاء ونهيق وبغام وشحيح وزقاء وضغاء وصفير ومواء ونزيب وفحيح ...، حتى اختلطت عليه الأصوات وصارت متداخلة كأنها تأتي من كوكب آخر، فكوّر جسده النحيل ودفعه لصق جدار الحفرة محاولا ً منع أي محاولة لاتخاذ قرار بالخروج.
ـ فانا بت اجهل من أكون...، مع إنني استطيع استعادة ما حدث لي عبر سنوات حياتي الطويلة...
متابعا ،ً خاطب نفسه:
ـ الم تخبر الأشجار، والصخور، والهواء بما حصل..، الم تخبر الليل والتراب بما جرى...، فمن منحك لحظة إصغاء، ومن استجاب إليك....؟
   وود لو تحول إلى غبار، وكف عن التنفس، وغاب عن الوجود، وكم ود لو تحول إلى جزء من أجزاء المغارة، وتوارى فيها، إنما وجد نظره الكليل يراقب فراغات كانت تتسع، تمتد، وتتناثر أمامه وقد خلت المغارة إلا منه.
ـ من افترسهم..؟
  وراح يسأل نفسه:
ـ من يعلم...؟
ـ ربما هربوا...، ربما اختطفوا ...، ربما صعدوا إلى السماء، أو نزلوا إلى العالم العميق....، من يعلم؟
ـ لا.... ، لم يهلكوا، لم يهربوا، لم ينزلوا، لم يتبخروا، لم يهاجروا...
ـ ربما ذهبوا في نزه..، أو لبوا دعوة، أو ذهبوا إلى السيرك ...؟
ـ يا أحمق...، وهل يحدث هذا من غير استئذانك، أو إخبارك...؟
     عادت الفراغات تتسع  مشغولة بأشلاء رآها متناثرة على امتداد مساحة المغارة؛ أجزاء عرفها برائحتها، لحمها، لونها، عظامها، أصواتها، وصمتها....، وإنها ليست غريبة عنه.
ـ من ذا باستطاعته أن يخبرني بما جرى ...؟
متابعا ً:
ـ ربما يقال لي: لِم َ لم ْ تحم مغارتك...، لم تركتها عرضة للأعداء....، ولم لم تدافع عنها، حد الموت؟
   صمت قليلا ً، وأجاب:
ـ في نهاية المطاف، سأكون انأ المذنب!
     ووجد قلبه ينبض: فانا لم أمت بعد...؟ وشعر بخوف: لِم َ نجوت، بالأحرى: كيف؟ وترك رأسه يسقط فوق التراب الرطب مستنشقا ً رائحة الأشلاء؛ دماء متخثرة لها مذاق عفن مازال طريا ً. وأفاق: حتى إنني لا امتلك إلا قدرة تخيلهم، فلا احد هناك، يذكرني بما كان عليه. مصغيا ً لأطياف أصداء تخاطبه:
ـ لم تصغ لنا..، قلنا لك اهرب..، انج، فر، فالأرض إن ضاقت في مكان فهناك بوابات السماء مشرعة ....!
ـ ها، أتسخرون مني...؟ ثم ماذا افعل في السماء بعد أن تكون الأرض ضاقت بنا، وضقنا بها...؟
ـ الم نطلب منك أن تختار فصيلا ً تعمل معه وتموت من اجله؟
ـ وأنا قلت لكم إني لا اقدر على الانحياز إلى هذا الفصيل ضد الآخر...، فكنت اعمل من اجل الفصائل كلها كي لا تدمر بعضها البعض الآخر وتكون هي الخاسرة وحدها في الأخير!
    بدت الأصوات له مثل كرات وأشكال هلامية تتصادم، متداخلة تجمعت وقد بدت له مثل مرآة، تارة رآها تقترب منه، فيبتعد عنها، ثم تبتعد عنه فيقترب منها تارة أخرى. كان يود أن يرى ملامحه فيها، ليتذكر، وقد خفتت الأصوات وتلاشت لبرهة، من هو تحديدا ً كي يتخذ قرارا ما ...
   فرأى في العتمة ملامح خطوط وهمية لها حافات حريرية في المرآة أجزاء متناثرة فود لو لم تفعل ذلك...، وقال لنفسه مستدركا ً، لكن ما هو ذنبها...، وما هو ذنب انه فكر...، ما هو ذنب الصدى...، وما هو ذنب انه تعلم أن يحفر في التراب آثار أصابعه ...؟
ـ كم مضى علي ّوأنا هنا مثل جثة تتفسخ...؟
   تساءل، وقد لاحظ أن فتحة المغارة بدت له مثل جرح، مثل شق وهمي، مثل فجوة بدت نائية عنه، بعد أن وجد قواه تجمعت داخل رأسه وتكدست فيه، لكنه عجز عن التقدم، وعجز عن التراجع..
   إنما تحولت الفتحة إلى كوة....، ثقب، دائرة، خرم، مضاءة بلون استفزه...، فقد لاحظ حركة ذرات مازالت تتصادم، وتتلاطم، ممتزجة ومتداخلة أنبأته أن الليل انجلى، وثمة ضوء ما له طيف الفضة..!
ـ ما الذي حدث...؟
   جمع قواه للرد على ما خطر بباله: أهي نهاية العالم، أم نهاية حديقتنا، أم نهايتي أنا، أم إنها نهاية فصيلنا ...؟
     لم يجد مبررا ً للعثور على جواب: فمنذ زمن بعيد لم يعد ينتظر ردا ً، ليجد جسده يدّب، وقد دفعه إلى الأمام، نحو الشق، وقد بدا له نائيا ً درجة انه توقف عن الحركة. ذلك لأنه سخر من مرآة وجدها تحدث فيه نشوة للألم: مواساة ساخرة تتناسب مع ما يحدث له.
     ولم يقدر على استرجاع ما رآه، في اللحظة، عدا رائحة ذكرته بسنوات أمضاها، هنا، ؛ رائحة رطبة، وأخرى ندية طالما سمحت له باللعب والرقص أيضا ً.
     ولم يجب. خاف أن يقول كلمة كي يعاقب عليها. وكم ود لو شطر نفسه إلى أجزاء وتلافى التفكير بما حدث، وما رآه...، لعلها تطمئنه بان النهايات وحدها معدة قبل وقوقعها بزمن سحيق، إنما استبعد رغبته بالعثور على آخر ـ غيره ـ يلجمه بكلمة. فما معنى لو عثر على آخر ينجده....، هل يقدر أن يخرجه من المأزق ...؟ ودار بخلده انه إبان عاصفة الجراد رأى المشهد ذاته، كالذي حصل بعد زمن البركان الأعظم، حيث الحجارة وحدها كانت تتساقط حتى طمرت الحديقة بكامل أجنحتها، حظائرها، بركها، زرائبها، حفرها، مستنقعاتها، جحورها، ولم يبق منها إلا ذرات متناثرة شبيهة بما حدث بعد غزو الموتى وما أحدثوه من تدمير شامل للحديقة كاد يمحوها من الوجود. ارتّج جسده لأنه ذعر لو ذهبت الكلمة ابعد من موقعها في الفراغ الذي وحده راح يتسع داخل رأسه، والتقطتها آلات التنصت ذاتيه الرصد برهافتها لمراقبة المشاعر والذبذبات، فهل سيسمح له بالدفاع عن تعبير لم يقصده ولم يغادر خلايا دماغه وحدود جمجمته أبدا ً ...؟ الم يركن في الحجز باذلا ً أقصى جهوده للوساطة بإرساله إلى المحرقة بدل تركه يلقى مصيره في الفراغ..؟  شعر انه تلقى ركلات جعلته يتخثر، ثم يسيل، يذوب، من ثم بدأت يتصلب قليلا ً...، لقد ترك أصابعه تقاوم قوة ما كانت تسحب جسده إليها نحو باطن الأرض، من ثم لا تكف عن التقلص حتى أدرك انه لم يعد يستطيع أن يستنشق ما تبقى من الهواء في فضاء المغارة...، إنما شعر أن الهواء  الذي كان يخترق جسده، من فتحات لا تحصى، وليس من آذنيه، أو فمه، أو أي ثقب آخر، يعمل خارج إرادته، وأوامره، فقد تخيّل انه غدا كائنا ً رخويا ً زود بمجسات تساعده على ألا يتلاشى، ويتوارى مع التراب، والمخلفات.
    لكنه أدرك تماما ً انه تمادى لا إراديا ً في العجز ولكن هذا ليس لإشباع رغباته الدفينة بالتخلص من اللامتوقع، وإنما لأنه لم يعد يمتلك حلولا ً مغايرة تساعده على تجنب النهايات غير المتوقعة. فقد شعر انه لا يستطيع حتى منع الهواء من اختراق جسده ضد إرادته، واستحالة أن يتنفس من انفه، الذي وجده غائبا ً. قال لنفسه مؤنبا ً انه ربما يكون بالغ حد التمويه، والخداع، وإلا فان فتحة المغارة ما انفكت تسمح للضوء والهواء بالدخول حيث استنشق رائحة ما لدنة ممتزجة بعطور الورود والأشجار والدغل باعثة فيه رغبة بالهرولة، واللعب، بل بالطيران.
    انتبه انه لا يتحدث مع آخر، ولا مع نفسه، مما سمح له أن يمد أصابعه في الفراغ: وجدها تتقلص، لا تمتد، إنما تأكد له انه ربما يكون هو وحده لم يعد موجودا ً، وما كان يراه، لا يعدو سوى ما تركه متناثرا ً على امتداد مساحة المغارة، لكنه تردد إذا ما كان يستطيع نفي أو تأكيد انه تحول إلى فراغ، أو غبار، أو إلى أثير، وما إذا كانت تصوّراته ما هي إلا حصيلة الصدمة، وانه في الأخير ليس إلا أطياف ظلال ظلمات.
ـ أأخرج أم لا اخرج...؟
    ففكر من غير كلمات انه إذا خرج فقد لا يدخل، وانه إذا اتخذ قرار البقاء فقد يفقد فرصة البحث عن ملاذ آخر.
   وتساءل من غير أن يوجه السؤال إلى نفسه، أو إلى احد آخر حتى على صعيد الاحتمال، أو التصوّر.
ـ أم أن هذا كله يحدث لأنني لا امتلك إلا ما أراه: ذرات لا مرئية تتجمع من ثم تتلاشى .....، فانا جزء لا يتجزأ من ...
   وجد فمه لا ينطق، فقد أحس بالصدمة اشد أذى، وقد أحس انه لا يمتلك فما ً، جسدا ً، ولا عقلا ً، يقدر أن يدحضه أو يبرهن على وجوده.
ـ فقد لا أكون سوى الحقيقة الوحيدة التي طالما كونتها سلاسل التصادمات، التمويهات، والمصادفات...، فانا موجود بوصفي وجدت قبل الآن حيث لا امتلك إلا الاعتراف بوجود يمتد خارج فناءه، الأمر الذي يسمح لي بالاعتراف ....
    لذ ّ له أن يمتلك قدرة التوقف عن الاسترسال:
ـ فانا موجود بحدود المغارة...، والمغارة موجودة بحدود الحديقة، والحديقة ...
   ثم رفع صوته قليلا ً:
ـ أأخرج أم لا اخرج ...؟
      بألم أحس بالهواء يتدفق من فمه: فانا امتلك صوتا ً...، فانا إذا ً لست إلا هذا الذي افقده ...، فان خرجت أو لم اخرج فالمشكلة تبقى خارج نطاق الهواء...، وخارج حدودي،  بل وبعيدة عن الصواب، وعن الحقيقة. فإذا خرجت ولم اعد أكون كأنني هو الجزء الموجود من العدم! فانا لا امتلك أكثر من هذا وقد راح يستحدثني رغم معرفتي باستحالة إثباته أو نفيه.
   وأضاف بتردد: إنما كنت عشت أزمنة من غير فم، من غير رأس،  ومن غير جسد أيضا ً...، مثل شجرة أو صخرة، حتى إني في ذات يوم أدركت إنني أدب، ازحف، أتدحرج، أثب، أطير، أسبح، أغوص، وأهرول...، ومن الصعب القول أنني اجتزت خطوات نحو كائن يمتلك قدرات التفكير!
ـ فماذا يحدث لو خرجت ولم اخرج...، وماذا يحدث لو تحولت إلى فراغ لا اقدر حتى على إشغاله بفراغ ... وماذا ... لو .. ؟
    قرب أصابعه من انفه ثم تركها تتقدم نحو الفتحة.
ـ فربما أكون أسرفت ...
معترضا ً:
ـ أو هناك من فرض علي ّ هذا التصوّرات...
وأضاف بعد لحظة صمت يسأل نفسه:
ـ ومن يكون... هذا...، أم قد لا يكون سوى أنا هو الفاعل....؟
    غرز أظافره بلحم مؤخرته فأحس بالدم يتدفق قطرات  ...، لزجة، حارة، وانه لم يكن ميتا ً، أو في سبات، وانه لم يكن يرى حلما ً أو داخل كابوس، وانه لا يعاني من عصاب، أو مرض عضال، أو رهاب، بل ـ قال بصوت سمع صداه يتردد داخل فضاء الجحر ـ لا مجال للشك بما حدث ورأى وتلمس بحواسه وعقله وضميره أيضا ً.
ـ فهل هذا كله محض ترددات أطياف لا وجود لها، إلا في رأسي...، ولا وجود لها في المغارة، بيتي، الذي وددت أن أموت وادفن فيه؟
    تقدم خطوات وتسمر عند الفتحة:
ـ أم علي ّ أن استنجد بأحد ما...، قد ينجدني، ولا يدعني أهن، وكأن غياب من كان معي محض وهم..، وسراب، أم ربما ثمة من لا يريد أن افعل ذلك...، وادع ما حدث كأنه اثر لا وجود له ألبته ....؟
    لم يشعر بمرارة الهواء ممتزجة بكلمات صوته، بل شعر بلذّة سمحت له أن يتشجع لمغادرة الحفرة ويخبر نفسه بفم مغلق: إن الحياة مازالت قائمة، حتى لو بدت بهذا الغياب، وبمثل هذا الاضطراب.
    وابتعد قليلا ً ...، تاركا ً جسده يتدحرج فوق العشب، مثل دعلج جمع أشواكه استعدادا ً لمواجهة الخطر، إنما أحس كأنه ولد توا ً، مثل من جنين يرى النور بغتة؛ فرخ لقلق، أو عقاب، أو صقر...، ضاحكا ً؛ فانا ـ وراح يتأمل حافات كلماته تتموج في الفضاء ممتزجة بأشعة الشمس ـ مثل ذئب فلت من الكمين، لا، قال، مثل غزال، أو أيل، أو أرنب، وليس مثل دب، أو نمر، أو فيل.
ـ بدأت تتخبط....
    لأنه صدم بتحول قرص الشمس الذهبي إلى بقعة رمادية ترسل إشعاعات معتمة لها مذاق أشلاء أجساد ممزقة، مشوبة برائحة عفن....، ولكنه أسرع فنفى ما مر بخاطره، لنفسه، مؤكدا ً انه اجتاز المسافة الفاصلة بين الثقب الذي خرج منه، والفضاء اللامحدود الممتد أمامه بلا نهاية.
     صدم، وتلقى الصدمة بهدوء، بعد أن سأل نفسه:
ـ أين .. هي .. الحديقة...، وماذا حدث لها بالضبط...؟
   تصوّر إنها غابت، ولا اثر لها، وليس ثمة أسوار، ولا ممرات، ولا أجنحة، إنما فند تصوّراته وهو يشاهد رأس حيوان طالما التقاه، وبادله أطراف الحديث، واستأنس طراوة كلماته، وسلاستها؛ رأس ثور كبير، اسود ...، وسره أن يرى قرنه يمتد بعيدا ً يسارا ً والى اليمين...، وانه لا يشبه قرن وحيد القرن، المثير للجدل!
   اقترب، واقترب حتى حاذى سور الزريبة، ورفع رأسه قليلا ً؛ انه هو ذاته الذي روى لي ذات مرة.
   متابعا ً بعد لحظة تريث:
ـ حديثه الطويل الشيق عن القرون...، من قرون الحشرات إلى أنياب الفيل، فهو كان مولعا ً بالحديث عنها، حد انه قال لي: إنهم يقدرون على ذبحي لكنهم يعجزون عن تدمير هذه القرون! حتى القصاب الذي كان سلاحه السكين كان لا يقدر على ثلمها!
ـ القرون...
ـ ماذا لدي ّ سواها، وماذا ترك لنا الزمن سواها؟
    ولكن الثور لم يكترث له. فعندما هم بطلب النجدة تردد لأنه تذكر آخر لقاء له معه، بعث فيه الأسى والحزن والكآبة، فصمت، لان أصداء كلمات الثور ترددت داخل رأسه:
ـ فانا لا عمل لدي، يا سيدي، سوى أنز على هذه البقرة، أو تلك...، فتحبل البقرات ...، بل حتى عندما تم أخصائي، لم أتوقف عن عملي، فكن لا يتوقفن عن الحبل...، ولكن ما هي الحصيلة، سوى أنهم يسمنون العجول، أولادنا، ويرسلونهم إلى ...الموت.
ـ أي انك نجوت من السكين؟
   مستعيدا ً أصداء خواره:
ـ كي أواظب على المشاركة في ذبح أبناء جلدتنا، وفلذات أكبادنا، أولادنا، وأحفادنا...! ألا تعد هذه صفاقة تجاوزت حدود الجريمة، حتى لو كانوا له وجدوا لها بابا ً من أبواب الشرعية؟  
ـ أنا اعترض!
   سمع الثور يخور بألم عميق:
ـ هل أطلب منهم قطع رقبة رفيقي بدل أن أؤدي دور القواد؟!
ـ لكنك حافظت على ديمومة نسلك من الإبادة، والاجتثاث، والمحو؟
ـ سيدي، لقد أرغموني كي أؤدي هذا الدور...، رغم نشوته ومباهجه ومسراته الغامضة ...،فثمة لذّة لا توصف لا تجدها عندما تكون مع بقرة! بينما شبح السكين لم يغب عن عينيك!
   وكاد يصرخ:
ـ وهذا  ما حدث لي...
    ثم تجمد الصوت داخل حنجرته، وعندما بحث عن فمه وجده غائبا ً. فاقترب من السور الخشبي، وود لو وثب إلى الأعلى، لكنه انشغل بسماع ذبذبات صمته وهو يدور، فتراجع إلى الخلف، خطوة اثر أخرى، كي يستنشق رائحة كبير الجرذان، وهو يخرج رأسه من الجحر:
ـ آ ....، حسنا ً رأيتك، أيها الحكيم!
   لم يسمع الجرذ صوته، بل انسحب إلى الداخل، فناداه:
ـ سيدي، يا كبير الجرذان، أتعرف ماذا حدث لي...؟
ـ وماذا حدث لك؟
ـ أنا هو من يسألك، وليس أنت من يسأل...؟
ـ غريب...، أنت سألت..، وأنا مازالت منشغلا ً بسؤالك...؟
ـ أي انك لا تعرف ماذا حدث لي...؟
   تذكر أن الثور قال له، قبل أن ينشغل بالنز على بقرة ضخمة:
ـ ما شأني!
   فرأى كبير الجرذان يبتسم:
ـ هذه هي الدنيا!
ـ سيدي، ماذا تقول ...، وأنا جئت اطلب مساعدتك..؟
ـ وما ـ هو ـ شأني أنا...؟
   تراجع، يعالج لا مبالاة الآخر، له، فترك رأسه يدور، وهو يدور معه.
ـ آ ووغااااو غاااا.....
    سمع نعيب غراب يأتيه من القريب، فسره الأمر. اقترب الغراب، فسأله:
ـ أين كنت...؟
   تحسس جسده من الأعلى إلى الأسفل، وقال للغراب:
ـ في الحفرة!
ـ جيد...، كان عليك أن لا تغادرها ...!
فسأل الغراب:
ـ  وأنت أين كنت؟
ـ في العش، في عشي!
ـ جيد، بل هذا أكثر من جيد.
    وامتد الصمت بينهما فترة غير قصيرة، كي يحلق الغراب، مبتعدا ً، وقد توارى. فراح يراقب أعالي الأشجار، ولمح، خلفها، سور الحديقة الشاهق، المتين، كما لمح بضعة غيوم بيضاء متناثرة في السماء.
ـ الحمار...، لم يجب، ولم يشرح، كأنه أراد أن يقول: هذه هي الحياة كما عرفتها، وكما لا يمكن أن تكون شيئا ً آخر...، الحمار...، اجل، سيدي، أنا اعرفها، فلماذا تطلب مني غير ذلك؟ أنا لا اعرفها.
     أصغى ملتقطا ً أصداء نعيب الغراب:
ـ آ ...، لو كانت لدي ّ حفرة!
ـ وماذا كنت ستفعل فيها...، سيدي؟
ـ أغلق فتحتها، وأغلق شقوقها، وأغلق منافذها كافة...، حيث لا أرى أحدا ً ولا ادع أحدا ً يراني!
ـ وأنا كنت فعلت ذلك؟
ـ لا...، أنت أصبحت في العراء...، من غير حفرة!
ـ ولكن، سيدي، يا أقدم من علم أصول الإخفاء، والدفن...، انجدني!
ـ من أنا، من أكون...، كي أنجدك، أيها الغريب؟
  تخيّل انه صار يتجنى على الغراب، فالأخير لم يجب، حتى مع نفسه، فلماذا اتهمه بما لم يتفوه، وبما لم يصرح به؟
   دفع جسده دفعا ً، حتى أحس انه راح يمشي، بدل الزحف، وبدل التدحرج، نحو قفص الأسد، كبير عظماء الغابات، والحدائق. فسأله حمار كان يمر مصادفة بمحاذاته:
ـ ماذا تفعل؟
ـ فقال الحمار:
ـ اذهب...، أرجوك، فمصيبتك اكبر منك!
ضحك الحمار:
ـ يا أحمق، أكثرنا ذكاء ً أكثرنا حماقة! ففي هذه الحديقة اللامعقول يصبح معقولا ً، واللا شرعي غالبا ً ما يصبح هو الحقيقة....!
وأضاف بمرح:
ـ مع انك شتمتني، وأنت تخاطب السيد الغراب، من غير سبب، لكن ماذا افعل وأنا خلقت لا انظر إلى الخلف!
ـ اعرف!
ـ ماذا عرفت...؟
ـ عرفت انك تتمتع بالحكمة، ورجاحة العقل، والحرية!  
أجاب الحمار بهدوء:
ـ بدل أن أتحول إلى تمثال...، واقبع داخل قضبان هذا القفص، كهذا الأسد، الذي لم أره مستيقظا ً إلا في حالات نادرة، فانا طليق!
ـ آ ...، ربما يكون استوعب الدرس!
   قرب الحمار رأسه منه:
ـ لم اعد افهم ما تخفي...؟
ـ سيدي، فبعد أن أسروه، وسلبوا منه البرية، والغابة...، ولم يعد لديه إلا هذا المكان، بحدود جسده، خلد إلى السبات، وراح يحلم! فهو حقا ً أصبح من الخالدين!
ـ آوه...، فهمت قصدك الآن، يا شريكي في الحماقة!
ـ كيف عرفت أنني شريكك فيها...؟
ـ لأنك، بدل أن تعترف بأنهم أنقذوه، تقول إنهم أسروه، وسجنوه، وبدل أن تتحدث عن الحماية والرعاية والعناية التي يتمتع بها تحدثت عن القيود التي كبلوه بها...، أليست هذه حماقة؟
ـ لا!
ـ ما هي..؟
ـ هي حرية تعبير...، سلاسة، شفافية، فأنت، على سبيل المثال، غير مكترث للذي حدث لأسلافك، ولا للذي سيحدث لأحفادك...، فما تسمي هذا ...؟
ـ أطلق عليها الاسم المناسب لردود الأفعال..!
ـ تقصد رد الفعل؟
ـ هذه هي الحماقة؟
ـ غريب أمرك أيها الحمار، تولد وتموت وأنت غير مكترث أن تموت لتولد!
ـ كأنك أنت اخترعت باب الحديقة!
    سمعوا عواء ذئب، فقال للحمار:
ـ اهرب.
ضحك الحمار:
ـ يا شريكي، أين اهرب...، وفي خاتمة المطاف، أما يحملون علينا أوزارهم، أو يتخلصون منا بإرسالنا طعاما ً للذئاب أو حتى للكلاب الأجنبية؟
  فكر مع نفسه: عيب أن اطلب منه العون، واستنجد به...، ولكن ماذا باستطاعتي أن أقدم له...، لو حاولت، فحاله يدمي القلب...؟
   سمعه الحمار، فقال له:
ـ اذهب إلى الفيل، أو إلى كبيرة النمل، فانا أشكرك لتعاطفك مع حالي..، ولكن لا أنت تستطيع أن تفعل  لي شيئا ً، ولا أنا استطيع أن أقدم لك شيئا ً يذكر!
ـ هذا ما دار بخلدي ...، ولكن لماذا يعوي هذا الحيوان...؟
ـ ما أدراني...، وما شأني بأمره...؟
ـ آ ....، أصبحت مثلهم.
ـ ماذا تقصد...؟
ـ لا علاقة لك بما اقصد...، ولا علاقة لك بما حدث...، فلا احد يعرف ما حدث للآخر...؟
ـ وماذا حدث..؟
ـ أنا، على سبيل المثال، وجدت من كان معي في الحفرة...، تحول إلى أشلاء...، أي فقد وجوده، وصار غائبا ً..!
ـ الم ْ يحدث هذا منذ زمن بعيد...؟
ـ نعم، قبل انقراض الديناصورات، وقبل أن تتأسس هذه الحديقة.
ـ لا اعرف!
ـ لا ...، عليك أن تعرف كي تهدأ...، وتكف عن الشكوى، واستجداء العواطف..، أو حتى طلب الغفران، والرحمة.
ـ إذا ً أنت تعرف ماذا جرى لي...؟
ـ لم يكن أقسى مما جرى للبعوض...!
ـ وماذا حدث للبعوض...؟
ـ تم إبعاد كل من نجا من الإبادة، ونفيه، فصار تائها ً مشردا ً ...
ـ جيد! فالبعوض مخلوق مثير للشغب، غير مسالم، وناقل للموت!
ـ ليس للشغب أو للموت، بل للكراهية!
ـ سيان...، فالنتيجة واحدة؛ إنها تحدث التصدع، والحميات، والهلاوس، من ثم الوهن قبيل الهلاك!
ـ أتعرف ...، كنت لا أظن إنني سأعثر على من أتسلى معه...، في هذه الحديقة؟
ـ آ .....، إذا ً مازالت الحديقة قائمة ولها وجود؟  
     طرب الحمار، وراح يضرط:
ـ ليذهب العالم كله إلى جهنم مادامت حديقتنا عامرة!
ـ لك الثناء ولك الشكر.
ـ لمن؟
ـ لا اعرف...، فانا، سيدي، كنت اطلب من يشرح لي ما حدث لي...، ولم أجد. فرحت اطلب العون، فلم أجد...، فقررت أن ابحث عن من يغفر لي...، فوجدتك!
ـ وما شأني أنا...؟
     وراح يراقب الحمار يهرول مسرعا ً مختفيا ً وراء الدغل، فردد مع نفسه: حتى أنت...، يا صاحب العقل، والحكمة؟
  صمت ليسمع الحمار يهمس في آذنه:
ـ الم أخبرك بأننا ولدنا كي لا نفهم!
ـ سأضطر أن أقول لك: وما شأني أنا؟
   وسمع صدى صوت لم يستطع أن يحدد من يكون، فقد جاءه من أعماق المستنقع:
ـ تائه ...، وأخيرا ً أصبحت ضالا ً، مشردا ً...؟
ـ من أنت...؟
ـ وما شأنك إن كنت عرفتني أو لم تعرفني...، فانا رأيتك مثل شحاذ، أو مجذوم، أو هارب من إحدى المصحات...، معدم، تستجدي، تتلاعب بك الريح، وكأنك أضعت طريقك...؟
   هز رأسه باحثا ً عن رد، فلم يجد. قال الآخر:
ـ لو كانت لدي ّ صلاحيات لدعوتك للسكن معنا في قاع هذا الفردوس...، فالرزق وفير، والأمن مستتب، والرخاء فائض.
   وجد فمه يتحرك:
ـ هذا لطف بالغ منك، سيدي، لن أنساه أبدا ً!
ـ وهل تبقى لديك وقت من اجل أن تتذكره؟
ـ حتى لو اختزلت حياتي إلى لحظات...، فهي مسافة، وعلي ّ أن لا أكون جاحدا ً، فانا أرد الفضل بألف! فالكرامة اعز من الكبرياء!
ـ آ ...، حتى أغبى الأغبياء في هذه الحديقة لديه كلمات ذكية!
ـ آسف ...، لم اطلب منك المشورة، ولم استنجد بك...، ولا عناء هذا الإطراء الغريب!
ـ لكنني سمعتك تتحدث إلى غزال شارد، أو نازح، أو مهجر، أو لاذ بجلده...، لا اعرف...، وتقول له: عراك الأذكياء واختلافاتهم تعّمر الحدائق، وتبنيها ...، وعراك الحشرات، الديدان، الجراثيم، تخربها، وتدكها دكا ً، ولا تبقى لها إلا الفراغات! فقلت مع نفسي: ربما للحياة معنى!
ـ أحسنت!
ـ على ماذا...؟
ـ لأنك سمحت لي أن لا أسألك...، وان لا امتحنك...، ولا أن أربك نظام عقلك؟
ـ غريب! كأنك تائهة حقا ً...، مع إن الحديقة برمتها هي جزء من الكوكب الأزرق، والكوكب الأزرق جزء من السماء، والسماء جزء من ضئيل من الكون، والكون هو محض ذرة في الأكوان..، والأكوان ما هي إلا بذور تسبح وتسبّح في اللامحدود ....!
ـ آ ...، كم أنا سعيد بسماع هذا النشيد، لكن، للأسف، الإعصار لم يترك لنا حتى حفرة نموت فيها!
ـ إذا ً فأنت تفكر؟
ـ ربما أكون فعلت كل الموبقات، سيدي، ولكنني قط لم ارتكب هذه الجريمة الشنعاء!
ـ لا ترفع صوتك!
ـ وهل فعلت؟
ـ كيف سمعتك وأنا في قاع الفردوس؟
ـ يبدو إن صمتي راح يلعلع، وتجاوز حدوده، وقد أصبحت فضيحة، بعد أن كنت ضحية! فمن يتستر علي ّ؟
    خر مغشيا ً عليه، وغاب عن الوعي، ثم أفاق. إنما لا يتذكر كم رقد، بعد أن وجد جسده يتدحرج، تارة، ويتقلص ثم يتمدد تارة أخرى، ليسمع كبير القرود يناديه:
ـ اقترب...، اقترب لماذا تتمرغ في الوحل، عيب، فهل حصل لك مكروه، أم أصبحت مفكرا ً...؟
ـ لا ..، أرجوك، ارحمني.
ـ لقد أصبحت تؤدي دور المخلوقات الخالدة!
ـ هذه حكاية لا اعرف كيف لم تفند بعد...، فاسود التراب يحسبن إنهن استبدلن الفناء بالخلود...، وها أنت ترى ما حل بنا...؟
ـ وماذا حل بك...، وأنت طليق، لا احد أعترضك، أو سألك، أو حجزك، أو عاقبك...؟
   صاح مبتهجا ً:
ـ إذا ً أنا بلا قيود...؟
ـ بل أكثر من ذلك؟
ـ أنا أكثر من طليق...،فانا ميت إذا ً...؟
ـ لا، لا يا أحمق، أنت ذهبت ابعد من الموت!
ـ وابعد من الموت....؟
ـ فأنت خارج قفصك...، فأنت أفضل من الأسود، النسور، النمور، وأفضل من الفهود والصقور والذئاب...، فماذا تريد...، وقد أصبحت الحرية ذاتها تخشاك؟!
ـ سيدي، يا كبير القرود، أنا اعرف انك تتمتع بالذكاء الحاد، واعرف انك ليس من مثيري الشغب، والفتن، ومن أعداء البغضاء والعنف، فأنت من دعاة الوداعة، وراحة البال، اخبرني... ماذا حدث لي...، وأين هؤلاء الذين كانوا يعيشون معي، وبجواري، في المغارة...؟
ـ آ ...، لو فكرت بهذه القضبان التي تحاصرنا، لوبخت نفسك يا نذل، قبل أن تسأل مثل هذا السؤال؟
ـ هل أنا نذل ولا اعلم؟
ـ بل أكثر من نذل، فأنت تتجاهل ماذا فعلوا بنا..، وبمخلوقات هذه الحديقة، حتى الحيتان  أسروها، داخل الأحواض، وحتى وحيد القرن لم يعد يمتلك إلا ما يمتلكه الثور، زريبة، لقد ساووا بين التمساح والضفدعة، وبين الزرافة والجرذ!
ـ لكنني لم اعد امتلك حتى حفرة...؟
ــ وماذا تفعل بالحفرة، أم انك جبلت بالعبودية، لا تولد ولا تموت إلا وكأنك لا تريد مغادرتها؟
ـ لست أنا من يفعل ذلك...، هي، يا سيدي، لا تسمح لنا إلا بهذا الذي أصبحنا نعشقه!
ـ لهذا أنا أحسدك، حسدا ً ابيض!
ـ تحسدني على العبودية...؟
ـ يا أحمق، أنت حصلت عليها كمن يحصل على الخلود!
ـ غريب...، أنا لم ابحث عنها، قلت لك، فكيف عثرت علي ّ...؟
ـ هي لم تعثر عليك، ولا أنت عثرت عليها.
ـ سيدي، اخبرني: هل تسمحون لي بالانضمام إليكم...؟
ـ وماذا تفعل معنا؟
ـ وهل لدي ّ قدرة أن اعرف ...؟
ـ غريب أمرك ...، لا تريد أن تعرف انك لا تعرف، ولا تريد أن لا تعرف انك تعرف ...، ثم لا تحلم إلا أن نستضيفك داخل قفصنا...؟ الم ْ تكن لديك مغارة، أهل، ومسرات...؟
ـ نعم.
ـ لماذا فرطت بها...، لماذا أهملتها، ولم تتمسك بها...، لماذا لم تحرص عليها...، ولماذا هربت منها...؟
   هز رأسه بأسى عميق:
ـ كنت اعرف إنكم أيضا ً لن ترحموني....، وكنت اعرف إنكم لن تقدموا لي العون...، بل كنت اعرف إنكم ستسخرون مني...، وتكيلون لي شتى الاتهامات الباطلة، وربما تحاكمونني بذنوب لم اقترفها...، من يعلم؟
ـ أهدأ...، اهدأ .. فالبلايا تعرف أين تذهب، ومن تختار، مثل المصائب لا يفلت منها حتى من أمضى حياته كلها يتجنبها!
ـ إذا ً أنت تعرف ماذا حل بنا، وبي...؟
ـ وماذا أقول لك عما جرى لنا، وللنمل، للزواحف، للثدييات، للطيور، والديناصورات ....؟
ـ وماذا جرى...؟
ـ ألا ترى...، ألا تسمع...، ألا تدرك؟
ـ أنا لا اعرف ماذا حدث لي...، فكيف اعرف ماذا حدث لهم!
ـ انظر ألينا.
  نظر بشرود:
ـ تلعبون، تقفزون، تمرحون، وتتشاجرون بلطف، ومودة...، فانتم تغردون مثل البلابل!
ـ حقا ً هكذا الحمقى يؤولون الحقائق...!
ـ لكنك لم تسمح لي بالانضمام إلى جناحكم، واحتمي بالقضبان، والمشبكات الحديدية...!
ـ اقترب...، أيها الصرصار...، يبدو أن زمنك ولى!
ـ آ ...، الآن إذا ً استطيع أن أخاطبك بأعلى صوتي، إن كان لي صوت: ما شأني بكم!
     وترك رأسه يستقر فوق العشب، مستنشقا ًرائحة مشبعة بمزيج شعر إنها توخز قلبه، فكاد يقهقه، لأنه وجد انه أكثر شرودا ً، فأغلق فمه، وهو يراقب ماء البركة، غير مكترث إن كان الألم هدأ أو انتقل أو وجد مستقرا ً آخر في جسده. فلم يعد يشعر بالرائحة تعمل عمل المدية في القلب، بل أحس إنها ناعمة، تتسلل مع الهواء إلى رئته.
   ولم يصدم برؤية رأس مستطيل له مجسات متحركة يقترب منه، رأس خرج توا ً مبللا ً بالماء الأسود واقترب كثيرا ً منه حتى جاوره:
ـ ماذا تفعل هنا...؟
ـ آ ......، سيدي، أأنت هو التمساح، أم شبيها ً به، أو ظله، أو مخلوقا ً آليا ً، أو ...، لا يهم...، أقول لك: وهل أنا هو الذي أتى؟
ـ هكذا خطر ببالي...، فقد تكون أرسلت طيفك، أو من ينوب عنك، أو...؟!
ـ تعني شبحي...؟
ـ سيان...، اخبرني ..
   تراجع إلى الخلف، فقال متابعا ً:
ـ سمعت انك تنوي الهجرة...، والفرار...، بحثا ً عن ملاذ ...؟
   صدم، لا، موضحا ً:
ـ هذه أقاويل، شائعات، وهذه هي افتراءات العاطلين عن العمل...، فأنت تعرف ماذا يحدث الفراغ....، كي أخبرك، بوضوح: أين يمكن أن اذهب...، وماذا افعل، وأنت تعرف إن الحفرة التي لا باب لها لا يدور في قفلها أي مفتاح!
ضحك التمساح:
ـ أصبحت تتندر على البحار، والمحيطات، وكأنك ارتويت من ماء البرك؟
ـ سيدي ...، أنا ولدت بعيدا ً عن بركتكم الخالدة...، وخبرتي بالماء لا تسمح لي إلا بالصمت. فانا تعنيني الحقائق كما أراها أمامي من غير تمويهات!
ـ لم تجبني...؟
ـ وهل سألت...؟
ـ سألتك: ماذا تفعل هنا...؟
ـ وأنا سألتك: هل أنا موجود كي يكون لجوابي معنى؟
ـ سأفترض إني أتحدث إلى كائن لا وجود له ألبته...، فاخبرني إذا ًهل لوجودك ظل...؟
    انفجر ضاحكا ً:
ـ مع إنني لم أجد وسيلة للبكاء، ولا وسيلة لمعرفة ماذا حدث لي، إلا انك أبهجتني!
ـ أنا...؟
ـ آسف...، قد أكون أنا هو من يتكلم إلى لا احد...!
ـ يا أحمق، كان عليك أن لا تغادر حفرتك...
ـ وهل غادرتها؟
أصبت! فانا أيضا ً لم أغادر مستنقعي!
ـ حسنا ً، سيدي، أرجوك اخبرني: ماذا حدث...؟
ـ آ .....، أنا أيضا ً كنت أظن أن العاصفة شملتنا برحمتها، ولكنها كانت عمياء، فلم ترنا!
ـ أنها لا تبصر.
ـ أتقصد ـ كما قلت ـ  عمياء؟
ـ لا ...، لم اقصد إنها عمياء، ولم اقصد إننا كنا نرى...
ـ ماذا قصدت إذا ً...؟
ـ لو كنت اعرف ماذا قصدت...، لقلت لك، فلماذا أناور وأنت تعرف إن الحقيقة تدحض لعبة المناورات!
ـ أحسنت....، فمن لا يعرف يكون وحده قد عرف! كما سمعتها من عابر سبيل زار حديقتنا منذ زمن بعيد.
ـ عرف انه لا يمتلك إلا القليل الذي يسمح له بالنجاة...، وتجنب المحو...
ـ سيدي التمساح العظيم...، يا سيد المستنقعات، والأعماق السحيقة، يا مغوار، هل تعرف ماذا حصل في الغابة، وماذا حدث في البرية، وماذا جرى لسكان الوديان...، أم انك ستقول: حصل الذي حصل...؟
ـ اسكت!  
ـ لا تورطني...، ففي حديقتنا، لا يحق لأحد أن يذهب ابعد من حدود جناحه، أو يذهب ابعد من قفصه! وها أنا، لهذا السبب، سأعود إلى مستنقعي...، فلا أنا رأيتك، ولا أنت رأيتني!
ـ أمرك...، لكن هل كنت أنا رأيت، وهل كان هناك احد رآني....؟
ـ اقترب.
  اقترب منه:
ـ آه...، لم أسألك: كيف نجوت...؟
ـ آ ....، هل نجوت كي أخبرك ...؟ ولكن قل لي: لِم َ تركوك...؟
ـ عميان! كانت عاصفة عمياء، حملها الليل، مثقلة بالظلمات، فلم ترنا، ولم نرها، نحن أيضا ً.
     هز رأسه متمتما ً: لا أصحاب الشأن لهم شأن بها، ولا الذين لا شأن لهم شأن بها أيضا ً، فالعاصفة مرت...
ـ إن كنت مازلت ترغب بالنجاة...، فلا تثر المزيد من الغبار!
ـ يا سيدي، أن اغرب غرائب هذه الغربة، انك لم تعد تجد حتى الوهم الذي أغواك، كي تدحضه، فلا أنت نجوت من العاصفة، حقا ً، ولا هي تركتك، فهي لم ترك ولا أنت رأيتها، وما عليك، في نهاية المطاف، إلا أن تقول الحقيقة!
     طمأن نظره إن ما سمعه، وما رآه، ليس وهما ً وليس حقيقة، بل وليس منزلة بينهما، فالمغارات تساوت، مثل الحفر، والزرائب، مع الأرض، بعد إن اقتلعت العاصفة الأشجار، عدا أن صورها القديمة مازالت شاخصة، وانه طالما اجتاز الدروب والممرات والمنحنيات نحو المدرسة، مارا ً بالبرك، والحظائر، والجحور، مستنشقا ً رائحة الحقول، وعطر زهور البرية، حتى إن رائحتها مازالت حادة...، إنما علاماتها اندمجت، كأن نيزكا ً ضربها، أو تعرضت لزلزال، أو بركان.
ـ أخبرناك بان الهزيمة ليست هي نهاية الرحلة، والموت ليس خاتمة الدورة...، ربما هي نهاية شوط، أما ما لا يمكن قهره فهو الذي عليك أن تتبع خطاه...!
ـ فعلت ذلك...، وهذه هي الحصيلة.
ـ لم تفعل ...، فها أنت تستجدي، وتكاد تستنجد، بل وتتضرع، بهذا أو بذاك...، فأنت مازالت تتسول...!
ـ ولكني لم اعد امتلك حتى الهزيمة كي أميز أهذا الذي أراه هو حقيقة وهم، أم وهم حقيقة، أهذا إضاءة ظلمات، أم ظلمات إنارة، أهذا هو ما قبل الهزيمة، أم ما بعدها....؟
ـ كأنك لم تختر، في النهاية، إلا الذي كان عليك أن لا تختاره؟
ـ أنا اخترت مغارتي، فماذا افعل من غير مغارة...؟ وها أنا افقدها. لقد سلبوها مني حتى القبر الذي حلمت أن ارقد فيه لا وجود له، وصار وهما ً، ظلا ً، فكل من اسأله يقول لي: ما شأني....، كأنهم جميعا ً ملائكة رحمة، حكماء، وكأنني أنا الوحيد الشرير، صانع الآثام، ومقترف الخطيئة!
ـ من هم...؟
ـ وكيف اعرف من هم...، وأنا أتخبط لعلي أجد من يقول لي كلمة لا تعمل عمل الخنجر في القلب، ولا تعمل عمل الجذام في روحي، ولا عمل الأهل بالأهل، والجار بجاره، والحديقة بسكانها.
    وشرد ذهنه، ليجد انه يقف لصق تمثال مهدم، بلا ملامح، فلم يكترث إن كان هو ذاته الذي كان قائما ً لسنوات طويلة، أم قد شيد حديثا ً، وتعرض للهدم..؟
    وانتابه إحساس انه لم يعد يجد علاقة معه، مع انه لم يخاطبه مباشرة بعد ان خطر بباله ان يفعل ذلك، ساخرا ً انه قد يكون هرم، أو فقد ذاكرته، وان إضاعة الوقت لن تفضي إلى خاتمة لا تثير القلق. فانا أصبحت أتدحرج، بمعزل عن جسدي، فالأخير غدا غريبا ً عني، بعد ان برهن ان من التقيتهم لم يكونوا أفضل مني.
   وانتابه ذعر جمّده فتكوم لصق بقايا جسده بالقاعدة حتى ان سربا ً من الإوز مر لم يكترث لوجوده، بعد ذلك مرت سحلية بحجم فيل، هي الأخرى، لم تلتفت له. إذا ً ....، مستنتجا ً انه قد يكون عزل تماما ً عن الجميع، بعد عن فصل عن نفسه. فهو ـ دار بباله ـ لم يعد مهتما ً بما جرى، وما يجري، فهو لم يعد يفكر بضرورة وجود حفرة، أو حتى مغارة، كي يستعيد كيانه. فانا أصبحت طليقا ً كهذه الأشجار...، مصغيا ً إلى قلبه ينبض وفق عمل الأجزاء الأخرى...، وسأل التمثال:
ـ  فلو لم يكن لك هذا الحضور...، فماذا يعني حضوري؟
   وتمتم بصوت ناعم:
ـ فانا جزء منك، ولكنك لا تبدو راغبا ً ان تكون جزءا ً مني؟
     وشعر انه لم يعد يقدر على مقاومة رغبة بالبكاء، والعويل. لم يبك. تجلد:
ـ لكن هذا لن يدوم إلى الأبد!
      ولمح قطعان من الجراء تهرول، خلف طابور من الماعز، والخراف، وثمة جرذ يزحف مثل تمساح:
ـ إلى أين...؟
   لم يرفع صوته...، فلا احد شعر بوجوده.
ـ أأنا مريض...؟
   مصغيا ً إلى نملة تدب لامس صدى صوتها بصره:
ـ اقتربي...، أتضرع إليك.
     ووجد انه يبذل جهدا ً كبيرا ً في جذبها للحديث معه، وهي تراقبه، حتى وجدها تومئ له بالتريث:
ـ سأنتظر ...، فقد أجد خيطا ً يدلني ..
ـ أأنت جاد؟
ـ اسألي هذا التمثال لزعيمنا الخالد!
ـ دعك منه...، لو كان يستطيع الهرب لفر، ولما قبع أمامنا ساكنا ً مثل صنم!
  وأضافت:
ـ ثم انه مشغول بأداء دوره.
فسألها:
ـ ما شأنك بدوره، وهل سألتك عن هذا الدور...؟ ثم ما شأني أنا ...، الم ْ تقل انك جاد بالعثور على خيط، محض خيط.... يوصلك إلى ...

