الأحد، 2 أغسطس 2015

مفلاح: "المناهج الحديثة أضرّت بالقراءة العربية للخطاب القرآني" -كامل الشيرازي

مفلاح: "المناهج الحديثة أضرّت بالقراءة العربية للخطاب القرآني"


كامل الشيرازي

ذهب الأكاديمي الجزائري البارز د/الحاج مفلاح إلى كون المناهج الحديثة أضرّت بالقراءة العربية للخطاب القرآني، متسائلا عما إذا كان منظّروا التيارات التفويضية والتأويلية والوسطية اعتقدوا ثم علّلوا، أم علّلوا ثم اعتقدوا؟
في كتابه "الخطاب القرآني وقضايا التأمل" الصادر حديثا، يلاحظ د/الحاج مفلاح من خلال دراسة معمّقة لتعاطي العرب مع النص القرآني، إنّ القراءة العربية الحديثة لم تستطع أن تكتسب استقلاليتها المنهجية في مجال تناولها للنص القرآني، ولم تقدر على تبيّن حدود قراءتها فانخرطت في نسق التنازلات لحساب المنهج وإضاعة هويّة القرآني.
ويلفت الباحث إلى أنّ المناهج الحديثة بمقدار ما تكون مفيدة ونافعة في حفز الفكر على التأمل والتجديد، وتنشيط الخيال الإنساني، وإثراء النصوص الأدبية بألوان من التداعيات الإبداعية، تكون وبالاً إذا نقلت من وظيفتها الإبداعية هذه لتكون أداة تقويلية أو تحريفية في النصوص الدينية أو القانونية.
ويستدل د/مفلاح بكون الجوهر الفكري للإجراءات الحداثية في معظمه لا يتفق مع العقيدة الإسلامية بل يعارضها عمداً في أحيان كثيرة، حتى وإن كان يقرّ بإمكانية الاستفادة من الإجراءات التحليلية الصرفة التي جاءت بها (البنيوية)، لكنه لا يستسغ خطية الفكر التأويلي العربي المعاصر المتأثر بالتأويلية الغربية.
وتوصّل الأكاديمي الجزائري إلى أنّ المدونات التفسيرية التي أنتجها الفكر الإسلامي اشتملت في مجموعها على أنماط قرائية متباينة المناهج والإجراءات التطبيقية، منها ما انضوى تحت مظلة القراءة الأثرية(التفسير بالنقل)، ومنها ما ولّى شطر القراءة اللغوية الصرفة، ومنها ما كان البرهان العقلي هو الآمر الناهي.
وفي تشريحه لظاهرة التأويل في الثقافة العربية الإسلامية، يرى مفلاح إنّها ارتبطت بالآية السابعة من آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ).
وفي منظور الباحث، فإنّ الآية المذكورة أدى الخوض في تفاصيلها، إلى انشطار الفكر الإسلامي، وبروز تيارات فكرية متباينة ومتصارحة حينا ومتصارعة في أحايين كثيرة، ويتعلق الأمر بتيار تفويضي تعاطى الخشية، وآخر تأويلي بجرأة، وثالث وسطي وقف يساند الأول بغير انغماس ويجاري الثاني بحذر والتماس، ما جعل مفلاح يتساءل إن كان الاعتقاد سابق عن التعليل أم العكس.
ويقدّر مفلاح بعدم جواز البدء بناصية التأويل منهجيا ومفاهيميا، ما لم تسبقه مرحلة التفسير، ويعزو ذلك إلى كون النصوص ليست كلها متساوية في درجة التأويل فهناك نصوص قابلة للتأويل وأخرى لا يدخلها التأويل لا من قريب ولا من بعيد؛ الشيء الذي أنتج انفراد القدامى على اختلاف اتجاهاتهم الفلسفية والمعرفية، في تعاملهم التأويلي للخطاب القرآني.
كما يبدي مفلاح قناعته أنّه رغم ما خلّفه الأسلاف من مصنفات تفسيرية، لا يزال الفكر الإسلامي المعاصر يعيش عالة عليها، حتى وإن كان يُؤخذ على بعضها من الوجهة المنهجية أنها وسمت على نية التأويل رغم انتماءها معياريا إلى العملية التفسيرية وسط تساؤل وجيه مفادُه: هل المفسرون كانوا يساوون بين مفهومي التفسير والتأويل على سياق واحد؟.
ووفق منهج وصفي تحليلي، بحث مفلاح في مصنفه النفيس، الخطاب القرآني كمفهوم /إجراء، ليتعقب ميزته ومستوياته، قبل أن يعرج على مصادر التأويل في الدراسات القرآنية، وما اكتنفها من ضوابط ومواقف وتموجهات، لينتهي إلى مقاربة الهرمونوطيقا وتطبيقاتها على الخطاب القرآني.
وذكر مفلاح أنّ الهرمينوطيقا نشأت في ظروف تميزت بالرغبة في الانفلات من طوق شروحات رجال الدين للكتاب المقدس، وصاحب هذا الانفلات اعتناق فكر التمرد، والتنادي بحرية ممارسة القراءة ورفض التفسير الواحد للنصوص، والبحث عن دلالات ومعاني جديدة للنص المقدس ترضي فضولهم، وتعزز ثقتهم به.

قوة الفن لا تقل عن قوة الحب- عبد الاله مجيد


قوة الفن لا تقل عن قوة الحب


  عبد الاله مجيد


 تقول دراسة جديدة ان الأعمال الفنية يمكن ان تمنح سعادة لا تقل عن سعادة العاشق الولهان بلقاء الحبيب بعد طول غياب.
وأُخضع افراد عينة مختبرية لتصوير نشاط الدماغ اثناء نظرهم الى سلسلة من 30 لوحة لفنانين عظام. وزادت الأعمال الفنية الأجمل بنظرهم تدفق الدم في جزء محدد من الدماغ بنسبة وصلت الى 10 في المئة أو ما يعادل تأثير النظر الى وجه الحبيب.
وكانت اقوى مشاعر السعادة لدى المشاركين في البحث ناجمة عن تأثير لوحات الفنان الانكليزي جون كونستابل والرسام الفرنسي انغريس الذي ينتمي الى المدرسة الكلاسيكية الجديدة والرسام الايطالي غيدو ريني الذي عاش في القرن السابع عشر.
وأدت اعمال من نتاج هيرونيموس بوش وهونور دومير والفنان الفلمنكي ماسيس الى أقل الزيادات في تدفق الدم لكونها أقبح الأعمال الفنية المستخدمة في البحث. وكانت اللوحات الأخرى التي عُرضت على افراد العينة للفنانين مونيه ورمبراند وليوناردو دافينشي وسيزان.
ونقلت صحيفة الديلي تلغراف عن البروفيسور سمير زكي من كلية لندن الجامعية حيث أجرى البحث ان الهدف هو رؤية ما يحدث في الدماغ حين ينظر المرء الى لوحات جميلة. وما أظهرته الدراسة ان نشاطا قويا يحدث في ذلك الجزء من الدماغ المرتبط بالمتعة حين ينظر المرء الى عمل فني سواء أكان منظرا طبيعيا أو حياة جامدة أو عملا تجريديا أو بورتريه.
وأُجري البحث على عشرات الأشخاص الذين تم اختيارهم عشوائيا ولكن معرفتهم الفنية بسيطة وبالتالي لا يتأثرون بالأذواق السائدة ورواج اسم الفنان.
وقال البروفيسور زكي ان البحث يسعى الى تقديم دليل علمي على ما كان معروفا منذ زمن طويل، وهو أن الأعمال الفنية الجميلة تمنح شعورا بالسعادة. ولكن ما لم يكن يعرفه العلماء حتى اجراء الدراسة هو قوة تأثير الفن في الدماغ.
وتعتبر الدراسة دليلا يؤكد ضرورة نشر الفن وتوفيره على اوسع نطاق ممكن للجمهور العام.

بابلو نيرودا مات مقتولاً -يوسف يلدا

بابلو نيرودا مات مقتولاً

يوسف يلدا

أكد الوزير التشيلي ماريو كاروسا أن إجراءات نبش قبر الرئيس سلفادور  ألليندي سوف تبدأ في 23 مايو/ آيار الحالي، لإخراج جثته وإخضاعها للفحص، بغية تحديد السبب الذي أدى الى وفاة رئيس جمهورية تشيلي منذ 1970 وحتى 1973، في قصر "لا مونيدا"، في ذات اليوم الذي إستلم آغوستو بينوشيت السلطة، إثر الإنقلاب الذي قاده في 11سبتمبر 1973.
وبعد مرور أيام قليلة على وفاة ألليندي، في 19 سبتمبر 1973 تحديداً، كان الشاعر الأكثر شهرة في تشيلي، بابلو نيرودا، قد نقل في سيارة إسعاف، من منزله في "إيسلا نيغرا"، وهي بلدة واقعة على بعد عدة كيلومترات من جنوب "فالبارائيسو"، الى مستشفى سانتا ماريا في سانتياغو، نتيجة إصابته بسرطان البروستات، وإعتلال صحته إثر الإنقلاب العسكري.
وإثر عمليات التفتيش والمداهمات المتكررة لمنزل نيرودا، قرر سفير المكسيك في تشيلي حجز غرفة للشاعر في مستشفى"سانتا ماريا"، ليس لتدهور صحته، بل لأن الطائرة التي كان رئيس المكسيك، لويس ايجيفيريّا، قد خصصها لإنقاذ حياة نيرودا من الموت على أيدي جنود الطغمة العسكرية  الجديدة، كانت ستقلع في يوم 24 سبتمبر الى المكسيك.
وفي طريقها الى المستشفى، كانت سيارة الإسعاف تقل، الى جانب الشاعر المريض، زوجته ماتيلدا أوريتيا، في الوقت الذي كانت تسير خلف سيارة الإسعاف، سيارة أخرى من نوع فيات 125 لونها أبيض، يقودها سائق الشاعر الخاص مانويل أرايا.
وفي 23 من سبتمبر كان نيرودا قد مات، بسبب مرض السرطان، حسب ما أفاد به الأطباء حينذاك. الآن، وبعد مرور 40 عاماً على تلك الأحداث، يعود سائق الشاعر الحاصل على جائزة نوبل للآداب ليؤكد على أن بابلو نيرودا مات مقتولاً من قبل عملاء الطغمة العسكرية. وقد ورد هذا التصريح خلال لقاء منشور، أجرته معه مجلة "بروسيسو" المكسيكية. وطبقاً لما أورده سائق الشاعر عن مجريات الأحداث في شريط فيديو، فأن نيرودا كان يتمتع بصحة جيدة، وقرر حينها الإقامة في المنفى، بالمكسيك، إبتداءاً من يوم 24 سبتمبر، أي قبل يوم من موته.
ويرى أرايا أن هناك من حقن الشاعر بمادة مميتة في معدته، وبأن زوجة نيرودا لم ترغب في إتخاذ إجراءات قانونية خوفاً من أن تفقد ممتلكاتها. وفي هذا الصدد يقول مانويل أرايا:" الأمر الوحيد الذي أدعو إليه هو التوصل الى الحقيقة. وهذه الحقيقة، بالنسبة لي هي أن موت نيرودا لم يكن طبيعياً، وإنما تم حقنه بمادة قاتلة. و ربما يكون أحد الأطباء التابعين لذات المستشفى قد قام بذلك. لأن نيرودا كان قد طلب منا أن نجلب له جميع مقتنياته. وكنا قد رتبنا كل شئ للمغادرة في الساعة العاشرة من صباح يوم 24 سبتمبر". ويضيف أرايا:" وفي الساعة الرابعة عصراً، كان أحد الأطباء قد دخل الى غرفة نيرودا وأعطاه الحقنة التي أودت بحياته، في الوقت الذي كنا قد ذهبنا لجلب مقتنياته. وعندما عدنا الى المستشفى، رأيت بأن هناك بعض الآثار لبقع حمراء على معدة الشاعر. وعندما توجهت الى الحمام لأغسل وجهي قليلاً، وإذا بطبيب يبعثني لشراء المعالج لوبوتان".
ولكن السائق كان قد تم توقيفه، وهو في طريقه لشراء ما طلب الطبيب منه لشراءه. ولم ير نفسه إلاّ وقد القي به في الملعب الوطني. وصادف أن يموت نيرودا في الساعة العاشرة مساءاً من ذلك اليوم، في حين كان سائقه لا يزال محجوزاً . وقبل أن يموت، هو الآخر، يتمنى أرايا السائق أن يكون هناك من بمستطاعه حلّ ذلك الغموض.
لكن، يبدو أن رواية أرايا لا تتطابق وأقوال أصدقاء وكتاب سيرة بابلو نيرودا حول أسباب موته، إبتداءاً من هيرنان لويولا، وحتى ديفيد جيدلووسكي. ويقول داريّو أوسيس، رئيس مكتبة مؤسسة نيرودا ، بأن نيرودا مات نتيجة إصابته بالسرطان، في حين يذكر خايمة كيسادا، مدير الحلقات الشعرية للمؤسسة، من دون أن يدعم أقوال السائق، بأنه ، الى جانب سوء حالته الصحية، فأن نيرودا كان قد تألم كثيراً بسبب ما أصاب تشيلي، الأمر الذي زاد من معاناته، وعجّل من موته.
وفي هذه الأيام يعمل، كل من الصحفي فرانسيسكو مارين، مراسل مجلة "بروسيسو" في تشيلي، ومانويل أرايا، السائق السابق لبابلو نيرودا، وبإصرار شديد، على نبش قبر الشاعر، وتحليل أسباب موته، كما هو الحال مع الرئيس سلفادور ألليندي، من أجل معرفة الحقيقة، ولو لمرة واحدة، فقط، والى الأبد.

