الثلاثاء، 14 يونيو 2016

أختام *-عادل كامل





















أختام *


 الختم الثاني

عادل كامل
       


[6] المحدود ممتدا ً

     طالما أدركت ـ بعد تذوق مرارات العمل في الصحافة ـ أنني امشي آليا ضد إرادتي. فقد كانت الأخيرة لا تعمل على استنزاف الجهد ـ والتأمل ـ والشخصية فحسب، بل على دفع الفن باتجاه التداول. إن طبيعة الموجودات، منذ امتلكت الحد الأدنى للتحكم بمصيرها، وجدت أنها في الاشتباك. فالبشر ينقسمون إلى من هم في المقدمة، والى من هم في القاع: النظرية التي تعيد صياغة التقسيم القديم ـ الصياد/ الضحية، بما يناسب من يتحكم بالمصائر، وأنا أحسست، منذ الثالثة من عمري، بذلك الانقسام، ورحت أتتبع مساراته، ومشاهده، ونتائجه. ولست بصدد تفكيك خفايا المجال النفسي لدوافعي ـ هنا ـ بل لمعرفة دوافع من هم في المحيط/ الهامش لا يعملون من اجل استبدال أدوارهم بمن في المقدمة، وإنما لخلق توازنات لا تخلو من عدل، أو في الأقل: ليست جائرة. لكن العالم ـ بعد العصر الصناعي وما بعده ـ استثمر الأقنعة/ الأيديولوجيات، لجعل الاشتباك متواصلا ً. فالبشر لم يخلقوا للرقص، ولا لأداء أدوارهم في الاحتفال الجمالية، ولا للأعياد. فليس لدي ّ ما استند إليه عدا الأعداد الهائلة من الضحايا: في تدمير البيئة، والعناصر البكر، واستهلاكها حد الإيذاء ـ التلوث الشامل ـ، ومعاملة الحيوان بقسوة وجدت مبرراتها بأشكال مختلفة، فضلا ً عما خلفته الحروب من خراب وأخلاقيات قائمة على تعزيز التقسيم القديم. لكن العناصر وباقي الكائنات الحية لم تكف عن تشبثها بوجود اقل قسوة، وشراسة، ودناءة، إلا أنها لم تثمر إلا عن ذهاب القوى نحو غياب تام للشفافية. فالحياة ـ بزيادة السكان، وتراكم الموارد، وأدوات الفتك ـ مكثت تقسم البشر بين من يعمل مع المتحكم فيها، وبين من أصبحوا تابعين، وممحوين. 
     انه مشهد حفر في أسئلة  أجوبتها ـ عند البحث ـ كانت مصدرا ً للمعاقبة، والإيذاء. فالسؤال، لماذا الفن، لم يفض إلى فضاء مغاير، أو ناء ٍ، عن تغذية التقسيم. لأن الفنون الجميلة ـ وضمنا ً الفنون الأخرى/ والفنون الهامشية ـ لم تجد جسورا ً مع من هم بحاجة إلى أساسيات الحياة: الخبز والماء والإضاءة والقليل من الهواء غير الملوث.
     على أنني عقدت ثقة ليست عمياء تماما ً مع إرادتي في الانحياز إلى الفن. فثمة ظلمات لم أكن لأدرك كم هي بلا حافات لولا هذا القليل من الإنارة ـ وهذا القليل من الومضات. لكن القلب، هو الآخر، لا يعمل إلا كعمل مجرة بين المجرات! فهو لا ينبض بسبب أوامر يصدرها العقل، مع ان اللاوعي يسمح للوعي بمجاورة الضوء، والتدشينات السحرية. بمعنى اقل إحباطا ً للمغامرة فان القلب ـ بصفته مجرة وليس نجما ً أو كوكبا ً ـ  يوازن بين برمجته نحو موته بغواية العثور على خلاص غير مزيف تماما ً. فانا لا اعمل وكأن كل جزء من الثانية ـ حد عمل قوى اللا مرئيات ـ برمج آليا ً في (الماكينة التي تخيلها ديكارت) وفي الوقت نفسه، فان تفنيد المصادفة/ المصادفات، لن يفند ظاهرة الاضطراب ـ ومبدأ: اللا متوقع ـ واللامعقول في الأخير. فالأشياء بوجودها ليست بحاجة إلى برهان ـ لأنها وجدت تلقائيا ً، أو خرجت من العدم ـ مادامت أفكر بأدوات، هي، غالبا ً، من أسهمت بصياغة هذه التصورات. فانا  كمحدود أدركت ـ وهو مثال يقارن  بحدود وعي الآخرين ـ  ان اللامحدود الذي شغلني/ وشغلنا، لا يمتلك إلا ان يكون بحدود ما أنتجه المحدود، مع ان اللامحدود سيبقى ـ كالعدم أو كالأثير عند قدماء الحكماء ـ قائما ً ولا يمكن تفنيده. إلا أنني سأزداد شكا ً في تصوراتي، ولن استعين بها إلا نتيجة حتمية لاشتباكي مع المستحيلات؛ مع الزمن، ومع ديمومة التقسيم بين من اخترع التصورات وآخر لا يمتلك إلا ان يتدرب عليها، ويفندها، حيث العدالة ـ منذ أيوب السومري ـ لم يفلح إلا قلة ـ حد الندرة ـ من تخيل حتمية وجودها، كوجود العدم تماما ً. لقد كان عقلي احد أسباب انحيازي لرهافة طالما وجدتها في ما لا يحصى من المشاهد، ان كانت بالغة الدقة، أو باتساع المديات ما بين اللاحافات. ولكن قد تكون الرهافة ـ هنا ـ المصدر الأول، وليس الآخر الذي حدد عملها ـ هو السبب المباشر لها! لكني سأدرك ـ بالوعي وبالرهافة ـ ان احدهما لا يمكن فصله عن الآخر. فمن سوى العدم يستحيل ان يكون للوجود هذا التتابع، المحكم، حد ان اللا متوقع ـ والمصادفات ضمنا ً ـ مظهرا ً من مظاهره ـ وبرهانا ً على وجوده. لكن أي لغز سيحدد ماهية أو آلية عمل تلك القوة الداخلية ـ التي تبدو غير قابلة للدحض ـ في مواجهة استعادة العدم لموجوداته!
[7] اللا حافات ـ أو المشفر

     أيا ً كانت النتائج: كل ما لم ْ ير عبر الحواس، أو عبر الحدس، أو عبر العقل، إن كان العدم الممتد ـ  غير المدرك ـ أو الذي سينتج حلقة ما في التحولات، فان إرادة حياة الفرد لا يمكن عزلها عن مكوناتها ـ وتتابع أزماتها ـ كي ترتقي إلى الأفعال الخالصة. فالنسبية تعني أني مقيد بما امتلك، وليس بما أتخيل، أو افترض. لأن التصورات ليست مستقلة في ذاتها أو تعمل بمعزل عن مكوناتها.
     أتذكر ـ هنا ـ أنني سألت زميلة لي في العمل حول سبب عدم نشرها مخطوطات كان والدها قد أنجزها ولم ينشرها، فقالت بصيغة سؤال: وماذا تنفعه إن لم تخلصه من الآثام؟ فسألتها: وما ـ بتصورك ـ فيها من آثام؟ فقالت:  إن نصوصه الشعرية تتحدث عن مفاتن الحياة وغوايتها! هذا الحوار سمح لي أن استبعد نظام الذهاب إلى اللا عمل والوصول درجة الاتحاد بالكل، إنما ـ بعد أيام ـ سألتها: وما نفع كل ما تنجزه المخلوقات الزائلة للذي لا يزول؟  لم تبلغ في ردها ما كنت آمل أن تجمّد في ّ جذوة الشرود. لقد تحدثت عن الفضائل وما ينفع الناس. جيد. قلت لها: ربما في قصائده السر ذاته الذي لا يوجد إلا في الكلمات، أو عبر مشفراتها. السر الذي يتوارى في الأنظمة المشفرة للهندسات الجينية، بل الذي قد يكون سكن تصوراتنا ووعينا وحدوسنا التي تمتلك صدمات اللا متوقع، واللامعقول، لكن التي لها لغز هذا الذي يأتي من المجهول ليذهب ابعد منه! فقالت: أنا لا افهم هذا الكلام!
     مع زميلتي المشفرة بدفاعاتها، استعدت حوارات لي مع الأستاذ مدني صالح ـ أستاذي وصديقي حتى رحيله ـ فلم يصدمني صالح بنبوغه وعبثه ووعيه الشعري كما صدمني وهو يتحدث عن عدم اكتراثي للغرائب، بل ولا للصدمات!
     قلت لها: وهل يكترث المطلق ـ اللامحدود ـ  لنا، ولشطحاتنا، ولظلالنا المائلة، ولعثراتنا...وماذا لو اكترث، وجرت معاقبتنا ـ بعد موتنا أو في حياتنا ـ إن لم تكن غاية لها ذروتها بما تمتلكه من حكمة! وأضفت: لكني أرى أن انشغال بعضنا بما يبدو فائضا ً، أو له معناه المغاير لانشغالات البشر بحياتهم اليومية، كالبحث أو الذهاب إلى المناطق النائية، لم يولد قسرا ً أو يولد من الفراغ. هل دار بخلدك أن يوما ما سيأتي يتمكن فيه الناس من استعادة ما حدث في أي زمن ـ وفي أي مكان، للتعرف على قانون: لا عبث ولا مصادفات في الديمومة، لا التي تعرفنا عليها ولا التي مكثت مقيدة بقيودها، إنما التي تجعل المعارف ـ كافة ـ مع قليل من الفضائل، لا يمكن عزلها عن نسبية أحكامنا، وأفكارنا. فاللامحدود يتسلل عبر نظامه كي يكتشف المحدود لهفته في المغادرة، لكن للامساك بما اعتقد فيه، أو تصوّره، بل للذي سيبقى ابعد من تحديد موقعه الذي استحال إلى قيود عند البعض، والى سكن في اللا حافات عند البعض الآخر!



تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


الخميس، 9 يونيو 2016

قصة قصيرة الذئب فائضا ً-عادل كامل

قصة قصيرة

الذئب  فائضا ً


عادل كامل
     أفاق عند ضفة البركة، فوجدها كدرة، متموجة، فلم يفلح في معرفة من يكون. لم ير ملامح وجهه، فعاد يسأل نفسه اذا لم يكن يعرف من يكون، فما الذي  كان عليه...، وما الذي سيكون عليه، لو مكث يجهل أكان هو الذي يحاور نفسه أم نفسه هي التي تحاوره، أم لا احد منهما يحاور الآخر، وإنما هذا هو تحديدا ً ما يستحق المعرفة.
    لم يقدر على استدراج طرفة خطرت بباله، حول الحمل الذي فلت من أنياب الأسد وقد استحال إلى فأر، وراح يهتف: ما أحلى النصر، ما أجمله...، كما فشل في استذكار حادث مؤلم للحمل ذاته وقد اسر أسدا ً وراح يبول عليه...، فوجد انه لا يتذكر شيئا ً مسليا ً ولا شيئا ً كدرا ً بعد ان أحس انه أصبح فائضا ً عن نفسه، ونفسه أصبحت غريبة عليه.
   فانا ـ دار بخلده ـ لا اقدر على الضحك، ولا على البكاء، ولا على فتح فمي. فترك رأسه يستدرج جسده للزحف باتجاه صخرة شعر إنها ليست غريبة عن بصره...، وما ان لمسها حتى أدرك إنها ليست نباتا ً شوكيا ً، ولا قنفذا ً، وإنها ليست شبحا ً تحول إلى تمثال، فترك رأسه يستقر فوقها، للحظات، ولم يبتعد عنها إلا عندما اختلطت عليه الصوّر بالأصوات فخاف منها مبتعدا ً ليقف في العراء.
    متى خرجت من القفص، والى أين ذهبت، ماذا جرى لي كي استيقظ واجد نفسي أمام ضفة البركة تحت سماء رمادية، ولا اعرف من أنا، متابعا ً يسأل نفسه، كأن احدهم كان يتسلى بي، أو كأنه كان يحاول استنطاقي، فقلت: أنا لا امتلك إلا ان ألبي لك ما تريد، فليس لدي ّ ما اخسره، وليس لديك ما تربحه مني!  لا...، لا، لا ...، أنا لا أتذكر إنني فتحت فمي، وأضاف بشرود، وأنا لم أغلقه أيضا ً.
     لمحه غزال جاء إلى البركة، عند الفجر، فاقترب الغزال منه وسأله:
ـ ما الذي حل بك، يا سيدي، ماذا حصل لك...؟
انتبه إلى الصوت، فهز رأسه:
ـ أتتكلم معي...؟
فقال الغزال:
ـ لا احد غيرك يوجد هنا في هذا الركن من الحديقة.
   اقترب من الغزال ببطء شديد، وسأله:
ـ من أنا..؟
فز الغزال، وكاد يضحك:
ـ آ ....، لو كنت استطيع ان اعرف فهل تراني فكرت ان أسألك ما الذي جرى لك ..؟
ـ آ ....، إذا ً جرى لي  ...، ما لا استطيع معرفته.
ابتسم الغزال بشرود:
ـ إذا كنت أنت لا تعرف ماذا جرى لك، فهل تعتقد إنني اعرف ما لا تعرفه؟
ـ صحيح، أنت على حق!
     وعاد لا يرى أحدا ً سوى غمامة رمادية تلاشت أمامه مندمجة بمساحة لا يعرف أكانت تقترب منه أم كانت تبتعد عنه.
    سمع صوت طائر فلم يميزه ...، اقتربت حمامة، وحطت بجواره:
ـ من أنت...؟
ـ غريب...، قبل قليل سمعت من يسألني السؤال نفسه.
ـ إذا ً فأنت لا تعرف ما الذي قادك إلى هذا الوضع.
ـ وضع؟ أنا في وضع...؟
     اقتربت الحمامة كثيرا ً منه، وهمست بصوت مرتبك:
ـ سأستدعي الغراب...، فهو افهم مني، وإذا تطلب الأمر فسأبحث عن البوم، احكم الحكماء، لنجدك ..!
ـ ومن هو الغراب...، ومن هو احكم الحكماء ...، وأنا نفسي لا اعرف ماذا حصل لي...؟
    طارت الحمامة وعادت ومعها الغراب. صدم الأخير وهو يتأمله، فخاطبه:
ـ لا تخف ...، ما عليك إلا ان تخبرنا ماذا حصل لك قبل ان نذهب بك إلى الطبيب..
، هل تعتقد إنني اشعر بالخوف...؟ ما الخوف...، ولماذا ينبغي ان أحس به...؟
ـ حسنا ً..، ألا تشعر بالبرد...؟
ـ ماذا تقصد بالبرد...؟
ـ حسنا ً...، ألا ترغب ان تنام...؟
ـ وهل أنا مستيقظ...؟
ـ ألا ترغب بالراحة..؟
ـ هل أنا متعب....؟
    طار الغراب ليأتي بالسيد البوم. فاقترب الأخير منه، وسأله:
ـ أأنت مريض...؟
فتح فمه بصعوبة:
ـ اخبرني أولا ً من أنا...، لو سمحت..؟
عاد الغراب وسأله:
ـ ألا تشعر بالبرد..؟
ـ ما المقصود بالبرد، كي اشعر به...؟
ـ آ   ...
   أومأ البوم له ان لا يضطرب، وخاطب البوم الغراب والحمامة:
ـ ربما يكون شرب من ماء البركة، أو تنفس هواء ً فاسدا ً، أو أسرف في الطعام...؟
     اقتربت الغزال منهم:
ـ أنا لمحته هكذا لا يعرف من يكون...، حتى انه سألني: من أنت ِ..؟ فاضطربت وفضلت ألا ادخل في هذه المعمعة.
سألها البوم:
ـ أنت ِ إذا ً أول من شاهده عند البركة ..؟
     صدمت، فأجابت مرتبكة:
ـ من الصعب علي ّ الاعتراف بأنني هي أول من رآه، فهناك الطيور...، وهناك البعوض، وهناك تلك الكاميرات اللعينة التي تراقب ذبذبات عقولنا، ونبضات ضمائرنا.....؟
تدخل الغراب:
ـ حقا ً إنها قضية مثيرة للجدل...، فما دام ـ هو ـ لا يعرف من يكون، فهل يحق لنا تحديد هويته، خاصة إنكم تتذكرون الفأر الذي زعم انه تحول إلى نمر، والأرنب الذي استحال إلى تمساح، والقنفذ الذي راح يغرد مثل البلابل!
   رفع الآخر رأسه قليلا ً:
ـ أنا سأخبركم بكل ما اعرفه عن الحظائر، والزرائب، ولن اخفي شيئا ً عما جرى في جناح الخنازير، والقرود، والأفاعي...، حتى إنني أبديت استعدادا ً تاما ً للتعاون معكم من اجل سلامة حديقتنا...، فأين نذهب إذا هدموها علينا، وخربوها، بعد ان طردونا من البراري ...؟!
   شرد ذهن الغراب، يخاطب الحمامة:
ـ إنها الحمى! حمى البعوض، فهي تؤدي إلى التشوش، فتختلط الحواس في عملها، تصبح السماء أرضا ً، والأرض سماء ً...، يصير البغل ضبعا ً، والقط ثورا ً...! آ ...، عندما تنعدم الحواس يفقد العقل توازنه داخل هذا الرأس!
   قال يخاطب الغراب بصوت خفيض:
ـ أرجوك ...،  لا تسلخ الطبقة الأخيرة من لحمي...، كفى حرقا ً حتى الطبقة الرابعة، ودع عظامي آمنة! فلا جدوى فانا أخبرتكم بما جرى في قاع البركة، وفي جناح القمل...!
   همس البوم في آذن الغزال:
ـ هذا هو ما جرى لك ِ ذات مرة...!
   انتفضت مذعورة وهي تبتعد:
ـ لا، لا، لا، لا أنا لم استجوب...، ولم اختطف، ولم أصبح رهينة، ولا احد دفع الفدية، كل ما حدث هو شكوك فندتها في الحال، فالأسد الذي حاول إغوائي، ولا أقول حاول افتراسي، ندم، وتأسف، وأعلن براءته...، وعاد وأكد انه ود لو عملت معه في السيرك، فقلت لسيادته: أنا أفضل ان تفترسني على ان تصنع مني لاعبة على الحبال، فهذا عيب، ومخل بالكرامة..، وتقدمت منه وصرخت: افترسني! لكن سيادته فتح فمه...، كم كان معطرا ً برائحة الورد الميت، وقال لي: ها أنت تثيرين البلبلة...! فهددته إنني سأذهب إلى القائد واعترف بالحقيقة، صعق، وتأسف انه تحرش بأحد أتباع سيدتنا الببغاء!
    ابتعد كثيرا ً، وتبعها البوم، مهرولا ً خلفها، وكلما أسرعت أسرع أيضا ً، حتى وجد الغزال تجلس القرفصاء تولول، فصاحت فيه:
ـ ماذا تريد مني...؟

