الاثنين، 9 مايو 2016

أختام*-عادل كامل
















أختام*
عادل كامل
[13] العولمة: المحدود بلا حافات

     ما العولمة، إن لم يتم الحفر في مقدماتها، قبل أن تعلن عن اشتباك مضاف، في هذه المرة، اشد عنفا ً، وهو يؤسس نفيه.
     في الأختام البكر، عند مواقد النار، وفي المدافن، وعبر الرموز التي لم ْ تمح من الذاكرة، صنع أسلافنا عولمتهم ـ بعيدا ًعن فعاليات الزحف، والاستيلاء، والهيمنة. ففي آثار لا تحصى، في مواقع متباعدة في المسافات والأزمنة، كانت الأصابع تحفر ـ تنقش/ تدوّن/ تؤسس ـ استحالة انتصار الإنسان، لكن بفعل الخسائر المسيطر عليها. فلقد عادل الموت بالولادة، وعادل الفزع بالمغامرة، والانغلاق بالحلم. لقد جعل من أختامه كتابا ً مشفرا ً دمج فيه خاتمة حضوره بمقدمات قيد التدشين.
   فبين ما خبأه إنسان المغارات في فرنسا، أو في المكسيك، وفي غابات أفريقا، وصحارى ليبيا، والمغرب العربي، أو عند الأنهار العظيمة كالفرات والنيل ودجلة في حضارة النهرين، أو في مصر، وفي غابات الجزيرة العربية، وفي مملكات اليمن، والبحرين (دليمون)، وفلسطين، وجبال لبنان، وسهول سورية، وبراكين الأردن، وعلى امتداد مساحات شاسعة في الهند، والصين، و ...الخ لا نجد مسافات في التعبير. انه الهاجس ذاته لدي ّ رواد الحداثة، منذ دورر، وكرفاجو، ومايكل انجيلو، ورامبرانت، ورودان، وغويا، ودوميه، وروسو، وفان كوخ، وهنري مور، وجايكومتي، وحمود مختار، وجواد سليم، وجبران خليل جبران، وأسماء لن تغيب عن ذاكرة متتبعي الومضات الاستثنائية.
     ثمة، بوضوح، ينكشف ما في اللغز: عولمة لم تعّرف بهوية بديلة تحتمها وسائل ما بعد عصر الصناعة، والدخول في عصر الاتصالات السريع، كي تتجه التعددية، والتنوع، إلى ضرب من: المكان العالمي. ففي يوم غير بعيد عن فاتحة الألفية الثالثة، سنجد إجابة لا تقول: أنا من الهند، أو من قرية في شمال القوقاز، أو من سكان مدينة حالمة في الصين، بل تسمع: أنا من سكان كوكب اسمه الأرض!
     ذلك اللغز حفر عميقا ً في الأختام التي توزعت بين وادي الرافدين والمكسيك، وبين الصين ومصر، وبين المنجمد الشمالي وصحارى ليبيا والمغرب العربي: علامات سابقة على الاتصالات، والغزو، وسيادة ثقافة على ثقافة أخرى، عندما تبلورت سماتها بخطوط تحكي علاقة ما قبل ـ الزمن ـ عبر اليومي، وعلامات الاضطراب، والنشوة، والفزع، والانتصار بأشكال تتجمع الآن في متحف كبير اسمه: الذاكرة البشرية. أليست الشراكة وحدتهم، وليست العزلة، وجمعتهم أحلامهم ولم تفرقهم حروبهم الدامية، ولملمهم الحلم ولم يفرقهم عصاب العنف المستحدث، والمتراكم بتراكم الثروات ومكر الخطاب، ذلك لان الروح التي سكنت الإنسان لم تنحرف باستبدالها بمشاعر الكراهية ـ وبمناهجها الغامضة ـ بل حافظت على متابعة التقدم في سواحل لم تدشن، وفي مدن لم تر، وفنون لم تنجز. هذا السلام المشترك بين شديدي الرهافة، والمتوحدين في تأمل جماليات الكون، وأنهاره، وغاباته، ووديانه، وبواديه، ولغاته، وفنونه، برهن انه كان جذرا ً لكل ما هو مشترك ـ لم يكن يسعى إلى المحو ـ بل إلى الزهو بأرض يسكنها من هو أكثر صفاء ً، ومعرفة انه لن يرغب إلا بالمزيد منها، للجميع، وليس ضدهم.
     عولمة أولى شبيهة برأس المال ألبدئي، مثل كهف تجمعت فيه ومضات المجرات، والنيران المتوهجة بالأطياف..الخ تبصر بالذي لم يتكون بعد، وليس بالذي  تم الاستحواذ عليه، بتدمير الآخر، أو جعله ممحوا ً، شبحا ً، وهما ً، وإنما بما تكونه خلايا ارق الأحاسيس، وأكثرها إدهاشا ً، في القلب!
     ليست أختامي علامات خيالية، بل هي: أنا مغذاة برفيف مرور أطياف أسلافي، وأنا أصغي إلى أصوات من ستكون أناشيدهم شاملة على هذا المشترك: من لا وجود له إلا عبر حضوره الذي لامس حواسنا، وعقولنا، فكونته الأصابع.
     أختام شبيهة بخرز وحزوز ودمى وتعويذات تشترك في بناء تصوّرات للمودة، واستكمال المرور، في هذا السفر. فهي لم تصنع للبيع، كسلع، بلا ولا حتى للمباهاة. لأنها، ببساطة، تحاول إخفاء أنها مادة قابلة للتداول. فأنا أدرك تماما ً أن ليس لدي ّ الرغبة بالحصول على كل ما تركته يغادر ويزول: المجد!  ففي الزوال، زوالات تراكمت حتى برهنت أنها ستنبثق نافية أنها كانت فائضة، بل وكأنها ـ في اللغز ـ لن تتردد عن ولائها الدائم: صيرورتها الأبدية.
     هل ثمة حكمة، لا أنثوية تنتمي إلى سلوك المستحوذين، التدميريين، ستبرهن أن ديمومة لغز أول من منح العدم حضوره، هو من سيعدل مسارات عولمة (المحو) نحو: إنسان تتهذب صفاته طالما ترك الرحلة لا تتعثر، أو تصدعها الصدمات..؟!


* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).



السبت، 7 مايو 2016

أدونيس: هل الدين السبب الرئيسي في مشكلات العالم العربي؟-حوار: جوناثان جوير/ ترجمة: وليد سليم*


أدونيس: هل الدين السبب الرئيسي في مشكلات العالم العربي؟
حوار: جوناثان جوير/ ترجمة: وليد سليم*



في العالم العربي يقولون إن الجميع شعراء. والجميع يعرف أدونيس، المغتر بالسوري المقيم في باريس، أحد رواد قصيدة النثر العربية والذي تردد اسمه مراراً كمرشح لنيل جائزة نوبل في الأدب.

منذ عام 2011، أصبح شخصية مثيرة للجدل في النقاش المتعلق بالحرب في سوريا. مع بداية الثورة السورية في أوائل عام 2011، انتظر المثقفون تعليق أدونيس، ليس فقط بسبب منزلته الرفيعة كشاعر لكن أيضاً لأنه علوي، الطائفة التي ينتمي لها الرئيس السوري بشار الأسد. في يونيو من ذلك العام، كتب أدونيس رسالة مفتوحة للأسد داعيا إلى التحول للديمقراطية، على الرغم من أن نظام الأسد في ذلك الحين كان قد قتل ما يقرب من 1400 مدني. انتقد الكثيرون ردة فعل أدونيس لأنها جاءت ضعيفة ومتأخرة أكثر مما ينبغي.

يبلغ أدونيس من العمر ستة وثمانين عاما، وقد قام بتوضيح آرائه عن فشل الربيع العربي شعرا في عمود منتظم في الصحيفة العربية المعروفة الحياة، وفي كتاب صدر حديثا، العنف والإسلام Violence et Islam. صدر الكتاب في فرنسا في نوفمبر، نفس الشهر الذي مارست فيه تنظيم الدولة الإسلامية تصرفاتها الهوجاء في باريس والتي أودت بحياة 130 شخصا.

التقيت بأدونيس في مقهى بالشانزليزيه.

* جوناثان جاير: في بدايات الحرب السورية كتبت رسالة للرئيس بشار الأسد، ما الذي يمكن أن تقوله له في الوقت الحاضر؟

– أدونيس: لم يتغير شيء. على العكس تفاقمت المشاكل. كيف يمكن أن تتحالف أربعين دولة ضد تنظيم الدولة الإسلامية لمدة عامين ولا تكون قادرة على فعل شيء؟ لن يتغير شيء ما لم يكن هناك فصل بين الدين والدولة. إذا لم نميز بين ما هو ديني وما هو سياسي، وثقافي واجتماعي لن يتغير شيء وتدهور العرب سيزداد سوءا. لم يعد الدين هو الحل للمشكلات. الدين هو سبب المشكلات. لذلك هناك ضرورة للفصل. كل إنسان حر في الإيمان بما يريد، ويجب علينا احترام ذلك. لكن أن يكون الدين قاعدة المجتمع؟ كلا.

* متى كانت آخر مرة قمت فيها بزيارة لسوريا؟

– في 2010.

* قبل الحرب. هل لك أن تحدثنا عن الأجواء بعد ذلك؟

– لا أعرف أنا استمع للأخبار، مثلك تماماً. أعرف أن سوريا دُمرت، لكن لماذا؟ ما المشروع؟ انظر، الثوري يجب أن يحمي بلده. الثوري يناضل ضد النظام الحاكم، لكنه يدافع عن المؤسسات. لقد سمعت أن أسواق حلب دُمرت بالكامل. هذه الثروة لم يكن لها مثيل، كيف لهم تدميرها؟ الثوري لا ينهب المتاحف. الثوري لا يقتل إنسانا لأنه مسيحي، أو علوي، أو درزي. الثوري لا يُهَجِر بالقوة قطاع بأكمله من السكان، مثل الأيزيديين. هل هذه ثورة؟ لماذا يدعمها الغرب؟

* وُجِهت العديد من الانتقادات في العالم العربي لآرائك عن الصراع السوري؟

– كما تعلم، هناك الكثير من العرب تم توظيفهم من قِبل الثوريين ودائما ما ينتقدونني. إنهم يقولون إنني لست مع الثورة (الثورة) التي دمرت المتاحف.

* ماذا عن الثورة ومن معها؟

– إنها شيء لا يمكن الحديث عنه… كما تعلم؛ لا يمكن لكاتب على الإطلاق أن يكون إلى جانب القتل. غير ممكن. لكن بعض الناس يحبون القتل والعنف. كيف يمكن لشاعر أو رسام أن يكون في (نفس) الجانب الذي فيه شخص يضع حزاما ناسفا ويذهب إلى مدرسة ويفجر نفسه؟ كيف؟ إنهم أطفال. كيف، كيف تقتلهم؟ إنها وحشية لا يمكن تخيلها. أخي، لو كان النظام مستبدا، قاتله إذن، لا تقاتل الأطفال والمدارس، لا تدمر الوطن، لا تقتل أناسا أبرياء، قاتل النظام. إنه أمر مهين الانتماء إلى هذا العالم، شيء مهين. لم أر مثل هذا في التاريخ، أن تدمر دولة بأكملها كاليمن لمجرد وضع معتوه في منصب الرئيس…

* إنك ترى أناسا تساند هذا، مثقفين، كيف لك مقاومتهم؟ إنهم ينتقدونك لأنك لست في جانبهم، يجب أن تصبح وحشا مثلهم. مثل الجهاديين؟

– ليس الجهاديون فحسب، لأن الجهاديين جزء من الناس، فيجب على الناس الذين لا يريدون هذا أن يعلنوا رفضهم علانية. هل سبق لك قراءة بيان رسمي واحد ضد هذا؟ هناك أفراد يقولون ما نقوله الآن. لكن هل قرأت بيانا رسميا من دولة (عربية)، أو من حزب سياسي بارز، أو من مجموعة ذات شأن ضد ما تقوم به الجماعات الجهادية؟ هناك نوع من القبول، الصبر هو نوع من القبول. لم يحدث احتجاج واحد في أي دولة عربية ضد ما يحدث، ماذا يعني هذا؟ إنهم يقتلون البشر، ويبيعون النساء في الأسواق، ويدمرون المتاحف أعظم إنجازات الإنسان ولم يحدث احتجاج واحد، ولا بيان واحد (ضد هذا).

أتعلم، يجب أن نظل مؤمنين. ولكن كيف ذلك؟ إذا انتهي الإنسان، انتهت البشرية، وسينتهي العالم عندئذ. ما دام هناك أفراد ما أقوله الآن إنني لست بمفردي وهناك العديد من الأفراد، في مصر وبلدان أخري، يرددون نفس ما أردده. لهذا السبب يجب أن نظل واثقين من أن الإنسان سيصل إلى مرحلة سيجد فيها حلولا أفضل. لكن متى وكيف، سيتحدد في الوقت المناسب. لكني أستطيع القول إن العرب لن يتقدموا أبدا طالما يفكرون ويعملون ضمن هذا السياق الديني، الجهادي، القديم، من غير الممكن، يجب أن ينقرض وينتهي. تنظيم الدولة الإسلامية هو الصيحة الأخيرة، مثل شمعة على وشك الانطفاء، لكنها يجب أن تنتهي بالقوة.

النهضة تحتاج إلى وقت. لم يكن مجتمعنا، خلال القرون الخمسة عشر منذ تأسيس أول دولة إسلامية، قادرا على تأسيس مجتمع مواطنين. حيث تؤدي واجبات المواطن إلى حقوق. حتى الآن، تتكون المجتمعات العربية من أفراد يضطلعون بنفس الواجبات لكن لهم حقوق مختلفة: فعلي سبيل المثال، لا يحظى المسيحي بنفس الحقوق التي للمسلم. إنها خمسة عشر قرنا، كيف لنا أن نجد حلا لخمسة عشر قرنا في أسبوع أو أسبوعين، في شهر أو شهرين؟ لكنني واثق من أن هذا الوقت سوف يأتي لكن خارج هذا السياق.

* هل يتطلب التغيير ارتباطا من نوع جديد مع الغرب؟ فلقد قرأت قصيدتك، «شهوة تتقدم في خرائط المادة» (1987)، عن برج إيفل وهو يطفو على سطح البحر الأبيض المتوسط، وحوار كتبته يدور بين «أبو نواس» وفيكتور هوجو. الجسر بين العرب والغرب.

– الشرق والغرب مفاهيم اقتصادية وعسكرية، خلقها الاستعمار. جغرافيا نستطيع القول إنه يوجد شرق وغرب، وقد استفادت الاقتصادات والاستعمار من ذلك.

لكن في الفن لا يوجد شرق وغرب. ترى ذلك في لوحات بول كلي Paul Klee وكيف ألهمته تونس وشرق الجزيرة العربية. وتراه في لوحات ديلاكروا Delacroix وكيف ألهمته المغرب. عندما تقرأ رامبو Rimbaud تري أن أفضل ما فيه أنه ليس غربيا؛ فبرغم مولده في الغرب، فقد كان ضد الغرب بشكل كامل. وعندما تقرأ «أبو نواس»، أو «أبو العلاء المعري» لن تتأكد مما إذا كانا شرقيين أو غربيين. المبدعون ينتمون لعالم واحد، بصرف النظر عن البلد الذي أتوا منه أو المكان الذي ذهبوا إليه. إنهم يعيشون معا ما وراء الجغرافيا، وما وراء اللغات والقومية، وينتمون إلى عالم الإبداع الإنساني. بهذا المفهوم لا يوجد شرق ولا غرب. ويتمان Whitman بالنسبة لي تماماً مثل «أبو تمام». إنه جزء مني، وأنا جزء منه.

