الأربعاء، 17 أغسطس 2016

مكاوي سعيد: أنا مدين في كتاباتي للصعلكة-إبراهيم حمزة

حوار

 مكاوي سعيد: أنا مدين في كتاباتي لل

إبراهيم حمزة


هو كاتب وروائي وسيناريست مصري ابتدأ مسيرته الإبداعية بكتابة الشعر ثم انتقل إلى القصة القصيرة وهو الآن مهتمّ بكتابة الرواية . صدرت له مجموعة من الكتب منها "الركض وراء الضوء " و "فئران السفينة " و "تغريدة البجعة"، يرصد في كتاباته المُهمّش. من تفاصيل الواقع ويتخيّر مكاوي سعيد فضاءاته الإبداعية من سياقات الشعبيّ والعامّ.

* لماذا كانت هذه النغمة الأسيانة التي انتهت بها روايتك " تغريدة البجعة"؟ لماذا خفت صوت اليقين في المستقبل لهذا الحد؟

ـ تغريدة البجعة رواية ترثي جيلي الذي ابتلي بوأد طموحاته وبكتم حرياته وبتهميشه وكلما رأيت صديقا موهوبا يموت دون تحقق موهبته اكتأبت، والرواية ذاتها كتبتها وأنا في حالة من الشجن والأسى تكاد تقترب من الاكتئاب، وطبيعي جدا أن يخفت اليقين في المستقبل بالنسبة لشباب قضوا جل أعمارهم يعانون ويقاسون وتدهسهم رحى الحياة فأي مستقبل لهم وقد غادرهم صباهم وشبابهم؟

* تفسير العمل الأدبي يفسده. ولكنك مشغول بالحياة أكثر من الكتابة ، إلى أي حد نحكم بصحة هذا التصور؟

-أتفق تماما مع الأمرين أنا لا أحب التفسيرات، ولا أهتم بالنقد الذي يهتم بمكاشفة القراء بما أخفاه الكاتب – من وجهة نظر النقاد - وكثيرا ما كنت أبتسم وأنا أسمع بعض النقاد يتكلمون عن أعمالي ويفسرونها بما لم يخطر في ذهني مطلقا، ولو خطر ببالي مايفيضون في الحديث فيه، لربما لم أكتب هذه الأعمال قط، وأنا فعلا مشغول بالحياة عن الكتابة التي تفسد في أحيان كثيرة الاستمتاع بالحياة، لذا كتبت معظم أعمالي وأنا على هامش الحياة وغير متوغل فيها بمعنى إما كنت حزينا أو غاضبا أو مكتئبا

* تتالت طبعة رواية " فئران السفينة "، وبعد عشرين عاما تصدر التغريدة. ثم تتخلى عن ميدانك لكتاب نثري أقرب للصحافة " مقتنيات وسط البلد " فكيف تتفاعل مع الكتابة الأدبية؟

ـ الجزء الأول من كتاب مقتنيات وسط البلد يحتوي على مجموعة كبيرة من حكايات تتصل بالمكان، وهي في سردها أقرب إلى القصص القصيرة، وما نشرته منها فى الصحافة أعدت كتابته ليجمع فى الكتاب فلم اتخلّ عن الأدب فى سبيل الصحافة، كما أنى غير مهتم أساسا بالكتابة في الصحف وعندما يطلب مني ذلك أكتب بطريقتي، حتى مقالاتي هذه الأيام بجريدة الأهرام أغلبها يمكن أن يندرج تحت بند القصة القصيرة .

* بشأن الثورة، ولأنك مشغول من البداية بفكرة التحولات السياسية. كيف ترصد أحداث عام مضى في مصر: الثورة، الإحباط، الغيوم؟

ـ رأيي لم يتغير في الثورة منذ بدايتها. وهي ثورة مستمرة ومن الخطأ اعتبارها انتهت بمجرد تنحي مبارك أو لمجرد تحقق هدف من أهدافها، أنا مؤمن بالثورة وأعتقد أن تحقق أهدافها لن يتم قبل خمس سنوات أو أكثر، وهي جارفة وكاشفة، اعتلاها في البدء، بمجرد تنحي مبارك، الأدعياء وانكشفوا ، ثم الذين يرتدون عباءة الدين وها هم ينكشفون الآن وكذلك محبي الفاشية ومدمني القمع … كل يوم يمر تتكشف وتتعرى أشياء أمام المواطن العادي وهذا مكسب عظيم، أنا غير محبط لأن لي يقينا من انتصار الثورة في النهاية .

*قرأت لك قصصا وكتابات للأطفال بقطر الندى وكتاب الهلال، وربما نقول إنها لم تترك أثرا وسط ضجيج لا ينقطع لكثيرين .. هل الأمر له علاقة بالعمل المهني؟ وكيف يتعانق داخلك كاتب السيناريو مع الناشر مع الأديب؟

-أنا أحب الكتابة في كل المجالات التي تستهويني ولم أتوقف عن الكتابة للأطفال، فلي رواية موجهة لهم ستصدر قريبا وأحب كتابة السيناريو ولي فيلم روائي قصير عن المهمشين أثناء الثورة سيبدأ العمل عليه قريبا ، وقد درست السينما من قبل وعندي رغبة في الإخراج وسأبدأ في إخراج فيلمي الأول عندما أجد منتجا يهتم بموضوعه، والنشر يقربني من الأدباء الشباب لأني أطّلع على أعمالهم ويفيدني في التواصل مع جيلهم من الكتاب والقراء، في رأيي هي دائرة إبداعية واحدة كبيرة بعض الشيء لكنها دائرة واحدة .

* قدمت بنية معمارية بهية ومميزة في " تغريدة البجعة " لمن أنت مدين بفنك ؟

- أنا مدين بهذه البنية المعمارية للصعلكة، ولحبي للسينما وللناس المهمشين وتراب الشوارع، أنا لم أكتب قط في غرفة مكيفة أو في فندق خمس نجوم، أنا أكتب على كراسي مقاه خشبية مساميرها كانت تمزق بنطلوناتي وعندما حولوها الآن لكراس بلاستيكية، رداءة صناعتها تجعلها أحيانا لاتحتمل جسدي النحيل وتقع بي ، ما أجمل أن تفتح كراسك، وتمسك بقلمك وتجد الجرسون يهرع إليك بكوب الماء، وإذا ما ارتفع صوت بجوارك دون أن تطلب منه، يذهب مباشرة تجاه الصوت ويطالبه بخفض صوته لأن الأستاذ يكتب، أنا أكتب لهؤلاء الذين رغم تعليمهم المتوسط يحترمون مهنة الكاتب ويبجلونه .

* لماذا توارت القصة القصيرة من صدارة إبداعك رغم أنها الأكثر كما ؟

-الكتابة في الشرق خاضعة للتصنيف، فرغم أن عدد مجموعاتي القصصية هي الأكثر إلا أنهم منذ "تغريدة البجعة "لا يسألون إلا عن الرواية الجديدة، وقد أصدرت مجموعتين قصصيتنين عقبها، وأجدهم كلهم بلا استثناء نقادا أو قراء إذا ما قابلوني يمدحون المجموعة بسرعة، ثم يسألوني عن الرواية الجديدة وحتى الصحف، رغم أني أنشر بها كثيرا قصصي، عندما يحاورني الصحافيون لا يتكلمون إلا عن الرواية ، لكني في أحيان كثيرة أقول الحمد لله أنهم وضعوني في خانة فقد تجاهلوني وجهلوني طويلا.

* إلى أي طريق وصلت بكتابك عن الثورة "كراسة التحرير"؟

- "كراسة التحرير" انتهيت من كتاباتها منذ فترة. لكن الأحداث الجارية الملتهبة التي تمر على البلاد تدفعني للتأني وإعادة النظر فيما أكتبه، ولست متعجلا علي إصدارها لأنني أعتقد عندما يكتب كاتب عن الثورة المصرية. لابد أن يكتب كتابا مؤثرا بقدر الإمكان ويحمل من الصدق والحقيقة والمشاهدات العينية القدر الكبير ولا يعتمد على شهادات غير موثوق منها أو متابعات متفرقة عبر التلفاز.