 اضطرب للحظات، ثم استدرك وسألها:  
ـ من سمح لك بالخروج في هذا الفجر البارد...؟
صاحت:
ـ اقسم لك أنا بريئة...، ولم أكلف بعمل خارج التكليف...، فأنت تعرف إننا نعمل وفق الزمن الخالد، فلا نخلط بين المشاعر والعقل، ولا بين الممكن والمستحيل!
ـ أنا لم انو استجوابك...، فلا تخافي.
ـ ماذا تريد مني أيها الطيف الناعم...، مع انك لا تراني إلا شبحا ً...؟
ـ سلامتك! فقط كنت أريد ان اعرف من رأى بقايا هذا المخلوق ....؟
فقالت حالا ً:
ـ الحمامات، الغربان، البعوض، الأشجار، والأرض أحصت خطاه ...، ومن المؤكد ان الغيوم راقبته وهو يقترب من البركة.....؟
ـ معلومات قيمة، ذات أهمية نادرة ...، ولكن لم  أنت خائفة وترتجفين...، وأنت واحدة منا في هذا الجناح المختلط الكبير...؟
   سأل الغراب الآخر:
ـ هل أفقت....؟
ـ لك الحق ان تقول ما تراه صائبا ً...، فهذه ليست صلاحيتي للبت ما إذا كنت أتجول نائما ً أو إنني غادرت الحلم...؟
ـ إذا كنت لا تساعدني، فكيف استطيع ان أمد لك يد العون...؟
    بصعوبة فتح فمه ونطق:
ـ أنا لم اطلب منك هذه المساعدة..
ـ آ ....، جيد، إذا ً دعنا نقول انك كنت تتنزه...؟
ـ أرجوك...، لا تشوش علي ّ، فانا كدت اعثر على دليل ...، يفضي...إلى... معرفة من أكون...؟
ـ جيد...، جيد.
    عاد البوم ملوحا ً بالعثور على معلومات، فاقترب من الغراب، وهمس في آذنه:
ـ الغزالة ذاتها تعاني من العصاب ذاته، فالأسد كاد يفترسها بحجة إلحاقها بالسيرك!
ـ لا تربكني...، دعني أفكر، فانا أيضا ً كدت اعرف من يكون...، لولا إنهم لم يتركوا له أثرا ً دالا ً عليه.
   فسأل البوم الغراب وهو يراقب شاة كانت تقترب منهم:
ـ تعالي...، تعالي.
   اقتربت:
ـ ماذا تفعلين هنا...، في هذا الفجر...؟
ـ لا اعرف ...،  ربما طلبني السيد الذئب!
ـ أي ذئب؟
   وأضاف البوم يسألها:
ـ أين هو هذا الذئب...؟
  ردت الشاة بصوت متلعثم:
ـ هذا هو سيدي الموقر ذاته الذي ...
     قال الغراب يخاطب نفسه:
ـ الآن بدأنا نمسك بالخيط....!
    سأله البوم:
ـ أي خيط، والذئب استحال إلى نبات!
ـ لا...، لا.
  صاحت الشاة:
ـ انه يكاد يشبه حفيدي!
   صاحت الحمامة وهي تحلق عاليا ً:
ـ لم ننته من أسلافنا بعد، وها هم يتحدثون عن الأحفاد...؟
    تمتم الذئب مع نفسه بصوت خفيض:
ـ ها أنا بدأت اعرف من أكون...!
   لكن الصور اختلط عليه، وتداخلت الأصوات، ولم يعد يرى سوى ومضات مشوشة تقترب منه:
ـ كل ما اعرفه إنني ...، كنت أتجول وحيدا ً....، وحيدا ً...، أو من غير نفسي!
  اقتربت الشاة من الذئب وصاحت تخاطب الغراب:
ـ لا...، أنا لم أر هذا من قبل...، مع إنني كنت رأيت شبيهه، أو ربما طيفه!
قال الذئب:
ـ آ ...، أنا بدأت استعيد ذاكرتي، بل بدأت أفكر!
صاح البوم:
ـ مع ان الغيوم حجبت أشعة الشمس، إلا انك تستطيع الدفاع عن نفسك!
ضحك الغراب:
ـ ما علاقة هذا بتحديد الهوية...؟
قالت الشاة:
ـ اسمحوا لي بتقديم خالص عزائي!
ـ على م َ ...؟
سألها البوم، فأجابت بتردد:
ـ كان علينا ان ننقله إلى الطبيب، بدل إضاعة الوقت.
أجاب الذئب:
ـ أرجوكم ...، اخبروني، هل عرفتم من أنا... ؟
أجاب البوم:
ـ سيساعدنا الطبيب ..فهو المخول الوحيد بالحديث.
   وجد جسده يتمايل، ولا يقو على المشي، فبرك فوق العشب. فاقترب الغراب من البوم:
ـ حماقة ...، ألا تعتقد إننا نغامر بمصائرنا...؟
   أومأ البوم برأسه موافقا ً، وحلق عاليا ً، فتبعه الغراب.
    أفاق مجددا ً، وسأل نفسه:
ـ ما الذي حدث تماما ً...؟
   تقدم من البركة، ومد ساقه متلمسا ً الماء، كان باردا ً جدا ً:
ـ ربما كنت خرجت من البركة...؟!
   لم يستمع إلى الرد، بل إلى صدى فتخّيل انه سمع، فأصغى:
ـ فأنت لم تعد وحيدا ً، ولم تعد مع احد...، كأنك بعيد عن المراقبة، والرقابة، والرصد...، فلا احد هناك، لأنك  بعد الآن لن تستطيع ان تعرف انك أصبحت وحيدا ً، أو انك مع لا احد...!
1/6/2016

الفيسبوك والتويتر والتغيير في الشرق الأوسط: الشبكات الاجتماعية مساحات للتأثير والتغيير-اريانا هفنغتون



الفيسبوك والتويتر والتغيير في الشرق الأوسط:
الشبكات الاجتماعية مساحات للتأثير والتغيير


اريانا هفنغتون

ترى الكاتبة اريانا هفنغتون ورئيسة تحرير الهفنغتون بوست في هذه المقالة أن هناك أثرا كبيرا للتكنولوجيا والشبكات الاجتماعية مثل الفيسبوك في تعزيز ثقافة السلام في الشرق الأوسط بعد أن كان يستغلها الإرهابيون لتنفيذ أجندتهم السياسية والفكرية المتطرفة.



"تستخدم الحكومات والمنظمات غير الحكومية والمجموعات والأفراد في كافة أنحاء المنطقة المنتديات الاجتماعية للتأثير على مجتمعاتها سياسياً وثقافياً واجتماعي" نعلم جميعنا الأساليب العديدة التي استُخدِمَت فيها الإنترنت في خدمة الإرهاب، والمواقع المرتبطة بالقاعدة وأشرطة فيديو التجنيد وتحميل آخر خطابات أسامة بن لادن الموجّهة وأدّلة "كيف تفجّر الأهداف" على شبكة الإنترنت. كانت القاعدة وأنصارها أول من تبنى الإنترنت واستخدموها بشكل هدّام لقدرتها على الربط بين الناس. إلا أن هناك توجه معاكس بدأ يبرز اليوم: ترابط أوسع انتشاراً في الشرق الأوسط. نتيجة لذلك، نستطيع الآن تغيير أثر التكنولوجيا والإعلام الاجتماعي ليتوجه نحو السلام وليس الإرهاب فقط.

كان ذلك في الواقع واحداً من المواضيع التي جرى التعامل معها في مؤتمر شاركْتُ به مؤخراً في أبو ظبي. لقد حضرت الكثير من المؤتمرات التكنولوجية في الماضي، ولكنني نادراً ما شهدْتُ نوع الحماسة والتفاؤل الذي شهدْتُه في مؤتمر "سير بني ياس"، الذي عقده الشيخ عبد الله بن زايد، وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة ومعهد السلام العالمي. وكان من بين المشاركين في المؤتمر سلام فياض، رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، وعمرو موسى، أمين عام جامعة الدول العربية، ومسؤولين كبار من الأردن وفلسطين وماليزيا والباكستان والبحرين. عندما تحدثْتُ في اليوم الثاني من المؤتمر عن كيفية استخدام الإعلام الاجتماعي لتشجيع السلام والأمن في الشرق الأوسط صُدِمت لمدى استعداد العديد من القادة العرب الحاضرين لاحتضان هذه الأدوات الاجتماعية بشكل أوسع. وكان من بين هؤلاء خالد آل خليفة، الذي يصف نفسه على التويتر بأنه "دبلوماسي وسفير ووزير خارجية البحرين وقارئ ومسافر عالمي ومولع بالحياة الجيدة". وهو أيضاً من أتباع التويتر بحماسة شديدة، أجاد فن معرفة أتباعه بشكل كامل.

الأردن كنموذج
 
اشتهرت الملكة رانيا باستخدام الفيسبوك واليوتيوب والتويتر

أخبرني وزير خارجية الأردن ناصر جودة أثناء العشاء عن مقابلة حيّة على التويتر استضافها هذا الصيف، حيث استقبل أسئلة، بعضها هادف، من مستخدمين أردنيين للتويتر أو أتباع على هذه الأداة الاجتماعية. وبالطبع، اشتهرت الملكة رانيا باستخدام الفيسبوك واليوتيوب والتويتر، حيث يوجد لها 1,3 مليون تابع، وهو أمر حيوي في عالم الاتصالات. وفي فترة مبكرة من هذا الشهر، أرسلت رسالة على التويتر تقول فيها أن "التكنولوجيا ليست ترفاً من العالم المتقدم، بل هي أداة حاسمة للعالم النامي". وهذا صدى قوي لتأكيدات بيز ستون مؤسس التويتر بأن "التويتر ليس نصراً للتكنولوجيا وإنما نصر للإنسانية".

تستخدم الحكومات والمنظمات غير الحكومية والمجموعات والأفراد في كافة أنحاء المنطقة المنتديات الاجتماعية للتأثير على مجتمعاتها سياسياً وثقافياً واجتماعياً. وفي الأردن، ينشط الشباب في إرسال الرسائل النصّية ورسائل التويتر ويستخدمون الفيسبوك واليوتيوب للفت النظر إلى قضايا بيئية. وهي قضايا تثير القلق في كافة أرجاء المنطقة. وقد ارسل وزير خارجية البحرين مؤخراً رسالة تويتر تقول: "جرت تسمية دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين من بين أسوأ الملوّثين البيئيين في قائمة عالمية".

شاهد على الأحداث

لطالما ظلت الانترنت والشبكات الاجتماعية وسيلة لنشر أفكار التطرف والإرهاب

وفي مصر يستخدم الشباب الأدوات الاجتماعية هذه لتسليط الأضواء على وحشية الشرطة ومحاولة الحفاظ على صدق حكومتهم. وبالطبع عقدت مصر الأسبوع الماضي أول جولة من انتخاباتها البرلمانية، وقد رفضت السماح للمراقبين الدوليين مراقبة عملية التصويت. إلا أن الموقع (U-Shahid.org) ("أنت الشاهد") حاول ملء هذا الفراغ من خلال محاولة الحصول على تقارير المواطنين حول مشاكل العملية الانتخابية. وقد تمكّن المصريون من الإبلاغ عن الأخطاء عبر البريد الإلكتروني والتويتر (USHAHID) والرسائل النصيّة التي تتابعها U-Shahid على خريطة تفاعلية. ولدى U-Shahid حالياً 125 متطوعاً ومتطوعة يعملون على المشروع.

وفي أماكن أخرى في مصر يهدف مشروع جديد إلى تسجيل حوادث تتعرض فيها النساء إلى التحرش في شوارع القاهرة، وهي مشكلة ضخمة هناك، إذ تقول 83% من النساء المصريات أنهن تعرضن للتحرش الجنسي HarassMap موقع جديد يساعد المرأة على الإبلاغ عن سوء المعاملة، بشكل مجهول، عبر التويتر والفيسبوك والبريد الإلكتروني والنصّي. ويأمل الموقع أن يتعرف على أماكن في القاهرة حيث التحرش سائد بشكل كبير، ثم القيام بأعمال تواصل مجتمعي في هذه الأحياء.