* لكن الغرب لديه مؤسسات اجتماعية متطورة والتي تعتقد أن العالم العربي يفتقدها.

– المشاكل التي مرت بها أوروبا تم التغلب عليها عن طريق إقامة مجتمعات جديدة، منفصلة تماماً عن الدين والكنيسة. كانت المحاكم الكنسية في العصور الوسطي تماماً مثل الجهاديين اليوم، فقد قتلوا الناس وقاموا بحرقهم. لكن الغرب نجح في فصل الكنيسة عن الدولة وخَلق مجتمعات حديثة. نحن لا نزال في هذه المرحلة. إذا كان الغرب قد نجح في هذا الفصل، فليس هناك سبب يمنع العرب من فصل (كلاهما) أيضاً. نحن نكافح من أجل هذا الفصل، وسنفعل ذلك برغم كل شيء، وعلى الرغم من السياسيين الغربيين كذلك، لأن السياسيين الغربيين للأسف يستخفون بالعرب، والأنظمة العربية. إنه يستخف، يستخدم (الغرب) هذه الأنظمة كأدوات لتنفيذ مخططاته.

* إذا كيف يمكن أن يتحقق فصل فعال بين الدين والدولة؟

– لنبدأ (مرة أخرى) من أول الطريق. الأمر يحتاج إلى نضال، النضال أمر ضروري. لا يمكنك تحقيق أهداف وأنت ساكن. يجب أن تناضل، تقف وتقاتل، تكتب وتُسجن. إنني أتساءل عن سبب عدم امتلاء السجون العربية بالكُتاب. إني أتساءل عن السبب، فهذا يعني أن الكُتاب العرب لا يؤدون واجبهم. إنهم لا ينتقدون، إنهم لا يتحدثون عن قضايا عميقة، القضايا الحقيقية المتعلقة بالحياة. إنهم لا يتحدثون عن الأزمات الحقيقية. من هنا، نقدي موجه للكُتاب، وليس للدولة. يجب أن يكون الكُتاب دائما في السجن، لأن هذا سيكون معناه أنهم يقولون الحقيقة. وجودهم خارج السجن يعني أنهم لا يقولون الحقيقة. إذا تم فرض حظر على كتبهم… نستطيع القول إن للثقافة دورا.

* لكن هل يمكن للشعر أن يعالج العنف البربري المفزع الذي يغمر سوريا حاليا؟ ويحضرني ما كتبه أدورنو Adorno عن الشعر بعد أوشفيتز.

– هذا موضع حديث، أوشفيتز كانت كارثة مأساوية، لكن البشرية مرت بالعديد من الكوارث المأساوية. على العكس تماماً، أنا أومن بأن الكتابة تبدأ بطرح أسئلة وكشف مصادر الشر، أيا كان مصدره. كلمات أدورنو تمنعنا من طرح الأسئلة وترغمنا على القبول، وهذا خطأ. إنني لا أتفق معه، فالآن تبدأ الكتابة، بعد أوشفيتز.

* ماذا عن كتابة الشعر أثناء الحرب الأهلية السورية؟

– لا يمكنك عقد مقارنة بين القنبلة والقصيدة. لا ينبغي أن تعقد هذه المقارنة. أي رصاصة من شخص جاهل يمكن أن تغير نظاما، أي رصاصة من شخص دنيء يمكنها أن تقتل إنسانا عظيما، مثل كينيدي، على سبيل المثال. لا يمكنك عقد مثل هذه المقارنة لأنها خاطئة بالأساس. نظم الشعر مثل صنع الهواء، مثل صناعة العطر، مثل التنفس. الشعر لا يمكن قياسه بالمعايير المادية. لذا يكره الشعر الحرب ولا علاقة له بها. لكن بعد نهاية الحرب، يمكن تأمل الجثث، والأنقاض، والدمار، والخراب. عندئذ يمكن للمرء أن يكتب شيئا، لكنه (يظل) أحد عناصر الحرب.

* قيل لنا إن تنظيم الدولة الإسلامية كتب شعرا، وأن أسامة بن لادن كتب الشعر؟

– هذا ليس بشعر. لا ينبغي اعتباره شعرا بالقطع هو ليس كذلك. لأن الشعر ظاهرة اجتماعية. عندما تكون الثقافة جزءا من الحياة اليومية، فكل فرد شاعر، وكل فرد روائي. الآن لديك الآلاف الروائيين. لكن لو وجدت خمس روايات جيدة يمكن قراءتها، حينئذ ستكون في وضع جيد. في أمريكا… توجد الآلاف الروايات؛ ستجد منها خمس أو ست روايات جيدة، والباقي كلام تافه. ونفس الأمر ينطبق على العرب. فكل العرب شعراء، لكن 95% منهم سقط متاع.

* كتبت مؤخرا عن الهجرة باعتبارها جزءا من الثقافة العربية، ونحن حاليا نواجه أزمة بسبب الهجرة في الشرق الأوسط وأوروبا. هل يمكنك الحديث عن ذلك؟

– أرى أن الهجرة ناجمة عن شيئين: إما بسبب عدم وجود فرص عمل أو عدم وجود حرية لا عمل أو لا حرية. لذلك يبحث المواطن، أو الإنسان، عن مكان ليعمل ويكون حرا. الدول العربية مثيرة للشفقة، فنحن ولمدة مائتي عام لم نكن قادرين على تأسيس جامعة أو مؤسسة بحثية واحدة جيدة. لدينا مصادر عظيمة نبددها على أسلحة عديمة الجدوى. نحن نشتري أسلحة، ونشتري طائرات؛ حتى أننا نشتري طيارين ليحلقوا بالطائرات ويقاتلوا لحسابنا، كما تفعل السعودية في اليمن.

العالم موحل، ونحن بدائيين. ما زلنا في العصور الوسطي، وأنت تطرح أسئلة متعلقة بالعصور الحديثة. لا تنخدع بالسيارات (الأجنبية) أو الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فنحن لا نستطيع إنتاج سيارة، ولا نستطيع إنتاج فنجان نحتسي فيه القهوة. كيف إذا نكون عصريين؟ السياسيون الغربيون يخدعوننا. أنتم المثقفون، يجب أن تعرفوا الحقائق.

* في كتاباتك الأخيرة، طرحت أسئلة عن الهوية العربية. على سبيل المثال، «من أنا من نحن؟» (جريدة الحياة، 10 ديسمبر 2015).

– الهوية ليست قضية صعبة بالنسبة للعرب وحسب، إنها صعبة للإنسان بصفة عامة، لأن الدين قدم إجابات: فالمسيحي مسيحي؛ واليهودي يهودي؛ والمسلم مسلم. كل «آخر» هو تحت المجهر، عرضة للتفتيش. فإذا كان يؤمن بما أؤمن به، حينئذ سأعترف به؛ وإذا لم يكن يؤمن، فلن أعترف به. هذا هو السبب في أن مفهوم الآخر في الأديان التوحيدية غير مُعرف. بالتالي، يصبح مفهوم الهوية معقدا بالنسبة للشخص اللاديني.

توجد أطروحات ذات صلة بهذه القضية بين المتصوفة العرب. هل تعرف أن رامبو قال، أنا آخر، وقبل ألف سنة من رامبو، قال الصوفي العربي «الآخر هو أنا». هل تعرف أن في الإسلام، يرث المسلم هويته، كما يرث منزله، وحقله، ومال أبيه. لقد فرضت عليه الهوية مسبقا. عند الصوفية، كلا، الهوية هي خلق متواصل. الإنسان يُشكل هويته عن طريق تشكيل عمله وأيديولوجيته. وإذا كانت الهوية خلق، إذا «الأنا» غير موجودة بشكل منفرد، إنها موجودة مع الآخر، والآخر جزء منها. بالنسبة لي حتى أكون نفسي، يجب أن أمر عبر الآخر. بطريقة مماثلة، الهوية في الصوفية حرة بشكل لا متناه.

ما دام الشخص حيا، فهويته قابلة للتجديد بشكل مستمر. لو كان شاعرا، فهويته لن تنتهي حتى لو توفي، لأن نصوصه تُعاد وتُعرض باستمرار وتُقرأ بطرق مختلفة، لذلك هويته حرة. بهذا المعني، كذلك، الشعر مغاير للدين. لا يمكنه أن يكون مع الدين. أعني، إنك لن تجد شاعرا واحدا في تاريخ العرب كان متدينا. من المستحيل القول هذا شاعر كبير وعظيم وأنه متدين، سيكون مثل الصوفي الذي يصف نفسه بالمؤمن، ويؤمن بإله مختلف تماماً عن الإله الإسلامي الرسمي إله العقيدة، والشريعة، والمؤسسة. بالتالي لا تكمن القوة الحقيقية للإنسان في تقديم إجابة، لكنها تكمن في طرح الأسئلة.

* قبل سبعين عاما، اخترت اسم أدونيس؟

– كلا، لقد اخترت اسما للخروج من عالم الدين. لكن الاسم أصبح جريمة الآن!

* لماذا؟

– إنه يُنتقد لأنه ليس اسما عربيا أو مسلما. للأسف، الثقافة الدينية خفضت من كل ثقافة، لقد أصبحت سطحية.

* ما هو إذن مستقبل الثقافة العربية؟

– أخبرتك أن ما دام الموت والحب موجودين سيبقى الفن. لا تقلق، القراء قلة، لكن لا بأس. لم يُنشر نيتشه (في عصره) ولم يعرفه أحد. هذا قدر الفن دائما. الكثيرون نشروا كتبهم، وباعوا منها الملايين، لكن كتبهم تلائم سلة المهملات.

* القاهرة.


التاريخ : 2016/05/04 10:55:10

الأربعاء، 4 مايو 2016

طُحلب -أحمد الحلي



طُحلب
أحمد الحلي

في بعض الأحيان ينضم إلى هذه الثُلة من المدمنين التي تجلس قبالة الشط شخص نحيف البدن تبدو على سيماه علائم الشقاء والعناء ، يُدعى طحلب ، وهم يلقبونه بهذا اللقب الغريب لأن أبواب الرزق كانت مغلقه على الدوام في وجهه ، فكان يعتاش على ما يجود به الآخرون على شحته ، يكون قد أوقف عربته التي يبيع عليها العصائر على الرصيف المحاذي للمقهى ، وحين يكون الرزق شحيحاً لذلك اليوم فإنه كثيراً ما ينتابه السخط فيعمد إلى قلب عربته في الشارع ويأخذ يسب ويلعن ويندب حظه العاثر ، عاش طحلب تقلبات كثيرة ، وهو عُرف بنظم الشعر على الطريقة التقليدية ، إلا أنه كرس معظمه للهجاء ، وعلى غرار الشاعر الحطيئة لم يتورع حتى عن هجاء نفسه في إحدى المرات حين ضاقت به السُبل . كان الجميع يستظرفونه ولكنهم يخشون لسانه .
أخبرني صديقي الأستاذ طالب گمر أنه في إحدى المرات هجا  أمه ، حيث أن عبد الكريم قاسم كان أصدر قراراً بصرف مستحقات نواب الضباط المحالين على التقاعد ، والتي كانت متوفقة لعدد من السنوات ، فحصل طحلب على مبلغ لا بأس به من المال ، وللحال قرر أن يقيم احتفالاً بهذه المناسبة ، اشترى سمكة كبيرة واصطحب صديقه ورفيقه الشاعر عباس الوحشي إلى بيته وأعطى السمكة لأمه على أمل أن تطبخها لهما ريثما ينتهيان من احتساء الخمر التي جلسا يكرعانها في غرفة مجاورة ، وبعد أن أتما شربهما ، نادى طحلب على أمه أن تجلب لهما السمكة ، فجاءت بها ووضعتها أمامهما ، مد عباس يده إليها فوجدها أشبه بعجينة ، ليخبر الطحلبي أن السمكة لم تكن مشوية بصورة جيدة ، وحاول طحلب أن يأكل ولكنه لم يستطع للسبب ذاته ، فاستشاط غضباً ، وقال على الفور ؛
كلُّ النساء تفننت في طبخهنَّ
إلا القُحيبةَ طبخُها لا يؤكلُ
وكثيرا ما كانت تحدث مشادات كلامية بينه وبين الآخرين ، وربما تعرّض للضرب المبرّح ، في إحدى المرّات أقام أحد رجال الدين الموسرين وليمة باذخة وحين ذهب الشاعر إلى مكانها أخبره القائمون عليها أنها مقصورة فقط على بعض الوجهاء وذوي الرتب العالية ، فنظم قصيدة طويلة يهجو فيها هذا المعمم ، ومما جاء فيها ؛
تأتي الولائمَ لا يدعوكَ صاحبُها
مثلَ البعوضِ على المستنقعِ الرطِبِ
 في إحدى المرات حدثت مشادة كلامية بينه وبين أحد المحامين المرموقين ، فهجاه بقصيدة طويلة ، ومما قاله ؛
قد عادَ من درسَ القانونَ قد عادا
لأرضِ بابلَ سمسيراً وقوّادا
وهناك حكايات كثيرة تدور حوله ، منها أنه كان يجلس في إحدى المقاهي ببغداد حين أُعلن عن قيام الإنقلاب البعثي في 8 شباط عام 1963 ، فاستشاط غضباً وأحس بالخيبة والمرارة ، فوقف  على مرأى ومسمع من الجميع وأخرج ورقة من جيبه وقرأ قصيدة يهجو فيها الانقلابيين ومطلعها  ؛
جلَّ المصابُ ورزؤه أبكاني
والخطبُ أخرسَ فكرتي ولساني
وبعد أن أنهى قصيدته وجلس ، حضر على الفور عددٌ من المسلحين بلباس مدني وألقوا القبض عليه واقتادوه إلى إحدى دوائر الأمن ، ولما مثل بين يدي مدير الدائرة سأله عن الهجاء الذي قاله بحق القائمين الثورة ، أنكر بشدة أنه قال شيئاً ضد أحد ، وأصر أنه امتدحهم ، فقال المدير كيف امتدحتهم ، هات ما عندك ، فقال الطحلبي أنا قلت هذه الأبيات ، وقرأ عدداً من الأبيات ، ومنها هذا البيت ؛
حُماةٌ أنقذوا بلدي وشعبي
بحزمٍ من دعاةِ الانقسامِ
فأُعجب المدير بسرعة بشاعريته وسرعة بديهية وأمر بالإفراج عنه وأعطاه بعض المال .
رحّب به هادي وأفرد له مكاناً بينهم ، وعمّر له كأساً  ، شكره طحلب على هذه الحفاوة ، وصبّ له كأساً آخر ، بعد أن طابت النفوس طلب هادي منه أن يغنيهم أحد المقامات ، فغنى بصوته  الشجي ابياتاً للشاعر المُلة منفي من أهل الكفل  الذي عاش هو الآخر حياة ملؤها العناء والشقاء ، تشاء المقادير أن يقع المله منفي في غرام امرأة يهودية  وأراد الاقتران بها فرفضته عشيرته وأهله فاضطرته ظروف الحياة القاسية وتشرّده لأن يعمل حفّاراً للقبور بالنجف ، ثم ليموت وهو في ريعان الشباب بمرض انتقلت إليه عدواه من إحدى الجثث ، لبى طحلب طلب هادي وغنى قصيدةً غزلية طويلة للشاعر الفقيد ومما جاء فيها ؛
طاب الشراب الليله
صُبْ يا نديم اسگيني 
هزني الهوه بكل حيله
لن شاعر مسوّيني
* بعد بحث مضني من أجل الوصول إلى المعلومات حول الشاعر الملقّب بـ طحلب
وجدت ضالتي بالكتيب  المعنون (شاعران منسيان/ الطحلبي والوحشي) من تأليف صديقي الشاعر والباحث صلاح اللبان فشكراً له .