الأحد، 14 أغسطس 2016

قصة قصيرة الماء والوحل-عادل كامل

قصة قصيرة

الماء والوحل


عادل كامل
ـ هل تعرف ماذا حدث، وماذا حل بنا...؟
    سألت البعوضة ابنها الخائف:
ـ أجل، اجل فانا لا اعرف إلا أن علينا ألا ندع أحدا ً يعرف!
ـ لا ترفع صوتك، أرجوك.
       فخاطبها مذعورا ً:
ـ أماه...، الكل يقولون: انه غير مسموح لأحد بمعرفة ما حدث، وهذا يعني تماما ً تجنب المعرفة.
وصمت، ليسألها:
ـ هل المعرفة ضارة....، إلى هذا الحد...؟
ـ لا...، منافعها، يا ولدي، قليلة.
ـ إذا ً فهي ليست ضارة تماما ً؟
ـ قلت إن منافعها ليست  إلا قليلة!
    ابتسمت الأم، لمدارات مشاعر ولدها المضطربة، وهي تراقب سطح ماء البركة، بعد القضاء كلية على انتفاضة البعوض، وتشتيت المجموعات المعتصمة، والمتمردة، قبل إعلان العصيان العام، لتقول له، وهي تتنفس بصعوبة:
ـ عندما كنت صغيرة، جدي هو أول من قال لي: آ ...، لو عرفت لماذا يسلبوننا حقوقنا، مع إنها بسيطة، وعادلة.
فسألها:
ـ ولم يتغير الأمر...، فإمبراطوريتنا دمرت، وأصبحت من الماضي، فلا اثر لها، ولا علامة دالة عليها، وكأنها لم تتكون، ولم تدم لقرون طويلة؟
  ضحكت الأم، ومازالت تجد صعوبة في استنشاق الهواء:
ـ بعد أن رأيت الذي حدث لنا ومضى ولم يعد له وجود...، أدركت بجلاء الآن استحالة معرفة تلك الأسباب التي لن تسمح بمعرفة ما حدث في تلك الأزمنة، ولا بالأزمنة التي أعقبتها...، فقلت مع نفسي: وما فائدة معرفة هذا الذي لم يعد له وجودا ً....، والذي أصبح خارج حدود موضوعات المعرفة؟
   اعترض الابن:
ـ وهكذا دب النسيان، والانحلال، والمحو...، وزالت إمبراطوريتنا العظيمة التي حكمت الأرض بأسرها، وخضعت لها الجداول والمستنقعات والأنهار والبحار....، بعد أن حاصروها، من الجهات كلها، وعملوا على تدميرها، وتخريبها...، مع إننا لم نكن ضد احد، فقد ولدنا من الماء والى الماء نعود! فلم تكن أحلامنا تتجاوز السكن في هذا المستنقع، فردوسنا، وها هم يجردوننا منه!
فقالت الأم بألم:
ـ يا ولدي، لا تشغل رأسك إلا بالعثور على وسيلة لإنقاذ هذا الرأس...، فلم يبق منا إلا مجموعات متناثرة، هنا وهناك، متوارية، ومتسترة، في الأحراش، وفي الضفاف، وفي الدغل.
فقال بصوت لا يخلو من الحدة:
ـ ولكنهم مازالوا يعتدون علينا، ويسلبوننا حقوقنا، ومازالوا يشنون حملاتهم المنتظمة لإبادتنا، ومحونا من الوجود. فأنت تعرفين ما حل بنا: فرقونا، بعد أن مزقونا، وقسمونا، وزرعوا جرثومة الموت فينا، فمات من مات، وهرب من هرب، ولم يبق منا إلا من هو بانتظار الهلاك.
    هزت رأسها:
ـ بالأمس زرت الحديقة، وتجولت في أجنحتها، فماذا رأيت...، لا تستغرب، ولا تفزع، ولا تجزع...، لقد رأيت نظاما ً شفافا ً لا مثيل له.
ـ أنا سمعت الكثير عن هذا النظام الجميل!
صاحت:
ـ انه الكارثة!
فقال بثقة:
ـ وما شأننا به، بعد أن طردونا منه، وبعد أن أصبحنا في طريقنا إلى الانقراض، والزوال، كما زالت إمبراطورياتنا القديمة؟
لكنها راحت تقهقه، وقد بدأت تفقد تركيزها:
ـ  لقد منحوا الجميع الحرية...، فلا احد يعتدي على احد، أو يتعرض له بالإساءة، والعدوان...، فقد أقاموا الأجنحة، وشيدوا الأسوار، والحواجز، والأقفاص...، فأنت ترى الأرانب سعيدة، مثل النمور تمضي أوقتها مرحة، والأسود لا يعكر صفوها فأر أو قرد أو قنفذ...، والقرود حصلوا على غابة كاملة، وهكذا تكاد أحلامهم قد أعيدت لهم، من غير كوابيس، وأمراض، وتهديدات...!
ـ إلا نحن...، البعوض، والبرغوث، والقمل، وبعض الحشرات ..؟ كأن الآلهة خلقتنا سهوا ً، أو من غير إرادتها، أو جئنا بالمصادفة، كي نعاقب، ونذل، ونشقى، ثم نذهب مع الماء؟
     اهتز جسدها:
ـ لا تجدف...، يا ولدي، فالمحنة أعمق من مظهرها!
ـ وهل استطيع..؟ من أنا كي امتلك هذه الوقاحة...؟ وهل يقدر أن يفعلها من لا يمتلك حتى القليل من الماء، والقليل من الهواء، والأقل من الضوء....، بعد أن حرمونا حتى من قدرة المطالبة بهذه الحقوق؟!
    فكرت للحظة وقالت بشرود:
ـ هكذا، يا ولدي، بدأت شرارة التمرد، لتغدو انتفاضة...، سرعان ما تحولت إلى عصيان...، فحصل الذي حصل....، حتى أصبحنا لا نعرف احصل حقا ً الذي حصل؟
    فسألها فزعا ً:
ـ  إذا ً، دعيني أسألك: لماذا خلقنا، مادمنا، منذ أول الزمن، قدر علينا الشقاء، والفناء؟
ـ الم ْ أخبرك باستحالة معرفة هذا الذي لا يمكن أن يعرف..!
ـ لكني شاهدت ما حدث لنا: حاصرونا، وحرمونا، وقمعونا، وعذبونا، ثم راحوا يجتثوننا، ويمحوننا...،فلماذا فعلوا ذلك...، ومن غير رحمة..، وكأننا أتباع اله آخر غير ألآله الواحد القهار؟
ـ ببساطة، يا ولدي، يقولون إننا مخلوقات قذرة، تنقل المرض، وفي درك المعرفة، جهلة، أغبياء، وغلاة، ولا نعشق إلا الدم، وإننا شركاء في ارتكاب الجرائم ضدهم، فنحن السبب في انتشار الأوبئة، والكوارث، والنكبات، وإننا لا نعرف الرحمة، وقلوبنا من حجر!
ـ آ ...، الآن عرفت إن لنا منافع قليلة! وإلا لأغلقوا مستشفياتهم، وإلا لانقرض الأطباء، واندثر علم الطب؟
ـ آ ..، منافع قليلة...، لهم، لكن مضارها كبيرة ولا تحصى علينا...، وهي المعادلة ذاتها لم تعدل، ولم تتغير، منذ أول الزمن....،فكلما قمنا ببناء إمبراطوريتنا  هدموها فوق رؤوسنا، وعملوا على تخريبها، ومحونا!
     فسألها وهو يستنشق رائحة غريبة:
ـ  أتستنشقين ...؟
ـ منذ زمان....؟
ـ انه السم...، إنها رائحة الإبادة، رائحة الاجتثاث، رائحة الزوال...!
وأضاف مذعورا ً:
ـ الآن عرفت لماذا تترنحين، وترتجفين...، أيتها المسكينة، ولكن لماذا لا نفر، نهرب، ونبحث عن ملاذ امن....، فمستنقعات العالم لن تغلق ضفافها علينا؟
ـ ألا ترى إنني لا أقوى على الطيران، وأنا لا اقدر حتى على التنفس؟
ـ أماه...، يا روح عقلي، ونبض قلبي...، سأساعدك، لا تستسلمي...، فعلينا أن نجتاز هذا المكان، ونعبر الغابة...، لعلنا نجد بركة ماء، أو بقايا مستنقع...؟
   ردت بوهن، بصوت خفيض جدا ً:
ـ منذ سألتني: ماذا يحدث..: أجبتك: لا تحاول معرفة انك، حتى لو عرفت، فانك لن تستطيع إلا أن تعرف هذا الذي لا يستحق المعرفة، فالأمر لا يخصنا، وحدنا....، فاذهب وانظر إلى مصائر هؤلاء الذين يتمتعون بالحرية، والمسرات...؟
ـ آ ..، اعرف...، لقد منحوها أقفاصا ً للسعادة، وزرائبا ً للراحة، وحظائرا ً للمسرات...، فلا احد يعتدي على احد، ولا احد يغتصب احد، فالقانون فوق الجميع، خيمتهم، مثل هذه السماء التي لم يبق لنا منها إلا الظلمات!
   ووهن صوتها، فكفت عن النطق، فراح يبذل ما باستطاعته لمساعدتها على الحركة، ففهم منها إن السم سرى في دمائها، ولن يمهلها طويلا ً.
صرخ :
ـ ماذا افعل...؟
    ففهم إنها قالت له أن الأمر ليس بحاجة إلى المعرفة، فإما أن تموت، مثلها، ومثل من سبقوها، واما أن تهرب حالا ً بحثا ً عن مأوى لك، ولأبنائك، من بعدك! كي يدوم هذا الذي يزول إلى الأبد!
    ورفع صوته، ومكث يصرخ، حتى أدرك أن لا احد يسمعه، وان صوته لا يذهب ابعد من جناحه، فكف عن العويل، والصراخ، وبدأ يدثر جسد أمه بورقة شجرة يابسة...، متذكرا ً صوتها، لم يعد لديك ما تعرفه، فاهرب، حالا ً، ولكنه عندما حاول الابتعاد، وجد جسده ثقيلا ً، فلم يعد يقدر إلا على الغوص في الوحل، تاركا ً التفكير إلا بالاختباء، والتستر، فأحس، عبر الحركة، بمجسات تتحرك بجواره، ناعمة، وطرية، فستأنسها وهي تبعث فيه لذّة يجهل معناها:
ـ آ ...، من أنت ِ؟
ـ لا تفتح فمك...، توارى، تحت، غص، إلى الأعماق....، فان لم تنزل إلى الأسفل فستموت كأنك لم تخلق!
   تلمسها، مصغيا ً لذبذبات تلامس جسده:
ـ اقسم لك إنني لم أكن شريرا ً..، ولا خسيسا ً، ولا نذلا ً..، ولا فاسدا ً، ولا قاسيا ً، ولا قاتلا ً....!
ـ أنا مثلك ... ، أيها الولد الطيب!
ـ آ ...، أنت ِ بنت؟
ـ قبل قليل فقدت جميع أفراد أسرتي، ولم انج إلا بأعجوبة!
ـ اقتربي...، لنغطس معا ً، فانا الآن اعرف لا معنى لمعرفة ما حدث..! ولا جدوى منها أيضا ً!
ـ بالضبط، فقد كانت تلك هي كلمات والدي الأخيرة: حتى هؤلاء الأعداء الذين يتمتعون بالمعرفة، لم يتركوا لنا إلا هذه الصفحات السود.
ـ آ ...، يا حبيبي، لم تعد للحكمة منافع تذكر...، مادام  لا حكماء هناك، ومادام لا حكماء هناك فمن ذا يأتي بالحكمة؟
قال بشرود:
ـ لقد أصبحت الحكمة ضارة، والحديث عنها اشد ضررا ً منها...!
ـ كالمعرفة، يا حبيبتي، إن لم تكن ضارة، بحد ذاتها، فالحديث عنها أكثر ضررا ً منها، لأنها كالعدوى ...، وآه ....، لو كنت اعرف أين يكمن المرض؟
ـ فينا!
ـ لا ...، يا حبيبتي، أنا وأنت ولدنا اسيوياء، وطيبين.
ـ لا ..، يا حبيبي، ولدنا وفي دمائنا تسري جرثومة الشر، وجرثومة البغضاء، وجرثومة الموت!
ـ غريب...، إذا ً أنت ِ تعرفين ما لا اعرفه...؟
ـ لا ...، فأنت َ أيضا ً تعرف انك غير مسؤول عن نقل جرثومة الشر....، مع انك لست شريرا ً!
ـ ولكن إن لم انقل العدوى...، فمن ينقلها، وهي سابقة في وجودها على وجودنا؟
ـ هكذا يقول العدو   ...، ولأننا مخلوقات واهية لا تمتلك ما تعمله، فإننا لن نحصل على ما تخيلناه حقا ً من حقوقنا في هذا الوجود.
ـ  لكن الحرية، أو الحقوق، ليست أحذية توزع، وتهدى، وتمنح بالمجان...، إنها تنتزع!
ـ اعرف...، لأن الانتفاضة بدأت بهذا السؤال: إذا لم  ندافع عن أنفسنا، ونطالب بحقوقنا، فمن يضمن لنا المستقبل؟ اخبرني: هل خلقنا بلا نفع، فائضين..، أم خلقنا مصادفة، أم بلا أسباب...، وأخيرا ً: لا ضرورة لمعرفة إننا حاولنا أن نعرف؟
ـ يكاد عقلي يغطس ابعد من أقدامي في الوحل...!
ـ دعه يغطس....، وإلا ...، فانك ستفقده؟
ـ اقتربي مني..
ـ أنا وأنت في قبر واحد...، منذ آلاف آلاف السنين، أنا وأنت لم نفترق، لا أنت هربت مني، ولا أنا هربت منك، مع إن المسافة بيننا كالمسافة بين المعرفة وعدمها!
   فقال بشرود:
ـ أين باستطاعتي الهرب منك...، فأنت سكني، وأنا سكنك!
ـ آ ...، لو كنت..
ـ أرجوك...، أغلق فمك، لا تحاول معرفة ماذا حدث، وماذا يحدث، فكلما أزدت معرفة أدركت انك حتى لو انتصرت  فانك لن تذهب ابعد من حدود هذا الوحل. لقد قدر علينا أن نعيش للاحتفاظ بهزائمنا، في الأقل، لأنها، في الأخير، اضعف الإيمان، يا حبيبتي الغالية!
ـ لكن المعرفة، بالوحل، يا حبيبي، أفضل من تجنبها
ـ وحل المعرفة..، أم معرفة الوحل...؟
ـ آ ....، عدنا إلى الجرثومة التي زرعت فينا، فهي بدأت بالاستيقاظ...؟
ـ إنها، يا حبيبتي، تؤدي العمل ذاته الذي نؤديه...، ففي كل منا لغز يعمل عمل الغواية...، ولا يدع للموت إلا أن يمتد، ولا يموت!
ـ أفهم الآن إن هناك جرثومة اشد فتكا ً من المعرفة...، لا تدعنا نغطس في الظلمات؛ جرثومة تدعنا نعرف كم كان وجودنا مضرا ً...، فكم سببنا كوارث، ونكبات، للطيور، والزواحف، والثدييات، وغيرها...؟
ـ من غير قصد...؟
ـ كيف يحدث أن نرتكب هذه الأفعال المشينة، القاسية، الآثمة، تحت ذريعة البراءة، او اللا قصد..؟
ـ نفعل ذلك، يا حبيبي، كي نحصل على حريتنا، ومجدنا، في العالم الآخر؟
ـ توازنات!
ضحك:
ـ عندما تهرم الأنثى، وتكف عن تذكر ماضيها، لا يمجد الذكر إلا ذلك الماضي!
ـ أليست هذه هي احد أشكال المعرفة..؟
ـ المعرفة بهذا الذي كلما اقتربنا من سواحله أغوانا بالذهاب بعيدا ً في ظلماته...، وكلما توغلنا في الظلمات، نجد من يضيء لنا ممرات فيها!
ضحكت بمرح وقالت:
ـ  أيها العجوز الهرم...، تذكر إننا دوّنا صفحات خالدات بعدد ضحايانا؟
ـ لكن ...، تذكري...، كم كانت خسائرنا جسيمة، وباهظة، وكأن مهمتنا كانت قد أوكلت لنا عنوة؟
ـ الم ْأقل لك: القليل من النفع يتوازن مع الكثير من .. الظلم، لكن الكثير من الظلم لا يقدر أبدا ً من القضاء على هذا القليل من النفع!
ـ كأنك تدعوني إلى حفلة عرس!
ـ آ ....، يا حبيبتي، فلولا هذا القليل من الضوء، أكنا نحتمل هذه الظلمات...، لولا هذا القليل من الهواء لكانت العاصفة قد اقتلعتنا، والرمال دفنتنا؟
ـ الآن...، الآن....، أكاد لا اعرف ماذا حدث..؟
باستغراب سألها:
ـ أحدث شيء...، كي نحاول تذكره؟
ـ لا...، أنا أتذكر إنني رأيت الذي لا يمكن رؤيته، فانا لم أر شيئا ً!
ـ أنا لا أتذكر...أيضا ً، بل أرى انك مازالت تسكنني!
ـ أنا بيتك...، أيتها المحنة، فماذا كنت سأفعل، وماذا كنت سأعرف...، لولا إننا عقدنا العزم للذهاب ابعد منك ِ!
ـ ابعد من معرفتنا؟
ـ آ ...، وهل سمحت لنا إلا بالغوص عميقا ً في هذا الوحل...، فلا عين رأت ما حدث..، ولا أذن سمعت ما دوى...،ولا كتاب دوّنت فيه الوقائع، ولا راو ٍ روى...، لأن الشمس ذاتها لو لم تكن عمياء، لكانت أسرعت ومحت أثرها! لكن ماذا يفعل العميان، سوى تركهم الأضواء تستدرجهم لمعرفة هذا الذي نجهل اهو تسلى بنا، أم نحن تمتعنا بشقائه حد إننا مازلنا نمد أيدينا بحثا ً عن من يهبنا القليل من السكينة، والأقل من الغفران...!
1/8/2016