التغيير من الأسفل إلى الأعلى

وفي لبنان تقوم مؤسسة "التبادل في الإعلام الاجتماعي" بتدريب الناس على استخدام الإعلام الاجتماعي لتطوير مشاريع مثل "بناء ثقافة السلام"، الموجهة نحو تعليم الناشطين اللبنانيين الشباب كيفية حل النزاعات. ويقوم الشباب عبر الشرق الأوسط بتحميل "تطبيقات شباب الشرق الأوسط عبر الـ "iPhone"، وهي تَعِد بأن تجمع في مكان واحد ما يقوله الناس في الشرق الأوسط على التويتر والفيسبوك والفرندفيد ومجموعة متنوعة من المواقع التي تتمتع بالشعبية. ومن بين ميزاتها تقارير إخبارية عن الشرق الأوسط وآخر رسائل التويتر من المنطقة والبودكاست لشباب الشرق الأوسط وقائمة لمجموعات حقوق الإنسان في الشرق الأوسط على الفيسبوك.

لم يعد أفضل أمل لنا بالتغيير في المنطقة العملية التي غالباً ما تفشل والتي تقوم من خلالها حكوماتنا بالضغط على حكوماتهم. وإذا حصل التغيير الأساسي فسوف يأتي من الاسفل إلى الأعلى، حيث يقوم الإعلام الاجتماعي بدفع عجلة هذا
التحوّل.

"دار الغاوون" تُصدر رواية "الممثل" للجزائرية شريفة فداج :





"دار الغاوون" تُصدر رواية "الممثل" للجزائرية شريفة فداج


 : "الممثّل" هي باكورة الروائية الجزائرية الشابة شريفة فداج (مواليد مدينة سيق بالجزائر العام 1979) صدرت حديثاً لدى "دار الغاوون".
الرواية التي تهديها شريفة فداج إلى عبد القادر علولة وعز الدين مجوبي، وهما فنانان جزائريان كبيران اغتالتهما جماعات مسلحة (الأول عام  1994والثاني عام 1995)، تخوض في تعقيدات المجتمع الجزائري من خلال قصة ممثل جزائري يُدعى فريد بن يحيا، مُصاب بمرض غريب (يُشبه ربما المرض الذي يعاني منه مجتمعه) جعله في نهاية الأمر يهجر التمثيل دون أن يعرف أحد من فرقته إلى أين ذهب.
على مدار سبعة فصول تأخذنا الروائية إلى عالم المسرح مازجةً إياه بمسرح الحياة الحقيقي، لنتعرّف على الإنسان في لحظات ضعفه وقوته، نجاحه وسقوطه، من خلال سرد متأنٍّ بلا إبطاء، ذكي المخارج، يُبشِّر بروائية بارعة تُعلن عن نفسها في هذا العمل الأول.
من مطلع الرواية نقتطف الآتي:
"غرفة النوم عالية السقف، متحف عصري، مساحة واسعة وتلفزيون كبير مُثبَّت على الحائط المقابل لسرير مزدوج مخملي اللون. أنار الأباجورة القابعة فوق منضدة صغيرة، وشاهد مجموعة الصور الموضوعة بعناية على التسريحة، ولفت انتباهه تمثال بعلو نصف متر لامراة تحمل طفلاً على الجانب الآخر من السرير، تساءل: ألا تخاف أن يسقط عليها هذا الشيء وهي نائمة؟ إنها تحيط نفسها بالكثير من الوجوه والصور، ما المتعة في ذلك؟ لا أدري إن كانت تملك الوقت لتتكلّم أو تسترجع ذكرياتها معهم؟ إنهم في أماكنهم يشاهدون يومياتها، ولعلها أفضل طريقة لتقول لهم شاهدوني وتباً لرأيكم.
تقدَّم بضع خطوات نحو الحمّام، كان الباب مفتوحاً: "كل شيء مرتّب ونظيف كأنها لا تستعمله أبداً وحوض الاستحمام كبير بما يكفي لأتمدَّد داخله".
ثبَّت نظراته على المرآة، لكنه لم يرَ وجهه، كان شخصاً آخر يحدِّق فيه، لم يستطيع أن يصرخ أو يركض بعيداً، أحس بأن ثمة من يمسك به بقوّة ويضع يده على فمه، لحظات والتفت نحو الباب: "ثمة من دخل الشقّة"!
حرَّك رأسه في كل الاتجاهات محاولاً إيجاد مخرج، استعدَّ للجري نحو النافذة لكنه تعثّر وسقط أمام السرير. أسند جسمه بيدَيه ورفع عينَيه فرآها واقفة عند باب الغرفة تنظر إليه مصدومة خائفة تسأله: "من أنت"؟!
اختفت من أمامه فقام مسرعاً ولحق بها، كان صوتها قد بدأ يعلو مستغيثاً فأمسك ذراعها ورجاها أن تسكت قائلاً: "أرجوك. أنا عامل الصيانة الذي بعثته إدارة البناية أنا آسف لأنني أخفتك سيّدتي".
لكنها ظلّت ترتجف، وعندما وقف أمامها رأى وجهها الشاحب فاعتذر مرّة أخرى: "لقد كنت أحاول صيانة سخّان الحمّام، وعندما سمعت صوت الباب خرجت لأرى من القادم، لكنني سقطت كما ترين".
ترك ذراعها متراجعاً إلى الوراء.
سألته والخوف ما يزال يغلّف ملامحها: "كيف دخلت إلى هنا، لم يخبرني أحداً بأنك هنا... من أعطاك المفتاح"؟
ردَّ: "الإدارة يا سيّدتي".
أدخل يده في جيب قميصة وأخرج مفتاحاً قدّمه لها قائلاً: "هذا هو المفتاح".
أمسكته وبدأت تسترجع هدوءها، ثم قالت وهي تضع يدها على جبهتها: "ظننتك لصاً".
ضحك ضحكة متقطّعة معبّراً عن اعتراضه وهو يقول: "لو كنت لصاً لسرقت شيئاً على الأقل".
بدأ في معاينتها عن قرب بعدما اطمأن إلى أنها لن تصرخ في وجهه. إنها تلبس تنّورة قصيرة وقميصاً وردية فتحت أزرارها العلوية الثلاثة مع قلادة رقيقة تحمل وروداً صغيرة متناسقة تتدلّى من رقبة طويلة، وسُمرتها واضحة، لكنَّ عينَيها بلون حقول الجبال.
إنك امرأة عصرية جداً، تعودين من عملك وترمين حقيبتك على الأريكة وحذاءك عالي الكعب عند مدخل الباب، لكنك اشتريت شيئاً اليوم... نظر إلى كيس أبيض ورقي كان على الأرض. ماذا يوجد داخل هذا الكيس؟ تبدو كمزهرية.
قالت بكلمات سريعة: "ليس من عادتهم أن يستجيبوا بهذه السرعة ولم يتصل بي أحد لإخباري".
ردّ عليها: "سيّدتي، لقد طلبوا منّي أن أقوم بعملي وتوقّعت أنهم قد أعلموك بذلك".
قالت بعصبيّة: “كيف تسمح لنفسك بالدخول وأنا غير موجودة”؟
قال محاولاً السيطرة على توتّره: "إنه تماماً مثل النظام المعمول به في الفنادق يا سيّدتي، عندما تخرجين يأتي من ينظّف المكان".
"لكنني لا أعيش في فندق".
سكتت للحظات ثم قالت دون أن تنظر إليه: "سأتصل بالإدارة لأفهم الموضوع".
تسمَّر في مكانه، وأحسَّ أنه قد تحوَّل إلى تمثال. عيناه فقط من تتابعان يدها تمتدّ إلى حقيبتها وتخرج هاتفاً محمولاً، إنها تتصل برقم ما، تنتظر ثم تتصل مرّة أخرى. رآها تستجمع قوّتها وتكشّر عن أنيابها لتمتصّ دمه، وتمزّقه بسكين المطبخ... تنهّدت بيأس وقالت: "لا مجيب".
ظلَّت صامتة للحظات، أما هو فقد كان يكرّر شكره لله.
سألته بصوت أكثر ثقة: "أين عدّتك"؟
"فوق الطاولة هناك".
نظرت إلى طاولة المدخل ثم سألته: "والسخّان"؟
قال مشيراً بيده إلى غرفتها: "كنت أعاينه ثم أتيتِ فجأة، يمكنني أن أتابع عملي إذا سمحت لي".
رفعت حاجبَيها وهي تنظر إلى هاتفها ثم قالت: "سأخبر الإدارة متى يمكنك العودة، لكن قبل ذلك لا أريدك أن تدخل إلى بيتي إذا لم تدقّ الجرس وأفتح لك حتى ولو كان معك مفتاح".
أحسّ بغضبها وفهم قصدها فاتجه نحو الباب، لكنها استوقفته قائلة: "ماذا عن علبتك"؟
عاد وحمل علبة المعدّات، ثم شكرها وخرج.
وقف أمام باب شقّتها وتخيّلها وراء الحائط تلعنه وتقول لنفسها إنه كاذب مخادع فقال: "عليك اللعنة أنت أيضاً! لماذا غادرت عملك مبكراً؟ أليس من عادتك إنهاء دوامك قبل الخامسة"؟ ثم فكَّر أنها الآن لا بد تتفقَّد أغراضها وتحاول الاتصال مرّة أخرى بالإدارة: "عليَّ الابتعاد".
استعدَّ لنزول السلّم، لكن ثمة من أمسك به ودفعه داخل رواق طويل مضيء: "امشِ أسرع، من هنا من هنا".

الأحد، 5 يونيو 2016

إزرا باوند.. العبقري المجنون-* نصر عبدالرحمن

إزرا باوند.. العبقري المجنون

* نصر عبدالرحمن


أهدى «تي إس إليوت» ديوانه الشهير «الأرض الخراب» إلى «إزرا باوند»، ووصفه بالمُعلم الأكبر، اعترافاً بدوره في تنقيح تلك القصيدة الملحمية الطويلة. ومن الغريب أن إليوت أصبح أهم شعراء القرن العشرين، وحصل على مكانة أدبية واجتماعية لم يحصل عليها شاعر آخر، بينما كاد النسيان يطوي باوند وأعماله شديدة التنوع والثراء، رغم دوره المحوري في تطوير الحركة الشعرية في النصف الأول من القرن العشرين، وأثره الكبير على تطور الشعر الحديث، وتأثيره العميق والمباشر على مجموعة من أشهر مُعاصريه من الشعراء.
ترك باوند أثرا كبيرا في ويليام كارلوس ويليام؛ رائد الشعر الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين، وروبرت فروست وغيرهم من عمالقة الشعر الأمريكي بعد ذلك. لم يقتصر تأثيره على الشعراء فقط، بل إنه أثر في العديد من الأدباء، من بينهم أسطورة السرد جيمس جويس، والروائي الأمريكي الكبير أرنست هيمنجواي، الذي اعترف بعد ذلك بأن باوند قدمه إلى العديد من مُبدعي أوروبا، وأطلعه على الكثير من الأعمال الأدبية المهمة حين التقى به في باريس، ووجه إليه نصائح ذهبية ساهمت في تشكيل أسلوبه في الكتابة ورؤيته للحياة.
يكمن السر وراء ما تعرض له باوند من حالة إنكار مُتعمد إلى كراهيته الشديدة للولايات المتحدة الأمريكية وللحركة الصهيونية، وإلى تركيبته الشخصية التي اتسمت بالتمرد ورفض الانصياع إلى المؤسسات السياسية والاجتماعية، واستهانته بالقيم الاجتماعية الراسخة. ولد باوند في ولاية «آيداهو» بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1885. التحق بجامعة بنسلفينيا، ودرس الأدب المقارن عام 1900، ولكنه لم يتمكن من التأقلم مع المجتمع الأمريكي ولم يتأقلم مع الوسط الجامعي لرغبته المُتأصلة في التميز والتفرد. كان أول صدام له مع مؤسسة الجامعة؛ وأدى في النهاية إلى فصله، مما جعله يسخط على أمريكا، ويقرر أن يهجرها ويعيش في أوروبا عام 1908. اتجه في البداية إلى إيطاليا، لكنه غادرها بعد عدة شهور واستقر في بريطانيا، حيث عمل سكرتيراً لدى الشاعر الإنجليزي الكبير «ويليام باتلر ييتس»، وأصبح صديقه المُقرب، وتزوج ابنة زوجته «دورثي شكسبير». وفي تلك الفترة، تعلم اللغة اليابانية وبدأ يُترجم عيون الشعر الياباني إلى الإنجليزية، وتأثر بنزعته الغنائية وكثافته وقدرته على التصوير. واصل باوند التعرف على أدب وفلسفة الشرق الأقصى، وتأثر بفلسفة كونفوشيوس وبتراث الهند المتنوع والثري. ويجب الإشارة هنا إلى أن جهوده في التعرف على الشرق كانت امتداداً للحركة الرومانسية في نهاية القرن التاسع عشر، والتي سعت إلى استكشاف حضارات الشرق وفلسفاته، وسافر شعراؤها إلى مصر والهند والشرق الأقصى.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وما أدت إليه من تأثيرات عالمية ضخمة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، ظهرت ضرورة مُلحة لتطوير الشعر حتى يستطيع التعبير عن الواقع الجديد. قرر باوند أن هناك حاجة إلى شكل جديد للقصيدة، وأسلوباً مُختلفاً لتناول العالم، وساهم بكتاباته النقدية في تأسيس الحركة التصويرية التي تتسم بالكثافة الشديدة والابتعاد عن الرطانة اللغوية واستبعاد أي لفظ لا يخدم القصيدة، والتركيز على قوة الصورة الشعرية كبديل لسطوة الإيقاع، والاهتمام الشديد بعناصر الطبيعة في علاقتها بالإنسان، ولكن دون الاستغراق في الرمز. نشر باوند مقالاً عام 1913 بعنوان «بعض المُحرمات في الشعر»، أشار فيه إلى تلك الرؤية، ووجه نصائحه للشعراء الشباب بضرورة الوقوف على المُنجز الشعري السابق والاعتراف بفضلهم دون التماهي معهم. كما حذر الشعراء من المجاز واعتبره العدو الأول للشعر، وطالبهم بالحرص على رسم صور شعرية جديدة وراقية، كما حذرهم من خطورة الانسياق خلف الإيقاع، وضرورة كسر رتابة القافية. لقد حاول تخليص الشعر من كل ما يُثقله، ووضع الخطوط الأولى للحداثة في هذا المقال الذي اهتم به الشعراء في الولايات المتحدة وبريطانيا على حد سواء. كان باوند أول من يكتب الشعر الحر ويتخلص من سطوة الوزن والقافية على القصيدة. بدأ تطبيق وجهة نظره في ديوانه «الأناشيد»، الديوان الذي ظل يكتبه منذ 1917 حتى 1969. 
هذا إلى جانب أنه كان حاضراً وبقوة في تأسيس الحركات والجماعات الشعرية والفنية التالية، مثل الدادائية، والسريالية؛ وكان محوراً لكل الحركات الأدبية التي أسهمت في تطوير الشعر والفن. وفي عام 1920، قرر أن ينتقل إلى باريس، ويعيش حياة بوهيمية، وأصبحت شقته الصغيرة مكاناً لالتقاء كبار مثقفي وأدباء فرنسا من أمثال جان كوكتو، وأندريه بريتون. لقد كان باوند حالة نادرة، تشبه إعصاراً من الفن والمعرفة، لم يفلت من تأثيره أي من مُعاصريه سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة، وليس من المُبالغة القول إنه أهم من عملوا على تطوير الشعر، بل والفن بوجه عام، في النصف الأول من القرن العشرين. 
كان باوند غريب الأطوار بالنسبة للآخرين، ونادراً ما كان يشعر بالراحة والانسجام إلا مع مجانين الفن، وعاش فترة طويلة من شبابه حياة بوهيمية صاخبة. كان متمرداً ويرفض الخضوع للقواعد، إضافة إلى نرجسيته الشديدة واعتداده بذاته لدرجة أنه قال عن نفسه إنه سيكتب أعظم قصائد كتبها إنسان على وجه الأرض. وحين أصدر مجلة للتعبير عن حركته الشعرية الجديدة أطلق عليها اسم «الأناني». وبالطبع واجه الكثير من المتاعب لأنه كان في حالة عداء مُستمر مع مؤسسات المجتمع؛ وعلى رأسها الكنيسة؛ التي دخل معها في صدام عنيف، وطالب بمصادرتها أموالها وتوزيعها على الشعراء والعلماء لأنهم الأحق بهذه الأموال من أجل تطوير الحياة البشرية. كان موقفه هذا على النقيض من موقف «تي إس إليوت»؛ الذي كان يعتبر نفسه ابناً باراً للكنيسة، وقدمت الكنائس عروضاً لمسرحياته. تمادى باوند في تطرفه، وأقدم على خطوة جنونية حين آمن بالمشروع الفاشي، وسافر إلى إيطاليا ليدعم موسيليني؛ ما أدى إلى حملة عنيفة ضده في غرب أوروبا والولايات المتحدة.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أصبح باوند مديراً للإذاعة الإيطالية المُوجهة إلى الغرب، وحمل الأثير صوته وهو يهاجم الولايات المُتحدة ويُدافع عن الفاشية والنازية ويُبشر بمشروعهما. أدى هذا إلى اتهامه بالخيانة؛ وثارت حالة من السخط الشديد عليه لدرجة أن المهمة الأولى للقوات الأمريكية التي اجتاحت إيطاليا كانت القبض عليه، بينما كانت المهمة الثانية هي القبض على موسيليني. تمكنت قوات إيطالية موالية للحلفاء من القبض على باوند، وقامت بتسليمه إلى القوات الأمريكية، وبعدها تمت مُحاكمته بتهمة الخيانة العظمى، ولكن غضب المثقفين وضغطهم أدى إلى توقف المُحاكمة وإيداعه في مستشفى للأمراض العقلية لمدة اثني عشر عاماً، خرج بعدها ليسافر إلى إيطاليا ويعيش هناك في عُزلة حتى وفاته عام 1972.

اعترف باوند في شيخوخته بأنه أخطأ بنسبة كبيرة في دعم الفاشية، لكنه تمسك بموقفه الرافض للحركة الصهيونية، والمُعادي للولايات المتحدة، التي وصفها بأنها مستشفى كبير للأمراض العقلية، وأن شعبها يعبد الدولار. هذا هو السر وراء عدم قبول اعتذاره وفرض طوق من العزلة والتجاهل حوله، وعرقلة أي محاولة لتكريمه أو الاحتفاء به وبدوره كواحد من أهم شعراء القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
________
*الخليج الثقافي


التاريخ : 2016/05/29 04:45:27


السبت، 4 يونيو 2016

أختام *- الختم الثاني : عادل كامل



















أختام *


 الختم الثاني

عادل كامل
  [3] الكتمان ـ مرئيا ً


     سأعترف أنني لا امتلك حق القول أنني نفذت أختامي بموازاة ما كنت أريده، أو انه النتيجة المثلى، والأخيرة، ولكني لا اشعر أنني غادرت ولعي  بإعادة صياغة أفكاري. إن أصابعي تعمل فانقاد إليها! أشيّد وأضيف مع الحذف كي ابلغ بالنص نهايته: إشارات تكاد تلغي ما تتضمنه العلامة من تجريد/ رموز/ وإيحاءات. ففي الإشارات يكمن اللا متوقع الذي كنت أراقبه، وانتظره، وليس في العلامات، بل ولا حتى في الأسلوب. فانا ازداد انشغالا ً بمغادرة أشكالي، وكل ما سيشكل خصائص الختم.
     هنا اكتشف أني احفر في مدافني الأولى: في مقبرة شبعاد، قبل أكثر من نصف قرن، بجوار مقابر أور، على مسافة غير بعيدة عن الناصرية ـ مركز ذي قار ـ حيث استعيد حرارة الرمال، في الخارج، وأصداء أصوات ما جرى إبان نزول الأميرة شبعاد إلى العالم السفلي. أتذكر ـ بعد نصف قرن ـ أنني تحدثت إلى البروفسور هاوزه ـ مدير متحف برلين  عام 2005 ـ عن لغز القبر السومري، وعن المعتقدات البكر للايكولوجيا الكونية. ماذا تقصد...؟ سألني. فقلت أن هناك فجوة للعبور، بين الموت والحياة، وبين الحياة والموت، تخيلها السومري كي تتحول إلى جسر، أو صلة يستحيل استبعادها. فثمة كون وجد نفسه فيه متوحدا ً عبر تحولات المظاهر، وهي التي ستظهر تأثيراتها في الهند ـ بعد ألف سنة ـ بعيدا ً عن المثنوية وصراع الضدين. فالوحدة التي تخيلها السومري تركت الزمن لا ينتهي عند خاتمة، بل يمتد، عبر دورات. فرأس الأفعى عندما يبلغ ذيلها، يمتد، عبر دورة اكبر، تتقاطع مع مفهوم الرجوع إلى التراب ـ أو إلى العدم.
     موت له مذاق الأبدية! لكني لم استبعد أبدا ً حدود التجربة بحدود التصوّر؛ حدود الدفاع عن كياني، بما اعرفه، وخبرته، وعشته، مع أني لم الغ أن هناك خلايا تعمل بالنظام الأكثر تعقيدا ً، الخاص بالكون، وليس بحدود وجودي. انه إغراء آخر للعمل، كواجب، وليس ترفا ً أو بذخا ً.
     على أن الكلمات أما تذهب ابعد من النص الفني، أو انها ستتحول إلى يد تدور في مفتاح الباب: الباب الذي ادخله، طالما من المستحيل العثور على سكن فيه، عدا الكون الذي لا علاقة له لا بالموت ولا بالحياة! وهنا  ساترك إحساسي بالزمن، وبما سيقال حول تجربتي، فأنا بالختم اترك كياني مكبلا ً بحرية الضرورة، وبضرورات هذه الحرية.
     فالفن لن يفصل الأثر عن صانعه، ولا صانعه عنه. فأدرك أن السومري صاغ مفهوما ً سترجع إليه البشرية في لحظة إدراكها انها لن تبلغ خاتمتها.  فهي تتضمن دورات، شفرت عبر ما لا يحصى من الحروب والكتب في الجسد/ الوعي/ وفي الكيان بوجوده في الوجود: دينامية تتحول الحياة فيها إلى رقصة (بوذا) و (فناء ً) كما في مسلك الصوفي وطرقه.
     لكن النشاط الفردي ـ الخاص ـ لن يعمم، الأمر الذي يجعل كل ختم، مستقلا ً عن سواه. فكما كل وردة، في البستان، لها تفردها، فان ما لا يحصى من الورود (والأزهار البرية) ستعمل على حماية هذا الختم: الهوية، والأسباب الكامنة في الأسباب، فلا ضرورة لسؤال مثل: لماذا اعمل ... ولا ضرورة لسؤال: ماذا لو تخليت عن العمل؟ لكني ـ هنا ـ اخترع لعبة، أو تسلية، بل وعيا ً له موقعه للتحرر من الأعباء، والضرورات اللا ضرورية، يسمح لكياني أن يتشكل مع الموجودات النائية، والمجاورة على حد سواء.
     انه شرط يحرر الشرط بتحوله من قيد إلى توق. فتكف اللغة عن مجال عملها، في الاستغاثة، أو في المؤانسة، أو في الشهادة، أو الترميز، كي تغدو جزءا ً من الختم. فهو وحده يقول ما يكتمه، وهو وحده يفضح كتمانه.

[4]البحث عن الذي غادرني

     ليس أكثر من تأمل ما ستؤول إليه النصوص: زوالها. وبمعنى ما فانا امسك بما أراه يندثر. ففي عالم كفت فيه قوانينه ـ عدا عنفه وأقنعته وغوايته ـ عن العمل، يغدو الفن ممرا ً للبحث عن الدوافع التي سمحت لأصابع أسلافي أن تنسج هذا الذي حفزني للعثور على توازن مستحيل في الفن:انه قيد لممارسة وهم الخلاص منه. لم يكن أسلافي في المغارات أو في أعالي الجبال يحلمون بأكثر من المرور في الدرب ذاته الذي لا طائل من المشي فيه! إلا أنني ـ وأنا أبصر حبيبات الزمن تذوب في الفراغات والمسافات اللانهائية ـ لا أرى شيئا ً باستطاعته أن يمنع بصري من الاستيقاظ: التاريخ بصفته لم يبدأ! وكأن لغز جلجامش مازال يمتلك غوايته: التفوق! والبحث عن سكينة غير التي يحدثها الفناء، أو الموت. فأتخلى عن المعاني ..فانا أدوّن بحثا ً عن هذا الذي لا أتوقعه: لون ما .. أو تصدعات، أو مخربشات تمتلك كل ما لا يمكن تحديده في الكل اللا متناهي وقد غدا مرئيا ً، أو تحت البصر. فانا لست منفصلا ً عن نفسي! ولا عن ختمي. لأننا ـ كلانا ـ لا نمتلك سوى استحالة نفي هذا الحضور ـ هذا الذي يتفتت، ويتجمع، كي يعلن عن صلابة نظام الامتداد؛ امتداد الفراغات وتجمعها، حد استحالة مغادرة حدود اللامحدود ـ والسكن فيه. لا مكان ولا زمن ـ للمؤجلات! فانا تام الموت، وتام الغياب، وحضوري وحده صار الختم بما يستحيل مغادرته. إنها  لذّات أصابع أمسكت بالمفتاح وهو يدور في الهواء.
     فبماذا امسك...وليس بين يدي ّ إلا ما أراه يغادرني، عدا إحساسي الخفي بان اللا متناهي يمتلك حضوره، لا كغواية، أو مناورة، بل واجبا ً.
     هكذا  ـ كما يحدث لمن تأجل موته ـ يختفي التذمر أو الاستسلام للتعب، فيغدو ـ هذا الغائب ـ حاضرا ً بما فقده. فاستعيد رغبة صياغة علامات أحاول فيها وضع مصيري برمته، لا للمباهاة أو لفت النظر، بل للتواري، والسكن بعيدا ً عن الرقابة. لكنني لم امتلك قدرة أن أصبح أعمى، إلا عندما ازداد ثقة بان مصيري يسبقني، فامشي خلفه، بلا استئذان، أو رغبة بالغفران. انه الذنب التام الموازي لولادة لا اختيار لي فيها بعزلها عن حتمية أن أراها تأخذ ـ غيابها وحضورها ـ كي أحافظ على شرود ـ وعزلة ـ كلاهما يجعلاني امشي في جنازتي ـ أو في موتي.
[5] المحنة: الفجوة ليست بعدا ً



     عندما لا يقذف الفنان عمله (الفني) إلى السوق، بصفته سلعة، أو عندما لا يجد مبررا ً لعرضه خارج حدود المشغل، أو عندما لم يعد نتيجة أسباب خاصة، فانه، في لحظة استحالة العثور على ما يماثل مشاعر الانجذاب في الحب، أو في التصوّرات الاستثنائية، التي اتحدت وسائلها بغايتها، فان ثمة ظلمات لها فعل الغبار البركاني تجعل مصيره معلقا ً، فيرى انه ـ في العمق ـ قد هدم ما علق فيه من تاريخ، لكن ليس لصياغة علامات مميزة، وإنما كي لا يبدو ، في هذه المتاهة الحالكة ـ إلا وقد اجل خاتمته، مثلما أدرك انه كاد ينفصل عن ماضيه.
     أليست هذه أزمة لاذعة، كالتي يكتوي فيها جندي في حرب لا معنى لوجوده فيها دخلها كي لا يغادرها، لا بالربح ولا بالخسارة، أو كحال من وجد انه غير قادر على الاندماج، حتى في الاستسلام لموته!
     إنها ليست حالة سيكولوجية، أو اجتماعية (بسبب استحالة العثور على خلاص يوازي وعيه لوجوده) وإنما شبيه بموقف من وجد أن أفضل الاختيارات باطلة، فيكون ـ هنا ـ كمن حفر في الأرض قبرا ً لينبت فيه أسباب استحالة انه وجد فائضا ً، أو محض مصادفة، تاركا ً الأمل والخسارة والتصورات بعيدا ً عن الخاتمة.
     هو ذا الطريق المائل المضاد للدرب العام، الذي لن يسمح بالارتداد أو الشكوى. فالصوفي يأمل ـ حد الصدق ـ بما سيجده في الفناء ـ أو بما لا يجده أيضا ً ـ وشبيه بمن تخلى عن أناه لقضية ما بلغت ذروتها في الوجد، والانجذاب حد المحو، إنما هنا تحدث المصالحة بين الكيان ـ كياني برمته ـ وما أراه أصبح شبيها بالملكية: الأشياء ذاتها لا تخفي إلا ما تعلنه، وهذا الذي تعلنه ليس هو الذي كنت أريد أن يكون مجموع الأشياء. إنها ـ اذا ً ـ المحنة وقد غادرت لغزها. فأنا أصبحت علامة مضادة؛ علامة بين علامات، كغريق لا يمتلك إلا أن يحيا حياة ما بعد الغرق: حال صوفي أخذه الوجد حد غياب غيابه. وهي ذاتها اللحظات التي طالما قاومت فيها موتي (المادي) كي أصحو ـ كآخر ـ كف أن يموت.
     إن أصابعي تجرجر رفيف رغباتي فأراها تتداخل في وجه، أو في جسد مختزل، أو عبر اللا متوقع وقد أمد في ّ قدرة الموازنة بين المستحيلات والمنجز، وبين الأشكال وما تسترت عليه. فالإحساس الجمعي غدا لا صلة له بعلاقتي مع الآخرين، كما حرر (ذاتي) من قيودها، وغذاني  بالتقدم، مرة بعد أخرى، وأنا أكاد امسك بالذي لم يسمح لي أن أعيش خارج انجذابه: أهو الفن، أم هو ما بجواره، أم هو حماية ما، أم الشيء الشبيه بـ (بالشيء)، الذي لن يقارن إلا بالمسافة بين الظل ونوره، أو ـ بمعنى أدق ـ هذا الذي أراه تكوّن عبر غيابي ..وإلا فإنني أكون قد وجدت غواية ما للاندماج .. أي: للعزلة، كالميت وقد عثر على من يرقد بجواره!


تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

أزمة المدونات العربية: التدوين في متاهات البحث عن التنوير- محمد الساحلي




أزمة المدونات العربية:
التدوين في متاهات البحث عن التنوير

محمد الساحلي

لم تكن المدونات وقت ظهورها الأول سوى سجلات إلكترونية لاهتمامات شخصية، ثم نمت وتطورت لتصبح وسيطاً معرفياً ومساحة للتعبير، غير أنها لن تستطيع إحداث التغيير المجتمعي المطلوب دون إصلاحات ديمقراطية حقيقية، كما يرى المدون المغربي الشهير ومنظم جائزة المدونين العرب محمد الساحلي في هذه المقالة.



"الديمقراطية هي التي تصنع المدونات وليست المدونات التي تصنع الديمقراطية" بدأت المدونات العربية في الظهور بشكل تدريجي منذ سنة 2003، لكن عددها كان قليلاً آنذاك، ولم تكن كلمة "مدونة" شائعة باللغة العربية. ورغم قلة عدد المدونين آنذاك، إلا أن جودة المدونات كانت لافتة. وخلال السنة التالية بدأت ظاهرة التدوين في الانتشار وسط مستخدمي الإنترنت العرب، وبدأت الصحافة العربية تقارب، ولو بشكل محدود، موضوع المدونات. ثم ظهرت خدمات تدوين مجانية باللغة العربية، لتبسيط إنشاء المدونات للعرب، وبدا في الأفق أن ثورة جديدة قادمة؛ ثورة على غرار "ثورة المنتديات" التي فرخت في حينها آلاف المنتديات المتشابهة التي ينقل بعضها عن بعض، دون استحياء!

وتحقق ذلك للأسف بسرعة سنة 2007، حيث بدأت المدونات العربية تتناسخ كالفيروسات ناقلة معها "فوضى المنتديات" بكل سلبياتها، وبدأت أحلام المراقبين تنهار بتناقص جودة المدونات العربية ودخولها مرحلة من الركود ما زال في رأيي مستمرا حتى الآن.

خلال السنوات الأولى لانتشار التدوين عربيا، كانت خدمة Blogger المملوكة لجوجل أفضل وأشهر خدمة تدوين مجانية، لكن بحكم أنها كانت بالانجليزية فقط، آنذاك، بقيت حكرا على فئة من مستخدمي الانترنت العرب، القادرين على التعامل مع اللغة الانجليزية وعلى الصعوبات التقنية لبلوجر. لم يكن إنشاء المدونات آنذاك سهلا، لذلك كان عددها قليلاً. لكن في وقت لاحق، ظهرت خدمات تدوين عربية أرادت تقديم خدمات شبيهة ببلوجر، غير أنها، لأسباب مختلفة، ساهمت في تفريخ مدونات لا تقدم أي جديد، وأحياناً تساهم في إحباط مدونين آخرين مميزين.

استحالة القياس ووهم التفوق 



هل ساهمت المدونات العربية في إسقاط رؤوس الفساد في البرلمانات والحكومات العربية؟ هل ساهمت المدونات في خلق تغيير حقيقي ذي أثر مستقبلي فعال؟ كلا للأسف، كما يقول الساحلي


تلك الفوضى لم تغط على كل شيء. فهناك مدونون كثر تميزوا بشكل أو بآخر واستطاعوا ترسيخ مفهوم مختلف للتدوين العربي؛ فبعضهم أنشأ مدونات شخصية لنقل خبراتهم للآخرين، وآخرون اختاروا طريق التعبير المسكون برغبات التغيير، فقادهم ذلك إلى التصادم مع المؤسسات الأمنية، القامعة للحريات، في بلدانهم. لكن لا يوجد نموذج عربي واضح يمكن الجزم من خلاله بقدرة التدوين العربي على التغيير.

وفي سنة 2008 دعا مجموعة من أعضاء فيسبوك المصريين إلى إضراب عام يوم 6 أبريل 2008. والتقط المدونون الحملة وساهموا في ترويجها، وفعلا جاءت النتيجة مذهلة: لقد نجح الإضراب! لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل المدونون هم الذين أنجحوا الإضراب؟ من الصعب الجزم بذلك، ولو أن المدونين المصريين يفضلون التفاخر بقدرتهم على "هز عرش مصر".

ففي ليلة الإضراب تدخلت الحكومة المصرية، عبر وسائل الإعلام، لتنفي وجود أي إضراب وتساهم، بشكل غير مباشر، في ترويع المواطنين وتخويفهم مما يمكن أن يحدث. وفي رأيي أن هذا هو ما دفع المواطنين إلى البقاء في البيت يوم الإضراب وعدم الذهاب إلى عملهم، ليس مشاركة في الإضراب بل خوفا مما يمكن أن يحدث في الشارع يوم الإضراب.

هذا مجرد نموذج بارز لما اعتبر دليلا على قدرة المدونين على التغيير، لكن دون وجود إمكانية إثبات حقيقية على أن ما حدث كان بفضل المدونات. في الكويت يتم الحديث عن حملة "نبيها خمسة" التي أريد منها، سنة 2006، الدعوة إلى التقليص من الدوائر الانتخابية في الكويت. الحملة نجحت وحققت أهدافها، وتم نسب فضل ذلك إلى المدونين، رغم أن عدد المدونين الكويتيين أقل بكثير من أن يحدثوا مثل هذا الأثر. ولا يمكن إنكار مساهمة المدونات الكويتية في التعريف بالحملة، خاصة لمن هم خارج الكويت، أما التأثير الحقيقي للحملة في رأيي فهو ما قام به الشباب فعلا على أرض الواقع.


لا أقصد هنا التقليل من قدرة المدونات العربية على التغيير، بل أتحدث عن صعوبة قياس تلك القدرة. بكل تأكيد ساهمت المدونات العربية في تحريك كثير من القضايا، لكن تلك المساهمات ضُخمت من طرف الصحافة، فاقتنع بعض المدونين بذلك واقتنعوا بأنهم فعلا سلطة قادرة على التغيير، رغم أننا لو جلسنا لنتناقش بهدوء سوف نجد أنه لا شيء حقًا تغير.

هل ساهمت المدونات العربية في إنقاذ أطفال غزة وتقديم المساعدات للمحتاجين كما فعلت المدونات الأمريكية خلال إعصار كاترينا؟ هل ساهمت المدونات العربية في إسقاط رؤوس الفساد في البرلمانات والحكومات العربية؟ هل ساهمت المدونات في خلق تغيير حقيقي ذي أثر مستقبلي فعال؟ كلا للأسف. إذن أي تأثير هذا الذي عنه يتحدثون وله يطبلون ويزمرون؟

مواضيع المدونات وسياسة النعامة

حين بدأت ظاهرة انتشار المدونات في العالم العربي انتشرت معها مقولة أن المدونات ستأتي بالديمقراطية إلى الدول العربية! لكني أعتقد بعد أكثر من ست سنوات من انطلاق المدونات العربية أن هذه المقولة لا أساس لها، فالديمقراطية هي التي تصنع المدونات وليست المدونات التي تصنع الديمقراطية.


"في رأيي أن المدونين العرب يمكنهم مستقبلا، المساهمة في بناء المجتمعات العربية، لكن الأمر لن يكون سهلا ولا يسيرا" حين نتحدث دوما عن نجاحات المدونات الأمريكية، نتجاهل مسألة الديمقراطية المتجذرة لدى الشعب الأمريكي، وما يعنيه ذلك من حق المواطن في التعبير عن وجهات نظره بأمان، ووصوله الميسر القانوني، لمصادر الخبر. حكومات الدول العربية تعاملت بطرق مختلفة مع ثقافة التدوين، والهدف دائما تقويض التجربة: تونس ودول أخرى تعاملت مع المسألة من الناحية الرقابية فحجبت الكثير من المواقع وحدت من إمكانيات التأثير داخليا. السعودية منذ البداية تعاملت بحزم وقامت أجهزتها الأمنية باستدعاء المدونين وإرغامهم على ابتلاع ألسنتهم. مصر واجهت المدونين بعنف عن طريق الاعتقالات، مما ساهم في ترويج فكرة التدوين محليا. وإن كان من الصعب التأكيد إذا كان التضييق الذي تعرض له المدونون بفعل تدوينهم أم بفعل انتمائهم للجمعيات الحقوقية. أما المغرب فعلى العكس، تجاهل المدونات تماما عن عمد، مما حد من قدرة المدونات على الانتشار وعدم وصول قضاياها إلى الصحافة والمواطنين.

النتيجة هي أن البعض أصبح كمن يحارب طواحين الهواء، دون وجود من يتأثر به ولا من يستمع. والبعض اختار سياسة النعامة، فدفن رأسه في مواضيع بعيدة عن احتياجات المواطنين، فمنهم من انكفأ داخل نفسه يسطر ما يمر بيومه من تفاصيل، ومنهم من ذهب إلى الكتابة عن المواضيع التكنولوجية فطفق ينقل ويترجم عن المدونات الإنجليزية. ولكن هذا لا يعني تجاهل حالات متميزة وسط فضاء التدوين العربي.

المستقبل الغامض

التدوين نشاط فردي بطبيعته، غير أن خصوصيات المجتمعات العربية تستلزم تحول هذا النشاط الفردي إلى نشاط جماعي يعتمد على التنسيق المبكر والمضبوط فيما يتعلق بقضايا ذات طبيعة اجتماعية وسياسية تهدف إلى تحقيق تغييرات مجتمعية لصالح المواطن.

في رأيي أن المدونين العرب يمكنهم مستقبلا، المساهمة في بناء المجتمعات العربية، لكن الأمر لن يكون سهلا ولا يسيرا. فأنا أعتقد أن ثمة شروط لا بد أن تتحقق، من قبيل دمقرطة المؤسسات وتيسير الوصول لمصادر الخبر وإصلاح القضاء والرفع من هامش حرية التعبير وتوسيع شبكة الربط بالإنترنت... إلخ، وإلا فإن التدوين العربي سيبقى في حال ركود دائمة.


محمد الساحلي
  العام والمجتمع المدني…وواقع الحال عندنا اليوم لم يتحقق فيه لا هذا ولا ذاك -المدونات في اغلبها صراع ديكة ليس للعقل و الحوار فيها نصيب و الانظمة السياسية تبدع في محاصرة المدونات و التنغيص على المدونين …ان تطور وسائط الاعلام و تعدد وسائل الاتصال لا يصنع وحده ربيع الديمقراطية والعلم والمعرفة بل قد ييسر انتشار الخرافة و الجهل والدجل …لذلك سيكون دور المثقفين و المتنورين هام و خطير وكل تقاعس من جانبهم يعني زحف الظلام.



متابعات نقدية لماذا أوقفتُ مجلة «فراديس»؟-عبد القادر الجنابي




متابعات نقدية
لماذا أوقفتُ مجلة «فراديس»؟
عبد القادر الجنابي

 
في الطريق المعبَّد
بعدما اختتمتُ العدد الرابع والأخير من مجلة «النقطة» بعبارة لكاهن فرعوني قديم: «ألا ليتني أجد ألفاظاً لم يعرفها الناس وعباراتٍ وأقوالاً للغة جديدة لم ينقض عهدها، لا في ما تلوكه الألسن... أقوال لم تصبح تافهة مملّة ولم يقلها آباؤنا من قبل»، قرّرت، عندها، إيقاف المجلة بكراس عنوانه «مهماز النقطة» (تمّوز 1984)، الذي تضمّن نصوصاً شعرية مؤلفة ومترجمة، ونقداً لترجمة عبد الغفار مكاوي لأربع قصائد لباول تسيلان، في كتابه «ثورة الشعر الحديث»، توجّهت نحو نشاطات بالإنكليزية والفرنسية بالاشتراك مع تجمّعات سوريالية، البريطانية بالأخص، أخذت تظهر منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى ذلك اليوم. فأصدرت مجلة «grid» التي صدر منها 5 أعداد، وعدداً من الكراريس أهمّها الرسالة التي كتبتُها بالإنكليزية ووجّهتها إلى التجمّعات السوريالية: «القطيعة ارتباط حقيقي».
وبعدها توقّفت وانعزلتُ لسنوات مركِّزاً اهتمامي على شعر باول تسيلان الذي نشرت له خمس قصائد في العدد الثاني من «النقطة» العام 1981. ونتيجة هذا الانهمام أصدرتُ أواخر العام 1988 كرّاساً ضمّ ترجمتي لـ«21 قصيدة» مع شروح ومقدّمة، يُعتبر أول تقديم منهجي لباول تسيلان في العربية.
وذات يوم اتصل بي خالد المعالي طالباً أن أعطيه شيئاً لينشره في «منشورات الجمل» التي لم يكن قد أصدر تحت اسمها، آنذاك، شيئاً ذا قيمة لا شكلاً ولا مضموناً، سوى كراريس من بضع صفحات. تردَّدت في البداية، ثم وافقت فأعطيته مجموعة قصائد صغيرة صدرت تحت عنوان «ثوب الماء»، وبعدها جمعتُ معظم ما كتبته من مقالات سجالية (1975 - 1988) لكي يظهر في كتاب تحت عنوان «معارك من أجل الرغبة الإباحية»، وهو الكتاب الأول لـ«منشورات الجمل» الذي يمكن اعتباره كتاباً؛ شكلاً وحجماً.
وما إن خرج الكتاب، حتى أخذت تطوف في الذهن الرغبة القديمة بإصدار مجلة بالعربية تعبّر عن «نهاية حقبة» من الأفكار، السياسة وطرق التفكير... مجلة «تعنى بحُرِّ الحاسة التشكيلية»، أي بعيدة عن أي سجال، واخترتُ لها اسماً هو «فراديس» وهو في الحقيقة عنوان قديم سبق أن استعملته أواخر السبعينيات على غلاف كتاب صغير عنوانه «ثمة موتى يجب قتلهم». فرحّب المعالي بالفكرة واستعدّ لإصدارها لدى «منشورات الجمل»، لكنني فضّلت أن أصدر العدد الأول كتجربة في باريس. وبالفعل صدر في تمّوز (82 صفحة 1990)، محتوياً على بعض التراجم، وبعض الأشعار لشعراء عرب من بينهم أمجد ناصر وقصة قصيرة هي «اللكمة» لسركون بولص... وكثير من صور السورياليين الفرنسيين كجويس منصور وأندريه بروتون، ولوحات فنّية بالألوان تُلصق داخل الصفحات أعطاني إياها الفنانون الفرنسيون أنفسهم. والشيء اللافت فيه: ملفّ يضمّ نصوصاً (نقلتها عن مخطوطة موجودة في مكتبة «الدراسات الشرقية» بباريس) أشبه بقصائد النثر الأوروبية للشيخ عبد القادر الكيلاني، وهي عبارة عن بورتريهات مذهلة كتبها الشيخ عن آدم، الحلاج، موسى... تتكشّف فيها القدرة على إلغاء الحدود بين ذاكرة الشيخ والنص القرآني إلى حدّ أن الآية قد كُسِّرت تكسيراً فنُثرت داخل أرضية النص كأنها دُرَرٌ تُرصِّع المعنى المطلوب بالصورة المطلوبة، كما أن تلقائية التعاشق بين الألفاظ تنتج تكثيفاً وتلخيصاً مدهشَين لسيرة الشخص المعني. لوي ماسينيو كان على حق عندما نوّه بأهمية قصائد الشيخ النثرية هذه وأمل أن تترجم إلى الفرنسية لـ«أهميتها»، في نظره، «لشعراء الغرب الحديثين».
عندها اتفقت مع خالد المعالي على إصدارها لدى «منشورات الجمل»، وإذا بصدام حسين يغزو الكويت، فتقع حرب الخليج الثانية... فيتلاشى هدف «فراديس» الإبداعي بين ثنايا المواجهة المطلوبة مع واقع سياسي جديد تنصهر فيه كل القيم رغبة باجتراح صمود ثقافي. فاضطررت إلى إصدار عدد سجاليّ يعبّر عن ظروف الحرب، فكان العدد الثاني  (100 صفحة، تمّوز 1991)، واعتباراً من هذا العدد وحتى العدد السابع أخذت «فراديس» تظهر لدى «منشورات الجمل» - أي تُطبع في كولونيا - بافتتاحية نارية كتبتها ضدّ السلفية والوضع العربي السيء تحت عنوان «غداً كانت الحرب»: «لقد دقّت ساعة الانتقامات، انتقام العربية مما أُنجز باسمها، انتقام القارئ من ثقافة طوت ببطنها عن كل تصدٍّ، وانتقام الفكر من سيرورته العربية التي لم تأتِ إلا بإنتاج متعفّن أفرزته أذهان عوراء ليس فيها التماعة واحدة يُركن إليها عند اهتزاز الروح؛ قادرة على أن تفتح عيناً في مَدمَس الاندحار هذا لكل ما حاولت هذه الأذهان أن تلقّننا به. إن جلّ ما ورثناه في ليل العصور أصبح نعلاً غليظاً يدوس كل ما كان في رأس الأطفال من لُعَب وأراجيح»... وخصَّصت ملفاً كاملاً للشعراء العراقيين من سعدي يوسف إلى سركون بولص إلى صلاح فائق... وملفاً آخر عنوانه «شمال القصيدة» عن الشعر الكُردي. وقصائد لشعراء لبنانيين وعرب من بينهم الياس حنا الياس وبيار أبي صعب وزاهر الغافري، وترجمة لمقالة ماندلشتام عن المُحاوِرن وقصائد لباول تسيلان، مع ملفّ صغير عنوانه «أسئلة الغيب ومفاتيحها» وهو لعبة سوريالية شارك فيها سعدي يوسف وأدونيس وآخرون: على سبيل المثال أطرح على أدونيس أسئلة ناقصة مثل: «ما هي...؟»، «في ظل الظروف الراهنة ما الذي يجب على... القيام به»؟ فيجيب عنها دون أن يكون في علمه عمَّن يدور السؤال. وهنا سأختار هذه الأمثلة من بين 15 سؤالاً وجّهتها لأدونيس، وسأضع الكلمات الناقصة أي التي لم يعلم بها بين مزدوجتَين:
الجنابي: ما هي «الحداثة»؟
أدونيس: ريح تحاول أن تنام، ولا تستطيع.
الجنابي: ما الذي يجب على «الشاعر» القيام به؟
أدونيس: عليه أن يجهل نفسه.
الجنابي: متى تشعر بأنك في حاجة إلى «كتابة قصيدة»؟
أدونيس: عندما تتلاقى يدانا: الريح وأنا.
وأتذكّر أن أدونيس بعد مرور شهرَين على صدور العدد، نشر مقالاً في جريدة «الحياة» أشبه بالتعريفات: للتاريخ، الشعر... إلخ على منوال اللعبة، فكانت معظمها ساذجة، لأنه لم يفهم بأن الصُّدفة هي الكفيلة خلق تعريف عميق وشعري.
واختُتم العدد بصفحة تحت عنوان «ملاحظات» تركتها كي يكتب القارئ ملاحظاته فيها كما يشاء وبلا أيّ مراقبة.