ـ حتى لو كان وهما ً، وحتى لو كان من حرير العناكب!
ـ حسنا ً..
   كاد يصرخ، فقرب رأسه من النملة مصغيا ً:
ـ تتبع هؤلاء...، واحشر جسدك معهم، لعلك تصبح واحدا ً منهم...؟
ـ سأفعل...، ولكن من هم هؤلاء...، وماذا يعملون...؟
ـ هم، هم، هم، لا شأن لك بعملهم، وماذا يفعلون...، فهم يؤدون آيات الولاء لشجرتنا الكبرى، أمنا الأولى، أم البرية والبحار..
ـ آ ...، عدنا إلى العصور المجيدة، والى الزمن الجميل.
ـ لا اعرف...، فلا فائدة من هذه المعرفة، المهم أمش خلفهم، وصر واحدا ً منهم... لعل أمنا الشجرة الكبرى تستجيب لك، وترضى عنك، بعد أن تقبل توبتك، واستغفارك..؟
ـ لن أنسى معروفك معي، أيتها النملة، حتى أخر يوم لي في هذه الحديقة.
وسألها فجأة:
ـ بالمناسبة، من أنقذ حياتك، .....؟
ـ آ ...، هذه حكاية بالغة التعقيد.
ـ حسنا ً...، ولكن لماذا لم تذهبي معهم، لتحصلي على الخلاص، والرحمة، والنعيم؟
ـ وهذه حكاية أكثر تعقيدا ً.
ـ فلماذا اذهب أنا....، فقد أكون اخترت الدرب غير الصحيح، كالسابق....، مع إنني لم ارتكب ذنبا ً، أو خطيئة، أو فحشاء، أو معصية، أو ... فقد أعاقب بعقوبة اشد من هذه مرارة، فأتحول إلى تمثال، أو أمزق، واسحل، أو ترمى جثي إلى الضواري، وتتعفن مع النفايات...، آنذاك قد لا استطيع حتى الفرار!
ـ آ ...، مسكين، الآن عرفت انك تحاول معرفة ما لا احد يعرفه، ومعرفة ما عليك أن تتجنب معرفته!
ـ صحيح...، ولكن لماذا انشغلت بالسير في هذا الدرب الموحش...، المظلم...؟
ـ وهل باستطاعتي أن اعرف، ثم ما شأني بذلك؟
ـ آ ...، حتى أنت ِ تتخلين عني.
ـ أنا لم أتخل عنك، أنت تخليت عن نفسك.
ـ لا قسما ً بأمنا الشجرة أنا لم افعل ذلك، ولكنني فجأة لم أجد لدي شيئا ً، لا أهلي، ولا حفرتي، لا نفسي، ولا حتى القبر الذي سأستقر فيه!
   صرخت النملة:
ـ لا تجدف...، فأمنا الشجرة قد تتألم، ويؤذيها هذا الكلام، فلا تغضبها.
    التصق بالقاعدة، حتى غاب عنه الوعي، للحظة، وأفاق:
ـ من أنا كي تغضب علي ّ أمنا الكبرى، أم الحدائق، والبراري، والغابات، والحدائق؟
ردت النملة، قبل أن تتوارى:
ـ وهل باستطاعة نملة، مثلي، أن تكون أكثر من نملة، لم يبق من جنسها، إلا شراذم نمل تائهة هنا، وهناك...، بعد أن أصبحت ابحث ولا أجد من كان معي من الأهل، والجيران، والعشيرة؟

