أوبيريو الحركة الطليعة الروسية التي أبادها ستالين
ملاحظة: هذه المقالة هي جزء من كتاب قيد الاكتمال حول كل عباقرة
الأدب الروسي في القرن العشرين الذين قضى عليهم ستالين؛ عباقرة لم أجد لأي منهم
ذكرا في كل ما ترجمه من الأدب الروسي جدانوفيو الثقافة العربية .
عبد القادر
الجنابي
من الكلمة الانجليزية Harm (الأذى) والكلمة الألمانية Charm (الظرافة)، نحتَ دانييل يوفاتشيف المولود عام 1905 في سان
بطرسبورغ (لينينغراد) اسما مستعارا، دانييل خارمس، عرف به كمسرحي وشاعر وناثر
وكاتب قصص للأطفال. شارك في عدة تجمعات أدبية جديدة ظهرت بعد ثورة
اكتوبر، وقرأ شعره وشعر الآخرين
كمايكوفسكي في الساحات
العامة وفي الأمسيات الشعرية. وكان نشيطا في تأدية قصائده مع الشاعر المستقبلي
الكسندر توفانوف. ثم تعرّف على المخرج المسرحي ايغور تيرينتيف فاسس فرقته المسرحية
راديكس. وبعد أن احتك هو ورفقاؤه (الكسندر فيدنسكي، نيكولاي زابولوتسكي،
ليونيد ليبانوفسكي، ياكوف دروسكين، قسطنطين فاغينوف، نيكولاي اولينيكوف وايغور
باختيريف) بالحركات التجديدية التي شهدها الشعر الروسي في الربع الأول من القرن
العشرين، أسسوا عام 1927، مجموعة داخل اتحاد أدباء الروس اسمها "اتحاد الفن
الحقيقي". ومختصر "اتحاد الفن الحقيقي" بالروسي "أوبيري"
(Oberi) إلا أن سيّد الإيقاع اللغوي خارمس أضاف الواو(u) فجعل حركتهم في مأمن من اللاحقة ism (ياء التسمية) الملعونة بها التيارات الطليعية (المستقبلية،
التعبيرية، الدادائية...) والتي بسببها يتحول النشاط الحر إلى عقيدة. فأصبحت
الحركة معروفة تحت اسم "أوبيريو" ( OberiU)، والعضو يطلق عليه (Oberiuty) أي "أوبيريوي".
وهدف "اوبيريو"،
التي تعتبر آخِر شرارة طليعية روسية شهدها المجتمع الروسي قبل أن يتحكم بمصيره
الدكتاتور "الجيورجي الفظ ستالين"، على حد عبارة لينين، هو "تحويل
الحياة الخاصة الى حقيقة فنية... تصوير العالم على نحو يموضعه بوضوح". وقد
وزعوا في أول أمسية أقاموها في الرابع والعشرين من كانون الثاني عام 1928 (في مسرح
دار الصحافة)، ما يعتبر بيانهم الأول والأخير: "إعلان أوبيريو". وقد
أشترك في كتابته نيكولاي زابولوتسكي ودانييل خارمس. وهو مكوّن من أربعة إيضاحات؛
(1): "وجْهُ أوبيريو الاجتماعي"؛ (2): "شعر الأوبيريويين"
(3): "سبل نحو سينما جديدة"؛ (4): "مسرح أوبيريو". وقد جاء في
"شعر الأوبيريويين": "نحن،
الأوبيريويين، نتعاطى ممارسة الفن بكل نزاهة. نحن شعراء إدراكٍ جديدٍ للعالم ولفنٍ
جديد. لسنا مبدعي لغة شعرية جديدة فحسب بل، أيضا، مؤسسي شعور بالحياة والأشياء
المأهولة بها. إرادتنا في الإبداع كونية: فهي تتعاطى كل الأشكال الفنية وتقتحم
الحياة ماسكة بكل تلابيبها. والعالَم، المتسخ بلغات حشد من الأغبياء الغارقين في
مستنقع "الانفعالات" و"العواطف"، ها هو يولد من جديد بكل صفاء
أشكاله الملموسة والباسلة... إننا العدو الأول لأولئك الذين يخصون الكلمة ويصنعون
منها سِقطا عقيما لا قيمة له. في إبداعنا، نحن نوسع مؤدّى الشيء والكلمة، لكننا لا
ندمره (المؤدى) بأي حال من الأحوال. فالشيء الملموس ما إن يتخلص من القشور الأدبية
والمبتذلة، حتى يصبح مُلك الفن. في الشعر، صدام المعنى الكلامي بآخر يعبر عن هذا
الشيء بدقة الآلة. ها انتم تشكون بأنه ليس هنا الشيء نفسه الذي ترونه في الحياة؟
اقتربوا والمسوه بأصابعكم. انظروا إلى الشيء بعيون عارية وسترونه منظفا، للمرة
الأولى، من طلائه الذهبي الأدبي المتفسخ. ربما ستصرّون على أن مواضيعنا غير حقيقية
وليست منطقية. لكن من قال أن المنطق "اليومي" كان إلزاميّا للفن؟ نحن
نندهش بجمال امرأة مرسومة بصرف النظر عن أن الرسام، على عكس المنطق التشريحي، قد
خلع لوح الكتف وأزاحه جانبا. للفن منطقه الخاص لا يدمر الشيء وإنما يساعدنا على
فهمه".