بين درجة الأرض وقدم السماء
وهكذا أخذت أعداد «فراديس» تتوالى كنهر متدفّق بملفّات غريبة ومواد شعرية وثقافية لم يتعوّدها القارئ العربي، ففي العدد الثالث (132 صفحة، شباط 1992)، نشرتُ ملفَّ المرايا «أتمرّى، إذاً أنا موجود»، ضمَّ أجمل النصوص في موضوع المرآة، واستفتاء الحرب الذي شارك فيه: أنسي الحاج، محمود درويش، أحمد بيضون، فواز طرابلسي، لطف الله سليمان، أنور عبدالله، جورج طرابيشي، أحمد قصير، ونصير مروة؛ وملف «طغاة/ جبابرة، سفّاحون» (سِيَرُ أخطر طغاة التاريخ)؛ وملف «أودن شاعر العصر» من إعداد سركون بولص؛ وملف الشعر العالمي، ومقالات لأندريه بروتون، سيوران، وعدداً كبيراً من قصائد وكتابات عربية، ولعبة سوريالية: «حظُّ الكلمات من التعريف الحر» التي قمنا بها، سعدي يوسف، سركون بولص وأنا في منزلي. وخلاصتها: اخترنا حوالى 66 كلمة مراد تعريفها. كُتبت مرقّمةً من 1 إلى 66 على كاغد طويل طوله متر ونصف، ثم عُلِّق على حائط... وكان لكل منا 22 وريقة وقلم مميّز اللون، يُسجِّل به على إحدى الوريقات، كل ما يطرأ - وهو يتحدث أو يأكل أو يضحك - على ذهنه من جملة يخالها مفيدة. بعد الانتهاء من كتابة الوريقات الـ66، الملفوفة على شكل سيجارة - تُخلط الأوراق كلّها في سلّة، ويبدأ السحب حسب التتابع المقترح بيننا - من هو أول، ثانٍ وثالث - حتى تفرغ السلّة. إن الورقة الأولى التي سُحبت هي تعريفٌ للكلمة التي تحمل رقم 1، الملصوقة على الكاغد المعلّق، والورقة التي يسحبها الشخص الثاني هي تعريف للكلمة التي تحمل رقم 2، والثالث للكلمة المرقمة 3، وهكذا دواليك: «الحزب عقل يدور حول سياج مستشفى»، «الشطحة عجوزة شمطاء»، «البديع خيط ذو إبرتَين»، «التراث حمار يضحك مع شرطي»، «الحكمة نافذة حمراء على بياض اللانهاية»، «النعاس قرية ومشعلٌ؛ شحّاذ تترقّبه الشوارع»...


أما العدد المزدوج 4 و5 (288 صفحة، آب 1992)، فقد صمّمته ليفتح ملف جيل الستينيات كتمهيد لثقافة ما بعد صدام. وفيه - للمرّة الأولى - يُخصَّص ملف بهذا الشكل الحر لجيل فترة عاشها العراق بجوّ من الحرّية والنشاط الإبداعي: اشترك فيه معظم الذين حضروا في ميدان الستينيات. وفي الحقيقة فإن ملف جيل الستينيات أُعجب به كثير من اللبنانيين من بينهم هشام شرابي الذي كتب رسالة إلى محمود شريح جاء فيها: «قسم الستينيات لا مثيل له بالعربية، في عمقه وأبعاده الوجودية والفكرية. الرجاء إيصال سلامي الأخوي وإعجابي «الأبوي» إلى عبد القادر الجنابي والعاملين معه».
كما ضمّ العدد ملفّاً ضخماً للشعر العالمي فيه نماذج من الشعر الأميركي المعاصر (أنطولوجيا صغيرة أعدّها سركون بولص)، ومختارات كريستيان مورغنشتيرن (ترجمها فاضل العزاوي)، وملف الشعر الإسرائيلي (أعدّه سمير نقاش)، وترجمات قمت بها لنصوص وقصائد لشعراء عدّة منهم: باث، بيريه، هولوب وآخرون. وهناك أيضاً مقالات لهوركهايمر، وكارل كراوس، كما ضمّ العدد مقابلة مع نعيم قطان، والنسخة الأولى من رسالتي إلى أدونيس، مبيّناً فيها البون الشاسع ما بين السوريالية والصوفية في كل شيء، فالأولى استنارة مادية تريد نعيم الدنيا، بينما الثانية إشراقة إلوهية ترتجي مغفرة الآخرة. الصوفية تستعير المواد الدينية لتجعل منها أساساً لافتراضاتها، بينما السوريالية ترى في هذه المواد عين الحاجز الذي يجب تحطيمه. والمحبوب في نظر الصوفي هو الله، في حين أن المحبوب في نظر السوريالية هو المرأة لحماً ودماً. كما تضمّن العدد استفاء جميلاً: سيرورة فكرك بعيداً عن كل رقابة: «عزيزي المدعو للمشاركة في هذا الاستفتاء، نطلب منك أن تأخذ معك (ذات صباح تقرّره أنت) ورقة واحدة وتدوِّن عليها أثناء هذه المسافة الممتدّة من بيتك إلى مكان عملك/ موعدك، سيرورةَ فكرك الحقيقية خارج كل اهتمام جمالي وأخلاقي، كلَّ ما يطرأ على ذهنك من هواجس مالية كانت أو جنسية، أدبية أو عادية... إلخ. نرجو منك الصدق لأننا لسنا في حاجة إلى نص أدبي». لكن للأسف جاءت أجوبة معظمهم نصوصاً أدبية عادية جاهزة في رؤوسهم. إلا أن الصادم في هذا العدد هو مقتبس للماركيز دوساد حول رجال الدين، أثار رعب الشيوعيين العراقيين، خصوصاً الذين ساهموا في العدد.
وأخيراً ضمّ العددُ اللقاءَ الشهير والمثير مع محمد شكري، والذي يفضح فيه لا أخلاقية محمود درويش والياس خوري، ما سبّب ابتعاد الذين كانوا يعملون تحت إدارة محمود درويش عن المجلة، كفوّاز طرابلسي الذي كان في نّيته إعداد ملف مع عزيز العظمة، عن جيل الستينيات اللبناني.
وهنا أنقل ما جاء حرفياً على لسان شكري لتقديم صورة حيّة عن اختراق «فراديس» لكلّ المحرّمات والإقصاء التام للرقابة فيها. يقول شكري:
«سأُدلي باعتراف خطير، اعتراف ساخر جداً، حدثَ لي مع الشاعر محمود درويش بحضور الياس خوري. ربّما كانا صديقَين لأحد منكم أو أكثر، لكن أنا لا تهمُّني الصداقة بقدر ما تهمُّني حقيقة الأمور. تلقَّيتُ يومها مكالمة تلفونية من محمد برادة رئيس «اتحاد كتّاب المغرب» سابقاً، وهو صديق حميم لي، وكلَّفني بخدمة أؤدِّيها له. وأدَّيتها بكل حبور. فقد سبق له أن أدّى لي خدمات جليلة أشكره عليها شكراً جزيلاً. طلب منّي أن أذهب إلى فندق «سيناتور» في طنجة وأن أوقظ محمود درويش والياس خوري لكي يُشارك محمود درويش في قراءة شعرية كانت مع محمد علي شمس الدين وأدونيس الذي امتنع يومها عن قراءة الشعر، فقرأ درويش وشمس الدين ولم يقرأ أدونيس. أنا جئت إلى هذا الفندق (إني أسوق هذه الحادثة في سياق الحديث عن الجنس ومفهومه في العقلية العربية مبدعةً كانت أم لا، أي في الشارع). إذاً أيقظتُ درويش وخوري من نومهما على أن يحضرا، فقالا لي: انتظرنا في الغرفة. كانت هناك زجاجة ويسكي ملآنة تقريباً وإلى جانبها بعض الفستق، فأخذت آكل الفستق وكانت لي أسنان ما تزال قويّة في ذلك اليوم. اليوم سقطتْ. عندما انتهيا من التنظيف والنظافة خرجا ليقول لي محمود درويش (أنا بسذاجة كنتُ رأيت حقيبة مفتوحة فيها نسخ عدّة من أحد دواوين درويش، فقلتُ له: هل يمكن لك أن تهديني نسخة من ديوانك الأخير؟) هذه العبارة: «ليس من عادتي أن أُهدي دواويني». أنا سكتُّ طبعاً وكان في ذهني أن أفعل تماماً ما طلبه مني محمد برادة. بعد لحظة، استفزازاً قال لي درويش: «آ شكري كيف حالك في طنجة»؟ فقلت له: «والله عادي جداً». فقال: «أليس لديك فيللا في الجبل» (وكان رأى الجبل قبل يومَين حين كان في أصيلة)، فقلت: لا. فقال: «وكيف يحدث أنك عرفتَ تينيسي وليامز وجان جينيه وهذان شخصان معروفان أنهما غنيّان ولم تغتنِ من خلالهما مع أنك كنتَ خليلهما أو صاحبهما»؟ فقلت له: «لم أعرف كيف أغتني لكي أكسب فيللا، لكن ربّما أعتقد أنك أفحل مني، فأنا لم أعرف كيف أصير فحلاً تجاه وليامز وجينيه، لكن إذا شئتَ فمن الممكن أن أُسوِّي لك مع تينسي وليامز أو جان جينيه لكي تكسب هذه الفيللا لأنك أفحل مني». وربّما كان زب درويش أو زب الياس خوري، وكلاهما زوج أزباب بالنسبة إليّ، زبَّين لا ينتعظان ولا ينتصبان. تصوَّر: أهانني لأنني طلبت منه توقيع ديوانه لي ولم يُعطِه، وكنتُ أنا شبه خادم وأوصلتهما إلى الرباط».

العالم العربي ثقب كبير، أفكاره الكبيرة فأر صغير
إلا أن قضية الشعر التي أناضل من أجلها دفعتني إلى تخصيص العدد المزدوج 6 و7 (182 صفحة، نوفمبر 1993) لقصيدة النثر الأوروبية كي يتضح جوهرها للقارئ العربي، بل حقيقة المصطلح الشعري نفسه بمقاربة معرفية جديدة تضيء نشأته، تطوّره، إضاءةً تُرئِّي لنا حمولاته المستقبلية. لذا جاء العدد في معظمه حول قصيدة النثر الأوروبية نموذجاً وتنظيراً، فضمّ تراجمَ لما يقارب الستين قصيدة نثر عالمية مع تقديمات وشروح، ونماذج عربية مكتوبة على شكل كتل وقريبة من النموذج الأوروبي اخترتها من إنتاج قصيدة النثر العربية، فقدّمت نماذج من أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، محمد الماغوط وآخرين مع تقديمات مكثّفة، وأجريت استفتاء حول قصيدة النثر مع 15 شاعراً عربياً من بينهم أمجد ناصر، قاسم حداد، أنور الغساني... كما ضم العدد السيرة المفصّلة للماركيز دوساد كتبتها أنا، وطلبت من صديقي سحبان مروّة أن يترجم نص دوساد الفلسفي العظيم: «محاورة كاهن ومُحتضَر». وهكذا اجترح هذا العدد موضوعَين للمرّة الأولى في العربية: قصيدة النثر الأوروبية والماركيز دوساد.
أما العدد الثامن (110 صفحات، ديسمبر 1994 وسبب انخفاض عدد الصفحات أني قمت بطباعته في باريس بعد جمع تبرّعات من أصدقاء وشعراء منهم محمود درويش، وليس على حساب «منشورات الجمل») فجاء شعرياً محضاً اشترك فيه: عبد الرحمن طهمازي، محمد علي شمس الدين، محمد سعيد الصكار... مع مقال لروبرت بلاي: «الشعر والأدمغة الثلاثة»، ولصبحي حديدي «تأمّلات في الشعرية المعاصرة»، وتراجم لقصيدة النثر الأوروبية مع مقالات عنها، وتضمّن كذلك ردّي على مقال هجوميّ لفاضل العزاوي نشره في مجلة «الناقد» لصاحبها رياض الريّس.
عندها قرّرت إغلاق «فراديس» بعدد استخلاصيّ ونهائيّ، حمل رقم 9 و10 (144 صفحة، تمّوز 1995)، شارك فيه سركون بولص، أمجد ناصر، هاتف الجنابي، وتضمّن ملفاً عن  جان شوستر مع ترجمة كاملة لبيانه الذي نشره في «اللوموند» عام 1969 معلناً فيه حلّ الحركة السوريالية الفرنسية. وضمّ أيضاً ملفّاً مهماً عن شعر الزن الهايكو، مع دراسة حول شعر الموت في الزن، كما ضمّ ترجمات كثيرة لقصائد النثر العالمية، وملفاً عن الشعر المغربي الجديد. وكذلك احتوى العدد على اللعبة السوريالية التي طرحتها في العدد الثاني، وهذه المرّة مع ما يقارب عشرين شاعراً عربياً، وهنا أقتطف جزءاً من الصفحة الخاصة بمحمود درويش، لأنها جاءت معبِّرة للغاية (الكلمة الناقصة أضعها بين مزدوجتَين):
الجنابي: من هو «أدونيس»؟
درويش: معنى يبحث عن عبارة.
الجنابي: من هو «سعدي يوسف»؟
درويش: يوثّق ما يغيب عن الشعر.
الجنابي: من هو «عباس بيضون»؟
درويش: يعرف ما الشعر ولا يبلغ القصيدة.
الجنابي: ما هي «فلسطين»؟
درويش: طاولة من زجاج.

انهض أيّها الكلام وأمضِ إلى عالمك
في الحقيقة، كانت «فراديس» آخر تعبير عن رؤيتي للشعر، مفهومي للثقافة والثورة. كنت أفكّر بكل صغيرة من أجل أن يكون كل عدد له نكهة خاصة ذات متفجّرات لغوية تستفزّ مشاعر القارئ مُدخلةً إيّاه في نطاق المخيّلة الفعّالة، لتعلّمه أن الشعر في متناول يدَيه. فطريقة إخراج المجلّة وتضارب المواد فيها جعل من «فراديس» مجلة ذات طابع حركي، بحيث ظنّ الكثيرون بوجود حركة لسان حالها «فراديس»، وكان لهم حق الظن بسبب التقديمات الحركية التي كنت أكتبها من دون توقيع لهذه المقالة أو تلك الوثيقة: «اقرأ فراديس ولن تموت غبياً»، «تذكّر أن الجنس عند العرب هو الكتاب الوحيد الذي يقرأه رجال الدين في الخليج»، «والآن تنكيلاً بأعداء الشعر استردّت «دار الجديد» أعمال أنسي الحاج الشعرية»، بل لقد أوجدتُ شعاراً طريفاً لـ«منشورات الجمل» يقول: «الجمل يمرّ والأفق يتحرّك» وهو تحريف لجملة شعرية ترجمتُها عن الإنكليزية  لشاعر أوروبي (خالد المعالي يستخدمها إلى اليوم ولا يعرف عن أي شاعر أُخذت). وهنا أودّ أن أؤكّد أن المعالي لم يكتب جملة واحدة في «فراديس»، فمهمّته كانت تنحصر في دفع تكاليف العدد ورقن النصوص، ولهذا السبب كنت أقول له عند تصميم كل عدد: «خذ ثلاث أو أربع صفحات لنصوصك»، دون أن أقرأ جملة واحدة منها. بل حتى المواد المترجمة كنتُ أختارها بنفسي وأطلب من الأصدقاء ترجمتها، فمثلاً طلبتُ من صبحي حديدي أن يترجم مقال جوناثان مور الطويل عن قصيدة النثر، فأعدّ خلاصة منه، ومن سحبان مروة طلبتُ ترجمة ملف الزن، وكذلك تراجم سركون بولص وهاتف الجنابي... ولولا ذلك لما كان ثمة دلالة للعبارة المكتوبة في الصفحة الأولى من كل عدد: «فكرة وتنفيذ: عبد القادر الجنابي».
لقد حاولتُ أن أخلق نوعاً من الموازنة بين الفعل الشعري الصافي والتفضيح حدّ السباب؛ موازنة تمّت أحياناً على حساب الشعر. ولا أجد بداً من الاعتراف بأني كثيراً ما اضطررت إلى نشر قصائد لا تستحق النشر! لا مفرّ من هذا. فلكل حركة إبداعية حرّة حصّتها أيضاً من العشب الضار. آه كم كنت أكره هذه العبارة: «لا يعبّر عن رأي المجلة»! فعلى العكس من ذلك، كان كل ما كنت أنشره لأيٍّ كان، يعبّر بالضرورة عن «فراديس» وبالتالي عنّي. «فالمبدع الحق، كما يقول نيتشه، لا يمتلك فكره فحسب، بل يمتلك أيضاً فكر أصدقائه. فكل صديق له يعيره حواسه، لا بل أكثر من ذلك يعيش من أجله». وهنا يحضرني ما كتبه عباس بيضون عن العدد الثالث من «فراديس» (الملحق، العدد 13، 6 حزيران 1992) حيث يقول: «أنشأ الجنابي «الرغبة الإباحية» و«النقطة» وما لا نذكر من المجلات والنشرات... وكلّها كانت قبل كل شيء لسانه وصوته. لكنه دائماً لسان وصوت يتسعان لما لا يُحصى من اللهجات واللغات والأسماء، بل نحن نجد الجنابي في نصّه ونصوص سواه لا فرق، فكأن المجلة به وبسواه جيش من غير المنظورين. أوسع الجنابي الثقافة العربية والمعارضة العربية نقداً وسبّاً، وانتقد الدين ودعا إلى الحرّية الجنسية. توشك كلماتي للأسف أن تغدو شعارات ميّتة، والجنابي يتقن فناً أكثر حياة، فن الفضيحة. كانت نشراته لذلك فضائح متجدّدة. وقد يرى البعض أنها فاقعة أو يرى بعض آخر أنها صاخبة قتالية فوق ما يطيق التحليل والبحث. إلا أن نشرات الجنابي تدحرج فضائح وكلمات مقذعة في «مهوار» بلادتنا وصمتنا فلا يبقى لها صوت. لذا كان صخبها وإقذاعها جزءاً من وجودها وحياتها. بل إنها على كل هذا الاحتفال والمسرح والضجيج ما كانت تسمع، يكفيها أنها سمَّت وتُسمِّي ما لم يعد له في حاضرنا اسم. ويكفيها أنها التمست هنا وهناك ثقافة ملعونة مخالفة أو التمست أيضاً عرقاً من الأحرار».

وداعاً أيها التمرّد في مجتمع عربي لا يستحقّ حتى التمرّد عليه
بعدما ألقيت نظرة على ما يقرب الألف صفحة من القصائد، الترجمات، الاستفتاءات، الألعاب، الشتائم، النقد الجذري، والاستفتاءات الاستفزازية كهذا الذي طرحته على الرؤساء العرب: «أيها الحاكم، ما الذي ستفعله عندما تستقيل وتبقى حياً؛ أو عندما تُعزل عن الحكم؟ هل ستفكّر بمؤامرة جديدة، أم ستذهب إلى جزيرة صغيرة حيث تُمضي وقتك مع أطفالك وحريمك، أم ستذهب مباشرة إلى مونتي كارلو لتلعب القمار حتى الثمالة ثم تعود إلى البيت، غير قادر على المواطئة، تاركاً زوجتك وحدها مع الخدم، أم ستتجرأ لأول مرّة في حياتك على قراءة كتاب، وأي كتاب سيكون سميراً لك في وحدتك؟» لم يصل أي جواب.
بعد هذا النَّفَس الطويل الذي استغرق خمس سنوات، قرّرت أن أوقف «فراديس» عن الصدور وأن تدخل أرشيف التاريخ، على أن تجترّ نفسها مكرّرة المواضيع ذاتها كأيّ مجلة عربية. فـ«فراديس» ليست «الآداب» ولا «شعر» ولا «المعرفة» وليست مجلة تجارية. لقد تعلَّمتُ من تجربة السورياليين والحركات الطليعية كـ«أممية مبدعي الأوضاع»، بأن مجلة ذات نبرة طليعية، هدفها أن يكون الشعر في فراديسه لا مجرّد نتف للزينة الأدبية، يجب ألا تستمرّ أكثر من بضع سنوات... وإلا ستضطر إلى المساومة والتواطؤ وقبول أي كان فقط لملء فراغ الأعداد التي لم يعد فيها، أصلاً، حياة.
«فراديس» إنتاج وضع مليء بالأحلام، والحرّية بأعلى درجاتها، حيث كان «ينبغي أن تكون الكلمة مطرَ نفسِها» (سهراب سبهري)؛ حيث كان السباب مَخرَج اللغة النقدية الوحيد حفاظاً على ماء وجهها من هذا السَّيَحان المأمورة به لغة العرب. لقد أدّت «فراديس»، رغم التوزيع السيء والطباعة المحدودة النسخ، مهمّة التفضيح؛ مبادرة انتهاك المحرّم الكتابي المتواضع عليه. لقد كانت مركّب شراسة الفكر الغربي ونشاط العربية المنفلت نحو هواء الاستنارات في حارة ترابط الصور والأفكار.
إن ما يميّز «فراديس» هو أنها اختارت الصدام مع كل الجدران الثقافية، الاجتماعية، الجنسية... بينما السائد في الثقافة العربية هو أن المثقفين، الشعراء، الكتّاب ليسوا سوى وطاويط ينحصر ذكاؤها في عمل واحد: ألاّ تصطدم بجدار
أسفي الوحيد هو أن «فراديس»، ككل المجلات التي أصدرتُها، لم تصل إلى يد القارئ العادي، بل إلى أيدي مثقّفين وشعراء وكتّاب منتحلين؛ يغرفون ما يشاؤون دون أي ذكر للمصدر.

مرغريت أتوود : الكتابة تشبه التحديق في قاع هوة مظلمة:

مرغريت أتوود : الكتابة تشبه التحديق في قاع هوة مظلمة


ركزت الروائية الكندية مرغريت أتوود في هذه المقابلة التي أجرتها معها مجلة «جانيوري» الثقافية المتخصصة مع صدور روايتها الجديدة «عالم الطوفان» على الصلة بين هذه الرواية وبين تخيل العالم على ما يمكن أن يبدو عليه في ضوء التطورات العلمية المتتابعة، وأشارت إلى طبيعة العلاقة بين هذه الرواية وروايتها الصادرة عام 2003 «أوريكس وكريك» ووصفت تجربة الكتابة كما عايشتها على امتداد عقود عدة بأنها تشبه التحديق في قاع هوة مظلمة، وفيما يلي نص الحوار.
يتساءل الكثيرون عن طبيعة العلاقة بين روايتك «عالم الطوفان» ورواية «أوريكس وكريك» التي قدمتها قبل ست سنوات. فما الذي تقولينه في معرض الرد على هذا التساؤل؟
لم يسبق لي من قبل قط أن عدت إلى رواية وكتبت رواية أخرى مرتبطة بها. لماذا هذه المرة؟ لأن الكثير من الناس سألوني ما الذي حدث بعد نهاية روايتي الصادرة عام 2003 «أوريكس وكريك». وأنا في حقيقة الأمر لم أكن أدري ما الذي حدث، لكن هذه الأسئلة جعلتني أفكر في هذا الأمر. وكان هذا أحد الأسباب. وهناك سبب آخر هو أن جوهر الموضوع استمر في استقطاب اهتمامي.
وعندما صدرت رواية «أوريكس وكريك» بدت للكثيرين رواية خيال علمي، مغرقة في التخيل، وأكثر غرابة من أن تكون محتملة الحدوث، ولكن في السنوات الثلاث التي انقضت بين صدور هذه الرواية وشروعي في تأليف «عالم الطوفان» مضت تضيق بسرعة الهوة المتصورة بين المستقبل الذي يفترض أنه غير واقعي والمستقبل الذي يحتمل أن نعيش تحت آفاقه.
ما الذي يحدث لعالمنا؟ ما الذي يمكننا القيام به لإصلاح الضرر؟ كم من الوقت بقي أمامنا؟ والأمر الأكثر أهمية هو: أي نوع من «نحن»؟ نتحدث عنه هنا؟ بتعبير آخر، أي نوعية من الناس قد تتصدى للتحدي؟ من المؤكد أنهم ينبغي أن يكونوا أناسا يتصفون بالدأب في المقام الأول.
ولماذا تكترث إلا إذا كنت تؤمن بأن كوكبنا يستحق الاهتمام؟ وهكذا فقد دخلت مسألة الاعتقاد الالهامي إلى الصورة. وعندما تكون لديك مجموعة من المعتقدات ـ في تميز عن كيان من المعرفة القابلة للقياس ـ فإنك تكون حيال دين. و«البستانيون» يظهرون بصورة عابرة في رواية «أوريكس ودريك» أما في رواية «عالم الطوفان» فإنهم في الصدارة. وشأن كل الأديان، فإن «البستانيين» لهم زعيمهم، الذي يدعى آدم ون، وكذلك لديهم قد يسوهم وشهداؤهم الذين يحظون بالتقدير، وأعيادهم الخاصة ولاهوتهم.
وربما يبدون غرباء واستحواذيين بل وحمقى لغير المنتمين إلى عضوية جماعتهم، ولكنهم جادون حيال ما يؤمنون به، تماماً كأسلافهم الموجودين معنا اليوم.
وقد اكتشفت الكثير حول حدائق السقف وتربية النحل في المناطق الحضرية خلال عكوفي على تأليف هذه الرواية. وهناك سؤال آخر غالباً ما يطرح حول رواية «أوريكس وكريك»، وهو السؤال المتعلق بالجنوسة.
فلماذا سردت الرواية على لسان رجل؟ وكيف كان يمكن أن تكون مختلفة لو أن الرواية كان على لسان امرأة؟ لقد مضت بي هذه الاسئلة إلى شخصيتي رين وتوبي ثم إلى حياة كل منهما وكذلك إلى أماكن اللجوء. وفي حقيقة الأمر أن نادي الجنس المخصص للنخبة والمنتجع الصحي المترف من شأنهما أن يكونا موقعين جيدين ينتظر فيهما المرء وباء جائحا، فعلى الأقل ستتوافر لك الكثير من الوجبات الخفيفة من المشرب وكذلك الكثير من المناشف النظيفة.
يبدو السرد في الرواية الجديدة مختلفاً إلى حد بعيد عنه في سابقتها، فما السر في ذلك؟
يقول المؤلف دنيس دتون في كتابة «غريزة الفن» إن اهتمامنا بالسرد كامن في أعماقنا ـ حيث مر بعملية ارتقاء خلال الفترة الطويلة التي أمضاها الجنس البشري في العصر الحديث الأقرب إلى عصرنا، لأن أي كائنات تتمتع بالمقدرة على رواية القصص حول كل من الماضي والمستقبل ستكون لها أسبقية في التطور.
هل سيكون هناك تمساح في النهر غداً على نحو ما كان هناك العام الماضي؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن الأفضل ألا تذهب إلى هناك. والروايات التكهنية التي تدور حول المستقبل مثل رواية «عالم الطوفان» هي أعمال سردية من هذه النوعية. أين ستكون التماسيح؟ كيف سنقوم بتجنبها؟ ما هي فرصنا في البقاء؟هل كنت تعرفين على الدوام أنك تريدين أن تكوني كاتبة؟
لا، لم أعرف ذلك إلا بعد أن غدوت في السادسة عشرة من عمري، أما قبل ذلك فلا، حيث كنت أكتب بالطريقة التي يكتب بها معظم الأطفال، وظللت كذلك على امتداد سنوات، حيث لم أكن مهتمة بالكتابة، وكنت أقرأ كثيراً، ولكنني لم أعتقد أنني سأصبح كاتبة.
ذات مرة رأيت لافتة اختصرت الحياة بشكل عام، حيث كتب عليها «هذه مسيرة مظلمة». هل توافقين على هذا التصور.
نعم، ولكن فيما يتعلق بالكتابة فإنها ليست مسيرة، فأنت تمضي سيراً خطوة وراء أخرى.
واعتقد أن فرجينيا وولف كانت هي التي قالت إن كتابة رواية تشبه السير في أرجاء غرفة مظلمة مع وجود مصباح يضيء نوره كل الأشياء التي كانت موجودة هناك دوماً. لقد قالت شيئاً من هذا القبيل، ويتعين عليَّ العودة إلى المصدر لتحديد ما قالته على وجه الدقة.
وأتذكر أن صديقي هنري سنجر الذي كان طالباً للطب تعرفت به في أواخر الخمسينات. وكان يقول إن الشيء الذي يصف كون المرء طبيباً هو أنه يشيه التحديق في قاع هوة مظلمة. وأعتقد أن الشيء نفسه ينطبق على كون المرء كاتباً، فتجربة الكتابة تشبه التحديق في قاع هوة مظلمة.
لقد أحببت رواية «القاتل الضرير»، أحببت القصص الأربع التي هي بالفعل قصة واحدة. ولم أستطع تأمل آليات تأليف هذا الكتاب. فهناك الكثير فيه يتعين عليك جعله يتماشى بعضه مع البعض الآخر.
هذا صحيح. ومن ناحية أخرى ما عليك إلا الاسترخاء في مقعدك لتجد الأمور شديدة البساطة، فالقصص كلها تدور حول القصة المحورية ذاتها، وكلها تفض أسرارها لتكشف عن محتواها، إن صح هذا التعبير.
لقد نجح هذا كله بشكل رائع للغاية، وبدا لي هذا الكتاب أكثر أعمالك نضجاً، وذلك لا يعني أن أيا من أعمالك يفتقر إلى النضج، ولكنه بدا لي تطوراً لأعمالك.
ذلك، في حقيقة الأمر، ما قاله عدد من الناس، وهكذا فإنه أمر يسعدني سماعه. وهذا الكتاب هو أيضاً الكتاب الوحيد من تأليفي الذي يموت الراوي في نهايته.
الراوية التي تموت في نهاية العمل لا تدهشنا بذلك، فهي كبيرة السن، وهي تمضي قدماً نحو ذلك المصير، وهي تتأمل هذا طوال معظم الكتاب.
هذا أمر مهم بالنسبة لي لأنني في سني هذه لا أرى النهاية بعد، لكنك يمكنك تراها، يمكنك أن ترى أنه ستكون هناك نهاية. لقد غاب عني هذا الجانب تماماً، لأنني لم أنظر إليك من هذه الزاوية.