حامد كعيد الجبوري - إضاءة / ( يا غريب الدار ) ، وجع أغنية عراقية !!!

Nobuyuki Tsujii - La Campanella - BBC Proms 2013  辻井伸行さん プロムス2013 アンコール


ان هذا العازف الشاب والمكفوف منذ الولادة في اليابان هو معجزة موسيقية
لا تصدق. انه الشاب نوبويوكي تسوجي الذي ولد اعمى في عام 1988 وهوليس فقط
عازف فوق التصديق بل انه ايضا ملحن عظيم.  عندما استمعت الى عزفه الخارق
في قاعة البرت هول  تملكني شعور رهيب بالحزن على ما نحن فيه من تخلف
وطائفية سمجة حتى النخاع وبين ماهو في العالم المتحضرمن اقصى درجات
الابداع في الفن نصيحة من القلب ان تستمع الى هذا العزف... اترك كل شىء
...اغمض عينيك واستعد لمعركة حقيقية مع الروح

الجمعة، 31 يوليو 2015

قصة قصيرة روايتي ذات العالمين- عدنان المبارك

قصة قصيرة


روايتي ذات العالمين


عدنان المبارك

- إذا أردنا أن يكون الواقع محتملا ، علينا جميعا أن نبقي فينا بضع حالات جنون صغيرة. مارسيل بروست


1/2

كل ما سأقوله هو الحقيقة بعينها ، وأقصد روايتي التي سأجهد في نقلها بكل أمانة. أحداثها نسجت في منطقتين : الأولى هي أحلام من قبل أسابيع. بدت كأنها حلقات من مسلسل ليس غريبا عليّ تماما ، فقد إمتزجت فيه وقائع وتصورات من حياتي مع أخرى أجهل مصدرها ، وبقي بعض أبطال أحداثها غير معروف ، كما أني لست موقنا من أن جميعهم كانوا بشرا. ربما كائنات عاقلة أخرى. أما المنطقة الثانية فكانت وقائع من حياتي الرمادية خُلِطت معها بعض الأصوات الداخلية وتصوراتي عن الآخرين والعالم ، وهذه كلها ترافقني ، ومن دون مبالغة ، ليل نهار.
في بدايته كان الحلم الأول عاديا وكأنه من حياتي اليومية التي لاتعرف ، إجمالا ، الإثارة ولا الإنعطافات الخطرة : كل شيء شبيه بمجرى جدول صغير لايسمع حتى خرير مائه. فأنا معوق جسميا حين تعرضت في عام 1994 لحادث في سيارتي القديمة. لم أكن مخمورا بل كان ذاك الشرود المعهود للذهن والذي قادني ، بالقوة ، الى عمود ضخم من الباطون المسلح. جاءني شلل اليد والساق اليمنتين. تدربت طويلا على الكتابة والعمل باليد اليسرى ، كما تخليت عن ممارسة الجنس ورياضة العدو وبعض الهوايات التي كانت قد إستمرت عقودا ، كالنجارة والعزف على القانون الذي ورثته عن جدي - أب أمي. إلا أني لم أجد صعوبة كبيرة في مواصلة الهوايات الأخرى مثل زرع الخضراوات والورود في حديقتي الصغيرة وتربية زوجين من الحمام في قفص صنعته بنفسي قبل العوق ، كما هناك قن صغير للدجاج ، وقد يزعج الجيران صياح ديكه عند الفجر ، لكن لم تصلني لغاية الآن ، أي شكاية منهم. فالضجة الصباحية التي تعملها طيور السماء هي أعلى بكثير من صياح ديكي. أكيد أن حدب السلطات المحلية عليّ هو الأكبر ، ولو كانت أمي لاتزال حيّة لما صدّقت ، ولقالت : ( صدك هاي الحكومة يا وليدي ، عون مو فرعون ). كما أن لعوقي فوائدا ملموسة. فها أني صرت أملك وقتا أكبر للقراءة والتأمل وكتابة ما أشاء. إنها نعمة كبيرة حين يصبح جزء من العالم الخارجي عونا لك وليس كابوسا كما بقية الأجزاء. بدأ الحلم الأول بمشهد إيروتيكي إنتهى بسرعة حتى أني لا أتذكر من كانت شريكتي فيه. تحادثت أيضا مع كائن مجهول لا أعرف أكان إنسانا أم صوتا داخليا فيّ خرج الى المكان وتجسّد بهيئة مخلوق كل ما عرفته عنه أنه شبيه بالإنسان في تماثله : نصفه الأيمن شبيه بالأيسر. أنا أميل إلى الاعتقاد بأنه كان صوتا داخليا ، فما نطق به لا يبتعد كثيرا عن حكمي على أمور كثيرة بينها الإنسان والرب والمجتمع. واضح أن هذه أمور كبيرة ولم تسمح ثلاثة أحلام بإيفائها حقها. الكائن- الصوت فاقني في الهزء والسخرية والنظرة الصاحية الى ما حواليّ. وهذا أعجبني كثيرا. وفي هذا الحلم كان صوته ، أصوات كلماته ، عميقا يكشف عن
مزيج من الأسف والشكوى. وكما الحال في الحلم يضيع الزمن في منعطفاته. لا أعرف المدة التي إستغرقتها حواراتنا. لكني أتذكر جيدا أننا سرنا وكأننا في نزهة طويلة ، عبر وديان ومحاطين من كل الجهات بجبال خرافية العلو. في لحظة معينة سمعته يقول : الجبال. أظنني ولدت بين هؤلاء العمالقة. ومن هنا شعوري بالضآلة. غريب أن الإنسان المولود في هذا المكان لا يشعر أبدا بالضآلة. ربما لأنه يشعر بالحماية تماما وكما شعور الطفل المدلل. نعم ، واضحٌ أنه صوت داخلي. فما قاله مطابق تماما لما كتبته مرة عن الجبال. أخبرني بأنه سبق له أن كان مرات في هذه الوديان. وفي كل مرة يجيئه الإحساس بأن كل واقع هو عبث ، وكما تقولون هو سخف وشيء خال من المعنى. ففي كل حضور ، هنا ، أجد أن واقعا آخر بالإنتظار ، واقعا حرباويا يتلون مع الإثنين – الماضي والحاضر. ثلاثة أرباع الإنسان فارغ يريد أن يضع الرتوش على ماضيه بل التمرد عليه مما يعني التمرد على ملياردات من السنين ، وعلى الخلية الأولى ( إكتشفت أن هذا قول لمفكر معاصر ، وبهذا الصورة إزداد يقيني من أن الكائن قاطن في لاوعيي ) . بعدها إختفى فجأة ودخلت أنا دوامة ً ناطحت الزمكان : أحداث تتعاقب بكل منطق ثم يطرأ العبث والفوضى الطائشة عليها ، وعليّ أيضا. وهذا ما أتذكره من الحلم الأول الذي لم يكن أسود كله بل كانت هناك ألوان أخرى رغم سطوعها الضعيف : وجه تتراجع ملامحه أمام عينين كبيرتين فارغتين مثل فمه. شحوب وجه ميت تخطى ، من زمان ، السبعين. ترتفع فجأة يداه كي تغطيا نصف الوجه. لم يبق هناك غير أنف صقري وتينك العينين. بدتا كأنهما تتضرعان الى السماء رغم أني لم أر أية سماء. كانتا تنظران بيأس وتوسل مطلقين الى أعلى. إنخفضتا. بان الوجه بكامله من جديد. يصلني صوته مثل موجة تصعد وتهبط ببطء تماما كموجة نفط تدفق من ناقلة تعرضت لكارثة توجهت على الفور الى أحد السواحل. كبرت المسافة بين الوجه وما فوقه. ظهر قرص لشمس بشعة مثقبة كالمنخل ، وحشية ٍ تلقي بألوان قاسية على ذلك السائل الأسودالكثيف الذي تحوّل الى أشداق تمساحية تريد أن تبتلع الساحل. أناعلى مبعدة آمنة. يغوص الوجه في هذه الستارة الأفقية السوداء المتماوجة ويظهر من جديد. الفم يتكور وينبسط. لا أسمع ، بوضوح ، الأصوات الخارجة من هناك. أحزر فقط اللاصوت الذي يطلقه الفم : “ كنت أعرف هذا في عمر العشرين. خمسون سنة ضائعة في مثل هذا الإنتظار “. جاءتني رغبة في التحاور كي أخفف عنه وقع الحقيقة ، حقيقته. باغتني خجل من أني في وضع أحسن بكثير. غاص من جديد ثم ظهر هذه المرة من الرأس الى الركبتين. ظل مصدوما ، ذاهلا رغم قوله بأنه عرف الأمر عندما كان في عمرالعشرين. إنقلب ذهول وجهه الى إعتراف صامت بواقعه. فتح فمه ونطق. مرة أخرى لم تصلني كلماته واضحة لكنه إنتبه هذه المرة وكرر ما قاله ببطء وبصوت عال : ( العزاء هو في الحقيقتين : أني موجود وغير موجود تماما وكما هي الحال مع كل شيء ). جاء دوري كي أكون ضحية للصدمة والذهول حين إكتشفت بأني أعرف الوجه من قبل. ليس تماما. هو يذكرني بوجه آخر. وجه كاتب إيطالي لا يعرف بالضبط لم إنتحر. وبهذه الصورة بُتِر حلمي الأول . كان الحلم الثاني لقاء قصيرا مع صاحب الوجه نفسه. حلم متقطع من بدايته الى النهاية بل بدا مثل مرآة جاءها حجر كبير وصارت شظايا صعب عليّ جمعها . كانت هناك شظايا كبيرة لكنها من أماكن متفرقة. وهذا ما أتذكره من ذلك الحوار:
هو - الأوبئة كثيرة . لكن الأخرى التي لا تهاجم الجسم هي الأخطر. بعضها إكتشفها الإنسان منذ أن إمتلك العقل. ربما قبلها. الشك ، اللايقين ، الريبة وغيرها من منغصات الروح. السعي هنا هو الوصول الى اليقين التام. مائة بالمائة ، أليس كذلك ؟ بهذه الصورة أضاع هو الإثنين – ضيّعَ المشيتين!
أنا - ( تذكرت المثل الرائج في بيتنا القديم خاصة : “ لا حظت برجيلها ولا خذت سيّد علي “ و لم أتردد في أن أذكره كدعم للمثل عن تضييع المشيتين ) نعم ، لا حظت برجيلها … !
هو – بالضبط ! لكن هناك مطبا خطرا آخر ، وربما لم تنتبه إليه ، أو أنك لم تقرأ ماقيل في موضوعه أيضا ، أقصد أن هناك من يعتاد على الريبة أو اللايقين الى درجة شعوره بفخر من نوع خاص : إذن أنا أعلو بلايقيني ولا أنقاد ، مثل بقية الخراف ، الى اليقين. لا ، أبدا ، فأنت لاتعتبر نفسك أذكى من الاخرين، بل أقل سذاجة منهم. من ناحية أخرى فكلما يشعر واحدنا بتفاهته ، بالحد الأدنى من قيمته ، يكن إحتقارا أكبر للآخرين ، بل يحصل الأسوأ : كفوا عن أن يكونوا موجودين بالنسبة له...
أما في ( الشظية ) الثانية فكانت هناك ضحكات متبادلة إثرتعليق أطلقه الكائن على الإنسان : ( هناك من هذا الجنس البشري من لايريد أن يكون إنسانا. إنه يحلم بشكل آخر من التدهور ) . أتذكرُ أني ضحكتُ عاليا ، أعلى من ضحكته التي اعقبت تعليقي : ( لكن هناك من يشتهي أن يكون من أكلة لحوم البشر ، وليس لأن إلتهام أحدهم يأتي بالمتعة ، بل بالأحرى تقيؤه ).
وهذا كل ما أتذكره من حلم ( الشظايا ).

أماالحلم الثالث فكان شديد الغموض ، بل لم يبق منه سوى نتف بالغة الصغر: هذا المخلوق يملك الكثير من عاداتنا السيئة : يدخن بنهم ، يحك جلده كمن أصابه الجرب ، يمسك بيده قنينة شراب كحولي يكرع منها. يتجشأ بصوت عال. يطلق ريحا بكل لامبالاة ووقاحة. لا أعرف ما قاله إلا أنه كان بالغ الحكمة. أظنه تعمد في خلق مثل هذا التعارض السمج بين الجسم والعقل. لكن نكاية بمن ؟ بي ؟ بالإنسان عامة ؟ بالرب ؟ وفي الأخير طلب مني نقودا كي يرتاد دار بغاء يعترف الجميع بها ولايعترفون كما قال. ألح في طلبه الى درجة أنه أراد رشوتي بإطلاق حكم أخرى. أتذكر منها القليل : آخذا بعين الإعتبار ضعف ساعدي لما إستطعت أن أكون جلادا. / الثقافة مشروطة بالضعف الجسمي لدى الإنسان. / لا أقدر على تصور الله الذي يعفو ويعاقب كائنا خلقه هو بنفسه، ويفكروفق مقاساتنا أيضا. بإختصار : إنه الله الذي ليس إلا إنعكاسا لأحوال الضعف البشري. /كل ما كان الجسم أضعف يحكمنا أقوى. / قوة صغار الناس تكمن في عددهم. / أسوأ خطايانا إزاء أخوتنا ليست الكراهية بل اللامبالاة ، ولأنها غير بشرية . / القوة التي لا يرافقها الشعور بالمسؤولية هي الخطرة بأفظع الصور...
وفي الأخير أعطيته النقود. إختفى على الفور من هذا الحلم. خيّل إلي بأني كنت أسمع قهقهات أطلقها. ربما غناء ، ربما لحنا أو جزء منه ، كنت قد سمعته في أماكن تعود الى ماضيي في تلك المدينة التي لم ينسها الإثنان- الرحمن والشيطان...
أنتقل الآن الى المنطقة الثانية في روايتي. منطقة غريبة. لاتعرف الإعتدال وخلق توازن مقبول بين الخارج والداخل حيث يخيل إلي بأن لاوجود للأول في معظم الأحوال بل هيمنة الثاني الفظة. وهنا لا أفتقد مختلف أنواع الحجج والبراهين والمبررات ، فهذا العالم الخارجي هو أحد الذئبين المتعاركين فيّ. الثاني هوعالمي. لا أعرف أيّ منهما أطعمه كي يواصلا العراك ، كي ينتصر أحدهما في الأخير. لا أعرف هل صحيح هو القول بأن العالم سيصبح أفضل إذا إستثنى الإنسان مبدأ العين بالعين. أميل الى الإعتقاد بأن العالم لامبال ، ولامبالاته تنعكس فيّ. فعلاقتي بالأشياء ، وياللغرابة ، قائمة كلها على اللامبالاة. لا ، ليس تماما ، وإلا لغرقت في الأوساخ وإنداحت دوائر جنوني أوسع فأوسع. ليس جنوني الخاص بل جنون العالم والذي أفرزه فيّ. هذا واضح ، وإلا من أين الجنون الذي يصبح أكثر فأكثر شبيها بتسونامي الطبيعة. الطبيعة ، العالم ، الجنون ، أهي كل صادرات الله المعفية من الرسوم الجمركية ! لا أتفق مع زميل يمارس ، مثلي ، الكتابة في أوقات الفراغ فقط ، حين منح صك البراءة للعالم ، وإتهم الإنسان ، وبالضبط غير المؤهلين منا ، على ما حصل ويحصل، وما سيحصل أيضا. منطق غريب حقا. فلا أظن أن العالم كان أفضل قبل مجيئنا. لا أحد يقنعني بأن العالم في تبّدل ، فالأمر كله لا يعدو أن يكون ظهور حلقات جديدة من مسلسل الجنون الذي خُلق مع النطفة الأولى ). الساذج وحده يملك الوهم بأنه يرى العالم في كل مرة ، كما لو كانت هي الأولى. نعم ، الأسرار تحاصرنا ، ونحن نتظاهر بأننا نعرف هذا وذاك بل نفهم كل شيء ولأن شماعة الله هي عند الطلب. أكيد أن صمتا عظيما سيطبق على العالم لو تحادث الناس عما يفهمونه فقط. الناس. المحادثات. الفهم.
كلها أمور كمالية لست بحاجة إليها. فكم من مرة إكتشفتُ / خلقتُ / إخترعتُ ، وأنا في عزلة نموذجية ، كل هذه الإكسسوارات التي أستطيع ، ببساطة ، أن ألقيها من نافذتي. قاموسي يحوي كلمات أخرى. الوحدة ، سراب السكينة ، الدوران مع الأنا والتمخطر بمعداتها أمام أنصار العالم والعقل الذي نفخوه فوق طاقته. كلا ، أنا أفضل بل أنا منجذب كقطعة حديد صوب مغناطيس الفراغ ، صوب الوحدة ، صوب ظلام يمحو الهيئة الخارجية للعالم. أقول أيضا إنني أتوق دائما الى الغناء في الظلام ، فالضوء يقطع أوتاري الصوتية. ولاخجل من هذا ، فالكثير من أشقائنا اللبائن يعيش في الظلام. وحتى قبل عوقي كان العالم قد كف عن أن يثير إهتمامي. صحيح أني أردت ، لكن قبل سنين ، أن أعرف كيف الوصول الى نهاية العالم. فضول طفولي. الأطفال مقتنعون تماما بأن هناك نهاية للعالم. وهو شيء رباني ، ملائكي ، جميل جدا أن تكون طفلا ينظم الفوضى أو يبعثرها كما يشاء ، تماما كما في كتب توفه يانسون: ( مومين الصغير تصور نفسه شجرة زان. إنحنى الى النصف وأخذ يتحرك عبر أكوام من الأوراق الميتة ثم نهض ناشرا حوله ضبابا. في الأخير تنهد ونظر بحنين الى النافذة. شعر بأنه المخلوق الأكثر وحدة في العالم ). هكذا كتبت في ( بابا ومومين الصغير والبحر). لقد عرفتْ جيدا أن كل وحدة تعني رفضا للعالم وأيّ كانت المتع التي يوفرها. كل المومينات لاتعرف بأن الفوضى هي النظام الذي دُمِّرعند خلقِ العالم ِ. كثيرون يتفقون مع ستيفن كنغ بأن العالم هو مكان صعب حقا. صعوبته في لاإكتراثه لك ولي رغم أنه لا يكن لنا الكراهية ولا الحب. لا حاجة الى القول بأن أمورا فظيعة تحدث فيه. أمورا لا نعرف كيف تفسَّر.
يوستين غوردير وقع في أردأ سوء فهم : ( لسنا نحن من يجيء الى العالم بل العالم يأتي إلينا. أن تولد لايعني الأمر أكثر من أنك قد وُهبت العالم كله ). كيف يا أخي ؟ وما هي هذه الهدية ؟ لو كان الأمر متعلقا بهدية من نوع آخر كأن يأتي هذا العالم الينا ونحن بلا جسد ووعي وعقل ، لفهمته على الفور. أو لنأخذ تلك الرسالة التي وجهها إليّ قاريء لا أعرف شيئا عنه سوى : ( جمال ج. ). قد أتفق معه. فهناك هوس ليس بالصغير في قصصي وغيرها يتعلق بهذا الحفر المستمر في النفس وتحجيم العلاقة مع كل ماهو خارجها. هناك مثل هذه النتف لجمال ج . : ( أنت من دون جذور... أنت تحتقرنا جميعا من خلال إحتقارك للزمان والتأريخ والخالق الأكبر … أنت لا تخرج من ثقبك المظلم ولا أعرف هل تجهل أن هناك شمسا أم أنك تخشى أن تعميك ... أنت … أنت … إلخ). سيدي جمال ج . كل ما تقوله صحيح عدا أمر واحد وهو أني لا أكن الإحتقار لك والباقين بل أكاد أنفجر بسبب هذا القدرالذي يطاق من الرثاء لنفسي وللجميع. ليس ذنب أحد ، عدا الفيزياء ، حين يحصد تسونامي معيّن مثل هذا العدد المفزع من البشر. أرجوك ، لاتصدقْ أن هذه النكبات ، بل كل النكبات هي من فعل الله. ولنكن منصفين ، ونبعد عنه شماعة ذنوبنا وجرائمنا وحماقاتنا ( في الحقيقة كتبت ردا طويلا ، وقد فوجئت بأنهم نشروه كاملا ، فهذا عمل تطلب شجاعة هي نادرة في زمننا الغاطس في اللاحلول أوأنصاف الحلول أو ربعها أو جزءا منها لايرى بالعين المجردة ، وصفقات البيع والشراء وغير ذلك من الممصالح التي أزاح محرابها محراب الله )... في ردّك كشفت عن أنك تملك فكرة ملموسة ، لكنها أُجهضت مبكرا، عن الوحدة التي ، وكما كتبتَ ، تعود بالإنسان القهقرى الى ما قبل كل أجناسه بدء بالإنسان المنتصب القامة وإنتهاء بالعاقل... يا أخي أنت تخطيء كثيرا، وكما يبدو أنت تحب القراءة لكن تلك التي قالت عنها فتاة جميلة ( عرفت هذا من صورتها التي أرفقتها بنص عاطفي جدا ، رومانسي جدا لكني وجدت أيضا بين السطور إيروتيكية لم تستطع الجميلة أن تكتم رائحتها ) بأنها تمنحها متعة كبيرة ومن نوع خاص. المسكينة فرجينيا وولف كتبت في ( أورلاندو ) : (… إلتذَّ بشعورأنه لوحده دائما ، ودائما ، ودائما ). أتراجع هنا ، لكن قليلا ، بالقول إن وحدة الإنسان ذات بعد ميتافيزيقي مطلق ولاعلاقة لها بكينونته البيولوجية ولا الإجتماعية. في ( المسيرة الكبرى ) لستيفن كنغ نقرأ : ( ... القضية الأساسية هي التفكير ، تأملها غاراتي Garraty . التفكير ، التفكير والوحدة ، وليس بالمهم مع من تقضي الوقت ، ففي النهاية أنت وحيد ). كذلك إستشهدتُ في رسالتي الى جمال ج. ، بإعتراف صغير ، لكنه ديناميتي أيضا ، جهرَ آينشتاين به : ( أنا جوّال وحيد حقا ولم أنتم ، ومن كل قلبي ، الى بلدي وبيتي وأصدقائي بل وحتى الى عائلتي الأقرب. وهكذا لم أفقد أبدا البون والحاجة الى العزلة ). رغم كل الجهد الذي بذلته لم أخدع النفس بأني أقنعت جمال ج. ولو قليلا ...

أعود الى كتابة هذا النص. توقفت عنها لأكثر من ثلاثة أاسابيع. داهمتني أثناءها أمراض غريبة لم يفلح طبيبي ذو الصوت المخملي والحركات السريعة ، في تشخيصها جميعا. كانت هناك إنفلونزا عادية لكنها قصفت ، بلا رحمة ، الجزء السليم من الجسم . ظهرت لطخ حمر على الساق
المشلولة سرعان ما تحولت الى دمامل صغيرة ثم إختفت بعد أربعة أيام. صفير حاد ودائم في الرأس والأذن اليسرى خاصة. التشخيص : عطب قديم في هذه الأذن زائد عواقب الضعف العام وفقدان حوالي 10 كغم من وزني. نصحني أيضا بأن أكف عن التمارين الصباحية والتعويض عنها بالجلوس على كرسي مريح في الحديقة ( لكن ليس طويلا ، فالشمس في حالتك يكون ضررها أكبر من نفعها ). اثناء الجلوس على الكرسي صرت أقرأ الصحيفة المحلية يوميا. ما أثار إنتباهي أن فيها أخبارامرهبة عن منطقتنا التي تحولت فجأة الى سدوم وعامورة بل أفظع بكثير :عدا اللواط والزنا ومضاجعة الأم والأخت كانت هناك جرائم القتل والسرقة وحرق البيوت والمتاجر ( بالأحرى متجرين لاغيرهما ). ما أثار إستغرابي أن مثل هذه الأخبار لم تظهر في نشرات التلفزيون والميديات الأخرى. وما زاد من فزعي أن هذه الأخبار ذات صدقية. فالشوارع المذكورة فيها هي شوارعنا ، كما خمنّتُ أن بعض أبطال هذه الأخبار أعرفه بحكم الجوار ( في الصحيفة ذكرت الأحرف الأولى من الأسماء فقط ). رغم ذلك بقي عندي كثير من الشكوك ، فكل شيء عندنا هاديء ، كالعادة ، إذن كيف حدث كل هذا ولم أنتبه إليه ؟... كانت قراءة تلك الأخبار تجربة بالغة القسوة حتى أني فكرت بأن محررها لجأ ، وكما هي العادة في الميديات ، الى الإثارة الرخيصة. في كل الأحوال قمتُ بحفظ هذه الصحيفة في حاسوبي كي أعود إليها عند الحاجة. إلا أن المصادفة جمعتني بجاري اللطيف ( أ . ي ). سألني عن أحوالي الصحية ، وكان قد لاحظ زيارات الطبيب ، ثم أبدى إستياءه مما نشر في تلك الصحيفة : - عزيزي هير نعمان . لكل شيء حدوده ، وحتى لو كان الأمر يخص إختلاق ساينس فيكشن أو حكاية للأطفال. لكن أن يأتيك كويتب ويتسلى بدور البصاص ثم يكتب عنك ما يشاء ، فهذا غير مقبول أبدا … لا خلقيا ولا قانونيا ، أليس كذلك ؟ بالطبع لا إعتراض لدي على الكتابة الفيكشنية ، لكن لماذا زج أناس أحياء بها مثل ذكر مختصر أسمائهم وأسماء شوارعهم ، في مثل هذه السرحات السردية ؟ ماذا يا عزيزي ، يبدو أنك جاهل بما حدث ؟ أنت معذور بالطبع ، شأن كل مريض. أها ، أنت قرأت الصحيفة ! لكن يا عزيزي لم تكن تلك أخبارا بل الجزء الأول من رواية هذا الكويتب. هير روبرت ، وآمل أنك تعرفه ، فهو يسكن في شارعنا أيضا ، وعد ببحث القضية وهل هناك فرصة لرفع دعوى ضد هذا الكويتب الذي إرتكب جرم التشهير. وإذا أردتَ أن تعرف رأيي بكل هذا ، فأنا أجده جنونا ، وإذا إستمر بهذه الصورة فسوف يختفي الواقع الذي شُيّد ،عندنا ، بكل صبر وطويلا. أرجو أن تفتح صندوق بريدك ، فالساعي أخطا مرة أخرى : ألقى رسائلك في صندوقي. بإعتقادي أن الوقت قد حان كي يحال الرجل على التقاعد ...


سامح كعوش: بين الشعر والجنس علاقة المحفز على أجمل ما يمكن للشعر أن يقوله -محمد الحمامصي

سامح كعوش: بين الشعر والجنس علاقة المحفز على أجمل ما يمكن للشعر أن يقوله


محمد الحمامصي

شاعر في "هذا الليل سيطوي جناحاتي"، "غريب دم"، "سنجاب في المدينة"، "سريران وكفى"، و"أكحّلكِ بنجمة"، وناقد في "سؤال المفردة والدلالة"، "رؤى وردة المعنى"، "تحولات الرمل"، "مفتاح الريبة"، و"جماليات الأنا الشاعرة"، وروائي في روايته اليتيمة "غواية الماء"، إنه الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني سامح كعوش الذي تتجلى في تجربته خصوصية القلق الإنساني وتوهجه في تجلياته العربية خاصة، وتتشكل صورها من مخيلة خصبة تلتحم فيها الروح بالجسد ويعترك فيها الحضور مع الغياب وتتسق فيها اللغة مع الرؤية، هكذا تتقدم التجربة من عمل لآخر في سياق من الخصوصية والنسيج الشعري المتميز، الأمر الذي انعكس حتى على كتابته الروائية وقراءاته النقدية.. وفي هذا الحوار معه نتعرف على جوانب هذه التجربة وتجلياتها.
** بداية نود إلقاء الضوء على المرتكزات الأولى التي تشكلت في ضوئها ملامحك كشاعر؟
** أنا من المؤمنين جداً بأن الشاعر يولد شاعراً، وينشأ شاعراً، ويموت شاعراً، فلا هو صالحٌ للحياة ولا صالحٌ للتجارة ولا للأعمال ولا للعلوم حتى، لأن الفطرة التي يولد عليها تؤهله لهذا الحدث الجلل الذي سيحيا عمره باحثاً فيه وعن تحققه في مرآته، ومنذ صغري كنت أهذي بما يشبه الشعر، وكتبت القصائد المسجّعة في حصار بيروت وأنشدتها على أثير إذاعة لبنان العربي من داخل المدينة المحاصرة، وكانت أمي تشجعني دائماً، وتسمع قصائدي وتثني عليّ كثيراً، وكان أبي رحمه الله يسميني "الديك الفصيح" ولم أكن أبلغ من العمر الثانية عشرة بعد.
ولا شكّ في أن للبيئة المحيطة الأثر الكبير أيضاً، فقد كنا نحن فلسطينيي لبنان تحديداً، نعيش أزمة الهوية وفورة الشعور الوطني والقومي في أعلى مستويات تجليها، وكان مطلوباً من كل من امتلك موهبة الكتابة أن يدلي بدلوه في هذه التظاهرة اللغوية الجماهيرية بغض النظر عن مدى تحقيقها لطموحاته في الاشتهار ومدى اقتناعه هو نفسه بجدواها أو رضاه عنها بشكل عام.
** قدمت حتى الآن ستة أعمال شعرية آخرها "أكحّلكِ بنجمة"، هل يمكن تقسيمها إلى مراحل وكيف ترى لطبيعة كل مرحلة؟
** أعتقد أن المراحل في التجربة أمرٌ لا بد للشاعر من أن يعيه وينساق إليه طوعاً، تبعاً للسن وعمر التجربة والأدوات المتوفرة، وبالنسبة إلي فقد عشت المرحلة الأولى من عمر تجربتي الشعرية ملتزماً القيم الفكرية والإنسانية الكبرى في حب الوطن والانتماء الوطني والقومي، وكانت ثمرة تلك المرحلة مجموعتاي الشعريتان "هذا الليل سيطوي جراحاتي" 1991، و"غريب دم" 1993، ولكن بعد هاتين المجموعتين انشغلت أكثر بهم الصراع القرية المدينة، وتجربتي في مدينة بيروت، والبحث عن ملامح الإنسانية الغائبة في غابة الإسمنت ووجوه الأقنعة المستعارة، وتجلى ذلك في مجموعتي "سنجاب في المدينة" العام 1998، وبعد ذلك انشغلت أكثر بتجربة الاغتراب والسفر، وجبلتني هذه التجربة حتى عشت غربتي بكل معانيها، وأمانيها، وكان إصدار مجموعتي "سريران وكفى"، أما مجموعة "أكحّلكِ بنجمة" فكانت قمة اختمار تجربة العاشق في الشاعر، وانسكاب الشغف في شكل اللغة، واحتراق الذات بجمر ما يلبها من رغبات ولذات ممنوعة.
** تحتفي تجربتك بالجنس المفعم بتجليات الذات والعالم.. كيف ترى للعلاقة بين الشعر والجنس في القصيدة؟ وهل ثمة رؤية خاصة تنطلق منها في تجربتك؟
** اسمح لي أن أقول وبأعلى صوت، "التاريخ العربي كله جنس، والحاكم العربي كان بارعاً في الجنس أكثر من براعته في المعارك والبطولات الكاذبة، ولهذا جمع في قصره الواحد آلاف المحظيات والجواري والنساء، لكن التاريخ الرسمي لم يشر إلى هذا إلا قليلاً.
الجنس الذي يعنيه كل الناس هو علة هذا الوجود وأداة تناسل وتواصل للبشرية، و ليس من المعيب التطرق إليه في الشعر بل وفي التعليم والحياة نفسها بكل جوانبها المجتمعية والفكرية، بل من المعيب حقاً أن ننحط بفهمنا إياه عن فهم الأولين الذين تركوا لنا نفائس التراث المكتوب في الحديث النبوي والمباحث القرآنية، والشعر الجميل، وبعض الكتب المتخصصة كتاج العروس ومتعة النفوس، وظهر الربيع، وغيرها الكثير، أما الجنس الذي أعنيه أنا فهو هذا ومضافاً إليه لذة العاشق، وخوف العارف، وحكمة المتصوف، وروحية المنتشي بما لا يتحقق، لأنها لعبة الشاعر وإبداع مخيلته الدافئة.
نعم، أعمل على كشف الإرث العربي في هذا الجانب لأنه الأكثر صدقاً والتصاقاً بالحياة نفسها، وكشاعر أحتفي بالشغف واللحظة الواقفة في الزمن، حين يلتقي عاشقان بكل ما أوتيا من رغبة، وبكل ما كتبت لهما الحياة من انسكاب أنا الواحد في الآخر، عاشقان ولا يكفّان عن طلب المزيد، هذه هي العلاقة بين الشعر والجنس وهما واقعان في الحياة طبعاً، علاقة المحفز على أجمل ما يمكن للشعر أن يقوله، وأجمل ما يمكن للشاعر أن يقع فيه من الغوايات الملهمة بقصيدة دافئة، لا تتقن الرقص ولا تموسق مشاعرها تبعاً لمستفعلن فاعلن.
** تتنازع لغتك الشعرية لغة أقرب للغة الحياة المعاشة ولغة تنتمي إلى الشعرية العربية التراثية.. هل لنا أن نتعرف على العلاقة التي تربطك باللغة؟
** اللغة بالنسبة للشاعر هي مرجل المشاعر وأداة التعذيب ووسيلة التعبير، ولولا ما فيها من جماليات فائقة القدرة، وسحرية، وجاذبة وفنية، لما استطاع الشاعر أن يقول شيئاً، وبهذا فهو يستنجد بها، بل ويتأثر بها، فأنا مع النظرية التي تعتبر أن اللغة هي المحفزة للشاعر أحياناً وهي التي تعطيه العصا السحرية التي يكتب بها ويكش بها على غنمه، ويرشد بها الغواة الذين يقودهم في وادي التيه.
تربطني باللغة علاقة ولاء واحترام بل وتقديس، فاللغة العربية لغة معجمية علّمت اللغات الأخرى الاشتقاق واتسعت لكل تعبير تبعاً للمتغير في المكان والزمان، واحتفظت بحداثتها المتجددة، وهذا ما أثبته في كل كلمة أخطها وكل سطر أكتبه، واللغة العربية مقتدرة بين أخواتها، لغة الضاد الفريدة والوحيدة، اللغة الممتلئة كأنثى ذات أرداف أعزّها الله والعرب قديماً، فكتبها الشعراء وغنوها، وضحك الشاعر في الحرب حين مر طيفها ولمع بارق ثغرها على حد سيفه.
** تجمع ما بين الشعر والنقد الأدبي، متى بدأ الجمع وكيف هو تأثير الناقد على الشاعر؟
** هنا أيضاً أستطيع أن أؤكد أنني ضد النطرية القائلة بموت الشاعر في الناقد، فالنقد الذي أمارسه يختلف عن النقد الذي نعرفه وعرفناه طويلاً، فأنا أعتنق مذهب النقد الجمالي الذي لا يحرر مخالفات ضد الشعراء، ولا يكتب بيانات الشجب والتنديد والاستنكار، بل ينساق في عذوبة وفرح مع جماليات النص مهما كانت متواضعة، فيكفيه هنا شرف محاورة النص، ومحاولة النقد.
أنا أكتب النقد كشاعر، ورغم أنني امتلكت مفاتيح العملية النقدية وأدواتها في سنوات دراستي الجامعية، ورغم أنني تتلمذت على يدي كبار النقاد، وأولهم الدكتور سامي سويدان في المذهب البنيوي والتفكيكي، والدكتور نبيل أيوب في المبحث الجمالي في الشعر، والذي قرأت كتابه في الجمالية وعشت أسلوبه حتى غلب عليّ، وصيّرني شاعراً يقرأ في جماليات الشعر ويوازي النص بالنص، والمفردة الجميلة بمثلها، ويرد تحية الشعر بأحسن منها، بعيداً عن تعقيدات المذاهب النقدية الأخرى والتي ثبت عجزها عن مجاراة جمال الشعر ووحيه الآتي تواً من وادي عبقر، وإن معتمداً أجوات نقدية منتقاة بعناية من مختلف المذاهب النقدية التاريخانية والنفسية والبنيوية والتفكيكية وغيرها.
** تعاملت نقديا مع التجربة الشعرية الإماراتية هل لنا أن نتعرف على رؤيتك للخارطة الشعرية الإماراتية وكيف ترى لإنجازات شعرائها؟
** بعد اطلاعي على المنجز الإبداعي الأدبي الإماراتي، انحزت لهذا الكم والنوع المتألق من الكتابة في مختلف صنوف الأدب من شعر وقصة ومسرح ورواية، وصرت مؤمناً بحقيقة أن هذا المنجز، شأنه في ذلك شأن المنجز الإبداعي في الأطراف، في الخليج عموماً والسودان والمغرب العربي، بعيداً عن قطبي مصر وبلاد الشام، هذا المنجز يعاني من التجاهل، واللامبالاة في أحسن الأحوال، وهذا ما يجعله غائباً عن خارطة الأدب العربي، رغم محاولات جادة كثيرة من قبل المؤسسات الحكومية لاحتضانه، إلا أنها لا تكفي ولا تستطيع أن تفرضه على المتلقي العربي، هذا المتلقي الذي تهمه البساطة في الوسيلة، وأنا أعوّل كثيراً على دوري ودور كثيرين مشغولين بهذا المنجز لنتمكن من القيام بقليل الواجب في التعريف به عربياً.
نعم، هناك شعراء كبار في المشهد الشعري العربي من الإمارات، هناك سلطان العويس، ومانع سعيد العتيبة، وحبيب الصايغ، وأحمد العسم وظبية خميس وعبد الله السبب، وخلود المعلا والهنوف محمد وكثيرون لا يتسع المجال لذكرهم، وهؤلاء تركوا ويحفرون بصماتهم في الشعر الحداثي العربي ولا يقلون أهمية عن أي من الشعراء العرب من المراكز الثقافية العربية الكبرى.
** يرى البعض أن هناك تدهورا في حالة النقد العربي التطبيقي المتعامل مع الشعر خاصة، وأن ما يعانيه الشعر من تراجع مرده إلى ذلك ، كيف تقيم الأمر؟
** نعم هناك تدهور في الحالة العربية بعامة لا في النقد التطبيقي فقط، وهذه الحالة تنعكس على مناحي الأدب وشجون الأدباء والنقاد، فكيف لنا أن نحلم بنقد جاد ومسؤول إذا كان الحكم في بلادنا غير مسؤول، وغير جاد حتى في ممارسته لحكم عيته، ودليلنا إلى ذلك ما يحدث اليوم من قتل يومي على امتداد الخارطة العربية.
أما الشق الثاني من السؤال فلا أوافقك الرأي فيه، فالشعر ينمو في الأزمات، والشعر معضلة وقلق والشعراء أبرع من يتقنون التعامل معه، فالشعر يتأجج في الأزمات، ويتألق في المعاناة، ولا يحتاج للنقد إلا في مقاربته لجماليات هذا الشعر، فأنا ضد الدور التأديبي للنقد والذي يقوّم الشعراء بالعصا، ويفعل فيهم فعل الصيرفي في النقود كما اعتدنا تعريف النقد قديماً، عيب أن نستمر بهذا الهراء بعد الف عام ونصف من التجريب في النقد، متكئين فيه على الفلسفة والفكر والجغرافيا والتاريخ فندرس بيئة الشعر وحالة الشاعر ونسقط على النص كل غبائنا، علينا أن نترك للشعر مساحة الحياة، وكما حدث في العالم كله، على الشعر العربي أن يكتب النص الموازي له ولا ضرورة لأن يكون نقداً مدرسياً وأكاديمياً.
** تحتل قصيدة النثر المشهد الشعر العربي الآن على الرغم من أن الاعتراف الرسمي بها يلقى مقاومة، هل تتابع مشهد قصيدة النثر وكيف ترى لحضوره في مقابل قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية؟
قصيدة النثر هي الشكل الأخير للشعر وهي تجلّي اللغة في أجمل نموذج، خارجةً من عباءة التاريخ الأصفر، وشعوذات المفكرين والمتحدثين وجهابذة الأدب والإيقاع، ولهذا فهي تواجه بالممانعة الرسمية من السلطات القائمة على قيم التقليد الثلاث: الدين والسلطة والجنس، هي نبوءة الخراب الجميل، نبوءة الحياة القادمة لا المعاصرة فحسب، ومفتاح الريبة في البحث عن التحقق الجديد لإنسانية ما بعد الحروب العالمية والكونية والمجازر بحق الإنسانية التي يرتكبها أناس اعتادوا النمطية في كل شيء، في الشعر العامودي والتفعيلة التي أنتجها نتيجة عملية تجميل جراحية فاشلة، النمطية في الوزن الخليلي والإيقاع العروضي وقفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، نمطية الولاء والانتماء وعسكرة المجتمع، والحزب الواحد والفكر الواحد والفرد الواحد، وقصيدة النثر هي كل ذلك لأنها قرّبت الشعر من الحياة، وكل شكل لاحق سيستحضرها في التجربة لتكونها، أما العودة إلى الموسيقى فستنحصر حتماً لتصير من اختصاص مؤلفي وشعراء الأغاني السريعة كوجبة "ماكدونالد".


أوبيريو الحركة الطليعة الروسية التي أبادها ستالين-عبد القادر الجنابي





أوبيريو الحركة الطليعة الروسية التي أبادها ستالين



 ملاحظة: هذه المقالة هي جزء من كتاب قيد الاكتمال حول كل عباقرة الأدب الروسي في القرن العشرين الذين قضى عليهم ستالين؛ عباقرة لم أجد لأي منهم ذكرا في كل ما ترجمه من الأدب الروسي جدانوفيو الثقافة العربية .

عبد القادر الجنابي

من الكلمة الانجليزية Harm (الأذى) والكلمة الألمانية Charm (الظرافة)، نحتَ دانييل يوفاتشيف المولود عام 1905 في سان بطرسبورغ (لينينغراد) اسما مستعارا، دانييل خارمس، عرف به كمسرحي وشاعر وناثر وكاتب قصص للأطفال. شارك في عدة تجمعات أدبية جديدة ظهرت بعد ثورة اكتوبر، وقرأ شعره وشعر الآخرين
كمايكوفسكي في الساحات العامة وفي الأمسيات الشعرية. وكان نشيطا في تأدية قصائده مع الشاعر المستقبلي الكسندر توفانوف. ثم تعرّف على المخرج المسرحي ايغور تيرينتيف فاسس فرقته المسرحية راديكس. وبعد أن احتك هو ورفقاؤه (الكسندر فيدنسكي، نيكولاي زابولوتسكي، ليونيد ليبانوفسكي، ياكوف دروسكين، قسطنطين فاغينوف، نيكولاي اولينيكوف وايغور باختيريف) بالحركات التجديدية التي شهدها الشعر الروسي في الربع الأول من القرن العشرين، أسسوا عام 1927، مجموعة داخل اتحاد أدباء الروس اسمها "اتحاد الفن الحقيقي". ومختصر "اتحاد الفن الحقيقي" بالروسي "أوبيري" (Oberi) إلا أن سيّد الإيقاع اللغوي خارمس أضاف الواو(u) فجعل حركتهم في مأمن من اللاحقة ism (ياء التسمية) الملعونة بها التيارات الطليعية (المستقبلية، التعبيرية، الدادائية...) والتي بسببها يتحول النشاط الحر إلى عقيدة. فأصبحت الحركة معروفة تحت اسم "أوبيريو" ( OberiU)، والعضو يطلق عليه (Oberiuty) أي "أوبيريوي".
وهدف "اوبيريو"، التي تعتبر آخِر شرارة طليعية روسية شهدها المجتمع الروسي قبل أن يتحكم بمصيره الدكتاتور "الجيورجي الفظ ستالين"، على حد عبارة لينين، هو "تحويل الحياة الخاصة الى حقيقة فنية... تصوير العالم على نحو يموضعه بوضوح". وقد وزعوا في أول أمسية أقاموها في الرابع والعشرين من كانون الثاني عام 1928 (في مسرح دار الصحافة)، ما يعتبر بيانهم الأول والأخير: "إعلان أوبيريو". وقد أشترك في كتابته نيكولاي زابولوتسكي ودانييل خارمس. وهو مكوّن من أربعة إيضاحات؛ (1): "وجْهُ أوبيريو الاجتماعي"؛ (2): "شعر الأوبيريويين" (3): "سبل نحو سينما جديدة"؛ (4): "مسرح أوبيريو". وقد جاء في "شعر الأوبيريويين": "نحن، الأوبيريويين، نتعاطى ممارسة الفن بكل نزاهة. نحن شعراء إدراكٍ جديدٍ للعالم ولفنٍ جديد. لسنا مبدعي لغة شعرية جديدة فحسب بل، أيضا، مؤسسي شعور بالحياة والأشياء المأهولة بها. إرادتنا في الإبداع كونية: فهي تتعاطى كل الأشكال الفنية وتقتحم الحياة ماسكة بكل تلابيبها. والعالَم، المتسخ بلغات حشد من الأغبياء الغارقين في مستنقع "الانفعالات" و"العواطف"، ها هو يولد من جديد بكل صفاء أشكاله الملموسة والباسلة... إننا العدو الأول لأولئك الذين يخصون الكلمة ويصنعون منها سِقطا عقيما لا قيمة له. في إبداعنا، نحن نوسع مؤدّى الشيء والكلمة، لكننا لا ندمره (المؤدى) بأي حال من الأحوال. فالشيء الملموس ما إن يتخلص من القشور الأدبية والمبتذلة، حتى يصبح مُلك الفن. في الشعر، صدام المعنى الكلامي بآخر يعبر عن هذا الشيء بدقة الآلة. ها انتم تشكون بأنه ليس هنا الشيء نفسه الذي ترونه في الحياة؟ اقتربوا والمسوه بأصابعكم. انظروا إلى الشيء بعيون عارية وسترونه منظفا، للمرة الأولى، من طلائه الذهبي الأدبي المتفسخ. ربما ستصرّون على أن مواضيعنا غير حقيقية وليست منطقية. لكن من قال أن المنطق "اليومي" كان إلزاميّا للفن؟ نحن نندهش بجمال امرأة مرسومة بصرف النظر عن أن الرسام، على عكس المنطق التشريحي، قد خلع لوح الكتف وأزاحه جانبا. للفن منطقه الخاص لا يدمر الشيء وإنما يساعدنا على فهمه".
فـ"الفن الأصيل"، كما كتب خارمس، "يخلق عالما، ويؤسّس انعكاسَه الأوّلي. إنه حقيقيٌّ دون أي شك. الفن الأصيل لم يعد مجرد كلمات وأفكار على الورق، وإنما هو شيء حقيقي كزجاجة الحبر المنتصبة أمامي على الطاولة. يبدو لي أن قصائد بعد أن تحولت إلى أشياء حقيقية ملموسة، يمكن أن تُرفَع من الورق وترمى على نافذة، فيتكسّر زجاجُها". ويريد من هذا أن تكون القصيدة شيئا ملموساً، صلباً. لا فرق بين قصيدة ومطرقة. فالكلمة هي الموئل المادي الذي ينقل إلينا أصوات الكون، إيقاعات الأصول والأشياء، لا الجذر اللغوي أو الدمدمة النحوية.
وهكذا دخلت "أوبيريو" في معركة واضحة مع سياق المعنى المعطى الذي أصبح كليشة أدبية مميتة... وقد تطلب هذا أصالة شعريّة عميقة، تدرك ضرورة "كنس كل طرق التعبير القديمة والتخلص من قاذورات أدب الماضي المنخور"! أوضح هنا أن معظم الشعراء الطليعيين الروس كانوا يعبرون عن رغبة عميقة بالتخلص من الماضي، بينما الحزبويون الشيوعيون والاشتراكيون كانوا يحترمون الماضي... وهذا سبب آخر للصراع بين الطليعة والحزب.
 ما يميّز حركة "أوبيريو" هو تشديدها على فرادة كل عضو فيها، إنها مغامرة نصّيّة لا تبحث عن مصفّقين وإنما أن تندلعَ شرارةَ معرفةٍ في أذهان المحتكين: "كلُّ واحد منا له شخصيته الإبداعية، وهذه حقيقة اختلط أمرها على البعض. إذ من الواضح أنهم يفترضون بأن مدرسة أدبية هي أشبه بدير، حيث الرهبان لهم الشخصية نفسها. اتحادنا حرٌّ وطوعيٌّ يتوحّد فيه الأساتذة لا المتعلمون؛ الرسامون الفنانون لا الرسامون الدهّانون. كلُّ واحدٍ منا يعرف نفسه الفنّيّة، وكلٌّ يعرف كيف تلك النفس متصلة بالآخرين..."
هذه أولُّ مرة تنتبه فيها حركة أدبية إلى أنها ملتقى انفرادات خلاقة، وليست مدرسة أتباع وببغائيين... حدّ أن كل عضو فيها يمكنه أن يعلن للملأ: "أنا نافورتي"، على حدّ عبارة فيدينسكي. لكن هذا لا يعني أنه كان من السهل الانتماء إلى الحركة، فكان خارمس وزابولوتسكي، وفق الأوبيريوي المعمر الوحيد ايغور باختيريف في مذكراته، يختبران إمكانية المرشح الإبداعية من خلال أجوبته على أسئلة مثل: "أين أنفك؟"، "ما صحنك الفضل؟"... الخ

ورغم أنَّ كلمة "يساري" أصبحت، في نظر الستالينيين، تهمةً بالخيانة للثورة الروسية، إلا أنّ أمسيتهم الأولى هذه كان عنوانها: "ثلاث ساعات يسارية".
الساعة الأولى كانت مخصصة لقراءات شعرية تتم بين الدواليب موضحين بذلك شعارهم "الفن هو دولاب". ووزعوا شعاراتهم المضادة للذوق العام على شكل ملصقات على

الحائط مثل "أشعارنا ليست فطائر... ونحن لسنا أسماك الرنجة"! أو "الشعر ليس عصيدة حتى يُؤكَل من دون مضغ، فيُنسى فورا".
والساعة الثانية تم خلالها عرض مسرحية دانييل خارمس "اليزابيث بام"، الجريئة في عبثيتها شكلا ومضمونا، وتعتبر بحق أنها أول مسرحية عبث كتبت في التاريخ. تبدأ المسرحية بمشهد نرى فيه اليزابيث حبيسة في غرفتها هربا من مخبرين جاءا لاعتقالها بتهمة لم تتضح بعد. وعندما تتهمهما بأن لا ضمير لهما، يتغير الجو فتبدأ لوحة جديدة نرى فيها المخبرين يتجادلان فيما بينهما حول إذا فعلا لم يكن لهما ضمير، قبل أن يصرح احدهما لاليزابيث بأنها مذنبة لأن لا صوت لها... فننتقل الى مشهد ثالث يتحول فيه فجأة المخبران إلى لاعبي سيرك يؤديان ألعابا بهلوانية وأحدهما يتوسل اليزابيث بأن تتركه أن يذهب إلى البيت لرؤيته زوجته وأطفاله... وهكذا يتقلب مضمون المسرحية من مشهد عبث إلى عبث اكبر، إلى أن تنتهي بالمطاردة نفسها بين اليزابيث والمخبرين.
والساعة الثالثة مخصصة للأفلام، عبروا فيها عن دعوتهم من أجل خلق سينما جديدة: "على السينما أن تعثر على وجهها الحقيقي، وعلى وسائلها لخلق انطباع وعلى لغتها الخاصة بها فعلا". فالحبكة في نظرهم لم تعد مهمة فما هو مهم بالنسبة إليهم هو "جو" الموضوع المختار. وكنموذج لهذه التجربة عرضوا "فيلم رقم 1" (للأسف ضاع)، يبدأ بلقطة طويلة: قطار جد طويل يمر أمام الكاميرا.
وقد أثارت هذه "الساعات اليسارية الثلاث" التي كان فيها صفير الجمهور وصياحهم واستخفافهم جزءا من العرض، انتباه السلطة إلى خطورة عبثهم اليساري النزعة، فشنت الجرائد الموالية للسلطة نقدا عنيفا ضدهم واصفة أعمالهم بـ"الزعرنة الأدبية"، فأصبح الأوبيريويون، في نظر الجدانوفية الصاعدة بوجه كل ما هو سام وجميل، "أعداء طبقيين"!! وتجب الإشارة هنا إلى أن السلطات كانت تراقب قراءات خارمس منذ أن صرح عام 1927 أثناء قراءة بأنه "لا يقرأ في الاصطبلات والمواخير"، وقد فُسرّت على أنها شتيمة للمؤسسات الثقافية السوفيتية. لكن مع هذا تابع الأوبيريويون أمسياتهم الممسرحة حتى 8 نيسان 1930 عندها شنت صحف السلطة هجوما عنيفا عليهم معتبرة "نشاطات اوبيريو الشعرية الهُرائيّة، احتجاجا على ديكتاتورية البروليتاريا ولذا فإن شعرهم مضاد للثورة، إنه شعر الأعداء الطبقيين". وإثر هذه الهجمة الصحافية المتزامنة مع تصفية المعارضة التروتسكية للستالينية، القي القبض على دانييل خارمس والكسندر فيدنسكي عام 1931، وأرسلا الى معسكر اعتقال، وفيما بعد خُفّفَ الحكم عليهما إلى النفي الداخلي أي ممنوع عليهما العيش في مدن كبيرة. وحكم النفي هذا كان صعبا جدا للمنفيين، إذ يضعهم في اماكن لا يعرفون فيها أحدا، وليس من السهل العثور فيها على ما يسد لقمة العيش؛ حكم أشبه بعلامة تجعلهم منبوذين. 
بعد عودتهما الى لينينغراد، لم يبق أمام أعضاء حركة أوبيريو سوى مرحلة التأسيس المنغلق في حلقة سميت chinar وتعني "الرتبة" وهي أشبه بلقب تطلق على كل واحد، وأفضل نصوصهم كتبت في هذه المرحلة المنعزلة عن الجمهور. فأخذت الحلقة تجتمع في بيت الفيلسوف ليونيد ليبافسكي أو في شقة دانييل خارمس ليتناقشوا فيما بينهم فلسفيا وجماليا حول مواضيع النص/ الكاتب، الزمن / اللغة. وقد دون ليبافسكي في دفاتر معظم الحوارات التي تمت بين 1933 و1934. وصدرت طبعة روسية لها قبل سنوات. يجب أن أنبه القارئ إلى أن من خصائص هذه الحركة أنّ أعضاءها كانوا يفضلون النقاش الدائم فيما بينهم، وأحياناً على نحو يبدو بيزنطيا، حول أمور جد تجريدية. لكن من يقرأ هذه الحوارات/ المناقشات سيندهش لكمية الفكاهة والروح الجدية في تناول مواضيع جد ميتافيزيقية، أو أشياء لا يلتفت إليها أحدٌ، بينما الظلمة الشمولية الإرهابية كانت تتسيّد في كل زاوية وشارع، في بيت ومنعطف!
علاوة على أن هذه الحركة ولدت في قلب سان بطسبرغ (أي لينيغراد، وكان خارمس يكره التسميات الشيوعية للشوارع والمدن، بحيث كان دائما يحافظ في كتاباته على الأسماء القديمة)، حيث كانت حركة الشكليين، ومجموعة المفكرين الملتفين حول ميخائيل باختين، تجترحان نظرة نقدية أدبية جديدة سيكون لها الأثر الكبير على الدراسات الأدبية في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنها أضافت تساؤلات أخرى حول الكاتب والنص، الواقع والتخيّل، والمعنى وانعدامه، مُحاوِلةّ نسف الأطر الثابتة للسرد، ولمفهوم النص ذاته، وتقويض المفهوم الشائع بأن "المؤلف هو مركز النصِّ المُّوحَدُ"، حد التشكيك بصِحَّة أي مغامرة سردية مبنية على الفهم التقليدي للزمن.
كما أن مغامرتهم الشعرية كانت تتقاطب والتجديدات الفنية لرسّامي سان بطسبورغ، خصوصا تجديدات ماليفييتش وفينيلوف. فكازيمير ماليفتش، مثلا، كان قد أطلق دراسات سوبرماتية وضع فيها أسس الانقلاب على تمثل العالم الطبيعي والالتجاء الى خلق أشكال صافية جديدة حيث كل عنصر يشكل كلا مستقلا: "كلُّ شكلٍ هو عالَمٌ" وهذا مشابه لمفهوم خارمس باستقلالية جملة، كلمة في كل نص. بل كان خارمس يصدي، في سردياته، ما كان يدعو إليه مالفيتش: "بضرورة خلق أشكال من اللاشيء". وقد وصف ماليفيتش اكتشافه السوبرماتي قائلا: "شعرت ان الليل لا غير داخلي، وعندها تخيلت الفن الجديد الذي سميته بالسوبرماتية". فخلق قواعد فنيّة جديدة تقوم على أسس التصميمات الهندسية: الدائرة والمربع مخترقا، هكذا، التعدد اللوني الى اللون الأحادي حيث يتربع قمة التجريد أبيض فوق أبيض. وعندما مات كازيمير ماليفتش ألقى خارمْس قصيدة أثناء مراسم دفنه. أما الفنان بافيل فينيلوف فهو مؤسس تيار الواقعية التحليلية، المضادة للتكعيبية المنتشرة آنذاك، فالرسام الواقعي التحليلي، في نظر فينيلوف، بتقديمه الأشياء يستخدم عناصر روحها الداخلية، على عكس الرسام التكعيبي الذي يستخدم عناصر هندستها الخارجية.
لقد كانت "أوبيريو" ثريّة في طموحاتها لفتح النص على آفاق بعيدة عن أوهام الواقع / المعنى القبْلي (أي سابق على كل تجربة). وثراؤها جد كبير بحيث يمكننا التصريح بأنّها كانت تحمل البذور نفسها التي عُرفَت بها الاتجاهات الأدبية الطليعية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية كمسرح العبث، مسرح القسوة، موجة الرواية الفرنسية الجديدة
والقصة القصيرة جداً جداً... الخ. وسواء حققت مشروعها أو لم تحققه، فهي تبقى أشبه بمرآة لِما كان من الممكن أن يحدث للحركات الطليعية الأوروبية لو انبثقت في روسيا إبان انتشار الظلاميّة الشموليّة، من إلغاء، وسحق وسجن وموت. فمن حسن حظ مؤسسو السوريالية الفرنسية، الدادائية الأوروبية، المستقبلية الإيطالية، التعبيرية الألمانية، أنهم دشنوا ثوراتهم في ظروف حرة نسبيا بالمقارنة مع ظروف صعود الستالينية؛ ولولا ذلك لما كان لهذه الحركات حضور.

ذات يوم كان ما سيكون: دانييل خارمس
أُعتقل دانييل خارمس عدّة مرّات إمّا إثر وشاية ملفقة أو بسبب سوء فهم كتاباته العبثية المتطرفة، ودائما بتهمة "بث روح الانهزامية وسط الشباب". وذات مرة داهمته الشرطة السرية، وظلوا ساعات طويلة يقلّبون كل أوراقه بحثا عن سبب لاعتقاله، فوجدوا، أخيرا، كلمة "الله" في إحدى قصائده (انظر "الربّ هو أنا"). فاعتقل لمدة 3 أشهر بتهمة الانتماء إلى منظمة دينية. فبقي منذ 1930 وحتى وفاته يكتب دون أن ينشر، باستثناء القصص التي كان يكتبها للأطفال، من أجل لقمة العيش، لكن ليس لوقت طويل. فقد عاش خارمس السنوات الأربع الأخيرة من حياته من دون مصدر رزق سوى بيع ما لديه من أثاث وحاجيات، بما أن اسمه كان مسجلا في اللائحة السوداء. ويشهد على ذلك دفتر يومياته حيث امتلأ بفقرات عن وضعه ومرض زوجته وعن ديونه متوسلا "الرب أن يساعده"، وكأنه بطل رواية كنوت هامسن "الجوع"...: "أكلنا وجبة جيدة (نقانق ومعكروني) للمرة الأخيرة. إذ لا أتوقع وصول مال لا غدا ولا بعد غد. لم يعد لدي ما يمكن بيعه. فقبل ثلاثة أيام بعت مدونة اوبرا "رسلان" بخمسين روبل، وهي ليست ملكي. هكذا تصرفت بثمن ملكية شخص آخر. باختصار قمت بعمل لا يمكن توقعه. والآن، لم يعد ثمة أمل. كذبت على زوجتي مارينا بأني سأتسلم غدا 100 روبية، والحقيقة هي إني لن أتسلم أي فلس بعد الآن" (3 اكتوبر 1937). وفي أواخر 1941، عندما حاصر الجيش النازي أبواب لينينغراد، وبدأت حملة اعتقالات لكل المشبوهين في نظر الستالينية، تم اعتقاله بتهمة الاسطوانة نفسها؛ "نشر الانهزامية وسط الشباب". لكن ليس للسلطة من دليلٍ على هذا سوى كتاباته الدائرة في انعدام المعنى، خصوصا من المعنى المرسوم من قبل الحزب. فرُمي في سجن حراسه أنفسهم كانوا يعانون من نقص في التموين الغذائي، فظل أياما لا يحصل على لقمة... اصيب بالجنون فنقل إلى مصح السجن... وهناك مات من شدة الجوع في شباط 1942.
وقد كتب في الدفتر الأزرق في الرابع من اوكتوبر 1937:
على هذا النحو يبدأ الجوع :
 في الصباح تستيقظُ نشيطا،
 ثم ينتابك الضعف،
 ثم تشعر بالملل؛
 ثم تفقد سرعة الخاطر
ثم تهدأ
 وعندها يحل الرعب.
لقد كان والده على حق عندما قال له: "يا دانييل، بما انك اخترت هذه الكلمة الانجليزية Harm اسما لك فإن الأذية ستلاحقك حتى الموت"!!
مع أن خارمس كان يكره الأطفال كرها شديدا، إلا أنه يعتبر أعظم كاتب قصص روسية للأطفال. وقد حظيت بالنشر أبان حياته في مجلة "القنفذ" حتى عام 1937 أي العام الذي أعدم فيه رفيقهم نيكولاي اولينيكوف الذي كان مدير تحريرها. أما ما يسمى في قاموس المؤرخين كتابات خارمس للبالغين، فلم تحظ بالنشر على الإطلاق، فقد بقيت مجرد مخطوطات، لم ينشر منها طوال حياته سوى قصيدتين. إذ كان من الصعب أن يجد دار نشر أو مجلة خصوصا إبان الحملة الستالينية لفرض الواقعية الاشتراكية أسلوبا على جميع الأدباء أن يسيروا على خطاها. وكان من الممكن أن تُدمَّر كلّ كتاباته هذه لو لم يذهب رفيقه في حركة "أوبيريو" الفيلسوف ياكوف دروسكين برفقة مارينا ماليتش (زوجة خارمْس الثانية)، إلى شقته الواقعة في شارع مايكوفسكي رقم 11، بيوم واحد بعد موته، ويجمع كل أرشيف خارمس من دفاتر ومخطوطات في حقيبة كبيرة، واحتفظ بها سرا أكثر من عشرين عاما، إلى أن ذاب جليد الستالينية بحرارة المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي (1961) الذي أدان الحقبة الستالينية وممارساتها القمعية خصوصا ضد الأدب، ادانةً جزئية لكنها أضاءت بعض ضحايا الواقعية الاشاراكية. فكانت إعادة نشر قصصه للأطفال أول إعادة اعتبار لخارمْس. فيما بعد ظهرت اول انطولوجيا لنصوصه غير المنشورة عام 1974، لكن الطبعة هذه تضمنت أخطاء كثيرة في التحقيق، كما يقول جان فيليب جاكار في أطروحته، عن أوبيريو وخارمس، التي باتت مرجعا لا مناص منها. لكن ما بين 1978 و1980 عمل باحثان مختصان بخارمْس على إصدار الأعمال الكاملة منقحة ومحققة بدقة، صدر منها 3 أجزاء.
إلا أن كتاباته الأساسية كان عليها أن تنتظر فترة البريسترويكا في أواخر ثمانينات القرن الماضي، لكي تظهر ظهورا كاملا جعلها تحظى بقبول واسع الانتشار بحيث أصبح خارمْس أشهر من علم. ذلك أن جيل الأدباء الجدد المحدثين؛ أدباء نهاية المعسكر الاشتراكي، وجدوا في نتاجات الأوبيريويين، بالأخص في كتابات خارمْس وفيدنسكي ماضيا يمكن الافتخار بجذريته الحداثوية ذي الكلمة النظيفة التي بقيت منبع أسرار أصيلة؛ بل وجدوا الحلقةَ المفقودة بينهم وبين التجارب الطليعية التي انتعشت قبل صعود الستالينية. من هنا أخذ هؤلاء الأدباء الجدد ينقّبون عن هذا الإرث الذين كانوا هم وريثه الوحيد، في كل مجلة، نشرة، بل حتى في ملفات المخابرات السرية الستالينية، حيث قام أحد المختصين بعمل أشبه بالبوليسي لتقصي كل كتابات خارمْس المُصادرَة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن جدانوف، الكاره لكل ما هو ابتكار وخلق، صرح ان كل هؤلاء الكتاب سينساهم التاريخ، اكن المفارقة التاريخية هي ان التاريخ نسي جدانوف في احط مزابله، وأعاد الاعتبار  لكل هؤلاء الكتاب كعلامة على عظمة الأدب الروسي في القرن العشرين.
هذا لا يعني أن خارمس، أو أيّ "أوبيريوي"، كان يكتب نصوصا مرموزة ضد الواقع الستاليني، وبالتالي هناك رغبة سياسية وراء نبش نصوصهم. لو كان الأمر كذلك، لما كان لنصوصهم أيّة أهمّية اليوم خصوصا بالنسبة للأجيال الجديدة، بل لبقيت مطمورة (مثل مئات من القصائد والقصص)، في ملفات الحقبة لا تصلح إلا للدراسات التاريخية. كلا، لم تكن هذه لعبتهم. وخير برهان على ما نقول هو خلو نصوصهم من الاستعارات والمجازات الصالحة لإخفاء معنى ما. فمحاكم التفتيش الستالينية عجزت ليس، فقط، عن إثبات أي شيء يبرهن على أنّ لهم عداءا للنهج السوفيتي، بل حتى عن فبركة اتهام موضوعي ضدهم. فلم يكن الخوف من معنى سياسي متوار يخفونه، وإنما الخوف منهم كان بسبب أسلوبهم المتميز بفقدان المعنى المتعارف عليه، مما كان يجعل المخبر السرّي يقف أبلهَ، فاغر الفم، غير قادر على استنتاج أي شيء. فالسرد الذي اعتمدوه لفضح المعنى بمفهومه الفلسفي، كان واضحا؛ أبيضَ كجليد سيبيريا. على أنّه صحيح القول بأن كتابات خارمس بالأخص، كانت "تعكس حالة اغتراب الإنسان في المجتمع، تفكك اللغة وبالتالي فشل التواصل وعدم تماسك عالم غارق في الجنون الستاليني"، كما كتبت هيلاري فنك. لكن بأسلوب يثير "الضحك الذي هو نتيجة صحوة مأساوية"، كما وضح جان فيليب جاكار.
"هذا هو هذا.
ذاك هو ذاك.
هذا هو ليس ذاك.
هذا هو ليس لا هذا.
ما تبقّى هو إمّا هذا أو لا هذا.
الكل هو إما ذاك أو لا ذاك.
ما هو ليس ذاك ولا هذا، هو لا هذا ولا ذاك.
ما هو ذاك وهذا، هو في هذا عينِه.
ما هو في هذا عينِه، ربما ذاك، لكن ليس هذا،
أو هذا، لكن ليس ذاك".

كان دانييل خارمْس يستخدم أوزان الشعر الحر واللعب على القافية لفتح الكلمات على نفسها، كما وضح فيليب جاكار. وهو يختلف عن فيدنسكي في نقطة مهمة وهي أنه تحول من كتابة المسرح إلى النثر حيث اتخذ السرد طريقة لتجريد الجملة البسيطة من أية غرضية حِكَميّة، بحيث لا يعود للسرد أية وظيفة مفهومية وإنما فقط وظيفة بنيوية. فسردياته فيها الحد الأدنى من الكلمات، تبدو وكأنها استخلاص مكثف لعدة أجناس أدبية الحكايات الخرافية، الأمثولة، قصيدة النثر، القص البرقي، المونولوغ، المحاورة... له رواية قصيرة واحدة (40 صفحة) عنوانها "العجوزة"، وله عدة مسرحيات مكتوبة تكاد وكانها عبارة جيل ديلوز "مسرح صاف بلا مؤلف، بلا ممثلين وبلا مواضيع". لا ننسى أن حركة "أوبيريو" نفسها بدأت كنصوص عرض تؤدى مسرحيا على طريقة مسرح العبث المعروفة، ومعظم أعمال فيدنسكي حوارات شعرية، أما خارمس فهجر هذا الشكل متجها إلى السرد.
وأحيانا يشعر القارئ كما لو أن خارمس يخلق عن عمد صراعا بين المؤلف والنص، فالسارد، في عدد من قصصه خصوصا النصوص المجموعة تحت عنوان "حوادث" (الكلمة الروسية
Slutchai تعني أيضا حدث، مصادفة، حادث طارئ...)، يدخل فجأة من دون دافع معين في القصة... يقوم بأعمال غير مفهومة، ثم يسقط، أو ينسى ما كان يريد أن يقوله، ثم يخرج دون أن نعرف ما القصة. فنشعر وكأن القصة تعيش تدميرا ذاتيا. أو ينهيها فجأة بعبارة "هذا كل ما هناك" أو "كفى". وأحيانا يكتفي بعبارة واحدة تبدأ بداية ينتظر منها القارئ رحلة قصصية طويلة، لكنها فجأة تتوقف، وكأنّ الغاية هي إنقاذ القص من عبودية الإنشاء:
" رجلٌ ذكي جداً ذهب إلى الغابة، وتاهَ".
يتبع خارمس، وهنا ساعتمد على جان فيليب جاكار، على ما يسمى بالسرد الذي يولد ميتا، مثلا: "في الثانية بعد الظهر، في شارع نيفسكي، أو بدقة أكثر، يوم 25 اوكتوبر، لم يحدث أي شيء خاص". وفي "صِلة"، سلسلة أحداث عرضية كل حدث مستقل بنفسه.. بينما هناك صلة بين شخصيات القصة لم يدركوها إلا بعد أن ماتوا. وفلسفة خارمس تقوم على أن العالم هو مجموعة تأثيرات بلا قضية، يتصادم واحدها بالآخر. ومن هنا يولد الإحساس بالعبث. إن مأساة الإنسان تكمن في عدم قدرته على فهم العالم إلا على نحو متشظي، والرابط  الذي يوحده  بما يحيط يبدو له منكسرا واعتباطيا.. صحيح أن هناك دائما ثمة رابط بين حدثين لكن لا نستطيع تحديده.
أدب العبث: اختلاف جوهري
غالبا ما يطلق مصطلح العبث
Absurd أو اللامعنى Nonsense على حركة "أوبيريو"، بينما الكلمة الروسية التي استخدمها الأوبيريويون كصفة لأعمالهم هي (bez smysla) وتعني حرفيا "انعدام المعنى". وهنا فرق دقيق: هو إن خارمس وفيدنسكي بالأخص كان يجعلان من "انعدام المعنى" مكان استقصاء شعري لما وراء لغة العقل، وليس استخدام اللامعنى كضد للمعنى، كما هو شائع. فالنزول في نهر عدم المعنى له غاية واحدة ألا وهي اكتشاف معنى آخر متحرر من الروابط العرضية والمنطقية والعقلانية بين المعنى والكلمة. ذلك أن طبيعة العالم/ الأنا لا يمكن فهمها إلا عبر انهدام أنماط الإدراك العقلانية. بينما أدب العبث ينطلق وكأنه تقرير عن تصدع العالم. رغم هذا الفرق، فإن أغلب النقاد يعتبرون، خارمس، الرائد الأوّل لأدب العبث بمعناه اليونسكوي أو البيكيتي. لكن رغم أن هناك تقاربا أسلوبيا بين خارمس وبيكيت مثلا، إلا أننا نعلم أن حركة "أوبيريو" لم تلد كردة فعل على غياب الهدف والقيمة من الوجود الإنساني، كما جاء أدب بيكيت ويونسكو وكامو، وإنما على العكس ولدت في أوج الأحلام الثورية والتحمس البشري لخلق مجتمع إنساني حر. وغالبا ما استخدموا صفة اليسارية على بعض فعالياتهم المسرحية. وفي هذه الفعاليات كان ثمة قصد هو المساهمة، على طريقتهم، في أخذ الثورة إلى أبعد أفق حيث البهجة البشرية لا تتم إلا بعد أن يتخلص العقل من مرضه بأن هناك حقيقة يتمثلها وبالتالي كل ما هو مخالف لها زائف. وحتى عندما انحرفت الثورة انحرافا دكتاتوريا قاتلا، فإن كتابات حركة اوبيريو لم تتحول قطعا إلى بيانات أو نصوص ضد الوضع البوليسي الجديد، وإنما انغلقت على نفسها. كما إن العبثية التي تتسم بها كتابات خارمْس، مثلا، تختلف جوهريا عن أدب العبث الذي تجلى بعد الحرب العالمية الثانية على يد يونسكو وبيكيت فمدرسة هؤلاء ناجم عن الشعور باليأس ومتأثرة بالكافكوية بينما "عبث" خارمْس المتأثر بأدب لويس كارول، فضاء مضاء لا مكان فيه للثنائيات التفاؤل/ اليأس؛ المعنى/ اللامعنى. وإنما مفتوح للتساؤل البهيج يسموا بالمشاهد / القارئ إلى ما وراء ضفاف حياته المحددة بمعان مُلّقَنة. فخارمس لا يبحث عن حقائق ضائعة وإنما يريد من العبث والهراء وسيلة كشف عما لم نره مما نحس به: وها هي الحقيقة المطلقة حقيقة قابلة للسقوط عند أول مساءلة لها. كانت لنا أفكار غريزية عن الفاصل بين المعنى واللامعنى وها هو خارمس يكشف لنا أنه غير موجود. من هنا كانت خطورة خارمس وحركة اوبيريو في نظر نظام هدفه الأول والأخير فبركة حقائق زائفة وتثبيتها كحقائق مطلقة. لقد كتب خارمْس في إحدى دفاتره موضحا موقفه: لا أهتم إلا بالهرائيين فقط، بما لا ينطوي على أية دلالة عملية. فالحياة لا تهمني إلا في مظهرها الأخرق فقط. ذلك أن البطولة، الاستمالة، الشجاعة، الأحكام القِيميّة، الصحة، الأخلاق، الشفقة والجموح ما هي إلا الكلمات والمشاعر عينها التي أكرهها. على أنني أتفهم كليّا وأحترم: التحمس والإعجاب، الإلهام واليأس، الاندفاع والرزانة، الفساد والعفة، الحزن والكآبة، الفرح والضحك"
الأعضاء الآخرون
نيكولاي زابولوتسكي (1903-1958)، كان العضو الوحيد الذي كان له ديوان شعر مطبوع "أعمدة" (1929). وقد انضم إلى حركة "أوبيريو"، بعد أن كتب مع خارمس "إعلان ثلاث ساعات يسارية". غير أنه بسبب مشاحناته المتواصلة مع فيدنسكي، ترك الحركة عام 1932، وواصل كتابة قصص للأطفال وعمل مترجما إلى أن أعتقل عام 1938 وأرسل الى معسكر الاعتقال الغولاغ. وبعد أن أطلق سراحه عام 1944، راح يتجه نحو أشكال كتابية تقليدية وأصبح، بعد الحرب العالمية الثانية، شاعرا مقبولا في الوسط الأدبي الرسمي. ولخص الشاعر الروسي الكبير جوزيف برودسكي انجازه بالعبارة التالية: "لقد فعل زابولوتسكي للأدب الروسي في القرن العشرين ما فعله غوغول للأدب الروسي في القرن التاسع عشر". في أواخر حياته قال: "إني أعتمد على القارئ الذكي الذي له استعداد لاستخدام عقله كما يستخدم مشاعره لتذوق الشعر". هنا مطلع قصيدته "معركة الفيلة":
اسمع، يا محارب الكلمات
دع الليل يغني بسيوفك.
خيْلُ النعوت تدوس
دمى الأسماء، المتداعيةَ
الخيّالة ذوو الشعر الأشعث
يدحرون دبابات الأفعال
وقنابل الملاحظات الاعتراضية
تنفجر لهباً فوق الرؤوس.
معركة الكلمات، قتال المعاني
ثمة ضجيج عام في برج تركيب الكلام.
أما نيكولاي اولينيكوف (1898-1937) الناشر الشيوعي في النهار، والطليعي في الليل"، كما كان يسميه البعض، فقد انضم إلى الحزب الشيوعي السوفيتي عام 1920 وبقي فيه حتى إعدامه عام 1937 بعد أن كتب اعترافا تحت التعذيب بأنه يعمل في منظمة تروتسكية يسارية معادية للسوفييت. أنشأ عام 1925 دارَ نشرٍ تعنى بأدب الأطفال في لينينغراد. مع أنه لا يمكننا اعتباره عضوا بكل معنى الكلمة، إلا أنه يعتبر جزءا من تاريخ حركة "أوبيريو". ويعود ذلك إلى كونه تبنى معظم مواقفها الشعرية، وحافظ على صداقة حارة وعميقة مع مؤسسيها، إذ بفضله تحسنت أوضاع خارمس وفيدنسكي المعيشية، فمجلته "القنفذ" الصادرة عن الدار، هي المجلة الوحيدة التي كانت تشر كتاباتهما للأطفال. ضاعت معظم أعماله، ولم يبق منها سوى 1500 بيت شعر. يتميّز شعره بفكاهة سوداء ترصد حالات غريبة . فمثلا كتب قصيدة عنوانها "الذبابة" تتحدث عن شخص يروي كيف وقع في غرام ذبابة عندما كان شابا وكان غالبا ما يتأمل جمالها بالميكروسكوب واكتشف أن الذبابة هي أيضا كانت مغرمة به؛ وأن واحدهما يكمل ويقبّل الآخر. وعندما كبر راح يعاني الأمراض، والذبابة ماتت منذ زمان، فبقي وحيدا متحسرا على الأيام الحلوة مع ذبابته ذات السيقان المتعددة. أما قصيدته "تشارلس داروين"، فهي تروي كيف أن داروين ذات يوم، راح يتفحص طائراً صغيراً قصيرَ المنقار، فأكتشف كم هو جميل هذا الطائر بحيث وجد نفسَه مقارنةً به لاشيء، فأخذ داروين يلعن الطبيعة لقسوتها في خلقه دميما، فأخرج مسدسه وأطلق النار:
تشارلس داروين كان بيولوجيا مشهورا
لكن لم يكن جميل الوجه.
وهناك أيضا كتّاب النثر كالفيلسوف ياكوف دروسكين (1902-1980) فله أعمال كثيرة فلسفية ولاهوتية وشعرية ويوميات ودراسة عن باخ، ولا ننسى دوره العظيم في الحفاظ على مخطوطات خارمس وفيدنسكي واولينيكوف وانقاذها من الضياع... فلولا دروسكين لما كان هناك تراث اسمه أوبيريو. أما الفيلسوف الغريب ليونيد ليبافسكي (1904- 1941) الذي مات أثناء معركة لينيغراد، فقد ترك مخطوطات فلسفية ولغوية منها "نظرية الكلمات" و"رسالة في الماء"، وكان يعتبره خارمس "منظر حلقة الرتبة".
ختاما، آمل أن يقوم مترجم دقيق بنقل، عن الروسية وليس عن لغة ثانية ومع مراجعة دقيقية (لأنها جد متشابكة ومتجذرة في اشتقاقات اللغة السلافية)، رواية "أعمال وأيام سفيتونوف" التي كتبها أحد مؤسسي "أوبيريو" قسطنطين فاغينوف (1899-1934) الذي مات بمرض السل. فهي رواية غريبة تعتبر جزءا من تراث "أوبيريو"، بلغتها الفريدة واعتمادها على مونتاج شبه سينمائي مذهل في خلق الشخصيات ووصف الأحداث البشعة التي يمرون بها. وبطل الرواية سفيستونوف هو كاتب شاب يبحث عن رواية، فيجدها مشهدا فمشهدا، حدثا فحدثا، شخصية فشخصيةً. هكذا نجول معه في شوارع بطسبورغ الخلفية وحدائقها، وهو يتصيد شخصيات روايته من العالم الحقيقي، ويسيطر على ماضيهم في مخطوطته. وسفيستونوفوف لا يدخل بيت أحد دون أن يرى مكتبته فيدون عناوين الكتب ويطلع على محتوياتها ليستخدم جزءا منها في روايته. ففي نظره، ليس ثمّة مبدأ أخلاقي، وليس هناك اختلاف أساسي بين الميت والحي، فكل ما لديه هو موهبة اختلاق شخصيات وهمية من كائنات موجودة. فها هو يقول: "أمس فكرت بأنه من الضروري أن تكون امرأة في الرواية، لذا أخذت رواية ماثوران (ملموث التائه)، ورواية بلزاك (الجلد غير المدبوغ) وحكاية هوفمان (القِدر الذهبي)، فاختلقتُ من كل هذه الروايات هذا الفصل المتعلق بشخصية المرأة". "أعمال وأيام سفيتونوف" تسرد معاناة روائي لا يرى في أصدقائه سوى مواد لشخصياته. لكن هذا لايعني ان بطل الرواية يشبه ذاك الذي يكتب قصائده بلصق جملة من هذا الكتاب وعبارة من تلك الصحيفة. على العكس، إن سفيتونوف، بالسطو على ماضي الشخصيات الحقيقية ووقائع حياتها، ينتج شخصية مركبة للمجتمع الذي تعيش فيه تلك الشخصيات. والرواية تبلغ الذروة عندما يكتشف، في المخطوطة، أحد أصدقائه نفسَه شخصيةً روائيةً.
هنا نص من نصوص دانييل خارمس يكشف فيه كيف يعيش البشر جاهلين أن ثمة صلة تربط البعض ببعضهم وتحدد مصيرهم: