الأربعاء، 4 مايو 2016

المجد للفأس! لمحات من تاريخ العبودية في بلاد ما بين النهرين- عادل كامل




المجد للفأس!

لمحات من تاريخ العبودية  في بلاد ما بين النهرين


الفأس المزدوج/ نهاية الألف الخامس ق.م


عادل كامل
 * المجد للفأس: مفارقات من العمل إلى نقيضه
     رغم إن (جلجامش) وهو الملك الخامس في سلالة أوروك الأولى السومرية، والذي دام حكمه (126) عاما ً، بدء ً بعام 2675 ق.م، كان قد  حصل على وردة الخلود، بعد رحلة شاقة، إلا انه لم يتمتع بها، بعد أن تركها تختطفها الأفعى، وهو يستحم عند نبع الماء، لكن ليس عبثا ً أن حكمة النص المدوّن، في نصها السومري،  مرورا ً بأكد وبابل، وصولا ً إلى حضارة أشور، كانت قد منحت (العمل) الصالح، المفتاح الذي يدور في قفل  الخلود، وفي قفل الحياة الفانية أيضا ً.(1) فالصراع بين الزائل والدائم، قديم قدم الأعلى والأسفل، وقدم: الظلام والنور. انه جزء من إشكالية عمل عليها الفكر الأسطوري العراقي، واعتنى بتدوينها، وأغناها بالشواهد، والحكمة، لتجد ديمومتها، فوق الأرض، مع خلق الإنسان. فعندما تكون الأسئلة قد بلغت ذروتها، فلا مناص من العثور على: نفيها ـ وتجديدها، مادامت الإجابات تتضمن عجزها، من ناحية، ومادام الزمن وحده لا يرتد إلى الوراء، من ناحية ثانية. (2)
     فالإنسان، في حضارة وادي الرافدين، لم يخلق لذاته. انه لم يخلق كي يتمتع بالحرية، أو يكون حرا ً.  فقد كان خلق الإنسان واحدا ً من المواضيع التي تناولتها الأساطير السومرية والبابلية على حد سواء، فضلا ً عن دخولها في بناء المعتقدات لدى الشعوب الأخرى. (3)
    ففي الأصل السومري، تبدأ الأسطورة بخطاب موجه إلى الآلهة الخالقة "مامي" جاء فيه:
[ أنت الرحم الأول الأزلي. أنت خالقة البشرية، فاخلقي "للو" (الإنسان) ليحمل النير. ففتحت "ننتو" فاها وخاطبت الآلهة العظام قائلة: " إلى يرجع صنع كل شيء لائق متقن. فليكن الإنسان. ليكن من الطين، ولتدب الحياة بالدم".  فخاطب الإله "أيا" الآلهة العظام. ليضح احد الآلهة ولتمزج الآلهة "ننخرساك" الطين بدمه، فيمتزج الآلهة بالإنسان". (4)
   في قصة أخرى، يقول د. فاضل عبد الواحد علي: " إن الآلهة أصابها الجوع بعد أن تكاثرت وزاد عددها وان الآلهة نمو" الأم التي ولدت كل الآلهة" جاءت إلى ابنها انكي اله المياه وطلبت منه أن يخلق "عبدا ً للآلهة ينتج لها طعامها". وكان جواب انكي أن الأمر ممكن وان عليها أن تأخذ شيئا ً من الطين "الذي وسط مياه العمق" وتخلق منه الإنسان. "(5)
   وفي أسطورة سومرية أخرى نقرا إن الآلهة بقيت بحاجة إلى المزيد من اللبن والخبز حتى بعد أن تم خلق لخار (اله الماشية) واشنان (آلهة الحنطة) وإنها لذلك خلقت الإنسان ليعنى بزرائب الماشية ولتتمكن هي من التنعم بمزيد من الأكل والشراب.(6)
    وفي قصة الخليقة البابلية، إن خلق الكون بموجب معتقدات سكان بلاد وادي الرافدين لم يتحقق بهدوء وسلام وإنما جاء بعد حرب صعبة وطاحنة خاضتها قوة تمثل الآلهة الفتية ضد قوة أخرى حاقدة تمثل الآلهة القديمة ولذلك فالحرب حسب معتقداتهم كانت معروفة قبل أن يخلق الكون والإنسان، وقبل أن تخلق أدوات العمل، وإنها قديمة قدم الآلهة نفسها. (7)
    وفي رواية أخرى للأسطورة من العصر الآشوري الحديث (القرن السابع ق.م)، ذكرت كيفية خلق الآلهة "مامي" للإنسان بأنها جمعت أربع عشرة قطعة من الطين، وضعت سبعا ً منها إلى اليمين وسبعا ً إلى اليسار  وفصلت ما بين المجموعتين باجر "اللبن" فخلق من مجموعة الذكور ومن المجموعة الثانية الإناث وصاروا بشرا ً تدب فيهم الحياة.(8)
   ولهذا عندما لم يقم الإنسان بأداء واجبه، كما خططت له الآلهة، وهو يكد ويشقى، ويرسل حاصل عمله إلى المعابد، وراح يملأ الأرض بالضجيج، والصخب، ـ مع انه من صنعها، وهي التي أوكلت له واجباته ـ عملت على اجتثاثه، وكأنها ـ بهذا القرار الإلهي ـ أعلنت عن فشلها، هي، وليس عن فشل الإنسان، وقصوره في تنفيذ أوامرها العليا. فتتكرر أشكال الإبادة، والمعاقبة، بشتى الوسائل، ومنها الطوفان، والعواصف، والأوبئة ...الخ، لكن أوامر الآلهة بالإبادة، لم تفلح بالقضاء على الإنسان، فطالما كان يجد عونا ً، وينجو، ويعيد أعمار الأرض.
    فقد أمر "انليل" بإبادة البشر، وذلك بان أرسل إليهم مختلف الآفات: الوباء أولا ً، ثم الجفاف مع المجاعة، بغية القضاء عليهم وإعادة النظر في سير الأمور. ولكن الإله "أيا" يعرف كيف يتدبر الأمور، ويتدخل كل مرة سرا ً. وأخيرا ً إذا كان انليل دوما ً منزعجا ً من البشر، قرر إبادتهم دون قيد ولا شرط، وذلك بأرهب كارثة: بفيضان الطوفان الذي لا يقهر. إلا أن "أيا"، الذي اضطر هذه المرة إلى أداء القسم مع الآلهة الآخرين بالا يحدث أحدا ً عن هذا المشروع المشؤوم، تدبر الأمر لكي يعرفه في الحلم، (وهذا لا يعني الكلام) لمحميّه "الحكيم الخارق"، وحينما سأله هذا عن وسائل النجاة من الموت، اضطر أيا إلى أن يشرح له مشروعه في بناء " الفلك" الشهير. مع قرار صارم : " بان تمنع في المستقبل ازديادا ً مفرطا ً في السكان. فلم يكتف بان يدخل بين انتقاصا ً في الولادات بالعقم المرضي أو الإرادي لدى يغض النساء وبوفيات الأولاد لدى أخريات، بل قصّر أيضا ً الحياة البشرية: فالناس الذين نعرف عنهم من روايات أسطورية أخرى إن حياتهم كانت أطول بكثير، سيموتون من الآن دون بلوغهم المائة من العمر. وهكذا حددت طبية البشر في تكوينها ومصيرها ومنحت انجازها الأخير، وبوسع الأزمنة التاريخية أن تبدأ الآن. (9)  
    وذلك لأن الإنسان لم يخلق للبحث في الغاز الوجود، أو أسراره، فهو لم يخلق ليتمتع بالبقاء، ولا ليتمتع بالمسرة، أو للبحث عن وسائل يطور فيها حياته، ومصيره، خلال زمن وجوده الوجيز، المحكوم بالموت، مهما عمل، وكد، وحاول العبور من وجوده الفاني، نحو وجود الآلهة الخالد.
   فلم تكن الكلمة ـ حتى بعد أن اكتسبت معناها الرمزي ـ سببا ً لتبرير وجوده، أو إجراء تعديل عليه. فالآلة لم تكن بانتظار استفزازها بالصخب والضجيج، ولا بأعمال الشغب والعنف، بل لأن وجوده، في الأصل: أن يعمل بفم صامت، كعبد، ولد من التراب، والى التراب يعود.
    وقبل أن تفرض سلطة المعبد، نظامها (التراتبي)، وقبل أن يتم الاستحواذ على سلطة الآلهة الأم، بوصفها المصنع الأول، وإسقاطها، كانت الآلهة قد أهدت الإنسان: الفأس، والمعول، وباقي أدوات العمل الزراعية، وكل ما سيدخل في استحداث الحياة المتحضرة، بوجود المدن الكبرى...، لكن سلطة (المعبد) ستحافظ على عملها بوصفها إرادة عليا،  في تنظيم الحياة اليومية، وإصدار التشريعات التي تكفل تقسيم البشر إلى: سادة ـ وعبيد.
    ولكن (العمل) قبل أن يوكل إلى البشر، كان خاصا ً بالآلهة، وحكرا ً عليها، إنما كان العمل (الإنتاج) خاصا ً بالآلهة من الصنف الثاني. ولعل الحفر في أصل الإشكالية، قد انتقل من العالم الذي لا موت فيه، إلى دار الفناء، من الآلهة إلى البشر الزائلين، المحكومين بالفناء، بعد أن تحدد وجودهم بدور محدد: العمل ـ والعبودية.
   فالأصل، يرجع إلى المجتمع السابق على التاريخ، الزمن، وعلى الأسباب والعلل، أي إلى المجتمع الإلهي الشبيهة بالمجتمع البشري ـ وهذه أقدم مفارقة للاغتراب تفسر كيف تم قلب المنطق؛ حيث الأدنى ستوكل إليه مهام القيام بإرساء التمويهات ـ هو الآخر، لم يكن (خالصا ً) أو تاما ً أو قائما ً في (ذاته)، بل كان مجتمعا ً قائما ً على: العمل ـ الحركة ـ والمتغيرات، والتقسيمات التراتبية أيضا ً. فكان مجتمع الآلهة ـ كالمجتمع البشري ـ قائما ً على الاختلاف ـ الصراع: فهناك ـ يقول الباحث جان بوتيرو ـ " الرؤساء المستهلكين المسمين "بانوناكو أو انوناكي" وهناك الآلهة من الدرجة الثانية المكلفين أو المتخصصين بالعمل ـ أي بالكد والشقاء حد الجور ـ وكانوا يحملون لقب (ايكيلي):
[ 1 ـ حينما كان الآلهة يقومون بدور الإنسان،
كانوا مسخرين ويشغلون
وكان شغلهم ثقيلا ً
وسخرتهم مرهقة، وجهدهم كبيرا ً ،
2 ـ لأن انوناكو كانوا يفرضون
على ايكيكي سخرة سبعة أضعاف ...] (10)
     لكن الآلهة من الفئة الثانية، بعد أن أرهقهم العمل المضني، بدأوا الإضراب، واحرقوا أدوات عملهم، وذهبوا يحتجون لدى المشرف على شغلهم، وهو (انليل)، فحدث أقدم اضطراب في مجتمع الآلهة: فبدون العمل، كانت الآلهة ستتعرض للمجاعة أيضا ً. فتمت الدعوة إلى الاجتماع العام برئاسة (انو) شخصيا ً. لكن (أيا) الإله الذكي والدقيق والمبتكر هو الذي حّل الأزمة، إذ ْ اقترح خلق بديل للآلهة ـ العاملين: على أن يكون موهوبا ً بكفاية لكي يشتغل مثلهم، ويؤدي عملهم، ومنظما ً (مبرمجا ً) بحيث لا يتسنى له أبدا ً أن يطالب، مثل الآلهة، وباسم الطبيعة ذاتها، بمصير يماثل ويحث على عدم الشغل، إذ ْ أن الأمر من شأنه أن يعرضّ العالم الإلهي للخطر المقلق ذاته، وهذا البديل هو: الإنسان.(11)