الحبيب السالمي :-بيت لا كتب فيه


شهادات
الحبيب السالمي :
بيت لا كتب فيه

الحبيب السالمي، تصوير صموئيل شمعون
ولدت في بيت لا كتب فيه. كان والداي أميين لا يعرفان الكتابة والقراءة تماما مثل كل الأجيال التي سبقت جيلهما والتي نشأت فــي الأرياف والأقاليم النائية. وحتى المصحف الــــذي لا يكاد يخلو مــنـــه أي بيت تونــسي فــــي الوقت الحاضر ليس للقراءة فحسب وإنما أيضا للتبرك به والتظاهر بالإيمان بل والتفاخر به فهو لم يكن موجودا في بيتنا. في تلك الفترة كان المصحف في القلوب. لم يكن الناس في حاجة إلى التباهي بالإيمان كما الآن. كانوا يمارسون إسلامهم ببساطة وتلقائية وحميمية وأكاد أقول بخفر وحياء جميلين.
ولذلك فأنا لم أكد أقرأ شيئا قبل سن الرابعة عشرة. وكل ما قرأته يقتصر على ما كان يوزعه علينا المعلمون من قصص أطفال لمطالعتها وتلخيصها ضمن واجباتنا المدرسية. وكانوا نادرا ما يفعلون ذلك فحتى هذه القصص (أذكر منها بالخصوص قصص كامل الكيلاني) لم تكن متوافرة بالقدر الكافي في مدرسة ريفية نائية في بلد فقير مثل تونس في مثل تلك الفترة من الخمسينات التي أعقبت الإستقلال.
والحقيقة أن شغفي بالقصص الذي ولد في نفسي فيما بعد الرغبة في كتابة القصة القصيرة ثم الرواية لا يعود إلى قراءاتي القليلة والمتباعدة للقصص التي كان يوزعها علينا المعلمون في المدرسة وإنما إلى شيء آخر وهو مجلس الشيوخ الذي كان يلتئم كل يوم بعد الظهر تحت زيتونة الكلب. تقع الزيتونة خارج بيوت القرية. وكانت بمثابة مقهى خاص بكبار القرية يلتقون فيه لتبادل الأخبار وتزجية الوقت وللخوض في ما يعنيهم من مسائل. في البداية كانوا لا يسمحون للصغار من الإقتراب من المكان خصوصا وأنهم كانوا يروون أحيانا قصصا فاحشة ويتداولون في مواضيع يعتقدون أنها لا تليق بعقول الصغار مثلنا.
كنت الوحيد الذي كان يتلصص على مجلسهم. وما كان يساعدني على ذلك هو أن أبي كان قد كلفني بأن أملأ الإبريق بالماء حالما تبلغ الشمس وسط السماء وأحمله إليه للوضوء قبل صلاة الظهر. وكنت حالما أقترب منهم أصغي السمع. أناول أبي الإبريق وأغادر المكان فورا. ولكن بدلا من أن أعود إلى البيت أختبيء خلف سياج من أشجار الصبار العالية وأبقى هناك لأستمع إلى ما كانوا يروونه من حكايات.
وكان من بين الرجال واحد يمتلك مقدرة هائلة في رواية الحكايات. كان فنانا بارعا في طريقة السرد. وفيما بعد عندما كبرت وقرأت ألف ليلة وليلة وملحمة "الجازية الهلالية" و"الزير سالم" اكتشفت أن الكثير من الحكايات التي كان يرويها هي من "ألف ليلة وليلة" وهذه الملاحم الشعبية التي كانت رائجة إلى حد بعيد في مثل ذلك الوقت. وكل ما في الأمر هو أنه أدخلت عليها تغييرات تتعلق أساسا بأسماء الأشخاص والأمكنة وأضيفت إليها عناصر لإبهار السامع وإثارة الدهشة والمتعة خصوصا ما كان يتعلق منها بوصف المعارك والحروب والكوارث.
لقد ابتدأت علاقتي بفن السرد عبر الشفوي أساسا. ولا أدري إلى أي حد أثر هذا في الطريقة التي كتبت بها فيما بعد نصوصي القصصية والروائية. كل ما يمكن أن أقوله هو أنني أدركت منذ تلك الفترة المبكرة أن السرد يوفر متعة هائلة. هناك بالطبع مستويات عدة يطمح إلى بلوغها النص الأدبي وهناك آفاق كثيرة يريد أن يقتحمها. هناك أيضا أهمية الكتابة بالنسبة للكاتب ودورها في اكتشاف هذا العالم المعقد الثري الرجراج الذي نكتب عنه وفي سبر أغوار الذات البشرية بكل ما فيها من خبايا وأسرار وتضاريس وتناقضات إذ أن الكتابة هي أيضا أداة معرفة واستكشاف. لكن كل هذا لا يتحقق ولا يكتمل خارج شرط الإمتاع.
وإذا كانت طفولتي في القرية قد اقترنت بالإستماع إلى القصص والحكايات والخرافات الشعبية الشفوية فإن انتقالي إلى بلدة "حفوز" لمواصلة دراستي الثانوية قد اقترن بالشروع في القراءة الحقيقية. وأول كاتب قرأته هو مصطفى لطفي المنفلوطي. لا أعتقد أنني أشكل استثناء في هذا فأغلب الكتاب العرب قد قرأوا هذا الكاتب الذي لا يمكن الإفلات منه لأهميته في فترة التكوين. حتى نجيب محفوظ فعل ذلك. وقد أشار في العديد من أحاديثه إلى إعجابه بأدب المنفلوطي وتأثره بأسلوبه في الكتابة الذي كان يعد آنذاك من أجمل الأساليب.

ولكن أهمية المنفلوطي بالنسبة لي لا تتجلى فحسب في أنه أول كاتب قرأته ولا في إعجابي بلغته المتينة والبسيطة في آن واحد وإنما في أن قراءتي له تزامنت مع "كتابة" أو بلفظة أدق "خربشة" أول نص أدبي لي وكان عن عاصفة ترابية هبت على بلدة حفوز. أذكر جيدا أنني كنت في إحدى غرف التدريس بالقرب من النافذة أتطلع إلى الساحة الخالية التي تقوم في وسطها بضعة أشجار حين هبت العاصفة المفاجئة. انتابني خوف شديد فأنا أرى لأول مرة في حياتي عاصفة ترابية. بعد وقت قصير وجدتني آخذ قلمي وأشرع في وصف تلك العاصفة.
والطريف أنه كلما تذكرت المنفلوطي الآن لا أتذكر "العبرات" و"النظرات" و"الفضيلة أو بول وفرجيني" التي أمضيت وقتا طويلا في قراءتها وإنما تقفز إلى ذهني صورته الوحيدة. ويبدو في هذه الصورة بالجلابية التي يرتديها والعمامة البيضاء التي تلف رأسه وشاربه الأسود الكث ونظراته التي تشيع الإطمئنان والراحة في نفس من ينظر إليها أقرب إلى إمام مسجد في إحدى قرى صعيد مصر منه إلى كاتب ترك أثرا في أغلب الكتاب العرب في مرحلة ما من حياتهم.
إلا أن الكاتب الذي أحببته كثيرا وأثر في لفترة طويلة هو الطيب صالح. لم أكن أسمع به إطلاقا عندما قرأت بالصدفة روايته المشهورة "موسم الهجرة إلى الشمال" حدث ذلك عام 1968. أذكر أن طبعة الرواية التي وقعت بين يدي هي طبعة دار الهلال المصرية وهي إحدى الطبعات الأولى للرواية. ولا أدري كيف وصلت تلك الطبعة إلى مكتبة مدرسة ثانوية صغيرة توجد في بلدة ريفية مثل حفوز. الأمر يشبه المعجزة. كأن الأقدار أرسلت لي ذلك الكتاب لأقرأه في مثل تلك الفترة وخصوصا في تلك المرحلة المبكرة التي شرعت أتدرب فيها على الكتابة!. حقا لقد كنت محظوظا عندما وقعت على رواية عربية في مثل هذا المستوى الراقي. هل كانت الرقابة في تلك العوام البعيدة أقل صرامة؟ وهل كانت الإجراءات الجمركية أقل تعقيدا مما هي عليه الآن بحيث تسمح للكتب بأن تنتقل في البلدان العربية بقدر من السهولة ؟
من المؤكد أن رغبتي في الكتابة التي لم تكن قد توضحت بعد قد ترسخت بقراءتي"موسم الهجرة للشمال". أعجبت بالرواية إعجابا شديدا. التهمتها في أيام قليلة. قرأت بعض فصولها عدة مرات وحفظت عن ظهر قلب عددا من جملها التي سجلت الكثير منها في دفتر. انبهرت بلغتها الجميلة التي تمزج بين الجزالة والحداثة وبأحداثها البسيطة والغريبة في الآن ذاته التي تذهب بالخيال بعيدا وبشخصياتها الشديدة التميز التي رسمها الطيب صالح ببراعة نادرة فبدت قريبة جدا مني كما لوأنني كنت أعرفها. وما جعلني أزداد تعلقا بالرواية قربها الشديد من البيئة التي تحدرت منها. كنت أشعر أن القرية التي تدور فيها أغلب أحداث الرواية هذه القرية السودانية الصغيرة على منحنى النيل هي قرية العلا. بعد سنوات عديدة لما كبرت وتعرفت على الطيب صالح قلت له ذلك في أول لقاء جمعنا في باريس وكان يشتغل آنذاك مستشارا ثقافيا في مقر اليونسكو. أجابني بأنه هو أيضا فوجيء بالشبه الشديد بين قرى السودان وقرى تونس التي تعرف إليها من خلال قراءته لرواية الكاتب التونسي البشير خريف "الدقلة في عراجينها" التي أعجب بها كثيرا حتى أنها كتب مقدمة لإحدى طبعاتها.

وفي مدينة تونس التي انتقلت إليها بعد أعوام قليلة لإتمام دراستي اكتشفت كاتبا آخر أثر في تأثيرا عميقا وهونجيب محفوظ. حدث ذلك في مكتبة كنت أتردد عليها. لم يدلني أحد على نجيب محفوظ بل أنني لم أسمع بإسمه أبدا من قبل. اكتشفته بالصدفة. وما دفعني إلى ذلك هوأنني لاحظت كثرة كتبه في المكان المخصص للقصص والروايات. كانت تحتل رفا بأكمله، وكانت كلها صادرة عن دار واحدة: دار مصر للطباعة (سعيد جودة السحار وشركاه). وكل أغلفتها مزينة برسوم ملونة لجمال قطب. لأول مرة أرى ذلك العدد الهائل من الكتب لكاتب واحد. ولم أكن أتصور أن هناك في العالم العربي كاتبا قادرا على تأليف كل هذه القصص والروايات.
بدأت بقراءة "زقاق المدق". أحببتها لكنني لم أنبهر بها كما حدث لي مع "موسم للهجرة للشمال". بعدها قرأت "السراب" ثم "بداية ونهاية". وشيئا فشيئا بدأت أتسلل إلى عالم نجيب محفوظ. أحسست تدريجيا أن شيئا ما يشدني إلى هذا العالم الزاخر المتلاطم الصاخب رغم هدوئه الظاهري. إنه عالم متميز ثري معقد يحيل إلى الواقع ويستمد قوته منه. عالم يحتفي بالبسيط وبالعابر لكنه يعبر بنا في الوقت ذاته إلى ما هو جوهري وأساسي لدى الإنسان. عالم شديد الإتصال بالحياة في تجلياتها الطازجة في سيلانها في حركتها التي لا تتوقف أبدا.
وفي نفس الفترة اكتشفت كتابا مصريين آخرين أهمهما يوسف السباعي الذي وجدته مملا وإحسان عبد القدوس الذي أعجبت بلغته البسيطة السهلة الصافية القريبة من الحياة اليومية وبجرأته في الحديث عن الحب وعلاقات الغرام بين الذكر والأنثى في مجتمعات تحكمها التقاليد. قرأت أيضا قصصا لطه حسين. لكنني لم أغادر عالم نجيب محفوظ. قرأت العديد من رواياته ومجموعاته القصصية. وكلما توغلت في عالمه ازددت تقديرا لهذا الكاتب الذي يبدو لي أحيانا مثل راهب أدار ظهره لملذات العالم ولهوه ونذر حياته للرواية. وطبعا لم أعجب بكل روايات محفوظ التي قرأتها. هناك روايات بدت لي ثقيلة مملة. وفي الحقيقة فإن ما أفضله من أعمال محفوظ ليس الروايات المشهورة كالثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق ، السكرية) أو"أولاد حارتنا" بالرغم من أهمية هذه الأعمال وإنما الروايات قصيرة مثل "اللص والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل".
وبعد أعوام طويلة اكتشفت أن قيمة محفوظ لا تتجلى فقط في أهمية العديد من رواياته وفي أنه مؤسس الرواية العربية الفعلي وإنما أيضا في أمر آخر لا نتحدث عنه كثيرا في حين أنه يكتسي أهمية بالغة في نظري وهو أن نجيب محفوظ كاتب حداثي بمعنى ما. وهذه الحداثة تتمثل في لغته التي تبدو الآن للكثير من النقاد والكتاب العرب كلاسيكية وجافة وتقريرية..
لقد استطاع أن ينحت من لغة مصطفى لطفى المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي وطه حسين أي اللغة كانت سائدة في عصره لغة روائية. أي لغة تسمي الواقع. فإذا كان الشعر يوحي ويلمح ويرمز ويكني فإن الرواية تسمي. تسمي ما نراه وما يحدث وما نعيشه وما نتمثله من تفاصيل في حياتنا اليومية في البيت. الشارع. المقهى. الحديقة. القطار. الباص.. أي في كل الفضاءات التي لم يعرفها العرب قبل ظهور الرواية وأوجدتها الحداثة. ولم يكن للأدب الأجنبي حتى المترجم منه إلى العربية أي حضور في بداية حياتي الأدبية. هذا لا يعني أنني لم أقرأ لكبار الرواية الغربية وتحديدا الفرنسية مثل بلزاك وفلوبير وزولا. ولكن ذلك كان يقتصر على نصوص قصيرة مقتطفة من أعمالهم المشهورة ومدرجة في المنهاج الدراسي. ولم أطلع حقيقة على الأدب الأجنبي إلا بعد سنوات عندما التحقت بكلية الآداب.
لقد كانت الفترة التي أمضيتها في الجامعة من أخصب فترات حياتي. خلالها اكتشفت كتابا آخرين ليسوا من مصر وإنما من بلدان عربية أخرى كنت أجهل آدابها كالعراق وسورية ولبنان وفلسطين والمغرب والجزائر. في تلك الفترة أيضا قرأت " مائة عام من العزلة " وقد كان انبهاري بها شبيها بل يفوق انبهاري قبل أعوام ب"موسم الهجرة إلى الشمال". لم تكن الرواية معروفة في العالم العربي لما اكتشفتها (بالصدفة أيضا). قرأت عنها مقالا في الملحق الأدبي لجريدة "لوموند" الفرنسية. وبعد أسابيع قليلة وجدتها في مكتبة مختصة في بيع الكتب الفرنسية. كان ثمنها باهظا مثل كل الكتب القادمة من فرنسا. ولم أتردد لحظة واحدة. تناولت الرواية من الرف وخبأتها تحت قميصي وخرجت. أذكر جيدا غلاف الرواية. كان أبيض يحيط به خط رقيق مثل كل الروايات الصادرة عن دار "لو سوي". أعجبت بالرواية إعجابا شديدا إلى درجة أنني حفظت منها عن ظهر قلب نصف صفحة بدون أن أتعمد ذلك. وقبل بضعة أعوام زرت كولمبيا وتحديدا مدينة كارتاخينا حيث يقيم غابريال غارسيا ماركيز تلبية لدعوة من مهرجان "هاي" العالمي. وفيما كان المصور الأرجنتيني الفرنسي دانيال وهو صديق لغابريال غارسيا ماركيز يلتقط لي صورا على الشاطيء أشار فجأة بيده إلى بيت بالقرب من الشاطيء وقال لي إنه بيت ماركيز. نظرت إلى البيت وأخذت أتلوما بقي عالقا في ذاكرتي من "مائة عام من العزلة" فيما كان دانيال يتطلع إلي بذهول.
هذه الشهادة كتبت خصيصا لمجلة "بانيبال"
ونشرت في العدد 44 قام بترجمة الشهادة وليم هيتشينز.


