الخميس، 16 يونيو 2016

فرانسس بيكون عام 1977- ترجمة عبد الرحمن طهمازي وغسان فهمي







 
بيكون: معاناة الناس والفروق بينهم هي التي صنعت الفن العظيم وليست المساواتية


صفحة من الدليل
 
من أعماله
 
من أعماله
 
من أعماله
 
غلاف الكتالوغ
 
من أعماله
 
من أعماله

فرانسس بيكون عام 1977
 ترجمة عبد الرحمن طهمازي وغسان فهمي


 في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، افتتح أكبر معرض للفنان البريطاني الراحل فرانسيس بيكون (1901- 1992)، في سيدني عاصمة استراليا، تحت عنوان "فرانسيس بيكون خمسة عقود".  وقد احتوى أضخم مجموعة من أعماله (لوحات، تخطيطات، صور فوتغرافية، دفاتر، سكيتشات... الخ). وسترافق المعرض محاضرات عديدة تتناول أعماله نقدا وتحليلا، ومناقشات بين الزائرين والمحاضرين، كما ستعرض أفلام وثائقية تتناول حياته ومقابلات معه، وقطع موسيقية مستوحاة من اعماله. عقود خمسة تتجاذبها نزوات بيكون نفسه من علاقات مِثلية وسهرات خمر وصداقات مع كبار مثقفي عصره. لقد زار باريس عام 1927، ورأى معرض بيكاسو، فقرر ان يكون رساما: "بيكاسو كان هو السبب لماذا أرسم، إنه صورة الأب الذي أعطاني رغبة في الرسم".
وبمناسبة هذا المعرض، ننشر ترجمة لحوار أجراه معه الناقد ديفيد سيلفستر في أيلول عام 1974. ونشره مع ثلاثة حوارات أخرى في كتاب. وقد قام بترجمة الحوار الزميل الشاعر عبدالرحمن طهمازي وغسان فهمي:
ديفيد سلفستر- وجدت عددا من الرسوم التي عملتها في السنوات الثلاثة او الاربعة الاخيرة –خصوصا رسوم العارية – تذكرني بانه لفترة من الزمن كنت تتحدث عن الرغبة في عمل منحوت. هل انت تعتقد ان التفكير حول عمل منحوت له اي تأثير على الطريقة التي كنت ترسم بها؟
فرانسس بيكون- نعم. ارى انه ممكن تماما. لانه ولسنوات عديدة أفكر الآن كثيرا جدا حول المنحوت. بالرغم من انني لم اعمله حتى الان. لانه كلما اريد العمل اشعر انني قد استطيعه افضل في الرسم لكن قررت الان وضع سلسلة من الرسوم للمنحوتات في ذهني ورؤية كيفية الانجاز رسما وعند ذاك قد ابدا حقا على المنحوت.
- هل تستطيع إعطاء اي نوع من الوصف للمنحوتات التي فكرت في عملها؟.
- لقد فكرت بمنحوتات على نوع من الهيكل، هيكل كبير جدا مصنوع بحيث يمكن للمنحوت ان ينزلق عليه. ويمكن للناس حتى تغيير وضع المنحوت كما يريدون. لن يكون الهيكل باهمية الصورة لكنه سيوجَد للابراز، كما استعملت في الرسوم غالبا هيكلا لابرز الصورة. شعرت انني قد استطيع عمله في المنحوت اكثر حدة.
- هل تستطيع اعطاء اي نوع من الوصف للمنحوتات التي فكرت في عملها؟.
- لقد فكرت بمنحوتات على نوع من الهيكل، هيكل كبير جدا مصنوع بحيث يمكن للمنحوت ان ينزلق عليه. ويمكن للناس حتى تغيير وضع المنحوت كما يريدون. لن يكون الهيكل باهمية الصورة لكنه سيوجَد للابراز، كما استعملت في الرسوم غالبا هيكلا لابرز الصورة. شعرت انني قد استطيع عمله في المنحوت اكثر حدة.
- هل سيكون الهيكل شيئا مثل انواع السكة التي استعملتها احيانا في الرسوم – مثلا ذلك الذكر العاري المنحني عام 1952 او اللوحة التي عملت عام 1965 بامرأة وطفل اخذا من مايبرج Muybridge؟
- نعم لقد فكرت في السكة بفولاذ مصقول بعناية كبيرة وانه كان بالامكان ثقبه بحيث يمكن تثبيت الصورة بالبرغي في مكان ما في مواضع مختلفة.
- هل تصورت الوان وانسجة الصورة؟
- كان علي التحدث الى شخص ما فهم النحت اكثر مني تكنيكيا. لكن انا نفسي فكرت بانه يجب الصب ببرونز رقيق جدا – لا بنوع خاص من اللدائن لانني كنت اريده يمتلك وزن البرونز. وكنت اريد ان ارمي عليه طبقة من ماء الكلس بلون الجسد، بذلك سيبدو وكانه مغمور في ماء الكلس العادي، مع نوع من نسيج الرمل والكلس الذي حزته. سيكون عندك بذلك شعور ذلك الجسد وهذا الفولاذ المصقول جدا.
- واي نوع من المقياس كما رايت سيمتلك؟
- لقد رايت الهيكل كفضاء واسع جدا، مثل شارع، والصور صغيرة نسبيا في علاقتها بالفضاء. ستكون الصور رموزا عارية. لكن ليست عارية حرفيا. لقد رايتها كصور شكلية جدا لرموز في وضعيات مختلفة، اما منفردة او مزدوجة. لو كنت ساعملها ساحاول اولا عملها بالتاكيد في رسم. وامل انني ساكون قادرا على عملها في منحوت اذا انجزت على الاطلاق في الرسوم. قد اعملها على الجانب الخلفي من القماشة مما قد يعطي نوعا من الوهم عن كيفية ظهورها لو تركت في الفضاء.