أنا من مواليد نوفمبر 1939، ومسألة الفناء تزحف قليلاً فقليلاً بالنسبة لي، ويتعين على القول إنني لست أرغب في أن أعيش إلى أن أصبح في عامي المئة، ما لم أكن في خير حال من الناحية الصحية.
ولو أنني كنت صحياً على أتم ما يرام فلن يكون وصولي إلى مئة سنة أمراً سيئاً، ولكن حتى لو كان الأمر كذلك فإن كل أصدقائك سيكون الموت قد طواهم، وهو أمر يتعين عليك التوقف عنده والتفكير فيه طويلاً. وأيريس في رواية «القاتل الضرير» تبدو كومة من التداعي. وهي كاتبة.


المؤلفة في سطور

ولدت الروائية الكندية مرغريت أتوود في 18 نوفمبر 1939، ودرست اللغة الانجليزية في جامعة تورنتو التي تخرجت منها عام1961 وحصلت على الماجستير من كلية راد كليف عام 1962 وعلى الدكتوراه من جامعة هارفرد عام 1967، وعملت بالتدريس في الجامعات قبل التفرغ للكتابة الإبداعية. حيث قدمت فيضاً من الروايات والقصص القصيرة ودواوين الشعر وكتب الأطفال وسيناريوهات المسلسلات التلفزيونية والنصوص المغناة في الأعمال الأوبرالية. وهي تعد من أكثر الكاتبات تكريماً في التاريخ الأدبي الحديث، حيث نالت جوائز أرتر كلارك، أمير أستورياس، الحاكم العام لكندا، الوسام المئوي لجامعة هارفرد وجائزة بوكر عام 2000 عن روايتها «القاتل الضرير، وصدرت لها مؤخراً رواية «عام الطوفان» التي تعتبر أبرز روايات ثلاثية لم تكتمل بعد.

الجمعة، 3 يونيو 2016

المواطنة في العراق - الأستاذ الدكتور : جواد مطر الموسوي *

المواطنة في العراق
                                                       الأستاذ الدكتور
                                                         جواد مطر الموسوي *

       اشتقت لفظة ( المواطنة) من اسم الفاعل (مواطن) وجذره الثلاثي (وطن ) وهو محل الانسان في مكان ما على وجه البسيطة ، فالأسرة والمحلة والقرية والمدينة والاقليم وطــن .
      وهذا الوطن بحاجة الى تنظيم يتمثل بالدولة التي لا يمكن ان تنشأ وتقوم إلا على اساس المواطنة ، فهي جوهر التفاعلات الاجتماعية لتحديد علاقة الفرد بدولته ، وهذه العلاقة تحدد بقانون بين الدولة والمواطنة وحسب العصر الذي تعيش به ، فالتجربة التاريخية تدرس في واقعها وبيئتها ، لذلك لا يمكن ان نضع تعريفاً متكاملاً لمبدأ ( المواطـنة) لأنه مصطلح سياسي حي ومتحركة ضمن الصيرورة التاريخية ، ومع ذلك يمكن القول ( المشاركة بحرية واعية وبأثر فعال في بناء الدولة بقانون بعيد عن انتهاك حقوق الانسان ) .
     يعتقد الكثير من الباحثين ان مبدأ ( المواطنة Citizenship ) بدأ من اليونان وبالذات مدينة ( اثينا) في القرن الخامس قبل الميلاد وانتشر بعد ذلك .
     لكن الحقيقة التاريخية تُثبت ان ( المواطنة ) بصفتها مبدأ ممارسة قد مارسه العراقيون القدماء منذ بزوغ الحضارة عندهم ، وهم اول من علٌّم البشرية بفخر معنى( المواطنة ) واحترام ( حقوق الانسان ) لايأخذ هذا المبدأ البعد الانساني في مساهمات الحضارات البشرية الاخرى بصياغته ووضوحه وتنظيمه عبر مسيرتها من القرون السحيقة حتى الوقت الحاضر .
     فقد ذكر المرحوم ( طـه باقر) في ( مقدمته) إنـنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا ( أنَّ حضارة وادي الرافدين تفرَّدت بأول ظهور لنظام دولة المدينةCity States  على أنه شكل من اشكال الحكم في التاريخ البشري ) .
    ومن المرجح جداً أنَّ اصول هذا النظام ترجع الى ظهور اول قرية زراعية في الاهوار في الالف الخامس قبل الميلاد تطورت في الالف الرابع بظهور المدن والعمران الحضاري (  (Urbanizationلازمه تتدرج للحاكم المنتخب من ( اين  ( En و( انسي  Ensi) ثم ( لوكَال Lugal ) .
      وان المثير للأنتباه ان الولاء القبلي منذ عصور ما قبل التاريخ (Pre history) قد ضعف بصورة واضحة ولا سيما في عصر المدينة العراقية (Early Dynastic) والسبب اعتماد المدينة على الاقتصاد الزراعي والري والتجارة ، فنشأت في المدينة مجالس مدينة جاء ذكرها في اللغة السومرية مثل مجلس ( اوكن Ukin) ، وفي اللغة الاكدية مجلس ( بوفرم Pukhrum ) ومشيخة المدينة ( شيبوت آلم Shiput alim ) .
       بعد ذلك قننت العلاقة بين الفرد والدولة فقد عثر على اقدم قانون في العالم ، وربما قبله قوانين عراقية اخرى لم تصل إلينا ، لأن هذا القانون كان على درجة عالية من النضج وهو قانون ( أور- نمو ) ( 2113 ـ 2096 ق.م) ، ثم قانون ( لبت عشتار ) وقانون( اشنونا ) ثم قانون ( حمورابي) ( 1792ـ 1750 ق.م) ثم القوانين الاشورية .
      وقد اطلق الآثاري الاوربي ( آي.آي سبيزر ) على هذه القوانين بأنها ( لائحة لحقوق الانسان ) ، لأنها حجر العقد في كثير من الوجوه في البنية الثقافية في بلاد وادي الرافدين .. فهي التي ترشد الحاكم وتحمي الرعية .. حتى ولو اصبح الملك رئيس امبراطورية واسعة ، فإنه يظل خادم القوانين ، وليس مصدرها ، ويكون مسؤولاً امام الآلهة من اجل تطبيقه ، إنَّ مثل هذه الحماية الألهية الضامنة لحقوق المواطنة الحيوية والاساسية ، وقد تعني الكثير للمواطن الاعتيادي ، فإنها نعمة ما بعدها نعمة ، هذا يعني ان السمة الاساسية للمجتمع هي الاحترام العميق لحقوق المواطنة ، فالملك العراقي لم يكن ملكاً خارقاً مثل الملك الفرعوني .
     فكان الملك العراقي يعتمد على رعاية الآلهة وموافقة( مجلس الشيوخ ) وهذا التأكيد على الشورى ، وموافقة المجلس ظاهرة للعيان في معظم تاريخ بلاد وادي الرافدين ، وإن السلطة التمثيلية هي الاساس وليس الاستبدادية ، وهذه السمة الديمقراطية حَملت منافعها الى الكثير من البلدان .
      والصورة تتجلى بوضوح في الميثولوجية العراقية فالمائدة الالهية التي عقدها الاله ( مردوخ ) لأخذ رأي مجلس الالهة بالأجماع لغرض محاربة قوى الشر الذي تقوده آلهة الدمار ( تيامة ) ، وهذا انعكاس لما يحدث في المجتمع السومري من عقد المجالس والمناقشات والانتخاب الحر ، ومن دور واضح للمواطن ، لأن الآلهة السومرية تحمل الصفة نفسها التي يحملها الانسان السومري ماعدا الموت فهي خالدة .
      وفي هذا المجال طرح ( جاكوبسن  Jacobsen ) نظرية ( الديمقراطية البدائية في العراق القديم ) التي لم تفند الى حد الآن بل عُدّلت بعض الشيء وفحواها ( كما لخصها الاستاذ الدكتور عامر سليمان ) استاذ الآثار القديمة  جامعة الموصل :( ان اولى الانظمة السياسية التي ظهرت في العراق اتسمت بالديمقراطية البدائية Primitive Democracy ) .
       كانت السلطة العليا في المدينة بيد مجلس عام يضم جميع المواطنين ( النساء والرجال ) يجتمعوا ويقرروا عمله في الحالات الطارئة ، وكان لكل مواطن من المدينة حق الكلام لكن كانت هناك امتيازات للرجال المسنين .
      وهذا دليل لإحترام الخبرة والعمر للذين الّفوا ما يشبه مجلس الشيوخ  دخل المجلس العام وكان النقاش يستمر حتى يتم التوصل الى قرار نهائي وبالإجماع وتتولى مجموعة اخرى تدعى ( مُشرّعي القانون ) بإعلان القرار النهائي وكان من بين القرارات التي يتخذها المجلس بإستمرار هو اختيار من يكون مسؤولاً عن شؤون المدينة ( الاين En ) ، وكانت سلطاته محدودة ومقيدة بالصلاحيات المخولة له من قبل المجلس العام ، فهو يرجع الى المسنين لأخذ استشارتهم اولاً ثم يُعقد المجلس العام لطرح الموضوع عليه وهذا واضح في ملحمة( كَلكَامش)
فكانت سلطة كَلكَامش حاكم الوركاء بيد مجلس المدينة العام .

      واستمرار الحال في العصر البابلي القديم ( 2000ـ 1595ق.م) حيث نجد في كل مدينة بابلية مجلس يضم المسنين للنظر في القضايا التي يحيلها الملك عليها .
      وفي العصر الآشوري القديم ( 2000-1500ق.م) ، وفي اقليم (كبدوكيا ) مجلس للتجار الآشوريين ينظر في القضايا ذات العلاقة بتنظيم حياة التجار .
      كما ان الملوك الذين جاءوا بالقوة الى الحكم لم ينفكوا ان يتمسكوا بالنظام الديمقراطي البدائي وبإحترام المواطنة ، وبإدعائهم أنهم جاؤا الى الحكم نتيجة انتخاب الآلهة لهم من بين جموع البشر .
      وفي التاريخ العربي قبل الاسلام ، نجد "حلف الفضول " افضل انموذج عن مبدأ (المواطنة ) وهي المعاهدة التي اتفق عليها اهل مكة وطبقوها في الواقع على احترام كل الانتماءات ونصرة المظلوم ، لحماية الافراد من اي اظطهاد او قمع او ايذاء يتعلق بجنسهم او افكارهم او معتقداتهم .
      وعلى الرغم من ان مفهوم ( الوطن ) في الاسلام محله مفهوم ( الامة الاسلامية ) لكن هناك محاولة لإحترام ( المواطنة ) منها: صحيفة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله وسلَّم ) في المدينة ( يثرب) ، التي قبلت ( الشراكة في الوطن ) بين المسلمين وغير المسلمين ، وكذلك ( صلح الحديبية ) الذي ساوى بين الافراد من حيث القوة والتأثير .
     وفي الفكر الاسلامي نجد مباديء المواطنة موجودة بصورة واضحة ، منها: العدالة ( إنَّ أكرَمَكُم عندَ الله أتقاكُم ) و( الناس سَواسِيه كَأسنان المِشط) والتَكافؤ في الفـرص ( لافَرقَ بَينَ عَرَبيّ وأعجَمي إلا بالتقوى) والمشاركة فـي الحكـم
( مَن رَآى منكُم مُنكَراً فَليُغَيرهُ ) استمر الحال حتى العصر الاموي ، عندما حدثت قطيعة واضحة وتراجع عن مباديء ( المواطنة ) وحكم الجماعة والانتقال الى سلطة فردية وراثية ، الــى الحكم العثماني فأول استخدام للفظة ( وطـن ) عام ( 1839م) كما ذكر الدكتور ( قيس العزاوي ) في فرمان سلطاني هو خـط
( كلخانة) حيث ورد مصطلح ( الوطن ) في موقعين : الاول: عندما تحدث الخط عن الانسان العثماني الذي ( تتزايد غيرته يوماً بعد يوم على دولته وملَّته ومحبته لوطنه) ، والثاني : عندما اعتبر مهمة الجيش هي ( المحافظة على الوطن ) .
      ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة( 1921م) وتولي انظمة حكم متعددة حتى سقوط آخرها سنة( 2003م) تعرض مبدأ ( المواطنة ) الى تهميش وضياع واضح ، وكان ذلك اشد الاخفاق الذي منيت به هذه الانظمة ، وكان ذلك على حساب الدولة ، وانهارت ( المواطنة ) نهائياً في النظام البائد الاخير مقابل الفرد والحزب الواحد فلم يكن هناك ( وطن) حتى تكون هناك (مواطنة ) فكان العراقي دائم التفتيش عن ( وطن ) آخر .
       وبالمقابل حاول النظام ، الإخلال بالنسيج الوطني الاجتماعي ، وليس هذا فقط بل اهمل ( الوطن العراقي ) لصالح اوطان مفترضة لا وجود لها اصلاً من قبيل الوطن القومي والوطن الاسلامي ...
      وزاد الطين بلة لهذه الدولة العراقية الحديثة بالسماح للطروحات الخارجية ان تحتل حيزاً واضحا في الثقافة والوعي الجمعي ، فأصبح الواقع مخترقاً ومهجناً ، وبذلك اصبح الطريق للأنقسام سهلاً .
      وبعد سقوط النظام شيع مبدأ ( المواطنة ) الى مثواه الاخير علـى مقصلة
المحاصصة الطائفية لكنه بقي حياً في قلوب الخيرين من ابناء هذا الوطن الغالي
الذي هو فوق كل شيء ، والخيرون عليهم بناء منظومة وطنية جديدة من الواقع وثقافته الحرة ، للوليد الجديد ( المواطنة ) لضمان سلامة مجتمع رائع ودولة معافاة ووطن كبير بتاريخه .


* كاتب ومؤرخ أكاديمي
profalmosawi@yahoo.com