الآلهة ننخرساك

   هكذا سيتم خلق البشر، لأداء دور: الأجير/الخادم/ العبد. فهم سيكلفون بالكد، العمل المضني، كي يوفروا بشغلهم هذا الخيرات المادية الضرورية  للآلهة، فليس للحياة البشرية من معنى وسبب وجود وغاية إلا في خدمة الآلهة من ناحية، كما إن الفائض من كدهم، سيذهب إلى رؤسائهم، من البشر، من ناحية ثانية.
   والنصوص المكتشفة، الخاصة بالعمل، عند الآلهة أو عند البشر، تثبت إجابات تمتلك منطقها، ومبرراتها، فإرادة (السماء) تبقى خارج نطاق الجدل، أو الشك. فقد عثر في مدينة (نفر) على نص خاص بتاريخ التقنيات الزراعية، يجعل العمل سببا ً لوجود العامل، ومبررا ً لوجوده، وليس العكس، فالعمل لا يصنع العامل إلا بحدود التنفيذ، والطاعة (كأقدم نسق للبرمجة). وهنا تبدو العلاقة واضحة بين: أيهما يخترع الآخر، الفعل يصنع الاسم، أم الاسم هو الذي يأمر بالأفعال، في حدود بنية الأسطورة، ونظامها، لأنه لا توجد غايات إلا وقد اكتسبت وسائلها التنفيذ، والتنفيذ حسب. فالحرية قضية رمزية عليا لا علاقة لها بالنفع، مادامت البرمجة كلية، ولا تسمح للأجزاء إلا بالعمل بنظامها المبرمج، إن كان من صنع الآلهة، أو الطبيعة، أو من صنع رؤساء العمل. لتغدو العبودية: واجبة الوجود، أما الحرية، فإنها ليست إلا بدعة أو نشاطا ً محظورا ً على الفانين، فضلا ً عن استحالة فهمها بأدوات لا تمتلك سوى عجزها، مقارنة باللا محدود، أو المطلق، الذي تتمتع به الآلهة، حتى عندما كانت تسلك سلوك البشر الفانين. إن هذا النص الخاص بالزراعة، هو هدية الآلهة للبشر، فقد كان (الفأس)، في القصيدة التي تمجده، أقدم أداة تخص تطور الإنتاج الزراعي، بدخول المعادن.
    فالوثيقة الخاصة بالزراعة، تتضمن شرحا ً وافيا ً لعمليات الزراعة، وتقنياتها، دون إغفال أن يقوم المزارع، بالصلاة للآلهة عند خروج النبات من الأرض، كي تحمي غلته من الشرور والجرذان، إلى جانب إرشادات مكملة لتقنيات الري، والبذر، والعناية بالتربة...الخ.
    ولم تكن الزراعة وحدها معروفة في بلاد سومر، منذ 1700 ق.م، وهو تاريخ الوثيقة، بل هناك ما يشير إلى وجود البستنة، وإنتاج الخضر، والفواكه. مع تفاصيل تقنية تبين كيفية العناية بمثل هذه المنتوجات وتوصي باستعمال أشجار الظل لحماية هذه المحاصيل. (12)
    وفي نص آخر أكثر وضوحا ً، ومباشرة، تهدي الآلهة (الفأس) للإنسان، للعمل. فجاء في فاتحة القصيدة:
[الرب الذي يملك حقا ً، هو الذي اظهر للعيان
الرب الذي لا تبدل في أحكامه
(انليل) الذي يجلب البذور إلى الأرض لزراعتها
تولى برعاية فصل السماء عن الأرض
تولى برعاية فصل الأرض عن السماء
من اجل أن تنمو الكائنات التي خلقت
في (تماسك) السماء والأرض، (نفر) التي بلغت الـ ....
هو الذي جاء بالفأس إلى الوجود وخلق اليوم
هو الذي خلق العمل وقدر المصير
إن فاسه من الذهب ورأسها من حجر اللازورد
فأس بيته .... من الفضة والذهب
فاسه التي ..... هي من حجر اللازورد
والذي (سنه) هو ثور ذو قرن واحد يقف في أعلا جدار واسع
الرب الذي سمى الفأس وقدر مصيرها
وضع (الكندو)، التاج المقدس على رأسه
رأس الإنسان وضعه على التراب
قبل (انليل) (هو) (الإنسان؟) غطى رأسه
نظر إلى الناس ذوي الرؤوس السود بثقة
(الانوناكي)الذين جلسوا على مقربة منه
وضعها (الفأس؟) كهدية في أرضهم
ورتلوا الصلوات مع (انليل)....]
  لقد اعطو الفأس إلى ذوي الرؤوس السود ليمسكوا بها وبعد أن يخلق (انليل) الفأس ويقدر مصيرها، تنتهي القصيدة بمقطع طويل يتضمن فوائد الفأس، وجاء في السطور الأخيرة من هذا المقطع ما يلي:
[الفأس والسلة تبني المدن
الدار الثابتة الأركان بنتها الفأس، الدار الثابتة الأركان أنشأتها
الفأس
الدار الثابتة الأركان هي التي سببت الازدهار
الدار التي ثارت ضد الملك
الدار التي لا تستسلم لملكها
الفأس يجعلها تستسلم للملك
للرديء .... النباتات تحطم الرأس
تجتث الجذور تسقط على التاج
الفأس تطعن الـ ... النباتات
الفأس قرر مصيرها الأب (انليل)
المجد للفأس!] (13)
    ولعل أكثر النصوص إضاءة للمسافة بين الطرفين (الآلة والبشر، أو بين رؤساء العمل والأجراء) دوّنت في الحوار الذي جرى بين السيد والعبد، بما يتضمنه من اختلاف، أدى إلى اتساع المسافة بينهما، أي إلى وجود (طبقة) لا عمل لديها سوى إصدار الأوامر، وأخرى مهمتها تنفيذها، وطاعتها.
     لكن مدوّن هذا النص ـ كما في معظم النصوص ذات البعد الفلسفي ـ أعطى  مهمة الحوار نسقه في فضح المخفيات، والدوافع غير المباشرة الكامنة فيه، أو عدم التستر عليها بما لا يمكن الإفصاح عنه إلا عبر الرموز ـ والمشفرات.
    فالعبد سيجد إجابة مقنعة، بل ومنطقية، على كل سؤال من أسئلة سيده ـ العاطل عن العمل عدا انه انشغاله بالأسئلة ـ  وهي إجابات تتضمن ديالكتيك الوجود البشري القائم على المتناقضات، لديمومة (الظلم) من ناحية، وكمحاولة لمقاومته، ودحضه، من ناحية ثانية.  فإذا كان (الظلم) هو الذي جعل العلاقة  تبدو أبدية، في سلب (العبد) كل إرادة للتحرر، فان (الأمل بالعدالة) عند العبد، ستعمل على تفكيك البنية التي أنتجت تاريخ العبودية.
  فعندما يجد العبد الإجابات على كل سؤال، من أسئلة سيده، يتحايل، ويلهو، السيد، بقلب السؤال، فيرد العبد بإجابات مماثلة، تخرجه من المأزق، فعلى سبيل المثال، نقرأ:
[  "أيها العبد، تعال إلى هنا وامتثل أوامري!"
ـ نعم، يا سيدي، نعم!
ـ انطلق سريعا ً واطلب وهيئ لي مركبة لأذهب إلى البلاط!
ـ "اذهب إليه، يا سيدي، اذهب إليه " سيكون  لك "نفع" فيه،
إذ يراك الملك، سيغمرك بالمكارم!
"إذن، كلا أيها العبد" لن اذهب إلى البلاطّ
ـ " لا تذهب إليه" يا سيدي، لا تذهب!
"إذ يراك الملك" قد يرسلك إلى حيث لن تريد الذهاب".
وقد يرسلك "في طريق" لا تعرفها!
"ونهارا ً" وليلا ً سيذيقك الأمرين!]
...... ومثال آخر:
[ سأقوم بثورة!
ـ افعل هكذا يا سيدي، افعل!
ومن سيعطيك أن تملأ بطنك؟
ـ إذن، كلا أيها العبد، لن أقوم بثورة!
ـ لا تقم بها يا سيدي، لا تقم بها!
فالرجل الذي يقوم بثورة، أما أن يُقتل أو أن يسلخ جلده،
أو تقتلع عيناه، أو أن يقبض عليه ويودع السجن!"]
وفي مثال آخر:
[ "أيها العبد، تعال إلى هنا وامتثل أوامري!
ـ نعم، يا سيدي، نعم!
 ـ أريد أن أحب امرأة!
ـ أحبب، يا سيدي، أحبب!
فالرجل الذي يحب امرأة ينسى القلق والهم!
ـ إذن، كلا أيها العبد، لن أحب امرأة!
ـ لا تحب، يا سيدي، لا تحب!
فالمرأة بئر، اجل بئر، جب، حفرة،
المرأة خنجر مسنون يحز رقبة الرجل!](14)
يعلق الباحث (رينيه لابات) على هذا النص، بقوله: " ما الدرس الذي نستقيه من هذه التعليلات الدائمة، التي تمس تقريبا ً جميع أصعدة الحياة الشخصية أو العائلية أو العامة؟ النتيجة التي تعطيها القصيدة ـ لا اقل من الانتحار ـ هي غامضة،  أما المفسرون العصريون فما يزالون يتناقشون حولها.  هناك من يفكر في أن هذا المثل يهدف إلى أن يبرهن على أن في كل الأمور أسبابا ً تدعو العمل مثلما تدعو إلى الامتناع عن العمل، وان الحياة، في نهاية الأمر، هي دون معنى، وان الحكمة الحقيقية هي اللجوء إلى اليقين الوحيد، وهو الموت. وهناك غيرهم يرون أن هذه الحكاية ليست البتة كتاب فرض للتشاؤم واليأس. بل  تظهر لهم بالأحرى مثل نوع من الهجاء الاجتماعي البهيج. فالسيد غني بطال، ذو إرادة متأرجحة لا يبحث إلا عن قتل الوقت. فهو بغير عزيمة ومتقلب، ويستسلم إلى خادمه لتسوية كل من نواياه ولدفعه إلى العمل بهذا الاتجاه أو ذاك. وهناك بعض من أجوبة للعبد، وقحة تجاه سيده، ومشاغبة تجاه السلطة، تعطي نبرة الكوميديا أو الهجاء. في الحقيقة، لا احد ينكر أن يكون في هذا الحوار شيء من التهكم والهجاء. ولكن الأكيد أيضا ً هو انه يؤدي غالبا ً نبرة أثقل وأكثر رصانة. ولا تناقض في هذا المظهر المزدوج، إذا قبلنا أن المؤلف يتساءل حول معنى الوجود البشري ..."  (15)
     لكن القصيدة ـ وفي سياقها الداخلي/ المشفر/ الرمزي ـ ستبلغ ذروتها غير المتوقعة، على النحو التالي:
[ "أيها العبد، تعال إلى هنا وامتثل أوامري!
ـ نعم، سيدي، نعم!
ـ فما الخير إذن؟
أن أحطم رقبتي ورقبتك؟
أن ارمي بنفسي في النهر؟ هل هذا هو الخير؟
ـ من له القوة الكافية للبلوغ إلى السماء؟
من هو من السعة بحيث يضم الأرض كلها؟
ـ إذن، كلا، أيها العبدّ سأقتلك وأجعلك تمضي قبلي!
ـ نعم، ولكن سيدي لن يحيا من بعدي ثلاثة أيام!"(16)
    فلا يستطيع السيد، في النهاية، أن يقتل عبده،  ليس لأنه سيموت، بعده، بثلاثة أيام، بل لاستحالة وضع نهاية غير قابلة للدحض. فالعلاقة، كي تدوم، فان نهايتها ستبقى مفتوحة، من غير خاتمة، أو قفل.
    وفي نص أكثر صلة بالعدالة، ليس بما يخص وجود الإنسان، بل بما يخص الآلهة ذاتها، هو الآخر يستمد ديناميته من الصراع، لكن بين الآلهة والبشر... ففي نص (البار المتألم) أو أيوب السومري/البابلي، يجري الحوار بين متفائل ونقيضه، فالمتشائم يعترف بأنه أدى أوامر الإله، كاملة، ولكنه، في النهاية، يراها مغايرة، حيث لا ديمومة إلا للظلم ـ حد الجور:
[ طردوا من حقولي صيحات الحصادين الفرحة،
 ومثل حقل عدو، ردّوا حقلي إلى الصمت!
.....
فليس النهار سوى حسرات، والليل أنات،
الشهر كله تشكيات، والسنة حزن!
جميع أيام حياتي، أنوح مثل حمامة، (عوض) الغناء، اصرخ بصوت نحيب، عيناي دوما ً (تبكيان) دون انقطاع،
....
(وقسماتي يملأؤها الخوف والهلع)!
......
لقد اعترى الشلل جسمي كله،
وانتابت الهزة جميع مفاصلي،
واستحوذ العسم على ذراعي، وحلت النتانة بركبتي،
ونسيت رجلاي إنهما تستطيعان السير،
أصابتني نوبة وإذا بي اختنق.
الموت (ثمة) وقد غطى وجهي!
.........
لم يأت الله إلى عوني، ولم يأخذ بيدي،
آلهتي لم تشفق علي ّ ولم تسر بقربي!
كان قبري مفتوحا ً، وزينتي (الأخيرة) قد أعدت.
حتى قبل موتي، قد انتهى نحيبي الجنائزي.
بلدي كله قال عني: "انه عومل بغير عدالة."] (17)


 ختم اسطواني يمثل ذبح تيامة
  فيتساءل د. فاضل عبد الواحد: " هنا أثار بعض الناس من السومريين والبابليين سؤالا ً كان لابد منه: إن الآلهة هي التي خلقت هذا الكون، فكيف أمكن إذا ً أن تحدث مثل هذه الأمور ويسود الشر على الخير في حياة بعض الأتقياء من الناس؟" يقول موضحا ً:
    " وكان جواب الكهنوت على هذا السؤال وأمثاله إن الآلهة نفسها لم تخل من صفات شريرة عندما اتبعت طريق العنف والبطش والخداع في خلال المراحل الأولى للخليقة. ولذلك فقد تصوروا إن هذا الكون تسيره منذ البدء نواميس إلهية (سموها بالسومرية ME ) وهي لا تتمثل بعناصر الخير (كالصدق والعدل والسلام) ولكن بعناصر الشر أيضا ً( كالزور والكذب والنفاق). وبتعبير آخر فان عنصر الشر موجود في الآلهة وبالضرورة في البشر أيضا ً إلى حد يقول عنه المثل السومري: لم تلد امرأة قط ابنا ً بريئا ً!" (18)
   لقد أنتج الفكر الأسطوري (الأدوات/ والقدرة على التكيف بحسب المهارات المكتسبة/الدماغ) مبررا ً لوجود الموجودات، وفي مقدمتها البشر. وفي الحقبة ذاتها ـ التي مازالت ممتدة بتمويهات اشد تعقيدا ً ـ كانت النخب تبحث عن إجابات تتعلق بالإجابة على السؤال التقليدي: ما الغاية من وجود الآلهة؟ لكن السؤال لا يمكن عزله عن: كيف؟ فإذا كانت بذرة الخلق ـ بنبضها الملغز ـ لم تبح بإجابة أخيرة، إلا بحدود العوامل التي ساعدت على وجود هذه (البذرة)، فان الغاية من وجود: الخلية، يعيد الحفر في أسئلة بلا إجابات. ربما كان اختراع (الفردوس) أو (جنة عدن) إجابة تجعل النفع (وتراكم الثروات/ الكنوز/ الربح) أكثر أهمية من (الحرية) ومن الأبعاد الرمزية، وابعد من: الاستهلاك/ الاندثار، لأنها تجعل الولادة من غير الم غاية تستبعد البحث عن النهايات، وتلغي كل ما يعرقل السياق، وكأن الوجود وجد بمعزل عن موجوداته، أو إن الموجودات وجدت بحدود وجودها، فالأسئلة كامنة في إجاباتها، مثلما الإجابات وجدت في أسئلتها، بوصفها حلقة متكاملة، ومحكومة بما ـ هو ـ خارج نطاق الإدراك/ الوعي المحدود للبشر.