ـ أكان عليك أن تخرج ...؟
     وجد السؤال يوخزه كسكين راحت تعمل في جسده، يرن، مرا ً، لولبيا ً، مشاكسا ً، وقد راح يشاهد مجموعة أشكال متلاصقة تبرز أمامه، شبيهة بالتمثال السابق: ساعات واحدة ذات شكل مربعة، وأخرى مستطيلة، وأخرى دائرية، ورابعة لم يرها جيدا ً، وخامسة بدت له مثلثا ً.....، ساعات سمحت له أن يبحث عن نفسه:
ـ لا احد...، حتى لم اعد فراغا ً..!
    فأحس بذرات لا مرئية تخترق كيانه، وتركها تصدر صوتا ً ناعما ً شبيها ً باللحظات التي تسبق بزوغ الفجر، آ ...، فقد تحول الصمت إلى بذور محاطة بشبكة نسجت عشوائيا ً ـ رغم وضوح خطوطها ـ حتى أحس انه تحول إلى كيان تناثرت جزيئاته، وراحت تتموج، وتتصادم، لا إراديا ً، داخل تلك الأشكال. ربما هذا هو الذي كنت ابحث عنه: الزمن..؟ مع انه سوى أجزاء لا مرئية راحت تتناثر من غير ضجة أو أصداء، ومن غير حركة أو ألوان.
    وأعاد تأمل الساعات، ليسأل نفسه:
ـ أين أنا...؟
    اختفت الأصوات، والألوان، والروائح تماما ً، مثلما وجد انه فقد ما كان أحس به، فلم يعد حتى طيفا ً، ولا شبحا ً. فدار بخلده، انه ربما يكون فقد الذاكرة تماما ً، وان ما حصل لم يحصل أبدا ً. فالساعات بدت له مثل غيوم كفت عن الحركة، ومثل بقايا جدران، كأنها حجارة مكومة، مثل أطلال مدن مندثرة: وجوه تحولت إلى مربعات، دوائر، ومثلثات...، لا ترن، عدا أن عقاربها ذكرته ببقايا وجوه تحجرت، تجمدت، تخثرت، حنطت: آ ......!
ـ لكنني أكاد أتذكر هذا كله....
   ليجد انه راح يبحث عن لا احد، حتى الساعات تلاشت، عدا رائحة حادة سمحت لأصابعه أن تعمل بمعزل عنه، وراح يراقبها:
ـ أكان عليك أن تترك حفرتك...
ـ من ...؟
ـ كيف تقول لا احد...؟
   حدق في الفراغ: عرفتك! فأنت اللا احد الذي وجد قبل إقامة هذا النصب، نصب الساعات الحجرية!
ـ ما عليك إلا أن تستجمع قواك..، فأنت تستطيع أن تتذكر، تستطيع أن تستعيد لحظات الفجر....، فانا هو من كان يوقظك...، عند الفجر...، فتستيقظ، ثم تغادر مغارتك، ذاهبا ً إلى البركة، عبر ممرات الغزلان، منتشيا ً بالإصغاء إلى تغريد البلابل، ورائحة العشب، ورذاذ الماء....
ـ تذكرت ..، تذكرتك.
ـ خلت هرمت، أو أصبت بداء النسيان، أو أصابك الكبر، وغدوت عظيما ً؟
ـ لا، لا لم اهرم، ولم افقد الذاكرة، ولم أصبح بداء العظمة...، فانا لم انس فضة الفجر!
ـ فانا هو من كان يخبرك بنهاية الليل، وبدء نهار عمل جديد!
ـ آ ...، الم تكن واحدا ً منا...؟
ـ تماما ً.
ـ ثم لم اعد أراك...، أين ذهبت...؟
ـ استبدلوني بهذا النصب...، فانا أصبحت وثنا ً!
ـ آ ...، أيها البلبل، غرد؟!
ـ واآسفاه....، لم تعد تراني..، أرجوك، انظر...، ألا تسمع صوتي...، فانا هو من أنقذته من الموت؟
ـ من... آ ...، تذكرتك، عرفتك، أنت هو ساعة الكون.
ـ أحسنت...، أنا رفيق طفولتك، وصباك، و....
ـ اقترب، أرجوك، اقترب.
ـ لا استطيع...، فأنت تعرف ما حصل لي، وما حل بأهلي، وبيتي، وبلادي!
ـ الم تقل إنهم أقاموا لك صنما ً، تمثالا ً...، أو وثنا ً، أو نصبا ً...؟
ـ لا، بل أنا هو من أصبح هذا الذي تراه: نصبا ً، فهذه الساعات...هي...زمنك!
ـ لكنها لا ترن...، لا تعمل...، كأنها شاخص قبر؟
ـ لا تكترث..، هذا هو ما جرى علينا جميعا ً..، فالحديقة لم يعد لها وجود!
ـ أرجوك....، اقترب.
ـ إن اقتربت منك كثيرا ً فستفقدني...، فدع هذه المسافة بيننا كي لا تنساني.
ـ إذا ً فأنت أصبحت خالدا ً...؟
ـ دعك من الكلمات، وما تتستر عليه، وتخفيه، وتموهه...، فانا هو أنت!
ـ تقصد: أنت ... هو ...أنا ...؟
ـ قل ما شأت، فانا هو أنت، وأنت هو أنا!
ـ تماما ً!
    ودار بذهنه: لا احد.... فالزمن تجمد في نصب، مع إنني لم أر نفسي من قبل، كما أراها الآن: لا احد سوى فراغات متصلبة، تربض فوق قاعدة، عند سور الحديقة الخلفي.
   تراجع خطوات، تبعها بأخرى، مصغيا إلى صمت الساعات، وتوقف عقاربها عن الحركة.
   مخاطبا ً لا احد:
ـ الآن استطيع أن أقول ...، أن أقول بثقة: ما ـ هو ـ شأنك ـ أنت .... ، بهذا الذي طالما كنت تراه لم يغادر حياتك، فما شأنك بمصيرك، فأنت لم تعد مسؤولا ً عنه.
ـ  وهل كنت تستطيع أن تكون....؟
12/8/2016
Az4445363@gmail.com