- طبعا " ثلاث دراسات لرموز عند قاعدة الصلب " عام 1944 هي اشكال لدنة واضحة المعالم يمكن نسخها تقريبا في منحوته..
-  حسنا، لقد فكرت بها مثل يومنيد Eumenids (الصافحات حسب تراجيديا اسخيلوس.) رايت الصَلب بكامله في الوقت نفسه. حيث يمكن لهذه ان تكون هناك بدلا من الرموز الاعتيادية على قاعدة الصليب. كنت عازما على وضعها فوق هيكل حول الصليب الذي كان نفسه سيرفَع، والصورة كانت ستكون على الصليب في المركز وتلك الاشياء كانت ستكون مرتبة من حولها. لكني لم افعل ذلك اطلاقا. لقد تركتها كمحاولات فقط.
-هناك رسم حديث جدا يرمز لرجل جالس في غرفة مواجها النافذة وخارج النافذة نوع من الرمز الشبحي والذي هو مرة اخرى، انت الذي قلت، تمثيل لليومنيدز لعام 1944، لكن رمز الرجل في هذا الرمز، او الرمز المنحني مع النافذة المغلقة في الخلفية الذي رسم قبل ثلاث سنوات قد صدمني كطريقة مثالية حيث تميل الرموز لان تكون منحوتة. انها الان اكثر تعقيدا، فعندما تخلق الان شكلا نحتيا محددا، فهو مؤهل خلال ظلال الصبغ لخلق اقتراحات عديدة والتباسات. لتلك الرموز، رغم ذلك، لدائنية مشددة جدا.
- حسنا اود الان ـ من خلال التفكير حول المنحوتة ـ اود محاولة عمل المنحوتة بشكل منفصل لجعل الرسم نفسه نحتيا اكثر بكثير. اني ارى فعلا في تلك الصور الطريقة التي يمكن ان ترسم بها الفم، العينين، الاذنين بحيث تكون موجودة بطريقة لا عقلانية لكني لم اتوصل حتى الان لرؤية كبف يمكن عملها في منحوتة. قد استطيع التوصل اليها. انا ارى فعلا طوال الوقت صورا تستمر في النمو وهي شكلية اكثر وتستند على الجسم الانساني اكثر فاكثر. بالرغم من انها اخذت على حد ابعد من ان تكون تماثيل.. اود صنع البورتريت اكثر نحتية لانني ارى امكانية عمل شيئين عظيمين من شئ : صورة عظيمة وبورتريت عظيم.
-من المثير للاهتمام جدا انك تقرن فكرة الصورة العظيمة بالمنحوته قد يعود هذا الى حبك للنحت المصري؟
- حسن، هذا ممكن، اعتقد انه ربما كانت اعظم الصور التي يمتلكها الانسان حتى الان هي من النحت، افكر ببعض النحت المصري العظيم طبعا، كذلك النحت اليوناني. مثلا رخامات الجين Elgin Marbles في المتحف البريطاني مهمة جدا بالنسبة لي دائما. لا ادري فيما اذا كانت مهمة لانها شظايا. ولا فيما اذا شاهد امرؤ ما الصورة الكاملة اكثر حدة كشظايا. وكنت افكر دائما بمايكل انجلو: انه مهم بعمق دائما في طريقتي بالتفكير في الشكل. ومع ان عندي هذا الاكبار العميق لكل اعماله ؛العمل الذي احبه اكثر الكل هو الرسومات. انه واحد من الرسامين العظماء جدا ان لم يكن اعظمهم بالنسبة لي.
- غالبا ما شككت منذ 1950 ان بعض صور مايكل انجلو كانت هناك مع كثير من رموزك العارية، في خلفية ذهنك على الاقل، كنموذج اولي لرمز الذكر. هل ترى الحالة كذلك؟
ف. ب- حقيقة، اختلط مايكل انجلو ومايبرج في ذهني معا. وبذلك ربما تعلمت عن المواضع من مايبرج واتساع وفخامة الشكل من مايكل انجلو، كان من الصعب جدا بالنسبة لي فصل تاثير مايبرج عن تاثير مايكل انجلو. لكن، طبعا، بما ان معظم رموزي اخذت من الذكر العاري، فانا متاكد بانني متاثر بحقيقة ان مايكل انجلو صنع اكثر الذكور العارية شهوانية في الفنون التشكيلية.
- هل ترى صورا لمايكل انجلو معينة متوائمة الاشكال كان لها تاثير على اشكالك المزدوجة؟
- حسنا، تلك اخذت غالبا من مصارعي مايبرج – يبدو بعضها، الا اذا نظرت اليها تحت المايكروسكوب، وكانه في شكل خاص من العناق الجنسي. غالبا في الحقيقة استعملت المصارعين في رسم الرموز المفردة لانني وجدت ان الرمزين المقترنين لهما اثخن ويعطيان انعكاسا للصبغ لا تقوم به فوتوغرافات الرمز المفرد. لكني لا انظر الى فوتوغراف مايبرج للرمز فقط انا انظر طوال الوقت فوتوغرافات مجلات كرة القدم والملاكمين وكل هذه – خصوصا الملاكمين. كذلك انظر الى فوتوغرافات الحيوانات طوال الوقت ولان حركة الحيوان وحركة الانسان مرتبطتان باستمرار في تصويري لحركة الانسان.
- وهل العرايا متعلقة في الوقت نفسه الى حد بعيد بمظهر اناس معينين؟هل هي بروتريتات للاجسام الى حد ما؟
- حسنا، انها شئ معقد، غالبا افكر في اجسام الناس الذين اعرفهم. افكر بمحيطات تلك الاجسام التي اثرت بي بشكل خاص، لكنها مطعمة غالبا في اجسام مايبرج. انا اعلج اجسام مايبرج بالاجسام التي اعرفها. لكن هذا ؛في حالتي طبعا، مع تمزيق الصورة طوال الوقت او التحريف، او اي شئ تطلق عليه؛ هو طريقة موجزة لبلوغ مظهر ذلك الجسم الخاص. والطريقة التي احاول بها ان احدث المظهر تجعل المرء يتساءل طوال الوقت: ما هو المظهر في اية حال كلما عملت اكثر تعمق غموض المظهر بحد ذاته. او كيف يمكن ان يصنع ما يسمى مظهرا في وسط اخر وهو يحتاج الى نوع من لحظة السحر ليتخثر لونا وشكلا. وبذلك يكون الحصول على ما يساوي المظهر. المظهر الذي تراه في اية لحظة لان ما يدعى مظهرا مثبت للحظة واحدة فقط باعتباره ذلك المظهر.
وفي ثانية قد ترمش عيناك او تدير راسك قليلا وتنظر مرة اخرى ويكون المظهر قد تغير. اعني ان المظهر يشبه شيئا عائما باستمرار. وفي النحت قد تكون المشكلة اكثر حدة طبعا لان المادة التي يمكن ان تعمل بها ليست بسيولة الصبغ الزيتي وستضيف صعوبة اخرى. لكن هنا تكون المشكلة المضافة هي ما يجعل الحل شيئا اعمق بسبب صعوبة تنفيذه.
- يبدو لي انه في رسمك قد جوبهت بنوع من الصعوبة الكبيرة والتي قد تتعلق برغبتك بوجوب ان يكون الشكل في الحال دقيقا جدا وغامضا جدا. في تلك الثلاثية لعام 1944 استعملت ارضية ساطعة جافة لاشكال معروضة بدقة عالية وبساطة. اشكال منحوتة بجهد كوجودها، وكان ذلك منسجما كليا. وبعد ذلك اصبح التعامل بالاشكال تصويريا Malerisch (جذابا) وبهذا اصبحت الخلفية اكثر نعومة، اكثر لونا، غالبا ذات ستائر وكل ما هو منسجم بالكامل وبعد ذلك تخلصت من الستائر وصرت تجمع بين تعامل تصويري بالشكل – وبالصبغ يكون مزحوما اكثر فاكثر – مع ارضية صلبة، مستوية وساطعة، وبذلك جاءت قناعتان متضادتان بعنف.
- حسنا، اردت بشكل متزايد عمل الصور اكثر بساطة واكثر تعقيدا. واذا كانت الخلفية موحدة جدا وواضحة لاجل العمل يكون المنجز صارخا ارى من المحتمل ان يكون السبب لاني استعملت خلفية واضحة جدا مقابلها امكانية ان ترتبط الصورة بنفسها.
- لا اعتقد انني افكر باي رسام اخر حاول حل تناقض كهذا بين صورة (ماليرش) وارضية زاهية غير ملتوية.
- حسن. قد يكون ذلك بسبب كرهي للجو المالوف. وانا اشعر دائما ان رسما جذابا (ماليرش) له خلفية مالوفة جدا. كنت احب الفة الصورة مقابل ارضية صارخة جدا. اريد عزل الصورة واخذها بعيدا عن الداخل ومن البيت..
- عودة الى تلك المناقشات الطويلة حول المصادفة او الحادثة، حيث استوقفت خاصة بفكرتين تتكرران. واحدة كرهك للرسوم التي تبدو ما تسميه مصادفية والاخرى هي ايمانك بان الاشياء التي تحدث بالمصادفة مرجحة لان تبدو وبنوع من الحتمية اكثر من الاشياء التي تحدث بالارادة.
- لم يتم التدخل بها. وتبدو اكثر نضارة – ان مفاصل الشكل تحدث بالمصادفة متجلية باكثر عضوية وحتمية اكثر.
- فقدان التدخل، هل ذلك هو المفتاح؟
- نعم. الارادة قد كبتت بالغريزة
- انت تقول ذلك، المرء يسمح للمستويات الاعمق للشخصية ان تتلاقى حين يسمح للمصادفة بالعمل.
- مؤكد اني احاول قول ذلك. كنت احاول القول ايضا بوصولها بشكل محتوم. انها تصل دون تدخل الدماغ بحتمية الصورة. انها تظهر متجلية مباشرة اكثر مما اخترنا ان ندعوه باللاشعور. مع ان دعوة اللاشعور مثبتة حولها والتي هي نضارتها.
- الان، انت تقول غالبا ان الحوادث المثمرة اكثر تميل الى الحدوث في وقت اليأس الاعظم حول كيفية الاستمرار في الرسم. من جانب اخر حين سالتك مرة فيما اذا كان من المحتمل لفعاليات المصادفة ان تعمل جيدا في اثناء عمل الفعاليات الشعورية جيدا؟ قلت بعملها. طبعا تلك الجملة ليست غير متوافقة مع الاخريات، لكن هل تستطيع التوسع؟
- حسنا هناك ايام معينة يبدو العمل متدفقا منك بسهولة حقا حين تبدا به لكن ذلك لا يحدث غالبا ولا يستمر طويلا. لا اعرف هل ضرورة ذلك افضل مما لو يحدث شئ من فشلك وياسك، ارى امكانية ذلك. حين تسير الامور بشكل سيئ ستكون اكثر حرية بالطريقة التي تلطخ – بوضعك فحسب – اللون بها فوق الصور التي كنت تعملها، وانت تعملها بحماسة اعظم مما لو كانت الامور تعمل لحسابك. ولذلك فاني قد ارى الياس اكثر عونا، لانه من خلال الياس قد تجد نفسك عاملا الصورة بطريقة اكثر جذرية باتخاذ مجازفات اعظم.
- لقد اخبرتني ان نصف نشاط رسمك هو بتمزيقك ما قد عملته بسهولة. ماهو الشئ الذي تستطيع عمله بسهولة وتريد تمزيقه؟
- استطيع ان اجلس واعمل ما يسمى البورتريت الحرفي لك بسهولة كبيرة. لذلك فما امزقه طوال الوقت هو هذه الحرفية لانني اجدها غير مثيرة للاهتمام.
- وانا اعتقد بان العلامات المعمولة بالفرشاة يمكن ان تكون ممزقة فقط. كما هي فعاليات مثل رمي الصبغ او وضع الخرقة.
- اوه. بالتاكيد. بكون الصبغ الزيتي سائلا جدا، الصورة تتغير طوال الوقت في اثناء عملك، انت ترى، لا اعتقد ان الناس على العموم يفهمون، في الحقيقة، كم هي المعالجة الفعلية بالصبغ الزيتي غامضة بطريقة ما؟ لانه حتى تحريك الفرشاة بلا شعورية. بهذا الطريق لابذاك، يغير تضمينات الصورة بشكل كامل. لكنك تستطيع مشاهدتها فقط اذا كانت قد حدثت امامك. اعني بأنها الطريقة التي يمكن ان تملا طرف الفرشاة بلون اخر وبضغط الفرشاة مصادفة تترك علامة تعطي صدى للعلامات الاخرى. وهذا يؤدي الى تطوير اكثر للصورة. انه حقا سؤال مستمر للصراع بين المصادفة والنقد. لان ما ادعوه مصادفة قد يعطيك اشارة ما تبدو اكثر حقيقية، اكثر صدقا، للصورة من واحدة اخرى. لكن حسك النقدي فقط هو الذي يستطيع الاختيار، لذلك فان ملكتك النقدية تعمل في الوقت نفسه مثل نوع من المعالجة نصف اللاشعورية. او لا شعورية بشكل عام. اذا كانت تعمل على الاطلاق.
- طبعا، الثقة بالمصادفة يبدو امرا يتخلل كل اسلوب حياتك لشئ واحد. من الواضح جدا في موقفك نحو المال. اول ما عرفتك، لم تكن تحصل على الكثير من المال عن رسم ما، لكن حين ذاك، في اللحظة التي تبيع واحدا كنت تشتري الشامبانيا والكافيار لكل من في المرأى. لم تكن توفر اطلاقا. كنت تبدو دائما متحررا من التدبير.
ف. ب- حسنا، ذلك بسبب شرهي. انا شره للحياة. انا شره كفنان. انا شره لامل من الممكن ان تعطيه المصادفة لي بعيدا عن اي امر يمكن حسابه بمنطقية، وشرهي هو الذي جعلني جزئيا اعيش بالمصادفة – شره للاكل، للشرب لكوني مع الناس الذين احبهم لاثارة الاشياء التي تحدث لهذا فان الشئ نفسه ينطبق على عملي وانا مع ذلك انظر الى كلا الاتجاهين حينما اعبر الطريق. لانه بسبب الطمع بالحياة لا العبها بالطريقة التي اريد ابها ان اُقتَل ايضا. كما يفعل بعض الناس لان الحياة قصيرة جدا ومادمت استطيع التحرك والرؤية والشعور فانا اريد استمرار الحياة.
- تذوقك للروليت كما كان، يمتد الى الروليت الروسية.
 - لا. لانه لكي اعمل ما اريد سيعني العيش اذا كان ممكنا في حين انه في احد الايام كان احدهم يحدثني عن دي ستيل De stael كانت الروليت الروسية هوسَهُ. وانه في الغالب كان سيسوق حول الكورنيش ليلا بسرعة هائلة في الاتجاه المعاكس من الطريق. متعمدا رؤية فيما اذا كان يمكنه تفادي الامر او عدم تفاديه. اعرف فعلا كيف كان من المفروض ان يموت انه انتحر بدافع الياس. لكن بالنسبة لي فان الروليت الروسية ستكون تافهة. كذلك ما حزت على ذلك النوع الذي يسمى شجاعة. انا متاكد من الخطر البدني حقا يمكن ان يكون مبهجا جدا لكني اعتقد اني جبان بحيث اراوده عن نفسي وكذلك بما انني اريد الاستمرار في العيش، بما انني اريد ان اجعل عملي افضل من خلال الغرور، تستطيع القول، يجب علي ان اعيش يجب علي ان ابقى موجودا.
- حين لم يكن لديك اموال كثيرة كنت تصرفها كما كنت تفعل هل تركت قط معوزا لمدة من الوقت؟ ام كان شئ ما ياتي دائما للانقاذ؟
- حسنا غالبا عالجت الاشياء بحيث تاتي لانقاذي. اعتقد انني من اولئك الناس الذين لديهم موهبة التحصيل دائما بطريقة ما. حتى اذا كانت قضية سرقة او شيئا يشبه ذلك، لم اشعر ضدها باي شئ اخلاقي. افترض انه موقف اناني بدرجة كبيرة. سيكون مزعجا ان يقبض عليك وان توضع في السجن لكن لم يكن لدي اي شعور عن السرقة. بما انني احصل الان على مال سيكون نوعا من الترف الفارغ ان تذهب وتسرق، لكن حين لا املك اي مال ارى انني اعتدت غالبا اخذ ما استطيع الحصول عليه.
- لدي انطباع بان اتباع النزوات والقبول بالنتائج واهمال الامان هي ليست فقط الطريقة التي تتعرف بها بنفسك. انها كذلك التحامل الذي يحكم وجهة نظرك للمجتمع. اعني انك تتحدث كما لو ان مفهوم دولة الرفاهية مع ضماناتها لانواع خاصة من الامان تبدو لك نوعا من التحريف للحياة.
- حسن، انا ارى ان الرعاية من الدولة من المهد الى القبر ستجلب رتابة كبيرة للحياة لكن قد يكون في قول ذلك علاقة بما لم امتلكه قط من اخلاقية الفقر. ولذلك لا استطيع التفكير باي شي اكثر ساما من ان كل شئ سيُعنى به لاجلك من ولادتك الى موتك. لكن يبدو ان الناس يتوقعون ذلك ويرون انه حقهم. انا اعتقد انه اذا كان للناس ذلك الموقف من الحياة فسوف يقلص الغريزة الخلاقة. اؤمن بذلك، انا لا استطيع اثباته قد يكون ذلك صعبا لفهم السبب. لكني لا اومن ابدا ان احدا يجب ان يمتلك اي ضمان ولن اقبل ابدا الاحتفاظ به.
- انت تشعر انه كذلك كما قلت نوع من تحريف الحياة واحتمالاته ان الناس يجب ان يبحثوا عن الطمانينة.
- حسنا انه على الضد من اليأس من الحياة واليأس من الوجود على كل بما ان الوجود، بطريقة ما، عادي جدا قد تحاول ايضا وتضع نوعا من الفخامة له بدلا من ان يُرعَى لاجل السلوان.
- من الواضح ان السياسة بشكل اساس هي حول النزاع بين الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. ومن الواضح انك تفكر بان الحرية الفردية هي امر اكثر اهمية بكثير من العدالة الاجتماعية. الا تكون منزعجا حين ترى الظلم الاجتماعي؟
- انا اعتقد انها بنية الحياة. اعرف انك تستطيع القول ان الحياة كلها مصطنعة بشكل كامل لكني ارى ان ما يسمى العدالة الاجتماعية يجعلها مصطنعة بتفاهة.
- وانت لست منزعجا بانواع المعاناة التي يتحملها بعض الناس نتيجة للظلم الاجتماعي؟
- لا حين تقول انها لا تزعجني وانا شاعر جدا بهم بطريقة ما. لكني اعتقد بما انني اعيش في بلد فيه كمية معينة من الثروة، من الصعب التكلم عن بلد يوجد دائما فيه الفقر المفرط. وانه من الممكن جدا مساعدة الناس في البلدان مفرطة الفقر لان يبقوا في مستوى يمكن لهم فيه ان يتخلصوا من جوعهم وياسهم العام. لكني لست قلقا بحقيقة معاناة الناس لاني ارى ان معاناة الناس والفروق بين الناس هي التي صنعت الفن العظيم وليست المساواتية.
- انت تقول اذن ان الامر الذي بواسطته يحكم على المجتمع هو: امكانيته لخلق فن عظيم بدلا من شئ مثل السعادة العظمى لاكبر عدد.
- من يتذكر او يهتم بمجتمع سعيد؟ بعد مئات السنين او نحو ذلك كل ما يفكرون حوله هو ما تركه المجتمع. افترض انه من الممكن لمجتمع ان ينهض وهو كامل الى درجة كبيرة بحيث انه سيذكر بسبب كمال نوعيته. لكن ذلك لم ينهض حتى الان. ولذلك فالمرء يتذكر مجتمعا لما قدمه من انجازات.


الأربعاء، 15 يونيو 2016

ابن رشد.. بين مِحنَةُ الوَعْي.. ووَعْيُ المِحنَة-*إبراهيم الملا


ابن رشد.. بين مِحنَةُ الوَعْي.. ووَعْيُ المِحنَة
*إبراهيم الملا



تعتبر المحنة المعرفية والذاتية التي اختبرها المفكر والفيلسوف ابن رشد في أندلس القرن الثاني العشر، مثالاً ساطعاً لما يعانيه الفكر النقدي العربي اليوم من تضييق ومحاصرة وتهميش، خصوصا مع امتلاك فقهاء التفسيق والتبديع والتكفير لسلطة كهنوتية واسعة، وذائبة في ذات الوقت وسط منظومة من التأثيرات الدينية والعقائدية الضاغطة على الوعي الجمعي، والمنتشرة في مجتمعات عربية وإسلامية حائرة في تفسيرها للحداثة، ومنجذبة بقوة أيضا لمخيلتها الماضوية.

سعى ابن رشد في مشروعه التنويري إلى التوفيق بين الحكمة والشريعة، أو بين العقل والدين، من خلال وضع أطر ومفاهيم واضحة ومحددة تفصل الظاهر عن الباطن في مستويات المعرفة والتعاطي مع مفهوم الشريعة، فظاهر الشريعة، كما يراه ابن رشد متاح للعامة وللجمهور، أما باطنها فهو حكر على النخبة من الراسخين في العلم، والقادرين على تأويل النص المقدّس.



وعندما قدم ابن رشد شروحاته الوافية لآراء «أرسطو» سعيا منه للتقريب بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والنقل، وعندما صرّح بمذهبه المبني على التنوير العقلي، حاربه المتنفذون من فقهاء عصره، ووجدوا في مقارباته تهديدا لمكانتهم بين العامة ولنفوذهم في البلاط، فأصدروا فتاويهم الظالمة، وأوغروا الصدور الغافلة، وفصّلوا ضدّه التهم الباطلة، فصار عند الناس من المبتدعة الضالين والكفرة، وأحرقت معظم مؤلفاته التي وصلت إلى حدود 50 مؤلفا، وتم نفيه إلى مراكش كي يموت حبيسا في داره في العام 1198 م.
ولد أبو الوليد بن أحمد بن رشد في مدينة قرطبة (1126 م) وسط أسرة أندلسية اشتهرت بالعلم والفقه، وكان جده قاضي الجماعة وإمام مسجد قرطبة، مالكي المذهب، أشعري العقيدة، ومن كبار مستشاري أمراء المرابطين، وحفظ ابن رشد كتاب الموطأ للإمام مالك ودرسه على يد والده الفقيه أبي القاسم، كما درس علوم الطبيعة والطب والفلك، أما اهتماماته المكثفة بالفلسفة اليونانية، وردوده على أبي حامد الغزالي، فكانت بمثابة الانعطافة الجوهرية، والنقطة المفصلية التي أدت إلى شهرته وذيوع اسمه بين الأوساط العلمية والفلسفية في أوروبا القرون الوسطى، حيث زاوج ابن رشد في بحوثه ودراساته تلك بين الفكر الإغريقي والفكر الإسلامي، فظهر فلاسفة كثيرون في أوروبا تتلمذوا عليه من خلال ترجمة تراثه المعرفي. ويرى الكثير من المؤرخين الأجانب أن العرب أهملوا العلوم العقلية بعد وفاة ابن رشد، وكان ذلك من بين العوامل التي أدت إلى انحطاط الحضارة العربية الإسلامية، منذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي وحتى أفول الخلافة العثمانية وسيطرة الاستعمار الغربي على الحواضر العربية المنهكة فكرياً وسياسياً واقتصادياً.

برهن ابن رشد على‏‭ ‬أن ‬الوحي ‬والعقل ‬لا ‬يتعارضان. ‬وحاول ‬النهوض ‬بالعقل ‬المسلم ‬وتجديده. ‬ووضع‭ ‬خطة ‬لتربية ‬الناشئة ‬تربية ‬عقلية ‬مؤسسة ‬على ‬الإسلام، ‬تحقق ‬معرفة ‬بشرية‭ ‬طبيعية ‬تمكن ‬من ‬فهم ‬قوانين ‬الطبيعة ‬والاقتراب ‬من ‬قوانين ‬الوجود، ‬تحترم‭ ‬العقل ‬وتقدره ‬وتراعي ‬القواعد ‬الشرعية ‬في ‬التفكير ‬والحكم.

يقول ابن رشد في كتابه المشهور (فصل‏‭ ‬المقال ‬في ‬تقرير ‬ما ‬بين ‬الشريعة ‬والحكمة ‬من ‬الاتصال‭»:(‬الشريعة ‬قسمان ‬: ‬ظاهر ‬ومؤوَّل، ‬والظاهر ‬منها ‬هو ‬فرض ‬الجمهور، ‬والمؤوَّل ‬هو ‬فرض‭ ‬العلماء».

مضيفاً: «إن مقصود الشارع هو تعليم العلم الحق والعمل‏‭ ‬الحق. ‬أما ‬العلم ‬الحق ‬فهو ‬الذي ‬ينحصر ‬في ‬معرفة ‬الله ‬تعالى ‬ومعرفة ‬الموجودات‭ ‬على ‬حقيقتها، ‬ومعرفة ‬السعادة ‬والشقاء ‬الأخروي، ‬والعمل ‬الحق ‬هو ‬عمل ‬ما ‬يفيد‭ ‬السعادة ‬ويتجنب ‬ما ‬يفيد ‬الشقاء. ‬وطرق ‬التعليم ‬اثنان، ‬التصور ‬والتصديق.‭ ‬والتصور ‬يكون ‬إما ‬بتصور ‬الشيء ‬نفسه ‬أو ‬مثاله. ‬والتصديق ‬يكون ‬إما ‬بالبرهان‭ ‬أو ‬بالجدل ‬أو ‬بالخطابة»‬.



والناس‏‭ ‬عند ‬ابن ‬رشد ‬يختلفون ‬بطباعهم. ‬لذلك ‬يرى ‬أن ‬الشرع ‬جاء ‬مشتملا ‬على ‬جميع ‬طرق ‬التعليم ‬هذه‭ ‬حتى ‬يجد ‬كل ‬واحد ‬ما ‬يلائم ‬طبعه ‬واستعداده. ‬فمنهم ‬من ‬يصدق ‬بالبرهان ‬ومنهم ‬من‭ ‬يصدق ‬بالجدل ‬ومنهم ‬من ‬يصدق ‬بالأقاويل ‬الخطابية. ‬وهو ‬ما ‬ترشد ‬إليه ‬الآية‭ ‬الكريمة «‬ادع ‬إلى ‬سبيل ‬ربك ‬بالحكمة ‬والموعظة ‬الحسنة، ‬وجادلهم ‬بالتي ‬هي‭ ‬أحسن»‬.
وكان ابن رشد من المنتصرين للرأي القائل بعدم وجوب العلم بباطن‏‭ ‬الشرع ‬لمن ‬ليس ‬من ‬أهل ‬العلم ‬به ‬ولا ‬يقدر ‬على ‬فهمه. ‬وفي ‬ذلك ‬يروى ‬عن ‬الإمام‭ ‬علي ‬بن ‬أبي ‬طالب (‬رضي الله عنه) ‬‬أنه ‬قال: «‬حدثوا ‬الناس ‬بما ‬يعرفون، ‬أتريدون ‬أن ‬يُكذّب‭ ‬الله ‬ورسوله؟».

مشيرا إلى أن من واجب العلماء المربين أن يراعوا قدرات الناس‏‭ ‬بالاقتصار ‬مع ‬العامة ‬على ‬تعريفهم ‬بظاهر ‬الشرع، ‬وعدم ‬تجاوز ‬ذلك ‬إلى ‬التأويل، ‭ ‬وإن ‬كانوا ‬هم ‬في ‬خاصة ‬أنفسهم ‬مطالبين ‬بالبحث ‬عن ‬معناه ‬الباطن ‬لأنهم ‬أهل‭ ‬لذلك ‬قادرون ‬عليه. وخلاف‏‭ ‬هذه ‬الطرق، ‬كما ‬يقول، ‬تؤدي ‬إلى ‬قلة ‬تقوى ‬الناس ‬وإضعاف ‬إيمانهم ‬ونشر ‬البغض ‬والكراهية‭ ‬والنزاعات ‬بينهم ‬وتفريقهم ‬وتمزيق ‬الشرع.
_______
*الاتحاد

الثلاثاء، 14 يونيو 2016

أختام *-عادل كامل





















أختام *


 الختم الثاني

عادل كامل
       


[6] المحدود ممتدا ً

     طالما أدركت ـ بعد تذوق مرارات العمل في الصحافة ـ أنني امشي آليا ضد إرادتي. فقد كانت الأخيرة لا تعمل على استنزاف الجهد ـ والتأمل ـ والشخصية فحسب، بل على دفع الفن باتجاه التداول. إن طبيعة الموجودات، منذ امتلكت الحد الأدنى للتحكم بمصيرها، وجدت أنها في الاشتباك. فالبشر ينقسمون إلى من هم في المقدمة، والى من هم في القاع: النظرية التي تعيد صياغة التقسيم القديم ـ الصياد/ الضحية، بما يناسب من يتحكم بالمصائر، وأنا أحسست، منذ الثالثة من عمري، بذلك الانقسام، ورحت أتتبع مساراته، ومشاهده، ونتائجه. ولست بصدد تفكيك خفايا المجال النفسي لدوافعي ـ هنا ـ بل لمعرفة دوافع من هم في المحيط/ الهامش لا يعملون من اجل استبدال أدوارهم بمن في المقدمة، وإنما لخلق توازنات لا تخلو من عدل، أو في الأقل: ليست جائرة. لكن العالم ـ بعد العصر الصناعي وما بعده ـ استثمر الأقنعة/ الأيديولوجيات، لجعل الاشتباك متواصلا ً. فالبشر لم يخلقوا للرقص، ولا لأداء أدوارهم في الاحتفال الجمالية، ولا للأعياد. فليس لدي ّ ما استند إليه عدا الأعداد الهائلة من الضحايا: في تدمير البيئة، والعناصر البكر، واستهلاكها حد الإيذاء ـ التلوث الشامل ـ، ومعاملة الحيوان بقسوة وجدت مبرراتها بأشكال مختلفة، فضلا ً عما خلفته الحروب من خراب وأخلاقيات قائمة على تعزيز التقسيم القديم. لكن العناصر وباقي الكائنات الحية لم تكف عن تشبثها بوجود اقل قسوة، وشراسة، ودناءة، إلا أنها لم تثمر إلا عن ذهاب القوى نحو غياب تام للشفافية. فالحياة ـ بزيادة السكان، وتراكم الموارد، وأدوات الفتك ـ مكثت تقسم البشر بين من يعمل مع المتحكم فيها، وبين من أصبحوا تابعين، وممحوين. 
     انه مشهد حفر في أسئلة  أجوبتها ـ عند البحث ـ كانت مصدرا ً للمعاقبة، والإيذاء. فالسؤال، لماذا الفن، لم يفض إلى فضاء مغاير، أو ناء ٍ، عن تغذية التقسيم. لأن الفنون الجميلة ـ وضمنا ً الفنون الأخرى/ والفنون الهامشية ـ لم تجد جسورا ً مع من هم بحاجة إلى أساسيات الحياة: الخبز والماء والإضاءة والقليل من الهواء غير الملوث.
     على أنني عقدت ثقة ليست عمياء تماما ً مع إرادتي في الانحياز إلى الفن. فثمة ظلمات لم أكن لأدرك كم هي بلا حافات لولا هذا القليل من الإنارة ـ وهذا القليل من الومضات. لكن القلب، هو الآخر، لا يعمل إلا كعمل مجرة بين المجرات! فهو لا ينبض بسبب أوامر يصدرها العقل، مع ان اللاوعي يسمح للوعي بمجاورة الضوء، والتدشينات السحرية. بمعنى اقل إحباطا ً للمغامرة فان القلب ـ بصفته مجرة وليس نجما ً أو كوكبا ً ـ  يوازن بين برمجته نحو موته بغواية العثور على خلاص غير مزيف تماما ً. فانا لا اعمل وكأن كل جزء من الثانية ـ حد عمل قوى اللا مرئيات ـ برمج آليا ً في (الماكينة التي تخيلها ديكارت) وفي الوقت نفسه، فان تفنيد المصادفة/ المصادفات، لن يفند ظاهرة الاضطراب ـ ومبدأ: اللا متوقع ـ واللامعقول في الأخير. فالأشياء بوجودها ليست بحاجة إلى برهان ـ لأنها وجدت تلقائيا ً، أو خرجت من العدم ـ مادامت أفكر بأدوات، هي، غالبا ً، من أسهمت بصياغة هذه التصورات. فانا  كمحدود أدركت ـ وهو مثال يقارن  بحدود وعي الآخرين ـ  ان اللامحدود الذي شغلني/ وشغلنا، لا يمتلك إلا ان يكون بحدود ما أنتجه المحدود، مع ان اللامحدود سيبقى ـ كالعدم أو كالأثير عند قدماء الحكماء ـ قائما ً ولا يمكن تفنيده. إلا أنني سأزداد شكا ً في تصوراتي، ولن استعين بها إلا نتيجة حتمية لاشتباكي مع المستحيلات؛ مع الزمن، ومع ديمومة التقسيم بين من اخترع التصورات وآخر لا يمتلك إلا ان يتدرب عليها، ويفندها، حيث العدالة ـ منذ أيوب السومري ـ لم يفلح إلا قلة ـ حد الندرة ـ من تخيل حتمية وجودها، كوجود العدم تماما ً. لقد كان عقلي احد أسباب انحيازي لرهافة طالما وجدتها في ما لا يحصى من المشاهد، ان كانت بالغة الدقة، أو باتساع المديات ما بين اللاحافات. ولكن قد تكون الرهافة ـ هنا ـ المصدر الأول، وليس الآخر الذي حدد عملها ـ هو السبب المباشر لها! لكني سأدرك ـ بالوعي وبالرهافة ـ ان احدهما لا يمكن فصله عن الآخر. فمن سوى العدم يستحيل ان يكون للوجود هذا التتابع، المحكم، حد ان اللا متوقع ـ والمصادفات ضمنا ً ـ مظهرا ً من مظاهره ـ وبرهانا ً على وجوده. لكن أي لغز سيحدد ماهية أو آلية عمل تلك القوة الداخلية ـ التي تبدو غير قابلة للدحض ـ في مواجهة استعادة العدم لموجوداته!
[7] اللا حافات ـ أو المشفر