السبت، 13 أغسطس 2016

مليكة اوفقير.. السجينة-عبد الغني بومعزة

مذكرات
مليكة اوفقير.. السجينة



   
  
"الحياة مسار طويل يقرّبنا من بعضنا .. " .. [ مليكة اوفقير ] ..    
 
[ 1 ]
..مليكة اوفقير روائيّة مغربيّة, كانت في ممضى من المفقودات, المختفين أثناء حكم الحسن الثاني,تلقب ب"الشّهرزاد الجّديدة", انتقلت من حياة القصور, قصور ألف ليلة وليلة إلى حياة السّجون, زنازين الملك,من مواليد 2 افريل 1953,ابنة الجّنرال القويّ والخطير محمد اوفقير الملقّب بالجنرال الأحمر والذّي كان وزير الدّاخلية المغرب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي,تبناها الملك محمد الخامس عندما كانت في الخامسة من عمرها كما هي العادة الملكيّة, ترعرعت في الجّناح الملكي مع بنات الملك وكانت بذلك في مصاف الأميرات,بعد الانقلاب الدّموي والفاشل الذّي قام به والدها سنة 1972, يقبض على والدها ويعدم, وترسل زوجته فاطمة وأولادها السّتة بما فيهم مليكة بدون محاكمة إلى سجن مجهول ومخيف الصّحراء, في ظروف قاسيّة ولا إنسانيّة, قضت مليكة اوفقير وعائلتها ما يقارب 19 سنة حياة التّنكيل, المعاملة القاسيّة, الحرمان في أدنى درجاته اللاانسانيّة, في زنازين ضيّقة,باردة,تسكنها فئران وعقارب,حاولت الفرار مع أحد إخوتها و اثنان من أخواتها البنات لكنّها فشلت,فزاد قمع السّلطة لعائلتها, ضغطت السّلطات الفرنسيّة على الملك لإطلاق سراح العائلة المضطهدة وهذا بعد نشر وسائل الإعلام الفرنسيّة أخبار عن القمع والتّعذيب والاختطافات التّي يتعرّض لها المعارضون كقضية المهدي بن بركة التّي تعتبر من أسرار الدّولة وقد أساءت للعلاقات بين البلدين خاصة بعد تورّط أطراف من المخابرات الفرنسيّة,أبراهام سرفاتي, جماعة العقيد عبابو, الجّنرال الدليمي, أشباح سجن تازمامارت الشّهير, أطلق سراح العائلة لأسباب إنسانيّة لكن يتمّ احتجازهم في فيلا بمراكش تحت الإقامة الجّبريّة, إلى أن تنجح العائلة وفي ظروف ملتبسة وبمساعدة أطراف مجهولة في الهروب, مليكة اوفقير وثّقت سيرتها, يوميات السّجن,مأساة عائلتها المضطهدة في رواية [السّجينة] بمساعدة الكاتبة الفرنسية ميشال فيتوسي..
[ 2 ]
..الكتابة ضدّ القمع والنسيان: في سنة 1972 وبعد فشل انقلابه على الملك الحسن الثاني ينتحر الجّنرال محمد اوفقير حسب الرّواية الرّسمية,أمّا زوجته فاطمة وأبنائها السّتة ستبدأ رحلتهم الطّويلة من العذاب, الإنكار, القمع, النّسيان, فقط مليكة استطاعت أن تكتب وبمرارة مع حسّ من المسؤولية حكاية عائلتها التّي وجدت نفسها في قلب الجّحيم, بدا كلّ شيء في رواية السّجينة عندما كان عمرها خمس سنوات,بالضّبط سنة 1958,عندما تبناها الملك محمد الخامس,كبرت في أحد قصور الرّباط,في عالم الحريم,الحريم لم يكن خرافة,لازمة المستشرقين المفضّلة,بل كان حقيقة وقد عاشتها مليكة وكتبت عن هذا العالم الذّي مازال غامضا عند البعض ومثيرا عند الآخر, أيضا , المفكّرة الكبيرة المغربيّة فاطمة المرنيسي ستكتب عن هذا العالم الذّي قالت عنه انّه عالم يصنع من النّساء إما شهرزدات الحكيّ أو نساء عديمات اللّقب,عملهن إرضاء شهوات ملوك قابعين في أزمنة متآكلة من الدّاخل,في الثّامنة عشرة من عمرها تصبح مليكة أحد أشهر الأميرات المغربيات يتنافس لكسب ودّها رجالات البلاط الملكي,ثمّ,ينقلب السّحر على السّاحر ويرتكب والدها الجّنرال الدّموي أخطر حماقة في حياته وحياة عائلته ويدفع بها إلى الهاويّة,الهاويّة في مغرب الملك الحسن الثاني هو جحيم القمع الذّي تعرّضت له عائلة بريئة من لبس الخيانة والتّواطؤ,على مدى عشرين سنة ضاقت هذه العائلة كلّ ما لا يتصوّره العقل ومليكة اوفقير نجحت في تحويل مأساة عائلتها إلى رواية لهذا لم يكن غريبا عليها لقب الشّهرزاد الجّديدة,هكذا تصنع شهرزاد من محنتها نصرا,انتصارا,ردّا للاعتبار,صمود الذّاكرة و الرّوح,تعلّمنا في روايتها الاوتوبيوغرافية درسا في الصّبر,المقاومة,الصّمود,الإيمان,تحرير الذّات من قهر وترهيب فزّاعة اسمها العبث العربي,لم تنس شيئا,كتبت كلّ ما تحتفظ به ذاكرتها من تفاصيل دقيقة,تصبح في بعض الأحيان هذه التفاصيل مفارقة عجيبة وخطيرة..
[ 3 ]
..فقرات مترجمة من الرّواية :
..(( يربطني بأمّي قدر واحد,نسج من خيوط الضّياع والعزلة,عندما كانت في الرّابعة من عمرها فقدت أمّها [ جدّتي],ماتت وهي تضع الطفل الذّي ستنجبه,في الخامسة نزعت من ذراعيها الدّافئتين ليتبناني الملك محمد الخامس,هذه هي طفولتنا اليتيمة من الحنان الاموي, حدث لنا هذا في مفترق السّنّ البريئة,لم يكن بيننا فرق كبير في السنّ عندما حدث لنا هذا, كان سنّها 17 عندما أنجبتني,مثير ومدهش ّتشابهنا النّفسي,حياتنا كنساء تمّ التنكيل بأنوثتهن المنكسرة التّي وطدت بيننا هذا الرّباط القويّ,مثلي أنا,كانت لأمّي دائما النّظرة الضّائعة للذّين قسى عليهم القدر...لطالما حلمت بمغادرة المنزل العائلي الذّي كانت تحسّ فيه بالوحدة والحزن,وبّما أنّها كانت العادة المتبعة مع البنات فان أمي لم تكن تغادر بيت أبيها[جدّي]البتة,لم يكن لديها أي مكان تلجا إليه,تعثر فيه على الدّفء العائلي الذّي ينقصها...في الثّانيّة عشره من عمرها كانت أمّي جميلة جدّا,عينان كبيرتان وسودوان,وجه صغير,مليح الحسنة,لون جلدها مائل قليلا للسّمرة مع احتفاظه ببياضه,كان كلّ هذا كافيا لجلب أنظار واهتمام أصدقاء جدّي والذّين كانوا معظمهم من الضّباط,جدّي كان ضابطا متقاعدا ومعروف لدى الضّباط والجّنود,كان ظهورها ولفت انتباهها لهم لم يكن من باب سوء التّربية,لكنها كانت تريد الزّواج,تأسيس عائلة,كان من بينهم ضابط شاب عائد للتوّ من الهند الصّينية,محتفى به بدزينة من الأوسمة والنّياشين الملعقة على صدره,كان هو أيضا من الزّائرين المداومين على بيت جدّي الذّي يعرفه وسمع عنه الكثير,لقد شاهده في كذا من مكان,أعجب بذكائه الحاد وشجاعته الذّائعة الصّيت,جعل منه صديقا مقرّبا له ودعاه لزيارته في كذا من مرّة,خلف ستار الحشمة والفضول كانت أمّي تراقب الضّيف الجّديد وهو جالس مع أبيها حول مائدة العشاء,شاهدها,التقت عيونهما في لحظة مفاجأة,الإعجاب والرّغبة في قول أشياء لبعضهما,لنظرته تأثير اجفلها,أعجبت كثيرا باعتداده بنفسه وأناقته وزيّه العسكري الأبيض,بعد أيام,تقدّم لخطبتها من جدّي,هذا الأخير فوجئ بالأمر,وليكون صريحا مع صديقه وفي لهجة غير حادة مقرونة بنبرة غضب قال له.."فاطمة ليست إلا بنتا صغيرة,في الخامسة عشرة وتفكّر في الزّواج منها؟.. ))
[ 4 ]