قصص قصيرة جداً-نهار حسب الله

قصص قصيرة جداً
نهار حسب الله
1.    صحوة مدفون

يداهمني هاجسٌ غريب، يهشم أصنام سكوني، ويعطل أفكاري كلها..
يطالبني بالقناعة والأعتراف بما لا أصدق ولا أستوعب، يحاول إيهامي بين الحين والآخر بامكانية صحوة المدفون ولو بعد حين..
إلا انه هجرني عمداً وتركني أرمم أصنامي بعد ان رصدني وأنا أكفن ضميري بوشاح أسود واجهزه لسبات عميق..

2.    غريق

هزّي سكوني، وأذيبي جليد صمتي.. لملمي بقاياي من على جسدكِ الصنوبري؛ وأحتفظي بها في صندوق الذاكرة المهمل..
اغمضي عينيكِ وتأمليني مسافراً، تائهاً، ضائعاً بين موجات البحر.. وإياكِ ان تفتحي جفنيك على عجل، لئلا تطفو جثني ويتهمك الناس في غرقي.

3.    حاجة

ليست بي حاجة الى كتاب تاريخ يقطر دماً ويحشد فكري بالعنف والتطرف..
لا أحتاج الى أكون شيخاً او عالم فقه لأتخذ قراراً يتسم بالعدالة..
لا أبحث عن حرية شكلية بقدر ما افتش عن رغيف الخبز..
لا أتمنى ان اكون شهريار في عالم لا يقدس حكمة شهرزاد..
لا أود التشبث بالحياة كما كلكامش في زمن مشابه لزماننا الميت..
لا أرغب بوطني ان يكون مقبرة وإنما اتمناه جنة واعشقه انتماء..
يا اصدقاء لا احتاج الكثير من هذا العالم المشبع بالتكنولوجيا، لكني اتوسل بمن يساعدني في البحث عن انسانيتي الضائعة.. 

4.    هوية

في بلادنا العربية فقط..
لا مجال لأن أكون ثرياً إلا إذا أصبحتُ مسؤولاً..
وإذا أردتُ طرق أبواب المستقبل عليّ أن أغتال أبي لأكون أبن شهيد، أما إذا بحثت عن الهيبة وحاولتُ رؤية الخوف والخضوع في وجوه كل من حولي؛ فذاك أمرٌ لا يكلفني إلا رداءً دينياً وبعض الأحكام الرجعية.
أما إذا رضيت بقسمتي كمواطن بسيط فعليّ أن لا أنزعج من وصفهم لي (كلب ابن كلب).. 


5.    إحياء حلم

لا أستطيع تصديق فلسفة حياة أخرى ما بعد الموت، لأنني وببساطة متناهية لا أطيق تحمل حياة ثانية تفترسها التعاسة كتلك التي أعيشها الآن..
وعلى الرغم من كوني ليست مُرغماً على الإيمان بما لا أعتقد، فقد عملتُ على إعادة برمجة الفكرة في رأسي فوجدتني أتمسك بها وأصدقها بشدة، عسى أن أتمكن من إحياء أحلامي الميتة.
6. إعلان

عرضت نَفسها للبيع مستخدمة أحدث وسائل الاعلان الحديث.. واستعرضت مواصفاتها الجمالية كلها، جسد ممشوق خالِ من السمنة، وعينان كحليتان واسعتان، وشعر ليلي منسدل، وأسنان بيضاء زاهية، وشفاه بطعم التوت البري..
وسرعان ما تجمهر الناس من حولها وابتدأ المزاد بأسعار خيالية ظلت تتصاعد حتى صار الكلام بلغة الارقام الثقيلة..
من دون ان يدرك اي من المزايدين لهجة الاعلان الخداعة، التي لم تتطرق لحياتها وانفاسها ونبضات قلبها التي لم تعد تعمل!.