     أيا ً كانت النتائج: كل ما لم ْ ير عبر الحواس، أو عبر الحدس، أو عبر العقل، إن كان العدم الممتد ـ  غير المدرك ـ أو الذي سينتج حلقة ما في التحولات، فان إرادة حياة الفرد لا يمكن عزلها عن مكوناتها ـ وتتابع أزماتها ـ كي ترتقي إلى الأفعال الخالصة. فالنسبية تعني أني مقيد بما امتلك، وليس بما أتخيل، أو افترض. لأن التصورات ليست مستقلة في ذاتها أو تعمل بمعزل عن مكوناتها.
     أتذكر ـ هنا ـ أنني سألت زميلة لي في العمل حول سبب عدم نشرها مخطوطات كان والدها قد أنجزها ولم ينشرها، فقالت بصيغة سؤال: وماذا تنفعه إن لم تخلصه من الآثام؟ فسألتها: وما ـ بتصورك ـ فيها من آثام؟ فقالت:  إن نصوصه الشعرية تتحدث عن مفاتن الحياة وغوايتها! هذا الحوار سمح لي أن استبعد نظام الذهاب إلى اللا عمل والوصول درجة الاتحاد بالكل، إنما ـ بعد أيام ـ سألتها: وما نفع كل ما تنجزه المخلوقات الزائلة للذي لا يزول؟  لم تبلغ في ردها ما كنت آمل أن تجمّد في ّ جذوة الشرود. لقد تحدثت عن الفضائل وما ينفع الناس. جيد. قلت لها: ربما في قصائده السر ذاته الذي لا يوجد إلا في الكلمات، أو عبر مشفراتها. السر الذي يتوارى في الأنظمة المشفرة للهندسات الجينية، بل الذي قد يكون سكن تصوراتنا ووعينا وحدوسنا التي تمتلك صدمات اللا متوقع، واللامعقول، لكن التي لها لغز هذا الذي يأتي من المجهول ليذهب ابعد منه! فقالت: أنا لا افهم هذا الكلام!
     مع زميلتي المشفرة بدفاعاتها، استعدت حوارات لي مع الأستاذ مدني صالح ـ أستاذي وصديقي حتى رحيله ـ فلم يصدمني صالح بنبوغه وعبثه ووعيه الشعري كما صدمني وهو يتحدث عن عدم اكتراثي للغرائب، بل ولا للصدمات!
     قلت لها: وهل يكترث المطلق ـ اللامحدود ـ  لنا، ولشطحاتنا، ولظلالنا المائلة، ولعثراتنا...وماذا لو اكترث، وجرت معاقبتنا ـ بعد موتنا أو في حياتنا ـ إن لم تكن غاية لها ذروتها بما تمتلكه من حكمة! وأضفت: لكني أرى أن انشغال بعضنا بما يبدو فائضا ً، أو له معناه المغاير لانشغالات البشر بحياتهم اليومية، كالبحث أو الذهاب إلى المناطق النائية، لم يولد قسرا ً أو يولد من الفراغ. هل دار بخلدك أن يوما ما سيأتي يتمكن فيه الناس من استعادة ما حدث في أي زمن ـ وفي أي مكان، للتعرف على قانون: لا عبث ولا مصادفات في الديمومة، لا التي تعرفنا عليها ولا التي مكثت مقيدة بقيودها، إنما التي تجعل المعارف ـ كافة ـ مع قليل من الفضائل، لا يمكن عزلها عن نسبية أحكامنا، وأفكارنا. فاللامحدود يتسلل عبر نظامه كي يكتشف المحدود لهفته في المغادرة، لكن للامساك بما اعتقد فيه، أو تصوّره، بل للذي سيبقى ابعد من تحديد موقعه الذي استحال إلى قيود عند البعض، والى سكن في اللا حافات عند البعض الآخر!



تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


الخميس، 9 يونيو 2016

قصة قصيرة الذئب فائضا ً-عادل كامل

قصة قصيرة

الذئب  فائضا ً


عادل كامل
     أفاق عند ضفة البركة، فوجدها كدرة، متموجة، فلم يفلح في معرفة من يكون. لم ير ملامح وجهه، فعاد يسأل نفسه اذا لم يكن يعرف من يكون، فما الذي  كان عليه...، وما الذي سيكون عليه، لو مكث يجهل أكان هو الذي يحاور نفسه أم نفسه هي التي تحاوره، أم لا احد منهما يحاور الآخر، وإنما هذا هو تحديدا ً ما يستحق المعرفة.
    لم يقدر على استدراج طرفة خطرت بباله، حول الحمل الذي فلت من أنياب الأسد وقد استحال إلى فأر، وراح يهتف: ما أحلى النصر، ما أجمله...، كما فشل في استذكار حادث مؤلم للحمل ذاته وقد اسر أسدا ً وراح يبول عليه...، فوجد انه لا يتذكر شيئا ً مسليا ً ولا شيئا ً كدرا ً بعد ان أحس انه أصبح فائضا ً عن نفسه، ونفسه أصبحت غريبة عليه.
   فانا ـ دار بخلده ـ لا اقدر على الضحك، ولا على البكاء، ولا على فتح فمي. فترك رأسه يستدرج جسده للزحف باتجاه صخرة شعر إنها ليست غريبة عن بصره...، وما ان لمسها حتى أدرك إنها ليست نباتا ً شوكيا ً، ولا قنفذا ً، وإنها ليست شبحا ً تحول إلى تمثال، فترك رأسه يستقر فوقها، للحظات، ولم يبتعد عنها إلا عندما اختلطت عليه الصوّر بالأصوات فخاف منها مبتعدا ً ليقف في العراء.
    متى خرجت من القفص، والى أين ذهبت، ماذا جرى لي كي استيقظ واجد نفسي أمام ضفة البركة تحت سماء رمادية، ولا اعرف من أنا، متابعا ً يسأل نفسه، كأن احدهم كان يتسلى بي، أو كأنه كان يحاول استنطاقي، فقلت: أنا لا امتلك إلا ان ألبي لك ما تريد، فليس لدي ّ ما اخسره، وليس لديك ما تربحه مني!  لا...، لا، لا ...، أنا لا أتذكر إنني فتحت فمي، وأضاف بشرود، وأنا لم أغلقه أيضا ً.
     لمحه غزال جاء إلى البركة، عند الفجر، فاقترب الغزال منه وسأله:
ـ ما الذي حل بك، يا سيدي، ماذا حصل لك...؟
انتبه إلى الصوت، فهز رأسه:
ـ أتتكلم معي...؟
فقال الغزال:
ـ لا احد غيرك يوجد هنا في هذا الركن من الحديقة.
   اقترب من الغزال ببطء شديد، وسأله:
ـ من أنا..؟
فز الغزال، وكاد يضحك:
ـ آ ....، لو كنت استطيع ان اعرف فهل تراني فكرت ان أسألك ما الذي جرى لك ..؟
ـ آ ....، إذا ً جرى لي  ...، ما لا استطيع معرفته.
ابتسم الغزال بشرود:
ـ إذا كنت أنت لا تعرف ماذا جرى لك، فهل تعتقد إنني اعرف ما لا تعرفه؟
ـ صحيح، أنت على حق!
     وعاد لا يرى أحدا ً سوى غمامة رمادية تلاشت أمامه مندمجة بمساحة لا يعرف أكانت تقترب منه أم كانت تبتعد عنه.
    سمع صوت طائر فلم يميزه ...، اقتربت حمامة، وحطت بجواره:
ـ من أنت...؟
ـ غريب...، قبل قليل سمعت من يسألني السؤال نفسه.
ـ إذا ً فأنت لا تعرف ما الذي قادك إلى هذا الوضع.
ـ وضع؟ أنا في وضع...؟
     اقتربت الحمامة كثيرا ً منه، وهمست بصوت مرتبك:
ـ سأستدعي الغراب...، فهو افهم مني، وإذا تطلب الأمر فسأبحث عن البوم، احكم الحكماء، لنجدك ..!
ـ ومن هو الغراب...، ومن هو احكم الحكماء ...، وأنا نفسي لا اعرف ماذا حصل لي...؟
    طارت الحمامة وعادت ومعها الغراب. صدم الأخير وهو يتأمله، فخاطبه:
ـ لا تخف ...، ما عليك إلا ان تخبرنا ماذا حصل لك قبل ان نذهب بك إلى الطبيب..
، هل تعتقد إنني اشعر بالخوف...؟ ما الخوف...، ولماذا ينبغي ان أحس به...؟
ـ حسنا ً..، ألا تشعر بالبرد...؟
ـ ماذا تقصد بالبرد...؟
ـ حسنا ً...، ألا ترغب ان تنام...؟
ـ وهل أنا مستيقظ...؟
ـ ألا ترغب بالراحة..؟
ـ هل أنا متعب....؟
    طار الغراب ليأتي بالسيد البوم. فاقترب الأخير منه، وسأله:
ـ أأنت مريض...؟
فتح فمه بصعوبة:
ـ اخبرني أولا ً من أنا...، لو سمحت..؟
عاد الغراب وسأله:
ـ ألا تشعر بالبرد..؟
ـ ما المقصود بالبرد، كي اشعر به...؟
ـ آ   ...
   أومأ البوم له ان لا يضطرب، وخاطب البوم الغراب والحمامة:
ـ ربما يكون شرب من ماء البركة، أو تنفس هواء ً فاسدا ً، أو أسرف في الطعام...؟
     اقتربت الغزال منهم:
ـ أنا لمحته هكذا لا يعرف من يكون...، حتى انه سألني: من أنت ِ..؟ فاضطربت وفضلت ألا ادخل في هذه المعمعة.
سألها البوم:
ـ أنت ِ إذا ً أول من شاهده عند البركة ..؟
     صدمت، فأجابت مرتبكة:
ـ من الصعب علي ّ الاعتراف بأنني هي أول من رآه، فهناك الطيور...، وهناك البعوض، وهناك تلك الكاميرات اللعينة التي تراقب ذبذبات عقولنا، ونبضات ضمائرنا.....؟
تدخل الغراب:
ـ حقا ً إنها قضية مثيرة للجدل...، فما دام ـ هو ـ لا يعرف من يكون، فهل يحق لنا تحديد هويته، خاصة إنكم تتذكرون الفأر الذي زعم انه تحول إلى نمر، والأرنب الذي استحال إلى تمساح، والقنفذ الذي راح يغرد مثل البلابل!
   رفع الآخر رأسه قليلا ً:
ـ أنا سأخبركم بكل ما اعرفه عن الحظائر، والزرائب، ولن اخفي شيئا ً عما جرى في جناح الخنازير، والقرود، والأفاعي...، حتى إنني أبديت استعدادا ً تاما ً للتعاون معكم من اجل سلامة حديقتنا...، فأين نذهب إذا هدموها علينا، وخربوها، بعد ان طردونا من البراري ...؟!
   شرد ذهن الغراب، يخاطب الحمامة:
ـ إنها الحمى! حمى البعوض، فهي تؤدي إلى التشوش، فتختلط الحواس في عملها، تصبح السماء أرضا ً، والأرض سماء ً...، يصير البغل ضبعا ً، والقط ثورا ً...! آ ...، عندما تنعدم الحواس يفقد العقل توازنه داخل هذا الرأس!
   قال يخاطب الغراب بصوت خفيض:
ـ أرجوك ...،  لا تسلخ الطبقة الأخيرة من لحمي...، كفى حرقا ً حتى الطبقة الرابعة، ودع عظامي آمنة! فلا جدوى فانا أخبرتكم بما جرى في قاع البركة، وفي جناح القمل...!
   همس البوم في آذن الغزال:
ـ هذا هو ما جرى لك ِ ذات مرة...!
   انتفضت مذعورة وهي تبتعد:
ـ لا، لا، لا، لا أنا لم استجوب...، ولم اختطف، ولم أصبح رهينة، ولا احد دفع الفدية، كل ما حدث هو شكوك فندتها في الحال، فالأسد الذي حاول إغوائي، ولا أقول حاول افتراسي، ندم، وتأسف، وأعلن براءته...، وعاد وأكد انه ود لو عملت معه في السيرك، فقلت لسيادته: أنا أفضل ان تفترسني على ان تصنع مني لاعبة على الحبال، فهذا عيب، ومخل بالكرامة..، وتقدمت منه وصرخت: افترسني! لكن سيادته فتح فمه...، كم كان معطرا ً برائحة الورد الميت، وقال لي: ها أنت تثيرين البلبلة...! فهددته إنني سأذهب إلى القائد واعترف بالحقيقة، صعق، وتأسف انه تحرش بأحد أتباع سيدتنا الببغاء!
    ابتعد كثيرا ً، وتبعها البوم، مهرولا ً خلفها، وكلما أسرعت أسرع أيضا ً، حتى وجد الغزال تجلس القرفصاء تولول، فصاحت فيه:
ـ ماذا تريد مني...؟