جلجامش يصارع ثور السماء


    فهل الآلهة ـ هي ـ من صنع النخب التي تمركزت لديها: القوة/ الخبرة/ ومهارات التمويه، والخداع، من اجل ديمومة كل ما هو محكوم بالزوال، واستثمارها في تعزيز صراعها كي تحافظ على (العنف)، بوصفه نتيجة كوجود  الأشرار من غير وجود الشر...، لديمومة عمل (المصنع) وهو يستبدل الآلهة الأم ـ بحقب يتم فيها العبور نحو عالم آخر لا علاقة له بالأساطير، والخرافات، ولكنه أكثر إدراكا ً انه إزاء (الموت) الذي واجه النخب القديمة، إن كانت هي الآلهة في تراتبيتها، أو كان هو الإنسان في صراعه من اجل ديمومة كل ما كان يراه قيد المحو، والاندثار؟  حيث يستحدث الفكر ـ في كل حقبة تراكمت فيها الثروات والقوة والتصورات أو المثل ـ الفردوس المفقود، ويعيد إنشاءه (إنتاجه) على نحو مقنع، لعامة البشر، مستبعدا ً حتمية  الفناء بوجود مضاد للقوانين كافة، عدا القانون الذي هو قيد البحث؟
    إن عقولا ً ممتازة، منذ فلاسفة العصور التاريخية الأولى، في وادي الرافدين، والنيل،  مرورا ً بالحضارات التي نشأت في الصين، وفي الهند، واليونان، وصولا ً إلى عصر النهضة الأوربية، قبل خمسة قرون، لم تتورط بأكثر من الاعتراف بان (الآلهة) أو (الإله الواحد) ما هي إلا القوة التي لا سبيل لمعرفتها، إلا بحدود الأدوات المتاحة  للمعرفة. ومادامت اللغة، منذ وجدت، وسيلة لغاية، ومادامت الغاية ـ بحد ذاتها ـ متخصصة بإنتاج تمويهات نافعة ـ ورمزية معا ً، فان الخيال سيكف عن عمله إزاء اللا متناهيات، كي يكون (الرابط) أو (الوسيط) الحتمي للموجودات أكثر اقترانا ً بـ: العمل. فالأخير، لدى الآلهة، كما لدى البشر، لم يصبح غاية ( في ذاته)، بل مكث وسيلة تحدد بأهداف تفرضها النسبية، لكن الإشكالية، كما في قراءة التاريخ، ليست في العمل، بل تنظيم الإنتاج، وتوزيعه.  فإذا كانت العدالة (الإلهية/ أو البشرية) ضمن غاياتها، استبعاد الظلم، فان تعريف (الظلم)، هو الآخر، وجوده كوجود: الشر في إنتاج الأشرار، أو كوجود الأوبئة في الفتك، وكوجود الكوارث في التدمير والإبادة. فالمبررات تتهاوى إزاء خاتمة وضعت قبل أن تكون لها مقدمات. على إن آليات  البذرة ، نموذجا ً لأرقى  العقول المستحدثة/ المتطورة من البسيط إلى المعقد، والى الأكثر تعقيدا ً ـ  لن تدمر ذاتها بذاتها كلية، وهو مثال يرجعنا إلى فشل الآلهة في القضاء على البشر، بسبب لغطهم وصخبهم، مثلما تنتهي اشد الحروب لا أخلاقية إلى المصالحة، والعمل معا ً لتلافي أسباب الدمار الكلي، مما يجعل البحث متجددا ً، لكن ليس في السؤال عن: الغايات...، بل في: منح الأدوات المستحدثة قدرة حماية الحياة وهي تبرهن إنها لم تفصح أكثر من حالات لم تعالج إلا بأدوات محدودة، لا تتوازن مع أسباب الخلق، وغاياته. فالكون اليوم ـ قياسا ً بعقد سابق ـ غدا مجالا ً لم يكتشف منه، إلا بحدود ما تم إنتاجه من اختراعات تتنافى مع الخيال الذي صاغ العالم فردوسا ً يليق بالجميع، وليس بزمر وجدت كي توهم الجميع ـ وتوهم نفسها أيضا ً ـ بالخلاص.
     لكن ما ـ هو ـ  هذا الاختراع الذي لم يتم اختراعه بعد....، هل هو الاقتراب من تخوم ـ وسواحل ـ الغايات التي كونت بذرة الخلق...، وكونت خيالنا، كي تتضاعف قدراتها على خلق صراعات (رقمية)، خالية من المشاعر، والحساسية، أساسها (الربح) و (التقدم) على حساب ديمومة كل ما هو بصدد مقاومة الغياب، أو في الأقل: الانحطاط، والعنف حد الإبادات. ثم ما الفائدة ـ بعيدا ً عن الحرية ومثلها العليا ورموزها، ومشفراتها ـ بعد مرورها فوق أشلاء أزمنة لم تترك إلا ذرات ومجالات لا مرئية لها، وهي لم تربح إلا ما كانت ـ هي ـ تعمل على تدميره؟
     ثمة كلمة تصح أن تشكل مقدمة لرمزية عمل ـ الفأس ـ  وليس للعمل المادي، وكد مليارات (العمال) وهم لا يحصلون إلا على ما تحصل عليه أوراق الأشجار من بقايا رذاذ، في عالم يزداد تحديقا ً في المجهول ـ حيث قال أرسطو:
    [ الثروة ـ كما هو واضح ـ ليست الخير الذي ننشده: ذلك لأنها مجرد أداة نافعة للحصول على شيء آخر"] (19)
   فما الفائدة ـ الأبعد من كل نفع ـ للفأس التي صاغت عصرا ً ملحقا ً بتنظيم العمل، وتقسيماته، كي لا ينتج إلا جنسا ً من المستلبين، الأشباح، لم يخطر ببالهم التفكير بأي من معاني الوجود، يكدون وهم يدركون إنهم لا يبيعون، ولا يتنازلون، عن خلاصة جهدهم، المادي والروحي فحسب، بل أنفسهم، وفي معادلة بلغت فيها العدالة ذروتها: إن التفكير في الحياة ـ في عالم ثلث سكانه يرزح تحت خط الفقر ـ غدا حلما ً شبيها ً باستحالة وجود الفردوس، إلا لدى الذين يمتلكون قدرات تمويهية على اختراع العدالة التي لا وجود لها، حتى في الأحلام، ولكن لديهم قدرات على اختراع عالم جذاب، مشوق، ومثير للدهشة، وغير متخصص إلا  بصناعة الموت ـ والجثث. (20)
    فإذا كانت اصلب المعادن، كما قال ماركس ذات مرة (21)، لا تمتلك إلا أن نخع للقانون ذاته: استحالة تماسكها، ثباتها، فهل باستطاعة أية حقيقية (وهمية/ متصوّرة/ افتراضية ...الخ) أن تصمد أكثر من زمن عبورها من السابق للماضي نحو اللا مستقبل ـ المفتوح، أي من المجهول التام إلى القادم غير المتوقع التام، بعيدا ً عن مبدأ أن المتحرك وحده هو القانون الثابت...؟ (22)
    وإذا كانت النسبية قد شكلت روح عصر مغاير للأزمنة (الأبدية غير القابلة للنقض أو للشك أو للتأويل)، فان إنتاج السلع، في عالم تحكمه قوانين: الإنتاج ـ الاندثار، يجعل الماضي برمته مقبرة جرداء!
    لنتذكر ما قاله دستويفسكي: إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح. فهل حقا ً ستحل العشوائية  محل ما أرسته أزمنة الأعراف، والأبديات، منذ الاقتصاد (الحر/ البري/ البدائي) نحو الزراعي، ومن الصناعي إلى  عصر ما بعد: العولمة، وتدريب مليارات السكان على الكد ـ من اجل الآلهة ـ الذي صاغ النظام الهرمي ـ من القمة إلى القاعدة ـ وكأن محاولات هدمه، وتقويضه، لم تعمل إلا على منحه صلاحيات ابعد، وأكثر شراسة، وقسوة غير مقننة إلا بالمزيد منها؟
     فمن منظور عصر مازال يرزح تحت صدمات المستقبل، والرضوخ لها، (وهو يذكرنا باليات عمل قوانين التكيف والأفضلية للأكثر قدرة على البقاء كما بينت دراسات دارون ذلك بحياد عبر المراقبة، والإحصاء) وقبولها كقدر حتمي متوازن مع آليات السوق ـ والحياة ما بعد الحداثة وفي عصر العولمة ـ مع اعتراضات تزيد ثالوث (القوة/ الثروات أو المتراكمات/ التمويهات أو التصورات)، متانة، وصلاحية للديمومة، فان الحياة اليومية، لم تعد منشغلة كثيرا ً بالسؤال ما إذا كانت الآلهة هي التي خلقت (البشر)، أم أن الوعي البشري، بحدوده التاريخية، وبعد أن شكل عصر (الأم) الإنتاج البكر له، ودحضه ببزوغ عصر المركز ألذكوري، هو الذي راح ينتج تصوراته، أيديولوجياته، وجناته الافتراضية؟
    فالآلهة، لدى الشعوب كافة، لم تفرض سطوتها إلا عبر جدلية التطبيقات العملية، تارة بالمنهج المثالي، المتعالي، الملغز، وتارة بالمنهج المادي الدوجماتي، وبالوعي المجرد، أو الذي صار منظومة تتحكم فيها عواملها التكوينية، وأسبابها. فـ (الغاية) التي قلبت المعادلة: من الزوال إلى الخلود...، مازالت تستحوذ على اللا وعي الجمعي، لدى الشعوب الأكثر تطورا ً (تقنية ودخولها في العصر ما بعد الصناعي)، أو لدى الشعوب التي مازالت تعيش على موارد: الطبيعة (المياه والتراب والهواء)، أو ما يتم استخراجه من الأرض، وكأنه شبيه المطر وقد صار يهبط من الأسفل، ومن الأعماق السحيقة.
    لأن الآلهة التي قدمت الفأس هدية مبكرة للتحول من عصر (البرية) إلى عصر (الزراعة)، مع اكتشاف المعادن، واستحداث قدرات لاستخراج المزيد من المخبآت، هو ذاته، باستطاعته أن يستبدل التصورات السابقة، بأخرى متجددة، لكن بالمحافظة على نسق لم يضف إلا الكثير من اللامبالاة تجاه أي مفهوم للعدالة. فيذكر د. إبراهيم الحيدري في مقال له بعنوان "عولمة الثقافة وثقافة التصنيع": " لقد تحول الإنتاج الثقافي والفني إلى آلية مستوعبة للمجتمع الصناعي وفكره التخديري الذي يتمثل بثقافة شعبية جماهيرية تشبع حاجات جماعية ولكنها تتحول إلى وسيلة هيمنة وتسلط وذلك بسبب تطور التكنولوجيا تطوراً لاعقلانياً وسيطرتها غير المباشرة على الناس." (23) مؤكدا ً ديمومة المسارات السابقة، ولكن باليات تلخص تاريخ العبودية، ومبرراتها، وتمويهاتها. كي يتحول العمل (بدا ً بالفأس هدية الآلهة، ووصولا ً إلى ما بعد العولمة والدخول في عالم يحدق في المجهول)، كمحرر للذات من القيود الطبيعية، ومن قيود الإنسان للإنسان، فضلا ً عن تغذية قدراته اللا محدودة التي تستمد نسقها من الآلهة (الأم) ـ بوصف الأم أقدم منظومة متكاملة لمفهوم المصنع، والعمل، ومقاومة الغياب) أو بمعنى ما لإرساء ثقافة مقاومة الموت، بإنتاج أدوات أكثر قدرة على التحدي، والديمومة، وكأنها  لا تنفذ إلا الأوامر غير القابلة للدحض. فلم تجر إلا تحولات في العلامات، بما يناسب اللا وعي الجمعي، للسكان.
    فعدم وجود (الآلهة)، أو عدم وجود الإله الواحد، لا يقلل ولا يضفي مجدا ً، لو كان لها وجود، لأن الديمومة ليست اكتشافا ً، أو اختراعا ً، بل تنفيذا ً لبرمجة أرست مبدأ (التقنية والإضافات والتعديل...الخ) كأقدم ستراتيجية نافذة ومتجاوزة لكل ما أنتجته الحقب، من الفأس إلى الحاسوب الذاتي العملاق، ومن الزمن القائم على الثوابت إلى عصر الصدمات ـ واللا متوقع. (24) لأن الأخير لا علاقة له باللامعقول، أو بالمصادفة، أو بالجور، إلا بما لا يتقاطع مع النسق ذاته: العمل من اجل....، وليس العمل الذي يحرر العامل من شقاء العمل، فالعمل ـ بحد ذاته ـ لم يصبح لذّة ـ خالصة أو لذّة في ذاتها التي تماثل الوجود في ذاته عند عمانوئيل كانت ـ شبيهة بفكرة اختراع الفردوس الأول، أو بجنة عدن، لدى السومريين، ومن حذا حذوهم.(25) لأن اللا عمل، في الأخير، مبني على معادلة ديمومة قانون الجور، وعلى نظام مركزية الوهم: الغاية، وقد راحت الثقافات الشعبية، الجمعية، لعصر ما بعد التصنيع، تجعلها شبيهة بأناشيد العمل، وبتراتيل المعابد،  تمجد عصر (العبودية/ القائم على تقسيم العمل/ ومنظومته التراتبية؛ من أعلى الهرم إلى قاعدته)، ومن غير اعتراض، أو تذمر، إلا بحدود إرساء قواعد الاختلاف، والمحافظة على تراكمات للمغتصب/ الرأسمالي، وللآخر الذي يكد ويشقى لذّة صامتة قائمة على الاستلاب.
   ولعل نسبة اللا دينيين (26) ـ بحسب الإحصاء ـ (1 إلى 7)، (27)آخذة بالاتساع، والزيادة، باقترانها بالتقدم المعرفي، والتقليل من دور الخرافات، وبقايا أزمنة الهيمنة، وما تركته من آثار جينية عنيدة، بين الثابت والثابت الآخر، البديل: أن لا يمشي المنتصر إلا في جنازته، حسب المثل الصيني، بعد كان ـ هو ـ المشرف على إنشاء مدن الموتى ـ ومدافنهم. فالثابت/ المتحرك سيولد من الرحم ذاته الذي منح الصراع شرعيته، وتطبيقاته، بأشكالها المتنوعة من العنف، والجور، حد المحو...، وهو الذي سمح للمغتصبين، منذ البدء، أن يشكلوا مراكز القوة/القيادة، مما يجعل قراءة قصيدة (المجد للفأس) تفصح عن لغزها: ليس هدم البناء الهرمي/التراتبي، فحسب، بل هدم: الفردوس. وقلب مفهوم: اللا ـ عمل، (وقد تجاوز عدد من هم تحت خط الفقر أكثر من ملياري إنسان، فضلا ً عن المعطلين عن العمل، وعن ممارسة التفكير، وشروط الحياة الأساسية) لمنح الاختراع/الاستحداث، نظاما ً بالتنقيب عن العناصر الكامنة، هذا النسق سيسهم بقراءة لا تأتي كرد فعل (إزاء البلدان التي راحت تستورد الماء، بعد القوت اليومي، رغم توفر عناصر الإنتاج والأيدي العاملة) فحسب، بل فعلا ً لا يتأسس على التمويه، والوهم، (وهم القوة والحروب المستحدثة القائمة على ديمومة سلطة المغتصب، بالتسليات، والرفاهيات الزائفة، وبالشفافية بديلا ً عن الوقائع والإحصاء ) بل على (العقول) التي لديها الكثير الذي لم يكتشف بعد، رغم إنها مازالت لم تعلن عن أجنحتها المخبأة، الكامنة، ورغم إنها مازالت تدب داخل الأقفاص التي حملت عناوين: مدن الحداثة ـ ومدن الخراب بفعل وهم: الحضارات، لأن هذه (العقول) هي التي ستعمل على منح ما بعد (الفأس) حقيقة مجده؛ مجد العمل المحرر للعمل كنير، ومعاقبة، في إنشاء (جنات) غير افتراضية، وخيالية، وضمن عالم بلغت فيه (العدالة) ذروتها في العشوائية، والدغوماتية، والتطبيقات الجائرة: إن التفكير بالحياة ـ في عالم ثلث سكانه يرزحون تحت خط الفاقة ـ غدا حلما ً شبيها ً باستحالة وجود الفردوس إلا في الحلم، وفي كوابيس من هم في عداد المحتضرين، والموتى، مما يجعل هذه العقول إزاء عدالة لا وجود لها، إلا عبر استحداث تقنيات، واختراع برامج، تعدل، المسار الطويل لتاريخ الصراع، منذ كان جرى بين الآلهة، وصولا ً إلى تحوله إلى احتفالات يومية، للخسائر، والمندثرات.
     فهل أدت (الفأس) ـ بوصفها حدا ً بين الأعلى والأسفل ـ دور: الجسر...، أم دور الطريق...، ليس لأن الجسر يعمل بحياد مضاد للسلبية، وليس لأن الطريق/الدرب يذهب ابعد من مسافته حسب، بل لأن الطريق لا يتكون إلا بدعامات تمنحه دينامية تحتوي (الغوايات/ الرموز/ والانتظار) كي يصبح ماضيه معادا ً، رغم الاندثارات والزوالات والمحو. فالفأس ـ إذا ً ـ هي أقدم اعتراف لسلطة الأعلى ـ الآلهة ـ المجهول، وفي الوقت نفسه، ستمارس سلطتها تاريخيا ً فوق الأرض. على أن (العمل) من اجل (العمل) لم يصبح غاية في ذاته، أو علما ً يؤسس شرعيته بالهدم ـ والعبور إلى .... ، فحسب، بل مكث يعبد الدرب باحتفالات متنوعة ومتعددة لم تتح للعامل ـ المنتج ـ المبتكر، والمستحدث ـ إلا أن يمتثل للبرمجة ذاتها التي رسمت مشهدا ً شاملا ً للكون من غير البشر، من ثم للكون القائم على غايات محددة، أي سلطة (الآلهة)، كي تبدأ الفأس تعمل لذاتها، بوصفها أداة مضادة للاستلاب، والخمول. وإلا كيف احتمل البشر تاريخهم الطويل، وهو يعيد تقسيم البشر إلى مراكز تستعير سلطة الآلهة، ودورها، وأخرى تعمل بحدود ما يستلب منها، كي تتجاوزها، بتحويل عبوديتها إلى حريات لا تماثل صناعة الفردوس، مكافأة لها، بل للحد  من الحتميات (البيولوجية/ الاجتماعية/ المعرفية) وإعادة ترتيبها بتقليص ـ وليس بإلغاء ـ الفجوة بين المجهول الكامن في ذاته، وبين البشر وهم يكدون للخروج من واقعهم المحكوم بالاستلاب. لأن عدد السكان الأقل وعيا ً بمصائرهم ما انفكت زيادته (الحتمية) و (القدرية) لا تقود إلا إلى بزوغ سلطات تستمد شرعيتها من البرمجة الجمعية للهيمنة على مسارات التراكم ـ والاندثار...، وإن هذا (النمل البشري) الذي طالما ملأ عقل دستويفسكي قلقا ً، بل فزعا ً، لا يمتلك إلا أن يحطم أدوات عبوديته: تدمير مؤسساته، أي تدمير مصيره هو نفسه، بحثا ً عن تاريخ لم يدوّن بعد...، فالمجد (للفأس) القديم لم يخف حمل روح (التمرد) بإنشاء توازنات تمارس سلطة (الغواية) ذاتها ـ سلطة العصيان، الإثم، والخطيئة ـ  إزاء سلطة راسخة حد إنها تماثل الطريق/ الدرب، لا يتقدم، ولن يتقدم، إلا بما غدا نصا ً شرعيا ً، نصا ً جمعيا ً، لاستكمال برنامجه في الاكتشاف ـ الذي تم استحداثه/ وابتكاره، عبر كرنفال للديمومة، لكن بألوان ما انفكت تحول التراب إلى ذهب..، وهي عمليا ً تحول الذهب إلى تراب، والى غبار، والى: أثير.
   على أن الدرب/الطريق، الذي لم يترك إلا آليات عمله ، تعمل، ـ وهو ينبني على ضحاياه ـ  لم يتشبث بمجد (الفأس/ العمل) بل سيدوّن ظل أو شبح (الميتافيزيقا):  مستحدثا ً اللغة ـ التي هي في الأصل احد مستحدثات العمل ـ للإعلاء من شأن السلطة التي لا يعلى عليها، إنما كي تستلب المصير الجمعي ليس للفائض من الكد والجهد والعمل فحسب، بل تستولي عليه برمته ـ بحسب النشأة الأولى للبرمجة ـ تاركا ً للغة دورها تستثمرها النخب، للإعلاء من دور المراكز ليس بانتظار أناشيد  الزائلين/الفانين، من فيالق النمل البشري، بل لصالح السلطة التي راحت (تمتلك) و (تدير) العمل المستحدث، بالاستيلاء على القوى المنتجة برمتها، ومنها: مصدر ديمومة الحياة/ الأم، والعمل الذي أسهم بمنح التحول خاصية الانتقال من الكم إلى العلامات/ النوع، ولاختراع المزيد من الأشكال المبتكرة. إنها معادلة لم يغفلها اللاوعي الذي اخترع الفردوس، لدى السومريين، قبل تدوينها في التوراة، بألفي عام، وما يتعرض له (العادل المعاقب)، من حكم راح يفكك علاقته ما بين الأعلى ـ والأسفل، وفق نتائجه الجائرة، فهو تاريخ عبودي مكث الوعي (المرهف/التلقائي/ الحر) يحفر في مخفياته، وعلله الكامنة، والغوص في محركاته غير المرئية، حيث وجد أن (الفأس) تؤدي دورها ليس في (الحرث/ الإنتاج الزراعي باكتشاف المعادن، وصهرها، والتحكم بتقنياتها حسب الحاجات)، أو في الأعمار، ودخول الفكر المعماري في صلب التحول من العصر البري إلى زمن المدن فحسب، بل في تهديد (السلطة) ذاتها التي منحته هذا المجد. فالمخفي داخل القصيدة سيترك ممرات ـ خارج الدرب ـ لإعادة شرعية القراءة: لديمومة اختراع كل ما كان ـ هو ـ سابق على الاكتشاف، وطي المجهول، ولكن لن يكون له معنى، إلا بحدود الوعي المتجدد، وعبر التمسك بكل ما يقوض أبدية غياب العدالة. إنما هل لسلطة السماء، أم لسلطة الأرض، يبقى انشغالا ً شبيها ً بإعادة قراءة دور المصادفات ـ وبدور اللا متوقع، بعيدا ً عن العالم الذي يتصالح فيه الذئب مع الحمل، وبعيدا ً عن الإنسان الذي  لا يصاب بالشيخوخة، والهرم، والموت، وبعيدا ً عن أي خلود يتقاطع مع ديالكتيك: "الكون/الطبيعة/الإنسان"، لصالح القوانين التي توازن بين الخسران ـ والربح، ولصالح السلطة التي لا تنتج فائضا ً يقوضها، بل للعمل وقد غدا هو ذاته يماثل سكان المدن الفاضلة، والجنات: لا يتمتعون بالخمول المطلق،  فحسب، بل بلذّات لم تخطر على بال احد، تكريما ً مشفرا ً لهدم (المصنع) ـ ابتداء بإزاحة الآلهة الأم ووصولا ً إلى تقيد عمل العامل وقد فقد مصيره، بل على خلاف (الميتافيزيقا) الكامنة في اللغة، كي تصبح التقنيات ذاتها ستراتيجية كل من أصبح (مدفنا ً)، وليس علامة لحياة يصنعها الفأس ـ الإنسان الشغيل، حيث الفأس تمتلك أن تصنع وعيا ً متجددا ً للمنتجين، وقد دفنت عميقا ً داخل تصوّرات كادت تمتلك سلطة (الآلهة)، لولا  أن لغزا ً (ما) مشفرا ً سيعمل على تقويض اللغة(الميتافيزيقية)، وتمويهاتها، وخداعها،  ذاتها، كي يمضي المسار (الأعمق من ماضيه)، نحو: المسار الأبعد من غده ـ أو مستقبله، من غير تعسف قائم على الحيل، واللعب، والخداع، أو من اجل ديمومة احتفالات لا تنتج إلا كل ما هو في طريقه إلى الزوال ـ والى المجهول.