..(( كانت أمّي بالنّسبة لي مركز العالم,أحبّها ومعجبة بها,جميلة جدّا,مذواقة,مثال حيّ للأنوثة,أشمّ رائحتها,مداعبة جلدها يعني سعادتي الكبرى,أتبعها كظلّها,كانت تحبّ كثيرا الذّهاب للسّينما,لذا كانت تذهب إليه يوميّا,وفي بعض الأحيان مرتين وثلاث مرّات في اليوم,منذ إن كان سنّي ستة شهور تاخذني معها في عربتي الصّّغيرة,ربّما لهذا السّبب ورثت عنها انجذابي الكبير للفنّ السّابع,كانت تأخذني أيضا عند حلاقها الخاص,كانت ترغب أن تكون ابنتها الصّغيرة ذات الشّعر الانجليزي المجعّد شبيهة بسكارليت اوهارا,لكن,للأسف تأتي الرّيح بما لا تشتهي السّفن,فعند هبوب الرّيح تفسد تسريحة شعري..أرقص معها على إيقاع موسيقى الرّوك المستفزة فينا حواسنا وتعلقنا بمغنينا المفضّل الفيس برسلي,في هذه اللّحظات المثيرة يمكن أن أقول أنني وأمّي كان لنا نفس السّنّ..كانت عائلتي قريبة جدّا من العائلة الملكيّة ,كان والداي عن دون غيرهم مسموح لهما بالدّخول للقصر والتّجول فيه,كان أبي قائد أركان جيش الملك يحوز على كامل ثقّة الملك محمد الخامس,أمّا أمي فكانت تعرف الملك منذ الصّغر...كان الملك يثق فيها بحكم معرفته بها منذ سنوات,يحبّ مرافقتها,لكن هذا الرّجل الصّارم كان أيضا شديد الاحترام للتّقاليد والقيم العائليّة التّي تمنع ظهوره علنا مع امرأة متزوّجة,أصبحت أمّي صديقة لزوجتي الملك,كانتا تطلبان من الملك وتترجينه أن يستقدّم أمّي يوميّا,كانت تعيش في كنف أسرارهن,كانت الملكتان تعيشان حياة الحريم وأمّي نافذتهم على العالم الخارجي,تشتري لهما الملابس,مواد الزّينة,تحكي لهما كلّ ما يحدث في الخارج,حقيقة كانتا متحمّستان لمعرفة كلّ ما يتعلق بأمّي, تفاصيل عن حياتها,أولادها وزواجها,متنافستان لكسب حبّ الملك ورضاه,عدوّتان حميمتان,كان يفرّقهما النّقيض الكبير الواضح للعين, الأولى,لاله عبلة وتلقّب بالملكة الأم أو أم سيدي,أنجبت للملك ولي عهده,مولاي الحسن,الثانيّة لاله بهيّة,بطبيعتها الشّرسة,صعبة المراس ,جمالها حديث البلاط والنّاس,أم بنت الملك المدلّلة,الأميرة آمنة التّي وضعتها عندما كان الملك في منفاه في مدغشقر..عضّت الأميرة الصّغيرة ذراعي[لاله مينه],التفت باكيّة,متألمّة أبحث عن أمّي,مستنجدة بها,محرجة هي,تشير نحوي بيدّها بإيماءة مفهومة بان أصمت, أن أهدأ,ممتعضة من عدم تعاطفها معي,توجّهت مباشرة نحو لاله مينه[الأميرة آمنة]وعضضت خدّها بأسناني,انفجرت باكيّة هي كذلك, أحسست بتهديد ما يخيّم على القاعة الملكيّة وكأن الجّميع سينهال عليّ لمعاقبتي,الصّغيرة تبحث عن أبيها لكنّها لا تعثر عليه,إذا,تسقط على الأرض,متخبّطة,باكيّة,صارخة بسبب الألم الذّي سببته لها عضّتي ملفتة انتباه الحاضرين في القاعة,خوفا,إحساس منّي بالخطأ الذّي ارتكبته لجأت إلى ذارعي أمّي,أخيرا تدخّل الملك,أخذني بين يديه طالبا منّي أن احكي له ما حدث..)) ..
[ 5 ]
..(( فيما بعد أصبح كلّ شيء بالنّسبة لي ضبابيّا,غير مفهوم,وكأنني ضحيّة عمليّة اختطاف,أتذكّر أمّي وهي تغادر القاعة فجأة دون سابق إنذار,أخذوني ووضعوني في سيارة نقلتني مباشرة إلى فيلا لاله ياسمينه حيث تعيش لاله مينه ومربيتها السّيدة جان ريفيل,كانت هذه الأخيرة أيضا مدبّرة الفيلا,المسئولة عن كل كبيرة وصغيرة فيها,قادتني بقوّة إلى غرفة ودورّت قفل الباب مرتين,بكيت كثيرا طوال اللّيل, لم يكلمني والديّ طوال هذه الفترة,إن كانت هناك أسئلة عن ظروف إقامتي الجّديدة فلقد نسيتها,هل بكت أمّي إلى حين طلوع الفجر كما فعلت أنا؟,هل فتحت باب غرفتي من حين إلى حين؟,تشمّ رائحتي من ملابسي,تجلس على سريري,يثقلها الصّمت والضّجر أثناء غيابي؟, عندما كبرت لم أجرأ أن اسألها,كيف تعاملت مع ظروف اختطافي,غيابي الإجباري,مع مرور الوقت,كان لزاما عليّ الإذعان والتّعايش مع الحادثة,فصلي عن أمّي,رغم حزني,ألمي كنت أحبّها أكثر مما أستطيع تخيّله,تألمت كثيرا بسبب بعدي عنها,كانت زيارتها أشبه بحالات تعذيب فضيعة,عند زياراتها والتّي تعدّ على أصابع اليدّ كانت تأتي عند منتصف النهار وتغادر على السّاعة ثانية مساء,عندما تخبرني المدبّرة بقدومها,أحسّ بسعادة لا توصف,بقوّة خارقة تجرفني للحياة,لكن عاجلا ما يكون الحزن والأسى سببان كافيان لتجريدي من مشاعري السّعيدة,في الليلة التّي تلت زيارتها لي,لم انم,في الصّباح,لم أدرس جيدا في القسم,بدت لي السّاعات طويلة,غير منتهيّة,أبديّة, عند منتصف النّهار ونصف,وعند خروجي من المدرسة يتكرّر سيناريو الزّيارات المشحونة بالفرحة والمقرونة بالحزن واثباط عزيمتي الهشّة,أمّي هنا,أسرع الخطى على الأدراج لأصل بسرعة إلى قاعة الضّيوف,أقف عند العتبة,لا أدخل,لأنني أشمّ رائحتها ..)) .
[ 6 ]
..(( لقد عدت,هي رواية الكاتب وورث,هذه اللّحظة الأولى هي ملكي,أمام حامل المعاطف,اغرس رأسي في سترتها النّسائيّة,كانت جالسة على الكانبيه,ترى لماذا استقبلتني بهذا الهدوء الغير المعتاد منها؟,كان من المفروض أن يكون لقاء التّمزّقات والدّموع؟,تمالكت نفسي, تجمّدت في مكاني,ثمّ قبلتها ببرودة غير معهودة,بعدها بلحظات,قبلت يدّاها,أغرقتها بألف شوق وحنين وحبّ,أصبحت هذه الشّحنات العاطفيّة غريبة عليّ,كنت دائما أحسّ بنهمي لها,حول المائدة,المدبّرة تستثار بأمّي,تمنعني من الحديث معها,أراقبها,أتمعّن فيها,احتسي كلامها,أراقب حركات شفتيها,أسجّل أدقّ التّفاصيل التّي يمكن حفظها لأستذكرها قبل النّوم كشريط يقاوم النّسيان,في وحدة وعزلة غرفتي, كنت سعيدة بجمالها,أناقتها,شبابها,لاله مينه هي أيضا معجبة بأمّي,لقد كانت تملأها فرحة,هذا ما قالت له لي,لكن,الوقت يمرّ,عليّ العودة إلى المدرسة,زياراتها تتحوّل إلى ما يشبه حالة عذاب,أحسّ تدريجيا بأنني بعيدة عنها,لم يعد منزلي في حي الأميرات الرّاقي,منزلي الآن قصر لاله ياسمينه في الرّباط,عشت فيه طوال الوقت,بدون آفاق أخرى,في وحشة القصر وقصور أخرى التّي كنت انتقل إليها لقضاء عطلتي الصّيفيّة,كنت أرى وأشاهد حياة الآخرين,الحياة الحقيقيّة,من خلف النّوافذ وزجاج السّيارات الفخمة التّي تنتقل بنا من مكان إلى مكان آخر,حياتي أنا الرّغيدة والمحجوبة على عين العالم,في قرن آخر,بذهنيات أخرى,بتقاليد مختلفة عن تقاليد الآخرين,تطلّب مني هذا إحدى عشره سنة للهروب والتّحرر..)) ..
...............
من هي مليكة اوفقير ؟ :
مليكة محمد أوفقير ولدت في مراكش عام 2 إبريل 1953 كاتبة مغربية والدها الجنرال أوفقير وكانت الابنة البكر لمحمد أوفقير. أخوانها و أخواتها هم عبداللطيف , مريم(ميمي) , ماريا , سُكيْنه و رؤوف. تبنى محمد الخامس مليكة و رباها وعاملها كأبنة له.
حياتها :
كان محمد أوفقير وزيراً للداخلية و وزيرا للدفاع والقائد العام للقوات المسلحة. كان الملك حسن الثاني يثق فيه كثيراً وكان اليد اليمنى له و ذلك كان خلال 1960 وفي بدايات 1970. ولكن, بعد محاولة والدها الانقلابعلى الحسن الثاني بالهجوم على طائرة بوينغ 727 الملكية, أعتقل بعدها الجنرال أوفقير ثم حكم عليه بالإعدام. مبدئياً أقتصر الحكم على الإقامة الجبرية لمليكة وعائلتها في منزلهم منذ 1973 حتى 1977. بعدها تم إرسال عائلة الجنرال أوفقير بأكملها إلى سجن سري في الصحراء الكبرى حيث عانوا من الظروف القاسية فيما يقارب الـ15 عام. بعد الهروب أُطلق سراحهم إلى الأقامة الجبرية في المنزل عام 1987. في 1991 كانوا من ضمن تسعة سجناء سياسيين الذين أفرج عنهم. في الـ16 من يوليو عام 1996 عندما بلغت مليكة أوفقير من العمر 43 عاماً هاجرت إلى باريس برفقة أخيها رؤوف وأختها سُكيْنه. [1]
في الـ10 من أكتوبر عام 1998 تزوجت مليكة بإريك بوردروي وقد ألهمت حياتها الكثير من المناصرين لحقوق السجناء السياسيين.
مؤلفاتها :
رواية السجينة .
رواية الغريبة .
*****
المصدر: مذكرات مليكة اوفقير [السّجينة ] الصادرة عن دار كتاب الجّيب ..
* نشر النّصّ في الملحق الثقافي لليوم بتاريخ : الاحد 62 افريل 2009 و أعيد نشره لمرة الثانية بنفس الملحق بتاريخ 24 سبتمبر 2012 . .
- عائلة الجنرال محمد اوفقير –


قصة قصيرة عراقية-مسلم السراج

قصة قصيرة عراقية
 امرأة

مسلم السراج
مالها هذه المراة ؟ انه حقا في حيرة ولا يستطيع ان يفهم شيئا منها . فهي تتصرف بغرابة بادية . تتكلم ، تسكت ، تتحرك . غريبة تماما ، تماما . ولكنه يقظ امامها ، تجاه تصرفاتها ، مثل افعى تراقب طعما شهيا .انها تعنيه وهي ليست بليدة بل انها تعنيه هكذا يحدث نفسه . والا فما معنى تصرفاتها تلك ؟
هل هي لاتفهم لغة جسدها ؟ كيف ؟هل هي هكذا كيف هي هكذا وهي تمد يدها الى صدرها تحت ثوبها الفضفاض في تعمد باد ؟ هل هي لاتتعمد ؟ تمد يدها لتداعب نهدها امامي فينفلت من تحت يديها ليخرج الى دماري مثل فطر ابيض متوحش نط توا من باطن الارض الى العراء ؟ لذيذ وسام في الوقت نفسه . فهي مرة تداعب نهدها الايمن بيدها اليسرى وحين تتعب يدها اليسرى تعود بيدها اليمنى لتداعب نهدها الايسر . ربما اكون مخطئا . اجل انا على خطا فادح فالمراة تتصرف على سجيتها والرجل الذي هو انا يدفع بافكاره نحوها بعيدا بعيدا ، حتى ليكاد يتوغل في مستعمرة جديدة غير ماهولة . يكابد فيها غربة روبنسن كروسو او اكتشافات حي بن يقظان وضياعه .
ليت لي القدرة للخلاص من هذا العذاب المدمر. واستكناه مايدور في خلدها . لقد كان ابن احد الاقطاعيين الاغنياء يقضي طيلة وقته باللعب بشاربه . ينتفه حينا ويمشطه باضافره احيانا . حتى كان ابوه يخجل من تصرفه امام كبار القوم التي تتجمع لتتسامر معه في ديوانه . وحاول الاب تخليص ابنه من عادته السخيفة التي تثير الاستغراب ، بان امر بصنع مسبحة خاصة له من اغلى الجواهر الثمينة ، بعد ان مل من نصيحته . مسبحة من ثلاث وثلاثين من القطع الذهبية المطرزة بالجواهر يسيل لها لعاب كل من هب ودب الا هو .حيث ان الابن رغم ذلك ينساها ولا يعبا بها ويروح الى شاربه ينشغل به . ينتف شعراته امام مراى الناس ومسمعهم في غيبوبة عما يتحدثون به .
نعم هذه هي العادات اللعينة التي تثير الاستغراب . هو عادته اللعب بشاربه وهي عادتها اللعينة اللعب بالجسد في اخصب وابهى نقطة من جسد المراة . وانا لعبتي الافكار . هي تتصرف بجسدها الذي هو ملكها . وانا يتصرف بي فكري المتشرذم المنهار امام مفاتنها .
هذا هو ديدنها ، وذاك ديدني انا . فانا اكاد اشكك بكل شيء لاصل الى لاشيء . وانا ادري اني لو بقيت هكذا لعقود طويلة فانا هكذا .. هكذا . هكذا كان يحدث نفسه .
ولها عادة غريبة اخرى اضافة الى العبث بنهديها ، اغرتني بتتبع حركات جسدها الاخرى . واكتشفت انها تحرك منطقتها الخصبة ، وسطها ومؤخرتها البارزة مثل نهديها لتثير دماري ، لتقتلني . وانا اكاد اصدق انها تدعوني اليها . رجل شبق وامراة جميلة فاتنة مجنونة . وانا لا اكاد اسمح لنفسي بتصديق ذلك . نعم لااصدق ذلك فهي لو انها كانت تريدني فما الذي كان سيمنعها وهي بهذا الصلف والجراة ؟ اجل باشارة واحدة منها سوف تزلزل الارض تحت قدم اي كان من الرجال .
نعم انها لاتدعوني اليها ذلك انها ليست بحاجة لي . بل انها ليست بحاجة الى احد ما . هل ذنبها انها جميلة وان صدرها رخص ووسطها خصب . انها امراة شرقية جميلة . فهي منذ نصف عقد من الزمان وهي هكذا امامي ....
خمس سنوات منذ ان فقد زوجها في الحرب وهي .....لماذا ياترى هي امراة لاتشيخ ؟ هكذا راح يحدث نفسه وهو يلعن شيطانه وشيطانها . اجل منذ خمسة اعوام وهو يراقبها دون جدوى وكلما مرت الايام عليها تزداد جمالا وفتنة وتزداد رشاقة في حركاتها وتحررا في اباحيتها امام كامراته المترصدة التي تسجل وتزداد نهما . وكان كلما نظر لها يزداد شبقا فتنتصب شلالاته وتمتليء انهاره بماء الحياة . ويبقى متهيئا لفيضان لاتنفع معه سدود ولا اخلاق ولاثوابت . ويروح يلعن الشرق وتقاليده وارتباطاته . ويلعن تلك الغريزة التي تجعل الرجل منساقا الى المراة وكل ذكر الى انثى عابثة تسلب لبه وتلعب به .
كان يخاف من نفسه و على نفسه . ان يندفع اكثر الى الامام نحوها فتصرخ به وتفضحه والنساء مصدّقات . ومن لايصدق امراة تدعي ان رجلا اعتدى عليها ؟ وكيف سيدافع عن نفسه امام هكذا ادعاء ؟ والعذر سيكون اقبح من الفعل ؟ عند ذلك ستنهار عائلته امام ضرباتها . وسيعود خالي الوفاض من امراة لاتزال بذمة رجل .
ومع هذا في يوم قررت الذهاب معه لانجاز بعض امورها الخاصة . هي طلبت منه ذلك . ولقد وجدها فرصة ان يبوح لها بما في داخله من فكرة شيطانية خلقتها هي في داخل راسه .
كانت جميلة وهي حلم كل رجل . وهاهي الان تجلس لصقه تماما في السيارة فيحتك جسدها بجسده فتثير في روحه كل غضب الطبيعة وزوابعها . لذلك راح يتمنى ان يقول لها شيئا مما في وجهة نظره تجاهها . وتمنى للمسافة ان تطول اكثر ما يمكن وان يطول شعوره بلذة كان ينتظرها منذ خمس من السنين . ولكن قطار الزمن يمشي دائما بسرعة خارقة امام سعادة ركابه ليتباطا حين يكدر الزمن صفو حياتهم . لذلك كان يفكر في انتهاز اللحظة التي يقول لها فيها انه يحبها وانه مفتون بجمالها فتنة المسحور بسحر ممنوع لايعرف كنهه . والمشكلة انه متزوج وهي قريبة لزوجته ومما كان يثير غريزته ويسيل لعابه ان زوجها كان مسافرا في سفرة طويلة . ولكنه كان يخاف من الفضيحة التي قد تثيرها رغبة محرمة لايعرف المدى الذي ستصل اليه .
اراد ان يهمس لها انه يحبها بل ويعشقها ويكاد ان يموت تحت عجلاتها مثل ابله مخمور . وانه يرغب الزواج منها ولكن كيف وقد تيبست اوتار حنجرته فسكت لقد اسكتته خمس سنوات من العشق المحرم . عشق شرقي وقيم شرقية يتمنى اما ان يكسرها او ان يتخلص من هذا الواقع المؤلم ولكن قد يضاف له السم الزعاف اذا استمرت المشكلة هكذا فتكون النتيجة وخيمة . انها سوف تعرض حياته كلها للخطر وسمعته الى الحضيض وسوف تمرغ مستقبله في وحل الضياع .
وكما تبتدئ المشاكل الكبيرة من افكار تافهة مصدرها الغرائز ...


الجمعة، 12 أغسطس 2016

إله المواشي وقصص أخرى-عادل كامل

إله المواشي وقصص أخرى





عادل كامل
[1] آله المواشي
   أدركت الغزالة  إنها طوقت من الجهات الأربع؛ ذئاب تسد عليها الطريق، ونمور تتربص بها من الخلف، إلى اليسار اصطفت زمرة فهود، وعلى اليمين استعدت الكلاب البرية للهجوم...، ولأنها لم تجد من تخاطبه، بجوارها فوق الأرض، رفعت رأسها إلى السماء:
ـ إذا كنت، يا الهي، لا تقدر على حمايتي، ومنعهم من الهجوم علي ّ، وافتراسي....، فأنا سأسلم نفسي، من غير مقاومة، لهم!
  ابتسم آله المواشي:
ـ ولكن لِم َ تعجلت ِ الشكوى، والتذمر...، حتى أني أحسست انك ِ توشكين على ...، الكفر، وارتكاب المعاصي؟!
ـ وهل باستطاعتي، يا الهي، أن افعل ذلك، وقد سلبت مني حتى الهواء؟
ـ آ ...، الآن لن أخلصك من غير ثمن!
فقالت الغزالة باستسلام:
ـ بعد أن أمضيت حياتي كلها مذعورة، فزعة، خائفة، اهرب من عدو كي أقع في براثن عدو أكثر شراسة، وأخس، وأكثر نذالة...، تطلب مني رشوة!
ـ لِم َ هذا الغباء...، وأنا منحتك قدرة الطيران!
ابتسمت بأسى عميق:
ـ آ...، وأنا لا أجنحة لدي ّ...، حتى لو كانت وهمية، وتطلب مني الطيران، كما تفعل العصافير والبلابل والغربان؟
ـ اقتربي مني...
ـ تقصد ..، اصعد إلى السماء، حيث مجدك العظيم، وأنت تراهم يحيطون بي، ويسدون علي ّ الطرق، والممرات، كأنهم آلات فولاذية برمجت للبرهنة باستحالة العثور على فجوة للخلاص منهم...!
ـ اكرر، أيتها الغزالة: اقتربي مني...
ـ أنا لا اقدر أن اقترب منك...، يا الهي، لأنك تراهم سيرسلونني إليك، ممزقة الأوصال..، وآنذاك، أرجوك، امنحني جناحا ً للطيران!

[2] الموت
رفع صوته قليلا ً يخاطب الموت:
ـ لا يعنيني أن أموت غدا ً..، أو بعد غد ٍ، ولا يعنيني إنني ربما كنت مت يوم أمس، أو قبل يوم أمس...، سأموت بعد ألف عام، أو إنني مت قبل ملايين السنين، لأنك ـ يا سيدي ـ لم تعد تعنيني مادام وجودك قد سبق وجودي، ومادام وجودك، سيدي، سيبقى بعدي أيضا ً!
ضحك الموت:
ـ ها أنا أصبحت لا أثير فزعك، ولا خوفك، حتى كأنك صرت تتندر علي ّ، بل وتتفلسف؟
ـ لا.. يا سيدي، فبعد أن لم تترك لنا منفذا ً للهرب منك، ولا للخلاص...، ولا للمصالحة،  صار حضورك شبيها ً بغيابك،  وصار غيابك، سيدي، تام الحضور، فعلى من أتندر...، وأتفلسف، ألا ترى إن المعضلة لم تعد تعنيني، وربما لا تعنيك أنت أيضا ً...، لأنك لا تقوم إلا بواجبك، أما أنا فلم أكن حرا ً إلا عندما أكون بين يديك!
ـ وداعا ً...!
ـ أيها العزيز...، لا تكن قاسيا ً معي، وتتركني في محنة السؤال: هل أنا عائد من الموت، أم أنا ذاهب إليه؟

[3] الموت جوعا ً
   وهو في حفرته، سمع الأرنب من يناديه:
ـ أكاد أموت من الجوع...
ـ إذا كنت لم تستطع، في هذه الحديقة، أن تعثر على لقمة تسد بها جوعك...، فهل يتحتم علي ّ أن أتبرع بحياتي لك كي لا تموت ..؟
ـ لا ...، ليس هذا هو السبب، فلا يصح أن تتهمني بالكسل، والخمول، ولكن رائحتك هي التي أثارت شهيتي للطعام!
ـ أغرب عني أيها الذئب اللعين...
ـ ها ..، وأين اذهب، وأنا قررت أن أبقى عند باب حفرتك، حتى تموتين من الجوع، وحيدة..!
ـ هذا أفضل...، أن أعود إلى التراب، مثلما أنا عليه، بدل أن ترسلني ممزقا ً إلى السماء!

[4] غفران
ـ أتعرف انني أمضيت حياتي الطويلة من غير أن ارتكب ذنبا ً واحدا ً...؟
   ضحك الآخر بتندر:
ـ على العكس مني تماما ً...، فانا ارتويت من الذنوب حتى كأنني لم ارتكب ذنبا ً واحدا ً!
فقال الأول يخاطب الثاني بشرود:
ـ لابد انك كنت مضطرا ً لارتكابها..، كي تجد مبررا ً للغفران ..؟
رد الآخر بصوت هادئ:
ـ يبدو لي انك لم تكن مضطرا ً لارتكابها، ولكن هل حقا ً لم تتذوق لذّة الخطيئة، ونشوة الآثام؟!
ـ آ ...، حقا ً إن الإثم الوحيد الذي لم ارتكبه، يا صديقي، في هذه الدنيا، هو انني لم اركب إثما ً...، ولهذا  حرمت من تذوق نعيم الغفران!

[5] داعية
   تجمدا تماما ًوهما يصغيان إلى مقابلة كانت تبثها شاشة الحديقة الكبرى:
سأل الصحفي واحدا ً من وعاظ السلاطين، بوصفه داعية:
ـ كيف رأيت الدنيا..؟
أجاب الداعية مسرورا ً بابتسامة رقيقة:
ـ رأيتها حلوة... عذبة... بالغة النعومة... والجمال!
وأضاف الداعية:
ـ حتى انك، عندما تكون معي في الفردوس، ستتذكر كلماتي، في هذا اللقاء، وفي قناتكم الكريمة هذه!
فقالت الحمامة لجارتها:
ـ يبدو إن هذا الداعية، الشديد الورع، فقد بصره، وبصيرته،  ولم يعد يسمع، وليس له قلب، وبلا عقل...، وإلا كيف لم ير حديقتنا، وما جاورها، ولم يشاهد ما حدث للدواب، والبهائم، والأشجار، والحجر، والبشر...، وقد أصبحوا رمادا ً..، وتحولوا إلى نفايات، والى ذرات دخان اختلطت بالغبار!

[6] ممرات
ـ  انظر...، بعد أن سرقوا أموال اليتامى، وبعد أن اغتصبوا حقوق الثكالى، والأرامل..، وبعد أن نهبوا ثروات الضعفاء، وأسرفوا في سفك الدماء، وبعد انتهاك الحرمات، والمحرمات، وشردوا السكان، وهجروا البهائم والطيور والناس...، ها أنت تراهم يبحثون عن ممرات أمنة لهم للدخول إلى الفردوس، وكأنهم أبرياء كما ولدتهم أمهاتهم، وكأن الفردوس اعد للأشرار أيضا ً؟
  رد الآخر وهو مازال يراقب المشهد نفسه:
ـ ولكن الغريب انك لا تسمع إلا استغاثات الضحايا وهم يفتشون ويبحثون عن الممرات ذاتها...، لعلهم يحصلون على موضع قدم لهم!
ـ هذه هي المفارقة، بل هذه هي المحنة..!
ـ لم افهم؟
ـ إن الضحايا لا يستنجدون إلا بطغاتهم وقتلتهم ومن سرق مصائرهم لعلهم يحصلون على ممرات جانبية، حتى لو كانت بسعة ثقب في خرم إبرة؟
ـ لكني أرى غير ذلك!
ـ ماذا ترى؟
ـ لولا هؤلاء الضحايا، لكانت الطرق إلى الفردوس، تسمح لمن هب ودبّ!
6/8/2016


داود اللمبجي ..وسياسيو اليوم . راضي العراقي

6 hrs · 
داود اللمبجي ..وسياسيو اليوم ..
داود اللمبچي كان اشهر گواد معروف ببغداد خلال الربع الاول من القرن الماضي .. لكن داود اللمبجي أشرف مليون مرة من كواويد السياسة في الربع الاول من القرن الحالي .. تدرون ليش ؟ لان داود اللمبجي كان عنده مهنتين ياكل من وراهن خبزته ( بشرف ) .. وللاسف اضطريت اخلي كلمة بشرف بين قوسين .. وراح تعرفون السبب .. المهنة الاولى لداود والي اخذ منها لقبه ( اللمبجي ) هي انه كان يشعل الفوانيس المنتشرة بأزقة بغداد قبل ما تدخل الكهرباء .. وكان مهمته انه يشيل درج وي
اه و يفتر على هذي الفوانيس ويمليها بالنفط وينور الشوارع بالليل .. المهنة الثانية كانت ( الكوادة ) وكان يسكن كما يقال بمنطقة الميدان او الصابونجية .. وعدما نقارن بين داود اللمبجي وبين اهل السياسة اليوم راح تكون الكفة لصالح داود وبجدارة .. فداود كان ينور ازقة المدينة بأمكانياته المتواضعة .. درج .. ووصلة قماش ينظف بيها زجاج الفوانيس .. وتنكة نفط .. يملي منها هذي الفوانيس .. بينما حكومتنا الساقطة وخلال ثلاثة عشر سنة شوفتنا الويل .. ثلاثة عشر سنة صرفت خلالها سبعة واربعين مليار دولار ومع ذلك مازلت الكهرباء في اسوء حالاتها .. معاناة المواطن العراقي اليوم بسبب الكهرباء تقترب من المأساة ..خاصة مع الارتفاع الفضيع في درجة الحرارة .. اني شخصيا اعيش فعلاً وضع مأساوي فمولدة السحب عاطلة من اسبوع والكهرباء الوطنية ماتجي الا كل اربع ساعات . ساعة وحدة .. بحيث اضطريت اشتري مولدة زغيرة حتى نكدر نقاوم جحيم الصيف القاتل ... على العموم .. نرجع لداود اللمبجي الي كان يمارس مهنة اخرى مثل ما كلنا وهي مهنة الكوادة .. وهذي ايضاً اذا ما قارناها بمهنة سياسينا الحاليين .. راح تكون الكفة بصالح دواود اللمبجي لان الرجل كان يمارس الكوادة على المكشوف ونكدر نكول كان يعمل بمهنية بدون ان يسرق احد او ينصب على احد .. ولهذا كتبت كلمة بشرف بين قوسين في بداية كلامي .. اما سياسينا اليوم فسرقاتهم وفسادهم يتم على حساب الوطن والمواطن المسكين .. حتى ان العراق وصل بسببهم الى اعلى مستويات الفساد على مستوى العالم .. لهذا اگول ان داود اللمبجي اشرف مليون مرة من هذي الزمرة الفاسدة الي تسلطت على حاضر ومستقبل هذا الوطن ..
الي ذكرني بداود اللمبجي هو احد الاصدقاء الي بعثلي اغنية قديمة لمطرب المقام الراحل يوسف عمر .. أغنية اسمها ( مات اللمبچي .. داود وعلومة ) وهذي الاغنية من كلمات امير الشعر الشعبي العراقي ملا عبود الكرخي الي نظمها عدما شاف جنازة داود اللمبجي طالعة من الميدان ووراها مجموعة من ( البغايا ) الي كانن تحت قيادة داود اللمبجي ..فكال :
مات اللمبجي... داود وعلومه 
كومو اليوم .... دنعزّي فطومه..
مات اللمبجي .. داودويهوٓة 
ويهوة عليكم .. يهل المروة 
الى اخر القصيدة الي تحمل في بعض مفرداتها كلمات خادشة للحياء .. 
وفطومة الي يريد الملا عبود الكرخي ان يعزيها هي زوجته .. والي يريد يسمع الاغنية كاملة وبصوت يوسف عمر .. اكيد راح يلگاها على اليوتيوب ..
بقى .. ان نذكر مرة ثانية ان العراق ابتلى بكواويد وترسيه من طراز خاص .. طبقة من السراق والحرامية وعديمي الانتماء للوطن .. ماعدهم هم الا السرقات وتخريب الوطن ... ولهذا اكول وبكل ثقة يروحون فدوة الف مرة لداود اللمبجي ...
تحياتي للجميع .
الصورة للشاعر الملا عبود الكرخي