 اضطرب للحظات، ثم استدرك وسألها:  
ـ من سمح لك بالخروج في هذا الفجر البارد...؟
صاحت:
ـ اقسم لك أنا بريئة...، ولم أكلف بعمل خارج التكليف...، فأنت تعرف إننا نعمل وفق الزمن الخالد، فلا نخلط بين المشاعر والعقل، ولا بين الممكن والمستحيل!
ـ أنا لم انو استجوابك...، فلا تخافي.
ـ ماذا تريد مني أيها الطيف الناعم...، مع انك لا تراني إلا شبحا ً...؟
ـ سلامتك! فقط كنت أريد ان اعرف من رأى بقايا هذا المخلوق ....؟
فقالت حالا ً:
ـ الحمامات، الغربان، البعوض، الأشجار، والأرض أحصت خطاه ...، ومن المؤكد ان الغيوم راقبته وهو يقترب من البركة.....؟
ـ معلومات قيمة، ذات أهمية نادرة ...، ولكن لم  أنت خائفة وترتجفين...، وأنت واحدة منا في هذا الجناح المختلط الكبير...؟
   سأل الغراب الآخر:
ـ هل أفقت....؟
ـ لك الحق ان تقول ما تراه صائبا ً...، فهذه ليست صلاحيتي للبت ما إذا كنت أتجول نائما ً أو إنني غادرت الحلم...؟
ـ إذا كنت لا تساعدني، فكيف استطيع ان أمد لك يد العون...؟
    بصعوبة فتح فمه ونطق:
ـ أنا لم اطلب منك هذه المساعدة..
ـ آ ....، جيد، إذا ً دعنا نقول انك كنت تتنزه...؟
ـ أرجوك...، لا تشوش علي ّ، فانا كدت اعثر على دليل ...، يفضي...إلى... معرفة من أكون...؟
ـ جيد...، جيد.
    عاد البوم ملوحا ً بالعثور على معلومات، فاقترب من الغراب، وهمس في آذنه:
ـ الغزالة ذاتها تعاني من العصاب ذاته، فالأسد كاد يفترسها بحجة إلحاقها بالسيرك!
ـ لا تربكني...، دعني أفكر، فانا أيضا ً كدت اعرف من يكون...، لولا إنهم لم يتركوا له أثرا ً دالا ً عليه.
   فسأل البوم الغراب وهو يراقب شاة كانت تقترب منهم:
ـ تعالي...، تعالي.
   اقتربت:
ـ ماذا تفعلين هنا...، في هذا الفجر...؟
ـ لا اعرف ...،  ربما طلبني السيد الذئب!
ـ أي ذئب؟
   وأضاف البوم يسألها:
ـ أين هو هذا الذئب...؟
  ردت الشاة بصوت متلعثم:
ـ هذا هو سيدي الموقر ذاته الذي ...
     قال الغراب يخاطب نفسه:
ـ الآن بدأنا نمسك بالخيط....!
    سأله البوم:
ـ أي خيط، والذئب استحال إلى نبات!
ـ لا...، لا.
  صاحت الشاة:
ـ انه يكاد يشبه حفيدي!
   صاحت الحمامة وهي تحلق عاليا ً:
ـ لم ننته من أسلافنا بعد، وها هم يتحدثون عن الأحفاد...؟
    تمتم الذئب مع نفسه بصوت خفيض:
ـ ها أنا بدأت اعرف من أكون...!
   لكن الصور اختلط عليه، وتداخلت الأصوات، ولم يعد يرى سوى ومضات مشوشة تقترب منه:
ـ كل ما اعرفه إنني ...، كنت أتجول وحيدا ً....، وحيدا ً...، أو من غير نفسي!
  اقتربت الشاة من الذئب وصاحت تخاطب الغراب:
ـ لا...، أنا لم أر هذا من قبل...، مع إنني كنت رأيت شبيهه، أو ربما طيفه!
قال الذئب:
ـ آ ...، أنا بدأت استعيد ذاكرتي، بل بدأت أفكر!
صاح البوم:
ـ مع ان الغيوم حجبت أشعة الشمس، إلا انك تستطيع الدفاع عن نفسك!
ضحك الغراب:
ـ ما علاقة هذا بتحديد الهوية...؟
قالت الشاة:
ـ اسمحوا لي بتقديم خالص عزائي!
ـ على م َ ...؟
سألها البوم، فأجابت بتردد:
ـ كان علينا ان ننقله إلى الطبيب، بدل إضاعة الوقت.
أجاب الذئب:
ـ أرجوكم ...، اخبروني، هل عرفتم من أنا... ؟
أجاب البوم:
ـ سيساعدنا الطبيب ..فهو المخول الوحيد بالحديث.
   وجد جسده يتمايل، ولا يقو على المشي، فبرك فوق العشب. فاقترب الغراب من البوم:
ـ حماقة ...، ألا تعتقد إننا نغامر بمصائرنا...؟
   أومأ البوم برأسه موافقا ً، وحلق عاليا ً، فتبعه الغراب.
    أفاق مجددا ً، وسأل نفسه:
ـ ما الذي حدث تماما ً...؟
   تقدم من البركة، ومد ساقه متلمسا ً الماء، كان باردا ً جدا ً:
ـ ربما كنت خرجت من البركة...؟!
   لم يستمع إلى الرد، بل إلى صدى فتخّيل انه سمع، فأصغى:
ـ فأنت لم تعد وحيدا ً، ولم تعد مع احد...، كأنك بعيد عن المراقبة، والرقابة، والرصد...، فلا احد هناك، لأنك  بعد الآن لن تستطيع ان تعرف انك أصبحت وحيدا ً، أو انك مع لا احد...!
1/6/2016

الفيسبوك والتويتر والتغيير في الشرق الأوسط: الشبكات الاجتماعية مساحات للتأثير والتغيير-اريانا هفنغتون



الفيسبوك والتويتر والتغيير في الشرق الأوسط:
الشبكات الاجتماعية مساحات للتأثير والتغيير


اريانا هفنغتون

ترى الكاتبة اريانا هفنغتون ورئيسة تحرير الهفنغتون بوست في هذه المقالة أن هناك أثرا كبيرا للتكنولوجيا والشبكات الاجتماعية مثل الفيسبوك في تعزيز ثقافة السلام في الشرق الأوسط بعد أن كان يستغلها الإرهابيون لتنفيذ أجندتهم السياسية والفكرية المتطرفة.



"تستخدم الحكومات والمنظمات غير الحكومية والمجموعات والأفراد في كافة أنحاء المنطقة المنتديات الاجتماعية للتأثير على مجتمعاتها سياسياً وثقافياً واجتماعي" نعلم جميعنا الأساليب العديدة التي استُخدِمَت فيها الإنترنت في خدمة الإرهاب، والمواقع المرتبطة بالقاعدة وأشرطة فيديو التجنيد وتحميل آخر خطابات أسامة بن لادن الموجّهة وأدّلة "كيف تفجّر الأهداف" على شبكة الإنترنت. كانت القاعدة وأنصارها أول من تبنى الإنترنت واستخدموها بشكل هدّام لقدرتها على الربط بين الناس. إلا أن هناك توجه معاكس بدأ يبرز اليوم: ترابط أوسع انتشاراً في الشرق الأوسط. نتيجة لذلك، نستطيع الآن تغيير أثر التكنولوجيا والإعلام الاجتماعي ليتوجه نحو السلام وليس الإرهاب فقط.

كان ذلك في الواقع واحداً من المواضيع التي جرى التعامل معها في مؤتمر شاركْتُ به مؤخراً في أبو ظبي. لقد حضرت الكثير من المؤتمرات التكنولوجية في الماضي، ولكنني نادراً ما شهدْتُ نوع الحماسة والتفاؤل الذي شهدْتُه في مؤتمر "سير بني ياس"، الذي عقده الشيخ عبد الله بن زايد، وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة ومعهد السلام العالمي. وكان من بين المشاركين في المؤتمر سلام فياض، رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، وعمرو موسى، أمين عام جامعة الدول العربية، ومسؤولين كبار من الأردن وفلسطين وماليزيا والباكستان والبحرين. عندما تحدثْتُ في اليوم الثاني من المؤتمر عن كيفية استخدام الإعلام الاجتماعي لتشجيع السلام والأمن في الشرق الأوسط صُدِمت لمدى استعداد العديد من القادة العرب الحاضرين لاحتضان هذه الأدوات الاجتماعية بشكل أوسع. وكان من بين هؤلاء خالد آل خليفة، الذي يصف نفسه على التويتر بأنه "دبلوماسي وسفير ووزير خارجية البحرين وقارئ ومسافر عالمي ومولع بالحياة الجيدة". وهو أيضاً من أتباع التويتر بحماسة شديدة، أجاد فن معرفة أتباعه بشكل كامل.

الأردن كنموذج
 
اشتهرت الملكة رانيا باستخدام الفيسبوك واليوتيوب والتويتر

أخبرني وزير خارجية الأردن ناصر جودة أثناء العشاء عن مقابلة حيّة على التويتر استضافها هذا الصيف، حيث استقبل أسئلة، بعضها هادف، من مستخدمين أردنيين للتويتر أو أتباع على هذه الأداة الاجتماعية. وبالطبع، اشتهرت الملكة رانيا باستخدام الفيسبوك واليوتيوب والتويتر، حيث يوجد لها 1,3 مليون تابع، وهو أمر حيوي في عالم الاتصالات. وفي فترة مبكرة من هذا الشهر، أرسلت رسالة على التويتر تقول فيها أن "التكنولوجيا ليست ترفاً من العالم المتقدم، بل هي أداة حاسمة للعالم النامي". وهذا صدى قوي لتأكيدات بيز ستون مؤسس التويتر بأن "التويتر ليس نصراً للتكنولوجيا وإنما نصر للإنسانية".

تستخدم الحكومات والمنظمات غير الحكومية والمجموعات والأفراد في كافة أنحاء المنطقة المنتديات الاجتماعية للتأثير على مجتمعاتها سياسياً وثقافياً واجتماعياً. وفي الأردن، ينشط الشباب في إرسال الرسائل النصّية ورسائل التويتر ويستخدمون الفيسبوك واليوتيوب للفت النظر إلى قضايا بيئية. وهي قضايا تثير القلق في كافة أرجاء المنطقة. وقد ارسل وزير خارجية البحرين مؤخراً رسالة تويتر تقول: "جرت تسمية دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين من بين أسوأ الملوّثين البيئيين في قائمة عالمية".

شاهد على الأحداث

لطالما ظلت الانترنت والشبكات الاجتماعية وسيلة لنشر أفكار التطرف والإرهاب

وفي مصر يستخدم الشباب الأدوات الاجتماعية هذه لتسليط الأضواء على وحشية الشرطة ومحاولة الحفاظ على صدق حكومتهم. وبالطبع عقدت مصر الأسبوع الماضي أول جولة من انتخاباتها البرلمانية، وقد رفضت السماح للمراقبين الدوليين مراقبة عملية التصويت. إلا أن الموقع (U-Shahid.org) ("أنت الشاهد") حاول ملء هذا الفراغ من خلال محاولة الحصول على تقارير المواطنين حول مشاكل العملية الانتخابية. وقد تمكّن المصريون من الإبلاغ عن الأخطاء عبر البريد الإلكتروني والتويتر (USHAHID) والرسائل النصيّة التي تتابعها U-Shahid على خريطة تفاعلية. ولدى U-Shahid حالياً 125 متطوعاً ومتطوعة يعملون على المشروع.

وفي أماكن أخرى في مصر يهدف مشروع جديد إلى تسجيل حوادث تتعرض فيها النساء إلى التحرش في شوارع القاهرة، وهي مشكلة ضخمة هناك، إذ تقول 83% من النساء المصريات أنهن تعرضن للتحرش الجنسي HarassMap موقع جديد يساعد المرأة على الإبلاغ عن سوء المعاملة، بشكل مجهول، عبر التويتر والفيسبوك والبريد الإلكتروني والنصّي. ويأمل الموقع أن يتعرف على أماكن في القاهرة حيث التحرش سائد بشكل كبير، ثم القيام بأعمال تواصل مجتمعي في هذه الأحياء.

التغيير من الأسفل إلى الأعلى

وفي لبنان تقوم مؤسسة "التبادل في الإعلام الاجتماعي" بتدريب الناس على استخدام الإعلام الاجتماعي لتطوير مشاريع مثل "بناء ثقافة السلام"، الموجهة نحو تعليم الناشطين اللبنانيين الشباب كيفية حل النزاعات. ويقوم الشباب عبر الشرق الأوسط بتحميل "تطبيقات شباب الشرق الأوسط عبر الـ "iPhone"، وهي تَعِد بأن تجمع في مكان واحد ما يقوله الناس في الشرق الأوسط على التويتر والفيسبوك والفرندفيد ومجموعة متنوعة من المواقع التي تتمتع بالشعبية. ومن بين ميزاتها تقارير إخبارية عن الشرق الأوسط وآخر رسائل التويتر من المنطقة والبودكاست لشباب الشرق الأوسط وقائمة لمجموعات حقوق الإنسان في الشرق الأوسط على الفيسبوك.

