الجمعة، 24 أبريل 2015

غالب المسعودي - ألأفاعي لا تبتسم (قصة سُريالية)

الكتب الأولى... وغيرها!-عادل كامل




الكتب الأولى... وغيرها!
عادل كامل


هناك عدد من الناس، وبعد سنوات من انتهاء دراستهم، يحتفظون بكتبهم المدرسية: القراءة/ أو الجغرافية/ أو الحساب..الخ وهم يشعرون ـ عند تذكرها ـ بلذّة استعادة تلك السنوات: السنة الأولى في المدرسة.. واستذكار عدد من المعلمين.. وبعض المشاهد المرافقة لها: البرد أو الطريق الترابي أو عاصفة ترابية..
تلك الكتب، بعد سنوات طويلة، تجعل الماضي أكثر قرباً، بل وكأنه حدث: قبل برهة! وليس قبل سنوات. فهي لا تحافظ على نظام المدرسة ـ والأسرة التعليمية فحسب، بل على التفاصيل التي رافقتها: المكان والزمان مع عدد من الصور والرموز والعلامات.. وهو الذي يجعل هؤلاء الناس يتذكرون أسماء مدارسهم في المراحل الأولى، أكثر من تذكرهم للمراحل اللاحقة..
فكم ـ هو ـ عدد هؤلاء الناس...؟ وأية كتب مكثت معهم .. وأي معلم رسخ في الذاكرة أكثر من سواه...أسئلة جديرة بلفت النظر لدراسات يقوم بها علماء في الحقل المعرفي.
لكن الذي لفت نظري.. وأنا أتذكر أقدم الكتب التي اقتنيتها، وأقدم الرسومات، ودفاتر الإنشاء.. وغير ذلك، أني شاهدت ـ وبعيدا ً التعميم ـ أن هناك عددا ً من الناس ـ بعد الانتهاء من الدراسة، في مراحله المتأخرة ـ من قام بالتخلي لا عن كتب الماضي، بل عن كتب الحاضر: وتخلص منها أو تركها للريح..؟
فلم يعد [ الكتاب] ضرورة ! ولم يعد الكتاب مصدرا ً من مصادر المعلومات أو المعرفة أو تجديدها.. في عالم لا مكان فيه لغير المتعلمين...!!
إنها مفارقة لا تكمن بين من يتذكر، ويواصل تطوير معرفته وثقافته .. وبين من يهمل، ويتخلى، وينقطع عن  ماضيه فحسب، بل عن حاضره.. وعن العلاقة مع زمن ينمو، بحلقاته، ويصعب تفكيكه الى أجزاء متناثرة. . أو التخلي عن بعض حلقات هذا الزمن: زمن حب المعرفة، وما رافقها من أوراق وكتب وذكريات لا تجعل الحياة محض استهلاك وأرباح وزوالات!

الأبواب- ليث الصندوق


الأبواب

  ليث الصندوق
                             
من زمن بعيد
أنتم تخرُجُونَ وتدخلون من أبوابي
لم أطالبْكم يوماً بجوازاتِ سفر
ولم أنقِع رؤوسَكم بمحلول الشب
كنتُ أعذرُكُم
فليست لكم أبواب
لو كنتُ قد أغلقتُ أبوابي بوجوهكم
لاتّخذتم من المُجمّدة غرفةً ًللنوم
حسناً .. لقد عزمتُ أخيراً على الرحيل
سآخذ معي أبوابي
لا يمكنني أنْ أستأمنكم عليها وأرحل
لأنكم حين تختلون إلى المِنشار
تنجرونَ عظامَ أمهاتِكم
وتصنعونَ منها ناياتٍ وغلايين

    *  *  *

لقد أصبحتْ أعمارُكم أعياداً
منذ ان اتخذتم أبوابي أراجيح
لذلك حين تخرجون وتدخلون منها
لا تلتفتون إلى من يفتحُها لكم
كنتم تبتسمون لأبوابي
وتعبسون بوجهي
كأني أقتطع سراويلكم بسكين ،
وأوزّعها كالأرغفة على المواعين

    *  *  *
   
سأرحلُ إذن
سآخذ أبوابي معي وأرحل
وأتركُكُم تبحثونَ عمّّّن تطرقون أبوابه
لتخرُجَ منها أحشاؤهُ لاستقبالِكم  
أنتم لستم بحاجةٍ لأنْ تُستقبلوا بالأحشاءِ
أو بالطبول
جلَّ ما تحتاجونَهُ
ان يَفتحَ لكم من تطرقون أبوابَه
لتَتحرّروا عبرَها من أكياس النايلون


     *  *  *

عندما آخذُ معي أبوابي وأغادرُكُم
ستعرفونَ أني كنتُ منفذ َالضوءِ الوحيدَ
في جدران قبوركم
ستعرفون أني كنتُ عيونكم
عندما آخذ أبوابي وأغادركم
ستعرفون ساعتها فقط بأنكم عميان

laithsandok@yahoo.com


عذرا فؤاد التكرلي ......- لمياء الالوسي


عذرا فؤاد التكرلي ......

  لمياء الالوسي

كنا مجموعة من الموظفين  جمعهم إضافة إلى وحدة المكان ذلك الشغف المجنون بالقراءة .. وحب الكتاب .. وخاصة الروايات والقصص القصيرة .. عراقية .. عربية اواجنبية  .. وشغفنا هذا يجعلنا نبحث في القديم والجديد .. في المكتبات العامة أو الخاصة.. وكانت فترة خصبة من حياتنا جميعا .. كنا قريبين فيها من الأدب والأدباء سعيدين.. وأصبحت الكلمة عالمنا الجميل الذي نفخر به .. في تلك الأيام  وجدت رواية الأستاذ فؤاد التكرلي ( الرجع البعيد ) فكانت زادي وزوادي لأيام بعدها رشحتها لتقرأ من قبل المجموعة لكن .. كان الزميل من مصر هو الثاني في قراءتها بعدي .. وكان به شوق كبير لقراءة مؤلفات الأستاذ فؤاد التكرلي حيث كنا  قد قرءنا  المجموعة القصصية (عينان خضراوان ) ومتعتنا كثيرا  لكن وبعد صفحة واحدة أغلق الكتاب ونزع نظارته بأسى  وقال لنا
-         لن أتمكن من إكمال الكتاب .
تعجبنا جميعا ونحن نعرف مدى ولعه بالقراءة فقال
-         لم افهم كلمة واحدة من اللهجة .. العمل متعب جدا .. أن تتكلم اللهجة العراقية صعب لكنه أسهل من القراءة
زميلتنا الثالثة أخذت الكتاب بحذر لأنها تركمانية  ورغم أن دراستها وحياتها عاشتها في مجتمع لايتحدث إلا  اللغة العربية واللهجة العراقية الصميمة  الاانها عجزت هي الأخرى عن إكمال صفحتين أو ثلاثة من الكتاب .
وبالتالي وبالرغم من عشقنا للأستاذ فؤاد التكرلي  وأدبه وان هذه الرواية من روائع الأدب العربي  إلا إن المجموعة لم تقرأ الكتاب  لأنها لم تتمكن من فهم اللهجة العراقية ..
وتذكرت في ذلك الوقت .. إن هناك أكثر من 20 صفحة مكتوبة بأحرف عربية ..ولكن بلغة لم أتمكن من فهمها  كنت أتصور أنها في اللغة الكردية أو التركمانية وبعد السؤال عن ماهية هذه  اللغة .. عرفت إنها لغة الأكراد الفولية
والى حد الآن لااعرف لما كتبت هذه الصفحات بهذه اللغة؟؟..

  تذكرت ذلك كله في إحدى أمسيات  اتحاد أدباء العراق حيث  استضاف الأستاذ موسى كريدي  ( رحمه الله) الأستاذ  فؤاد التكرلي للحديث عن استخدامات اللهجة العامية في رواية الرجع البعيد  .. وكنا قد منينا النفس برؤية أستاذنا الكبير والاستماع إليه .. والتعرف على تجربته الثرية في الأدب والكتابة .. وكنا مأخوذين برؤيته .. وقد ضجت القاعة بالتصفيق لوجوده .. وبعد المقدمة الطويلة  التي ألقاها الأستاذ موسى كريدي والتي أشعرتنا بالقلق  .. إذ ربما ينتهي وقت الأمسية ولا نستمع إلى  الأستاذ فؤاد التكرلي .. فاجئنا الأستاذ الكبير بالقول :
لقد جئت لكي أسمعكم .. واسمع آرأكم حول جدوى استخدام اللهجة في القصة والرواية العراقية
 فاسقط بأيدينا .. وشعرنا بالإحباط .. ونحن نرى عملاقنا الذي عجزنا عن قراءة مؤلفه .. يجلس صامتا، مطرقا ، خجولا،  شفافا
 ويترك العنان لتدفق الأستاذ موسى كريدي .. وعواطفه الجياشة .. ودفاعه المستميت عن أسلوب الأستاذ  فؤاد التكرلي   ويشبه استخدامه لللهجة  العراقية   باستخدام الكثير من الأدباء المصريين اللهجة المصرية  في الكثير من انتاجاتهم  الأدبية دون أن يؤثر ذلك  على المتلقي .. أو يقف عائقا لانتشار العمل الأدبي .. مثل  يوسف السباعي  ..  وإحسان عبد القدوس .. ونجيب محفوظ .. وغيرهم  وهو يعرف (رحمه الله )أن اللهجة المصرية وصلت إلى كل الأقطار العربية قبل أن تصل الروايات  .. وذلك عن طريق الأغاني .. والأفلام السينمائية ..  والمسلسلات وبالتالي أصبحت معروفة ومفهومة  لدى الصغير والكبير  أما الأستاذ نجيب محفوظ فانه لا يكتب اللهجة إلا بشكل يخدم النص   ويكتبها اقرب ماتكون على الفصحى .
ثم عرج إلى فكرة أن رواية   الرجع البعيد ترجمت إلى أكثر من لغة أجنبية وحققت انتشارا واسعا في تلك البلدان  ..و لم يفقدها رونقها .
علما أن  ترجمة الرواية والنتاجات الأدبية للأستاذ فؤاد التكرلي  ستكون من لغة إلى لغة أخرى بدون التأكيد على اللهجة  وبالتالي لن يكون الفارق واضحا . بين اللهجة واللغة العربية الفصحى
استمر الحوار طويلا بين الحاضرين والأستاذ موسى كريدي .. وكأن الجميع كان يجامل .. ويؤنق كلامه  لكي يرضي أستاذنا الكبير .. أو هكذا أحسسنا
كنت ابحث في وجه الأستاذ فؤاد التكرلي عن اجابة .. لكنه بقي مطرقا ينظر إلى المتحاورين بخجل أربكني دون أن يقول كلمة..
تلفت كان حولنا أساتذة الأدب  في العراق .. الأستاذ عبد الستار ناصر و الأستاذ عبد الخالق ألركابي والمرحوم الأستاذ محمد شمسي .. وغيرهم كثيرون  من أدباء العراق  ..   والمهتمين بالأدب  .. فمن أكون  وسط هذه الهالة من الضوء .. ولم أكن إلا مبتدئة في الأدب .. تحمل خجلها القروي الشرقي  على كتفيها .. مما يجعلها مطرقة أبدا لا ترفع عينيها  في وجه أساتذتها .
تذكرت أستاذي العزيز فؤاد التكرلي  
اليوم وبعد هذه السنين .. ونحن نرى .. الاستخدامات الكثيرة للهجات في الآداب عموما  قصة أو رواية  ..  شعرا أو نثرا .. وحتى في المقالات الأدبية..


قصة قصيرة- نهار مزدحم بالضوضاء أو [هكذا قال القرد للحمار]-عادل كامل



قصة قصيرة

نهار مزدحم بالضوضاء
أو
[هكذا قال القرد للحمار]




عادل كامل
ـ كلما أفكر في الأمر، أجد إنني ذهبت بعيدا ً في المتاهة، وفي الظلمات...، فأسأل نفسي: إذا كنت لا امتلك الإجابة، فلماذا هذا الانشغال...، ولماذا هذه الضوضاء، والنهارات أبدا ً لن تسمح لك بالتراجع، أو الارتداد، أو حتى أن تغلق فمك، فتريحهم، وتستريح....؟
فقالت الأم لولدها المشاكس:
ـ أصغ إلي ّ جيدا ً: إن العبقرية لا تتمثل بالعثور على إجابات...، بل إنها تعلمك أن تجد الأسئلة التي تدرك استحالة الإجابة عليها....!
ـ غريب؟
ـ ما الغريب...؟
   لم يسألها، فقالت الأم، التي انتخبت مؤخرا ً مديرة لجناح القرود، له:
ـ فإذا كان من الصعب أن تولد إلا شبيها ً بأسلافك، فليس ذلك لأنني لم استطع أن الدك نوعا ً آخر...، بل ماذا سيحدث لو ولدتك غزالا ً..، أو حملا ً ...، أو نعامة...؟
    لن اهرب ...، فالحدائق، مهما اختلفت، تبقى قائمة على الأسس ذاتها. دار بخلده، وهو يبتعد عنها، بانتظار العثور على آخر، آت ٍ من الأجنحة أو الزرائب الأخرى، لمحاورته، وقضاء ما تبقى من ساعات النهار. فقالت الأم له قبل أن يغيب:
ـ اسمع: لقد ولدنا في هذه الأقفاص، وهذه حقيقة لا تقبل الجدل، أو الشك..، وولدنا ونحن لا نمتلك أن نكون نوعا ً آخر...، فلا تتعب رأسك، ولا تحول حياتك إلى جحيم!
ـ اعرف...، فإذا كان وجودي هذا أصبح حقيقة، فموتي هو الآخر  حقيقة، وهو ما يجعل حقيقة وجودنا مسافة لا تذهب ابعد من هذه الحقيقة...، أليس كذلك؟
ـ أنا اقدر عذابك، وما يؤلمك...، فنحن في طريقنا إلى الانقراض...، لأن انقراضنا غدا وحده لا يقبل الدحض، وربما لا يقبل التأجيل...!
     نظر القرد إلى جناح الطيور، ثم أرسل نظراته إلى الجناح الأبعد...، جناح الحمير، والأبقار، والنمور، والخنازير، ودار بباله:
ـ ما دمنا لا نستطيع ان نصبح إلا ما نحن عليه...، لا نرتد ولا نتقدم، فكأن هذه المسافة بين ولدتنا وموتنا لا تسمح لنا إلا بالحفاظ عليها!
ـ وما ـ هي ـ مسؤوليتي، أيها الابن المشاكس، وهل باستطاعتنا أن نفعل شيئا ً...؟
   رد عليها، وتركها منشغلة بمداعبة ولدها الآخر، وقال لنفسه: كي تبقى المسافة هي المسافة بين مجهولين!
    مستعيدا ً ذكرى الغابة التي ولد فيها أسلافه: قبل زمن بعيد...، كانت هناك غابة كبيرة...، مترامية الأطراف...، ثم تم احتلالها، من قبل الأشرار، فمات من مات، وهرب من هرب، واسر من وقع في الأسر....، ومضى زمننا، مع زمن الغابات، ليحل زمن الحدائق!
     قبل أن يقفز بعيدا ً عنها، شاهدها منشغلة بالصغير، فأهملها، بانتظار زميل يمضي الوقت معه.
ـ وها هم الأشرار...، بدل أن يعيدون لنا غاباتنا، وبدل أن يدعونا نعود لها، صنعوا لنا الأقفاص، ووزعونا عليها....، وقالوا لنا: تمتعوا، وتكاثروا، ولتغمر حياتكم المسرات!
   اقترب حمار كان في طريقه إلى بركة الماء:
ـ ها لو ...
   لم يجبه، فنهق الحمار غاضبا ً:
ـ اعرف ما دار ـ ويدور ـ في رأسك...، فلِم َ الحزن، والأسى، الم ْ يقل زعيمنا: لا تغيب الشمس إلا لتشرق...، وما طار فيل إلا وهبط، والأسماك إن غادرت الماء فكأنها تهلك!   الم ْ يقل زعيمنا الخالد إن من يفقد الأمل كمن ارتكب إثما ً لا غفران له! ومن خرج على الدرب تاه، ومن تاه تتلقفه المخالب!
   قال القرد:
ـ ولا تشرق الشمس إلا لتغيب!
ـ صفق.
ـ صفقنا...، هتفنا، عرسنا، لهونا، مجدنّا، وأنشدّنا ألف ألف نشيد....، وهل كان باستطاعتنا أن نفعل غير ذلك...؟
    رد القرد بعد لحظة صمت:
ـ إلا هؤلاء الأشرار...، الأنذال...، فاقدي الضمير، والعقل، والرحمة!
     هز الآخر رأسه وتمتم بشرود:
ـ لا تظن إنهم اقل شقاء ً منا، أو إنهم عرفوا ....، هذا الذي نبحث عنه!
ـ أتدافع عن حفنة أوغاد، حولوا عالمنا إلى أقفاص، وزرائب، وجحور، وحفر، وسراديب، ومغارات، ومجاري...؟
   صمت طويلا ً، ثم أجاب بتردد:
ـ نعم!
    أعاد الحمار قراءة أفكار القرد، فضحك من غير غطرسة:
ـ ونحن لا نختلف عنكم، ولا عن الآخرين: فالكائن يصير نذلا ً استجابة لعمل جيناته! انه لا يولد ورقة بيضاء! فالظلمات هي الأصل!
فرد القرد:
ـ لا...، فانا لم أولد نذلا ً رغم إن جرثومة النذالة قابعة في ّ، بل ولدت قردا ً، ولا أريد ان أموت إلا كما ولدت...، فما هي المشكلة، ولماذا هذا الإصرار...؟
ـ هذه هي سنن الحياة! فهذه البركة، أو هذا المستنقع....، على سبيل المثال، سيبقى كما هو عليه ما ان تحصل تغييرات عليه....، ولكن هل أصغينا إلى .. ضمائرنا؟
ضحك القرد:
ـ قبل قليل سألت السيدة مديرة الجناح، وهي السيدة والدتي، الأم الكبرى كما ندعوها،: هل ولدنا قردة للسكن في هذه الأقفاص، أم ان الأقفاص وجدت كي نسكنها ونصير قردة...؟
ـ آ .....، سؤال مثير رغم سذاجته، وكأنك تسأل: هل الأوغاد الأشرار صنعوا سجونهم، أم السجون هي التي صنعتهم...؟
ـ دعك من هؤلاء الذين اخترعوا الفضائل، للتستر على اشد الحماقات فتكا ً، وخسة، لأنهم هم أساس البلاء! بل واصل الشر!
ـ ليسوا هم ...، ولا نحن...، ولا هذا الذي اسمه جرثومة الحياة ...، ولا العوامل التي كونت ملغزاتها ...، فالكل يأتي للوجود مرغما ً في الحضور...، من غير إرادة حتى بنسبة واحد إلى اللا عدد، وهي نسبة مشوشة للرأس! لأنها تخترع منطقها، بمعنى إنني ادحض الشر المطلق! مثلما قلت باستحالة وجود الفضائل البيضاء! إذا ً فالكل يذهب بالقانون ذاته الذي أخفى مقدماته! وهكذا تدور الدورة وكأنها لم تدر، مع إنها اشتغلت وأكملت كل ما سيبقى على قيد الحركة!
ـ آووووه ...، أنت تفكر! وهذه  بحد ذاتها علامة دنو الساعة!
ـ وأنا أفكر أيضا ً! حتى لو كنت أفكر في التطهر من التفكير! ثم لتأت هذا الساعة!
  تململ، وبعد صمت، قال:
ـ أنا أفكر بضرورة الدعوة لعقد مؤتمر عام نناقش فيه هذه المعضلة ...؟
ـ آ ...، ولكن ما الذي حدث لك...، كي تشغلك هذه الانشغالات ....، من غير حذر، وخوف؟
   سرد القرد:
ـ  بالأمس، قبيل النوم، طلبت من الإله الأعظم، ان لا يدعني استيقظ!
ـ غريب....، لكنها دعوة مردودة، ومخالفة للشرائع، وللذوق السليم!
ـ أرجوك، أيها الحمار، دعني أكمل...، أليست آداب الحوار تشترط الإصغاء حتى انتهي من عرض وجهة نظري كاملة...؟
ـ تفضل...، ارو لي تفاصيل الحلم، مع إنني رأيتها أنا أيضا ً، ليلة أمس! فالحلم ذاته حلمت به!
ـ غريب؟
ـ ما الغريب...؟
ـ يبدو انك تعرضت للمأزق ذاته الذي تعرضت له ...؟
ـ في الحلم؟
ـ وهل باستطاعتك ان تميز...، إن كنا ننتقل من حديقتنا إلى أحلامنا، أم من أحلامنا إلى هذه الحديقة؟
ـ  أأروي أنا...، أم ادعك تروي حلمك أولا ً...؟
     تأمل القرد البركة، منشغلا ًبرؤية سطح الماء الأزرق الداكن كلون السماء تماما ً، وقال:
ـ وأنا اقفز بين الأغصان، ألهو، امرح، فجأة هجمت على مجموعة من النمور، الأسود، التماسيح، الضباع، وسواها من كائنات هذه الحديقة، واقتربت مني من الجهات كلها، دون ان أنسى النسور والصقور والغربان، وكان هناك أفراس النهر تحلق بأجنحة معدنية أيضا ً!
ـ وأنت تلهو، وتلعب، وكأنك كنت ذاهبا ً إلى السيرك، أو في نزه...؟
ـ تماما ً! فقد كانت لتلك المخلوقات أجنحة، ومخالب آلية، وأنياب امتدت خارج أفواهها، وأذناب فولاذية تعمل بالحواسيب الفائقة الذكاء!
ـ فهمت!
ـ فدار بخلدي: انتهى عصر القرود، وأصبحنا من الماضي، إلى جوار أسلافنا الديناصورات...، فبموتي سننقرض، لأنني كنت آخر قرد في الحديقة! فحاولت ان افهم ما يجري...، قال كبير المهاجمين وهو من مخلوقات ما بعد الأساطير: آن لنا ان نصنع منك وليمة...، فسألته: ماذا فعلت؟ أجاب الثور البري المتوحش المتعدد القرون، والأجنحة: لسنا بحاجة لمعرفة ماذا فعلت، وماذا ستفعل. فقلت: أنا لم ارتكب ذنبا ً بإرادتي، لأنني في الأصل لم اختر وجودي...! فضحك الكوسج: ملعون...،  تعرف كيف تتنصل من دورك في المؤامرة! فكدت افقد الوعي، أو ما تبقى منه، فأجبت: وضد من أتآمر؟ قال النمر الأسود مكشرا ً عن أنياب بلورية حادة النهايات: ضد الأشجار...، وضد الهواء، كما انك تصدر أصواتا ً طالما أربكت أحلام العصافير في نومها، وزعزعت مرور الغيوم. فصرخت: اقسم لكم إنني سأغلق فمي، وسأغلقه إلى الأبد! فقال الفيل الأبيض: هذه هي المشكلة! سألته في الحال: وهل هناك مشكلة سيدي؟ أجاب وحيد القرن: ما الفائدة من هذا التمويه مادامت السماء لن تسمعك حتى لو مكثت تصرخ ليل نهار، ومادامت الأرض تتسلى بصراخك أيضا ً! اقتربت منه وسألته: كيف عرفت، سيدي؟ أجاب: اتبعني. فقلت له: أنا لا انتمي إلى فصيلكم الجميل، فليس في رأسي قرن، وليس لي ذنب حلزوني! لكن ابن أوى الماكر قال: تفعل. ففعلت. فسألتهم: أتخلون سبيلي؟ قالت الزرافة بصوت ناعم: يا ولد، إننا نمزح معك! لكني وجد قرنا ً نبت في رأسي. فقلت: ماذا افعل بهذا القرن، اهو هديتكم لي؟  قالت النعامة: لتصد هجمات العدو! فرحت ابكي وأتضرع للصقر الذي امسك برأسي: أنا لا أعداء لي ....! لكن كبيرة النمل، بجسدها الخرافي، راحت تنهش بلحم جسدي الطري، وتمزقه. فقلت للحصان: لا تضحك، أنا أموت، وأنت تسخر. فقهقه البعير حتى سقط أرضا ً. فقلت له: حتى أنت يا جمل؟ لم يجب الحصان، ولا البعير، ولا كل من كان يواصل الضحك. فاقترب مني الدب الأزرق وقال: يا حمار هذا ليس فرسا ً ولا جملا ً ...
   اعترض الحمار:
ـ حتى في أحلامك تشتمني، وتنشع بي....؟
ـ اسكت...، تريث، حتى تأتيك الخاتمة.
ـ أكمل، فالشر يتطاير منك ...!
ـ فقلت له:: قبل ان نصبح قردة كان أسلافي يعيشون في هذا المستنقع...، ولم نكن حميرا ً...، فلماذا لا تميز بين القرد والحمار، أو بين الحمار والقرد..؟  ضحكت الجماهير حتى لم تعد غاضبة علي ّ، فسألت نفسي: ربما ارتكبت هفوة لسان، زلة، أو أبدعت بدعة، أو أفريت فرية، أو إنني لامست حافة من حافات المحرمات، أو بحت بسر  ما من أسرار حديقتنا الخالدة؟ عوى الذئب في وجهي: لا تكترث ...، فأنت الآن لم تعد قردا ً، ولا حمارا ً...، لهذا سنعاقبك كما سنعاقب هذا القرن الوحيد...، فقلت أتضرع للسيد الآخر: سيدي وحيد القرن ...، أنا أصبحت وحيدا ً! فضحكوا بأصوات اعلي، خلخلت فجوات الفضاء، وأربكت نظام الفراغات، والامتلاء...، فخفت ان يتهدم الكون فوق رؤوسنا! فقلت مع نفسي: أكمل أكمل ولا تدع الحلم يسبقك!
اعترض الحمار:
ـ لا ...، الحلم لم يدعك تستيقظ...، فالحلم لم ُيكمل دورته بعد!
     هز القرد رأسه:
ـ  فرحت ألهو، العب، أراقص الديناصورات...، وأنا اغني، واثب، وأتمايل، شارد الذهن، مذهولا ً فرحا ً ....، حتى وجدت جسدي برمته داخل فم بعوضة. فصرخت في ّ: أمسكت بك. وبدأت تقضمني. فقلت لها: بهدوء، أسرعي بهدوء! متابعا ً: أسرعي بهدوء! لأنني لم اعد أميز الفارق بينهما، فانا لا أريد ان استيقظ! لأنني لا أريد ان أعود إلى قفصي،  ولا إلى أمي ولا إلى حديقتنا الأبدية! فقال: آن لك أن تكون من ممتلكاتي، ومن كنوزي، أثرا ً نادرا ً اظمه إلى ثرواتي! وأضافت: فلا تحزن أيها العجل! بكيت: أنا قرد، سيدتي البعوضة أنا قرد! قال النمر: كيف تبرهن انك قرد؟ فسألته: سيدي، وكيف تبرهن انك لست خنزيرا ً بريا ً؟  ساد الصمت، وامتد، فقد تحول الجميع إلى تماثيل...، وكأنها رصت عند بوابة حديقتنا. ثم رأيت الشمس تشرق، والغيوم تزحف، فسألت نفسي، أو ما تبقى منها: أ آن لي أن استيقظ...؟ لا اعرف من صرخ في ّ: وهل تستطيع ان تستيقظ بعد هذا اليوم؟
    قال الحمار مذعورا ً:
ـ أنا لم أتحول إلى صنم...، ولا إلى تمثال، ولا إلى حجر، ولا إلى دمية! بل سمحوا لي بالعودة إلى الإسطبل، بجوار جناح النعاج.
ـ وأين كنت؟
ـ في رحم أسلافي!
ـ يا حمار...، هناك رأيتك، وأنت هو من سألني: لِم َ لا تعترض؟ فقلت لك: وهل سأختار ان أكون سمكة، أو عقربا ً، أم أولد شاة أو اختار فصيل الإنس...، فالمحرقة هي المحرقة وقد أعدت لنا قبل ان نولد ومن المستحيل تخيل إنها ستزول حتى بعد زوالنا، فالنار وحدها أبدية! وما هذا الحطب إلا هو الطيف يمر كما تمر الأحلام في رأس ميت مات قبل ان يدركه الموت!
ـ عن أية محرقة تتكلم...، وكلانا جاء في هذا الصباح ليرتوي قليلا ًمن ماء هذا المستنقع الشفاف؟
ـ انظر ....، إنها الضفادع، والحيتان، والتماسيح، وما لا يحصى من الجرذان، والبرمائيات العجيبة......، بانتظارنا!
ـ إذا ً...، دعنا نهرب، ونلوذ بالفرار، فالهزيمة، في هذا الموقف، هي أعلى درجات البطولة، والمجد!
ـ وهناك الأقفاص إن نجونا منها، فهناك الجدران فان فلتنا منها، فهناك الأسوار، وهناك الحيطان العالية، وهناك الحرس، وهناك الأسلاك المكهربة، والكاميرات، والأقمار، والذبذبات، وهناك، تلك العقول الآلية التي تعرف ما يدور في فينا حتى قبل ان نولد....، فأين نفر، وأين نهرب، وأنت تحدثني عن النجاة؟
ـ إذا ً...، لم يعد لدينا إلا ان نرجع إلى أجنحتنا!
    صاح كبير البرغوث:
ـ ماذا تفعلان ... هنا؟
    رد القرد:
ـ جئنا نقدم النذور للسيد أميركم..!
     هز البرغوث رأسه، وقال للحمار:
ـ وأنت؟
ـ مثله، فانا وهو ننحدر من أصل واحد! فكلانا خرج من الجرثومة نفسها!
ـ هو قرد...، فهل تود ان تصبح قردا ً...؟
ـ وهل تستطيع ان تحولني إلى طير؟
ـ ملعون .....، كي تهرب...، لكن إلى أين؟
     همس القرد في اذن الحمار:
ـ الآن عرفت لماذا خسرنا الحرب؟
ـ أية حرب، وهل حاربنا كي نخسر الحرب؟
ـ اقصد لماذا من المستحيل ان نحارب!
ـ دعك من اليأس...، وفقدان الأمل...، دعك من الخيبات، والخذلان، والهزائم...، فالرجاء هو ان تمتلك الرجاء حتى لو كان بلا وجود ...! وهذه هي العبقرية، كما قال جدي لنا قبل ان يدوّن وصيته، ويرحل إلى قاع المستنقع، ويفلت من العقاب: ان تجد الحل قبل وجود المعضلة!
رد القرد:
ـ أنا الآن سأعود إلى جناحي!
ـ ها...، يا حمار.
ـ أنا قرد!
ـ وخالق هذا المستنقع لم اعد أميز الفارق ولا الاختلاف بين الحشرات وبين الزواحف....، ولا بين الظلمات ولا بين الأنوار، فالليل نهار مقلوب، والنهار تمويه للظلمات، فهل لدي ّ قدرة ان اعرف هل أقفاصنا هي التي أعدت لنا، أم إننا صنعناها هدية نقدمها لأحفادنا الأعزاء...؟
ـ آ ....، دخلنا في النفق المفتوح...؟
ـ أغلقه!
ـ هنا، صديقي، تكمن المعضلة، فكلما أفكر في التحرر والحرية والخلاص أجد المحرمات تتكدس فوق رأسي، حتى قلت: تبا ً للحرية إذا كانت لا تورثنا إلا  الخوف والذل والفزع والخسران والمرض ثم الموت. لكن سرعان ما أجد ان الظلمات لا تتركنا بقبضتها، فتقذفنا بالحريات...وبهذا القليل من عطر المستنقعات!
ـ تقصد ترجعنا إلى حديقتنا الغنّاء؟  لكن اخبرني: ماذا كنا سنعمل لو كنا ولدنا في البرية، أو في الغابات، أو في الوديان ...؟
ـ يفترس الأقوى الأقل قوة، والأشرس يمزق لحم الأقل شراسة، ويتربص الضعيف بالأكثر ضعفا ً....، ولا ينجوا منها...، في الأخير، إلا من هو ليس بالضعيف درجة المحو، ولا القوي درجة القهر! فالموت اعدل العادلين!
ـ آ ....، عرفتك، أيها الحمار...، أنت هو الموت إذا ً...؟
ـ أنا أيضا ً كنت أظن انك هو الموت....، وإلا كيف اجتزت الزمن الذي لا بوابات له...، وإلا كيف بلغت مشارف الزمن الذي لا حافات له...، ومع ذلك، أنت ولدت حمارا ً، وأنا أمي لم تنجبني إلا قردا ً؟
    قال الحمار:
ـ يا شريكي في المحنة، لو تأملت الموت، لوجدته هو وحده أكثر الخاسرين....، فهو وحده لا يعرف ماذا يفعل....، لأنه بلا إرادة، يأخذ أرواحنا ثم يواصل متابعة اخذ أرواح الآخرين...، فلا احد يفلت منه، فهو يكد ويشقى كي لا يربح إلا هزائمه، فهو الخاسر الوحيد في نهاية المطاف!
ـ اسكت...، فانا وأنت بين يديه، وربما تحت قبضته؟
ـ أتحداه ان يفعل شيئا ً من غير أمر! فهو لا يقدرـ كالشيطان ـ أن يكون حرا ً، أو يتصرف تصرف الأحرار!
ـ اسكت، أرجوك، اسكت ...، يا شريكي في المحنة، فهو لا يستطيع ان يمحونا من الوجود، مع انه أباد المليارات المليارات المليارات المليارات إلى ما لانهاية من المليارات من النمل والشجر والخراف والبشر والنمور والقرود والبغال والصراصير والزعماء والجنود والقوادين والقوادات والحشرات والزواحف وغيرهم كثير....، إلا انه لم يستطع ان يمحو نفسه وينجو!
ـ ربما يكون ارتكب ذنبا ً...، ولهذا فهو يقضي فترة عقوبته...؛ يقتلنا، ثم يعيد قتلنا، فهو غير قادر إلا على قطف أرواحنا وإذلال أجسادنا وإنزال شتى الدناءات فينا، فهو يستحق الشفقة، بل ربما لا يستحق إلا الرحمة أيضا ً!
ـ للمرة الأخيرة أقول لك: أغلق فمك! بدل أن أقول: اخرس! فلقد اجتزنا قوانين حديقتنا الغناء وأعرافها!
ـ صحيح...، آسف، فلولا هذه الأقفاص الفولاذية، ولولا هذه الجدران، وهذه الأسوار....، ولولا هؤلاء الحرس والمشرفين على صحتنا، وغذائنا، ورفاهيتنا، ماذا كنا فعلنا..؟
ـ لا شيء...، لكنا مثل أسلافنا وأجدادنا وآباؤنا الذين أهدروا، وأضاعوا أزمنتهم في المتاهات، واللغط، والصخب، ومن ثم أصبحوا من الماضي، بلا ذكر وبلا اثر...، فهل يتحتم أن يكون مستقبلنا نسيا ً منسيا ً..؟
ـ آ ...، إذا ً، حتى الموت، في نهاية المطاف، يفقد شفافيته، ومعناه، بل وحضوره!
ـ نعم، عندما نغيب، يغيب معنا، وعندما نولد...، نراه يتربص بنا مسرورا ً حد النشوة، والبذخ!
ـ ملعون ....، لقد اختار مهنة نذلة!
ـ كباقي المهن...، فهو لم يخترها، مثلما لم تختر أنت إن تصبح حمارا ً، ولا أنا قردا ً ...
ـ ولكن الملائكة كانت تعرف سر اللعبة...، لهذا تذمرت (جاري ألحصيني كان يقول: دردمت!) من خلق هؤلاء عديمي الرحمة، قساة القلوب، فاقدي الشرعية!
ـ هؤلاء الذين يشرفون على تغذيتنا، صحتنا، سلامتنا، وتسليتنا أيضا ً...؟
ـ لا ترعبني! أأنت جاسوس، وكأنك تحاول إغوائي كي يزل لساني وتوشي بي...؟
ـ سيدي، كلنا جواسيس! الكواكب، الشجر، الحجر،الحشرات، الأسماك، وكل ذرة أحادية أو مركبة، وكل خلية، الكل جواسيس: القوادون والقوادات، أمراء الحرب، ومن يعمل ضد الحرب، الحكماء، الشعراء، كتاب العرائض، وأصحاب المهن الحرة، العاهرات، الزانيات، الصالحات، وكل ضحايا التعسف، والعنف، والعنف المضاد، ورسل المحبة، وصانعي الكراهية، والبغضاء،  والقائمة تطول...، سيدي، كلنا جواسيس حتى لو كنا من دعاة مكافحة الجاسوسية، والتجسس، لأن ذلك لا يرجع إلى الكيانات، بل إلى الجرثومة ذاتها القابعة في لغز بذرة الخلق! ثم إن عملها أصلا ً فضّاح، بثّاث، ومضاد للتستر، والكتمان! وإلا لماذا خلقنا...؟
ـ لم تبق أحدا ً خارج القفص؟
ـ وهل اقدر أن اعرف ...، وهل لدي ّ لمعرفة ابعد من حدود هذه الحديقة، كي تطلب مني أن ارتكب مخالفة ضد الوصايا، ضد البياض..؟
ـ وأنت...؟
ـ سيدي، أنا الآن عرفت تماما ًلماذا لا استطيع أن أكون أكثر مما أنا عليه! فخلايا الرأس لا تعمل خارج حدود عمل خلايا الكون وذراته...، وخارج عمل فراغاته وأثيره، فكل دابة، وكل حبة رمل، وقذيفة، انشطارية أو ذاتية التدمير، نووية، أو ما فوق ذلك، ناعمة أو مخربة، لا تعمل إلا بالشروط التي تجعلها لا تعمل إلا بحدود عملها... ، ففي رحم القيود تتكون وتولد هذه الانشغالات كي تكمل ديمومة هذا الذي لا أنا، ولا أنت، نقدر على دحضه!
ـ ها أنت لم تبق لنا حتى ذرة أمل؟
ـ وماذا تفعل بالأمل...، وأنت تعرف إن الذي يعرف لا يكترث لمعرفتك؟
ـ من؟
ـ آ ....، لو عرفته، لقلت له: لتدم مسرتك...، فالشقاء وحده كان المعضلة التي حرصنا على بقائها مزدهرة طوال الوقت!
ـ لكن ربما كان شقاؤنا هو المسرة الوحيدة التي أضعناها، ولم نقدر عظمتها، ولم نجد اقتناصها...؟
ـ وهل سمحوا لنا...؟
ـ من لم يسمح لك...؟
ـ الجميع ـ يا سيدي ـ لم يسمح للجميع، إلا بما حصل...!
ـ آ ....، ها أنت تجعل مستقبلنا أكثر متاهة من ماضينا...، فانا اشعر بالرثاء...، والعار، والأسى، والندم.
ـ على من...؟
ـ على هذا الذي قيد الموت بأكثر الأعمال تسلية!
ـ وماذا كنا نفعل لولاه...، لا يدعنا نواجهه أكثر من مسافة إنهاء المسافة.
ـ وداعا ً...، أيها الحمار العزيز..، ماذا كنت سأفعل لو لم أجدك؟
ـ الم أخبرك....، فقد شغلتني حتى كدت أنسى إنني سأصبح وليمة لأكثر البهائم خمولا ً...، وللحق، هذا وحده يحزنني، إن العاطلين عن العمل يتلذذون بلحمي...، وبفكري، وبحكمتي؟
ـ ولم يحزنك الموت؟
ـ انه، يا صديقي، سعادتي الوحيدة التي لم اسبر أغوارها بعد، ولم أتذوقها!
ـ أنا الآن سيرسلونني إلى السيرك.
ـ جميل!
ـ ما الجميل، يا أحمق...، عندما لا أجد حمارا ً لا يدعني اعرف ما أنا عليه!
ـ لا تكترث...، فانا سأتضرع للموت ألا يدعك تلعب طويلا ً على الحبال!
    تمتم الحمار يردد كلمات القرد التي سمعها في بدء اللقاء:
ـ كلما أفكر بالعثور على قليل من الضوء، لا أجد الظلمات إلا وقد امتدت ولم تعد هناك حافات تضع خاتمة لحافاتها..! وهكذا أصبحت أجد أسئلتي تتعثر وأنا لا اعرف أكانت تهرب من قدرها أم أن قدرها كان قد سمح لها بهذا القليل من ....، الضوء؟! أكان ضوءا ً...؟
22/4/2015

       

وداعا ً محمد مهر الدين- الأعزاء الفنانين العراقيين والأصدقاء في كل مكان


وداعا ً محمد مهر الدين



 الأعزاء الفنانين العراقيين والأصدقاء في كل مكان


تحيات طيبة

يؤسفني إعلامكم برحيل الفنان العراقي الكبير محمد مهر الدين صباح هذا اليوم بعد مرض لم يمهله طويلا. تعازينا الصادقة لذويه ولزملائه. تجدون في (البوست ) المرفق بعض السطور التي حاولت بها ان أسجل ابرز المحطات في حياته وشيء عن أسلوبه الفني المتميز.

 د. إحسان فتحي
23-4-2015

الخميس، 23 أبريل 2015

مجلة الأدب العربي المعاصر : (شهقة خضراء) سجال الركابي

مجلة الأدب العربي المعاصر : (شهقة خضراء) سجال الركابي: أُلملِمُ ضَوعَ خُزامى... بغضاضةِ التوقِ مجدولٌ أتَسلّلُ... إلى حُلمِكَ... أتَمَهّلُ ... جِناحَ الرؤى زُجاجاً أتَمعّنُ في خارطةِ...

بعد صدور كتابه (سبينوزا) حامد بن عقيل:-- صلاح مخارش

 


بعد صدور كتابه (سبينوزا) حامد بن عقيل:
حرية التفلسف هي الضمانة الوحيدة لاستمرار حرية الفرد واستقلاليته


- صلاح مخارش

قبل أكثر من عام، أصدر الشاعر والناقد حامد بن عقيل كتابه الأول في سيرته الافتراضية، كان عنوان الكتاب الأول (مسيح)، ودون أي تصنيف للشكل الكتابي الذي اختاره لخروج كتابه، أضاف إلى سلسلته الافتراضية كتابا جديدا بعنوان (سبينوزا). فبعد إصداره لديوانين شعريين (قصيدتان للمغني - مرثيتان توغلان في دمي) 1999م، و(يوم الرَّب العظيم) 2005م، وبعد كتابه النقدي (فقه الفوضى- دراسة تأويلية) 2005م، جاءت محاولته الكتابية الجديدة خارج حدود التصنيف، وهو ما يقول عنه: (لا أفكر في شكل الكتابة أو التعبير الكتابي الذي يجب أن ألتزم به، سيرة افتراضية بجزأيها أسلوب تعبير خاص لا يعنيني تصنيفه بقدر ما يعنيني أن يكون قادرا على استيعاب ما أريد قوله).
في سبينوزا، الجزء الثاني من السيرة الافتراضية، يلمس القارئ جانباً من قراءات المؤلف، ويطالع المفكرين الأبرز في التأثير عليه. ففي كتابته عن نيتشة الذي يصفه بالمجنون الكبير يكتب عن الحكمة: (المجانين دائما هم حكماء مجتمع الخنوع، ذلك أنهم يخرجون بعقولهم عمّا أراد لها الفقه العام من انضباط تعيس للقيد، وخروج عما أراد لها فقه التسكين من قناعة هي في محصلتها كنزٌ لا يفنى، وكيف يفنى اللاشيء؟!.). ويختلط في كتابة كهذه العام مع الخاص: يكرر الصبي سؤاله البريء لجدته: (لجسدك رائحةٌ لا تغيب)؟، فتجيبه: (رائحة الريحان لا تذبل). وبعد أعوامٍ من الحنين، عندما يمرّ بصندوق ملابسها العتيق، تلفحه رائحة عبارتها الحنون، وفي كلّ مرّة يعرف ما لم يعرف من قبل عن الحكمة.
كما يكتب عن فاغنر، وعن سبينوزا. فلماذا اختار سبينوزا تحديدا ليكون عنوانا لهذا الجزء من سيرته الافتراضية؟، يجيب قائلاً: (المعرفة التي لا ترتهن لأطماع حامليها، حتى وإن لم تنتج فكرة جديدة، هي المعرفة الأكثر صدقا. بالنسبة لي، وبعيدا عن تأثير سبينوزا كفيلسوف في طريقة تفكيري، أراه الأقرب لتمثيل المعرفة الصادقة، أي ذات المنطلقات البريئة من الرغبة في تحقيق مجدٍ شخصي. ليس أسوأ من كاتب أو مفكرٍ يستخدم معارفه في تزييف الوعي وخيانة القراء الذين يثقون بما يكتب). ويضيف ابن عقيل: (أيضا، وعلى مستوى التأثير، أحب ما كتبه سبينوزا عن أهمية أن يكون المجال مفتوحا للتفلسف بحريّة. أن القضاء على الفلسفة يعني القضاء على العقل، وهذه الحرية هي ما أراها، كما قال سبينوزا، الضمانة الوحيدة لاستمرار حرية الفرد واستقلاليته، وليس العكس).
الكتاب المقسّم إلى أربعة أجزاء هي على التوالي: تيه، فاغنر، سبينوزا، شمال الروح. يأتي الجزء الأول منه أقرب إلى النصوص الشعرية، أما الجزء الثاني (فاغنر) فيأتي لتوظيف النص الشعري العامي في كتابة إبداعية تميل كثيرا إلى الشعرية، ثم جزء (سبينوزا) الذي يشبه الكتابة المقالية عن المعرفة: ربما لا يدري الكاتب أن (الحاجة إلى المعرفة وتحقيق الذات) ليست هي قمّة الهرم فحسب، إنها القمة والهاوية. تخيلوا ذلك، يهوي الكاتب ثم يهوي ثم يهوي إلى ما لا نهاية، بعد ذلك.. سيدرك أنه وقع في شصّ المعرفة وصار يتخبط. كل جديد، كالعلامة في النقد، تهدي إلى علامة.. وهذه الأخيرة تهدي إلى ما بعدها، وهناك، عندما يقرر مراجعة متاهته الهرمسية، يدرك أنه غادر حقيقته الأولى، وتشظت روحه. لم يعد العالم هو هو، كما لم يعد هو هو، وتغيرت الخطوات.
وأخيرا الجزء الرابع الذي يغلب عليه الطابع القصصي. فما الذي يجعل حامد بن عقيل يصنِّف (سبينوزا) الذي جاءت نصوصه متذبذبة بين الشعر والقصة القصيرة والمقالة على أنه سيرة افتراضية مع أنه مختلف بشكل واضح عن (مسيح) الذي يمكن اعتباره سيرة حقيقية؟. يقول مجيباً على ذلك: لا أدري إن كان مسيح سيرة حقيقة أم لا، لكنني على ثقة أنني أردت شيئا آخر. هناك علاقة وثيقة، في أذهان العامة، بين مفردة سيرة وبين التحولات الزمنية القابلة للتوثيق. لكن هذه التحولات، حين ترتبط بدالة الزمن فقط، تعطي معنى التاريخ الشخصي كفعل كتابي يتجه نحو نشر الأنا على الملأ بأسلوب تسويقي بحت. بالطبع، مفردة السيرة تحتاج هنا إلى إخضاع طوعي لمعناها القاموسي، وهو ما سيخرجها من حيز ضيّق إلى حيز واسع يعطي عدّة معان؛ من أهمها: الهيئة، الطريقة، المذهب، الحالة، السلوك. فلا تصبح السيرة مجرد أن يدوّن الكاتب تفاصيل حياته وأعماله، بل تتجه نحو تدوينه للراهن بوصفه حالة (هيئة) طريقة، وهو تدوين إبداعي يخرجها عن مجرد الحفر في الماضي الذاتي إلى تدوين الأنا الآن بكافة تجلياتها الفكرية والإبداعية. ولهذا، لن يكون من الملزم للكاتب أن يبلغ من الكبر عتيّا حتى يكون مؤهلاً لسرد أرشيفه الحياتي والإبداعي، بل سيصبح ملزماً له أن يرافق فعل السيرة مراحل متعددة من حياته فتغدو مراجعة ذاتية لكل مرحلة عمرية مر بها، مع كونها شاهداً على مرحلة اجتماعية وثقافية تتزامن مع وقت إنجاز الكاتب لسيرته. إن فعل كتابة السيرة فعل إبداعي قابل للكتابة في أي عصر وعلى يد أي كاتب بغض النظر عن المرحلة العمرية التي يكتب فيها، فرهانه هنا هو الإبداع وليس التسويق لذات قرب أفولها فبالغتْ في استعادة ماض قد لا يعني للقراء الكثير. وبما أنها كتابة إبداعية، فلا بأس من أن تنحاز إلى الشعرية حيناً، وإلى السرد حيناً آخر، أو حتى إلى المقالة للتعبير عن رؤية خاصة قد يناسب هذا الشكل الكتابي التعبير عنها أفضل مما سواه.
يشارك الدكتور حمود أبو طالب في كتابة جزء (فاغنر)، وفي الجزء الأخير (شمال الروح) نجد أسماء عديدة تشارك في الكتابة (هيلدا إسماعيل، طلق المرزوقي، أمل زاهد، أحمد محجوب، خلود سفر الحارثي، سوزان خواتمي)، وهي تجربة سبق أن خاضها حامد بن عقيل في كتابه السابق (مسيح)، ألا توحي هذه الطريقة بشيء من نرجسية؟. يجيب ابن عقيل: حين قررت كتابة (سيرة) شاركني كتاب كثيرون في كتابتها بذات الأسلوب، وهذا ما شجعني على تحويلها إلى كتاب. أردتُ في البداية أن يتحول إلى كتاب تفاعلي كما تمت كتابته على الشبكة العنكبوتية، لكن لم ينجح الأمر، وهذا ما جعلني أضيف كتابات الآخرين في قسم مستقل في الجزء الأول (مسيح)، نظراً لأهميتها في سياق الكتاب الذي تمت كتابته على الشبكة العنكبوتية ذات الطبيعة التفاعلية، ثم تم نقله إلى الورق.
اختلف الأمر قليلا في الكتاب الثاني (سبينوزا)، حيث حرصتُ على ضم الكتابات النقدية أو الانطباعية لكتّاب مهمين حول بعض نصوص القسم الرابع (شمال الروح)، وباستثناء كتابة الدكتور حمود أبو طالب لم يكن هناك مشاركة إبداعية لأي كاتب. أما أمر النرجسية فلا أظن أنني شغلتًُ نفسي به كثيراً. كان الأمر، ولا يزال بالنسبة لي، يتعلق بحرصي على التوفيق بين فضاء كتابي حديث وبين فضاء كتابي تقليدي.
سيرة افتراضية (مسيح)، ثم سيرة افتراضية (سبينوزا)، عبارة عن مقاربات شعرية لحياة الإنسان على الأرض. محاولة لتخفف من عبء الذاكرة، فهل هي مؤشر لإفلاس شعري ما؟، يقول حامد بن عقيل، مختتماً هذا الحوار: (أستطيع المغامرة بكتابة شكل جديد يستعصي على التصنيف، لكنني لا أستطيع امتهان الشعر في التعبير عن كل ما أريد قوله. لم أجد تعريفاً يقنعني بماهية الشعر، كما أنني لا أغامر بحصره في تعريف ما. أعلم يقيناً كيف يتواطأ الشاعر ومريدوه على إنتاج وقبول هذا الفن الخاص جدّا، خصوصاً في وجدان الإنسان العربي. حتى هذا التواطؤ لا يمنع من أن يكون الشعر ميداناً للتجريب الكتابي. إلا أنني أحرص على أن يكون للشعر طابعه الخاص من خلال المفردة الشعرية، الشِعر أداة تأمل تسعى إلى ثبات الزمن حتى يكتسب شرعية وجوده وتمايزه عن بقية الأشكال الأدبية، لكن هذا الثبات لا ينفي عنه قدرته على التعاطي مع السياقات المعرفية والجمالية للغة التي يُكتب بها. وربما كان الفرق بين السيرة الافتراضية وبين الشعر هو أن السيرة قادرة على مجاراة الحركة الزمنية للأحداث، تلك التي تفيض بها الذاكرة، وهذا البُعد الحركي لا يمكن أن يكون أحد مُحدّدات كتابة الشعر).

قصة قصيرة ثلاث لحظات- عدنان المبارك

قصة قصيرة


ثلاث لحظات


عدنان المبارك  


- يريد الإنسان أن يكون قديسا وشيطانا. في كل مرة أغلق عيني أرى نفسي في هيئة موفقة جدا ، أراها كما لو أنه من غير الممكن أن أكون بهذه الهيئة أبدا... ولأنه ليس دائما حين تغلق العينان يولد الهمّ الأكثر حقيقية ، ومعه ألم القلب والعالم .
جوزيف كونراد


     بضع لحظات في الطريق إلى خارج الغرفة. العصب اللعين سيطر على الساق اليمنى. اللحظة الأولى انفجار للألم . لم أعرف من قبل مثل هذا العنف والاختراق الفظ للجسم. لحظة ؟ كانت دهرا طويلا. بدا لي أن الزمن اختفى فيه وجمد خارج الغرفة. المكان أيضا. في التالية اكتشفت أني لا أزال في الغرفة. متر ونصف أمامي كي أخرج. التالية كانت حريقا تنفث ناره مضخات أكبر من هذه الغرفة التي قفزت حينها الى الرأس صورتها كمكان ألتهمته النيران. بعدها لم أكن واقفا بل مطروحا على سجادتي. تذكرت ألوانها الوسط بين الصارخة والهادئة. ليس الطبيب وحده شخّص الحالة : فقدان المغنيز والبوتاس. انسحبت الأبالسة من الجسم في اللحظات التالية. هكذا خمنت : ليست لحظات بل خداع للحواس بقي لدقائق طويلة. على السجادة انفتح صندوق الذاكرة ذو القفل الصديء. لا شيء سوى هياكل عظمية لذكريات من مختلف السنين. وجدت أني لست بحاجة اليها ، فليس هذا هو المسلك الصحيح كي أكسب نتفا مما يسمى بالسعادة. تسرب خوف مبهم من أني سأفقد كل شيء. وحتى ما كتبته في صباح هذا اليوم الأسود عن عالم خال من الإنسان. عن مخلوقات شفاّفة ملأت الأرض. خصالها أكثر من رائعة : مفقودة الحواس ، بطيئة الحركة ، لا تعمل ، لا تشرب ، لا تأكل ، لا تفعل شيئا سوى البحلقة في السماء. لاوعيي أفرز رغباتي : أن لا أكون إنسانا وأبحلق في سماء فارغة تماما بل أني فقدت الجسم وجاءني بدله كيان آخر– لا مادي يتحرك بسهولة بين الأجرام. فالسرعة بمقاييسها المعهودة كانت من تركات الماضي. ولم لا اذا رحت الى مكان آخر في هذا الكون يرمي في حاوية ما للنسيان بكل هذه ( المصطلحات ) من زمكان وضوء وسرعة بل مادة وأثير؟ حتى السعادة صارت في اللحظة الثالثة ، أو ما بعدها بسبب اختفاء الزمن ، مجرد كلمة جوفاء رميتها غير نادم في حاوية أخرى / قبر من كان على الأرض. حالة غريبة تماما – لا ألم ، لامعاناة ، لاهموم نفسية ، لاعقل مضحكا يريد أن ينازل الوجود في الاثنين – المعنى واللامعنى. برقت في رأسي حينها فكرة مقلقة : سيعود كل شيء إلى حالته ( الطبيعية ) ، سأكون سجينا بلا سجّان معروف الهوية. أمي العجوز كانت تتأوه خارج الغرفة بل كانت تبكي. تذكرت أنها بكت أحيانا حين وجدتني مصرا على عدم الالتفات الى كل ما حولنا. لم تملك الجرأة الكافية كي ترى كيف أني ( ابتعدت ) عن هذا العالم. المسكينة لم تفقد الأمل في ( عودتي ). من جانبي سأحاول دحر الألم أولا. سألتهم المغنيز والبوتاس بوجبات أكبر من المقرر. بحثت محموما عن كل ما يتعلق بتأريخ الألم وفسيولوجيته - هو في منتهى الغرابة رغم أنه يرافقنا ، بشتى الدرجات والأنواع ، منذ الصرخة الأولى. عثرت على الكثير. لابد من منخل كبير كي أنخل وأفرز. كنت أعرف الكثير عنه لكن الآن أنا جاهل كبير. هل سيكرر هذا العصب الهجوم ؟ سأغلق صندوق الذكريات من جديد ، وأشطب على كل المعرفة عن الألم. صارت الكتابة عندي نزقا بل أشعر بحرية مطلقة في التصرف. قبل ساعتين حاولت أن ألحق ما كتبته عن الألم وغيره بهذا النص. لا أعتقد أنه سيكون صدمة لقرائي - هذا اذا كنت أملك هؤلاء - رغم أني سأحاول اخضاع النصين الى (الترهيم ). في الحقيقة لم أتردد كثيرا ، فكل ( خطيئة ) كتابية مباحة اليوم. سأكتب بأسلوب الترقيع لكن مع مراعاة هارموني الأشكال والألوان. قلت ( قبل ساعتين ). ربما قبل عشر ، ربما قبل خمس. لا أعرف فقد أخذت أعامل الزمن جواربا عتيقة مثقبة. ولست أنا الباديء هنا ، فطويلة هي قائمة الكتاب الذين أغرموا كثيرا بقلب الزمن على البطانة. طريقتي ليست بالأصيلة ، فكل ما أفعله ، وكما قلت ، هو اللصق أو الترقيع. النتيجة هنا باهرة أحيانا. لأكثر من خمسة عقود كتبت نصوصا ( مؤدبة ) لا تنحرف كثيرا عن السكك المعهودة ( تذكرت هنا ما قاله الأسقف اليوناني القديم غريغور بالاماس : " يمكن لكل كلمة أن لا تتوقع الا هزيمتها ". كان محقا ، فنسبة بالغة الكبر من الأدب تستحق الإدانة ! ). أجد أن هذا العصب المخيف حقا فتح أبوابا كانت مسدودة ، للطيش الكتابي واللهو غير الحكيم ، كما يبدو ، بالكلمات. قبل قليل قرأت قصة صديقي القديم عن السنة الأخيرة التي قضيناها في بغداد. صخب داخل فقاعة ضخمة من الخواء ، ولا أعرف كيف جاءتنا تلك الكرات كي نتقاذفها ونرمي بعضها في مختف السلال ، من سياسية الى شبقية. بدل النظارات الطبية مسك صديقي عدسة مكبّرة وجال بها في وجوه وأجسام ودواخل الأصدقاء. وهكذا تبين أن الجميع كانوا مساكينا يريدون إطفاء عطشهم بالتوجه الى هذا السراب وذاك. الطبيب منعني من الأقتراب من الكحول القوي و( قنينة بيرة واحدة تكفي ). لكن كل مريض يخالف ولو مرة واحدة نصائح الطبيب. أتذكر جيدا كيف كانت حالي بعد شرب جنوني لقنينة جن. كان شربا سماويا خاصة حين عصرت في القدح واحدة ناضجة من ال( نومي بصره ). شاهدت غرفتي والعالم من خلال مواشير أخرى : الهيئات تضاعفت وحصل هبوط مفاجيء من السقف لآلات الكمان والمزامير وحتى أن بيانو صغيرا هبط معها. خيّل اليّ أنها جميعا تريدني أن أقودها. لم أتردد وحققت الرغبة.عزفت بضع قطع موسيقية لا أملّ من الاستماع اليها وحتى أن واحدة عزفت مرتين. البهجة أنتهت بسرعة ، فها أني فقدت الوعي وأرغمت على الاستلقاء في الفراش خمسة أيام. بمعزل عن كل شيء كنت سعيدا في أثناء العزف ، ومثل هذه السعادة جاءت تعويضا ثمينا لعدد كبير من الأيام الكئيبة والجهمة. ولزمن طويل بقيت أفكر بما سيجيء به المستقبل : هل سأخرج من القبر وأتوجه لشراء قنينة جن ، وهل ستهبط الآلات الموسيقية مرة أخرى ، وهل سيتبدل العالم كي يأخذ ببعض اللامعقوليات الحلوة. خمسة أيام في الفراش شبيهة بعزلة قاسية في زنزانة انفرادية. لكن مسرة كبيرة ملأتني. فها أني السيّدالمطلق في هذه الأيام . سأذهب بل سأطير الى أينما أشاء. في تشرين الثاني وكانون الأول من العام الماضي أنشغلت بالقراءة عن الأجرام المكتشفة خلال ذلك العام. مشكوك بوجود الحياة في بعضها. البقية ميتة أي أنها سعيدة ، فالحياة ، وفق بعضهم ، هي أولى نكبات الله. لا أعرف كيف ستكون حالي اذا بقيت بلا حياة وأرض وهذه السماء. لكن لأطلق فنطازيتي من قفصها وأتصورأني بلا جسم يحتاج الى الأوكسجين وبمثل هذا النهم : تنفس في كل ثوان. سأتنفس مرة واحدة في اليوم ( في اليونان القديمة يتوقفون عن التنفس طويلا الى ان يحل الموت . كانت هناك مثل هذه الطريقة الأنيقة في الانتحار)، وآكل مرة واحدة في الأسبوع. حينها سأزور أحد تلك الأجرام الميتة. في الواقع ليست هي ميتة كما فهمت بل تنعدم الحياة فيها لاغير.لم يتكلمواعن مناظرها الطبيعية الا أني لا أكترث لهذه المسألة ولأني لا أميل الى هذه المناظر التي كان الفنانون والشعراء يقعون في فخاخها. ها أني في اليوم الثالث من الاستلقاء في السرير. منذ اليوم الثاني أخذت أرتب أموري في الفراش. قرأت لساعات ، واستمعت من الانترنت لموسيقى بالغة الغرابة في سعيها الى ابتكار هارموني آخر. كتبت نصا شعريا عن ( رحلاتي ) الأخيرة. أرسلته الى موقع ( أدب فن ). اكتشفت أن الحياة لن تتخلى عني بسهولة أي لن تسمح لي بجولة ولو سريعة في تلك الأجرام الميتة. من ناحية لها الحق ، فأنا خرجت من رحمها وربّتني كل هذه العقود ، أذن ،كيف بمكنتني أن أعوفها وكأنها كانت غريبة عليّ ؟ من ناحية أخرى أشعر برهبة حين أعي بأني الآن في سجني الأرضي. تراودني بإلحاح مزعج فكرة أخذ استراحة من الحياة وتلك السوداوية الخمولية باللجوء الى التنويم hibernation ، وليستمر بضعة عقود أو أطول من زمن أهل الكهف. أفكار أخرى بل صارت هناك مجموعة كبيرة من أفكار هذا الصنف مصدرها ما فعله النسّاك في الصحراء والأديرة المعزولة. أعجبتني كثيرا فكرة القديس الروسي سيرافيم الساروفْي الذي كف عن الكلام طوال خمسة عشر عاما في زنزانة انفرادية وحتى انه لم يتكلم مع أسقفه. كان على يقين تام من أن الصمت يقرّب الانسان من الله ويجعله على الأرض شبيها بالملائكة. كانت مشكلتي ولاتزال في أني ثرثار قليلا ، وقد ( أحتمل ) الصمت بضعة أيام لكني أخشى من الانفجارالذي يعقبه ، وقد حصل مرة أني أقمت حوارا افتراضيا مع غراب كان واقفا على سور البيت. ساعدته في الأجابة على أسئلتي الى درجة أن الأمر أصبح شبيها بمقابلة تلفزيونية ! في القريب ، أي بعد ساعات - عشر ونيف ، سأدخل اليوم الرابع - الفراشي ، أي سيبقى أمامي يوم واحد فقط. هكذا خمّن الطبيب ذو الشوارب الكثيفة والصوت الناعم. لا أعرف لم تسرب اليّ نوع غريب من الغبطة. هو ذات الشعور حين نشفى من أحد الأمراض ونعود الى الحالة الطبيعية متناسين أن مرضا آخر قد يداهمنا لكنه ينسينا بشاعات العالم . مثلا كان الهنود يضعون الموتى من الفرس المؤمنين بالزرادشتية في أبراج خاصة كي تنهشها العقبان. فعلوا ذلك كي لا تدنس الجثث الأرض. في كل يوم أشم رائحة خطر ولادة برابرة جدد ، ويعمّق هذا الشرخ في الوعي ذاك النشيد الهوراسي : أكره المدنّس والمبتذل في الناس...
ها قد مرّ اليوم الخامس. أنا الآن في صبيحة السادس. صار واجبي الأول أن أعالج هذا العصب وحتى لو استمر العلاج باقي العمر. الا أن هذا لا يمنع من حدوث تلك المعجزة : أن أستقر في جرم ميت. فوفق ما علّمونا : كل شيء بيد الله ، والمعجزات بشكل خاص.


استير بارك – نيسان / أبريل 2015