المجد للفأس! لمحات من تاريخ العبودية في بلاد ما بين النهرين- عادل كامل




المجد للفأس!

لمحات من تاريخ العبودية  في بلاد ما بين النهرين


الفأس المزدوج/ نهاية الألف الخامس ق.م


عادل كامل
 * المجد للفأس: مفارقات من العمل إلى نقيضه
     رغم إن (جلجامش) وهو الملك الخامس في سلالة أوروك الأولى السومرية، والذي دام حكمه (126) عاما ً، بدء ً بعام 2675 ق.م، كان قد  حصل على وردة الخلود، بعد رحلة شاقة، إلا انه لم يتمتع بها، بعد أن تركها تختطفها الأفعى، وهو يستحم عند نبع الماء، لكن ليس عبثا ً أن حكمة النص المدوّن، في نصها السومري،  مرورا ً بأكد وبابل، وصولا ً إلى حضارة أشور، كانت قد منحت (العمل) الصالح، المفتاح الذي يدور في قفل  الخلود، وفي قفل الحياة الفانية أيضا ً.(1) فالصراع بين الزائل والدائم، قديم قدم الأعلى والأسفل، وقدم: الظلام والنور. انه جزء من إشكالية عمل عليها الفكر الأسطوري العراقي، واعتنى بتدوينها، وأغناها بالشواهد، والحكمة، لتجد ديمومتها، فوق الأرض، مع خلق الإنسان. فعندما تكون الأسئلة قد بلغت ذروتها، فلا مناص من العثور على: نفيها ـ وتجديدها، مادامت الإجابات تتضمن عجزها، من ناحية، ومادام الزمن وحده لا يرتد إلى الوراء، من ناحية ثانية. (2)
     فالإنسان، في حضارة وادي الرافدين، لم يخلق لذاته. انه لم يخلق كي يتمتع بالحرية، أو يكون حرا ً.  فقد كان خلق الإنسان واحدا ً من المواضيع التي تناولتها الأساطير السومرية والبابلية على حد سواء، فضلا ً عن دخولها في بناء المعتقدات لدى الشعوب الأخرى. (3)
    ففي الأصل السومري، تبدأ الأسطورة بخطاب موجه إلى الآلهة الخالقة "مامي" جاء فيه:
[ أنت الرحم الأول الأزلي. أنت خالقة البشرية، فاخلقي "للو" (الإنسان) ليحمل النير. ففتحت "ننتو" فاها وخاطبت الآلهة العظام قائلة: " إلى يرجع صنع كل شيء لائق متقن. فليكن الإنسان. ليكن من الطين، ولتدب الحياة بالدم".  فخاطب الإله "أيا" الآلهة العظام. ليضح احد الآلهة ولتمزج الآلهة "ننخرساك" الطين بدمه، فيمتزج الآلهة بالإنسان". (4)
   في قصة أخرى، يقول د. فاضل عبد الواحد علي: " إن الآلهة أصابها الجوع بعد أن تكاثرت وزاد عددها وان الآلهة نمو" الأم التي ولدت كل الآلهة" جاءت إلى ابنها انكي اله المياه وطلبت منه أن يخلق "عبدا ً للآلهة ينتج لها طعامها". وكان جواب انكي أن الأمر ممكن وان عليها أن تأخذ شيئا ً من الطين "الذي وسط مياه العمق" وتخلق منه الإنسان. "(5)
   وفي أسطورة سومرية أخرى نقرا إن الآلهة بقيت بحاجة إلى المزيد من اللبن والخبز حتى بعد أن تم خلق لخار (اله الماشية) واشنان (آلهة الحنطة) وإنها لذلك خلقت الإنسان ليعنى بزرائب الماشية ولتتمكن هي من التنعم بمزيد من الأكل والشراب.(6)
    وفي قصة الخليقة البابلية، إن خلق الكون بموجب معتقدات سكان بلاد وادي الرافدين لم يتحقق بهدوء وسلام وإنما جاء بعد حرب صعبة وطاحنة خاضتها قوة تمثل الآلهة الفتية ضد قوة أخرى حاقدة تمثل الآلهة القديمة ولذلك فالحرب حسب معتقداتهم كانت معروفة قبل أن يخلق الكون والإنسان، وقبل أن تخلق أدوات العمل، وإنها قديمة قدم الآلهة نفسها. (7)
    وفي رواية أخرى للأسطورة من العصر الآشوري الحديث (القرن السابع ق.م)، ذكرت كيفية خلق الآلهة "مامي" للإنسان بأنها جمعت أربع عشرة قطعة من الطين، وضعت سبعا ً منها إلى اليمين وسبعا ً إلى اليسار  وفصلت ما بين المجموعتين باجر "اللبن" فخلق من مجموعة الذكور ومن المجموعة الثانية الإناث وصاروا بشرا ً تدب فيهم الحياة.(8)
   ولهذا عندما لم يقم الإنسان بأداء واجبه، كما خططت له الآلهة، وهو يكد ويشقى، ويرسل حاصل عمله إلى المعابد، وراح يملأ الأرض بالضجيج، والصخب، ـ مع انه من صنعها، وهي التي أوكلت له واجباته ـ عملت على اجتثاثه، وكأنها ـ بهذا القرار الإلهي ـ أعلنت عن فشلها، هي، وليس عن فشل الإنسان، وقصوره في تنفيذ أوامرها العليا. فتتكرر أشكال الإبادة، والمعاقبة، بشتى الوسائل، ومنها الطوفان، والعواصف، والأوبئة ...الخ، لكن أوامر الآلهة بالإبادة، لم تفلح بالقضاء على الإنسان، فطالما كان يجد عونا ً، وينجو، ويعيد أعمار الأرض.
    فقد أمر "انليل" بإبادة البشر، وذلك بان أرسل إليهم مختلف الآفات: الوباء أولا ً، ثم الجفاف مع المجاعة، بغية القضاء عليهم وإعادة النظر في سير الأمور. ولكن الإله "أيا" يعرف كيف يتدبر الأمور، ويتدخل كل مرة سرا ً. وأخيرا ً إذا كان انليل دوما ً منزعجا ً من البشر، قرر إبادتهم دون قيد ولا شرط، وذلك بأرهب كارثة: بفيضان الطوفان الذي لا يقهر. إلا أن "أيا"، الذي اضطر هذه المرة إلى أداء القسم مع الآلهة الآخرين بالا يحدث أحدا ً عن هذا المشروع المشؤوم، تدبر الأمر لكي يعرفه في الحلم، (وهذا لا يعني الكلام) لمحميّه "الحكيم الخارق"، وحينما سأله هذا عن وسائل النجاة من الموت، اضطر أيا إلى أن يشرح له مشروعه في بناء " الفلك" الشهير. مع قرار صارم : " بان تمنع في المستقبل ازديادا ً مفرطا ً في السكان. فلم يكتف بان يدخل بين انتقاصا ً في الولادات بالعقم المرضي أو الإرادي لدى يغض النساء وبوفيات الأولاد لدى أخريات، بل قصّر أيضا ً الحياة البشرية: فالناس الذين نعرف عنهم من روايات أسطورية أخرى إن حياتهم كانت أطول بكثير، سيموتون من الآن دون بلوغهم المائة من العمر. وهكذا حددت طبية البشر في تكوينها ومصيرها ومنحت انجازها الأخير، وبوسع الأزمنة التاريخية أن تبدأ الآن. (9)  
    وذلك لأن الإنسان لم يخلق للبحث في الغاز الوجود، أو أسراره، فهو لم يخلق ليتمتع بالبقاء، ولا ليتمتع بالمسرة، أو للبحث عن وسائل يطور فيها حياته، ومصيره، خلال زمن وجوده الوجيز، المحكوم بالموت، مهما عمل، وكد، وحاول العبور من وجوده الفاني، نحو وجود الآلهة الخالد.
   فلم تكن الكلمة ـ حتى بعد أن اكتسبت معناها الرمزي ـ سببا ً لتبرير وجوده، أو إجراء تعديل عليه. فالآلة لم تكن بانتظار استفزازها بالصخب والضجيج، ولا بأعمال الشغب والعنف، بل لأن وجوده، في الأصل: أن يعمل بفم صامت، كعبد، ولد من التراب، والى التراب يعود.
    وقبل أن تفرض سلطة المعبد، نظامها (التراتبي)، وقبل أن يتم الاستحواذ على سلطة الآلهة الأم، بوصفها المصنع الأول، وإسقاطها، كانت الآلهة قد أهدت الإنسان: الفأس، والمعول، وباقي أدوات العمل الزراعية، وكل ما سيدخل في استحداث الحياة المتحضرة، بوجود المدن الكبرى...، لكن سلطة (المعبد) ستحافظ على عملها بوصفها إرادة عليا،  في تنظيم الحياة اليومية، وإصدار التشريعات التي تكفل تقسيم البشر إلى: سادة ـ وعبيد.
    ولكن (العمل) قبل أن يوكل إلى البشر، كان خاصا ً بالآلهة، وحكرا ً عليها، إنما كان العمل (الإنتاج) خاصا ً بالآلهة من الصنف الثاني. ولعل الحفر في أصل الإشكالية، قد انتقل من العالم الذي لا موت فيه، إلى دار الفناء، من الآلهة إلى البشر الزائلين، المحكومين بالفناء، بعد أن تحدد وجودهم بدور محدد: العمل ـ والعبودية.
   فالأصل، يرجع إلى المجتمع السابق على التاريخ، الزمن، وعلى الأسباب والعلل، أي إلى المجتمع الإلهي الشبيهة بالمجتمع البشري ـ وهذه أقدم مفارقة للاغتراب تفسر كيف تم قلب المنطق؛ حيث الأدنى ستوكل إليه مهام القيام بإرساء التمويهات ـ هو الآخر، لم يكن (خالصا ً) أو تاما ً أو قائما ً في (ذاته)، بل كان مجتمعا ً قائما ً على: العمل ـ الحركة ـ والمتغيرات، والتقسيمات التراتبية أيضا ً. فكان مجتمع الآلهة ـ كالمجتمع البشري ـ قائما ً على الاختلاف ـ الصراع: فهناك ـ يقول الباحث جان بوتيرو ـ " الرؤساء المستهلكين المسمين "بانوناكو أو انوناكي" وهناك الآلهة من الدرجة الثانية المكلفين أو المتخصصين بالعمل ـ أي بالكد والشقاء حد الجور ـ وكانوا يحملون لقب (ايكيلي):
[ 1 ـ حينما كان الآلهة يقومون بدور الإنسان،
كانوا مسخرين ويشغلون
وكان شغلهم ثقيلا ً
وسخرتهم مرهقة، وجهدهم كبيرا ً ،
2 ـ لأن انوناكو كانوا يفرضون
على ايكيكي سخرة سبعة أضعاف ...] (10)
     لكن الآلهة من الفئة الثانية، بعد أن أرهقهم العمل المضني، بدأوا الإضراب، واحرقوا أدوات عملهم، وذهبوا يحتجون لدى المشرف على شغلهم، وهو (انليل)، فحدث أقدم اضطراب في مجتمع الآلهة: فبدون العمل، كانت الآلهة ستتعرض للمجاعة أيضا ً. فتمت الدعوة إلى الاجتماع العام برئاسة (انو) شخصيا ً. لكن (أيا) الإله الذكي والدقيق والمبتكر هو الذي حّل الأزمة، إذ ْ اقترح خلق بديل للآلهة ـ العاملين: على أن يكون موهوبا ً بكفاية لكي يشتغل مثلهم، ويؤدي عملهم، ومنظما ً (مبرمجا ً) بحيث لا يتسنى له أبدا ً أن يطالب، مثل الآلهة، وباسم الطبيعة ذاتها، بمصير يماثل ويحث على عدم الشغل، إذ ْ أن الأمر من شأنه أن يعرضّ العالم الإلهي للخطر المقلق ذاته، وهذا البديل هو: الإنسان.(11)


الآلهة ننخرساك

   هكذا سيتم خلق البشر، لأداء دور: الأجير/الخادم/ العبد. فهم سيكلفون بالكد، العمل المضني، كي يوفروا بشغلهم هذا الخيرات المادية الضرورية  للآلهة، فليس للحياة البشرية من معنى وسبب وجود وغاية إلا في خدمة الآلهة من ناحية، كما إن الفائض من كدهم، سيذهب إلى رؤسائهم، من البشر، من ناحية ثانية.
   والنصوص المكتشفة، الخاصة بالعمل، عند الآلهة أو عند البشر، تثبت إجابات تمتلك منطقها، ومبرراتها، فإرادة (السماء) تبقى خارج نطاق الجدل، أو الشك. فقد عثر في مدينة (نفر) على نص خاص بتاريخ التقنيات الزراعية، يجعل العمل سببا ً لوجود العامل، ومبررا ً لوجوده، وليس العكس، فالعمل لا يصنع العامل إلا بحدود التنفيذ، والطاعة (كأقدم نسق للبرمجة). وهنا تبدو العلاقة واضحة بين: أيهما يخترع الآخر، الفعل يصنع الاسم، أم الاسم هو الذي يأمر بالأفعال، في حدود بنية الأسطورة، ونظامها، لأنه لا توجد غايات إلا وقد اكتسبت وسائلها التنفيذ، والتنفيذ حسب. فالحرية قضية رمزية عليا لا علاقة لها بالنفع، مادامت البرمجة كلية، ولا تسمح للأجزاء إلا بالعمل بنظامها المبرمج، إن كان من صنع الآلهة، أو الطبيعة، أو من صنع رؤساء العمل. لتغدو العبودية: واجبة الوجود، أما الحرية، فإنها ليست إلا بدعة أو نشاطا ً محظورا ً على الفانين، فضلا ً عن استحالة فهمها بأدوات لا تمتلك سوى عجزها، مقارنة باللا محدود، أو المطلق، الذي تتمتع به الآلهة، حتى عندما كانت تسلك سلوك البشر الفانين. إن هذا النص الخاص بالزراعة، هو هدية الآلهة للبشر، فقد كان (الفأس)، في القصيدة التي تمجده، أقدم أداة تخص تطور الإنتاج الزراعي، بدخول المعادن.
    فالوثيقة الخاصة بالزراعة، تتضمن شرحا ً وافيا ً لعمليات الزراعة، وتقنياتها، دون إغفال أن يقوم المزارع، بالصلاة للآلهة عند خروج النبات من الأرض، كي تحمي غلته من الشرور والجرذان، إلى جانب إرشادات مكملة لتقنيات الري، والبذر، والعناية بالتربة...الخ.
    ولم تكن الزراعة وحدها معروفة في بلاد سومر، منذ 1700 ق.م، وهو تاريخ الوثيقة، بل هناك ما يشير إلى وجود البستنة، وإنتاج الخضر، والفواكه. مع تفاصيل تقنية تبين كيفية العناية بمثل هذه المنتوجات وتوصي باستعمال أشجار الظل لحماية هذه المحاصيل. (12)
    وفي نص آخر أكثر وضوحا ً، ومباشرة، تهدي الآلهة (الفأس) للإنسان، للعمل. فجاء في فاتحة القصيدة:
[الرب الذي يملك حقا ً، هو الذي اظهر للعيان
الرب الذي لا تبدل في أحكامه
(انليل) الذي يجلب البذور إلى الأرض لزراعتها
تولى برعاية فصل السماء عن الأرض
تولى برعاية فصل الأرض عن السماء
من اجل أن تنمو الكائنات التي خلقت
في (تماسك) السماء والأرض، (نفر) التي بلغت الـ ....
هو الذي جاء بالفأس إلى الوجود وخلق اليوم
هو الذي خلق العمل وقدر المصير
إن فاسه من الذهب ورأسها من حجر اللازورد
فأس بيته .... من الفضة والذهب
فاسه التي ..... هي من حجر اللازورد
والذي (سنه) هو ثور ذو قرن واحد يقف في أعلا جدار واسع
الرب الذي سمى الفأس وقدر مصيرها
وضع (الكندو)، التاج المقدس على رأسه
رأس الإنسان وضعه على التراب
قبل (انليل) (هو) (الإنسان؟) غطى رأسه
نظر إلى الناس ذوي الرؤوس السود بثقة
(الانوناكي)الذين جلسوا على مقربة منه
وضعها (الفأس؟) كهدية في أرضهم
ورتلوا الصلوات مع (انليل)....]
  لقد اعطو الفأس إلى ذوي الرؤوس السود ليمسكوا بها وبعد أن يخلق (انليل) الفأس ويقدر مصيرها، تنتهي القصيدة بمقطع طويل يتضمن فوائد الفأس، وجاء في السطور الأخيرة من هذا المقطع ما يلي:
[الفأس والسلة تبني المدن
الدار الثابتة الأركان بنتها الفأس، الدار الثابتة الأركان أنشأتها
الفأس
الدار الثابتة الأركان هي التي سببت الازدهار
الدار التي ثارت ضد الملك
الدار التي لا تستسلم لملكها
الفأس يجعلها تستسلم للملك
للرديء .... النباتات تحطم الرأس
تجتث الجذور تسقط على التاج
الفأس تطعن الـ ... النباتات
الفأس قرر مصيرها الأب (انليل)
المجد للفأس!] (13)
    ولعل أكثر النصوص إضاءة للمسافة بين الطرفين (الآلة والبشر، أو بين رؤساء العمل والأجراء) دوّنت في الحوار الذي جرى بين السيد والعبد، بما يتضمنه من اختلاف، أدى إلى اتساع المسافة بينهما، أي إلى وجود (طبقة) لا عمل لديها سوى إصدار الأوامر، وأخرى مهمتها تنفيذها، وطاعتها.
     لكن مدوّن هذا النص ـ كما في معظم النصوص ذات البعد الفلسفي ـ أعطى  مهمة الحوار نسقه في فضح المخفيات، والدوافع غير المباشرة الكامنة فيه، أو عدم التستر عليها بما لا يمكن الإفصاح عنه إلا عبر الرموز ـ والمشفرات.
    فالعبد سيجد إجابة مقنعة، بل ومنطقية، على كل سؤال من أسئلة سيده ـ العاطل عن العمل عدا انه انشغاله بالأسئلة ـ  وهي إجابات تتضمن ديالكتيك الوجود البشري القائم على المتناقضات، لديمومة (الظلم) من ناحية، وكمحاولة لمقاومته، ودحضه، من ناحية ثانية.  فإذا كان (الظلم) هو الذي جعل العلاقة  تبدو أبدية، في سلب (العبد) كل إرادة للتحرر، فان (الأمل بالعدالة) عند العبد، ستعمل على تفكيك البنية التي أنتجت تاريخ العبودية.
  فعندما يجد العبد الإجابات على كل سؤال، من أسئلة سيده، يتحايل، ويلهو، السيد، بقلب السؤال، فيرد العبد بإجابات مماثلة، تخرجه من المأزق، فعلى سبيل المثال، نقرأ:
[  "أيها العبد، تعال إلى هنا وامتثل أوامري!"
ـ نعم، يا سيدي، نعم!
ـ انطلق سريعا ً واطلب وهيئ لي مركبة لأذهب إلى البلاط!
ـ "اذهب إليه، يا سيدي، اذهب إليه " سيكون  لك "نفع" فيه،
إذ يراك الملك، سيغمرك بالمكارم!
"إذن، كلا أيها العبد" لن اذهب إلى البلاطّ
ـ " لا تذهب إليه" يا سيدي، لا تذهب!
"إذ يراك الملك" قد يرسلك إلى حيث لن تريد الذهاب".
وقد يرسلك "في طريق" لا تعرفها!
"ونهارا ً" وليلا ً سيذيقك الأمرين!]
...... ومثال آخر:
[ سأقوم بثورة!
ـ افعل هكذا يا سيدي، افعل!
ومن سيعطيك أن تملأ بطنك؟
ـ إذن، كلا أيها العبد، لن أقوم بثورة!
ـ لا تقم بها يا سيدي، لا تقم بها!
فالرجل الذي يقوم بثورة، أما أن يُقتل أو أن يسلخ جلده،
أو تقتلع عيناه، أو أن يقبض عليه ويودع السجن!"]
وفي مثال آخر:
[ "أيها العبد، تعال إلى هنا وامتثل أوامري!
ـ نعم، يا سيدي، نعم!
 ـ أريد أن أحب امرأة!
ـ أحبب، يا سيدي، أحبب!
فالرجل الذي يحب امرأة ينسى القلق والهم!
ـ إذن، كلا أيها العبد، لن أحب امرأة!
ـ لا تحب، يا سيدي، لا تحب!
فالمرأة بئر، اجل بئر، جب، حفرة،
المرأة خنجر مسنون يحز رقبة الرجل!](14)
يعلق الباحث (رينيه لابات) على هذا النص، بقوله: " ما الدرس الذي نستقيه من هذه التعليلات الدائمة، التي تمس تقريبا ً جميع أصعدة الحياة الشخصية أو العائلية أو العامة؟ النتيجة التي تعطيها القصيدة ـ لا اقل من الانتحار ـ هي غامضة،  أما المفسرون العصريون فما يزالون يتناقشون حولها.  هناك من يفكر في أن هذا المثل يهدف إلى أن يبرهن على أن في كل الأمور أسبابا ً تدعو العمل مثلما تدعو إلى الامتناع عن العمل، وان الحياة، في نهاية الأمر، هي دون معنى، وان الحكمة الحقيقية هي اللجوء إلى اليقين الوحيد، وهو الموت. وهناك غيرهم يرون أن هذه الحكاية ليست البتة كتاب فرض للتشاؤم واليأس. بل  تظهر لهم بالأحرى مثل نوع من الهجاء الاجتماعي البهيج. فالسيد غني بطال، ذو إرادة متأرجحة لا يبحث إلا عن قتل الوقت. فهو بغير عزيمة ومتقلب، ويستسلم إلى خادمه لتسوية كل من نواياه ولدفعه إلى العمل بهذا الاتجاه أو ذاك. وهناك بعض من أجوبة للعبد، وقحة تجاه سيده، ومشاغبة تجاه السلطة، تعطي نبرة الكوميديا أو الهجاء. في الحقيقة، لا احد ينكر أن يكون في هذا الحوار شيء من التهكم والهجاء. ولكن الأكيد أيضا ً هو انه يؤدي غالبا ً نبرة أثقل وأكثر رصانة. ولا تناقض في هذا المظهر المزدوج، إذا قبلنا أن المؤلف يتساءل حول معنى الوجود البشري ..."  (15)
     لكن القصيدة ـ وفي سياقها الداخلي/ المشفر/ الرمزي ـ ستبلغ ذروتها غير المتوقعة، على النحو التالي:
[ "أيها العبد، تعال إلى هنا وامتثل أوامري!
ـ نعم، سيدي، نعم!
ـ فما الخير إذن؟
أن أحطم رقبتي ورقبتك؟
أن ارمي بنفسي في النهر؟ هل هذا هو الخير؟
ـ من له القوة الكافية للبلوغ إلى السماء؟
من هو من السعة بحيث يضم الأرض كلها؟
ـ إذن، كلا، أيها العبدّ سأقتلك وأجعلك تمضي قبلي!
ـ نعم، ولكن سيدي لن يحيا من بعدي ثلاثة أيام!"(16)
    فلا يستطيع السيد، في النهاية، أن يقتل عبده،  ليس لأنه سيموت، بعده، بثلاثة أيام، بل لاستحالة وضع نهاية غير قابلة للدحض. فالعلاقة، كي تدوم، فان نهايتها ستبقى مفتوحة، من غير خاتمة، أو قفل.
    وفي نص أكثر صلة بالعدالة، ليس بما يخص وجود الإنسان، بل بما يخص الآلهة ذاتها، هو الآخر يستمد ديناميته من الصراع، لكن بين الآلهة والبشر... ففي نص (البار المتألم) أو أيوب السومري/البابلي، يجري الحوار بين متفائل ونقيضه، فالمتشائم يعترف بأنه أدى أوامر الإله، كاملة، ولكنه، في النهاية، يراها مغايرة، حيث لا ديمومة إلا للظلم ـ حد الجور:
[ طردوا من حقولي صيحات الحصادين الفرحة،
 ومثل حقل عدو، ردّوا حقلي إلى الصمت!
.....
فليس النهار سوى حسرات، والليل أنات،
الشهر كله تشكيات، والسنة حزن!
جميع أيام حياتي، أنوح مثل حمامة، (عوض) الغناء، اصرخ بصوت نحيب، عيناي دوما ً (تبكيان) دون انقطاع،
....
(وقسماتي يملأؤها الخوف والهلع)!
......
لقد اعترى الشلل جسمي كله،
وانتابت الهزة جميع مفاصلي،
واستحوذ العسم على ذراعي، وحلت النتانة بركبتي،
ونسيت رجلاي إنهما تستطيعان السير،
أصابتني نوبة وإذا بي اختنق.
الموت (ثمة) وقد غطى وجهي!
.........
لم يأت الله إلى عوني، ولم يأخذ بيدي،
آلهتي لم تشفق علي ّ ولم تسر بقربي!
كان قبري مفتوحا ً، وزينتي (الأخيرة) قد أعدت.
حتى قبل موتي، قد انتهى نحيبي الجنائزي.
بلدي كله قال عني: "انه عومل بغير عدالة."] (17)


 ختم اسطواني يمثل ذبح تيامة
  فيتساءل د. فاضل عبد الواحد: " هنا أثار بعض الناس من السومريين والبابليين سؤالا ً كان لابد منه: إن الآلهة هي التي خلقت هذا الكون، فكيف أمكن إذا ً أن تحدث مثل هذه الأمور ويسود الشر على الخير في حياة بعض الأتقياء من الناس؟" يقول موضحا ً:
    " وكان جواب الكهنوت على هذا السؤال وأمثاله إن الآلهة نفسها لم تخل من صفات شريرة عندما اتبعت طريق العنف والبطش والخداع في خلال المراحل الأولى للخليقة. ولذلك فقد تصوروا إن هذا الكون تسيره منذ البدء نواميس إلهية (سموها بالسومرية ME ) وهي لا تتمثل بعناصر الخير (كالصدق والعدل والسلام) ولكن بعناصر الشر أيضا ً( كالزور والكذب والنفاق). وبتعبير آخر فان عنصر الشر موجود في الآلهة وبالضرورة في البشر أيضا ً إلى حد يقول عنه المثل السومري: لم تلد امرأة قط ابنا ً بريئا ً!" (18)
   لقد أنتج الفكر الأسطوري (الأدوات/ والقدرة على التكيف بحسب المهارات المكتسبة/الدماغ) مبررا ً لوجود الموجودات، وفي مقدمتها البشر. وفي الحقبة ذاتها ـ التي مازالت ممتدة بتمويهات اشد تعقيدا ً ـ كانت النخب تبحث عن إجابات تتعلق بالإجابة على السؤال التقليدي: ما الغاية من وجود الآلهة؟ لكن السؤال لا يمكن عزله عن: كيف؟ فإذا كانت بذرة الخلق ـ بنبضها الملغز ـ لم تبح بإجابة أخيرة، إلا بحدود العوامل التي ساعدت على وجود هذه (البذرة)، فان الغاية من وجود: الخلية، يعيد الحفر في أسئلة بلا إجابات. ربما كان اختراع (الفردوس) أو (جنة عدن) إجابة تجعل النفع (وتراكم الثروات/ الكنوز/ الربح) أكثر أهمية من (الحرية) ومن الأبعاد الرمزية، وابعد من: الاستهلاك/ الاندثار، لأنها تجعل الولادة من غير الم غاية تستبعد البحث عن النهايات، وتلغي كل ما يعرقل السياق، وكأن الوجود وجد بمعزل عن موجوداته، أو إن الموجودات وجدت بحدود وجودها، فالأسئلة كامنة في إجاباتها، مثلما الإجابات وجدت في أسئلتها، بوصفها حلقة متكاملة، ومحكومة بما ـ هو ـ خارج نطاق الإدراك/ الوعي المحدود للبشر.


جلجامش يصارع ثور السماء


    فهل الآلهة ـ هي ـ من صنع النخب التي تمركزت لديها: القوة/ الخبرة/ ومهارات التمويه، والخداع، من اجل ديمومة كل ما هو محكوم بالزوال، واستثمارها في تعزيز صراعها كي تحافظ على (العنف)، بوصفه نتيجة كوجود  الأشرار من غير وجود الشر...، لديمومة عمل (المصنع) وهو يستبدل الآلهة الأم ـ بحقب يتم فيها العبور نحو عالم آخر لا علاقة له بالأساطير، والخرافات، ولكنه أكثر إدراكا ً انه إزاء (الموت) الذي واجه النخب القديمة، إن كانت هي الآلهة في تراتبيتها، أو كان هو الإنسان في صراعه من اجل ديمومة كل ما كان يراه قيد المحو، والاندثار؟  حيث يستحدث الفكر ـ في كل حقبة تراكمت فيها الثروات والقوة والتصورات أو المثل ـ الفردوس المفقود، ويعيد إنشاءه (إنتاجه) على نحو مقنع، لعامة البشر، مستبعدا ً حتمية  الفناء بوجود مضاد للقوانين كافة، عدا القانون الذي هو قيد البحث؟
    إن عقولا ً ممتازة، منذ فلاسفة العصور التاريخية الأولى، في وادي الرافدين، والنيل،  مرورا ً بالحضارات التي نشأت في الصين، وفي الهند، واليونان، وصولا ً إلى عصر النهضة الأوربية، قبل خمسة قرون، لم تتورط بأكثر من الاعتراف بان (الآلهة) أو (الإله الواحد) ما هي إلا القوة التي لا سبيل لمعرفتها، إلا بحدود الأدوات المتاحة  للمعرفة. ومادامت اللغة، منذ وجدت، وسيلة لغاية، ومادامت الغاية ـ بحد ذاتها ـ متخصصة بإنتاج تمويهات نافعة ـ ورمزية معا ً، فان الخيال سيكف عن عمله إزاء اللا متناهيات، كي يكون (الرابط) أو (الوسيط) الحتمي للموجودات أكثر اقترانا ً بـ: العمل. فالأخير، لدى الآلهة، كما لدى البشر، لم يصبح غاية ( في ذاته)، بل مكث وسيلة تحدد بأهداف تفرضها النسبية، لكن الإشكالية، كما في قراءة التاريخ، ليست في العمل، بل تنظيم الإنتاج، وتوزيعه.  فإذا كانت العدالة (الإلهية/ أو البشرية) ضمن غاياتها، استبعاد الظلم، فان تعريف (الظلم)، هو الآخر، وجوده كوجود: الشر في إنتاج الأشرار، أو كوجود الأوبئة في الفتك، وكوجود الكوارث في التدمير والإبادة. فالمبررات تتهاوى إزاء خاتمة وضعت قبل أن تكون لها مقدمات. على إن آليات  البذرة ، نموذجا ً لأرقى  العقول المستحدثة/ المتطورة من البسيط إلى المعقد، والى الأكثر تعقيدا ً ـ  لن تدمر ذاتها بذاتها كلية، وهو مثال يرجعنا إلى فشل الآلهة في القضاء على البشر، بسبب لغطهم وصخبهم، مثلما تنتهي اشد الحروب لا أخلاقية إلى المصالحة، والعمل معا ً لتلافي أسباب الدمار الكلي، مما يجعل البحث متجددا ً، لكن ليس في السؤال عن: الغايات...، بل في: منح الأدوات المستحدثة قدرة حماية الحياة وهي تبرهن إنها لم تفصح أكثر من حالات لم تعالج إلا بأدوات محدودة، لا تتوازن مع أسباب الخلق، وغاياته. فالكون اليوم ـ قياسا ً بعقد سابق ـ غدا مجالا ً لم يكتشف منه، إلا بحدود ما تم إنتاجه من اختراعات تتنافى مع الخيال الذي صاغ العالم فردوسا ً يليق بالجميع، وليس بزمر وجدت كي توهم الجميع ـ وتوهم نفسها أيضا ً ـ بالخلاص.
     لكن ما ـ هو ـ  هذا الاختراع الذي لم يتم اختراعه بعد....، هل هو الاقتراب من تخوم ـ وسواحل ـ الغايات التي كونت بذرة الخلق...، وكونت خيالنا، كي تتضاعف قدراتها على خلق صراعات (رقمية)، خالية من المشاعر، والحساسية، أساسها (الربح) و (التقدم) على حساب ديمومة كل ما هو بصدد مقاومة الغياب، أو في الأقل: الانحطاط، والعنف حد الإبادات. ثم ما الفائدة ـ بعيدا ً عن الحرية ومثلها العليا ورموزها، ومشفراتها ـ بعد مرورها فوق أشلاء أزمنة لم تترك إلا ذرات ومجالات لا مرئية لها، وهي لم تربح إلا ما كانت ـ هي ـ تعمل على تدميره؟
     ثمة كلمة تصح أن تشكل مقدمة لرمزية عمل ـ الفأس ـ  وليس للعمل المادي، وكد مليارات (العمال) وهم لا يحصلون إلا على ما تحصل عليه أوراق الأشجار من بقايا رذاذ، في عالم يزداد تحديقا ً في المجهول ـ حيث قال أرسطو:
    [ الثروة ـ كما هو واضح ـ ليست الخير الذي ننشده: ذلك لأنها مجرد أداة نافعة للحصول على شيء آخر"] (19)
   فما الفائدة ـ الأبعد من كل نفع ـ للفأس التي صاغت عصرا ً ملحقا ً بتنظيم العمل، وتقسيماته، كي لا ينتج إلا جنسا ً من المستلبين، الأشباح، لم يخطر ببالهم التفكير بأي من معاني الوجود، يكدون وهم يدركون إنهم لا يبيعون، ولا يتنازلون، عن خلاصة جهدهم، المادي والروحي فحسب، بل أنفسهم، وفي معادلة بلغت فيها العدالة ذروتها: إن التفكير في الحياة ـ في عالم ثلث سكانه يرزح تحت خط الفقر ـ غدا حلما ً شبيها ً باستحالة وجود الفردوس، إلا لدى الذين يمتلكون قدرات تمويهية على اختراع العدالة التي لا وجود لها، حتى في الأحلام، ولكن لديهم قدرات على اختراع عالم جذاب، مشوق، ومثير للدهشة، وغير متخصص إلا  بصناعة الموت ـ والجثث. (20)
    فإذا كانت اصلب المعادن، كما قال ماركس ذات مرة (21)، لا تمتلك إلا أن نخع للقانون ذاته: استحالة تماسكها، ثباتها، فهل باستطاعة أية حقيقية (وهمية/ متصوّرة/ افتراضية ...الخ) أن تصمد أكثر من زمن عبورها من السابق للماضي نحو اللا مستقبل ـ المفتوح، أي من المجهول التام إلى القادم غير المتوقع التام، بعيدا ً عن مبدأ أن المتحرك وحده هو القانون الثابت...؟ (22)
    وإذا كانت النسبية قد شكلت روح عصر مغاير للأزمنة (الأبدية غير القابلة للنقض أو للشك أو للتأويل)، فان إنتاج السلع، في عالم تحكمه قوانين: الإنتاج ـ الاندثار، يجعل الماضي برمته مقبرة جرداء!
    لنتذكر ما قاله دستويفسكي: إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح. فهل حقا ً ستحل العشوائية  محل ما أرسته أزمنة الأعراف، والأبديات، منذ الاقتصاد (الحر/ البري/ البدائي) نحو الزراعي، ومن الصناعي إلى  عصر ما بعد: العولمة، وتدريب مليارات السكان على الكد ـ من اجل الآلهة ـ الذي صاغ النظام الهرمي ـ من القمة إلى القاعدة ـ وكأن محاولات هدمه، وتقويضه، لم تعمل إلا على منحه صلاحيات ابعد، وأكثر شراسة، وقسوة غير مقننة إلا بالمزيد منها؟
     فمن منظور عصر مازال يرزح تحت صدمات المستقبل، والرضوخ لها، (وهو يذكرنا باليات عمل قوانين التكيف والأفضلية للأكثر قدرة على البقاء كما بينت دراسات دارون ذلك بحياد عبر المراقبة، والإحصاء) وقبولها كقدر حتمي متوازن مع آليات السوق ـ والحياة ما بعد الحداثة وفي عصر العولمة ـ مع اعتراضات تزيد ثالوث (القوة/ الثروات أو المتراكمات/ التمويهات أو التصورات)، متانة، وصلاحية للديمومة، فان الحياة اليومية، لم تعد منشغلة كثيرا ً بالسؤال ما إذا كانت الآلهة هي التي خلقت (البشر)، أم أن الوعي البشري، بحدوده التاريخية، وبعد أن شكل عصر (الأم) الإنتاج البكر له، ودحضه ببزوغ عصر المركز ألذكوري، هو الذي راح ينتج تصوراته، أيديولوجياته، وجناته الافتراضية؟
    فالآلهة، لدى الشعوب كافة، لم تفرض سطوتها إلا عبر جدلية التطبيقات العملية، تارة بالمنهج المثالي، المتعالي، الملغز، وتارة بالمنهج المادي الدوجماتي، وبالوعي المجرد، أو الذي صار منظومة تتحكم فيها عواملها التكوينية، وأسبابها. فـ (الغاية) التي قلبت المعادلة: من الزوال إلى الخلود...، مازالت تستحوذ على اللا وعي الجمعي، لدى الشعوب الأكثر تطورا ً (تقنية ودخولها في العصر ما بعد الصناعي)، أو لدى الشعوب التي مازالت تعيش على موارد: الطبيعة (المياه والتراب والهواء)، أو ما يتم استخراجه من الأرض، وكأنه شبيه المطر وقد صار يهبط من الأسفل، ومن الأعماق السحيقة.
    لأن الآلهة التي قدمت الفأس هدية مبكرة للتحول من عصر (البرية) إلى عصر (الزراعة)، مع اكتشاف المعادن، واستحداث قدرات لاستخراج المزيد من المخبآت، هو ذاته، باستطاعته أن يستبدل التصورات السابقة، بأخرى متجددة، لكن بالمحافظة على نسق لم يضف إلا الكثير من اللامبالاة تجاه أي مفهوم للعدالة. فيذكر د. إبراهيم الحيدري في مقال له بعنوان "عولمة الثقافة وثقافة التصنيع": " لقد تحول الإنتاج الثقافي والفني إلى آلية مستوعبة للمجتمع الصناعي وفكره التخديري الذي يتمثل بثقافة شعبية جماهيرية تشبع حاجات جماعية ولكنها تتحول إلى وسيلة هيمنة وتسلط وذلك بسبب تطور التكنولوجيا تطوراً لاعقلانياً وسيطرتها غير المباشرة على الناس." (23) مؤكدا ً ديمومة المسارات السابقة، ولكن باليات تلخص تاريخ العبودية، ومبرراتها، وتمويهاتها. كي يتحول العمل (بدا ً بالفأس هدية الآلهة، ووصولا ً إلى ما بعد العولمة والدخول في عالم يحدق في المجهول)، كمحرر للذات من القيود الطبيعية، ومن قيود الإنسان للإنسان، فضلا ً عن تغذية قدراته اللا محدودة التي تستمد نسقها من الآلهة (الأم) ـ بوصف الأم أقدم منظومة متكاملة لمفهوم المصنع، والعمل، ومقاومة الغياب) أو بمعنى ما لإرساء ثقافة مقاومة الموت، بإنتاج أدوات أكثر قدرة على التحدي، والديمومة، وكأنها  لا تنفذ إلا الأوامر غير القابلة للدحض. فلم تجر إلا تحولات في العلامات، بما يناسب اللا وعي الجمعي، للسكان.
    فعدم وجود (الآلهة)، أو عدم وجود الإله الواحد، لا يقلل ولا يضفي مجدا ً، لو كان لها وجود، لأن الديمومة ليست اكتشافا ً، أو اختراعا ً، بل تنفيذا ً لبرمجة أرست مبدأ (التقنية والإضافات والتعديل...الخ) كأقدم ستراتيجية نافذة ومتجاوزة لكل ما أنتجته الحقب، من الفأس إلى الحاسوب الذاتي العملاق، ومن الزمن القائم على الثوابت إلى عصر الصدمات ـ واللا متوقع. (24) لأن الأخير لا علاقة له باللامعقول، أو بالمصادفة، أو بالجور، إلا بما لا يتقاطع مع النسق ذاته: العمل من اجل....، وليس العمل الذي يحرر العامل من شقاء العمل، فالعمل ـ بحد ذاته ـ لم يصبح لذّة ـ خالصة أو لذّة في ذاتها التي تماثل الوجود في ذاته عند عمانوئيل كانت ـ شبيهة بفكرة اختراع الفردوس الأول، أو بجنة عدن، لدى السومريين، ومن حذا حذوهم.(25) لأن اللا عمل، في الأخير، مبني على معادلة ديمومة قانون الجور، وعلى نظام مركزية الوهم: الغاية، وقد راحت الثقافات الشعبية، الجمعية، لعصر ما بعد التصنيع، تجعلها شبيهة بأناشيد العمل، وبتراتيل المعابد،  تمجد عصر (العبودية/ القائم على تقسيم العمل/ ومنظومته التراتبية؛ من أعلى الهرم إلى قاعدته)، ومن غير اعتراض، أو تذمر، إلا بحدود إرساء قواعد الاختلاف، والمحافظة على تراكمات للمغتصب/ الرأسمالي، وللآخر الذي يكد ويشقى لذّة صامتة قائمة على الاستلاب.
   ولعل نسبة اللا دينيين (26) ـ بحسب الإحصاء ـ (1 إلى 7)، (27)آخذة بالاتساع، والزيادة، باقترانها بالتقدم المعرفي، والتقليل من دور الخرافات، وبقايا أزمنة الهيمنة، وما تركته من آثار جينية عنيدة، بين الثابت والثابت الآخر، البديل: أن لا يمشي المنتصر إلا في جنازته، حسب المثل الصيني، بعد كان ـ هو ـ المشرف على إنشاء مدن الموتى ـ ومدافنهم. فالثابت/ المتحرك سيولد من الرحم ذاته الذي منح الصراع شرعيته، وتطبيقاته، بأشكالها المتنوعة من العنف، والجور، حد المحو...، وهو الذي سمح للمغتصبين، منذ البدء، أن يشكلوا مراكز القوة/القيادة، مما يجعل قراءة قصيدة (المجد للفأس) تفصح عن لغزها: ليس هدم البناء الهرمي/التراتبي، فحسب، بل هدم: الفردوس. وقلب مفهوم: اللا ـ عمل، (وقد تجاوز عدد من هم تحت خط الفقر أكثر من ملياري إنسان، فضلا ً عن المعطلين عن العمل، وعن ممارسة التفكير، وشروط الحياة الأساسية) لمنح الاختراع/الاستحداث، نظاما ً بالتنقيب عن العناصر الكامنة، هذا النسق سيسهم بقراءة لا تأتي كرد فعل (إزاء البلدان التي راحت تستورد الماء، بعد القوت اليومي، رغم توفر عناصر الإنتاج والأيدي العاملة) فحسب، بل فعلا ً لا يتأسس على التمويه، والوهم، (وهم القوة والحروب المستحدثة القائمة على ديمومة سلطة المغتصب، بالتسليات، والرفاهيات الزائفة، وبالشفافية بديلا ً عن الوقائع والإحصاء ) بل على (العقول) التي لديها الكثير الذي لم يكتشف بعد، رغم إنها مازالت لم تعلن عن أجنحتها المخبأة، الكامنة، ورغم إنها مازالت تدب داخل الأقفاص التي حملت عناوين: مدن الحداثة ـ ومدن الخراب بفعل وهم: الحضارات، لأن هذه (العقول) هي التي ستعمل على منح ما بعد (الفأس) حقيقة مجده؛ مجد العمل المحرر للعمل كنير، ومعاقبة، في إنشاء (جنات) غير افتراضية، وخيالية، وضمن عالم بلغت فيه (العدالة) ذروتها في العشوائية، والدغوماتية، والتطبيقات الجائرة: إن التفكير بالحياة ـ في عالم ثلث سكانه يرزحون تحت خط الفاقة ـ غدا حلما ً شبيها ً باستحالة وجود الفردوس إلا في الحلم، وفي كوابيس من هم في عداد المحتضرين، والموتى، مما يجعل هذه العقول إزاء عدالة لا وجود لها، إلا عبر استحداث تقنيات، واختراع برامج، تعدل، المسار الطويل لتاريخ الصراع، منذ كان جرى بين الآلهة، وصولا ً إلى تحوله إلى احتفالات يومية، للخسائر، والمندثرات.
     فهل أدت (الفأس) ـ بوصفها حدا ً بين الأعلى والأسفل ـ دور: الجسر...، أم دور الطريق...، ليس لأن الجسر يعمل بحياد مضاد للسلبية، وليس لأن الطريق/الدرب يذهب ابعد من مسافته حسب، بل لأن الطريق لا يتكون إلا بدعامات تمنحه دينامية تحتوي (الغوايات/ الرموز/ والانتظار) كي يصبح ماضيه معادا ً، رغم الاندثارات والزوالات والمحو. فالفأس ـ إذا ً ـ هي أقدم اعتراف لسلطة الأعلى ـ الآلهة ـ المجهول، وفي الوقت نفسه، ستمارس سلطتها تاريخيا ً فوق الأرض. على أن (العمل) من اجل (العمل) لم يصبح غاية في ذاته، أو علما ً يؤسس شرعيته بالهدم ـ والعبور إلى .... ، فحسب، بل مكث يعبد الدرب باحتفالات متنوعة ومتعددة لم تتح للعامل ـ المنتج ـ المبتكر، والمستحدث ـ إلا أن يمتثل للبرمجة ذاتها التي رسمت مشهدا ً شاملا ً للكون من غير البشر، من ثم للكون القائم على غايات محددة، أي سلطة (الآلهة)، كي تبدأ الفأس تعمل لذاتها، بوصفها أداة مضادة للاستلاب، والخمول. وإلا كيف احتمل البشر تاريخهم الطويل، وهو يعيد تقسيم البشر إلى مراكز تستعير سلطة الآلهة، ودورها، وأخرى تعمل بحدود ما يستلب منها، كي تتجاوزها، بتحويل عبوديتها إلى حريات لا تماثل صناعة الفردوس، مكافأة لها، بل للحد  من الحتميات (البيولوجية/ الاجتماعية/ المعرفية) وإعادة ترتيبها بتقليص ـ وليس بإلغاء ـ الفجوة بين المجهول الكامن في ذاته، وبين البشر وهم يكدون للخروج من واقعهم المحكوم بالاستلاب. لأن عدد السكان الأقل وعيا ً بمصائرهم ما انفكت زيادته (الحتمية) و (القدرية) لا تقود إلا إلى بزوغ سلطات تستمد شرعيتها من البرمجة الجمعية للهيمنة على مسارات التراكم ـ والاندثار...، وإن هذا (النمل البشري) الذي طالما ملأ عقل دستويفسكي قلقا ً، بل فزعا ً، لا يمتلك إلا أن يحطم أدوات عبوديته: تدمير مؤسساته، أي تدمير مصيره هو نفسه، بحثا ً عن تاريخ لم يدوّن بعد...، فالمجد (للفأس) القديم لم يخف حمل روح (التمرد) بإنشاء توازنات تمارس سلطة (الغواية) ذاتها ـ سلطة العصيان، الإثم، والخطيئة ـ  إزاء سلطة راسخة حد إنها تماثل الطريق/ الدرب، لا يتقدم، ولن يتقدم، إلا بما غدا نصا ً شرعيا ً، نصا ً جمعيا ً، لاستكمال برنامجه في الاكتشاف ـ الذي تم استحداثه/ وابتكاره، عبر كرنفال للديمومة، لكن بألوان ما انفكت تحول التراب إلى ذهب..، وهي عمليا ً تحول الذهب إلى تراب، والى غبار، والى: أثير.
   على أن الدرب/الطريق، الذي لم يترك إلا آليات عمله ، تعمل، ـ وهو ينبني على ضحاياه ـ  لم يتشبث بمجد (الفأس/ العمل) بل سيدوّن ظل أو شبح (الميتافيزيقا):  مستحدثا ً اللغة ـ التي هي في الأصل احد مستحدثات العمل ـ للإعلاء من شأن السلطة التي لا يعلى عليها، إنما كي تستلب المصير الجمعي ليس للفائض من الكد والجهد والعمل فحسب، بل تستولي عليه برمته ـ بحسب النشأة الأولى للبرمجة ـ تاركا ً للغة دورها تستثمرها النخب، للإعلاء من دور المراكز ليس بانتظار أناشيد  الزائلين/الفانين، من فيالق النمل البشري، بل لصالح السلطة التي راحت (تمتلك) و (تدير) العمل المستحدث، بالاستيلاء على القوى المنتجة برمتها، ومنها: مصدر ديمومة الحياة/ الأم، والعمل الذي أسهم بمنح التحول خاصية الانتقال من الكم إلى العلامات/ النوع، ولاختراع المزيد من الأشكال المبتكرة. إنها معادلة لم يغفلها اللاوعي الذي اخترع الفردوس، لدى السومريين، قبل تدوينها في التوراة، بألفي عام، وما يتعرض له (العادل المعاقب)، من حكم راح يفكك علاقته ما بين الأعلى ـ والأسفل، وفق نتائجه الجائرة، فهو تاريخ عبودي مكث الوعي (المرهف/التلقائي/ الحر) يحفر في مخفياته، وعلله الكامنة، والغوص في محركاته غير المرئية، حيث وجد أن (الفأس) تؤدي دورها ليس في (الحرث/ الإنتاج الزراعي باكتشاف المعادن، وصهرها، والتحكم بتقنياتها حسب الحاجات)، أو في الأعمار، ودخول الفكر المعماري في صلب التحول من العصر البري إلى زمن المدن فحسب، بل في تهديد (السلطة) ذاتها التي منحته هذا المجد. فالمخفي داخل القصيدة سيترك ممرات ـ خارج الدرب ـ لإعادة شرعية القراءة: لديمومة اختراع كل ما كان ـ هو ـ سابق على الاكتشاف، وطي المجهول، ولكن لن يكون له معنى، إلا بحدود الوعي المتجدد، وعبر التمسك بكل ما يقوض أبدية غياب العدالة. إنما هل لسلطة السماء، أم لسلطة الأرض، يبقى انشغالا ً شبيها ً بإعادة قراءة دور المصادفات ـ وبدور اللا متوقع، بعيدا ً عن العالم الذي يتصالح فيه الذئب مع الحمل، وبعيدا ً عن الإنسان الذي  لا يصاب بالشيخوخة، والهرم، والموت، وبعيدا ً عن أي خلود يتقاطع مع ديالكتيك: "الكون/الطبيعة/الإنسان"، لصالح القوانين التي توازن بين الخسران ـ والربح، ولصالح السلطة التي لا تنتج فائضا ً يقوضها، بل للعمل وقد غدا هو ذاته يماثل سكان المدن الفاضلة، والجنات: لا يتمتعون بالخمول المطلق،  فحسب، بل بلذّات لم تخطر على بال احد، تكريما ً مشفرا ً لهدم (المصنع) ـ ابتداء بإزاحة الآلهة الأم ووصولا ً إلى تقيد عمل العامل وقد فقد مصيره، بل على خلاف (الميتافيزيقا) الكامنة في اللغة، كي تصبح التقنيات ذاتها ستراتيجية كل من أصبح (مدفنا ً)، وليس علامة لحياة يصنعها الفأس ـ الإنسان الشغيل، حيث الفأس تمتلك أن تصنع وعيا ً متجددا ً للمنتجين، وقد دفنت عميقا ً داخل تصوّرات كادت تمتلك سلطة (الآلهة)، لولا  أن لغزا ً (ما) مشفرا ً سيعمل على تقويض اللغة(الميتافيزيقية)، وتمويهاتها، وخداعها،  ذاتها، كي يمضي المسار (الأعمق من ماضيه)، نحو: المسار الأبعد من غده ـ أو مستقبله، من غير تعسف قائم على الحيل، واللعب، والخداع، أو من اجل ديمومة احتفالات لا تنتج إلا كل ما هو في طريقه إلى الزوال ـ والى المجهول.

 

* فصل من كتاب بعنوان [هل انتهى عصر الأم؟ ـ  من الاقتصاد البري إلى عصر صناعة الجثث]

المصادر
1 ـ إنها الخاتمة المنطقية، للرد على أسئلة تكمن إجابتها داخل أسئلة لم تسأل بعد. فجلجامش حصل على وردة الخلود، ولكنه ـ كما في سياق الأسطورة ـ لم يمسك إلا بظلها، وإلا لماذا أهملها، وراح يستحم بماء النبع، بعد رحلته الشاقة، وقد ترك الأفعى تسرقها...؟ فجلجامش الذي أصغى إلى سيدوري ـ صاحبة الحانة ـ تقول له:
[إلى أين تسعى يا جلجامش
إن الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة العظام البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة
أما أنت يا جلجامش فليكن كرشك مملوءا على الدوام
وكن فرحا ً مبتهجا ً مساء ً
وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وارقص والعب مساء  نهار
واجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل راسك واستحم في الماء
ودلل الصغير الذي يمسك بيدك
وافرح الزوجة التي بين أحضانك
وهذا هو نصيب البشرية]
لكن جلجامش لم يغو بكلماتها، لأنه كان يحدق في اللا مرئي ـ الذي ليس هو الخلود حسب ـ بل   هو  العثور على معادل بين الأسئلة المستحيلة، وما يوازيها من إجابات لا تمتلك الحقيقة كاملة، لكنها تخطو نحوها.  طه باقر [ ملحمة جلجامش] منشورات وزارة الإعلام ـ بغداد 1975 ص117 وما بعدها
2 ـ وهنا سترتبط التصورات بالأدوات، فمع كل اختراع ـ اكتشاف ـ لن تفقد ديمومة الحياة ذهابها ابعد من المتوقع. فالآلهة (إنانا) ـ رمز الحرب/السلام، ورمز: الموت/الحب، تعني بالسومرية: الحياة. ولأن تعريف الحياة وحده يتجدد، فان الثابت فيها، يتقاطع مع الأبدي ـ والخالد.
3 ـ وهنا تبدو (الحرية) أقدم قناع استخدم للتمويه، ليس لصالح الآلهة، بل لمن أسس معماره، لصالحه، عبر تصادمات المراكز، وانتصار من يمسك بالثالوث(القوة/الثروات/التمويهات) وهو ذاته سيقاوم كل من عمل على دحضه، ولكن هل إلى الأبد؟ يقول توفلر: " إن الشركات والمجتمع بكامله، سيجابهان عما قريب أسئلة جديدة ومخيفة، حول المعرفة الحسنة والمعرفة السيئة، التي يكمن وراءها القول، بان المعرفة هي القدرة، ولن تكون المشكلة أبدا ً هنا في هذه الحقيقة البيكونية التي ترى إن المعرفة قوة، بل في هذه الحقيقة العليا التي تتمثل في الاقتصاد الفائق الرمزية والتي ترى إن المعرفة "عن" المعرفة هي صاحبة الارجحية" ألفين توفلر [تحول السلطة ـ المعرفة والثروة والعنف في بداية القرن الواحد والعشرين] منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1991 ص254
4 ـ طه باقر [مقدمة في أدب العراق القديم] جامعة بغداد ـ 1976 ص 85
5 ـ د. فاضل عبد الواحد علي [ من ألواح سومر إلى التوراة] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ1989 ص247
6 ـ المصدر نفسه ـ ص248
7 ـ المصدر نفسه ـ ص305
8 ـ طه باقر، مقدمة في أدب العراق القديم، مصدر سابق ص85
9 ـ جان بوتيرو [بلاد الرافدين ـ الكتابة ـ العقل ـ الآلهة] ترجمة: الأب ألبير أبونا. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ 1990ص 271
10 ـ [بلاد الرافدين ـ الكتابة ـ العقل ـ الآلهة] مصدر سابق ص 270
11 ـ لكن الغريب إن المخلوقات الستة التي قرر انكي مصيرها لم تتضح عدا الاثنين الأخيرين منهم وهما (المرأة العاقر) و (الرجل ألخصي)، وقد وبخت (ننماخ) (انكي) لخلقه هذا المخلوق المريض الفاقد الوعي. كريمر [الأساطير السومرية] جمعية المترجمين العراقيين ـ بغداد 1971 ص 115 وما بعدها. ويمكن تذكر كلمات "فرويد" وهو يتحدث بحزن عن كون الإنسان لم يخلق كي يبني حضارة، أو يصلح لإنشائها..
12 ـ س.ن. كريمر [هنا بدأ التاريخ ـ حول الأصالة في حضارة وادي الرافدين] ترجمة: ناجية ألمراني. وزارة الثقافة والإعلام ـ الموسوعة الصغيرة العدد 77، فصل "أول تقويم زراعي في العالم" ص56 وما بعدها.
13 ـ كريمر [الأساطير السومرية] مصدر سابق، ص80 وما بعدها
14 ـ رينيه لا بات [المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين] تعريب: الأب ألبير أبونا. جامعة بغداد ـ 1988 ص416
15 ـ المصدر نفسه، ص413
16 ـ المصدر نفسه، ص417
17 ـ المصدر نفسه، ص402
18 ـ [من ألواح سومر إلى التوراة] مصدر سابق، ص375
19 ـ امارتيا صن [التنمية حرية] ترجمة: شوقي جلال. عالم المعرفة ـ الكويت ـ 2004 ص25
20 ـ  يلفت جورج كونتينو النظر، في كتابه [الحياة اليومية في بلاد بابل وأشور] إلى وجود جمعيات للعبادة السرية، فيتساءل: " هل كانت جمعيات العبادة السرية موجودة في بابل وأشور كما كانت موجودة في أماكن أخرى بصفة عامة كاليونان مثلا ً؟ لقد احكم كتمان السر ومع ذلك فان هناك أساسا ً للتفكير والقول بان مثل هذه الجمعيات كانت موجودة. فقد ورد في القصيدة المشهورة والمعروفة باسم (المعذب الصالح) كيف زكى الإله مردوخ هذا الرجل الذي وصفت القصيدة محنته، والذي سبق أن نزل إلى القبر، ولكنه عاد إلى الحياة في بابل، وفي أثناء عودته كان يمر عند كل باب بتجربة مباشرة من النعيم الذي يوحي به اسم الباب، مثل ـ باب الكوثر، وباب الصالحين، وباب السلام، وباب الحياة ـ وباب الشمس ـ وباب الوحي، وباب كنس اللعنات، وباب البحث عن الغم، وباب انتهاء الفواجع، وباب التطهر. وبعد هذه التجارب سمح له بالمثول في حضرة الإله مردوخ وكانت هناك قريته ـ ساربانيت ـ والتي يعبدها، فقدم بين يديها تضرعه" ترجمة:  سليم التكريتي وبرهان عبد التكريتي. دار الرشيد والنشر ـ بغداد ـ 1979 ص364
21 ـ قال ماركس: تتحول إلى أثير.
22 ـ كان فلاسفة بابل، في عصر أفولها، تحدثوا عن العدم، فقالوا: ليس الوجود إلا هذا العدم الممتد. وكانوا ـ بعد اكتشافهم للصفر، كقوة كامنة شبيه بالعدم ـ قد وجدوا نقضا ً أو إضافة من لدن عدد من فلاسفة الهنود من سكان بابل وذلك بالدور الذي يقوم به العدد إن كان قبل الصفر أو بعده. مما يؤكد استحالة وجود (العدم) إلا بوصفه جزءا ً لا يتجزأ من كلية الوجود.
23 ـ د. إبراهيم الحيدري " عولمة الثقافة وثقافة التصنيع" الحوار المتمدن: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=511362

24 ـ  ظهر كتاب توفلر "صدمة المستقبل" في سبعينيات القرن الماضي، وتبعه بكتاب " الموجة الثالثة) وبكتب أخرى منها: تحولات السلطة، وخرائط المستقبل ...، منظرا ً لعصر العولمة، والإسهام بدفن العالم القديم، إلا إننا ـ بعد أكثر من نصف قرن ـ  (وكما ذكر توفلر نفسه، في كتابه "خرائط المستقبل ـ 1980) بقوله:" في هذه الساعة التي نتكلم فيها يكون مستوى البطالة في العالم الرأسمالي أكثر ارتفاعا ً مما كان عليه في أي وقت مضى من الأزمة الكبرى في سنوات الثلاثينات. فالنظام المصرفي يلهث إعياء وهو على وشك الانحلال. وأفكار اقتصادنا تبدو من ساعة إلى أخرى أكثر تباعدا ً عن الواقع: "خرائط المستقبل"منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ 1987 ص7
25 ـ اخترع السومريون، منذ عصر فجر السلالات الثالث (في حدود 2450 ق.م)عالما ًتعويضيا ً عن العقاب، ففي الفردوس:
[ في بلاد دلمون لا ينعق الغراب
والطائر كيتي لا يطلق الصراخ هنا كعادته
والأسد لا يفترس أحدا ً
والذئب لا يختطف الحمل
ولا يعرف (هنا) الكلب مفترس الجداء
ولا الخنزير ملتهم الحنطة
والذي فيه وجع في العين لا يقول:" عيني توجعني"
والرجل المسن لا يقول:" أنا رجل مسن"]
د.فاضل عبد الواحد علي "من ألواح سومر إلى التوراة" مصدر مذكور، المبحث الثاني: جنة عدن والفردوس المفقود، ص255 وما بعدها.على إن أقدم تمويه غامض للخمول، أو لنبذ العمل، وللسعادة المطلقة، يجعل الفردوس خارج التصور، مما يستدعي قراءة ترد على سؤالنا: إذا كانت الآلهة قد خلقت الإنسان للعمل، من اجلها، ثم عاقبته بطرده من الفردوس لعصيانه، أو لارتكابه الخطيئة، فأي تبرير جعلها غاية بديلة بعد عصور الظلم ـ والجور؟
26 ـ لماذا ارتفع عدد الأميركيين الذين لا يؤمنون بوجود الله؟ تكشف التقرير عن اراء متعددة منها: إن " الأديان كلها سواء: قامت على الخرافات والأساطير". هذه العبارة كانت مكتوبة على لافتة وضعتها مجموعة تروج للأفكار الإلحادية جنبا إلى جنب مع لافتات أخرى مسيحية تتناول قصة المسيح على شاطئ مدينة سانت مونيكا بولاية كاليفورنيا.

وقد دفعت السخرية من المسيح وسانتا كلوز في أميركا منظمات مسيحية للتقدم بشكوى أمام القضاء في ولاية كاليفورنيا.

الأمر ذاته تكرر في ولاية تكساس، حيث رفع عدد من طلاب وأولياء أمور مدرسة كونتزي دعوى قضائية ضد قرار المدرسة حظر الشعارات الدينية في مباريات كرة القدم بعد أن اشتكت مجموعة إلحادية من"خرق" حرية التعبير.

هاتان الحادثتان وغيرهما من الحوادث تلقي الضوء على فئة من الأميركيين ممن لا ينتمون لطائفة دينية وهم الملحدون: لا يؤمنون بوجود الله. واللأأدريون: يقولون إنه ليس هناك سبيل لمعرفة وجود الله من عدمه. وغير منتمين لدين محدد: لا يتبعون دينا محددا. وقد  ارتفع عددهم جميعا بشكل هائل حسب دراسة لمركز بيو للأبحاث، وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة مازالت أكثر الدول الغربية تدينا. انظر: http://www.alhurra.com/content/reasons-rise-religiously-unaffiliated-usa/215442.html
27 ـ حول عدد الدينات والمعتقدات في العالم، اشار التقرير التالي الى: "
فى آخر تعديل ، فى 6 سيتمبر عام 2002 ، حددت قاعدة البيانات Adherents.com ، الأديان والعقائد الرئيسية فى العالم ، بأنها تلك التى لايقل عدد المؤمنين بها عن 150 الف ، وتكون ديانة مستقلة ، ووفقا لهذا التعريف ظهرت 22 ديانة رئيسية ، تم ترتيبها وفقا لعدد التابعين لها كالتالى على الترتيب : فى المرتبة الأولى جاءت المسيحية ( 2 بليون تابع ) ، ثم الإسلام (1.3 بليون ) ، وفى الترتيب الثالث ظهرت الهندوسية ( 900 مليون ) وهى ديانة يعتنقها أهل الهند، وقد تشكلت عبر مسيرة طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى وقتنا الحاضر، وفى المرتبة الرابعة ظهرت مجموعة تتضمن فئات العلمانية وبلا ديانة ولا يدرون والملحدونecular/Nonreligious/Agnostic/Atheist) وهم (850 مليون )، ثم البوذية (360 مليون) ، وهي ديانة ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية في القرن الخامس قبل الميلاد ، وفى المرتبة السادسة جاء الدين التقليدي الصيني (225 مليون) ، مثل الكونفوشيوسية وغيرها ، ثم مجموعة أديان محلية بدائية (150 مليون) فى المرتبة السابعة، وفى الترتيب الثامن كانت الأديان التقليدية الأفريقية ودياسبوريك Diasporic (95 مليون) ، وظهرت ديانة السيخية في الترتيب التاسع ، حيث بلغ عدد تابيعها ( 23 مليون ) وهى مجموعة دينية من الهنود ، الذين ظهروا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي داعين إلى دين جديد فيه شيء من الديانتين الإِسلامية والهندوسية تحت شعار (لا هندوس ولا مسلمون) ، وفى الترتيب العاشر كانت ديانة جوتش Juche ( 19 مليون تابع )، وهى العقيدة المصدّقة الوحيدة من حكومة كوريا الشمالية، وتعتمد على اللغة الكورية، وبعض الكتّاب يصنّفون الجوتش كشكل كوري شمالي من الشيوعية الماركسية . أما الترتيب الحادى عشر احتلته الأرواحية Spiritism (14مليون) ، وتدَّعي استحضار أرواح الموتى بأساليب علمية ظهرت في بداية هذه القرن في أمريكا . واحتلت اليهودية (14 مليون) الترتيب الثانى عشر ، وفى الترتيب الثالث عشر ظهرت البهائية ، التى بلغ عدد تابعيها (6 مليون) ، 98 % منهم أتباع بابي والمذهب البهائي ، ويعودان إلى نفس الكنيسة أو الطائفة بمقرها في حيفا، إسرائيل ، وجاءت اليانية Jainism( 4 مليون ) فى المرتبة الرابعة عشر، وأحيانا تنطق الجانييه وهى ديانة منشقة من الهندوسية ، هذا الدين تقريبا ينحصر كليّا في الهند ، وفى الترتيب الخامس عشر ظهرت ديانة الشنتو Shinto (4مليون) وهى ديانة اهلية فى اليابان ، فحوالي 75 إلى 90 % من السكان فى اليابان يؤمنون بها، والمرتبة السادسة عشر أحتلتها ديانة كاو دي Cao Dai( 3 مليون) وهى حركة فيتنامية ، ثم جاءت ديانة تينريكيو Tenrikyo (2.4مليون ) فى الترتيب السابع عشر ، وهى أكثر المجالس الدينية النشيطة في اليابان المعاصرة. وله أنصار في جميع أنحاء العالم خارج اليابان، مثل الولايات المتّحدة (خصوصا هاواي)، كوريا الجنوبية، البرازيل، وتايوان، وفى الترتيب الثامن عشر ظهرت الوثنية الجديدة Neo-Paganism (مليون تابع فقط) ، وهى مصطلح عام للعديد من الأديان المتباينة التي تؤمن بالسحر والأساطير ، وفى الترتيب التاسع عشر كانت فئة الموحدون وخلاصيين (طائفة مسيحية) Unitarian-Universalism (800 ألف )، وجاءت ديانة راستافاريانيسم Rastafarianism

(700 ألف ) في المرتبة العشرون ، وهى طائفة دينية فى جاميكا وبعض الدول الأفريقية ، وفى الترتيب الحادي والعشرون جاءت العلموية Scientology (600 ألف ) وهى كنيسة مسيحية منتشرة فى 129 بلد ، وأخيرا في الترتيب الثاني والعشرون كانت الزرادشتية Zoroastrianism (150 ألف) ، وهو الدين الذي كان منتشرا في إيران ( الفرس) قبل الإسلام ، ومازال موجودا في بعض المناطق القليلة جدا والمعزولة هناك وانتقل مع المهاجرين إلى الهند .
 وفي تقرير اخر: " فبالنسبة لأعظم الأديان انتشاراً أتى ترتيب أعظم عشرة على النحو التالي:
المسيحية على مختلف مذاهبها ( 2بليون نسمة)ثم الإسلام ( 1.3بليون نسمة) ثم الهندوسية ( 900مليون)ثم غير المؤمنين بأي دين (ويشكلون 850مليوناً من شعوب الأرض)ثم البوذية في المركز الخامس ( 360مليون نسمة)ثم متبعو المذاهب القومية حول العالم ( 228مليون نسمة)ثم الأديان الوثنية الافريقية ( 95مليون نسمة)ثم السيخ في الهند ( 23مليوناً) ثم اليهودية ( 19مليون نسمة).. مواقع: http://assarouf.assoc.co/t428-topic

29/4/2016
Az4445363@gmail.com



رافق الموت إلى أن سلمت الأمانة لصاحبها ( القدر) ...- نبراس هاشم

رافق الموت إلى أن سلمت الأمانة لصاحبها ( القدر) ...



 نبراس هاشم
هكذا بدأت رحلتي مع الموت، كائن - كان- حي، رافقته وعاصرت حياته بلونها الوردي، وحتى ألعدمي، لم استغرب النهايات، إنها الشيء الوحيد الذي لم يجد الإنسان فرصة للهروب منها لكني استغربت من نفسي لأني كنت المرافق المودع الأخير له . عجيبة تلك الرحلة الميمونة، وأنا بين دموع ذكريات الطفولة وأحلام الصبا وحكايات الشباب، آه كم حملت من معاني وحكم؟ ولأنه رجل حكيم، تعلمت منه الصبر، والصمت أحيانا، كذلك الرفقة الحلوة ...الآن، اجلس وحدي، منكسرة مثل ظل شجرة، مرسومة بألوان مائية خشنة، استغرب من خطى الموت المتسارعة، كأنه يستعجل التحاف التراب، وتطويقي بثياب الحداد، تعبت من الحداد يا حبة القلب، آه من القدر يأخذ ما يريده بكل سهولة، ونحن نتصارع على حفنة تفاهات. خرجت من المستشفى أردة الروح، واجلس في حديقتها الخارجية، أخاطب روحه، أقول له: " اطمئن أنا معك، فكل من حولك غريب إلا أناك، ناديتني وأنت في الغيبوبة الأخيرة، وكأنك تقول، احتاجك في غيبوبتي لأتذكر نهاراتي". يا أيها الوطن العميق، وداعك لم يكن سريعا في أخر رحلة لمقبرة -الغزالي- سرنا معا، أنا وأنت ، في دروب كانت تحتضنك في الشباب والنضالات المسلوبة والطويلة، للتأريخ من فوضى وألم، تاريخ فرضت وجودك عليه، أنت، يا أنت، أنت لم تمت، فقط، ودعت دروب الذكريات والإخفاقات والخيبات والخذلان، ما أقسى الخذلان؟ حتى القدر المريب القابل للصدفة، اختار لك هذه النهاية ، لسلام روحك وسط أُلناس يحبوك، لأنك دائماً كنت محباً للآخرين، سائراً في دروب المحلات العتيقة، وكأنك تسمع جريك في ملاحقات العراك السياسي قديماً ،الكل كان سياسي، إلا أنت، فقد كنت (نزيها)، وما بين القوسين ما بين .. عجيبٌ أنت أيها الوطن -القهر- فيك كل شيء مستلب، وتستمر؟ يا صحبي، قد حط سرب الأحزان في مرقد سيدي أبو صالح، عبد القادر الجيلاني، وسلمته، أقصد، سلمتك أيها الجسد الحنين إلى آخر قطرات الماء في حياتنا المادية، ونادتني باحات المرقد لأزورها، واستنشق عطور الأدعية، أدعية المعوزين والفقراء والدراويش، وسط مجاميع من الهنود الزائرين، كل شيء نظيف ابيض مثل قلبك -هل الموت ابيض كما يراه البعض في أفريقيا؟- أخذت رزمة من السجدات، صلاة الظهر تؤذن، حي على الحزن، تخرجُ ملفوفا بالملايات البيضاء، نقية فضفاضة كانت، مثل قلبك، يتسع للجميع دون فضل، سوى الابتسام.. أردد في داخلي: "عمو لا تخاف، ها أنا ذَا معك، مرافقتك حتى آخر حزن" .. شجرة تظلل روحك المعذبة، فوق لحدك الصغير،الحياة أخذت من جسدك الكبير كثيراً! ها أنت تلوح لي بيدك من بعيد، لأنك نزلت دون اختيار إلى سرٍ في الأرض، دلّنا عليه غرابٌ، أراد أن يخبأ جريمتنا الأولى، عندما قتل الإنسان الإنسان، إنني استنشق هواء الربيع، وبقايا عطر المطر، الذي نزل على روحك ليلاً، وأبنتك تحتضن ذاتها، حزنها، وحدتها، لأنها صارت بلا حبيب، أيها الحبيب... وداعا إلى الأبد.
وداعاً . . . . .


الأحد، 1 مايو 2016

أختام*-عادل كامل





















أختام*


عادل كامل
[10] البيت ـ المدينة ـ المدافن


     مهما بدت لي الفضاءات بلا حافات، فانا لم استبعد قدرتي على الحلم، إلا تحت سقف محاط بالجدران، وثمة باب، ونوافذ، وبالجوار، علب وصناديق ومدافن يسكنها شركائي في المشي خلف من سبقهم في المشي، في المصير: من نبات، وبشر، وحيوان، وأشياء، وأسلحة، ودخان، وما لا يحصى من الإشعاعات التي خلفتها الحروب، ومصادر التلوث الأخرى. إن المغارة التي سكنها أسلافي، كالأهرامات في مصر، وكالزقورات في سومر، كانت تتضمن مبادئ واحدة: الحماية.
     لكنني اكتشف، كلما تقدم العمر في ّ، أنني  عار ٍ، ومعزول، ومحاصر بانتهاكات تبدأ بالهواء، والضوء، والضوضاء، والمداهمات، والشكوك، والتصادمات، مما يجعل الغايات ـ مهما بدت رصينة ـ مجاورة لعدمها. فانا رأيت ملاين الذين ذهبوا، كما رحلت مليارات الكائنات، لم يخلفوا سوى غبار لم تعد الريح ـ ولا مياه المحيطات ـ على دفنه. أنني محاصر بذرات لا مرئية تكّونت وتراكمت وجعلت المأوى، والسكن، والزقاق، والمدينة، والقارة، والأرض، مكانا ً لا يصلح حتى للموت!
     إنها ليست استغاثة رمزية، مشفرة، بل لأن الإنسان الأول الذي صنع (ختمه) الشبيه بمنحوتات جايكوماتي أو لوحات روفائيل أو رسومات غويا أو منحوتات منعم فرات، كانوا يمتلكون رهافة ـ أحاسيس ـ بالغة الرقة. إنها ليست رخوة أو سلبية، أو علامة وهن، أو شرود مرضي، بل كانت دعوى للإبقاء على توازنات استثنائية بين العدم ـ وبقاءها، وبين تجددها.
     تلك التي سكنت الختم، مازالت تفصح عن لا وعي الصانع النائي: كضرب من محاولات الطيران خارج دخان وضوضاء وأسواق ومعسكرات وحروب وأشلاء وخرائب عالمنا. إدامة جبروت اقل الكيانات مشاهدة: القلب!
     بهذا الهاجس كانت النافذة، الباب، الزقاق، الجدران، ونماذجي البشرية، محاولة لترميم الحلم وقد غدا يأخذ طريقه إلى الخفاء. إن التأويل، لا يفضي إلى مساومة، لكني لست بحاجة إلى آخر ـ ضمن مكان وزمان وتاريخ وملغزات ـ لا تعمل إلا على انتزاع ما غدا خارج سلطتي: الحلم.  فانا تركت حريتي تعمل كي لا أجد من يعمل على انتزاعها مني. هل أنا في عالم لا يستحق الدفن، كي لا أصوّر هذه الأبعاد في أشكال مستمدة من الزقاق/ ومن نسوة تحولن إلى نباتات، ومخلوقات أخرى إلى فطريات، ومن أحلام لا وجود لها إلا عبر رصد الفراغات، للذهاب بحثا ً عن بقع تسكن المجهول: هذه الوجوه الخالية إلا من موتها، جرجرتني إليها، كي أجد نفسي، مثلها، لا اسمح لأصابعي إلا بأقل الحركات: الحفر فوق خامات اعتني بمنحها حياتها النائية. فانا ـ مثلها ـ اجهل لماذا لا استطيع أن اكف عن النظر، والشم، والإصغاء، إلى عالم فرغّ حتى من مرور زواله، في ما يسمى تصوّرات، وحضارة.
     أليس الختم ـ بمعنى الفن ـ ذريعة لرؤية لم ابلغ ذروتها إلا وأنا أدشن مقدماتها: الباب، ووجه صديق دفن في الرمال، والهة ركنت في المتحف، ومقدسات لا توجد إلا في الكتب، ونداءات حيوات تحتضر قبل ولادتها، وغوايات احكم صنعها، كي أجد أن ما تبقى لديّ، من الوهم أو من الأمل ينسج منديله، أو كفنه، من حولي، كأني في عيد، أو في جنازة، وأنا أتأمل حبيبات الزمن، شاردة هي الأخرى، حيث أجد من يخفيني، في أختامي، كي أعيد دورة البذرة: دورة البراءة وقد كونتها مراراتها، وقسوتها. حتى تكاد أن تكون شبيهة بمصير أيوب أو العادل المعاقب في سومر، لكن قبل خمسة آلاف عام، فهل أنا هو الختم، أم الختم ذاته غدا يحمل علامة هذا الذي كونته العناصر ذاتها، التي كونت صانعي أسلحة الموت، وناسجي خطابات أمراء الحروب، وتجار الأسواق، وغاسلي الأموال، ومهندسي سجوننا، ومشيدي جدرانها، وصانعي مفاتيحها، بدءا ً من غرفتي إلى نيويورك، ولندن، وطوكيو، وباقي الأختام الزاخرة بلغز كثافتها المعدة للزوال، أم علي ّ أن لا أعود للبحث على عصا تدلني على آخر امشي خلف ظله فحسب، بل أن لا ادع أيا ً كان أن يتتبع ظلي، ويمشي خلف غبار عويل مصمّت، تتشتت فيه رقصات ذعر، وابتسامات موجزة، لقلب لم يفقد أجنحته، أو لأصابع مازالت مشفرة بذكرى الطيران.  أين هو من لا وجود له كي اغويه بلحظة الصفر: أن أقول له بروحي أن لا يدع الصمت يوحدنا، كما وحدتنا البغضاء، بأختام أصابع كنا منحناها هذا الضياء، بل الشروع بسفر كانت خاتمته، قد شيعته، قبل أن تتكون مقدماته، وقبل أن احتفل بصناعة أختامي في نهاية المطاف!
[11] موت الفن ام رؤيته مدمرا ً؟
     اذا كان (هيغل) قد لمّح، في كتابة (فلسفة الحق)،  إلى إشكالية تحول الروحي إلى تاريخ، وتحول طقوس العبادة إلى وظيفة، واللامادي إلى (سلعة)، معلنا ً عن موت: الفن، فان التقنيات، وهي تتوغل بالكشف عن عوالم ـ وأبعاد ـ بدت، لزمن قريب، ضربا ً من اليوتوبيا، فان تراكمات المعرفة، والعلمية منها تحديدا ً، لا في دحض الفلسفات، والثوابت، بل في اكتشاف مستحدثات تكاد تغادر مقدماتها. فإننا ـ  وقد كتب (توفلر) كتابة (صدمة المستقبل) في سبعينيات القرن الماضي ـ في كل ثانية، نلحظ مشهدا ً، وعالما ً، لم يكن وجوده قائما ً حتى في المخيال.
     يا له من أسى يدب بصمت ـ لكن بعناد ـ نحو الداخل؛ في الخلايا كما في نبضات القلب، وومضاته، ويسكن بجوار طاقة الحياة، وبرنامجها الذي لن ـ ولم ـ يسمح بدحضه أو التخلي عنه. فكنت اسأل نفسي ـ وهو عمل آلي للدماغ في اشتغالاته الملغزة ـ اذا ما كنت لا اصنع إلا علامات تفصلني عن جسدي، وعن مدينتي، وعن من أحب، فلِم َـ كالنمل البشري ـ لم ْ انحز إلى رؤية جمعية لا افسد فيها سكينتي؟ هل ثمة إيذاء شفاف استبدلته كمعاقبة للأخر نحو النفس، مما جعلني أبدو بنظر أكثر زملائي (مذعورا ً/ وخائفا ً) ـ وهم في الغالب يتسترون على خفايا طالما جعلتني ازداد فرحا ً بالعزلة، وليس هذا الذي يجهل لماذا مكث يشاركهم عفن أهدافهم المحملة بنوايا الصياد وقسوته؟ لم يكن الانشغال خارج المتاجرة بالفن، ولعا ً ذاتيا ً، أو أخلاقيا ً فحسب، بل توقا ً للحفر في هذا الذي ـ كلما توغلت فيه ـ لا أراه إلا مجهولا ً، أو لا وجود له. إن نموذجا ً كـ (ق ـ س)، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، أسهم بحرف الفن العراقي ـ وتلك كانت كلمات إسماعيل فتاح ومحمد محمد مهر الدين ود.علاء بشير ومحمد غني حكمت ـ ودفعه نحو نهايته، عبر تسريبـ وخلع، وتهريب أفضل أعمال روادنا، جعلني ازداد عنادا ً بعدم الخوض في نزاع محبط النتائج. فانا لم أفق من تحول الفن إلى سلعة، بالمعنى ألتدميري، إلا بعد أن سلبني ـ هو إلى جانب زملاء آخرين ـ خلاصة جيل الرواد، ووضعني عند حافة الخراب. صحيح انه شيّد سكنا ً بشطارته التجارية، لكنه لم يفلح بسلب ذلك الذي تأسست عليه أعظم الأرواح براءة. ذكرت هذا المثال في سياق انحسار مساحة الفن، بعد هجرة مئات الفنانين، وتخلي الآخرين عن المشاركة في احتفالات الأقنعة، والمكاسب المحكومة بالنسيان، والتندر، لان لغز أختام سومر وأكد، ومن قبلها الدمى والقلائد ورسومات المغارات، مكثت ـ في عالم موت الفن وموت الإنسان ـ خارج عمل السوق، وخارج وهم حريات التجارة، وسلطة البنوك، والشركات عابرة الروح ـ وليس عابرة القارات ـ عندما يكون الفنان قد حسب للدورات عملها، وعودتها، حلقة في سلسلة مترابطة، مع جذورها.  فمن يتذكر تبرع ببيع رموز عرف كيف يحولها إلى (دراهم/ أو دولارات)، ويدرب الآخرين، على استنساخ تجارب أجنبية، من اجل الربح! لكن تجربة فائق حسن ـ وان هربوا الكثير من روائعه ـ لن تزول من الذاكرة، لأنها ببساطة ستستعاد طالما يستعيد الفنان بصره، وأصابعه، وقلبه، بدل أن يخضع لمغريات الربح، والتجارة.
    هل ستكون أختامي محض إجابات لأسئلة خارج منطق شراسة السوق...؟ وماذا افعل بها، وهي تتراكم، وأنا لم اعد بحاجة إلى لص يسرقني، أو يساومني عليها، سوى أن أتمسك بإجابة خالصة: ليس لدي الوقت، ولا الرغبة، لمعرفة من هذا الذي لا وجود له، وقد سكنني، وصرت أجد نفسي أتكّون، في كل ختم، تاركا ً مسافة اللاحافات، والدنيا، وأنا أغلق باب داري، كي لا ادفن في الأرض التي أنا فيها، أشلاء عناصر لكائنات ذات مخالب، وأنياب، ولدغات، ووشايات، حد خساسة الواشي، والمنتمي إلى زمر مصاصي الدماء ... سوى أن أحول (ختمي) إلى ذات الحجارة التي كانت توضع فوق قلب الميت، الذي كف أن يكون صيادا ً، أو ضحية.  حجارة تتوحد بمصير مازال الرهان عليه قائما ً، لان الميت ـ في مصائر الذين سيموتون ـ يمتد عبر علاماتهم: عبر دورات مهمتها إدامة: التداول، ومنح الاستهلاك غوايته الأبدية!
[12] المكان ـ المخفي مرئيا ً
     ما ـ هو ـ المكان، قبل أن أتعثر في تحديد ما اذا كان هو: الرحم، أم هو الزمن متجمدا ً، لبرهة، أم هو حدود المساحة، المجاورة لمساحة، في إطار: لا حافات له، أم ـ هو ـ: نفيه؟  لأن المكان، في الأصل، اشترط النسبية في القياس، أم ـ هو ـ: القبر، أم هو: موضع الاختفاء، التواري، التستر، كي يغدو حصنا ً، (قلعة)، متحفا ً، جمجمة، كهفا ً، أم شيئا ً شبيها ً بالقاصة: للتراكم، والحفظ، ورمزا ً لديمومة الشغل، ومنح الغد قدرة الامتداد بماضيه، والانفصال عنه في حدود استحالة بتر السلسلة أو قطعها..؟
     الختم ـ منذ كان للمكان هويته، بيولوجيا ً، أو مكانا ً مختارا ً، أو مستحدثا ًـ أداة عمل ـ وثمرته. فهو يتضمن الخاتمة بمقدماتها. فهو شبيه بالحرف، لغة، وهو علاقة تتضمن مشفراتها، ببوح مكتوم، غير معلن، إلا الذي يصعب نطقه، أو ـ هو ـ إعلانه، كي يمارس ديمومة النموذج بديمومة صانعه.
     فانا ـ منذ راحت أصابعي تلهو ـ وبعد عقود، لا أجد تعريفا ً للختم، لا يتضمن إضافة، حد الدحض.
     ففي عالم تتسع المسافات فيه بين المقدمة ـ في العلم أو في الجريمة أو في الثراء ـ وبين من مازال يفتقد شروط حياة سكان المغارات، بين من غادر (الحرية) وبين من يجهلها، بين استحالة أن يفكر، وبين من وثب خارج آليات التفكير، بين الصفر ـ في التكرار ـ وبين الباحث عن الجوهر، ليس فلسفيا ً، أو نظريا ً أو علميا ً فحسب، بل بالتخلي عن المسلمات: أدوات الاتصال، وعاداتها، ومثنوية التضاد، نحو أبعاد ـ ربما ـ تسمح لعر ما بعد: عصر الختم/ الهوية/ العنف/ وهو عصر المجهريات ذاته الذي يرجع إلى مخلوقات السواحل بعد أن تكونت شروطها: شروط المكان ـ فيما سيبقى لغز الزمن ـ خارج حدود أدوات التعريف.
     الختم المعاصر، عمل، عبر الأسواق، كبضائع، وحولت الصانع نفسه ـ بعد موت الإنسان وموت اللغة وموت الفن ..الخ ـ إلى علامة للتداول. فغدا الختم يعمل خارج الاغتراب القديم. هل استطعت أن أصل إلى مقاربة لتحديد مفهوم: حداثة؟ كي أضع فاصلا ً بين عمل: اليد/ الفكر، وعمل: الفكر/ الثقافات وهي تتوغل في المجهول؟ حداثة ـ وما بعدها/ وعولمة ونقيضها ـ وحداثة ارتداد، في عالم لم يغادر عصره (الجرثومي)، بل ازداد تشبثا ً بترك الاشتباك بعيدا ً عن معايير الأخلاق، وذهب ابعد من استخدامه لأقنعتها. فالختم ـ الأثر ـ لهذا الاشتباك، يحكي ما دوّنه (ماني) و (شوبنهاور) عن: دمج الحرية بقيودها، من الوجود إلى العدم، ومن بكتريا السواحل إلى الرأسمالي الذي يتحكم بحرية الأسواق، والمباشرة بعصر يكاد ينفصل عن ماضيه القريب. فالعالم لم يعد مجموعة مساحات تسكنها مجموعات بشرية، تحمل غايات مشتركة، بل على العكس ـ غدا عالما ً يعمل بحسابات اللا مرئيات. فالأختام تحكي نهاية مأزق، وفاتحة وعود يستطيع فيلسوف كبرنرادرسل ـ أن يرى لها مستقبلا ً منغلقا ً. والأمر لن يختلف في حقول الفلسفة، والفيزياء، والأخلاق. وذلك لأن أي تعريف ـ لا يعّرف ـ إلا بضده. إنها الحلقة ذاتها التي كونت صانع أقدم الأختام: المغارة، والنقش فوق عظام الموتى، وصناعة الدمى، والقلائد، والخرز. انه السحر الذي مارس لذته، ورمزيته، ومشفراته، منذ البدء وصولا ً إلى عمليات إعادة بناء كيانات مغايرة لهذا التراكم. فالمعاني ـ الماهيات/ الجواهر ـ لا علاقة لها بعلامات التداول، لا في اللغة، ولا في الرياضيات. فالوجود في الأصل، لا يقع في المرئي، مما سيمنح تراكمات السحر وثبة يصعب تخيل نهايتها ـ مادامت مقدماتها قد منحت العشوائية حدها الأقصى: حريات بلا حافات.
     هو ذا ختمي يتكون باستحالة وضع معنى أخير له. انه شبيه بهذه الحروف تنسج دربا ً لا اعرف اهو الذي يقودني، أم أنا ـ هو ـ الذي أتعثر في متاهاته؟ فأنا ليس لديّ العمر ـ مهما امتد/ ومهما بلغ ـ للعثور على ارتواء عدا ترك العالم يجاورني بانتظار دورته تكتمل بزمنها. فهل أنا مشيت، أم حوّمت، أو لم اخف وثبات حيوان هارب من مفترسيه، أم بنظام الكترون قيد بعمله في حدود الذرة، والأرض، والمجموعة الشمسية، والمجرة، وبالأكوان ...؟ من ذا لديه، حتى لو تمتع بزمن أول الخلق حتى نهايته ـ إجابة لا تجد من يدحضها! ألست، في النهاية، لا انسج إلا عمل اليد/ الرأس، فوق هذه المناديل، أو فوق هذه الأكفان، أو أضعها في النار، أو اتركها تتحول إلى أثير، والى لا مرئيات، أختاما ً وجدت كي تغويني ـ تغوينا ـ بزمن زوالها، كي ننشغل بها، وفي أعماقنا يتوارى هذا الذي طالما تقدمنا، وأحيانا ً، لا نعرف ـ لا أعرف ـ كيف حررنا من قيودنا، ولكن ـ بحسب الحواس/ والعقل ـ قيدنا بما سنكون عليه، وبما يريد ـ هو ـ لا بما نريد، إلا بتوارينا في ممراته، وطرقه، ومخفياته في نهاية المطاف!


* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).