لم يعد أفضل أمل لنا بالتغيير في المنطقة العملية التي غالباً ما تفشل والتي تقوم من خلالها حكوماتنا بالضغط على حكوماتهم. وإذا حصل التغيير الأساسي فسوف يأتي من الاسفل إلى الأعلى، حيث يقوم الإعلام الاجتماعي بدفع عجلة هذا
التحوّل.

"دار الغاوون" تُصدر رواية "الممثل" للجزائرية شريفة فداج :





"دار الغاوون" تُصدر رواية "الممثل" للجزائرية شريفة فداج


 : "الممثّل" هي باكورة الروائية الجزائرية الشابة شريفة فداج (مواليد مدينة سيق بالجزائر العام 1979) صدرت حديثاً لدى "دار الغاوون".
الرواية التي تهديها شريفة فداج إلى عبد القادر علولة وعز الدين مجوبي، وهما فنانان جزائريان كبيران اغتالتهما جماعات مسلحة (الأول عام  1994والثاني عام 1995)، تخوض في تعقيدات المجتمع الجزائري من خلال قصة ممثل جزائري يُدعى فريد بن يحيا، مُصاب بمرض غريب (يُشبه ربما المرض الذي يعاني منه مجتمعه) جعله في نهاية الأمر يهجر التمثيل دون أن يعرف أحد من فرقته إلى أين ذهب.
على مدار سبعة فصول تأخذنا الروائية إلى عالم المسرح مازجةً إياه بمسرح الحياة الحقيقي، لنتعرّف على الإنسان في لحظات ضعفه وقوته، نجاحه وسقوطه، من خلال سرد متأنٍّ بلا إبطاء، ذكي المخارج، يُبشِّر بروائية بارعة تُعلن عن نفسها في هذا العمل الأول.
من مطلع الرواية نقتطف الآتي:
"غرفة النوم عالية السقف، متحف عصري، مساحة واسعة وتلفزيون كبير مُثبَّت على الحائط المقابل لسرير مزدوج مخملي اللون. أنار الأباجورة القابعة فوق منضدة صغيرة، وشاهد مجموعة الصور الموضوعة بعناية على التسريحة، ولفت انتباهه تمثال بعلو نصف متر لامراة تحمل طفلاً على الجانب الآخر من السرير، تساءل: ألا تخاف أن يسقط عليها هذا الشيء وهي نائمة؟ إنها تحيط نفسها بالكثير من الوجوه والصور، ما المتعة في ذلك؟ لا أدري إن كانت تملك الوقت لتتكلّم أو تسترجع ذكرياتها معهم؟ إنهم في أماكنهم يشاهدون يومياتها، ولعلها أفضل طريقة لتقول لهم شاهدوني وتباً لرأيكم.
تقدَّم بضع خطوات نحو الحمّام، كان الباب مفتوحاً: "كل شيء مرتّب ونظيف كأنها لا تستعمله أبداً وحوض الاستحمام كبير بما يكفي لأتمدَّد داخله".
ثبَّت نظراته على المرآة، لكنه لم يرَ وجهه، كان شخصاً آخر يحدِّق فيه، لم يستطيع أن يصرخ أو يركض بعيداً، أحس بأن ثمة من يمسك به بقوّة ويضع يده على فمه، لحظات والتفت نحو الباب: "ثمة من دخل الشقّة"!
حرَّك رأسه في كل الاتجاهات محاولاً إيجاد مخرج، استعدَّ للجري نحو النافذة لكنه تعثّر وسقط أمام السرير. أسند جسمه بيدَيه ورفع عينَيه فرآها واقفة عند باب الغرفة تنظر إليه مصدومة خائفة تسأله: "من أنت"؟!
اختفت من أمامه فقام مسرعاً ولحق بها، كان صوتها قد بدأ يعلو مستغيثاً فأمسك ذراعها ورجاها أن تسكت قائلاً: "أرجوك. أنا عامل الصيانة الذي بعثته إدارة البناية أنا آسف لأنني أخفتك سيّدتي".
لكنها ظلّت ترتجف، وعندما وقف أمامها رأى وجهها الشاحب فاعتذر مرّة أخرى: "لقد كنت أحاول صيانة سخّان الحمّام، وعندما سمعت صوت الباب خرجت لأرى من القادم، لكنني سقطت كما ترين".
ترك ذراعها متراجعاً إلى الوراء.
سألته والخوف ما يزال يغلّف ملامحها: "كيف دخلت إلى هنا، لم يخبرني أحداً بأنك هنا... من أعطاك المفتاح"؟
ردَّ: "الإدارة يا سيّدتي".
أدخل يده في جيب قميصة وأخرج مفتاحاً قدّمه لها قائلاً: "هذا هو المفتاح".
أمسكته وبدأت تسترجع هدوءها، ثم قالت وهي تضع يدها على جبهتها: "ظننتك لصاً".
ضحك ضحكة متقطّعة معبّراً عن اعتراضه وهو يقول: "لو كنت لصاً لسرقت شيئاً على الأقل".
بدأ في معاينتها عن قرب بعدما اطمأن إلى أنها لن تصرخ في وجهه. إنها تلبس تنّورة قصيرة وقميصاً وردية فتحت أزرارها العلوية الثلاثة مع قلادة رقيقة تحمل وروداً صغيرة متناسقة تتدلّى من رقبة طويلة، وسُمرتها واضحة، لكنَّ عينَيها بلون حقول الجبال.
إنك امرأة عصرية جداً، تعودين من عملك وترمين حقيبتك على الأريكة وحذاءك عالي الكعب عند مدخل الباب، لكنك اشتريت شيئاً اليوم... نظر إلى كيس أبيض ورقي كان على الأرض. ماذا يوجد داخل هذا الكيس؟ تبدو كمزهرية.
قالت بكلمات سريعة: "ليس من عادتهم أن يستجيبوا بهذه السرعة ولم يتصل بي أحد لإخباري".
ردّ عليها: "سيّدتي، لقد طلبوا منّي أن أقوم بعملي وتوقّعت أنهم قد أعلموك بذلك".
قالت بعصبيّة: “كيف تسمح لنفسك بالدخول وأنا غير موجودة”؟
قال محاولاً السيطرة على توتّره: "إنه تماماً مثل النظام المعمول به في الفنادق يا سيّدتي، عندما تخرجين يأتي من ينظّف المكان".
"لكنني لا أعيش في فندق".
سكتت للحظات ثم قالت دون أن تنظر إليه: "سأتصل بالإدارة لأفهم الموضوع".
تسمَّر في مكانه، وأحسَّ أنه قد تحوَّل إلى تمثال. عيناه فقط من تتابعان يدها تمتدّ إلى حقيبتها وتخرج هاتفاً محمولاً، إنها تتصل برقم ما، تنتظر ثم تتصل مرّة أخرى. رآها تستجمع قوّتها وتكشّر عن أنيابها لتمتصّ دمه، وتمزّقه بسكين المطبخ... تنهّدت بيأس وقالت: "لا مجيب".
ظلَّت صامتة للحظات، أما هو فقد كان يكرّر شكره لله.
سألته بصوت أكثر ثقة: "أين عدّتك"؟
"فوق الطاولة هناك".
نظرت إلى طاولة المدخل ثم سألته: "والسخّان"؟
قال مشيراً بيده إلى غرفتها: "كنت أعاينه ثم أتيتِ فجأة، يمكنني أن أتابع عملي إذا سمحت لي".
رفعت حاجبَيها وهي تنظر إلى هاتفها ثم قالت: "سأخبر الإدارة متى يمكنك العودة، لكن قبل ذلك لا أريدك أن تدخل إلى بيتي إذا لم تدقّ الجرس وأفتح لك حتى ولو كان معك مفتاح".
أحسّ بغضبها وفهم قصدها فاتجه نحو الباب، لكنها استوقفته قائلة: "ماذا عن علبتك"؟
عاد وحمل علبة المعدّات، ثم شكرها وخرج.
وقف أمام باب شقّتها وتخيّلها وراء الحائط تلعنه وتقول لنفسها إنه كاذب مخادع فقال: "عليك اللعنة أنت أيضاً! لماذا غادرت عملك مبكراً؟ أليس من عادتك إنهاء دوامك قبل الخامسة"؟ ثم فكَّر أنها الآن لا بد تتفقَّد أغراضها وتحاول الاتصال مرّة أخرى بالإدارة: "عليَّ الابتعاد".
استعدَّ لنزول السلّم، لكن ثمة من أمسك به ودفعه داخل رواق طويل مضيء: "امشِ أسرع، من هنا من هنا".

الأحد، 5 يونيو 2016

إزرا باوند.. العبقري المجنون-* نصر عبدالرحمن

إزرا باوند.. العبقري المجنون

* نصر عبدالرحمن


أهدى «تي إس إليوت» ديوانه الشهير «الأرض الخراب» إلى «إزرا باوند»، ووصفه بالمُعلم الأكبر، اعترافاً بدوره في تنقيح تلك القصيدة الملحمية الطويلة. ومن الغريب أن إليوت أصبح أهم شعراء القرن العشرين، وحصل على مكانة أدبية واجتماعية لم يحصل عليها شاعر آخر، بينما كاد النسيان يطوي باوند وأعماله شديدة التنوع والثراء، رغم دوره المحوري في تطوير الحركة الشعرية في النصف الأول من القرن العشرين، وأثره الكبير على تطور الشعر الحديث، وتأثيره العميق والمباشر على مجموعة من أشهر مُعاصريه من الشعراء.
ترك باوند أثرا كبيرا في ويليام كارلوس ويليام؛ رائد الشعر الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين، وروبرت فروست وغيرهم من عمالقة الشعر الأمريكي بعد ذلك. لم يقتصر تأثيره على الشعراء فقط، بل إنه أثر في العديد من الأدباء، من بينهم أسطورة السرد جيمس جويس، والروائي الأمريكي الكبير أرنست هيمنجواي، الذي اعترف بعد ذلك بأن باوند قدمه إلى العديد من مُبدعي أوروبا، وأطلعه على الكثير من الأعمال الأدبية المهمة حين التقى به في باريس، ووجه إليه نصائح ذهبية ساهمت في تشكيل أسلوبه في الكتابة ورؤيته للحياة.
يكمن السر وراء ما تعرض له باوند من حالة إنكار مُتعمد إلى كراهيته الشديدة للولايات المتحدة الأمريكية وللحركة الصهيونية، وإلى تركيبته الشخصية التي اتسمت بالتمرد ورفض الانصياع إلى المؤسسات السياسية والاجتماعية، واستهانته بالقيم الاجتماعية الراسخة. ولد باوند في ولاية «آيداهو» بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1885. التحق بجامعة بنسلفينيا، ودرس الأدب المقارن عام 1900، ولكنه لم يتمكن من التأقلم مع المجتمع الأمريكي ولم يتأقلم مع الوسط الجامعي لرغبته المُتأصلة في التميز والتفرد. كان أول صدام له مع مؤسسة الجامعة؛ وأدى في النهاية إلى فصله، مما جعله يسخط على أمريكا، ويقرر أن يهجرها ويعيش في أوروبا عام 1908. اتجه في البداية إلى إيطاليا، لكنه غادرها بعد عدة شهور واستقر في بريطانيا، حيث عمل سكرتيراً لدى الشاعر الإنجليزي الكبير «ويليام باتلر ييتس»، وأصبح صديقه المُقرب، وتزوج ابنة زوجته «دورثي شكسبير». وفي تلك الفترة، تعلم اللغة اليابانية وبدأ يُترجم عيون الشعر الياباني إلى الإنجليزية، وتأثر بنزعته الغنائية وكثافته وقدرته على التصوير. واصل باوند التعرف على أدب وفلسفة الشرق الأقصى، وتأثر بفلسفة كونفوشيوس وبتراث الهند المتنوع والثري. ويجب الإشارة هنا إلى أن جهوده في التعرف على الشرق كانت امتداداً للحركة الرومانسية في نهاية القرن التاسع عشر، والتي سعت إلى استكشاف حضارات الشرق وفلسفاته، وسافر شعراؤها إلى مصر والهند والشرق الأقصى.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وما أدت إليه من تأثيرات عالمية ضخمة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، ظهرت ضرورة مُلحة لتطوير الشعر حتى يستطيع التعبير عن الواقع الجديد. قرر باوند أن هناك حاجة إلى شكل جديد للقصيدة، وأسلوباً مُختلفاً لتناول العالم، وساهم بكتاباته النقدية في تأسيس الحركة التصويرية التي تتسم بالكثافة الشديدة والابتعاد عن الرطانة اللغوية واستبعاد أي لفظ لا يخدم القصيدة، والتركيز على قوة الصورة الشعرية كبديل لسطوة الإيقاع، والاهتمام الشديد بعناصر الطبيعة في علاقتها بالإنسان، ولكن دون الاستغراق في الرمز. نشر باوند مقالاً عام 1913 بعنوان «بعض المُحرمات في الشعر»، أشار فيه إلى تلك الرؤية، ووجه نصائحه للشعراء الشباب بضرورة الوقوف على المُنجز الشعري السابق والاعتراف بفضلهم دون التماهي معهم. كما حذر الشعراء من المجاز واعتبره العدو الأول للشعر، وطالبهم بالحرص على رسم صور شعرية جديدة وراقية، كما حذرهم من خطورة الانسياق خلف الإيقاع، وضرورة كسر رتابة القافية. لقد حاول تخليص الشعر من كل ما يُثقله، ووضع الخطوط الأولى للحداثة في هذا المقال الذي اهتم به الشعراء في الولايات المتحدة وبريطانيا على حد سواء. كان باوند أول من يكتب الشعر الحر ويتخلص من سطوة الوزن والقافية على القصيدة. بدأ تطبيق وجهة نظره في ديوانه «الأناشيد»، الديوان الذي ظل يكتبه منذ 1917 حتى 1969. 
هذا إلى جانب أنه كان حاضراً وبقوة في تأسيس الحركات والجماعات الشعرية والفنية التالية، مثل الدادائية، والسريالية؛ وكان محوراً لكل الحركات الأدبية التي أسهمت في تطوير الشعر والفن. وفي عام 1920، قرر أن ينتقل إلى باريس، ويعيش حياة بوهيمية، وأصبحت شقته الصغيرة مكاناً لالتقاء كبار مثقفي وأدباء فرنسا من أمثال جان كوكتو، وأندريه بريتون. لقد كان باوند حالة نادرة، تشبه إعصاراً من الفن والمعرفة، لم يفلت من تأثيره أي من مُعاصريه سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة، وليس من المُبالغة القول إنه أهم من عملوا على تطوير الشعر، بل والفن بوجه عام، في النصف الأول من القرن العشرين. 
كان باوند غريب الأطوار بالنسبة للآخرين، ونادراً ما كان يشعر بالراحة والانسجام إلا مع مجانين الفن، وعاش فترة طويلة من شبابه حياة بوهيمية صاخبة. كان متمرداً ويرفض الخضوع للقواعد، إضافة إلى نرجسيته الشديدة واعتداده بذاته لدرجة أنه قال عن نفسه إنه سيكتب أعظم قصائد كتبها إنسان على وجه الأرض. وحين أصدر مجلة للتعبير عن حركته الشعرية الجديدة أطلق عليها اسم «الأناني». وبالطبع واجه الكثير من المتاعب لأنه كان في حالة عداء مُستمر مع مؤسسات المجتمع؛ وعلى رأسها الكنيسة؛ التي دخل معها في صدام عنيف، وطالب بمصادرتها أموالها وتوزيعها على الشعراء والعلماء لأنهم الأحق بهذه الأموال من أجل تطوير الحياة البشرية. كان موقفه هذا على النقيض من موقف «تي إس إليوت»؛ الذي كان يعتبر نفسه ابناً باراً للكنيسة، وقدمت الكنائس عروضاً لمسرحياته. تمادى باوند في تطرفه، وأقدم على خطوة جنونية حين آمن بالمشروع الفاشي، وسافر إلى إيطاليا ليدعم موسيليني؛ ما أدى إلى حملة عنيفة ضده في غرب أوروبا والولايات المتحدة.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أصبح باوند مديراً للإذاعة الإيطالية المُوجهة إلى الغرب، وحمل الأثير صوته وهو يهاجم الولايات المُتحدة ويُدافع عن الفاشية والنازية ويُبشر بمشروعهما. أدى هذا إلى اتهامه بالخيانة؛ وثارت حالة من السخط الشديد عليه لدرجة أن المهمة الأولى للقوات الأمريكية التي اجتاحت إيطاليا كانت القبض عليه، بينما كانت المهمة الثانية هي القبض على موسيليني. تمكنت قوات إيطالية موالية للحلفاء من القبض على باوند، وقامت بتسليمه إلى القوات الأمريكية، وبعدها تمت مُحاكمته بتهمة الخيانة العظمى، ولكن غضب المثقفين وضغطهم أدى إلى توقف المُحاكمة وإيداعه في مستشفى للأمراض العقلية لمدة اثني عشر عاماً، خرج بعدها ليسافر إلى إيطاليا ويعيش هناك في عُزلة حتى وفاته عام 1972.

اعترف باوند في شيخوخته بأنه أخطأ بنسبة كبيرة في دعم الفاشية، لكنه تمسك بموقفه الرافض للحركة الصهيونية، والمُعادي للولايات المتحدة، التي وصفها بأنها مستشفى كبير للأمراض العقلية، وأن شعبها يعبد الدولار. هذا هو السر وراء عدم قبول اعتذاره وفرض طوق من العزلة والتجاهل حوله، وعرقلة أي محاولة لتكريمه أو الاحتفاء به وبدوره كواحد من أهم شعراء القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
________
*الخليج الثقافي


التاريخ : 2016/05/29 04:45:27


السبت، 4 يونيو 2016

أختام *- الختم الثاني : عادل كامل



















أختام *


 الختم الثاني

عادل كامل
  [3] الكتمان ـ مرئيا ً


     سأعترف أنني لا امتلك حق القول أنني نفذت أختامي بموازاة ما كنت أريده، أو انه النتيجة المثلى، والأخيرة، ولكني لا اشعر أنني غادرت ولعي  بإعادة صياغة أفكاري. إن أصابعي تعمل فانقاد إليها! أشيّد وأضيف مع الحذف كي ابلغ بالنص نهايته: إشارات تكاد تلغي ما تتضمنه العلامة من تجريد/ رموز/ وإيحاءات. ففي الإشارات يكمن اللا متوقع الذي كنت أراقبه، وانتظره، وليس في العلامات، بل ولا حتى في الأسلوب. فانا ازداد انشغالا ً بمغادرة أشكالي، وكل ما سيشكل خصائص الختم.
     هنا اكتشف أني احفر في مدافني الأولى: في مقبرة شبعاد، قبل أكثر من نصف قرن، بجوار مقابر أور، على مسافة غير بعيدة عن الناصرية ـ مركز ذي قار ـ حيث استعيد حرارة الرمال، في الخارج، وأصداء أصوات ما جرى إبان نزول الأميرة شبعاد إلى العالم السفلي. أتذكر ـ بعد نصف قرن ـ أنني تحدثت إلى البروفسور هاوزه ـ مدير متحف برلين  عام 2005 ـ عن لغز القبر السومري، وعن المعتقدات البكر للايكولوجيا الكونية. ماذا تقصد...؟ سألني. فقلت أن هناك فجوة للعبور، بين الموت والحياة، وبين الحياة والموت، تخيلها السومري كي تتحول إلى جسر، أو صلة يستحيل استبعادها. فثمة كون وجد نفسه فيه متوحدا ً عبر تحولات المظاهر، وهي التي ستظهر تأثيراتها في الهند ـ بعد ألف سنة ـ بعيدا ً عن المثنوية وصراع الضدين. فالوحدة التي تخيلها السومري تركت الزمن لا ينتهي عند خاتمة، بل يمتد، عبر دورات. فرأس الأفعى عندما يبلغ ذيلها، يمتد، عبر دورة اكبر، تتقاطع مع مفهوم الرجوع إلى التراب ـ أو إلى العدم.
     موت له مذاق الأبدية! لكني لم استبعد أبدا ً حدود التجربة بحدود التصوّر؛ حدود الدفاع عن كياني، بما اعرفه، وخبرته، وعشته، مع أني لم الغ أن هناك خلايا تعمل بالنظام الأكثر تعقيدا ً، الخاص بالكون، وليس بحدود وجودي. انه إغراء آخر للعمل، كواجب، وليس ترفا ً أو بذخا ً.
     على أن الكلمات أما تذهب ابعد من النص الفني، أو انها ستتحول إلى يد تدور في مفتاح الباب: الباب الذي ادخله، طالما من المستحيل العثور على سكن فيه، عدا الكون الذي لا علاقة له لا بالموت ولا بالحياة! وهنا  ساترك إحساسي بالزمن، وبما سيقال حول تجربتي، فأنا بالختم اترك كياني مكبلا ً بحرية الضرورة، وبضرورات هذه الحرية.
     فالفن لن يفصل الأثر عن صانعه، ولا صانعه عنه. فأدرك أن السومري صاغ مفهوما ً سترجع إليه البشرية في لحظة إدراكها انها لن تبلغ خاتمتها.  فهي تتضمن دورات، شفرت عبر ما لا يحصى من الحروب والكتب في الجسد/ الوعي/ وفي الكيان بوجوده في الوجود: دينامية تتحول الحياة فيها إلى رقصة (بوذا) و (فناء ً) كما في مسلك الصوفي وطرقه.
     لكن النشاط الفردي ـ الخاص ـ لن يعمم، الأمر الذي يجعل كل ختم، مستقلا ً عن سواه. فكما كل وردة، في البستان، لها تفردها، فان ما لا يحصى من الورود (والأزهار البرية) ستعمل على حماية هذا الختم: الهوية، والأسباب الكامنة في الأسباب، فلا ضرورة لسؤال مثل: لماذا اعمل ... ولا ضرورة لسؤال: ماذا لو تخليت عن العمل؟ لكني ـ هنا ـ اخترع لعبة، أو تسلية، بل وعيا ً له موقعه للتحرر من الأعباء، والضرورات اللا ضرورية، يسمح لكياني أن يتشكل مع الموجودات النائية، والمجاورة على حد سواء.
     انه شرط يحرر الشرط بتحوله من قيد إلى توق. فتكف اللغة عن مجال عملها، في الاستغاثة، أو في المؤانسة، أو في الشهادة، أو الترميز، كي تغدو جزءا ً من الختم. فهو وحده يقول ما يكتمه، وهو وحده يفضح كتمانه.

[4]البحث عن الذي غادرني

     ليس أكثر من تأمل ما ستؤول إليه النصوص: زوالها. وبمعنى ما فانا امسك بما أراه يندثر. ففي عالم كفت فيه قوانينه ـ عدا عنفه وأقنعته وغوايته ـ عن العمل، يغدو الفن ممرا ً للبحث عن الدوافع التي سمحت لأصابع أسلافي أن تنسج هذا الذي حفزني للعثور على توازن مستحيل في الفن:انه قيد لممارسة وهم الخلاص منه. لم يكن أسلافي في المغارات أو في أعالي الجبال يحلمون بأكثر من المرور في الدرب ذاته الذي لا طائل من المشي فيه! إلا أنني ـ وأنا أبصر حبيبات الزمن تذوب في الفراغات والمسافات اللانهائية ـ لا أرى شيئا ً باستطاعته أن يمنع بصري من الاستيقاظ: التاريخ بصفته لم يبدأ! وكأن لغز جلجامش مازال يمتلك غوايته: التفوق! والبحث عن سكينة غير التي يحدثها الفناء، أو الموت. فأتخلى عن المعاني ..فانا أدوّن بحثا ً عن هذا الذي لا أتوقعه: لون ما .. أو تصدعات، أو مخربشات تمتلك كل ما لا يمكن تحديده في الكل اللا متناهي وقد غدا مرئيا ً، أو تحت البصر. فانا لست منفصلا ً عن نفسي! ولا عن ختمي. لأننا ـ كلانا ـ لا نمتلك سوى استحالة نفي هذا الحضور ـ هذا الذي يتفتت، ويتجمع، كي يعلن عن صلابة نظام الامتداد؛ امتداد الفراغات وتجمعها، حد استحالة مغادرة حدود اللامحدود ـ والسكن فيه. لا مكان ولا زمن ـ للمؤجلات! فانا تام الموت، وتام الغياب، وحضوري وحده صار الختم بما يستحيل مغادرته. إنها  لذّات أصابع أمسكت بالمفتاح وهو يدور في الهواء.
     فبماذا امسك...وليس بين يدي ّ إلا ما أراه يغادرني، عدا إحساسي الخفي بان اللا متناهي يمتلك حضوره، لا كغواية، أو مناورة، بل واجبا ً.
     هكذا  ـ كما يحدث لمن تأجل موته ـ يختفي التذمر أو الاستسلام للتعب، فيغدو ـ هذا الغائب ـ حاضرا ً بما فقده. فاستعيد رغبة صياغة علامات أحاول فيها وضع مصيري برمته، لا للمباهاة أو لفت النظر، بل للتواري، والسكن بعيدا ً عن الرقابة. لكنني لم امتلك قدرة أن أصبح أعمى، إلا عندما ازداد ثقة بان مصيري يسبقني، فامشي خلفه، بلا استئذان، أو رغبة بالغفران. انه الذنب التام الموازي لولادة لا اختيار لي فيها بعزلها عن حتمية أن أراها تأخذ ـ غيابها وحضورها ـ كي أحافظ على شرود ـ وعزلة ـ كلاهما يجعلاني امشي في جنازتي ـ أو في موتي.
[5] المحنة: الفجوة ليست بعدا ً