فـ"الفن الأصيل"، كما كتب خارمس، "يخلق عالما، ويؤسّس انعكاسَه
الأوّلي. إنه حقيقيٌّ دون أي شك. الفن الأصيل لم يعد مجرد كلمات وأفكار على الورق،
وإنما هو شيء حقيقي كزجاجة الحبر المنتصبة أمامي على الطاولة. يبدو لي أن قصائد
بعد أن تحولت إلى أشياء حقيقية ملموسة، يمكن أن تُرفَع من الورق وترمى على نافذة،
فيتكسّر زجاجُها". ويريد من هذا أن تكون القصيدة شيئا ملموساً، صلباً. لا فرق
بين قصيدة ومطرقة. فالكلمة هي الموئل المادي الذي ينقل إلينا أصوات الكون، إيقاعات
الأصول والأشياء، لا الجذر اللغوي أو الدمدمة النحوية.
وهكذا دخلت
"أوبيريو" في معركة واضحة مع سياق المعنى المعطى الذي أصبح كليشة أدبية
مميتة... وقد تطلب هذا أصالة شعريّة عميقة، تدرك ضرورة "كنس كل طرق التعبير
القديمة والتخلص من قاذورات أدب الماضي المنخور"! أوضح هنا أن معظم
الشعراء الطليعيين الروس كانوا يعبرون عن رغبة عميقة بالتخلص من الماضي، بينما
الحزبويون الشيوعيون والاشتراكيون كانوا يحترمون الماضي... وهذا سبب آخر للصراع
بين الطليعة والحزب.
ما يميّز حركة
"أوبيريو" هو تشديدها على فرادة كل عضو فيها، إنها مغامرة نصّيّة لا
تبحث عن مصفّقين وإنما أن تندلعَ شرارةَ معرفةٍ في أذهان المحتكين: "كلُّ
واحد منا له شخصيته الإبداعية، وهذه حقيقة اختلط أمرها على البعض. إذ من الواضح
أنهم يفترضون بأن مدرسة أدبية هي أشبه بدير، حيث الرهبان لهم الشخصية نفسها.
اتحادنا حرٌّ وطوعيٌّ يتوحّد فيه الأساتذة لا المتعلمون؛ الرسامون الفنانون لا
الرسامون الدهّانون. كلُّ واحدٍ منا يعرف نفسه الفنّيّة، وكلٌّ يعرف كيف تلك النفس
متصلة بالآخرين..."
هذه أولُّ مرة تنتبه فيها حركة أدبية إلى أنها ملتقى انفرادات خلاقة، وليست مدرسة
أتباع وببغائيين... حدّ أن كل عضو فيها يمكنه أن يعلن للملأ: "أنا
نافورتي"، على حدّ عبارة فيدينسكي. لكن هذا لا يعني أنه كان من السهل
الانتماء إلى الحركة، فكان خارمس وزابولوتسكي، وفق الأوبيريوي المعمر الوحيد ايغور
باختيريف في مذكراته، يختبران إمكانية المرشح الإبداعية من خلال أجوبته على أسئلة
مثل: "أين أنفك؟"، "ما صحنك الفضل؟"... الخ
ورغم أنَّ كلمة
"يساري" أصبحت، في نظر الستالينيين، تهمةً بالخيانة للثورة الروسية، إلا
أنّ أمسيتهم الأولى هذه كان عنوانها: "ثلاث ساعات يسارية".
الساعة الأولى كانت مخصصة لقراءات شعرية تتم بين الدواليب موضحين بذلك شعارهم
"الفن هو دولاب". ووزعوا شعاراتهم المضادة للذوق العام على شكل ملصقات
على
الحائط مثل "أشعارنا
ليست فطائر... ونحن لسنا أسماك الرنجة"! أو "الشعر ليس عصيدة حتى يُؤكَل
من دون مضغ، فيُنسى فورا".
والساعة الثانية تم خلالها عرض مسرحية دانييل خارمس "اليزابيث بام"،
الجريئة في عبثيتها شكلا ومضمونا، وتعتبر بحق أنها أول مسرحية عبث كتبت في
التاريخ. تبدأ المسرحية بمشهد نرى فيه اليزابيث حبيسة في غرفتها هربا من مخبرين
جاءا لاعتقالها بتهمة لم تتضح بعد. وعندما تتهمهما بأن لا ضمير لهما، يتغير الجو
فتبدأ لوحة جديدة نرى فيها المخبرين يتجادلان فيما بينهما حول إذا فعلا لم يكن
لهما ضمير، قبل أن يصرح احدهما لاليزابيث بأنها مذنبة لأن لا صوت لها... فننتقل
الى مشهد ثالث يتحول فيه فجأة المخبران إلى لاعبي سيرك يؤديان ألعابا بهلوانية
وأحدهما يتوسل اليزابيث بأن تتركه أن يذهب إلى البيت لرؤيته زوجته وأطفاله...
وهكذا يتقلب مضمون المسرحية من مشهد عبث إلى عبث اكبر، إلى أن تنتهي بالمطاردة
نفسها بين اليزابيث والمخبرين.
والساعة الثالثة مخصصة للأفلام، عبروا فيها عن دعوتهم من أجل خلق سينما جديدة:
"على السينما أن تعثر على وجهها الحقيقي، وعلى وسائلها لخلق انطباع وعلى
لغتها الخاصة بها فعلا". فالحبكة في نظرهم لم تعد مهمة فما هو مهم بالنسبة
إليهم هو "جو" الموضوع المختار. وكنموذج لهذه التجربة عرضوا "فيلم
رقم 1" (للأسف ضاع)، يبدأ بلقطة طويلة: قطار جد طويل يمر أمام الكاميرا.