ملكةٌ من عنبر- كوثر الساير

شعر
ملكةٌ من عنبر



   
عُريي حمامة ٌ وجلة
تبحثُ عن نافورةِ ضوءْ
تشرق المرايا بتضاريسِ الولهِ
داخلَ الغرفِ الموصدة
وفي الخارج
تتربّصُ بي عَتمةٌ لا تهادِنْ
أُغمِضُ عيني ,
أراني هناك
في ثنيةِ الزمنِ البعيدْ
ملكةً من عنبرٍ
تلفّني ذراعُ الشمس
أمدّ يدي لأُمسِك هذا الاوانْ
أُناديكَ ,
يرتفعُ كالأشجارِ صوتي
نَسغاً نحوَ الحقول
هاتِ فمَك واحللْ
عقدةً من لسانِ المحالْ
هات يديكَ
لنرقصَ رقصةَ عاشقين
يُضئُ ظلّانا ظلامَ المعابدْ
يعلو ازيزُ اختمارِ الكرومْ
في جرار البيوتِ البعيدة  
 



الحكاية من الداخل-برهان الخطيب

الحكاية من الداخل



   
عن سوء أدب أو غيره يرفع بعض أهل البلد إصبعه الوسطى أحيانا نحو وجه مهاجر، في طريق، بار، أو حديقة. تطوف تلك الإصبع مكبرة لي في حلم، كذلك قرب مبنى النادي، قبيل محاضرة ألقيها بأمسية أدبية، تنتهي وضجر يلاكمني بقفازات غير مرئية، جولة عاشرة أو عشرين.
بعدها نذهب ثلاثة فرسان للعشاء في مطعم شرقي متواضع، عودتي من غوتنبرغ جنوب غربي السويد إلى شقتي في ستوكهولم وشيكة، أفكر ونحن ندخل المكان الدافئ: يمكن كتابة رواية حول تلك الأصبع، ورواية أخرى حول لماذا نحن ثلاثة، وأخرى حول ضجر في فردوس، وجزء آخر أكبر حول لماذا نحن هنا، تفاصيل وافرة تتراكم، رغم دفنها عميقا كنفايات نووية تطل من صمتنا عاليا ونحن نجلس، منذرة بإشعاع أو صخب لا ينتهي عند مائدتنا.
يتردد رافد حين يسأله زميله: مَن يذهب لجلب الأطباق؟ في العيون خوف من دس سم في طعام، لما يزل الكثير حولي أجهله، يطلب رافد من زميله لو يخدمنا، ويمضى الرجل شبه مرغم. ونسكت ينظر أحدنا إلى الآخر..
في السماء خارج قفص المطعم الزجاجي يهدر رعد، يتدحرج دمدمة عفريت فوق الرؤوس منزلقا إلى البحر، تبتلعه الأمواج غير مسموعة هنا في صمت.. في هدوء.. يستفسر رافد مروضا نبرته:
ـ طالما نحن وحدنا.. تسألني عن شيء؟
يتجاوز التحفظ، أبقى في ترقب:
ـ لا. تريد أنت أن تسألني؟ تفضل..
ـ شبعتُ من الهمس في أذنك منذ وصولك غوتنبرغ.. وأنت صاموت لاموت!
أتناسى معلومة وأخرى تضايقني، تحضرني ذكرى أتصورها طريفة:
ـ عام 1963 حدثنا أكرم الحوراني في بيته بالشام أنه سأل عبد السلام عارف بمصر بعد ثورة تموز، وناصر قربهما، لماذا أنت ساكت؟ رد عارف عندي خطاب مهم اليوم. لامه الحوراني: وشو يعني، خايف يخلص الحكي، نجيب غيرو!
يلتفت رافد إلى الزميل هناك قرب منصة الشواء:
ـ وخطابك للأمسية انتهى وحكينا ما يخلص.. وحضرتك سكوت.. قلة ثقة؟
ـ لا أسرار عندي رافد.. الرواية خزانة أسراري.. تدري.
ـ لكلٍ سره.. حتى روائي ملعون خصب سرده..
عيناه في عينيّ، تفصلنا المائدة الصغيرة، عنده الكثير يثير شهية السؤال، كذلك عندي له، نفضّل الصمت، لا نصل بالكلام إلى مكان غير الذي نحن عليه. يرد جامد الوجه تحية بعيدة، يتمتم سابرا خفايا:
ـ معارفنا بدءوا يقولون صرنا نتشابه.
ـ فعلا.. كلانا دبدوب.. شيبوب.. حبّوب.. من نفس المدينة والمدرسة..
ـ يقصدون بالأفكار.. لا بمظهر.. ولا بمتوسطة وغيره قبل ألف عام..
أكرر ما كنتُ قلته: يفكر الناس بطريقة متشابهة يصلون نفس النتائج..
يتلصص من تحت أجفانه المنفوخة:
ـ سمعت هذا منك قبل التحرير، بزيارتك الأولى غوتنبرغ، حينه ذكرتَ كلمة صحيحة بدل متشابهة الحالية.. ثالثة لا يريدون.
لا أسأل مَن لا يريد زيارة ثالثة، ولا لماذا.. ذلك واضح.. فيلم جديد إخراج قديم!
يتلفت بطيئا: يريدون كشف مَن أنت حقيقة.. لمعرفة كيف التعامل معك لاحقا.
أعاتبه: عدة كتب آخرها عن الغزو غير كافية للمعرفة.. أنا أيضا لا أعرفك إذاً!
يوقف نظرته عليَّ: الأفعال أهم من الأقوال. معرفة العمق مهمة. أنت في النور.
ـ وأنت في الظل دائما؟.. على أيهما تعتمد بورصة المخاخخات الدولية!
ـ على كل شيء.. لا تختبرني في اختصاصي.
بعد قليل يستفسر: أنت جاد بفكرة استقرارك في بيتكم القديم ببغداد؟
ـ الحجر المقذوف إلى السماء يعود إلى أرضه أخيرا..
في حزنه المقيم يواصل مبارزة عقلية: نعرف كل شيء عنك، حضرتك صموت، سوسو بوسو هناك تدعوك؟ الآن حتى البيوت زجاجية لا فقط جسورك، والآتي هناك ربما أسوأ من حرب. إنما أفهمك، الوحدة منهكة، غير طبيعية، أنا سافرت إلى ليبيا وجلبت ابنة أحد رفاقنا زوجة لي.
أتناسى دهشتي لعلمه بمشروع سفري إلى "سوسو بوسو".. استغرب:
ـ ما عرفتني على حرمتك!
ـ كانت حاضرة في الأمسية.. بالصف الخلفي.. هي حزينة دائما.. مثل قلبي.
أتوجس الأعماق مثله لكن في مزاح:
ـ غير الطبيعي طبيعي في وضعنا.. حتى تحوَل رفيق لمثابرات..
يرمي هو أيضا عصفورين بحجر:
ـ مخاخخات مثابرات مخابرات..بالتنازل انسجام..
ـ لا شيء بقى لتنازل رفيق رافد. كل العراق خسر.. شيوعيين بعثيين إسلاميين ليبراليين.. وأنا وأنت.. دقي يا موسيقى!
ـ قريبا ترى بعينك، بوسو هانم تنوي ركوبك، أبطالك هناك يفكرون في قتلك، تضطر لتنازل آخر، تبقى تراوح هنا بالسويد، تستمتع بغربتك، بجهنمك.. تعبيرك.
ـ لمضايقات من قوى عنصرية وخفية.. وإلاّ هي نعيم.
ـ العنصري مكتّف والخفي مكثّف يغيّر العالم والمثقف مثلك يشكو دائما..
ـ تغيير لمصلحة ابن البلد أو لسرقته؟ بحرب أو بتنمية؟ لتأورب أو تشورب؟
ـ تبعث رسالة إعجاب لأوربا؟!
ـ تقرأ أفكاري.. أو تلك أفكارك يا نائبا عن حالي وخالي؟!
ـ بل أغنية. معظمنا يميز مطلعها.. يا غربة في خيالي.. من مقديشو.. لمالي!
ـ سيد رافد بعد الهجع أراك تطرب.. لكل أنواع العزف.. حتى التانغو!
ـ الكشف لا العزف، قلها صريحة لا تخف. الوشايات والأخبار تصلنا أخيرا.
ـ أخبارك عجيبة فعلا.. لا أفهمها أحيانا..
يواصل الحفر بكلماته كمثقب رصين في أعصابي: أحاول إثارتك لعلك تصارحني!
ـ غريب أمرك رافد.. أصارحك بماذا وأنت تعلم أكثر من عزرائيل؟!
ـ نظراتك تخفي شيئا. لا تتردد. لم يبق للتأريخ غير احتقاره.. ذلك شِعرك، وأمس تكلمتَ بأريحية مع صاحبنا عن مثليته، فلماذا تخفي، أنا أصارحك بالكثير!
ـ لا أحد ينجو من كلام سوء.. لكن بربك ماذا تتصور أخفي عنك؟
ـ بربك ها؟.. وما لقيت غيري تحلّفه!
ـ الرفيق الأعلى لينين استنجد به.. أو تبتَ عن اللينينية وتحولت إلى الليبية!
ـ هو ليس الأعلى. أنت تكتب وتستسلم لإغواء المعرفة فلا تستكثرها عليَّ..
ـ لو عندي ما يقال عنك وأخبرتك زدتَ وطلبتَ المستحيل..
ـ أدري مَن يتآمر. كفاح نفذ تهديده، قال عني جاسوس لينهيني؟ افضحْنا برواية.
ـ يا رافد.. الخير أبو النوايا.. رضيعه على صفحاتي يرعاه القارئ..
يسخر رافد في ضغينة: الخير جمهورية غير مستقلة سيد برهان!
يحيّرني بتملصه، أعذله: والأمسية الأدبية، وجلستنا هذه، كيف نفهمها؟!
ـ بقايا ماض قديم نرميه إلى مزبلة التاريخ.. تدري أين مكانها؟
ـ لا أدري، حتى في بغداد لو سافرت أجد الخير، كأي مكان أقصده مع نية طيبة.
ـ لا عند حاقدين فضحتَ حيثياتهم برواياتك. الرد انتقام.. ولو في شكل غرام.
أركن تحامله على أصدقاء الماضي، أناور منساقا معه: هذا رأيك؟
ـ لا تسمع رأيي، خليك على طريقك، "ليلة بغدادية" رواية ناجحة، قصدتني بشخصية مزعل فيها.. خاب حلمه الكبير، غيّر خندقه، ظل محبا لصديقه القديم ووطنه.. ذاته غنية.. لكن ثقافته محدودة.. يصبح ضحية التغيير.. هذا توقعك لي؟
ـ أنت من أذكى قراء رواياتي رافد.. من اليوم أسميك رافدين!
ـ عشناها سوية قبل أن تُكتب.. عرفنا زواغيرها.. تأثيرها حياة أخرى.. اعتمادا عليه يصير تأريخنا غير عقيم.. لو سلمنا بلا جدوى النزعة التوفيقية..
ـ الأفضل برأيك البقاء على تأليه الصراع !
ـ الصراع أبدي أبو البراهين، المهم توجيهه لصالحك، باستمالة الحلوين مثلا.
ـ صالح الناس واحد تفاريش رافد.. ناس منطقتنا قبل غيرهم..
ـ يعني راوح مكانك. كلام مثقفين. أو.. نهاية مزعل، لإصراره على قيم انتهت.
ـ تذكر قمر القناة؟
ـ تحته اختار كل منا طريقه، تباعدنا، أنا للعمل الحزبي، أنت للكتابة، و.. نلتقي!
ـ الناس تلتقي في محطة..
ـ بمحطة بغداد القادمة يطلبك قريبا باشا م خ بواسطة سوري.. ينفعك بشغلة..
ـ بينغو! دعوتي إلى هنا لتبليغي ذلك.. لكن مَن هو م خ.. و.. باشا؟!
ـ نسيتَ التآمر! أعددتَ معه لثورة تموز أيام زمان، ببستان المسيب سيد برهان..
ـ غير معقول! معلومتك هذه من ملف غيب.. و.. ماذا يريد فتى صار باشا؟!
ـ لم أقل شيئا، تمام؟ باشا ولماذا إمكانياته كبيرة نتركه أيضا..
ـ تكشف سرا من غيب ولم تقل شيئا؟ ماذا غيره في ملف أكس وأين مكانه..
ـ لكلٍ ملفه.. كَبر.. جنة أو نار.. هذه أيضا جديدة؟ ماذا علمك بونكر ونكير!
قبل النوم أسحب الغطاء وأخفي رأسي، أهمس للاقطة النقال: قضيتي وقضية رافد أكبر من جوع معلومات، أدري مَن كان رافد.. مَن صار لا أدري، خطابه القديم يتبدل، تتغير زاوية نظره، يعلم الكثير، من جهة عالمة، الشك يفضح صاحبه أحيانا، الرجل يرى وينطق من جهتين متقابلتين، في ذلك خطر عليه.. خلاصة: أمامي عمود رواية.. أحتاج أعمدة أخرى.. ذلك للنظري، العملي يتوازى معه، يتعقد، فوق سوسو بوسو وقهر منتظر هناك تبرز ازدواجية رافد، لغز م خ .. من أين جاء به.. مجاهل السفرة تزداد.. ركوب العقل ينبغي قبل طائرة بغداد..
أغفو..
كلماته ترميني خمسين عاما إلى الوراء، إلى أيام البستان المجيدة، إلى ميلاد قربه، إلى ثورة منتظرة، إلى هذيان ونداء بعيد مديد..
ـ .. برهان.. اذهب إلى مدرستك.. حرِّكها.. اصنع معنا يا زلمه ثورة..
يتلاشى همس الضيف السوري في دخان، في نخل ودغل البستان، وسواس ذلك الصيف يصير منتصفه ثورة شجعان، حياة تقلب، غبار، أخبار، أسود، أبيض، إلى تشكيل لوني فتان، تهويمات، امرأة المحلة عاشقة معشوقة تكبرني سنوات، حكاية مثيرة عابرة قارات، قوة مراهق محسوسة وأخرى أقوى في كلمات، م خ ينطقها مختصرا من بؤساء هيغو صفحات، تتفجر هتافا بتحفيز من الأم نحو سماوات، يشق الصالة ينير ظلمات، فيلم مصطفى كامل يوقف، الجمهور خارج السينما، تظاهرة تملأ الشارع..
موج يغيض.. يفيض.. يتدفق.. لا يخرس..
رعود لا تظهر في الأنباء.. تعود وتفصح عنها الأصداء!..


نقد-في الشمولية. أدب أورويل نموذجا-جاسم المطير



نقد


في الشمولية. أدب أورويل نموذجا







جاسم المطير


كثر الحديث والتحذير في عراق ما بعد عام 2003 عن العلاقة بين الديمقراطية والاستبداد ، بين الديمقراطية واحتمال نشوء شكل من أشكال الدكتاتورية الفردية أو الطائفية أو الحزبية أو غيرها من أشكال الاستبداد في النظام السياسي القائم في بلادنا بالوقت الحاضر . هذا الحديث - التحذير صدر وما زال يصدر عن كثير من الأحزاب الديمقراطية العراقية ومن عدد غير قليل من القادة والمثقفين والأكاديميين العراقيين المالكين لأصول الديمقراطية وثقافتها. الأخطاء السياسية كثيرة في أعمال أجهزة الدولة والحكومة في الزمن العراقي الحاضر، وهي تدوس بأقدام ٍ حديدية على حقوق المواطنين . يستبد عدد غير قليل من رجال الدولة وعدد من قادة أحزاب الإسلام السياسي بالإساءة المتعمدة إلى الجماهير الفقيرة من خلال القسوة عليهم بإهمال ابسط مطالبهم الإنسانية المشروعة، التي تهز الصحافة اليومية وشاشات القنوات الفضائية بأصواتٍ تكشف بوضوح معاناة اغلب أبناء الشمس والنخيل والنفط في بلاد الرافدين وهم مكبلين بالخوف من الموت اليومي في شوارع الإرهاب والمفخخات وكاتم الأصوات.
يذكـّرني الواقع السياسي العراقي الحالي بالروائي البريطاني جورج أورويل صاحب الرواية السياسية الشهيرة عالمياً المعنونة (1984 ) التي أنجز كتابتها عام (1948 ) ولم يجد عنوانا مستقبليا مناسبا لها غير تغيير رقم عام انجازها من (48) إلى عام (84) . صدرت الرواية مطبوعة بالانكليزية عام 1949 لكن لم يكن صداها واسعا وقت صدورها الأول رغم أن كاتبها فضح نوعاً من الحكام الذين يدعون الديمقراطية والاشتراكية بينما هم ارتضوا لأنفسهم ولشعبهم عبودية منصبهم العالي على كرسي السلطة، متمتعين بالجاه والامتيازات والثراء والانتصار الشخصي. لكن الرواية فتحت أمامها كل الحدود في بلدان مختلفة من أنحاء العالم لا لتتكلم عن نفسها أو عن كاتبها أو عن إدانة الظلم بفن الرواية ، بل لتتحدث عن عنجهية النظام الشمولي – التوليتاري وكشف تفاصيل مضامين أعمال مشاهد الرعب في بلدان تغطيها الزينة الإعلامية، التي تـُصوّر، سينمائياً ومسرحياً وتشكيلياً، حصان (روميو) يحمل (جوليت) في قرية فقيرة كأن ذلك نهاية المطاف الإنساني ..! كما تتحدث الرواية عن عجرفة الحكام، الذين لا يجول في عقولهم غير هواجس الخوف من شعوبهم .
في عام 1983 تغيـّرتْ قيمة رواية (1984) وتغيـّر تقييمها فقد صارت قيمتها هي الأولى عالميا في التوزيع والنشر كما صار تقييمها النقدي على صفحات المجلات المتخصصة ، حيث كانت توقعاتها واستنتاجات كاتبها المستقبلية في ذلك العام تقترب من التحقق الفعلي ، بعد أن أصبحت وشيكة الحدوث أغلبية الصور السياسية المرسومة روائياً في عينيّ جورج أورويل لخاتمة الأنظمة الشمولية، حيث كانت بلدان المعسكر الاشتراكي متدحرجة - تدريجيا في بعضها وبسرعة في بعضها الآخر - نحو انحراف مبادئها باتجاه فقدان تجارب (الديمقراطية الاشتراكية) ونشوء (دكتاتوريات متنوعة) داخل بلدان الشرق الأوربي انتهت فعلياً بانهيار الاتحاد السوفييتي ثم المنظومة الاشتراكية كلها. أعيد طبع الرواية من جديد عام 1984 وتوزيعها في أنحاء مختلفة من العالم ، بلغات مختلفة ، وصل رقم مبيعاتها، آنذاك، إلى أكثر من 36 مليون نسخة، وهو رقم قياسي لمطبوع روائي .
كتاب جورج اورويل تنبأ بأن (صمت الشعب) لا يستمر إلى الأبد إذ لا بد أن يتحول ، ذات يوم ، بعد صبر طويل ، إلى (ضجيج ثوري) بصوتٍ عالٍ وبصخبٍ في الشوارع والساحات العامة. مثلما جرى عملياً بعد 30 سنة تحرك الكتل البشرية المتراصة في ميناء جدانسك البولوني احتجاجا على سلوك قادة الدولة البولونية وعنادهم بعدم الاستجابة لمطالب عمال نقابة منظمة «التضامن» الشهيرة عام 1980، وهو الإضراب الذي شكّل أكبر تحد للنظام الاشتراكي وحكوماته أرغمها على تقديم تنازلات غير مسبوقة للعمال المضربين، بينما لم يأبه الحكام الشيوعيون في كل البلدان الاشتراكية لتلك الإضرابات والمظاهرات، التي اتسعت بسطوع ٍ تحت الشمس ولم يدرسوا أسبابها ونتائجها. بهتت أنظار الحكام الشيوعيين في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي لهذا المرأى النضالي الجديد لكنها أغمضت عيونها عنه وسترت وجهها بأياديها ، كما أهملت آذانها سماع أصوات ليست متقطعة الأنفاس وهي تنادي: ( الشعب يريد الحرية...) فانطلق بعد ذلك الرتل الطويل الزاحف في كل ساحات البلدان الاشتراكية صارخا بلغته وبلغة لاتينية واحدة: الحرية .
كانت هذه اللغة مسنودة بوسائل إعلامية وغيرها من أساليب التحريض من جانب دول وقوى الرأسمالية العالمية وجميع القوى المعادية للشيوعية. بينما ظلت قوى الشيوعية السوفييتية وأنظمة الدول الاشتراكية عاجزة عن فهم قوانين تطور أزماتها مما قد يؤدي إلى تحول وتغيير النظام السياسي الاشتراكي إلى نظام سياسي آخر، كما أنها لم تدرك أن (تغيير) النظام السياسي يتم عند تصاعد (الإحساس) في صفوف الجماهير الشعبية بأن النظام السياسي القائم لم يعد قادرا على حل مشاكل الجماهير أو تلبية حاجاتها .
تحطم بعد ذلك (جدار برلين) ليكون نقطة انطلاق الزحف نحو الشرق الأوربي ، كله ، و(تغيير) أنظمته، كلها ، بتأييد مباشر من البابوية في الفاتيكان ومن أجهزة الإعلام الغربية التي تميزت وتفوقت على أجهزة الإعلام الاشتراكية .
لم يكن ثمة من يعرف أن طريق النضال ضد الأنظمة الشمولية سوف لن يتوقف المسير فيه وصولا إلى شرق وغرب بلدان الذهب الأسود، في الشرق الأوسط أيضا، حتى تمكن مثلا شبان مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن في عام 2011 من إطلاق صوت الحرية:( الشعب يريد..) بلسان ٍ غير متلعثم للتخلص السريع من عجزهم عن اللحاق بالحركة الثورية فأطاحوا في لظى المظاهرات السلمية بعدد من الرؤوس الدكتاتورية العربية.
كانت رواية عنوانها (1984 ) أهم كتاب أدبي – سياسي ينفخ في صفحاته أبواق النضال ضد التوليتارية. قراء هذا الكتاب يفرحون ويبكون ويضحكون من فرط سعادتهم بما يقرءون لأنهم يشعرون بمشاركة الكاتب أفكاره، وبما يضمرون للدكتاتور ، في بلدهم أو في بلد مجاور، من عداء سري أو علني، معترفين بالنهاية بعبقرية جورج اورويل الروائية. هذا الكتاب لم يترجم في البلدان العربية غير مرة واحدة في مصر عام 1957 ثم منع بعد بضعة أشهر وسحب من الأسواق المكتبية في حينه. وقد صادف أن قرأتُ الرواية بالعربية عام 1958 حين أهداني إياها الصديق الشهيد فيصل الحجاج الذي كان يدرس الطب في القاهرة وبعد عودته إلى بغداد للالتحاق بجامعتها لإكمال دراسته الطبية بعد قيام ثورة 14 تموز . حين قرأتُ الرواية، في ذلك الوقت، وقرأها غيري من الأصدقاء والرفاق الشيوعيين بالبصرة ، بما فيهم الرفيق الشهيد حمزة سلمان، اعتبرنا الرواية ومؤلفها من أعداء الشيوعية والديمقراطية ..!
اعتقدنا ،آنذاك، أن وقوفنا ضد رواية 1984 وضد خالقها جورج اورويل ومحاولة إسقاط سمعته الشخصية وإسقاط روايته بحماسة الكلمات المضادة للحرية، من دون شعور بأي مسئولية و بضرورة احترام (حرية الآخر) قمنا باتهام جورج اورويل بالعمالة للرأسمالية وأجهزتها التجسسية وقد اعتقدنا أن هذه (الحماسة) أمر يحمينا بصرامة وشدة من تسرب أفكار الرأسمالية إلى صفوفنا نحن اليساريين ..!
بعد عودتي من لندن إلى بغداد عام 1984 حاملا نسخة من الرواية باللغة الانكليزية كنت قد أكملت قراءتها أثناء وجودي هناك وقد خططتُ لتكليف شخص عراقي لترجمة الرواية وطبعها في دار النشر التي املكها ببغداد ( الدار العالمية للنشر والتوزيع) وقد صادف أن التقيتُ بأحد مدرسي اللغة الانكليزية في السماوة بواسطة صديق مشترك من نفس المدينة حيث أعلن هذا المدرس عن استعداده لترجمة الرواية. فاشتريت منه ، بموجب عقد تفصيلي، حقوق طبعها وتوزيعها من دون أية معرفة بشخصيته الكريمة ولا باتجاهاته السياسية. وقد أنجزت طباعتها بسرعة بعد حصولي على رخصة طبعها من وزارة الإعلام. منذ أول يوم توزيعها وجدتُ لها صدى واسعا بين المثقفين العراقيين. كما جرى توزيعها بكثرة في بلدان العالم العربي حيث صدّرتُ المئات منها إلى القاهرة وتونس والأردن. كما حظيت بإقبال القراء عليها في معارض الكتب الدولية في معظم البلدان العربية لأنها كانت الترجمة العربية الوحيدة المطبوعة بالعالم العربي حسب ظني حتى الآن . ثم تبين لي بعد حوالي ربع قرن أن مترجمها السماوي كان يساريا وربما شيوعيا أخفى في حينه اسمه الصريح تحت اسم مستعار ( احمد عجيل) وأن اسمه الصريح هو الدكتور احمد موسى الربيعي (طبيب جراح مقيم حاليا في استراليا). حين سألته مؤخراً عن سبب إخفاء اسمه الصريح عني في ذلك الوقت ، قال :( أما السبب فهو الحال الذي انتقل إليه من أفلت من الهجمة الشرسة ضد الديمقراطيين بعد 1978 ولم يغادر العراق حينها. كما في ذلك سبب آخر هو إكباري لوقفتك حينها في تبني الرواية..). لا بد أن أشير هنا أن جورج اورويل هو أيضا اسم مستعار للكاتب البريطاني (ايريك بلير) المولود في البنغال.



في نفس الاتجاه نشرتُ في الدار العالمية – بغداد رواية أخرى لجورج اورويل هي (مزرعة الحيوان ) التي كان قد كتبها عام 1945 وهي رواية هجائية وظـّف فيها «الفنتازيا» أداة للنقد السياسي والاجتماعي كما تقول الباحثة ندى زين الدين ( متخذا من الفكر الماركسي منطلقاً لها لدراسة العلاقة بين الطبقة المستغـِلة والطبقة المستغـَلة، وعلى حث الأخيرة على الثورة للحصول على فائض القيمة. ويحكي أورويل أن نواة الرواية بدأت في مخيلته حين رأى صبياً يقود حصاناً ورأى في الحيوان تمثيلاً للقوى البروليتارية وفي الإنسان تمثيلاً للرأسمالية فراح ينسج روايته من منظور الحيوان. وفي الرواية، تنجح الحيوانات في مزرعة في محاولة انقلاب على سادتها البشر المتسلطين وتُنصَّب الخنازير حكاماً على المزرعة وتُرفع شعارات الديمقراطية والحرية والعدل والمساواة لكن سرعان ما تفسدها السلطة فتشرع في ممارسة الديكتاتورية عينها التي سببت الثورة في المقام الأول..) . في ذلك الحين كان الاتفاق قد تم بيني وبين المخرج المسرحي سعدون العبيدي في بداية التسعينات على عمل مشترك لتعريق الرواية مسرحيا يقوم بإخراجها للمسرح العراقي. عقدنا عدة جلسات تداولية لوضع خطوط التعريق والمسرحة لكن مغادرتي العراق واستقراري في هولندا حال دون ذلك.
أريد القول ، بعد هذا ، أن أشكال التوليتاريا ما زالت قائمة في هذا العصر بتضاريس سياسية مختلفة وان هذه التضاريس غير بعيدة عن معارك الشعب العراقي من اجل نيل الحرية الحقيقية وتطبيق المبادئ الديمقراطية الحقيقية فما زالت الحرية والديمقراطية في بلادنا يعلوها هرم قد يبدو صغيرا من عناصر التوليتاريا لكن هذا الهرم يوفر للحكام سهلا فسيحا للتحول من ممرات الديمقراطية الظاهرية إلى ممرات تعسكر فيها قوى التوليتارية – الشمولية الباطنية. ولا بد هنا من الاعتراف أن غالبية أبناء جيل الحرب الباردة بين المعسكرين العالميين، الاشتراكية والرأسمالية، لم ندرك في حينه - حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي – حقيقة الجواب على سؤال: إلى ماذا كانت تهدف روايات جورج اورويل وكلها روايات سياسية ..؟
لم تستطع قوى ثقافة اليسار قراءة جورج اورويل، قراءة ًمستقلة ً دقيقة ً، فقد تصورناه رجلا مغرورا، فارغ الرأس إلا من معاداة الاتحاد السوفيتي والشيوعية، بل كنا نعتبره مكلفا بنشر أفكار العداء للأحزاب الشيوعية فأجهزنا على رواياته بحملات تسقيطية باتهامه بالعمل من اجل مصالح المخابرات الغربية المعادية للشيوعية. الظاهر أن جورج اورويل لم يكن يريد في ذلك الوقت أن يكون مدافعا عن نفسه إزاء الحملات العالمية التي جرت ضده، بل ظل أمينا مع نفسه ومع منهجه في كتابة الرواية السياسية. فقد اعتمد في غالب أعماله على رفض الفوضوية والطغيان مؤكدا أن (السلطة) أمر من ضرورات إحقاق العدل والحق . إلا أن رواياته ، كلها ، قد حذرت من مخاطر تقديس شخصانية الحكام، الذين يخدعون، باسم الحرية، تنصيب الحكام على رأس الدولة ليس من اجل الكدح لتحرير الفقراء والأرقاء، بل من اجل تحقيق المنفعة الذهبية للحكام أنفسهم . كانت الرؤية الروائية – السياسية التي يتمتع بها اورويل تحدّق في مدى واسع وتمتلك صوابها بانطوائها على تحذير دائم بتأثير الحكام المستبدين على حرف (السلطة) عن غاياتها الأساسية ، خدمة الشعب، إذا ما أصبحت ( السلطة) نفسها ( غاية ) بذاتها متلاصقة بعقلية شمولية لا تؤمن إلا بقدسية الشخص (الحاكم) واعتقاده بأنه ممثل إله السماوات على الأرض..!.
من خلال هذه النظرة السياسية الواعية كان أورويل جريئا ، أيضا، في توجيه النقد الشديد لأيديولوجية وممارسات الفترة الستالينية في الاتحاد السوفييتي . كان في روايته يصرّ ، جيئة وذهابا في صفحاتها وأحداثها وحوارها ، على ضرورة تقويم الجوهر الأساسي الحقيقي للاشتراكية . هذا الموقف بالذات كان سبباً من أسباب الهجوم عليه من قبل كتاب ونقاد عديدين من السوفييت، ومن الكتاب اليساريين في الغرب ، ممن كانوا يعتقدون أنهم وحدهم يملكون الفكرة السياسية الصائبة. لذلك فأننا نجدهم ليسوا رافضين انتقادات روايات اورويل، بل أنهم جلدوه بسياط الخيانة المبدئية ، والعمالة لشبكة المخابرات البريطانية ، مما حرض ملايين القراء في الغرب والشرق على قطع روابطهم مع الفكرة الروائية – السياسية الاورويلية المزمجرة في عقول القراء بالرفض والتمرد .
في هذه الفترة من التاريخ العراقي المحتدم بالصراعات السياسية الطائفية وبفعاليات القوى والمنظمات الإرهابية الإسلامية المتشددة، التي يحرسها بعض من القوى البعثية الخافرة من أتباع النظام الصدامي ، نجد أن خطر هذه الفترة لا يتحدد بإفراغ حمولتها السياسية الثقيلة على متن الإرهاب والصراع الطائفي حسب، بل ربما يجد هذا الحاكم أو ذاك من المسيطرين على الدولة العراقية نفسه يتجه ، في الحاضر والمستقبل، نحو الركوب بمركب الاستبداد ، جالسا على كرسي الدكتاتورية المتذرعة بـ(الديمقراطية الانتخابية) وبغيرها من الشكليات المأخوذة عن قشور الديمقراطية البورجوازية المتجددة في ذهنيات وبرامج محددة بأحزاب الإسلام السياسي وليس ببرامج ومبادئ الديمقراطية المأخوذة من جذوع أشجارها الحقيقية وتطبيقاتها الناجحة . كان الأدب السياسي متجسدا بروايات ثاقبة في رؤيتها للمشهد السياسي – الأيديولوجي في مرحلة سابقة أنتجها جورج اورويل غير أن العصر الراهن في العراق والعالم العربي كله يحتم على جميع الكتاب وعلماء الاجتماع والنقاد والمناضلين من اجل التقدم جميعا أن يواكبوا روح العصر ، وأن يهتموا بالقضايا الشعبية و أن يناصروا المضطهدين و أن يصرّوا على السير في طريق التقدم وبناء المجتمع المدني على أسس بعيدة تماما عن كل شكل من أشكال الاستبداد، الديني والسياسي، وضرورة مناصرة حقوق الإنسان وحقوق المرأة.
إذا أراد المثقفون العراقيون وإذا أرادت الأحزاب العراقية ذات البنية الديمقراطية الخروج من الوضع السياسي المعلول حالياً فأن عليهم أن يقتلعوا من ظاهر المجتمع وباطنه، أولا ، جذوراً سياسية سامة من الساحة العراقية قد تؤدي إلى نشوء قاعدة الاستبداد ، وأن عليهم أن يؤمنوا بفكرة وحقيقة أن الرؤى العلمية والرؤى النقدية المتحركة ، هي القادرة على تخليص السياسة العراقية من نظامها الثابت المتكبر الواجد نفسه فوق المرونة والتسامح وفوق التكيف مع متطلبات العصر وضروراته . بمعنى من المعاني الصريحة المباشرة أقول أن على رجال الدولة والحكم والنواب وكل المسئولين أن يتقبلوا النقد باعتباره وسيلة أساسية من وسائل الوصول إلى عمق الأشياء وظواهرها في آن واحد . كما أقول، بصراحة، لرجال السياسة والدولة أنه لا توجد وسيلة يمكنها كشف العيوب المختفية في مجاهل الدولة مثل وسيلة النقد الأدبي، والرواية، والمقالة السياسية. هذا هو الدرس الأساسي الذي قدمه أدب الروائي العالمي جورج اورويل، الذي كانت رواياته مصابيح تنويرية لمعرفة الحقيقة التي تخفيها أنظمة الاستبداد. كان ناقدا أدبيا – سياسيا يحمل في كتاباته رؤية هجائية لكل ما هو ضار بالثقافة والمجتمع والحضارة . كان كاتبا يساريا لامعاً قادراً على التقاط نقاط الضعف والخلل في الطبقة الحاكمة وفي النظام الاستغلالي كوسيلة إنسانية للبحث عن المجتمع الأفضل
إن إحدى مهمات الكاتب العراقي في الوقت الحاضر تتلخص في ضرورة شحذ وعي الجماهير وكشف ما يجري خارج دائرة حياتها الضيقة، أعني تسليط الضوء النقدي على دائرة الحكام، تلك الدائرة التي تظل موّلدة نشيطة للموقف الاستبدادي لدى الطبقة الحاكمة والطبقة الداعمة لها إن ابتعدت عن ضياء النقد السياسي ، الصريح والمباشر





الأربعاء، 17 أغسطس 2016

مكاوي سعيد: أنا مدين في كتاباتي للصعلكة-إبراهيم حمزة

حوار

 مكاوي سعيد: أنا مدين في كتاباتي لل

إبراهيم حمزة


هو كاتب وروائي وسيناريست مصري ابتدأ مسيرته الإبداعية بكتابة الشعر ثم انتقل إلى القصة القصيرة وهو الآن مهتمّ بكتابة الرواية . صدرت له مجموعة من الكتب منها "الركض وراء الضوء " و "فئران السفينة " و "تغريدة البجعة"، يرصد في كتاباته المُهمّش. من تفاصيل الواقع ويتخيّر مكاوي سعيد فضاءاته الإبداعية من سياقات الشعبيّ والعامّ.

* لماذا كانت هذه النغمة الأسيانة التي انتهت بها روايتك " تغريدة البجعة"؟ لماذا خفت صوت اليقين في المستقبل لهذا الحد؟

ـ تغريدة البجعة رواية ترثي جيلي الذي ابتلي بوأد طموحاته وبكتم حرياته وبتهميشه وكلما رأيت صديقا موهوبا يموت دون تحقق موهبته اكتأبت، والرواية ذاتها كتبتها وأنا في حالة من الشجن والأسى تكاد تقترب من الاكتئاب، وطبيعي جدا أن يخفت اليقين في المستقبل بالنسبة لشباب قضوا جل أعمارهم يعانون ويقاسون وتدهسهم رحى الحياة فأي مستقبل لهم وقد غادرهم صباهم وشبابهم؟

* تفسير العمل الأدبي يفسده. ولكنك مشغول بالحياة أكثر من الكتابة ، إلى أي حد نحكم بصحة هذا التصور؟

-أتفق تماما مع الأمرين أنا لا أحب التفسيرات، ولا أهتم بالنقد الذي يهتم بمكاشفة القراء بما أخفاه الكاتب – من وجهة نظر النقاد - وكثيرا ما كنت أبتسم وأنا أسمع بعض النقاد يتكلمون عن أعمالي ويفسرونها بما لم يخطر في ذهني مطلقا، ولو خطر ببالي مايفيضون في الحديث فيه، لربما لم أكتب هذه الأعمال قط، وأنا فعلا مشغول بالحياة عن الكتابة التي تفسد في أحيان كثيرة الاستمتاع بالحياة، لذا كتبت معظم أعمالي وأنا على هامش الحياة وغير متوغل فيها بمعنى إما كنت حزينا أو غاضبا أو مكتئبا

* تتالت طبعة رواية " فئران السفينة "، وبعد عشرين عاما تصدر التغريدة. ثم تتخلى عن ميدانك لكتاب نثري أقرب للصحافة " مقتنيات وسط البلد " فكيف تتفاعل مع الكتابة الأدبية؟

ـ الجزء الأول من كتاب مقتنيات وسط البلد يحتوي على مجموعة كبيرة من حكايات تتصل بالمكان، وهي في سردها أقرب إلى القصص القصيرة، وما نشرته منها فى الصحافة أعدت كتابته ليجمع فى الكتاب فلم اتخلّ عن الأدب فى سبيل الصحافة، كما أنى غير مهتم أساسا بالكتابة في الصحف وعندما يطلب مني ذلك أكتب بطريقتي، حتى مقالاتي هذه الأيام بجريدة الأهرام أغلبها يمكن أن يندرج تحت بند القصة القصيرة .

* بشأن الثورة، ولأنك مشغول من البداية بفكرة التحولات السياسية. كيف ترصد أحداث عام مضى في مصر: الثورة، الإحباط، الغيوم؟

ـ رأيي لم يتغير في الثورة منذ بدايتها. وهي ثورة مستمرة ومن الخطأ اعتبارها انتهت بمجرد تنحي مبارك أو لمجرد تحقق هدف من أهدافها، أنا مؤمن بالثورة وأعتقد أن تحقق أهدافها لن يتم قبل خمس سنوات أو أكثر، وهي جارفة وكاشفة، اعتلاها في البدء، بمجرد تنحي مبارك، الأدعياء وانكشفوا ، ثم الذين يرتدون عباءة الدين وها هم ينكشفون الآن وكذلك محبي الفاشية ومدمني القمع … كل يوم يمر تتكشف وتتعرى أشياء أمام المواطن العادي وهذا مكسب عظيم، أنا غير محبط لأن لي يقينا من انتصار الثورة في النهاية .

*قرأت لك قصصا وكتابات للأطفال بقطر الندى وكتاب الهلال، وربما نقول إنها لم تترك أثرا وسط ضجيج لا ينقطع لكثيرين .. هل الأمر له علاقة بالعمل المهني؟ وكيف يتعانق داخلك كاتب السيناريو مع الناشر مع الأديب؟

-أنا أحب الكتابة في كل المجالات التي تستهويني ولم أتوقف عن الكتابة للأطفال، فلي رواية موجهة لهم ستصدر قريبا وأحب كتابة السيناريو ولي فيلم روائي قصير عن المهمشين أثناء الثورة سيبدأ العمل عليه قريبا ، وقد درست السينما من قبل وعندي رغبة في الإخراج وسأبدأ في إخراج فيلمي الأول عندما أجد منتجا يهتم بموضوعه، والنشر يقربني من الأدباء الشباب لأني أطّلع على أعمالهم ويفيدني في التواصل مع جيلهم من الكتاب والقراء، في رأيي هي دائرة إبداعية واحدة كبيرة بعض الشيء لكنها دائرة واحدة .

* قدمت بنية معمارية بهية ومميزة في " تغريدة البجعة " لمن أنت مدين بفنك ؟

- أنا مدين بهذه البنية المعمارية للصعلكة، ولحبي للسينما وللناس المهمشين وتراب الشوارع، أنا لم أكتب قط في غرفة مكيفة أو في فندق خمس نجوم، أنا أكتب على كراسي مقاه خشبية مساميرها كانت تمزق بنطلوناتي وعندما حولوها الآن لكراس بلاستيكية، رداءة صناعتها تجعلها أحيانا لاتحتمل جسدي النحيل وتقع بي ، ما أجمل أن تفتح كراسك، وتمسك بقلمك وتجد الجرسون يهرع إليك بكوب الماء، وإذا ما ارتفع صوت بجوارك دون أن تطلب منه، يذهب مباشرة تجاه الصوت ويطالبه بخفض صوته لأن الأستاذ يكتب، أنا أكتب لهؤلاء الذين رغم تعليمهم المتوسط يحترمون مهنة الكاتب ويبجلونه .

* لماذا توارت القصة القصيرة من صدارة إبداعك رغم أنها الأكثر كما ؟

-الكتابة في الشرق خاضعة للتصنيف، فرغم أن عدد مجموعاتي القصصية هي الأكثر إلا أنهم منذ "تغريدة البجعة "لا يسألون إلا عن الرواية الجديدة، وقد أصدرت مجموعتين قصصيتنين عقبها، وأجدهم كلهم بلا استثناء نقادا أو قراء إذا ما قابلوني يمدحون المجموعة بسرعة، ثم يسألوني عن الرواية الجديدة وحتى الصحف، رغم أني أنشر بها كثيرا قصصي، عندما يحاورني الصحافيون لا يتكلمون إلا عن الرواية ، لكني في أحيان كثيرة أقول الحمد لله أنهم وضعوني في خانة فقد تجاهلوني وجهلوني طويلا.

* إلى أي طريق وصلت بكتابك عن الثورة "كراسة التحرير"؟

- "كراسة التحرير" انتهيت من كتاباتها منذ فترة. لكن الأحداث الجارية الملتهبة التي تمر على البلاد تدفعني للتأني وإعادة النظر فيما أكتبه، ولست متعجلا علي إصدارها لأنني أعتقد عندما يكتب كاتب عن الثورة المصرية. لابد أن يكتب كتابا مؤثرا بقدر الإمكان ويحمل من الصدق والحقيقة والمشاهدات العينية القدر الكبير ولا يعتمد على شهادات غير موثوق منها أو متابعات متفرقة عبر التلفاز.

الأحد، 14 أغسطس 2016

قصة قصيرة الماء والوحل-عادل كامل

قصة قصيرة

الماء والوحل


عادل كامل
ـ هل تعرف ماذا حدث، وماذا حل بنا...؟
    سألت البعوضة ابنها الخائف:
ـ أجل، اجل فانا لا اعرف إلا أن علينا ألا ندع أحدا ً يعرف!
ـ لا ترفع صوتك، أرجوك.
       فخاطبها مذعورا ً:
ـ أماه...، الكل يقولون: انه غير مسموح لأحد بمعرفة ما حدث، وهذا يعني تماما ً تجنب المعرفة.
وصمت، ليسألها:
ـ هل المعرفة ضارة....، إلى هذا الحد...؟
ـ لا...، منافعها، يا ولدي، قليلة.
ـ إذا ً فهي ليست ضارة تماما ً؟
ـ قلت إن منافعها ليست  إلا قليلة!
    ابتسمت الأم، لمدارات مشاعر ولدها المضطربة، وهي تراقب سطح ماء البركة، بعد القضاء كلية على انتفاضة البعوض، وتشتيت المجموعات المعتصمة، والمتمردة، قبل إعلان العصيان العام، لتقول له، وهي تتنفس بصعوبة:
ـ عندما كنت صغيرة، جدي هو أول من قال لي: آ ...، لو عرفت لماذا يسلبوننا حقوقنا، مع إنها بسيطة، وعادلة.
فسألها:
ـ ولم يتغير الأمر...، فإمبراطوريتنا دمرت، وأصبحت من الماضي، فلا اثر لها، ولا علامة دالة عليها، وكأنها لم تتكون، ولم تدم لقرون طويلة؟
  ضحكت الأم، ومازالت تجد صعوبة في استنشاق الهواء:
ـ بعد أن رأيت الذي حدث لنا ومضى ولم يعد له وجود...، أدركت بجلاء الآن استحالة معرفة تلك الأسباب التي لن تسمح بمعرفة ما حدث في تلك الأزمنة، ولا بالأزمنة التي أعقبتها...، فقلت مع نفسي: وما فائدة معرفة هذا الذي لم يعد له وجودا ً....، والذي أصبح خارج حدود موضوعات المعرفة؟
   اعترض الابن:
ـ وهكذا دب النسيان، والانحلال، والمحو...، وزالت إمبراطوريتنا العظيمة التي حكمت الأرض بأسرها، وخضعت لها الجداول والمستنقعات والأنهار والبحار....، بعد أن حاصروها، من الجهات كلها، وعملوا على تدميرها، وتخريبها...، مع إننا لم نكن ضد احد، فقد ولدنا من الماء والى الماء نعود! فلم تكن أحلامنا تتجاوز السكن في هذا المستنقع، فردوسنا، وها هم يجردوننا منه!
فقالت الأم بألم:
ـ يا ولدي، لا تشغل رأسك إلا بالعثور على وسيلة لإنقاذ هذا الرأس...، فلم يبق منا إلا مجموعات متناثرة، هنا وهناك، متوارية، ومتسترة، في الأحراش، وفي الضفاف، وفي الدغل.
فقال بصوت لا يخلو من الحدة:
ـ ولكنهم مازالوا يعتدون علينا، ويسلبوننا حقوقنا، ومازالوا يشنون حملاتهم المنتظمة لإبادتنا، ومحونا من الوجود. فأنت تعرفين ما حل بنا: فرقونا، بعد أن مزقونا، وقسمونا، وزرعوا جرثومة الموت فينا، فمات من مات، وهرب من هرب، ولم يبق منا إلا من هو بانتظار الهلاك.
    هزت رأسها:
ـ بالأمس زرت الحديقة، وتجولت في أجنحتها، فماذا رأيت...، لا تستغرب، ولا تفزع، ولا تجزع...، لقد رأيت نظاما ً شفافا ً لا مثيل له.
ـ أنا سمعت الكثير عن هذا النظام الجميل!
صاحت:
ـ انه الكارثة!
فقال بثقة:
ـ وما شأننا به، بعد أن طردونا منه، وبعد أن أصبحنا في طريقنا إلى الانقراض، والزوال، كما زالت إمبراطورياتنا القديمة؟
لكنها راحت تقهقه، وقد بدأت تفقد تركيزها:
ـ  لقد منحوا الجميع الحرية...، فلا احد يعتدي على احد، أو يتعرض له بالإساءة، والعدوان...، فقد أقاموا الأجنحة، وشيدوا الأسوار، والحواجز، والأقفاص...، فأنت ترى الأرانب سعيدة، مثل النمور تمضي أوقتها مرحة، والأسود لا يعكر صفوها فأر أو قرد أو قنفذ...، والقرود حصلوا على غابة كاملة، وهكذا تكاد أحلامهم قد أعيدت لهم، من غير كوابيس، وأمراض، وتهديدات...!
ـ إلا نحن...، البعوض، والبرغوث، والقمل، وبعض الحشرات ..؟ كأن الآلهة خلقتنا سهوا ً، أو من غير إرادتها، أو جئنا بالمصادفة، كي نعاقب، ونذل، ونشقى، ثم نذهب مع الماء؟
     اهتز جسدها:
ـ لا تجدف...، يا ولدي، فالمحنة أعمق من مظهرها!
ـ وهل استطيع..؟ من أنا كي امتلك هذه الوقاحة...؟ وهل يقدر أن يفعلها من لا يمتلك حتى القليل من الماء، والقليل من الهواء، والأقل من الضوء....، بعد أن حرمونا حتى من قدرة المطالبة بهذه الحقوق؟!
    فكرت للحظة وقالت بشرود:
ـ هكذا، يا ولدي، بدأت شرارة التمرد، لتغدو انتفاضة...، سرعان ما تحولت إلى عصيان...، فحصل الذي حصل....، حتى أصبحنا لا نعرف احصل حقا ً الذي حصل؟
    فسألها فزعا ً:
ـ  إذا ً، دعيني أسألك: لماذا خلقنا، مادمنا، منذ أول الزمن، قدر علينا الشقاء، والفناء؟
ـ الم ْ أخبرك باستحالة معرفة هذا الذي لا يمكن أن يعرف..!
ـ لكني شاهدت ما حدث لنا: حاصرونا، وحرمونا، وقمعونا، وعذبونا، ثم راحوا يجتثوننا، ويمحوننا...،فلماذا فعلوا ذلك...، ومن غير رحمة..، وكأننا أتباع اله آخر غير ألآله الواحد القهار؟
ـ ببساطة، يا ولدي، يقولون إننا مخلوقات قذرة، تنقل المرض، وفي درك المعرفة، جهلة، أغبياء، وغلاة، ولا نعشق إلا الدم، وإننا شركاء في ارتكاب الجرائم ضدهم، فنحن السبب في انتشار الأوبئة، والكوارث، والنكبات، وإننا لا نعرف الرحمة، وقلوبنا من حجر!
ـ آ ...، الآن عرفت إن لنا منافع قليلة! وإلا لأغلقوا مستشفياتهم، وإلا لانقرض الأطباء، واندثر علم الطب؟
ـ آ ..، منافع قليلة...، لهم، لكن مضارها كبيرة ولا تحصى علينا...، وهي المعادلة ذاتها لم تعدل، ولم تتغير، منذ أول الزمن....،فكلما قمنا ببناء إمبراطوريتنا  هدموها فوق رؤوسنا، وعملوا على تخريبها، ومحونا!
     فسألها وهو يستنشق رائحة غريبة:
ـ  أتستنشقين ...؟
ـ منذ زمان....؟
ـ انه السم...، إنها رائحة الإبادة، رائحة الاجتثاث، رائحة الزوال...!
وأضاف مذعورا ً:
ـ الآن عرفت لماذا تترنحين، وترتجفين...، أيتها المسكينة، ولكن لماذا لا نفر، نهرب، ونبحث عن ملاذ امن....، فمستنقعات العالم لن تغلق ضفافها علينا؟
ـ ألا ترى إنني لا أقوى على الطيران، وأنا لا اقدر حتى على التنفس؟
ـ أماه...، يا روح عقلي، ونبض قلبي...، سأساعدك، لا تستسلمي...، فعلينا أن نجتاز هذا المكان، ونعبر الغابة...، لعلنا نجد بركة ماء، أو بقايا مستنقع...؟
   ردت بوهن، بصوت خفيض جدا ً:
ـ منذ سألتني: ماذا يحدث..: أجبتك: لا تحاول معرفة انك، حتى لو عرفت، فانك لن تستطيع إلا أن تعرف هذا الذي لا يستحق المعرفة، فالأمر لا يخصنا، وحدنا....، فاذهب وانظر إلى مصائر هؤلاء الذين يتمتعون بالحرية، والمسرات...؟
ـ آ ..، اعرف...، لقد منحوها أقفاصا ً للسعادة، وزرائبا ً للراحة، وحظائرا ً للمسرات...، فلا احد يعتدي على احد، ولا احد يغتصب احد، فالقانون فوق الجميع، خيمتهم، مثل هذه السماء التي لم يبق لنا منها إلا الظلمات!
   ووهن صوتها، فكفت عن النطق، فراح يبذل ما باستطاعته لمساعدتها على الحركة، ففهم منها إن السم سرى في دمائها، ولن يمهلها طويلا ً.
صرخ :
ـ ماذا افعل...؟
    ففهم إنها قالت له أن الأمر ليس بحاجة إلى المعرفة، فإما أن تموت، مثلها، ومثل من سبقوها، واما أن تهرب حالا ً بحثا ً عن مأوى لك، ولأبنائك، من بعدك! كي يدوم هذا الذي يزول إلى الأبد!
    ورفع صوته، ومكث يصرخ، حتى أدرك أن لا احد يسمعه، وان صوته لا يذهب ابعد من جناحه، فكف عن العويل، والصراخ، وبدأ يدثر جسد أمه بورقة شجرة يابسة...، متذكرا ً صوتها، لم يعد لديك ما تعرفه، فاهرب، حالا ً، ولكنه عندما حاول الابتعاد، وجد جسده ثقيلا ً، فلم يعد يقدر إلا على الغوص في الوحل، تاركا ً التفكير إلا بالاختباء، والتستر، فأحس، عبر الحركة، بمجسات تتحرك بجواره، ناعمة، وطرية، فستأنسها وهي تبعث فيه لذّة يجهل معناها:
ـ آ ...، من أنت ِ؟
ـ لا تفتح فمك...، توارى، تحت، غص، إلى الأعماق....، فان لم تنزل إلى الأسفل فستموت كأنك لم تخلق!
   تلمسها، مصغيا ً لذبذبات تلامس جسده:
ـ اقسم لك إنني لم أكن شريرا ً..، ولا خسيسا ً، ولا نذلا ً..، ولا فاسدا ً، ولا قاسيا ً، ولا قاتلا ً....!
ـ أنا مثلك ... ، أيها الولد الطيب!
ـ آ ...، أنت ِ بنت؟
ـ قبل قليل فقدت جميع أفراد أسرتي، ولم انج إلا بأعجوبة!
ـ اقتربي...، لنغطس معا ً، فانا الآن اعرف لا معنى لمعرفة ما حدث..! ولا جدوى منها أيضا ً!
ـ بالضبط، فقد كانت تلك هي كلمات والدي الأخيرة: حتى هؤلاء الأعداء الذين يتمتعون بالمعرفة، لم يتركوا لنا إلا هذه الصفحات السود.
ـ آ ...، يا حبيبي، لم تعد للحكمة منافع تذكر...، مادام  لا حكماء هناك، ومادام لا حكماء هناك فمن ذا يأتي بالحكمة؟
قال بشرود:
ـ لقد أصبحت الحكمة ضارة، والحديث عنها اشد ضررا ً منها...!
ـ كالمعرفة، يا حبيبتي، إن لم تكن ضارة، بحد ذاتها، فالحديث عنها أكثر ضررا ً منها، لأنها كالعدوى ...، وآه ....، لو كنت اعرف أين يكمن المرض؟
ـ فينا!
ـ لا ...، يا حبيبتي، أنا وأنت ولدنا اسيوياء، وطيبين.
ـ لا ..، يا حبيبي، ولدنا وفي دمائنا تسري جرثومة الشر، وجرثومة البغضاء، وجرثومة الموت!
ـ غريب...، إذا ً أنت ِ تعرفين ما لا اعرفه...؟
ـ لا ...، فأنت َ أيضا ً تعرف انك غير مسؤول عن نقل جرثومة الشر....، مع انك لست شريرا ً!
ـ ولكن إن لم انقل العدوى...، فمن ينقلها، وهي سابقة في وجودها على وجودنا؟
ـ هكذا يقول العدو   ...، ولأننا مخلوقات واهية لا تمتلك ما تعمله، فإننا لن نحصل على ما تخيلناه حقا ً من حقوقنا في هذا الوجود.
ـ  لكن الحرية، أو الحقوق، ليست أحذية توزع، وتهدى، وتمنح بالمجان...، إنها تنتزع!
ـ اعرف...، لأن الانتفاضة بدأت بهذا السؤال: إذا لم  ندافع عن أنفسنا، ونطالب بحقوقنا، فمن يضمن لنا المستقبل؟ اخبرني: هل خلقنا بلا نفع، فائضين..، أم خلقنا مصادفة، أم بلا أسباب...، وأخيرا ً: لا ضرورة لمعرفة إننا حاولنا أن نعرف؟
ـ يكاد عقلي يغطس ابعد من أقدامي في الوحل...!
ـ دعه يغطس....، وإلا ...، فانك ستفقده؟
ـ اقتربي مني..
ـ أنا وأنت في قبر واحد...، منذ آلاف آلاف السنين، أنا وأنت لم نفترق، لا أنت هربت مني، ولا أنا هربت منك، مع إن المسافة بيننا كالمسافة بين المعرفة وعدمها!
   فقال بشرود:
ـ أين باستطاعتي الهرب منك...، فأنت سكني، وأنا سكنك!
ـ آ ...، لو كنت..
ـ أرجوك...، أغلق فمك، لا تحاول معرفة ماذا حدث، وماذا يحدث، فكلما أزدت معرفة أدركت انك حتى لو انتصرت  فانك لن تذهب ابعد من حدود هذا الوحل. لقد قدر علينا أن نعيش للاحتفاظ بهزائمنا، في الأقل، لأنها، في الأخير، اضعف الإيمان، يا حبيبتي الغالية!
ـ لكن المعرفة، بالوحل، يا حبيبي، أفضل من تجنبها
ـ وحل المعرفة..، أم معرفة الوحل...؟
ـ آ ....، عدنا إلى الجرثومة التي زرعت فينا، فهي بدأت بالاستيقاظ...؟
ـ إنها، يا حبيبتي، تؤدي العمل ذاته الذي نؤديه...، ففي كل منا لغز يعمل عمل الغواية...، ولا يدع للموت إلا أن يمتد، ولا يموت!
ـ أفهم الآن إن هناك جرثومة اشد فتكا ً من المعرفة...، لا تدعنا نغطس في الظلمات؛ جرثومة تدعنا نعرف كم كان وجودنا مضرا ً...، فكم سببنا كوارث، ونكبات، للطيور، والزواحف، والثدييات، وغيرها...؟
ـ من غير قصد...؟
ـ كيف يحدث أن نرتكب هذه الأفعال المشينة، القاسية، الآثمة، تحت ذريعة البراءة، او اللا قصد..؟
ـ نفعل ذلك، يا حبيبي، كي نحصل على حريتنا، ومجدنا، في العالم الآخر؟
ـ توازنات!
ضحك:
ـ عندما تهرم الأنثى، وتكف عن تذكر ماضيها، لا يمجد الذكر إلا ذلك الماضي!
ـ أليست هذه هي احد أشكال المعرفة..؟
ـ المعرفة بهذا الذي كلما اقتربنا من سواحله أغوانا بالذهاب بعيدا ً في ظلماته...، وكلما توغلنا في الظلمات، نجد من يضيء لنا ممرات فيها!
ضحكت بمرح وقالت:
ـ  أيها العجوز الهرم...، تذكر إننا دوّنا صفحات خالدات بعدد ضحايانا؟
ـ لكن ...، تذكري...، كم كانت خسائرنا جسيمة، وباهظة، وكأن مهمتنا كانت قد أوكلت لنا عنوة؟
ـ الم ْأقل لك: القليل من النفع يتوازن مع الكثير من .. الظلم، لكن الكثير من الظلم لا يقدر أبدا ً من القضاء على هذا القليل من النفع!
ـ كأنك تدعوني إلى حفلة عرس!
ـ آ ....، يا حبيبتي، فلولا هذا القليل من الضوء، أكنا نحتمل هذه الظلمات...، لولا هذا القليل من الهواء لكانت العاصفة قد اقتلعتنا، والرمال دفنتنا؟
ـ الآن...، الآن....، أكاد لا اعرف ماذا حدث..؟
باستغراب سألها:
ـ أحدث شيء...، كي نحاول تذكره؟
ـ لا...، أنا أتذكر إنني رأيت الذي لا يمكن رؤيته، فانا لم أر شيئا ً!
ـ أنا لا أتذكر...أيضا ً، بل أرى انك مازالت تسكنني!
ـ أنا بيتك...، أيتها المحنة، فماذا كنت سأفعل، وماذا كنت سأعرف...، لولا إننا عقدنا العزم للذهاب ابعد منك ِ!
ـ ابعد من معرفتنا؟
ـ آ ...، وهل سمحت لنا إلا بالغوص عميقا ً في هذا الوحل...، فلا عين رأت ما حدث..، ولا أذن سمعت ما دوى...،ولا كتاب دوّنت فيه الوقائع، ولا راو ٍ روى...، لأن الشمس ذاتها لو لم تكن عمياء، لكانت أسرعت ومحت أثرها! لكن ماذا يفعل العميان، سوى تركهم الأضواء تستدرجهم لمعرفة هذا الذي نجهل اهو تسلى بنا، أم نحن تمتعنا بشقائه حد إننا مازلنا نمد أيدينا بحثا ً عن من يهبنا القليل من السكينة، والأقل من الغفران...!
1/8/2016