     عندما لا يقذف الفنان عمله (الفني) إلى السوق، بصفته سلعة، أو عندما لا يجد مبررا ً لعرضه خارج حدود المشغل، أو عندما لم يعد نتيجة أسباب خاصة، فانه، في لحظة استحالة العثور على ما يماثل مشاعر الانجذاب في الحب، أو في التصوّرات الاستثنائية، التي اتحدت وسائلها بغايتها، فان ثمة ظلمات لها فعل الغبار البركاني تجعل مصيره معلقا ً، فيرى انه ـ في العمق ـ قد هدم ما علق فيه من تاريخ، لكن ليس لصياغة علامات مميزة، وإنما كي لا يبدو ، في هذه المتاهة الحالكة ـ إلا وقد اجل خاتمته، مثلما أدرك انه كاد ينفصل عن ماضيه.
     أليست هذه أزمة لاذعة، كالتي يكتوي فيها جندي في حرب لا معنى لوجوده فيها دخلها كي لا يغادرها، لا بالربح ولا بالخسارة، أو كحال من وجد انه غير قادر على الاندماج، حتى في الاستسلام لموته!
     إنها ليست حالة سيكولوجية، أو اجتماعية (بسبب استحالة العثور على خلاص يوازي وعيه لوجوده) وإنما شبيه بموقف من وجد أن أفضل الاختيارات باطلة، فيكون ـ هنا ـ كمن حفر في الأرض قبرا ً لينبت فيه أسباب استحالة انه وجد فائضا ً، أو محض مصادفة، تاركا ً الأمل والخسارة والتصورات بعيدا ً عن الخاتمة.
     هو ذا الطريق المائل المضاد للدرب العام، الذي لن يسمح بالارتداد أو الشكوى. فالصوفي يأمل ـ حد الصدق ـ بما سيجده في الفناء ـ أو بما لا يجده أيضا ً ـ وشبيه بمن تخلى عن أناه لقضية ما بلغت ذروتها في الوجد، والانجذاب حد المحو، إنما هنا تحدث المصالحة بين الكيان ـ كياني برمته ـ وما أراه أصبح شبيها بالملكية: الأشياء ذاتها لا تخفي إلا ما تعلنه، وهذا الذي تعلنه ليس هو الذي كنت أريد أن يكون مجموع الأشياء. إنها ـ اذا ً ـ المحنة وقد غادرت لغزها. فأنا أصبحت علامة مضادة؛ علامة بين علامات، كغريق لا يمتلك إلا أن يحيا حياة ما بعد الغرق: حال صوفي أخذه الوجد حد غياب غيابه. وهي ذاتها اللحظات التي طالما قاومت فيها موتي (المادي) كي أصحو ـ كآخر ـ كف أن يموت.
     إن أصابعي تجرجر رفيف رغباتي فأراها تتداخل في وجه، أو في جسد مختزل، أو عبر اللا متوقع وقد أمد في ّ قدرة الموازنة بين المستحيلات والمنجز، وبين الأشكال وما تسترت عليه. فالإحساس الجمعي غدا لا صلة له بعلاقتي مع الآخرين، كما حرر (ذاتي) من قيودها، وغذاني  بالتقدم، مرة بعد أخرى، وأنا أكاد امسك بالذي لم يسمح لي أن أعيش خارج انجذابه: أهو الفن، أم هو ما بجواره، أم هو حماية ما، أم الشيء الشبيه بـ (بالشيء)، الذي لن يقارن إلا بالمسافة بين الظل ونوره، أو ـ بمعنى أدق ـ هذا الذي أراه تكوّن عبر غيابي ..وإلا فإنني أكون قد وجدت غواية ما للاندماج .. أي: للعزلة، كالميت وقد عثر على من يرقد بجواره!


تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

أزمة المدونات العربية: التدوين في متاهات البحث عن التنوير- محمد الساحلي




أزمة المدونات العربية:
التدوين في متاهات البحث عن التنوير

محمد الساحلي

لم تكن المدونات وقت ظهورها الأول سوى سجلات إلكترونية لاهتمامات شخصية، ثم نمت وتطورت لتصبح وسيطاً معرفياً ومساحة للتعبير، غير أنها لن تستطيع إحداث التغيير المجتمعي المطلوب دون إصلاحات ديمقراطية حقيقية، كما يرى المدون المغربي الشهير ومنظم جائزة المدونين العرب محمد الساحلي في هذه المقالة.



"الديمقراطية هي التي تصنع المدونات وليست المدونات التي تصنع الديمقراطية" بدأت المدونات العربية في الظهور بشكل تدريجي منذ سنة 2003، لكن عددها كان قليلاً آنذاك، ولم تكن كلمة "مدونة" شائعة باللغة العربية. ورغم قلة عدد المدونين آنذاك، إلا أن جودة المدونات كانت لافتة. وخلال السنة التالية بدأت ظاهرة التدوين في الانتشار وسط مستخدمي الإنترنت العرب، وبدأت الصحافة العربية تقارب، ولو بشكل محدود، موضوع المدونات. ثم ظهرت خدمات تدوين مجانية باللغة العربية، لتبسيط إنشاء المدونات للعرب، وبدا في الأفق أن ثورة جديدة قادمة؛ ثورة على غرار "ثورة المنتديات" التي فرخت في حينها آلاف المنتديات المتشابهة التي ينقل بعضها عن بعض، دون استحياء!

وتحقق ذلك للأسف بسرعة سنة 2007، حيث بدأت المدونات العربية تتناسخ كالفيروسات ناقلة معها "فوضى المنتديات" بكل سلبياتها، وبدأت أحلام المراقبين تنهار بتناقص جودة المدونات العربية ودخولها مرحلة من الركود ما زال في رأيي مستمرا حتى الآن.

خلال السنوات الأولى لانتشار التدوين عربيا، كانت خدمة Blogger المملوكة لجوجل أفضل وأشهر خدمة تدوين مجانية، لكن بحكم أنها كانت بالانجليزية فقط، آنذاك، بقيت حكرا على فئة من مستخدمي الانترنت العرب، القادرين على التعامل مع اللغة الانجليزية وعلى الصعوبات التقنية لبلوجر. لم يكن إنشاء المدونات آنذاك سهلا، لذلك كان عددها قليلاً. لكن في وقت لاحق، ظهرت خدمات تدوين عربية أرادت تقديم خدمات شبيهة ببلوجر، غير أنها، لأسباب مختلفة، ساهمت في تفريخ مدونات لا تقدم أي جديد، وأحياناً تساهم في إحباط مدونين آخرين مميزين.

استحالة القياس ووهم التفوق 



هل ساهمت المدونات العربية في إسقاط رؤوس الفساد في البرلمانات والحكومات العربية؟ هل ساهمت المدونات في خلق تغيير حقيقي ذي أثر مستقبلي فعال؟ كلا للأسف، كما يقول الساحلي


تلك الفوضى لم تغط على كل شيء. فهناك مدونون كثر تميزوا بشكل أو بآخر واستطاعوا ترسيخ مفهوم مختلف للتدوين العربي؛ فبعضهم أنشأ مدونات شخصية لنقل خبراتهم للآخرين، وآخرون اختاروا طريق التعبير المسكون برغبات التغيير، فقادهم ذلك إلى التصادم مع المؤسسات الأمنية، القامعة للحريات، في بلدانهم. لكن لا يوجد نموذج عربي واضح يمكن الجزم من خلاله بقدرة التدوين العربي على التغيير.

وفي سنة 2008 دعا مجموعة من أعضاء فيسبوك المصريين إلى إضراب عام يوم 6 أبريل 2008. والتقط المدونون الحملة وساهموا في ترويجها، وفعلا جاءت النتيجة مذهلة: لقد نجح الإضراب! لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل المدونون هم الذين أنجحوا الإضراب؟ من الصعب الجزم بذلك، ولو أن المدونين المصريين يفضلون التفاخر بقدرتهم على "هز عرش مصر".

ففي ليلة الإضراب تدخلت الحكومة المصرية، عبر وسائل الإعلام، لتنفي وجود أي إضراب وتساهم، بشكل غير مباشر، في ترويع المواطنين وتخويفهم مما يمكن أن يحدث. وفي رأيي أن هذا هو ما دفع المواطنين إلى البقاء في البيت يوم الإضراب وعدم الذهاب إلى عملهم، ليس مشاركة في الإضراب بل خوفا مما يمكن أن يحدث في الشارع يوم الإضراب.

هذا مجرد نموذج بارز لما اعتبر دليلا على قدرة المدونين على التغيير، لكن دون وجود إمكانية إثبات حقيقية على أن ما حدث كان بفضل المدونات. في الكويت يتم الحديث عن حملة "نبيها خمسة" التي أريد منها، سنة 2006، الدعوة إلى التقليص من الدوائر الانتخابية في الكويت. الحملة نجحت وحققت أهدافها، وتم نسب فضل ذلك إلى المدونين، رغم أن عدد المدونين الكويتيين أقل بكثير من أن يحدثوا مثل هذا الأثر. ولا يمكن إنكار مساهمة المدونات الكويتية في التعريف بالحملة، خاصة لمن هم خارج الكويت، أما التأثير الحقيقي للحملة في رأيي فهو ما قام به الشباب فعلا على أرض الواقع.


لا أقصد هنا التقليل من قدرة المدونات العربية على التغيير، بل أتحدث عن صعوبة قياس تلك القدرة. بكل تأكيد ساهمت المدونات العربية في تحريك كثير من القضايا، لكن تلك المساهمات ضُخمت من طرف الصحافة، فاقتنع بعض المدونين بذلك واقتنعوا بأنهم فعلا سلطة قادرة على التغيير، رغم أننا لو جلسنا لنتناقش بهدوء سوف نجد أنه لا شيء حقًا تغير.

هل ساهمت المدونات العربية في إنقاذ أطفال غزة وتقديم المساعدات للمحتاجين كما فعلت المدونات الأمريكية خلال إعصار كاترينا؟ هل ساهمت المدونات العربية في إسقاط رؤوس الفساد في البرلمانات والحكومات العربية؟ هل ساهمت المدونات في خلق تغيير حقيقي ذي أثر مستقبلي فعال؟ كلا للأسف. إذن أي تأثير هذا الذي عنه يتحدثون وله يطبلون ويزمرون؟

مواضيع المدونات وسياسة النعامة

حين بدأت ظاهرة انتشار المدونات في العالم العربي انتشرت معها مقولة أن المدونات ستأتي بالديمقراطية إلى الدول العربية! لكني أعتقد بعد أكثر من ست سنوات من انطلاق المدونات العربية أن هذه المقولة لا أساس لها، فالديمقراطية هي التي تصنع المدونات وليست المدونات التي تصنع الديمقراطية.


"في رأيي أن المدونين العرب يمكنهم مستقبلا، المساهمة في بناء المجتمعات العربية، لكن الأمر لن يكون سهلا ولا يسيرا" حين نتحدث دوما عن نجاحات المدونات الأمريكية، نتجاهل مسألة الديمقراطية المتجذرة لدى الشعب الأمريكي، وما يعنيه ذلك من حق المواطن في التعبير عن وجهات نظره بأمان، ووصوله الميسر القانوني، لمصادر الخبر. حكومات الدول العربية تعاملت بطرق مختلفة مع ثقافة التدوين، والهدف دائما تقويض التجربة: تونس ودول أخرى تعاملت مع المسألة من الناحية الرقابية فحجبت الكثير من المواقع وحدت من إمكانيات التأثير داخليا. السعودية منذ البداية تعاملت بحزم وقامت أجهزتها الأمنية باستدعاء المدونين وإرغامهم على ابتلاع ألسنتهم. مصر واجهت المدونين بعنف عن طريق الاعتقالات، مما ساهم في ترويج فكرة التدوين محليا. وإن كان من الصعب التأكيد إذا كان التضييق الذي تعرض له المدونون بفعل تدوينهم أم بفعل انتمائهم للجمعيات الحقوقية. أما المغرب فعلى العكس، تجاهل المدونات تماما عن عمد، مما حد من قدرة المدونات على الانتشار وعدم وصول قضاياها إلى الصحافة والمواطنين.

النتيجة هي أن البعض أصبح كمن يحارب طواحين الهواء، دون وجود من يتأثر به ولا من يستمع. والبعض اختار سياسة النعامة، فدفن رأسه في مواضيع بعيدة عن احتياجات المواطنين، فمنهم من انكفأ داخل نفسه يسطر ما يمر بيومه من تفاصيل، ومنهم من ذهب إلى الكتابة عن المواضيع التكنولوجية فطفق ينقل ويترجم عن المدونات الإنجليزية. ولكن هذا لا يعني تجاهل حالات متميزة وسط فضاء التدوين العربي.

المستقبل الغامض

التدوين نشاط فردي بطبيعته، غير أن خصوصيات المجتمعات العربية تستلزم تحول هذا النشاط الفردي إلى نشاط جماعي يعتمد على التنسيق المبكر والمضبوط فيما يتعلق بقضايا ذات طبيعة اجتماعية وسياسية تهدف إلى تحقيق تغييرات مجتمعية لصالح المواطن.

في رأيي أن المدونين العرب يمكنهم مستقبلا، المساهمة في بناء المجتمعات العربية، لكن الأمر لن يكون سهلا ولا يسيرا. فأنا أعتقد أن ثمة شروط لا بد أن تتحقق، من قبيل دمقرطة المؤسسات وتيسير الوصول لمصادر الخبر وإصلاح القضاء والرفع من هامش حرية التعبير وتوسيع شبكة الربط بالإنترنت... إلخ، وإلا فإن التدوين العربي سيبقى في حال ركود دائمة.


محمد الساحلي
  العام والمجتمع المدني…وواقع الحال عندنا اليوم لم يتحقق فيه لا هذا ولا ذاك -المدونات في اغلبها صراع ديكة ليس للعقل و الحوار فيها نصيب و الانظمة السياسية تبدع في محاصرة المدونات و التنغيص على المدونين …ان تطور وسائط الاعلام و تعدد وسائل الاتصال لا يصنع وحده ربيع الديمقراطية والعلم والمعرفة بل قد ييسر انتشار الخرافة و الجهل والدجل …لذلك سيكون دور المثقفين و المتنورين هام و خطير وكل تقاعس من جانبهم يعني زحف الظلام.