 

* فصل من كتاب بعنوان [هل انتهى عصر الأم؟ ـ  من الاقتصاد البري إلى عصر صناعة الجثث]

المصادر
1 ـ إنها الخاتمة المنطقية، للرد على أسئلة تكمن إجابتها داخل أسئلة لم تسأل بعد. فجلجامش حصل على وردة الخلود، ولكنه ـ كما في سياق الأسطورة ـ لم يمسك إلا بظلها، وإلا لماذا أهملها، وراح يستحم بماء النبع، بعد رحلته الشاقة، وقد ترك الأفعى تسرقها...؟ فجلجامش الذي أصغى إلى سيدوري ـ صاحبة الحانة ـ تقول له:
[إلى أين تسعى يا جلجامش
إن الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة العظام البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة
أما أنت يا جلجامش فليكن كرشك مملوءا على الدوام
وكن فرحا ً مبتهجا ً مساء ً
وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وارقص والعب مساء  نهار
واجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل راسك واستحم في الماء
ودلل الصغير الذي يمسك بيدك
وافرح الزوجة التي بين أحضانك
وهذا هو نصيب البشرية]
لكن جلجامش لم يغو بكلماتها، لأنه كان يحدق في اللا مرئي ـ الذي ليس هو الخلود حسب ـ بل   هو  العثور على معادل بين الأسئلة المستحيلة، وما يوازيها من إجابات لا تمتلك الحقيقة كاملة، لكنها تخطو نحوها.  طه باقر [ ملحمة جلجامش] منشورات وزارة الإعلام ـ بغداد 1975 ص117 وما بعدها
2 ـ وهنا سترتبط التصورات بالأدوات، فمع كل اختراع ـ اكتشاف ـ لن تفقد ديمومة الحياة ذهابها ابعد من المتوقع. فالآلهة (إنانا) ـ رمز الحرب/السلام، ورمز: الموت/الحب، تعني بالسومرية: الحياة. ولأن تعريف الحياة وحده يتجدد، فان الثابت فيها، يتقاطع مع الأبدي ـ والخالد.
3 ـ وهنا تبدو (الحرية) أقدم قناع استخدم للتمويه، ليس لصالح الآلهة، بل لمن أسس معماره، لصالحه، عبر تصادمات المراكز، وانتصار من يمسك بالثالوث(القوة/الثروات/التمويهات) وهو ذاته سيقاوم كل من عمل على دحضه، ولكن هل إلى الأبد؟ يقول توفلر: " إن الشركات والمجتمع بكامله، سيجابهان عما قريب أسئلة جديدة ومخيفة، حول المعرفة الحسنة والمعرفة السيئة، التي يكمن وراءها القول، بان المعرفة هي القدرة، ولن تكون المشكلة أبدا ً هنا في هذه الحقيقة البيكونية التي ترى إن المعرفة قوة، بل في هذه الحقيقة العليا التي تتمثل في الاقتصاد الفائق الرمزية والتي ترى إن المعرفة "عن" المعرفة هي صاحبة الارجحية" ألفين توفلر [تحول السلطة ـ المعرفة والثروة والعنف في بداية القرن الواحد والعشرين] منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1991 ص254
4 ـ طه باقر [مقدمة في أدب العراق القديم] جامعة بغداد ـ 1976 ص 85
5 ـ د. فاضل عبد الواحد علي [ من ألواح سومر إلى التوراة] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ1989 ص247
6 ـ المصدر نفسه ـ ص248
7 ـ المصدر نفسه ـ ص305
8 ـ طه باقر، مقدمة في أدب العراق القديم، مصدر سابق ص85
9 ـ جان بوتيرو [بلاد الرافدين ـ الكتابة ـ العقل ـ الآلهة] ترجمة: الأب ألبير أبونا. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ 1990ص 271
10 ـ [بلاد الرافدين ـ الكتابة ـ العقل ـ الآلهة] مصدر سابق ص 270
11 ـ لكن الغريب إن المخلوقات الستة التي قرر انكي مصيرها لم تتضح عدا الاثنين الأخيرين منهم وهما (المرأة العاقر) و (الرجل ألخصي)، وقد وبخت (ننماخ) (انكي) لخلقه هذا المخلوق المريض الفاقد الوعي. كريمر [الأساطير السومرية] جمعية المترجمين العراقيين ـ بغداد 1971 ص 115 وما بعدها. ويمكن تذكر كلمات "فرويد" وهو يتحدث بحزن عن كون الإنسان لم يخلق كي يبني حضارة، أو يصلح لإنشائها..
12 ـ س.ن. كريمر [هنا بدأ التاريخ ـ حول الأصالة في حضارة وادي الرافدين] ترجمة: ناجية ألمراني. وزارة الثقافة والإعلام ـ الموسوعة الصغيرة العدد 77، فصل "أول تقويم زراعي في العالم" ص56 وما بعدها.
13 ـ كريمر [الأساطير السومرية] مصدر سابق، ص80 وما بعدها
14 ـ رينيه لا بات [المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين] تعريب: الأب ألبير أبونا. جامعة بغداد ـ 1988 ص416
15 ـ المصدر نفسه، ص413
16 ـ المصدر نفسه، ص417
17 ـ المصدر نفسه، ص402
18 ـ [من ألواح سومر إلى التوراة] مصدر سابق، ص375
19 ـ امارتيا صن [التنمية حرية] ترجمة: شوقي جلال. عالم المعرفة ـ الكويت ـ 2004 ص25
20 ـ  يلفت جورج كونتينو النظر، في كتابه [الحياة اليومية في بلاد بابل وأشور] إلى وجود جمعيات للعبادة السرية، فيتساءل: " هل كانت جمعيات العبادة السرية موجودة في بابل وأشور كما كانت موجودة في أماكن أخرى بصفة عامة كاليونان مثلا ً؟ لقد احكم كتمان السر ومع ذلك فان هناك أساسا ً للتفكير والقول بان مثل هذه الجمعيات كانت موجودة. فقد ورد في القصيدة المشهورة والمعروفة باسم (المعذب الصالح) كيف زكى الإله مردوخ هذا الرجل الذي وصفت القصيدة محنته، والذي سبق أن نزل إلى القبر، ولكنه عاد إلى الحياة في بابل، وفي أثناء عودته كان يمر عند كل باب بتجربة مباشرة من النعيم الذي يوحي به اسم الباب، مثل ـ باب الكوثر، وباب الصالحين، وباب السلام، وباب الحياة ـ وباب الشمس ـ وباب الوحي، وباب كنس اللعنات، وباب البحث عن الغم، وباب انتهاء الفواجع، وباب التطهر. وبعد هذه التجارب سمح له بالمثول في حضرة الإله مردوخ وكانت هناك قريته ـ ساربانيت ـ والتي يعبدها، فقدم بين يديها تضرعه" ترجمة:  سليم التكريتي وبرهان عبد التكريتي. دار الرشيد والنشر ـ بغداد ـ 1979 ص364
21 ـ قال ماركس: تتحول إلى أثير.
22 ـ كان فلاسفة بابل، في عصر أفولها، تحدثوا عن العدم، فقالوا: ليس الوجود إلا هذا العدم الممتد. وكانوا ـ بعد اكتشافهم للصفر، كقوة كامنة شبيه بالعدم ـ قد وجدوا نقضا ً أو إضافة من لدن عدد من فلاسفة الهنود من سكان بابل وذلك بالدور الذي يقوم به العدد إن كان قبل الصفر أو بعده. مما يؤكد استحالة وجود (العدم) إلا بوصفه جزءا ً لا يتجزأ من كلية الوجود.
23 ـ د. إبراهيم الحيدري " عولمة الثقافة وثقافة التصنيع" الحوار المتمدن: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=511362

24 ـ  ظهر كتاب توفلر "صدمة المستقبل" في سبعينيات القرن الماضي، وتبعه بكتاب " الموجة الثالثة) وبكتب أخرى منها: تحولات السلطة، وخرائط المستقبل ...، منظرا ً لعصر العولمة، والإسهام بدفن العالم القديم، إلا إننا ـ بعد أكثر من نصف قرن ـ  (وكما ذكر توفلر نفسه، في كتابه "خرائط المستقبل ـ 1980) بقوله:" في هذه الساعة التي نتكلم فيها يكون مستوى البطالة في العالم الرأسمالي أكثر ارتفاعا ً مما كان عليه في أي وقت مضى من الأزمة الكبرى في سنوات الثلاثينات. فالنظام المصرفي يلهث إعياء وهو على وشك الانحلال. وأفكار اقتصادنا تبدو من ساعة إلى أخرى أكثر تباعدا ً عن الواقع: "خرائط المستقبل"منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ 1987 ص7
25 ـ اخترع السومريون، منذ عصر فجر السلالات الثالث (في حدود 2450 ق.م)عالما ًتعويضيا ً عن العقاب، ففي الفردوس:
[ في بلاد دلمون لا ينعق الغراب
والطائر كيتي لا يطلق الصراخ هنا كعادته
والأسد لا يفترس أحدا ً
والذئب لا يختطف الحمل
ولا يعرف (هنا) الكلب مفترس الجداء
ولا الخنزير ملتهم الحنطة
والذي فيه وجع في العين لا يقول:" عيني توجعني"
والرجل المسن لا يقول:" أنا رجل مسن"]
د.فاضل عبد الواحد علي "من ألواح سومر إلى التوراة" مصدر مذكور، المبحث الثاني: جنة عدن والفردوس المفقود، ص255 وما بعدها.على إن أقدم تمويه غامض للخمول، أو لنبذ العمل، وللسعادة المطلقة، يجعل الفردوس خارج التصور، مما يستدعي قراءة ترد على سؤالنا: إذا كانت الآلهة قد خلقت الإنسان للعمل، من اجلها، ثم عاقبته بطرده من الفردوس لعصيانه، أو لارتكابه الخطيئة، فأي تبرير جعلها غاية بديلة بعد عصور الظلم ـ والجور؟
26 ـ لماذا ارتفع عدد الأميركيين الذين لا يؤمنون بوجود الله؟ تكشف التقرير عن اراء متعددة منها: إن " الأديان كلها سواء: قامت على الخرافات والأساطير". هذه العبارة كانت مكتوبة على لافتة وضعتها مجموعة تروج للأفكار الإلحادية جنبا إلى جنب مع لافتات أخرى مسيحية تتناول قصة المسيح على شاطئ مدينة سانت مونيكا بولاية كاليفورنيا.

وقد دفعت السخرية من المسيح وسانتا كلوز في أميركا منظمات مسيحية للتقدم بشكوى أمام القضاء في ولاية كاليفورنيا.

الأمر ذاته تكرر في ولاية تكساس، حيث رفع عدد من طلاب وأولياء أمور مدرسة كونتزي دعوى قضائية ضد قرار المدرسة حظر الشعارات الدينية في مباريات كرة القدم بعد أن اشتكت مجموعة إلحادية من"خرق" حرية التعبير.

هاتان الحادثتان وغيرهما من الحوادث تلقي الضوء على فئة من الأميركيين ممن لا ينتمون لطائفة دينية وهم الملحدون: لا يؤمنون بوجود الله. واللأأدريون: يقولون إنه ليس هناك سبيل لمعرفة وجود الله من عدمه. وغير منتمين لدين محدد: لا يتبعون دينا محددا. وقد  ارتفع عددهم جميعا بشكل هائل حسب دراسة لمركز بيو للأبحاث، وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة مازالت أكثر الدول الغربية تدينا. انظر: http://www.alhurra.com/content/reasons-rise-religiously-unaffiliated-usa/215442.html
27 ـ حول عدد الدينات والمعتقدات في العالم، اشار التقرير التالي الى: "
فى آخر تعديل ، فى 6 سيتمبر عام 2002 ، حددت قاعدة البيانات Adherents.com ، الأديان والعقائد الرئيسية فى العالم ، بأنها تلك التى لايقل عدد المؤمنين بها عن 150 الف ، وتكون ديانة مستقلة ، ووفقا لهذا التعريف ظهرت 22 ديانة رئيسية ، تم ترتيبها وفقا لعدد التابعين لها كالتالى على الترتيب : فى المرتبة الأولى جاءت المسيحية ( 2 بليون تابع ) ، ثم الإسلام (1.3 بليون ) ، وفى الترتيب الثالث ظهرت الهندوسية ( 900 مليون ) وهى ديانة يعتنقها أهل الهند، وقد تشكلت عبر مسيرة طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى وقتنا الحاضر، وفى المرتبة الرابعة ظهرت مجموعة تتضمن فئات العلمانية وبلا ديانة ولا يدرون والملحدونecular/Nonreligious/Agnostic/Atheist) وهم (850 مليون )، ثم البوذية (360 مليون) ، وهي ديانة ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية في القرن الخامس قبل الميلاد ، وفى المرتبة السادسة جاء الدين التقليدي الصيني (225 مليون) ، مثل الكونفوشيوسية وغيرها ، ثم مجموعة أديان محلية بدائية (150 مليون) فى المرتبة السابعة، وفى الترتيب الثامن كانت الأديان التقليدية الأفريقية ودياسبوريك Diasporic (95 مليون) ، وظهرت ديانة السيخية في الترتيب التاسع ، حيث بلغ عدد تابيعها ( 23 مليون ) وهى مجموعة دينية من الهنود ، الذين ظهروا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي داعين إلى دين جديد فيه شيء من الديانتين الإِسلامية والهندوسية تحت شعار (لا هندوس ولا مسلمون) ، وفى الترتيب العاشر كانت ديانة جوتش Juche ( 19 مليون تابع )، وهى العقيدة المصدّقة الوحيدة من حكومة كوريا الشمالية، وتعتمد على اللغة الكورية، وبعض الكتّاب يصنّفون الجوتش كشكل كوري شمالي من الشيوعية الماركسية . أما الترتيب الحادى عشر احتلته الأرواحية Spiritism (14مليون) ، وتدَّعي استحضار أرواح الموتى بأساليب علمية ظهرت في بداية هذه القرن في أمريكا . واحتلت اليهودية (14 مليون) الترتيب الثانى عشر ، وفى الترتيب الثالث عشر ظهرت البهائية ، التى بلغ عدد تابعيها (6 مليون) ، 98 % منهم أتباع بابي والمذهب البهائي ، ويعودان إلى نفس الكنيسة أو الطائفة بمقرها في حيفا، إسرائيل ، وجاءت اليانية Jainism( 4 مليون ) فى المرتبة الرابعة عشر، وأحيانا تنطق الجانييه وهى ديانة منشقة من الهندوسية ، هذا الدين تقريبا ينحصر كليّا في الهند ، وفى الترتيب الخامس عشر ظهرت ديانة الشنتو Shinto (4مليون) وهى ديانة اهلية فى اليابان ، فحوالي 75 إلى 90 % من السكان فى اليابان يؤمنون بها، والمرتبة السادسة عشر أحتلتها ديانة كاو دي Cao Dai( 3 مليون) وهى حركة فيتنامية ، ثم جاءت ديانة تينريكيو Tenrikyo (2.4مليون ) فى الترتيب السابع عشر ، وهى أكثر المجالس الدينية النشيطة في اليابان المعاصرة. وله أنصار في جميع أنحاء العالم خارج اليابان، مثل الولايات المتّحدة (خصوصا هاواي)، كوريا الجنوبية، البرازيل، وتايوان، وفى الترتيب الثامن عشر ظهرت الوثنية الجديدة Neo-Paganism (مليون تابع فقط) ، وهى مصطلح عام للعديد من الأديان المتباينة التي تؤمن بالسحر والأساطير ، وفى الترتيب التاسع عشر كانت فئة الموحدون وخلاصيين (طائفة مسيحية) Unitarian-Universalism (800 ألف )، وجاءت ديانة راستافاريانيسم Rastafarianism

(700 ألف ) في المرتبة العشرون ، وهى طائفة دينية فى جاميكا وبعض الدول الأفريقية ، وفى الترتيب الحادي والعشرون جاءت العلموية Scientology (600 ألف ) وهى كنيسة مسيحية منتشرة فى 129 بلد ، وأخيرا في الترتيب الثاني والعشرون كانت الزرادشتية Zoroastrianism (150 ألف) ، وهو الدين الذي كان منتشرا في إيران ( الفرس) قبل الإسلام ، ومازال موجودا في بعض المناطق القليلة جدا والمعزولة هناك وانتقل مع المهاجرين إلى الهند .
 وفي تقرير اخر: " فبالنسبة لأعظم الأديان انتشاراً أتى ترتيب أعظم عشرة على النحو التالي:
المسيحية على مختلف مذاهبها ( 2بليون نسمة)ثم الإسلام ( 1.3بليون نسمة) ثم الهندوسية ( 900مليون)ثم غير المؤمنين بأي دين (ويشكلون 850مليوناً من شعوب الأرض)ثم البوذية في المركز الخامس ( 360مليون نسمة)ثم متبعو المذاهب القومية حول العالم ( 228مليون نسمة)ثم الأديان الوثنية الافريقية ( 95مليون نسمة)ثم السيخ في الهند ( 23مليوناً) ثم اليهودية ( 19مليون نسمة).. مواقع: http://assarouf.assoc.co/t428-topic

29/4/2016
Az4445363@gmail.com



رافق الموت إلى أن سلمت الأمانة لصاحبها ( القدر) ...- نبراس هاشم

رافق الموت إلى أن سلمت الأمانة لصاحبها ( القدر) ...



 نبراس هاشم
هكذا بدأت رحلتي مع الموت، كائن - كان- حي، رافقته وعاصرت حياته بلونها الوردي، وحتى ألعدمي، لم استغرب النهايات، إنها الشيء الوحيد الذي لم يجد الإنسان فرصة للهروب منها لكني استغربت من نفسي لأني كنت المرافق المودع الأخير له . عجيبة تلك الرحلة الميمونة، وأنا بين دموع ذكريات الطفولة وأحلام الصبا وحكايات الشباب، آه كم حملت من معاني وحكم؟ ولأنه رجل حكيم، تعلمت منه الصبر، والصمت أحيانا، كذلك الرفقة الحلوة ...الآن، اجلس وحدي، منكسرة مثل ظل شجرة، مرسومة بألوان مائية خشنة، استغرب من خطى الموت المتسارعة، كأنه يستعجل التحاف التراب، وتطويقي بثياب الحداد، تعبت من الحداد يا حبة القلب، آه من القدر يأخذ ما يريده بكل سهولة، ونحن نتصارع على حفنة تفاهات. خرجت من المستشفى أردة الروح، واجلس في حديقتها الخارجية، أخاطب روحه، أقول له: " اطمئن أنا معك، فكل من حولك غريب إلا أناك، ناديتني وأنت في الغيبوبة الأخيرة، وكأنك تقول، احتاجك في غيبوبتي لأتذكر نهاراتي". يا أيها الوطن العميق، وداعك لم يكن سريعا في أخر رحلة لمقبرة -الغزالي- سرنا معا، أنا وأنت ، في دروب كانت تحتضنك في الشباب والنضالات المسلوبة والطويلة، للتأريخ من فوضى وألم، تاريخ فرضت وجودك عليه، أنت، يا أنت، أنت لم تمت، فقط، ودعت دروب الذكريات والإخفاقات والخيبات والخذلان، ما أقسى الخذلان؟ حتى القدر المريب القابل للصدفة، اختار لك هذه النهاية ، لسلام روحك وسط أُلناس يحبوك، لأنك دائماً كنت محباً للآخرين، سائراً في دروب المحلات العتيقة، وكأنك تسمع جريك في ملاحقات العراك السياسي قديماً ،الكل كان سياسي، إلا أنت، فقد كنت (نزيها)، وما بين القوسين ما بين .. عجيبٌ أنت أيها الوطن -القهر- فيك كل شيء مستلب، وتستمر؟ يا صحبي، قد حط سرب الأحزان في مرقد سيدي أبو صالح، عبد القادر الجيلاني، وسلمته، أقصد، سلمتك أيها الجسد الحنين إلى آخر قطرات الماء في حياتنا المادية، ونادتني باحات المرقد لأزورها، واستنشق عطور الأدعية، أدعية المعوزين والفقراء والدراويش، وسط مجاميع من الهنود الزائرين، كل شيء نظيف ابيض مثل قلبك -هل الموت ابيض كما يراه البعض في أفريقيا؟- أخذت رزمة من السجدات، صلاة الظهر تؤذن، حي على الحزن، تخرجُ ملفوفا بالملايات البيضاء، نقية فضفاضة كانت، مثل قلبك، يتسع للجميع دون فضل، سوى الابتسام.. أردد في داخلي: "عمو لا تخاف، ها أنا ذَا معك، مرافقتك حتى آخر حزن" .. شجرة تظلل روحك المعذبة، فوق لحدك الصغير،الحياة أخذت من جسدك الكبير كثيراً! ها أنت تلوح لي بيدك من بعيد، لأنك نزلت دون اختيار إلى سرٍ في الأرض، دلّنا عليه غرابٌ، أراد أن يخبأ جريمتنا الأولى، عندما قتل الإنسان الإنسان، إنني استنشق هواء الربيع، وبقايا عطر المطر، الذي نزل على روحك ليلاً، وأبنتك تحتضن ذاتها، حزنها، وحدتها، لأنها صارت بلا حبيب، أيها الحبيب... وداعا إلى الأبد.
وداعاً . . . . .


الأحد، 1 مايو 2016

أختام*-عادل كامل





















أختام*


عادل كامل
[10] البيت ـ المدينة ـ المدافن


     مهما بدت لي الفضاءات بلا حافات، فانا لم استبعد قدرتي على الحلم، إلا تحت سقف محاط بالجدران، وثمة باب، ونوافذ، وبالجوار، علب وصناديق ومدافن يسكنها شركائي في المشي خلف من سبقهم في المشي، في المصير: من نبات، وبشر، وحيوان، وأشياء، وأسلحة، ودخان، وما لا يحصى من الإشعاعات التي خلفتها الحروب، ومصادر التلوث الأخرى. إن المغارة التي سكنها أسلافي، كالأهرامات في مصر، وكالزقورات في سومر، كانت تتضمن مبادئ واحدة: الحماية.
     لكنني اكتشف، كلما تقدم العمر في ّ، أنني  عار ٍ، ومعزول، ومحاصر بانتهاكات تبدأ بالهواء، والضوء، والضوضاء، والمداهمات، والشكوك، والتصادمات، مما يجعل الغايات ـ مهما بدت رصينة ـ مجاورة لعدمها. فانا رأيت ملاين الذين ذهبوا، كما رحلت مليارات الكائنات، لم يخلفوا سوى غبار لم تعد الريح ـ ولا مياه المحيطات ـ على دفنه. أنني محاصر بذرات لا مرئية تكّونت وتراكمت وجعلت المأوى، والسكن، والزقاق، والمدينة، والقارة، والأرض، مكانا ً لا يصلح حتى للموت!
     إنها ليست استغاثة رمزية، مشفرة، بل لأن الإنسان الأول الذي صنع (ختمه) الشبيه بمنحوتات جايكوماتي أو لوحات روفائيل أو رسومات غويا أو منحوتات منعم فرات، كانوا يمتلكون رهافة ـ أحاسيس ـ بالغة الرقة. إنها ليست رخوة أو سلبية، أو علامة وهن، أو شرود مرضي، بل كانت دعوى للإبقاء على توازنات استثنائية بين العدم ـ وبقاءها، وبين تجددها.
     تلك التي سكنت الختم، مازالت تفصح عن لا وعي الصانع النائي: كضرب من محاولات الطيران خارج دخان وضوضاء وأسواق ومعسكرات وحروب وأشلاء وخرائب عالمنا. إدامة جبروت اقل الكيانات مشاهدة: القلب!
     بهذا الهاجس كانت النافذة، الباب، الزقاق، الجدران، ونماذجي البشرية، محاولة لترميم الحلم وقد غدا يأخذ طريقه إلى الخفاء. إن التأويل، لا يفضي إلى مساومة، لكني لست بحاجة إلى آخر ـ ضمن مكان وزمان وتاريخ وملغزات ـ لا تعمل إلا على انتزاع ما غدا خارج سلطتي: الحلم.  فانا تركت حريتي تعمل كي لا أجد من يعمل على انتزاعها مني. هل أنا في عالم لا يستحق الدفن، كي لا أصوّر هذه الأبعاد في أشكال مستمدة من الزقاق/ ومن نسوة تحولن إلى نباتات، ومخلوقات أخرى إلى فطريات، ومن أحلام لا وجود لها إلا عبر رصد الفراغات، للذهاب بحثا ً عن بقع تسكن المجهول: هذه الوجوه الخالية إلا من موتها، جرجرتني إليها، كي أجد نفسي، مثلها، لا اسمح لأصابعي إلا بأقل الحركات: الحفر فوق خامات اعتني بمنحها حياتها النائية. فانا ـ مثلها ـ اجهل لماذا لا استطيع أن اكف عن النظر، والشم، والإصغاء، إلى عالم فرغّ حتى من مرور زواله، في ما يسمى تصوّرات، وحضارة.
     أليس الختم ـ بمعنى الفن ـ ذريعة لرؤية لم ابلغ ذروتها إلا وأنا أدشن مقدماتها: الباب، ووجه صديق دفن في الرمال، والهة ركنت في المتحف، ومقدسات لا توجد إلا في الكتب، ونداءات حيوات تحتضر قبل ولادتها، وغوايات احكم صنعها، كي أجد أن ما تبقى لديّ، من الوهم أو من الأمل ينسج منديله، أو كفنه، من حولي، كأني في عيد، أو في جنازة، وأنا أتأمل حبيبات الزمن، شاردة هي الأخرى، حيث أجد من يخفيني، في أختامي، كي أعيد دورة البذرة: دورة البراءة وقد كونتها مراراتها، وقسوتها. حتى تكاد أن تكون شبيهة بمصير أيوب أو العادل المعاقب في سومر، لكن قبل خمسة آلاف عام، فهل أنا هو الختم، أم الختم ذاته غدا يحمل علامة هذا الذي كونته العناصر ذاتها، التي كونت صانعي أسلحة الموت، وناسجي خطابات أمراء الحروب، وتجار الأسواق، وغاسلي الأموال، ومهندسي سجوننا، ومشيدي جدرانها، وصانعي مفاتيحها، بدءا ً من غرفتي إلى نيويورك، ولندن، وطوكيو، وباقي الأختام الزاخرة بلغز كثافتها المعدة للزوال، أم علي ّ أن لا أعود للبحث على عصا تدلني على آخر امشي خلف ظله فحسب، بل أن لا ادع أيا ً كان أن يتتبع ظلي، ويمشي خلف غبار عويل مصمّت، تتشتت فيه رقصات ذعر، وابتسامات موجزة، لقلب لم يفقد أجنحته، أو لأصابع مازالت مشفرة بذكرى الطيران.  أين هو من لا وجود له كي اغويه بلحظة الصفر: أن أقول له بروحي أن لا يدع الصمت يوحدنا، كما وحدتنا البغضاء، بأختام أصابع كنا منحناها هذا الضياء، بل الشروع بسفر كانت خاتمته، قد شيعته، قبل أن تتكون مقدماته، وقبل أن احتفل بصناعة أختامي في نهاية المطاف!
[11] موت الفن ام رؤيته مدمرا ً؟
     اذا كان (هيغل) قد لمّح، في كتابة (فلسفة الحق)،  إلى إشكالية تحول الروحي إلى تاريخ، وتحول طقوس العبادة إلى وظيفة، واللامادي إلى (سلعة)، معلنا ً عن موت: الفن، فان التقنيات، وهي تتوغل بالكشف عن عوالم ـ وأبعاد ـ بدت، لزمن قريب، ضربا ً من اليوتوبيا، فان تراكمات المعرفة، والعلمية منها تحديدا ً، لا في دحض الفلسفات، والثوابت، بل في اكتشاف مستحدثات تكاد تغادر مقدماتها. فإننا ـ  وقد كتب (توفلر) كتابة (صدمة المستقبل) في سبعينيات القرن الماضي ـ في كل ثانية، نلحظ مشهدا ً، وعالما ً، لم يكن وجوده قائما ً حتى في المخيال.
     يا له من أسى يدب بصمت ـ لكن بعناد ـ نحو الداخل؛ في الخلايا كما في نبضات القلب، وومضاته، ويسكن بجوار طاقة الحياة، وبرنامجها الذي لن ـ ولم ـ يسمح بدحضه أو التخلي عنه. فكنت اسأل نفسي ـ وهو عمل آلي للدماغ في اشتغالاته الملغزة ـ اذا ما كنت لا اصنع إلا علامات تفصلني عن جسدي، وعن مدينتي، وعن من أحب، فلِم َـ كالنمل البشري ـ لم ْ انحز إلى رؤية جمعية لا افسد فيها سكينتي؟ هل ثمة إيذاء شفاف استبدلته كمعاقبة للأخر نحو النفس، مما جعلني أبدو بنظر أكثر زملائي (مذعورا ً/ وخائفا ً) ـ وهم في الغالب يتسترون على خفايا طالما جعلتني ازداد فرحا ً بالعزلة، وليس هذا الذي يجهل لماذا مكث يشاركهم عفن أهدافهم المحملة بنوايا الصياد وقسوته؟ لم يكن الانشغال خارج المتاجرة بالفن، ولعا ً ذاتيا ً، أو أخلاقيا ً فحسب، بل توقا ً للحفر في هذا الذي ـ كلما توغلت فيه ـ لا أراه إلا مجهولا ً، أو لا وجود له. إن نموذجا ً كـ (ق ـ س)، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، أسهم بحرف الفن العراقي ـ وتلك كانت كلمات إسماعيل فتاح ومحمد محمد مهر الدين ود.علاء بشير ومحمد غني حكمت ـ ودفعه نحو نهايته، عبر تسريبـ وخلع، وتهريب أفضل أعمال روادنا، جعلني ازداد عنادا ً بعدم الخوض في نزاع محبط النتائج. فانا لم أفق من تحول الفن إلى سلعة، بالمعنى ألتدميري، إلا بعد أن سلبني ـ هو إلى جانب زملاء آخرين ـ خلاصة جيل الرواد، ووضعني عند حافة الخراب. صحيح انه شيّد سكنا ً بشطارته التجارية، لكنه لم يفلح بسلب ذلك الذي تأسست عليه أعظم الأرواح براءة. ذكرت هذا المثال في سياق انحسار مساحة الفن، بعد هجرة مئات الفنانين، وتخلي الآخرين عن المشاركة في احتفالات الأقنعة، والمكاسب المحكومة بالنسيان، والتندر، لان لغز أختام سومر وأكد، ومن قبلها الدمى والقلائد ورسومات المغارات، مكثت ـ في عالم موت الفن وموت الإنسان ـ خارج عمل السوق، وخارج وهم حريات التجارة، وسلطة البنوك، والشركات عابرة الروح ـ وليس عابرة القارات ـ عندما يكون الفنان قد حسب للدورات عملها، وعودتها، حلقة في سلسلة مترابطة، مع جذورها.  فمن يتذكر تبرع ببيع رموز عرف كيف يحولها إلى (دراهم/ أو دولارات)، ويدرب الآخرين، على استنساخ تجارب أجنبية، من اجل الربح! لكن تجربة فائق حسن ـ وان هربوا الكثير من روائعه ـ لن تزول من الذاكرة، لأنها ببساطة ستستعاد طالما يستعيد الفنان بصره، وأصابعه، وقلبه، بدل أن يخضع لمغريات الربح، والتجارة.
    هل ستكون أختامي محض إجابات لأسئلة خارج منطق شراسة السوق...؟ وماذا افعل بها، وهي تتراكم، وأنا لم اعد بحاجة إلى لص يسرقني، أو يساومني عليها، سوى أن أتمسك بإجابة خالصة: ليس لدي الوقت، ولا الرغبة، لمعرفة من هذا الذي لا وجود له، وقد سكنني، وصرت أجد نفسي أتكّون، في كل ختم، تاركا ً مسافة اللاحافات، والدنيا، وأنا أغلق باب داري، كي لا ادفن في الأرض التي أنا فيها، أشلاء عناصر لكائنات ذات مخالب، وأنياب، ولدغات، ووشايات، حد خساسة الواشي، والمنتمي إلى زمر مصاصي الدماء ... سوى أن أحول (ختمي) إلى ذات الحجارة التي كانت توضع فوق قلب الميت، الذي كف أن يكون صيادا ً، أو ضحية.  حجارة تتوحد بمصير مازال الرهان عليه قائما ً، لان الميت ـ في مصائر الذين سيموتون ـ يمتد عبر علاماتهم: عبر دورات مهمتها إدامة: التداول، ومنح الاستهلاك غوايته الأبدية!
[12] المكان ـ المخفي مرئيا ً
     ما ـ هو ـ المكان، قبل أن أتعثر في تحديد ما اذا كان هو: الرحم، أم هو الزمن متجمدا ً، لبرهة، أم هو حدود المساحة، المجاورة لمساحة، في إطار: لا حافات له، أم ـ هو ـ: نفيه؟  لأن المكان، في الأصل، اشترط النسبية في القياس، أم ـ هو ـ: القبر، أم هو: موضع الاختفاء، التواري، التستر، كي يغدو حصنا ً، (قلعة)، متحفا ً، جمجمة، كهفا ً، أم شيئا ً شبيها ً بالقاصة: للتراكم، والحفظ، ورمزا ً لديمومة الشغل، ومنح الغد قدرة الامتداد بماضيه، والانفصال عنه في حدود استحالة بتر السلسلة أو قطعها..؟
     الختم ـ منذ كان للمكان هويته، بيولوجيا ً، أو مكانا ً مختارا ً، أو مستحدثا ًـ أداة عمل ـ وثمرته. فهو يتضمن الخاتمة بمقدماتها. فهو شبيه بالحرف، لغة، وهو علاقة تتضمن مشفراتها، ببوح مكتوم، غير معلن، إلا الذي يصعب نطقه، أو ـ هو ـ إعلانه، كي يمارس ديمومة النموذج بديمومة صانعه.
     فانا ـ منذ راحت أصابعي تلهو ـ وبعد عقود، لا أجد تعريفا ً للختم، لا يتضمن إضافة، حد الدحض.
     ففي عالم تتسع المسافات فيه بين المقدمة ـ في العلم أو في الجريمة أو في الثراء ـ وبين من مازال يفتقد شروط حياة سكان المغارات، بين من غادر (الحرية) وبين من يجهلها، بين استحالة أن يفكر، وبين من وثب خارج آليات التفكير، بين الصفر ـ في التكرار ـ وبين الباحث عن الجوهر، ليس فلسفيا ً، أو نظريا ً أو علميا ً فحسب، بل بالتخلي عن المسلمات: أدوات الاتصال، وعاداتها، ومثنوية التضاد، نحو أبعاد ـ ربما ـ تسمح لعر ما بعد: عصر الختم/ الهوية/ العنف/ وهو عصر المجهريات ذاته الذي يرجع إلى مخلوقات السواحل بعد أن تكونت شروطها: شروط المكان ـ فيما سيبقى لغز الزمن ـ خارج حدود أدوات التعريف.
     الختم المعاصر، عمل، عبر الأسواق، كبضائع، وحولت الصانع نفسه ـ بعد موت الإنسان وموت اللغة وموت الفن ..الخ ـ إلى علامة للتداول. فغدا الختم يعمل خارج الاغتراب القديم. هل استطعت أن أصل إلى مقاربة لتحديد مفهوم: حداثة؟ كي أضع فاصلا ً بين عمل: اليد/ الفكر، وعمل: الفكر/ الثقافات وهي تتوغل في المجهول؟ حداثة ـ وما بعدها/ وعولمة ونقيضها ـ وحداثة ارتداد، في عالم لم يغادر عصره (الجرثومي)، بل ازداد تشبثا ً بترك الاشتباك بعيدا ً عن معايير الأخلاق، وذهب ابعد من استخدامه لأقنعتها. فالختم ـ الأثر ـ لهذا الاشتباك، يحكي ما دوّنه (ماني) و (شوبنهاور) عن: دمج الحرية بقيودها، من الوجود إلى العدم، ومن بكتريا السواحل إلى الرأسمالي الذي يتحكم بحرية الأسواق، والمباشرة بعصر يكاد ينفصل عن ماضيه القريب. فالعالم لم يعد مجموعة مساحات تسكنها مجموعات بشرية، تحمل غايات مشتركة، بل على العكس ـ غدا عالما ً يعمل بحسابات اللا مرئيات. فالأختام تحكي نهاية مأزق، وفاتحة وعود يستطيع فيلسوف كبرنرادرسل ـ أن يرى لها مستقبلا ً منغلقا ً. والأمر لن يختلف في حقول الفلسفة، والفيزياء، والأخلاق. وذلك لأن أي تعريف ـ لا يعّرف ـ إلا بضده. إنها الحلقة ذاتها التي كونت صانع أقدم الأختام: المغارة، والنقش فوق عظام الموتى، وصناعة الدمى، والقلائد، والخرز. انه السحر الذي مارس لذته، ورمزيته، ومشفراته، منذ البدء وصولا ً إلى عمليات إعادة بناء كيانات مغايرة لهذا التراكم. فالمعاني ـ الماهيات/ الجواهر ـ لا علاقة لها بعلامات التداول، لا في اللغة، ولا في الرياضيات. فالوجود في الأصل، لا يقع في المرئي، مما سيمنح تراكمات السحر وثبة يصعب تخيل نهايتها ـ مادامت مقدماتها قد منحت العشوائية حدها الأقصى: حريات بلا حافات.
     هو ذا ختمي يتكون باستحالة وضع معنى أخير له. انه شبيه بهذه الحروف تنسج دربا ً لا اعرف اهو الذي يقودني، أم أنا ـ هو ـ الذي أتعثر في متاهاته؟ فأنا ليس لديّ العمر ـ مهما امتد/ ومهما بلغ ـ للعثور على ارتواء عدا ترك العالم يجاورني بانتظار دورته تكتمل بزمنها. فهل أنا مشيت، أم حوّمت، أو لم اخف وثبات حيوان هارب من مفترسيه، أم بنظام الكترون قيد بعمله في حدود الذرة، والأرض، والمجموعة الشمسية، والمجرة، وبالأكوان ...؟ من ذا لديه، حتى لو تمتع بزمن أول الخلق حتى نهايته ـ إجابة لا تجد من يدحضها! ألست، في النهاية، لا انسج إلا عمل اليد/ الرأس، فوق هذه المناديل، أو فوق هذه الأكفان، أو أضعها في النار، أو اتركها تتحول إلى أثير، والى لا مرئيات، أختاما ً وجدت كي تغويني ـ تغوينا ـ بزمن زوالها، كي ننشغل بها، وفي أعماقنا يتوارى هذا الذي طالما تقدمنا، وأحيانا ً، لا نعرف ـ لا أعرف ـ كيف حررنا من قيودنا، ولكن ـ بحسب الحواس/ والعقل ـ قيدنا بما سنكون عليه، وبما يريد ـ هو ـ لا بما نريد، إلا بتوارينا في ممراته، وطرقه، ومخفياته في نهاية المطاف!


* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).



الاكتئاب الوجودي لدى المبدعين-جيمس ت ويب/ ترجمة: آماليا داود



الاكتئاب الوجودي لدى المبدعين
جيمس ت ويب/ ترجمة: آماليا داود

خاص ثقافات

المبدعون والمتفوقون لديهم احتمالية عالية للتعرض للاكتئاب الوجودي. على الرغم من أن الاكتئاب الوجودي يمكن أن تسببه خسارة كبيرة أو التهديد بالخسارة لأي شخص، لكن أصحاب القدرات الفكرية العالية هم أكثر عرضة للاكتئاب الوجودي، أحياناً يرتبط هذا الاكتئاب الوجودي مع تجربة التفكك الإيجابية التي أشار لها دابروفسكي (1966).

الاكتئاب الوجودي هو اكتئاب ينشأ عندما يواجه الفرد بعض القضايا الأساسية للوجود. وقد وصف يالون (1980) أربع قضايا وجودية (أو القلق النهائي) الموت والحرية والعزلة وانعدام المعنى. الموت هو قلق لا بد منه. الحرية هي معنى وجودي، وتشير إلى غياب البنية السطحية. ذلك لأن البشر لا يدخلون إلى العالم المنظم، بل علينا أن نعطي العالم قواعد ننشئها بأنفسنا. العزلة تثبت أننا مهما كنا قريبين من شخص آخر، الفجوة دائماً تبقى موجودة ونحن مع ذلك وحدنا. وانعدام المعنى ينبع من الثلاثة، إذا كان لا بد أن نموت، وإذا قمنا بإنشاء عالمنا الخاص، وإذا كان كل شخص فينا جوهرياً لوحده، إذاً ما معنى الحياة؟

لكن لماذا يجب أن تحدث تلك المخاوف الوجودية بصورة غير متناسبة بين الأشخاص الموهوبين؟ جزئياً لأن الفكر الجوهري وانعكاسه يجب أن يحدث بمجرد تأمل تلك المفاهيم. بدلاً من التركيز على الجوانب السطحية من الحياة اليومية. وأيضاً الصفات المميزة في شخصية الأطفال الموهوبين يمكن أن تعرضهم لهذا الاكتئاب.

لأن الأطفال الموهوبين لديهم القدرة على دراسة الاحتمالات لكيف يمكن أن تكون الأمور، ويميلون إلى المثالية. في نفس الوقت يمكنهم رؤية تقصير العالم في الكيفية التي يمكن أن يكون عليها. ولأنهم مكثفون، يمكن أن يشعروا بالإحباط وخيبة الأمل الذي يحدث عندما لا تتحقق الأفكار. وبالمثل يستطيعون أن يحددوا التناقضات والاستبداد وسخافات المجتمع والسلوكيات من حولهم.

التقاليد يتم تحديها ومسائلتها، على سبيل المثال: لماذا يتم تقيد الناس بناءاً على جنسهم أو سنهم بشكل مشدد؟ لماذا ينافق الناس ويقولون غير ما يفعلون؟ لماذا يتفوه الناس بأشياء لا يقصدونها؟ لماذا يوجد عدد كبير من الناس لا يفكرون ولا يهتمون بتعاملهم مع الآخرين؟ كيف تغير حياة شخص واحد هذا العالم؟

وعندما يحاول أن يشارك الطفل الموهوب مخاوفه مع الآخرين، تقابلهم ردود أفعال تتراوح بين الحيرة إلى العداء. ويكتشفون أن الآخرين خاصة في عمرهم لا يشاركونهم تلك المخاوف، وبدلاً من ذلك يركزون على قضايا ملموسة أكثر وعلى ملائمة توقعات الآخرين. وعادة حتى في الصف الأول في المدرسة هؤلاء الأطفال الموهوبين يحسون بالعزلة بين أقرانهم، وربما أيضا بين عائلاتهم، ويكتشفون أن الآخرين غير مستعدين لمناقشة تلك المخاوف الثقيلة.

وعندما يتم الجمع بين كثافة الموهوبين مع تعدد الإمكانيات، يحبط هؤلاء المبدعين بسبب القيود الوجودية للزمان والمكان، وأنه لا توجد ساعات كافية في النهار لتطوير موهبتهم. والاختيار بين الاحتمالات هو إجراء تعسفي في الواقع، ولا يوجد "خيار صحيح" في نهاية المطاف، حتى اختيار القيام بإجازة يمكن أن يكون صعباً إذا كان الشخص الموهوب أمام قرار مصيري في العمل بين العاطفة الأساسية المتساوية تجاه الموهبة والإمكانيات، وربما الرياضيات النظرية والعلاقات الدولية.

ردة فعل الموهوبين (مع التأكيد على كثافتهم) على تلك الإحباطات غالباً ما يكون الغضب، لكن غالباً ما يكتشفون أن غضبهم عقيم، لأن الغضب موجه نحو "المصير"، أو غيره من المسائل التي لن يكونوا قادرين على السيطرة عليها، والغضب المكبوت يتطور بسرعة إلى اكتئاب.

ولذلك في هذا النوع من الاكتئاب، يقوم الموهوبون بمحاولة إيجاد بعض الشعور بالمعنى، ونقطة ربط يمكنهم من خلالها سحب أنفسهم من مستنقع "الظلم"، لكن غالباً كلما حاولوا أن يسحبوا نفسهم خارجاً يدركون أن حياتهم فانية ومحدودة، وحيدين وكائنات صغيرة في هذا العالم الواسع، وأن هناك حرية مخيفة متعلقة بالكيفية التي يختار أن يعيش بها الإنسان حياته، وفي هذه المرحلة يشككون في معنى الحياة ويتسألون: "هل هذا كل ما في الحياة؟ ألا يوجد معنى نهائي؟ هل الحياة لها معنى فقط إذا أعطيتها أنا المعنى؟ أنا كائن ضعيف وحيد في عالم عبثي، تعسفي ومتقلب، وحياتي يمكن أن يكون لها تأثير قليل، وبعدها أموت هل هذا كل شيء؟

وهذه المخاوف ليست مستغربة في البالغين الذين يمرون بأزمة منتصف العمر، لكن ما يبعث على القلق الكبير عندما توجد هذه الأسئلة الوجودية في عقل المراهقين من عمر 12-15، وحينها يستحق الاكتئاب الوجودي الاهتمام لأنه يمكن أن يكون مؤشرات على الانتحار.

كيف يمكن أن نساعد شبابنا الموهوبين على التعامل مع تلك الأسئلة؟ لا نستطيع أن نفعل الكثير تجاه محدودية وجودنا، ومع ذلك نستطيع أن نساعد الشباب على تعلم الشعور بأنهم مفهومون، وأنهم ليسوا لوحدهم، وأن هناك طرقاً لإدارة حريتهم وشعورهم بالعزلة.

ويتم حل مشكلة العزلة ببساطة عن طريق الحوار وتوضيح أن هناك شخصاً آخر يفهم القضايا التي يتصارعون معها، على الرغم من أن تجربتك تختلف عن تجربتي، أنا سوف أحس بأقل وحده إذا علمت أن لديك تشابه مع نفس خبراتي بشكل معقول، ولذلك تعتبر العلاقات أمراً ضرورياً في التكيف على المدى الطويل للأطفال الموهوبين (ويب، مايكستروث، وتولان 1982).

وهناك طريقة معينة لاختراق العزلة وهي عن طريق اللمس، بنفس الطريقة التي يتم احتضان ولمس الرضع، تجاه الأشخاص الذين يعانون من مشاعر الوحدة الوجودية، واللمس جانب أساسي وفطري للوجود، كما يتضح من الترابط بين الأم والرضيع وغالباً ما أنصح بعناق يومي للشباب الذين يعانون من الاكتئاب الوجودي، وأنصح الآباء والأمهات بأن يقولوا: "أنا أعلم أنك لا ترغب في العناق، لكن أنا بحاجة إليه"، فالعناق أو اللمس واللعب ضروري لأنه يؤسس على الأقل بعض الاتصال الفعلي.

فالخيارات والقضايا تتضمن إدارة الحرية الفكرية، وفي مقابلها اللمس وإيجاد حل حسي للأزمات العاطفية، ويمكن للأطفال الموهوبين أن يشعروا بالإرهاق من الخيارات التي لا تعد ولا تحصى في عالم غير منظم يجدون راحة في دراسة واستكشاف طرق بديلة قام بها أشخاص آخرون لتنظيم حياتهم. من خلال القراءة عن حياة أشخاص آخرين اختاروا العظمة والإنجاز، هؤلاء الصغار يمكن أن يفهموا عبر القراءة أن الخيارات ليست سوى تفرعات على طريق الحياة، كل منها يمكن أن تؤدي بهم إلى فهم للتحقيق والإنجاز (هالتسيد 1994)، ونحن جميعاً بحاجة إلى بناء فلسفتنا الخاصة من المعتقدات والقيم، والتي سوف تشكل نظاماً ذا معنى لحياتنا.


وتلك القضايا الوجودية تقود شبابنا المبدعين لدفن أنفسهم بشكل مكثف في "الأسباب" (إذا كانت تلك الأسباب أكاديمية أو سياسية أو اجتماعية أو من الديانات)، وللأسف هذه القضايا الوجودية تسبب موجة من الاكتئاب المختلط مع اليأس ومحاولات حثيثة لـ"الانتماء"، ومساعدة هؤلاء الأفراد على التعرف على القضايا الوجودية الأساسية قد يساعد، لكن بشرط القيام بذلك بلطف وبطريقة مقبولة. بالإضافة إلى ذلك يجب تعليمهم أن القضايا المصيرية لا يمكن التعامل معها دفعة واحدة، إنما تحتاج إلى تفكير متكرر وإعادة التقييم.

وبذلك نستطيع أن نساعد العديد من الأشخاص المصابين بالاكتئاب الوجودي ليدركوا أنهم ليسوا وحدهم، وتشجيعهم على تبني رسالة الأمل التي كتبها الشاعر لانغستون هيوز:

تمسك جيداً بأحلامك
فإذا ماتت الأحلام
الحياة تصبح طيراً مكسور الجناح
ولا تستطيع الطيران.

تمسك جيداً بأحلامك
فإذا ذهبت الأحلام
تصبح الحياة أرضاً عاقراً
تغطيها الثلوج.

المصدر: sengifted.org

الأربعاء، 27 أبريل 2016

صرخة و قصص قصيرة أخرى- عادل كامل

صرخة
 و قصص قصيرة أخرى


عادل كامل

[يسرد دومينيك كوبا حالات وحشية بحق النساء، تتحقق كهجوم على الامومي. كما هي الحال مع هذه المرأة البوسنية في العام 1996: "في احد الأيام قام الجلاد بعصب نهود امرأة حتى يعرف كم سيستمر رضيعها في الحياة بدون طعام. ستقوم الأم نفسها بقتل ابنها من اجل الحد من آلامه.]
حورية عبد الواحد




[1] صرخة
   انفجر الغراب الواقف بجوار حمامة، أمام المستنقع، ضاحكا ً، ذات صباح، متمتما ً:
ـ ذاك يعوي، والآخر يغرد، تلك تنق والأخرى تخور، السبع يزأر والحمار ينهق، ذاك يصهل والعصفور يزقزق...
فقالت الحمامة بلا مبالاة:
ـ هذه هي السيمفونية...!
ولم تكمل كلامها، فصاح الغراب:
ـ  الخالدة!
قربت الحمامة رأسها منه، وناحت، فقال لها:
ـ هذا ما كان ينقصنا!
فقالت للغراب:
ـ  أيها الحمار....، إذا كان كل هذا الألم لم يؤثر فيك..، فماذا افعل لك...؟
أجاب بهدوء:
ـ لم يكن الألم هو الذي بلغ أقصاه...، وسلب مني مشاعري، بل بحثكم المراوغ عن حياة يعيش فيها الحمل مع الذئب، والنمر مع الغزال...، والإنسان مع الإنسان!


[2] أسئلة
ـ هل تعلمت الدرس...؟
سأل الفار الأرنب:
ـ المشكلة إن الحياة تمنحنا الكثير الذي تسترده مرة بعد أخرى...
ـ أنا طلبت إجابة منك....، ولم اطلب منك إضافة سؤال؟
ـ المشكلة إن الحياة ستسترجع إجاباتها، ولا تترك لنا إلا أن نسأل...، وإن لم نفعل ذلك، تكون إجاباتنا أقسى من الأسئلة...!

[3]  محنة
   فكر السنجاب مع نفسه: لِم َ سكان هذه الغابة قساة، أجلاف، خالية قلوبهم من الرحمة، وكل منهم يظن انه لم يخرج من المجرى ذاته الذي تخرج منه الفضلات والشوائب...؟
    ولأنه كان يحدث نفسه، وحيدا ً، في أعلى الشجرة، جاوب نفسه بسؤال:
ـ  ألا تعتقد انك  تفوقت عليهم بقسوتك، وعنجهيتك...، ولم تقل: إننا هبطنا من السماء؟!

[4] رغبات
   بعد أن تعبت النعجة من الرقص، فوق المسرح، عادت إلى موقعها وجلست بجوار كبير الحمير، قال لها:
ـ حقا ً كل ما فيك يثير الدهشة، والغواية، والرغبات....
نظرت شزرا ً في عينيه الدمويتين:
ـ حمدا ً للرب انك لست من المفترسات...، ولا من البشر...
فصاح:
ـ لا تذكريني بالغابة، فالضواري مازالت تترصد خروجنا من المسرح!
   وانخرط يبكي حتى فقد وعيه، فقالت مع نفسها:
ـ الآن عرفت لماذا اخترت الانتساب إلى أقدم مهنة فوق هذه الأرض!
سمعها الحمار، فقال لها هامسا ً:
ـ بعد فن القتل، وسفك الدماء!

[5] لعنة
  قال العصفور يخاطب زميله، وهو يتأمل الحرب الدائرة بين الفصائل:
ـ ما هذا الإسراف في القتل....، كأن الجميع لا يدركون إنهم يحفرون قبور أحفادهم، قبل أن يبولوا على قبور أسلافهم!
ـ لا تكترث...، فالحرب لن تقضي على الجميع، لكن من ينجوا ...للأسف سيعيد ويبني الحياة التي نهايتها وضعت....، قبل أن يكون هناك سلام أو حرب!

[6] لغز
ـ اخبرني من آذاك...؟
ـ وأنا احتضر واستعد للموت اسأل نفسي: لِم َ كانت حياتي حزينة، حتى إني لم أصادف مخلوقا ً يبدد لي هذا الشك؟
ـ ولكنك ـ سيدي ـ مكثت تعاقب نفسك حتى فقدتها!
ـ كأنك تقول إنني كنت استثناء ً، أو كنت تقصد: عندما لا تجد من تؤذيه فلا مناص ستعاقب نفسك!
ـ لا! بل كنت أود أن أسألك: كيف نجوت....، لو لم تكن تمتلك دفاعات أنزلت فيهم ألما ً اشد من هذا الذي  ستدفنه معك في التراب والى الأبد؟

[7] مسرة
    بعد أن اكتشف الثور عقارا ً ما أن يتناوله حتى يتوارى عن الأنظار. سره الاكتشاف، مبتهجا ً، وقد أقام وليمة كبيرة للأبقار، الخيول، الخراف، والبغال...، لكن أحدا ً لم يستجب ويلبي دعوته، لأن أحدا ً لم يستطع أن يراه! لم يحزن، ولم يصدم لعدم الاستجابة له، لأنه ازداد فرحا ً عندما لم يره القصاب، ولا السبع، لا النمر ولا الذئب، لا التمساح ولا القط الوحشي....
   إنما في ذات يوم، رأى القصاب يقود جده الأعظم إلى المسلخ، والسبع يطارد جدته، النمر يجري خلف حفيده العجل حديث الولادة...، فصرخ، كي ينقذهم، لكن أحدا ً لم يكترث له، ولا لصوته. فعاط، زمجر، وراح يرفس الأرض، ناح وخار ....، لكن بلا جدوى.
    فأدرك إن العقار الذي اخترعه، بعد سنوات طويلة من الشقاء، العناء، والكد سمح له وحده أن يعيش حياة طويلة، لكنها خالية إلا من مسرة أن يرى الجميع يذهبون إلى الموت، عداه!


[8] سؤال

سأل كبير البرغوث ذبابة كانت تقف بجواره وهما يراقبان مهرجان قتل الصغار، والإناث، إبان الفوضى الهدامة:
ـ في تصوّرك ِ...، من هو أقسى مخلوق ظهر في هذه الحديقة، بعد أن نجونا من الطوفان...؟
   كفت الذبابة عن الطنين، وأشارت إلى بلبل كان يغرد، بالقرب منهما:
ـ انه ذاك البلبل!
ـ ماذا تقولين أيتها الذبابة العزيزة؟
بعد صمت وجيز، قالت:
ـ أو ... هو ... أنت؟
ـ أنا؟
ـ  هو يغرد، وغير مكترث للمجزرة، بينما أنت َ، يا كبير البرغوث، لا تكف عن امتصاص الدماء!
ـ ولكني أعيد عليك السؤال: هو أم أنا..؟
ـ  هو سيمكث يغرد، رغم إنهم لم يتركوا له أحدا ً من البلابل، وأنت لن تكف عن أداء عملك حتى بعد أن تنتهي المجزرة.

[9] مفارقة
    عندما لجأ الذئب الجريح إلى حقل الأرانب، يبحث عن ملاذ امن له...، لم يجد سوى ثقب حشر فيه جسده حشرا ً...، ليسمع من يسأله:
ـ من أنت..؟
ـ أنا كبير الذئاب...
ـ واآسفاه أن تفطس معنا، نحن معشر الأرانب...، بينما كنا لا نسعى إلا كي نلقى مصارعنا في ساحات الذئاب!
  رفع رأسه وشاهد الذئاب تحاصره، بينما كانت أصوات الأرانب تأتيه من داخل الحفرة، فقال بشرود:
ـ عندما لا تعرف من هو عدوك..، ومن هو صديقك،  تدرك انك غير مضطر للشعور حتى بالأسف!


[10]نورس
    راح النورس يراقب أمواج البحر تحمل جثث الغرقى تلقى بها عند الساحل، في جزيرة نائية، فسأل نفسه: الآن لا اعرف أيهما أكثر قسوة؛ قلب الإنسان أم هذا البحر؟
سمع الريح تقول له:
ـ لا تحزن...، فالسماء مازالت زرقاء أيها النورس الأبيض!

[11] نباح
بعد أن افترس الكلب الحمامة، لم يستطع تجنب تذكر آخر حوار جرى معها:
ـ أتعرف كم أنا سعيدة...، وأنت تجهز علي ّ..
ـ تكلمي، أيتها الحمامة الوديعة...
ـ إنني لن اسمع نباحك، بعد هذا اليوم، لا في الدنيا، ولا في أي مكان آخر!

[12] بحث
ـ صف لي الجحيم؟
سأل العصفور البوم، الواقف بجواره، فلم يجب.
فقال العصفور:
ـ هل تود أن اصف لك الفردوس؟
  فلم يجب البوم. لكن العصفور راح يزقزق متندرا ً:
ـ يبدو انك تبحث عن مكان ثالث؟!
قرب البوم رأسه من العصفور، وقال له:
ـ كان الأحرى بك أن تسأل كلبا ً أو هرا ًأو واحدا ً من البشر...؟
لم يتوقف العصفور عن الضحك، والتندر، متمتما ً:
ـ سألت كبير الكلاب فقال لي: اقترب مني... كي أخبرك!
ضحك البوم:
ـ وماذا فعلت؟
ـ عندما رأيت أنيابه صرت استنشقت رائحة جهنم ممتزجة بعطور الفردوس! فقلت مع نفسي: انه لا يمتلك الإجابة، إلا بعد أن يفترسني، آنذاك رحت ابحث عن حكيم آخر، وها أنا جئت أسألك يا سيدي!
ـ ومن أوشى بي،  وقد قصد القضاء علي ّ...؟
ـ آ ...، الآن علي ّ أن ابحث عن هذا الحكيم!

[13] كمين
   عندما أوقعت الضفادع كبير التماسيح في الكمين، وكبلته بشبكات من الحبال، راحت تعزف نشيد النصر، فرفع كبير تماسيح الحديقة رأسه قليلا ً:
ـ لا اشعر بالأسف إنني لم اقض عليكم، ولم اجتثكم من الوجود...، بل اشعر بالأسف إنني لا امتلك شيئا ً آسف عليه!
فخاطبه عظيم الضفادع:
ـ لو شاركتنا هذا النصر...، لعفونا عنك، واعدناك إلى المستنقع!
هز التمساح رأسه، متندرا ً:
ـ إن أقسى ما في الأمر...، ليس أن تمنحوني رحمتكم، بل لأن قوتي لم تكن إلا وهما ً! إنما، هذه هي الحقيقة: أن أراكم ترقصون على قبري، وأنا لم أمت بعد!


[14] الشر أم الفضيلة
     تساءل الثعلب بصوت مسموع: لا اعرف أيهما أجدى: استئصال الشر أم منح الفضيلة فرصة الازدهار... وتبديد  الظلمات...؟
  رد مساعده بسؤال:
ـ ما الشر...، كي نحدد ما الفضيلة، وكلاهما يتناوبان على ديمومة هذا.... الذي لا يدوم؟!
  اطرق الثعلب مفكرا ً مع نفسه: بات مساعدي  يفكر كزعيم!
ثم رفع صوته:
ـ مادمت تخلط بينهما، فقد أصبح احدنا فائضا ً!
ـ اجل، سيدي، لكن البدايات لها نهايات واحدة...
صدم الثعلب بالرد، فاصدر امرأ ً بسجنه، فقال المساعد:
ـ أخبرتك، سيدي، كما إن للبدايات نهايات متشابهة، فان للنهايات  بدايات متشابهة أيضا ً، وسر هذا الذي لا يدوم، لا يكمن، إلا في ديمومته، فلا احد انتصر على احد، مثلما  من المستحيل أن تعّرض احدهما للخسران، إلا بما سيتعرض له الآخر!


[15] مناورة
ـ هل انتصرت...؟
سأل المساعد زعيمه الذئب، بعد رآه يفترس حملا ً وديعا ً، فرد الزعيم:
ـ أنا حذرته، ومكثت احذره، فلم يهرب، بل تجمد في مكانه، وراح يتبول، ويرتجف، فصرخت فيه: اهرب...، اهرب، الأرض واسعة! فانا لا ارغب أن افترس حملا ً متخاذلا ً!
ضحك المساعد:
ـ سيدي، وأين باستطاعته أن يهرب، وأنا كنت أسد عليه طرق الفرار، والنجاة، والهزيمة؟

[16] وداعة
    وهو يلفظ آخر أنفاسه، شعر وحيد القرن بقدرة مفاجئة على إكمال وصيته، لأحفاده:
ـ فانا أدركت، منذ البدء، إننا من أكثر المخلوقات قبحا ً في هذا العالم، مع إننا أكثرها وداعة، ورغبة بالوئام..!
ـ أحسنت، يا جدنا، أحسنت..لكن..
وأضاف حفيده  يسأله:
ـ ولكن لِم ً ترحل وأنت حزين، وكأنك تشعر بالأسف، والخسران؟
حدق في عيني حفيده بأسى عميق:
ـ لأن أكثر المخلوقات نذالة، شراسة، ومكرا ً أكثرها قسوة!
ـ ولكنك تستطيع أن ترحل بسعادة تامة..، فأحفادك لن يتخلوا عن وداعتهم، ولا عن دعواتهم للوئام.
هز رأسه:
ـ المشكلة إنني لن ادفن القبح معي فقط، بل لأنني ادفن الوداعة معي أيضا ً!

[17] طيران
   عندما تعلم الفيل الصغير الطيران، وراح يحّوم في فضاء القفص الحديدي الكبير، ضحكت الطيور، فهمس احد العصافير في آذن الأخر:
ـ تخيّل ... ها هو يسرق منا سر الطيران.... وصار يلفت الأنظار، ويجني الإرباح المخصصة لنا!
رد الآخر بثقة:
ـ لا تحزن...، لن يدوم هذا طويلا ً...، فالجميع سيكتشفون أن أجنحته وهمية!
ـ ولكنها حقيقية...، يا صديقي، وهو مازال يحلق عاليا ً.
ـ لكنه لن يستطيع الذهاب ابعد من ذلك..
ـ تقصد ...، انه ـ مثلنا ـ لن يغادر هذا القفص، إلا بعد أن يكف عن الطيران؟

[18] معرفة
ـ تخيّل...، كم قاسية هذه الحياة حيث لا تسمح لنا أن نتعلم فيها إلا ... هذا القليل... الذي ستسترده منا، لأنه أصلا ً لم يخلق لنا!
ـ ألا يكفي انك عشت كي لا تكسب أكثر من هذا القليل...، الذي تفقده، بدل أن تبحث عن الذي وجدت من اجله!


[19] جحيم
ـ المشكلة، في النهاية، إنها تخترع من ينشغل فيها، ولكن كل من عمل على تجنبها، أو نبذها يجد إنها أغوته بالعثور على حل لها! حد الثمالة، بل حد الموت!
ـ ولهذا ـ سيدي ـ لو انشغلنا جميعا ً بوضع حل لها لكان وجود الجحيم من أكثر الأوهام صلابة!
ـ ماذا قلت؟
ـ قلت لكان الفردوس من أكثر الحقائق وهما ً!
ـ أكاد افقد عقلي؟
ـ سيدي، لو كان لديك، أو لدي ّ، عقلا ً، لانشغلنا بتجنب هذه المشاكل!


[20] دماغ
ـ لو لم يكن لديك هذا الدماغ ...، بماذا كنت ستفكر؟
ـ سأخترع دماغا ً آخر كي أفكر بالعثور على وسيلة للخلي عنه، غير هذه الوسائل!
ـ وماذا لو تخلى ـ هو ـ عنك؟
ـ لا يكون هو ربح شيئا ً...، ولا أكون أنا خسرت شيئا ً يذكر!

[21] وداعا ً
   حدقت الأم في عيون أولادها الثلاثة، ثم بدأت، بشرود، لكن بعزم، بربطهم إليها، وراحت تتأكد من عملها كي لا يفلت أيا ً منهم، كانت تشعر إنهم أصبحوا كتلة واحدة، متماسكة، كي تقبلهم، الواحد بعد الآخر، من غير مشاعر أسى، أو أسف، قبل أن ترمي بالأجساد الأربعة إلى النهر، نهر الفرات.  لم ير المشهد إلا عابر سبيل، لم يقدر أن يفعل شيئا ً. صار الحادث متداولا ً بين الناس، حتى رواه احدهم عبر شاشة التلفاز، بكي، وهو يقول إن الأم لم تطق أن ترى أولادها يموتون من الجوع، فقتلتهم، وكف عن الكلام.
   أما الكاتب، فكان يراقب ظل أصابعه يتلاشى فوق الورقة...، وثمة عويل شعر أن انه صار مثل يد راحت تكفنه، وتدثر جسده الضامر، داخل فضاء الغرفة، الذي، هو الآخر، راح يضغط عليه، من الجهات كافة، فاستسلم له، من غير لذّة، وتركه يتوحد مع ظله.
أفاق...
فراح يرى سيدة  تناول ابنها البكر السم، فتناوله الابن، من غير سؤال، لكنها لم تحتمل أن تفعل الأمر نفسه مع ابنها الثاني...، فطلبت من مساعدتها القيام بالعمل...،  وراحت تراقب، حتى تناول السادس السم، وهو يبادل أمه ابتسامة لم  تفكر إن كانت علامة حزن، أم سرور بالغ...، لأنها راحت تتخيل الجثث السبع تصعد إلى السماء....، مع إنها كانت تأكد من موت الجميع، كي تتناول ما تبقى من السم، وتحتضنهم، بقوة.
   ثم تذكر حادثا ً مماثلا ً حتى كاد يراه يجري أمامه: سيدة تدخل الحمام، مع ابنتيها، لاستنشاق الغاز، لكنها وحدها لم تنج، ورحلت، بعد أن تم إنقاذ البنتين، بأعجوبة.
    رفع رأسه قليلا ً...، ليرى أصابعه تغادره، لكنه أحس إن الكلمات صارت تعمل كعمل المدية في القلب...، بحث عن أصابعه فلم يجدها...، شاهد الورقة تحوّم، مثل طيف، ثم رآها تتموج، ليرى سيدة تختفي في الماء، ثم لم يعد يرى إلا فراغات تشغلها ذرات خالية من الأصوات، لا أصداء لها...
وأفاق...
    كان يرى جنديا ً يصوب بندقيته ويطلق النار نحو جسد ممد فوق الأرض، بدم بارد، تماما ً...، تكرر المشهد، رآه مرة، وثانية، وثالثة لم يعد يرى إلا بياض الشاشة وقد فقد لونه...، غاب الفراغ، وغاب الفضاء...، آنذاك بحث عن رأسه، فرآه بلا حافات، وعندما حاول التأكد من جسده، وجده، هو الآخر، بلا وجود، فأدرك انه لم يعد يمتلك ما يأسف عليه، وليس لديه القدرة أن يأسف على انه لم فقد رغبته بالأسف...، فلم يعد لحضوره وجدود، إنما لم يعد لغيابه أي اثر يسمح له بتتبع مساراته، كان بلا لون، ولا خطوط، وبلا أصداء، كان يستعيد مشهد الجندي وهو يطلق النار على الأسير الجريح الممدد فوق الأرض...، رآه يتلوى، ورأى الجندي يبتعد عن الأخر، من غير أسف، أو تذمر...، فعاد يرى الأم تربط أولادها إليها وترمي الجميع إلى الماء، رآهم يغرقون، ويرى السيدة تراقب مساعدتها تناول أولادها السم، ورأى سيدة ترحل داخل جدران موصده بجوار ابنتيها ... ، فبحث عن كلمة ينطق بها...، وجدها غابت، كذلك لم يجد أحدا ً يصغي إليه..، فأدرك انه لم يعد يمتلك قدرة فتح فمه، لم يعد يمتلك فما ً، وانه لم يعد يرى أحدا ً يراه.
 [22] نظرية المؤامرة
    سأل صديق صديقه العجوز الذي لم يهرب من الحرب:
ـ أراك لم تعد تؤمن بنظرية المؤامرة..؟
ـ آ....
  تأوه، ولم يجب،  فسأله مجددا ً:
ـ إذا كنت لا تؤمن بالنظرية...، ولا تؤمن بالمؤامرة...، فلماذا مكثت معنا ولم تبحث عن مستنقع آخر...؟
    رفع رأسه قليلا ً ونظر له شزرا ً، بحيرة:
ـ  ما دمنا ـ كلانا ـ وكل من في هذا المستنقع، سيموت...، فأي معنى لوجودنا، هنا، أو في أي مكان آخر؟
ـ ها أنت لم تعد تؤمن حتى انك ولدت...؟
أجاب بلا مبالاة:
ـ  المشكلة التي انشغلنا بها، يا صديقي، لم تكن مشكلة نظرية بلا مؤامرة، ولا مؤامرة تنقصها النظرية....، بل مادام موتنا تقرر، قبل ولادتنا، فما فائدة إضاعة الوقت هذا بإثبات صواب النظرية أو دحضها؟!
ـ آ ....، هذه هي نظرية المؤامرة، يا صديقي، بلا زوائد، وبلا نقصان!

[23] اختلاف
    اقترب الحمل من قفص الذئب، وقال له بلا سخرية:
ـ لا تقارن ديمقراطيتنا، اليوم، إلا بالفردوس القديم الذي فقدناه!
   ابتسم الذئب، بمرارة مكتومة، وأجاب:
ـ تقصد إن فردوسنا القديم الذي فقدناه كان حقيقيا ً!
ـ ولِم َ ينتابني الشك...، مادمنا لا نستطيع نسيانه، أو إغفاله، أو محوه من عقولنا؟
ـ اجل ... أنت على حق، بعد أن تركوك تسرح وتمرح في القفص الكبير...، بينما أنا وضعوني وراء هذه القضبان!
ضحك الحمل:
ـ لا تكترث ...، فلا داعي للحزن، فلا أنت اخترت قيودك، ولا أنا اخترت حريتي...، وهذه هي الديمقراطية ـ الحقيقية ـ يا صاحب السعادة!


[24] إلى الأبد
قال الغراب للحمامة التي تقف بجواره، وهما يراقبان مصورا ً سينمائيا ً يتابع تصوير مجموعة كبيرة من السباع أوقعت غزالا ً وراحت تمزق جسده إلى أشلاء:
ـ  لقد انتهى الأمر..!
قالت الحمامة بحزن:
ـ بل الأمر غدا بلا نهاية..، انه بدأ توا ... لأن مليارات البشر ...، سيتلذذون بإعادة  مشاهدة السباع وهي تمزق جسد هذا الغزال!


[25]  النار

ـ من في اعتقادك...، كان على صواب...، ومن كان على خطأ...؟
    نظر الصقر إلى الحقل الذي تحول إلى رماد، وقال بصوت خفيض:
ـ اذهب واسأل النار التي لم تترك شيئا ً.
فقال الآخر حائرا ً:
ـ ولكن لا وجود للنار، فقد توارت!
هز رأسه:
ـ إذا ً لن تحصل على الجواب....، وإن حصلت عليه، لا يكون له معنى، وإن كان له معنى فلن تعرف من كان على خطأ ومن كان على صواب!
ـ كأنك تطلب مني أن أغلق فمي، واصمت إلى الأبد؟
ـ أنا لم اطلب منك أن تتكلم، كي اطلب منك أن تصمت...، ولكن ما دمنا لم نمت بعد، فان النار مازالت تتربص بنا!
22/4/2016

Az4445363@gmail.com




زمن الرواية أم زمن الأمية الثقافية؟-*سلمان عزالدين


زمن الرواية أم زمن الأمية الثقافية؟
*سلمان عزالدين




في جلسة خاصة، أسرَّ روائي عربي لأصدقائه، بأنه يشعر بالخجل كلما تذكر عناوين المعارك الأدبية التي كان يخوض غمارها قبل خمس أو ست سنوات من الآن، وقال بما يشبه الهمس:«لم يتبين فقط أننا كنا في واد آخر غير الوادي الذي يسكنه من يفترض أنهم قراؤنا، بل تبين أننا بالغنا كثيراً في شعورنا بالترف الفكري. وأعتقد أن الناس كانوا يسخرون منا مثلما يسخرون من بعض البرامج التلفزيونية التي كانت تعلمهم أصول الإتيكيت في حفلات العشاء، أو طريقة صنع الدجاج بالكاري.. فيما هم يخوضون معركة الرغيف الحاف كل صباح».

لم يذكر الروائي أمثلة من العناوين التي تشعره بالخجل، غير أن التكهن بذلك ليس عسيراً. فكثيرة هي المعارك النخبوية التي شغلت الأدباء والنقاد والمثقفين العرب، ودارت رحاها على الصحف ومواقع الإنترنت، قبل أن تأتي هتافات المظاهرات وأصوات المدافع لتسكتها، أو لترميها إلى زوايا ضيقة ومقاهٍ قصية..

من ذلك، مثلاً، المعركة التي أسالت الكثير من حبر المثقفين وتمحورت حول سؤال بدا لهم جوهرياً وقتئذ: «هل نحن في زمن الرواية أم في زمن الشعر؟».. وقد انقسم «المتعاركون» إلى فريقين، فريق رأى أننا في زمن الرواية «التي صارت بالفعل ديوان العرب»، فيما أصر الآخر أننا لا نزال في زمن الشعر «الذي كان وسيبقى ديوان العرب»، وقد ساق كل فريق الكثير من الحجج والبراهين الثقافية والتاريخية والسيسيولوجية والسيكيولوجية.. لدعم وجهة نظره. والطريف أن كليهما لجأ إلى الحجة الإحصائية، إذ احتج أنصار الشعر ب«الملايين من العرب الذين ما زالوا يقبلون على الشعر، قديمه وحديثه، ويحفظون أبياتاً، بل قصائد كاملة، ويرددونها ليل نهار..»، وكذلك فعل أنصار الرواية، إذ أشاروا بثقة إلى «جحافل القراء العرب الذين انصرفوا عن الشعر ليدخلوا حظيرة الرواية»..

ومعركة أخرى لا تقل شراسة، هي تلك التي فجرها ناقد معروف، عندما نشر كتاباً يسخر فيه من «البنيويين العرب»، متهماً إياهم بتضخم الذات والعيش في الأوهام. بالطبع لم يتأخر البنيويون في الرد، إذ كشف بعضهم أن الناقد المهاجم «مرتد».. أجل مرتد! فهو «كان بنيوياً ثم نكص إلى مدرسة النقد الجديد». وقد تساءل صحفي، يومئذ، ساخراً:«نعلم حكم الردة في الدين، ولكن ما هو حكم الردة في النقد الأدبي؟».
ولقد استمرت المعركة شهوراً، وشاركت فيها ملاحق أدبية ومواقع إلكترونية متخصصة وغير متخصصة، واستُعرضت خلالها مصطلحات من العيار الثقيل، ودوائر وأسهم ومعادلات شبه رياضية.

هناك معارك أخرى اقتصرت على نطاق محلي، كالسجال الذي نشب في أحد البلدان العربية بين شعراء الثمانينات وشعراء التسعينات، وقد اتسم السجال بالسخونة والمواقف الجذرية الحادة، ما دفع الكثير من القراء إلى التساؤل عن ذلك الحدث الجلل الذي حصل في اليوم الأخير من العام 1989، أو في اليوم الأول من عام 1990، وصنع هذه الهوة السحيقة، مقسماً التاريخ الشعري إلى ما قبل وما بعد..؟!

ولكن ما الذي يبعث على الخجل من مثل هذه المعارك؟ هل يتحتم على الأدباء أن يبتعدوا عن الاهتمام بقضايا تخصصية، وأن يتنصلوا من الدفاع عن وجهات نظرهم الجمالية والفنية والتقنية.. طالما أنهم يعيشون في مجتمعات متخلفة تغمرها مشكلات اقتصادية واجتماعية ومعيشية خانقة؟

هل عليهم، عوضاً عن الانشغال بالسجالات الأدبية، أن ينخرطوا في قضايا الخبز والمحروقات والرواتب، أو أن يتحولوا إلى نشطاء سياسيين يتفرغون للدفاع عن المظلومين والمهمشين؟
ليس هذا ما يسبب الحرج للروائي المشار إليه، ولا لغيره ممن يشاطرونه موقفه هذا. مصدر الحرج، على الأرجح، هو إدراك متأخر أن معظم المعارك كانت تدور حول قضايا مستوردة، وليست نتاجاً طبيعياً لواقعنا ولحياتنا الثقافية.. من هنا تأتي شبهة الترف، فالقضايا التي انشغلنا بها تكتسب معناها ووجاهتها في بلدان أخرى غير بلداننا، وفي سياق اجتماعي وثقافي مختلف عن سياقنا.

ما مبرر الانشغال، إلى هذا الحد،بسؤال «في زمن أي نوع أدبي نعيش»، إذا كانت كل المؤشرات تقول إننا نعيش بالفعل في«زمن الأمية الثقافية»؟، وما معنى الحديث عن «زمن الرواية» إذا كانت الرواية الأكثر رواجاً، في بلدان عربية كثيرة، هي التي تبيع بضع مئات من النسخ؟

وما أهمية الصراع بين شعراء الثمانينات وشعراء التسعينات، إذا كانوا جميعهم مجهولين تماماً، ليس عند أكثرية الناس، بل عند أكثرية القراء؟.. وكيف نتعاطى بجدية مع مقولة «زمن الشعر» إذا كان الشعراء المشهورون عندنا هم أربعة أو خمسة من الشعراء الأموات؟.

وما معنى أن تثار معركة بين «النقد البنيوي» و«النقد الجديد» في وقت يكاد فيه النقد العربي برمته أن يكون غائباً عن المشهد الثقافي؟
وما جدوى كل ذلك في بلدان تضم من القراء ما لا يتجاوز، إلا بالكاد، عدد الكتاب والشعراء؟

المصدر لكل هذه البضائع المستوردة هو عالم «ما بعد الحداثة».. هناك حيث أُعلن موت «السرديات الكبرى» وانتعاش «الجزئيات» و«التفاصيل». وكان استيراد هذا «الموت» وهذا «الانتعاش» سيغدو مفيداً لنا لو عنى، فقط، الإطاحة ب «القضايا الكبرى» الزائفة التي رسختها الأيديولوجيات الرسمية العربية، وباعتها لنا على شكل شعارات رنانة و«كليشهات» فارغة.. ولكن «ما بعد الحداثيين»، العرب أطاحوا في طريقهم بكل الأسئلة الجدية والشواغل الفعلية التي ينطوي عليها واقعنا: سؤال الحرية (حرية الرأي والتعبير وحرية الكاتب أساساً)، حق الإنسان في العيش بكرامة، العدالة الاجتماعية، موقع الثقافة في المجتمع، طبيعة السياسة المهيمنة، دور النخبة الثقافية في مسعى الخروج من التخلف الشامل، القيود الاجتماعية والسياسية المفروضة على العقل والإبداع، العقلانية الغائبة والتنمية المهدورة.. وقد جاءت الأحداث الأخيرة لتثبت أن هذه الأسئلة وهذه الشواغل لا تزال الأكثر راهنية وإلحاحاً.

لا نملك، كقراء، سلطة تخولنا تحريم النقاش في أي موضوع، أو منع الكتاب من الانشغال بأي قضية، حتى ولو كانت تندرج في باب الترف. مثل هذه السلطة ستقودنا إلى نصب محاكم تفتيش، وتعيدنا إلى زمن كانت فيه الشواغل الجمالية والمتعوية موضع تأثيم.

خلاف ذلك، نعتقد أن لنا حقاً يخولنا مطالبة الكتاب بإعادة ترتيب أولوياتهم، وإعادة توزيع مساحات انشغالاتهم.. عندها نصير جمهوراً وفياً لمعاركهم.. التي ستصبح معاركنا نحن أيضاً.
_____
*الخليج الثقافي

طارق بن زياد فاتح الأندلس.. مات متسولا!-*رشيد فيلالي

طارق بن زياد فاتح الأندلس.. مات متسولا!
*رشيد فيلالي



في تصوري أن شخصية طارق بن زياد تبقى لغزَ الألغاز لدى الباحثين والدّارسين لسيرته، فهذا القائد البربري العظيم تعددت الروايات حول مكان ولادته وإلى أي أرض ينتمي.

مع ذلك، تكاد تجمع الروايات على أنه بربري من شمال إفريقيا، رغم إصرار بعض المراجع البريطانية مثل موسوعة كامبريدج على كونه عربيا، بالنّظر إلى اسمه واسم والده، وما يهمنا نحن في هذه الوقفة هو تلك الخطبة التّاريخية التي ألقاها على جنوده الذين كانوا في غالبيتهم السّاحقة من البربر حديثي العهد بالإسلام والعربية(عام 711م)، علما بأن الأمازيغ البربر، حتى اليوم، فيهم من يجهل العربية ولا يفقهها جيدا.

والسّؤال في هذه الحالة هو: كيف تواصل هؤلاء الجند مع ما قاله طارق بن زياد في خطبته لحظة تعبئة جنوده لفتح الأندلس؟ والأقرب إلى المنطق والواقع أن تلك الخطبة نُسبت إليه ولم يلقها إطلاقا، ولاسيما وأنها في غاية الفصاحة وبيانها من السّحر ما يخطف الألباب ويستحيل أن يرتجلها قائد عسكري لم يشتهر عنه تعاطيه للأدب والشّعر، ومن هنا يمكن أن نضيف إلى حياة طارق بن زياد لغزا آخر، يُضاف إلى حياته الصّاخبة المليئة بالمآثر الجليلة والمآسي أيضا، خاصة حين نعلم أن قائده موسى بن نصير (640-716) أعمته الغيرة من إنجازاته وشجاعته الفريدة من نوعها وطمع في المغانم التي أحرزها، حتى أنه أمره بأن يوقف زحفه على الأراضي الإيبيرية إلى غاية التحاقه به والاستفادة من المغانم.
لكن طارق بن زياد، بحنكته ودهائه الحربي، علم بأن توقيف القتال سوف يشكل خطرًا على جنوده، كون الإيبيريين سيستجمعون قواهم ويباغتونه وجنوده، فيتحطّم كل ما أنجزه في وقت قصير، وعليه فقد واصل فتح بلاد الأندلس وكان يظنّ أنه حين يصل قائده موسى بن نصير سيشرح له موقفه ويقنعه، غير أن موسى بن النصير لم يصغ له عندما التقاه ووبّخه بعنف، حيث بصق على وجهه وضربه بالسّوط وزجّ به في السجن.

واستطاع طارق بن زياد أن يراسل الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ويشتكي له ما قام به قائده موسى، وعندها أنصفه الخليفة وأمر موسى بن نصير أن يطلق سراحه ويواصلا معا فتح الأراضي الإيبيرية، قبل أن يرحل بعدها طارق بن زياد إلى سورية، وبعد موت الخليفة الوليد، لم يُعرف مصير هذا القائد البربري الفذّ، وذكرت مصادر بأنه توفي متسولا في شوارع دمشق في حالة يرثى لها، عام 720م..

وتذكرني هذه الحادثة المريعة للقائد الكبير طارق بن زياد بعدد كبير من العلماء والفنانين والشعراء والفقهاء الذين ماتوا شرّ ميتة، رغم ما قدموه من أعمال جليلة يشهد لهم التاريخ بها، ومن هؤلاء الفقيه المالكي الشّهير عبد الوهاب بن نصر، الذي رغم مكانته العلمية الكبيرة كاد يموت جوعًا في بغداد، حتى أنه هجرها مكرها إلى مصر الفاطمية، وفي طريقه التقى بأبي العلاء المعري الذي كان يعرف قدره، فقال عنه بيت شعر، اختصر فيه رأيه فيه حيث قال:

«إذا تفقه أحيا مالكا جدلا/ وينشر الملك الضليل إن شعر»..
والمسكين حين بلغ مصر عام 1030، وهو عام وفاته كذلك، استقبل استقبالا باهرًا يليق بمقامه العلمي، رغم كونه سنيا والمصريون حينها تحكمهم سلطة تدين بالمذهب الإسماعيلي الشيعي المتطرف، المهم أن العلامة عبد الوهاب بن نصر ومن شدّة جوعه اشتهى أكلة فارق بعدها الحياة، وحين كان على فراش الموت قال: «لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا!».. فتأمل.
___
*نفحة