وقد أثارت هذه
"الساعات اليسارية الثلاث" التي كان فيها صفير الجمهور وصياحهم
واستخفافهم جزءا من العرض، انتباه السلطة إلى خطورة عبثهم اليساري النزعة، فشنت
الجرائد الموالية للسلطة نقدا عنيفا ضدهم واصفة أعمالهم بـ"الزعرنة
الأدبية"، فأصبح الأوبيريويون، في نظر الجدانوفية الصاعدة بوجه كل ما هو سام
وجميل، "أعداء طبقيين"!! وتجب الإشارة هنا إلى أن السلطات كانت تراقب
قراءات خارمس منذ أن صرح عام 1927 أثناء قراءة بأنه "لا يقرأ في الاصطبلات
والمواخير"، وقد فُسرّت على أنها شتيمة للمؤسسات الثقافية السوفيتية. لكن مع
هذا تابع الأوبيريويون أمسياتهم الممسرحة حتى 8 نيسان 1930 عندها شنت صحف السلطة
هجوما عنيفا عليهم معتبرة "نشاطات اوبيريو الشعرية الهُرائيّة، احتجاجا على
ديكتاتورية البروليتاريا ولذا فإن شعرهم مضاد للثورة، إنه شعر الأعداء
الطبقيين". وإثر هذه الهجمة الصحافية المتزامنة مع تصفية المعارضة التروتسكية
للستالينية، القي القبض على دانييل خارمس والكسندر فيدنسكي عام 1931، وأرسلا الى
معسكر اعتقال، وفيما بعد خُفّفَ الحكم عليهما إلى النفي الداخلي أي ممنوع عليهما
العيش في مدن كبيرة. وحكم النفي هذا كان صعبا جدا للمنفيين، إذ يضعهم في
اماكن لا يعرفون فيها أحدا، وليس من السهل العثور فيها على ما يسد لقمة
العيش؛ حكم أشبه بعلامة تجعلهم منبوذين.
بعد عودتهما الى
لينينغراد، لم يبق أمام أعضاء حركة أوبيريو سوى مرحلة التأسيس المنغلق في حلقة
سميت chinar وتعني "الرتبة" وهي أشبه بلقب تطلق على كل واحد، وأفضل
نصوصهم كتبت في هذه المرحلة المنعزلة عن الجمهور. فأخذت الحلقة تجتمع في بيت
الفيلسوف ليونيد ليبافسكي أو في شقة دانييل خارمس ليتناقشوا فيما بينهم فلسفيا
وجماليا حول مواضيع النص/ الكاتب، الزمن / اللغة. وقد دون ليبافسكي في دفاتر معظم
الحوارات التي تمت بين 1933 و1934. وصدرت طبعة روسية لها قبل سنوات. يجب أن أنبه
القارئ إلى أن من خصائص هذه الحركة أنّ أعضاءها كانوا يفضلون النقاش الدائم فيما
بينهم، وأحياناً على نحو يبدو بيزنطيا، حول أمور جد تجريدية. لكن من يقرأ هذه
الحوارات/ المناقشات سيندهش لكمية الفكاهة والروح الجدية في تناول مواضيع جد
ميتافيزيقية، أو أشياء لا يلتفت إليها أحدٌ، بينما الظلمة الشمولية الإرهابية كانت
تتسيّد في كل زاوية وشارع، في بيت ومنعطف!
علاوة على أن هذه الحركة
ولدت في قلب سان بطسبرغ (أي لينيغراد، وكان خارمس يكره التسميات الشيوعية للشوارع
والمدن، بحيث كان دائما يحافظ في كتاباته على الأسماء القديمة)، حيث كانت حركة
الشكليين، ومجموعة المفكرين الملتفين حول ميخائيل باختين، تجترحان نظرة نقدية
أدبية جديدة سيكون لها الأثر الكبير على الدراسات الأدبية في النصف الثاني من
القرن العشرين، فإنها أضافت تساؤلات أخرى حول الكاتب والنص، الواقع والتخيّل،
والمعنى وانعدامه، مُحاوِلةّ نسف الأطر الثابتة للسرد، ولمفهوم النص ذاته، وتقويض
المفهوم الشائع بأن "المؤلف هو مركز النصِّ المُّوحَدُ"، حد التشكيك
بصِحَّة أي مغامرة سردية مبنية على الفهم التقليدي للزمن.
كما أن مغامرتهم الشعرية كانت تتقاطب والتجديدات الفنية لرسّامي سان بطسبورغ،
خصوصا تجديدات ماليفييتش وفينيلوف. فكازيمير ماليفتش، مثلا، كان قد أطلق دراسات
سوبرماتية وضع فيها أسس الانقلاب على تمثل العالم الطبيعي والالتجاء الى خلق أشكال
صافية جديدة حيث كل عنصر يشكل كلا مستقلا: "كلُّ شكلٍ هو عالَمٌ" وهذا
مشابه لمفهوم خارمس باستقلالية جملة، كلمة في كل نص. بل كان خارمس يصدي، في
سردياته، ما كان يدعو إليه مالفيتش: "بضرورة خلق أشكال من اللاشيء". وقد
وصف ماليفيتش اكتشافه السوبرماتي قائلا: "شعرت ان الليل لا غير داخلي،
وعندها تخيلت الفن الجديد الذي سميته بالسوبرماتية". فخلق قواعد فنيّة جديدة
تقوم على أسس التصميمات الهندسية: الدائرة والمربع مخترقا، هكذا، التعدد اللوني
الى اللون الأحادي حيث يتربع قمة التجريد أبيض فوق أبيض. وعندما مات كازيمير
ماليفتش ألقى خارمْس قصيدة أثناء مراسم دفنه. أما الفنان بافيل فينيلوف فهو مؤسس
تيار الواقعية التحليلية، المضادة للتكعيبية المنتشرة آنذاك، فالرسام الواقعي
التحليلي، في نظر فينيلوف، بتقديمه الأشياء يستخدم عناصر روحها الداخلية، على عكس
الرسام التكعيبي الذي يستخدم عناصر هندستها الخارجية.
لقد كانت
"أوبيريو" ثريّة في طموحاتها لفتح النص على آفاق بعيدة عن أوهام الواقع
/ المعنى القبْلي (أي سابق على كل تجربة). وثراؤها جد كبير بحيث يمكننا التصريح
بأنّها كانت تحمل البذور نفسها التي عُرفَت بها الاتجاهات الأدبية الطليعية التي
سادت بعد الحرب العالمية الثانية كمسرح العبث، مسرح القسوة، موجة الرواية الفرنسية
الجديدة
والقصة القصيرة جداً
جداً... الخ. وسواء حققت مشروعها أو لم تحققه، فهي تبقى أشبه بمرآة لِما كان من
الممكن أن يحدث للحركات الطليعية الأوروبية لو انبثقت في روسيا إبان انتشار
الظلاميّة الشموليّة، من إلغاء، وسحق وسجن وموت. فمن حسن حظ مؤسسو السوريالية
الفرنسية، الدادائية الأوروبية، المستقبلية الإيطالية، التعبيرية الألمانية، أنهم
دشنوا ثوراتهم في ظروف حرة نسبيا بالمقارنة مع ظروف صعود الستالينية؛ ولولا ذلك
لما كان لهذه الحركات حضور.
ذات يوم كان ما
سيكون: دانييل خارمس
أُعتقل دانييل خارمس عدّة
مرّات إمّا إثر وشاية ملفقة أو بسبب سوء فهم كتاباته العبثية المتطرفة، ودائما
بتهمة "بث روح الانهزامية وسط الشباب". وذات مرة داهمته الشرطة السرية،
وظلوا ساعات طويلة يقلّبون كل أوراقه بحثا عن سبب لاعتقاله، فوجدوا، أخيرا، كلمة
"الله" في إحدى قصائده (انظر "الربّ هو أنا"). فاعتقل لمدة 3
أشهر بتهمة الانتماء إلى منظمة دينية. فبقي منذ 1930 وحتى وفاته يكتب دون أن ينشر،
باستثناء القصص التي كان يكتبها للأطفال، من أجل لقمة العيش، لكن ليس لوقت طويل.
فقد عاش خارمس السنوات الأربع الأخيرة من حياته من دون مصدر رزق سوى بيع ما لديه
من أثاث وحاجيات، بما أن اسمه كان مسجلا في اللائحة السوداء. ويشهد على ذلك دفتر
يومياته حيث امتلأ بفقرات عن وضعه ومرض زوجته وعن ديونه متوسلا "الرب أن
يساعده"، وكأنه بطل رواية كنوت هامسن "الجوع"...: "أكلنا وجبة
جيدة (نقانق ومعكروني) للمرة الأخيرة. إذ لا أتوقع وصول مال لا غدا ولا بعد غد. لم
يعد لدي ما يمكن بيعه. فقبل ثلاثة أيام بعت مدونة اوبرا "رسلان" بخمسين
روبل، وهي ليست ملكي. هكذا تصرفت بثمن ملكية شخص آخر. باختصار قمت بعمل لا يمكن
توقعه. والآن، لم يعد ثمة أمل. كذبت على زوجتي مارينا بأني سأتسلم غدا 100 روبية،
والحقيقة هي إني لن أتسلم أي فلس بعد الآن" (3 اكتوبر 1937). وفي أواخر 1941،
عندما حاصر الجيش النازي أبواب لينينغراد، وبدأت حملة اعتقالات لكل المشبوهين في
نظر الستالينية، تم اعتقاله بتهمة الاسطوانة نفسها؛ "نشر الانهزامية وسط
الشباب". لكن ليس للسلطة من دليلٍ على هذا سوى كتاباته الدائرة في انعدام
المعنى، خصوصا من المعنى المرسوم من قبل الحزب. فرُمي في سجن حراسه أنفسهم كانوا
يعانون من نقص في التموين الغذائي، فظل أياما لا يحصل على لقمة... اصيب بالجنون
فنقل إلى مصح السجن... وهناك مات من شدة الجوع في شباط 1942.
وقد كتب في الدفتر الأزرق في الرابع من اوكتوبر 1937:
على هذا النحو يبدأ الجوع :
في الصباح تستيقظُ نشيطا،
ثم ينتابك الضعف،
ثم تشعر بالملل؛
ثم تفقد سرعة الخاطر
ثم تهدأ
وعندها يحل الرعب.
لقد كان والده على حق
عندما قال له: "يا دانييل، بما انك اخترت هذه الكلمة الانجليزية Harm اسما لك فإن الأذية ستلاحقك حتى الموت"!!
مع أن خارمس كان يكره
الأطفال كرها شديدا، إلا أنه يعتبر أعظم كاتب قصص روسية للأطفال. وقد حظيت بالنشر
أبان حياته في مجلة "القنفذ" حتى عام 1937 أي العام الذي أعدم فيه
رفيقهم نيكولاي اولينيكوف الذي كان مدير تحريرها. أما ما يسمى في قاموس المؤرخين
كتابات خارمس للبالغين، فلم تحظ بالنشر على الإطلاق، فقد بقيت مجرد مخطوطات، لم
ينشر منها طوال حياته سوى قصيدتين. إذ كان من الصعب أن يجد دار نشر أو مجلة خصوصا
إبان الحملة الستالينية لفرض الواقعية الاشتراكية أسلوبا على جميع الأدباء أن
يسيروا على خطاها. وكان من الممكن أن تُدمَّر كلّ كتاباته هذه لو لم يذهب رفيقه في
حركة "أوبيريو" الفيلسوف ياكوف دروسكين برفقة مارينا ماليتش (زوجة
خارمْس الثانية)، إلى شقته الواقعة في شارع مايكوفسكي رقم 11، بيوم واحد بعد موته،
ويجمع كل أرشيف خارمس من دفاتر ومخطوطات في حقيبة كبيرة، واحتفظ بها سرا أكثر من
عشرين عاما، إلى أن ذاب جليد الستالينية بحرارة المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي
السوفياتي (1961) الذي أدان الحقبة الستالينية وممارساتها القمعية خصوصا ضد الأدب،
ادانةً جزئية لكنها أضاءت بعض ضحايا الواقعية الاشاراكية. فكانت إعادة نشر قصصه
للأطفال أول إعادة اعتبار لخارمْس. فيما بعد ظهرت اول انطولوجيا لنصوصه غير
المنشورة عام 1974، لكن الطبعة هذه تضمنت أخطاء كثيرة في التحقيق، كما يقول جان
فيليب جاكار في أطروحته، عن أوبيريو وخارمس، التي باتت مرجعا لا مناص منها. لكن ما
بين 1978 و1980 عمل باحثان مختصان بخارمْس على إصدار الأعمال الكاملة منقحة ومحققة
بدقة، صدر منها 3 أجزاء.
إلا أن كتاباته الأساسية كان عليها أن تنتظر فترة البريسترويكا في أواخر ثمانينات
القرن الماضي، لكي تظهر ظهورا كاملا جعلها تحظى بقبول واسع الانتشار بحيث أصبح
خارمْس أشهر من علم. ذلك أن جيل الأدباء الجدد المحدثين؛ أدباء نهاية المعسكر
الاشتراكي، وجدوا في نتاجات الأوبيريويين، بالأخص في كتابات خارمْس وفيدنسكي ماضيا
يمكن الافتخار بجذريته الحداثوية ذي الكلمة النظيفة التي بقيت منبع أسرار أصيلة؛
بل وجدوا الحلقةَ المفقودة بينهم وبين التجارب الطليعية التي انتعشت قبل صعود
الستالينية. من هنا أخذ هؤلاء الأدباء الجدد ينقّبون عن هذا الإرث الذين كانوا هم
وريثه الوحيد، في كل مجلة، نشرة، بل حتى في ملفات المخابرات السرية الستالينية،
حيث قام أحد المختصين بعمل أشبه بالبوليسي لتقصي كل كتابات خارمْس المُصادرَة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن جدانوف، الكاره لكل ما هو ابتكار وخلق، صرح ان كل هؤلاء
الكتاب سينساهم التاريخ، اكن المفارقة التاريخية هي ان التاريخ نسي جدانوف في احط
مزابله، وأعاد الاعتبار لكل هؤلاء الكتاب كعلامة على عظمة الأدب الروسي في
القرن العشرين.
هذا لا يعني أن خارمس، أو
أيّ "أوبيريوي"، كان يكتب نصوصا مرموزة ضد الواقع الستاليني، وبالتالي
هناك رغبة سياسية وراء نبش نصوصهم. لو كان الأمر كذلك، لما كان لنصوصهم أيّة
أهمّية اليوم خصوصا بالنسبة للأجيال الجديدة، بل لبقيت مطمورة (مثل مئات من
القصائد والقصص)، في ملفات الحقبة لا تصلح إلا للدراسات التاريخية. كلا، لم تكن
هذه لعبتهم. وخير برهان على ما نقول هو خلو نصوصهم من الاستعارات والمجازات
الصالحة لإخفاء معنى ما. فمحاكم التفتيش الستالينية عجزت ليس، فقط، عن إثبات أي
شيء يبرهن على أنّ لهم عداءا للنهج السوفيتي، بل حتى عن فبركة اتهام موضوعي ضدهم.
فلم يكن الخوف من معنى سياسي متوار يخفونه، وإنما الخوف منهم كان بسبب أسلوبهم
المتميز بفقدان المعنى المتعارف عليه، مما كان يجعل المخبر السرّي يقف أبلهَ، فاغر
الفم، غير قادر على استنتاج أي شيء. فالسرد الذي اعتمدوه لفضح المعنى بمفهومه
الفلسفي، كان واضحا؛ أبيضَ كجليد سيبيريا. على أنّه صحيح القول بأن كتابات خارمس
بالأخص، كانت "تعكس حالة اغتراب الإنسان في المجتمع، تفكك اللغة وبالتالي فشل
التواصل وعدم تماسك عالم غارق في الجنون الستاليني"، كما كتبت هيلاري فنك.
لكن بأسلوب يثير "الضحك الذي هو نتيجة صحوة مأساوية"، كما وضح جان فيليب
جاكار.
"هذا هو هذا.
ذاك هو ذاك.
هذا هو ليس ذاك.
هذا هو ليس لا هذا.
ما تبقّى هو إمّا هذا أو لا هذا.
الكل هو إما ذاك أو لا ذاك.
ما هو ليس ذاك ولا هذا، هو لا هذا ولا ذاك.
ما هو ذاك وهذا، هو في هذا عينِه.
ما هو في هذا عينِه، ربما ذاك، لكن ليس هذا،
أو هذا، لكن ليس ذاك".
كان دانييل خارمْس يستخدم
أوزان الشعر الحر واللعب على القافية لفتح الكلمات على نفسها، كما وضح فيليب
جاكار. وهو يختلف عن فيدنسكي في نقطة مهمة وهي أنه تحول من كتابة المسرح إلى النثر
حيث اتخذ السرد طريقة لتجريد الجملة البسيطة من أية غرضية حِكَميّة، بحيث لا يعود
للسرد أية وظيفة مفهومية وإنما فقط وظيفة بنيوية. فسردياته فيها الحد الأدنى من
الكلمات، تبدو وكأنها استخلاص مكثف لعدة أجناس أدبية الحكايات الخرافية، الأمثولة،
قصيدة النثر، القص البرقي، المونولوغ، المحاورة... له رواية قصيرة واحدة (40 صفحة)
عنوانها "العجوزة"، وله عدة مسرحيات مكتوبة تكاد وكانها عبارة جيل ديلوز
"مسرح صاف بلا مؤلف، بلا ممثلين وبلا مواضيع". لا ننسى أن حركة
"أوبيريو" نفسها بدأت كنصوص عرض تؤدى مسرحيا على طريقة مسرح العبث
المعروفة، ومعظم أعمال فيدنسكي حوارات شعرية، أما خارمس فهجر هذا الشكل متجها إلى
السرد.
وأحيانا يشعر القارئ كما لو أن خارمس يخلق عن عمد صراعا بين المؤلف والنص،
فالسارد، في عدد من قصصه خصوصا النصوص المجموعة تحت عنوان "حوادث"
(الكلمة الروسية Slutchai تعني أيضا حدث، مصادفة، حادث طارئ...)، يدخل فجأة من دون دافع
معين في القصة... يقوم بأعمال غير مفهومة، ثم يسقط، أو ينسى ما كان يريد أن يقوله،
ثم يخرج دون أن نعرف ما القصة. فنشعر وكأن القصة تعيش تدميرا ذاتيا. أو ينهيها
فجأة بعبارة "هذا كل ما هناك" أو "كفى". وأحيانا يكتفي بعبارة
واحدة تبدأ بداية ينتظر منها القارئ رحلة قصصية طويلة، لكنها فجأة تتوقف، وكأنّ
الغاية هي إنقاذ القص من عبودية الإنشاء:
" رجلٌ ذكي جداً ذهب إلى الغابة، وتاهَ".
يتبع خارمس، وهنا ساعتمد
على جان فيليب جاكار، على ما يسمى بالسرد الذي يولد ميتا، مثلا: "في الثانية
بعد الظهر، في شارع نيفسكي، أو بدقة أكثر، يوم 25 اوكتوبر، لم يحدث أي شيء
خاص". وفي "صِلة"، سلسلة أحداث عرضية كل حدث مستقل بنفسه.. بينما
هناك صلة بين شخصيات القصة لم يدركوها إلا بعد أن ماتوا. وفلسفة خارمس تقوم على أن
العالم هو مجموعة تأثيرات بلا قضية، يتصادم واحدها بالآخر. ومن هنا يولد الإحساس بالعبث.
إن مأساة الإنسان تكمن في عدم قدرته على فهم العالم إلا على نحو متشظي،
والرابط الذي يوحده بما يحيط يبدو له منكسرا واعتباطيا.. صحيح أن هناك
دائما ثمة رابط بين حدثين لكن لا نستطيع تحديده.
أدب العبث:
اختلاف جوهري
غالبا ما يطلق مصطلح العبث Absurd أو اللامعنى Nonsense على حركة "أوبيريو"، بينما الكلمة الروسية التي
استخدمها الأوبيريويون كصفة لأعمالهم هي (bez smysla) وتعني حرفيا "انعدام المعنى". وهنا فرق دقيق: هو إن
خارمس وفيدنسكي بالأخص كان يجعلان من "انعدام المعنى" مكان استقصاء شعري
لما وراء لغة العقل، وليس استخدام اللامعنى كضد للمعنى، كما هو شائع. فالنزول في
نهر عدم المعنى له غاية واحدة ألا وهي اكتشاف معنى آخر متحرر من الروابط العرضية
والمنطقية والعقلانية بين المعنى والكلمة. ذلك أن طبيعة العالم/ الأنا لا يمكن
فهمها إلا عبر انهدام أنماط الإدراك العقلانية. بينما أدب العبث ينطلق وكأنه تقرير
عن تصدع العالم. رغم هذا الفرق، فإن أغلب النقاد يعتبرون، خارمس، الرائد الأوّل
لأدب العبث بمعناه اليونسكوي أو البيكيتي. لكن رغم أن هناك تقاربا أسلوبيا بين
خارمس وبيكيت مثلا، إلا أننا نعلم أن حركة "أوبيريو" لم تلد كردة فعل
على غياب الهدف والقيمة من الوجود الإنساني، كما جاء أدب بيكيت ويونسكو وكامو،
وإنما على العكس ولدت في أوج الأحلام الثورية والتحمس البشري لخلق مجتمع إنساني
حر. وغالبا ما استخدموا صفة اليسارية على بعض فعالياتهم المسرحية. وفي هذه
الفعاليات كان ثمة قصد هو المساهمة، على طريقتهم، في أخذ الثورة إلى أبعد أفق حيث
البهجة البشرية لا تتم إلا بعد أن يتخلص العقل من مرضه بأن هناك حقيقة يتمثلها
وبالتالي كل ما هو مخالف لها زائف. وحتى عندما انحرفت الثورة انحرافا دكتاتوريا
قاتلا، فإن كتابات حركة اوبيريو لم تتحول قطعا إلى بيانات أو نصوص ضد الوضع
البوليسي الجديد، وإنما انغلقت على نفسها. كما إن العبثية التي تتسم بها كتابات
خارمْس، مثلا، تختلف جوهريا عن أدب العبث الذي تجلى بعد الحرب العالمية الثانية
على يد يونسكو وبيكيت فمدرسة هؤلاء ناجم عن الشعور باليأس ومتأثرة بالكافكوية
بينما "عبث" خارمْس المتأثر بأدب لويس كارول، فضاء مضاء لا مكان فيه
للثنائيات التفاؤل/ اليأس؛ المعنى/ اللامعنى. وإنما مفتوح للتساؤل البهيج يسموا
بالمشاهد / القارئ إلى ما وراء ضفاف حياته المحددة بمعان مُلّقَنة. فخارمس لا يبحث
عن حقائق ضائعة وإنما يريد من العبث والهراء وسيلة كشف عما لم نره مما نحس به: وها
هي الحقيقة المطلقة حقيقة قابلة للسقوط عند أول مساءلة لها. كانت لنا أفكار غريزية
عن الفاصل بين المعنى واللامعنى وها هو خارمس يكشف لنا أنه غير موجود. من هنا كانت
خطورة خارمس وحركة اوبيريو في نظر نظام هدفه الأول والأخير فبركة حقائق زائفة
وتثبيتها كحقائق مطلقة. لقد كتب خارمْس في إحدى دفاتره موضحا موقفه: لا أهتم إلا
بالهرائيين فقط، بما لا ينطوي على أية دلالة عملية. فالحياة لا تهمني إلا في
مظهرها الأخرق فقط. ذلك أن البطولة، الاستمالة، الشجاعة، الأحكام القِيميّة،
الصحة، الأخلاق، الشفقة والجموح ما هي إلا الكلمات والمشاعر عينها التي أكرهها.
على أنني أتفهم كليّا وأحترم: التحمس والإعجاب، الإلهام واليأس، الاندفاع
والرزانة، الفساد والعفة، الحزن والكآبة، الفرح والضحك"
الأعضاء الآخرون
نيكولاي زابولوتسكي (1903-1958)، كان العضو الوحيد الذي كان له ديوان شعر مطبوع
"أعمدة" (1929). وقد انضم إلى حركة "أوبيريو"، بعد أن كتب مع
خارمس "إعلان ثلاث ساعات يسارية". غير أنه بسبب مشاحناته المتواصلة مع
فيدنسكي، ترك الحركة عام 1932، وواصل كتابة قصص للأطفال وعمل مترجما إلى أن أعتقل
عام 1938 وأرسل الى معسكر الاعتقال الغولاغ. وبعد أن أطلق سراحه عام 1944، راح
يتجه نحو أشكال كتابية تقليدية وأصبح، بعد الحرب العالمية الثانية، شاعرا مقبولا
في الوسط الأدبي الرسمي. ولخص الشاعر الروسي الكبير جوزيف برودسكي انجازه بالعبارة
التالية: "لقد فعل زابولوتسكي للأدب الروسي في القرن العشرين ما فعله غوغول
للأدب الروسي في القرن التاسع عشر". في أواخر حياته قال: "إني أعتمد على
القارئ الذكي الذي له استعداد لاستخدام عقله كما يستخدم مشاعره لتذوق الشعر".
هنا مطلع قصيدته "معركة الفيلة":
اسمع، يا محارب الكلمات
دع الليل يغني بسيوفك.
خيْلُ النعوت تدوس
دمى الأسماء، المتداعيةَ
الخيّالة ذوو الشعر الأشعث
يدحرون دبابات الأفعال
وقنابل الملاحظات الاعتراضية
تنفجر لهباً فوق الرؤوس.
معركة الكلمات، قتال
المعاني
ثمة ضجيج عام في برج تركيب الكلام.
أما نيكولاي اولينيكوف
(1898-1937) الناشر الشيوعي في النهار، والطليعي في الليل"، كما كان يسميه
البعض، فقد انضم إلى الحزب الشيوعي السوفيتي عام 1920 وبقي فيه حتى إعدامه عام
1937 بعد أن كتب اعترافا تحت التعذيب بأنه يعمل في منظمة تروتسكية يسارية معادية
للسوفييت. أنشأ عام 1925 دارَ نشرٍ تعنى بأدب الأطفال في لينينغراد. مع أنه لا
يمكننا اعتباره عضوا بكل معنى الكلمة، إلا أنه يعتبر جزءا من تاريخ حركة
"أوبيريو". ويعود ذلك إلى كونه تبنى معظم مواقفها الشعرية، وحافظ على
صداقة حارة وعميقة مع مؤسسيها، إذ بفضله تحسنت أوضاع خارمس وفيدنسكي المعيشية،
فمجلته "القنفذ" الصادرة عن الدار، هي المجلة الوحيدة التي كانت تشر
كتاباتهما للأطفال. ضاعت معظم أعماله، ولم يبق منها سوى 1500 بيت شعر. يتميّز شعره
بفكاهة سوداء ترصد حالات غريبة . فمثلا كتب قصيدة عنوانها "الذبابة"
تتحدث عن شخص يروي كيف وقع في غرام ذبابة عندما كان شابا وكان غالبا ما يتأمل
جمالها بالميكروسكوب واكتشف أن الذبابة هي أيضا كانت مغرمة به؛ وأن واحدهما يكمل
ويقبّل الآخر. وعندما كبر راح يعاني الأمراض، والذبابة ماتت منذ زمان، فبقي وحيدا
متحسرا على الأيام الحلوة مع ذبابته ذات السيقان المتعددة. أما قصيدته
"تشارلس داروين"، فهي تروي كيف أن داروين ذات يوم، راح يتفحص طائراً
صغيراً قصيرَ المنقار، فأكتشف كم هو جميل هذا الطائر بحيث وجد نفسَه مقارنةً به
لاشيء، فأخذ داروين يلعن الطبيعة لقسوتها في خلقه دميما، فأخرج مسدسه وأطلق النار:
تشارلس داروين كان بيولوجيا مشهورا
لكن لم يكن جميل الوجه.
وهناك أيضا كتّاب النثر
كالفيلسوف ياكوف دروسكين (1902-1980) فله أعمال كثيرة فلسفية ولاهوتية وشعرية
ويوميات ودراسة عن باخ، ولا ننسى دوره العظيم في الحفاظ على مخطوطات خارمس
وفيدنسكي واولينيكوف وانقاذها من الضياع... فلولا دروسكين لما كان هناك تراث
اسمه أوبيريو. أما الفيلسوف الغريب ليونيد ليبافسكي (1904- 1941) الذي مات أثناء
معركة لينيغراد، فقد ترك مخطوطات فلسفية ولغوية منها "نظرية الكلمات"
و"رسالة في الماء"، وكان يعتبره خارمس "منظر حلقة الرتبة".
ختاما، آمل أن يقوم مترجم
دقيق بنقل، عن الروسية وليس عن لغة ثانية ومع مراجعة دقيقية (لأنها جد متشابكة
ومتجذرة في اشتقاقات اللغة السلافية)، رواية "أعمال وأيام سفيتونوف"
التي كتبها أحد مؤسسي "أوبيريو" قسطنطين فاغينوف (1899-1934) الذي مات
بمرض السل. فهي رواية غريبة تعتبر جزءا من تراث "أوبيريو"، بلغتها الفريدة
واعتمادها على مونتاج شبه سينمائي مذهل في خلق الشخصيات ووصف الأحداث البشعة التي
يمرون بها. وبطل الرواية سفيستونوف هو كاتب شاب يبحث عن رواية، فيجدها مشهدا
فمشهدا، حدثا فحدثا، شخصية فشخصيةً. هكذا نجول معه في شوارع بطسبورغ الخلفية
وحدائقها، وهو يتصيد شخصيات روايته من العالم الحقيقي، ويسيطر على ماضيهم في
مخطوطته. وسفيستونوفوف لا يدخل بيت أحد دون أن يرى مكتبته فيدون عناوين الكتب
ويطلع على محتوياتها ليستخدم جزءا منها في روايته. ففي نظره، ليس ثمّة مبدأ
أخلاقي، وليس هناك اختلاف أساسي بين الميت والحي، فكل ما لديه هو موهبة اختلاق
شخصيات وهمية من كائنات موجودة. فها هو يقول: "أمس فكرت بأنه من الضروري أن
تكون امرأة في الرواية، لذا أخذت رواية ماثوران (ملموث التائه)، ورواية بلزاك
(الجلد غير المدبوغ) وحكاية هوفمان (القِدر الذهبي)، فاختلقتُ من كل هذه الروايات
هذا الفصل المتعلق بشخصية المرأة". "أعمال وأيام سفيتونوف" تسرد
معاناة روائي لا يرى في أصدقائه سوى مواد لشخصياته. لكن هذا لايعني ان بطل الرواية
يشبه ذاك الذي يكتب قصائده بلصق جملة من هذا الكتاب وعبارة من تلك الصحيفة.
على العكس، إن سفيتونوف، بالسطو على ماضي الشخصيات الحقيقية ووقائع حياتها،
ينتج شخصية مركبة للمجتمع الذي تعيش فيه تلك الشخصيات. والرواية تبلغ الذروة عندما
يكتشف، في المخطوطة، أحد أصدقائه نفسَه شخصيةً روائيةً.
هنا نص من نصوص دانييل خارمس يكشف فيه كيف
يعيش البشر جاهلين أن ثمة صلة تربط البعض ببعضهم وتحدد مصيرهم: