الثلاثاء، 17 مارس 2015

لعبة الحبال- عادل كامل-

قصة قصيرة



لعبة الحبال

عادل كامل
ـ أترى ما يحدث هناك، أم اختلطت عليك الرؤية، مثلي...؟
   سألت السلحفاة الضفدع البدين، وهما يراقبان ما يجري في ساحة الحديقة الكبرى. فقال الأخير:
ـ لو كنت أرى جيدا ً لمكثت في القاع...، فالبركة مدفني وأنا مدفنها...، ولكن الضوضاء  هي التي أثارت انتباهي، وفضولي...، وهي التي أثارت فضولك ِ أيضا ً. 
    رفعت السلحفاة رأسها المدبب، مصغية إلى الأصوات المبهمة المختلطة تأتيها مشوشة، متقطعة، مثلما كانت الصور تأتيها مبهمة فكانت تشاهد كرات تتطاير متلاصقة وأخرى متباعدة، وثمة حبال بدت لها شبيهة بحلقات الدخان وأخرى حلزونية ترتفع عاليا ً في الفضاء.
   فقالت الضفدعة بتوجس:
ـ كأنها حفلة راقصة، كأنهم يبتهجون بيوم الفأر الأكبر، أو لمناسبة عيد الخفاش..!
     ابتعدت السلحفاة قليلا ً عن الوحل بغية الغطس، لكنها سألت الضفدعة:
ـ للأسف لم يوجهوا دعوة لنا للاشتراك معهم في هذا الاحتفال..، أليس كذلك..؟
   أومأت برأسها بنعم، لأنها حذرت ان ترفع صوتها خشية الرصد، والمراقبة، فقالت:
ـ ما شأننا بهم، وما شأنهم بنا، فهم في عالم ونحن في عالم آخر. 
وأضافت:
ـ ثم متى كانوا يفكرون بما يجري في مستنقعنا ..، ومتى كنا نفكر بما يجري في أقفاصهم وحظائرهم وإسطبلاتهم، وأجنحتهم الأخرى...
ردت عليها بسخرية:
ـ وماذا يجري في بركتنا!
     لم تجب، فقد خالجها إحساس بالحذر من زميلتها السلحفاة. فلم تسرف في الكلام.
   فقالت السلحفاة وهي تراقب المشهد عن بعد:
ـ ها هم  يلعبون بالحبال...، فانا أرى وثباتهم، إلى الأعلى، والى اليسار تارة، والى اليمين تارة أخرى....، فانا أرى هالات وغمامات تتداخل من ثم تأخذ بالاتساع...، وأخرى تتناثر فوق التراب.
ـ دعيني أشاهد...، فانا نظري كليل.
   فقالت الضفدعة:
ـ بل أراهم يحّومون، يصعدون، يدورون، وارى الحبال هي التي تمسك بهم، مرة، واراهم يمسكون بالحبال مرة ثانية.
ـ وما هو الاختلاف...، إن أمسكت الحبال بهم، أو هم امسكوا بها، فاللعبة تتطلب مثل هذه المهارة...، ومثل هذا الذكاء!
    اقترب جرذ بحجم قطة، منهما، بنية شرب الماء، من البركة، فسألته السلحفاة:
ـ في اعتقادك، أيها العزيز، ماذا يجري في الساحة الكبرى؟
    رفع رأسه ونظر إلى اليسار، والى اليمين، ونطق بتردد:
ـ مع إنهم لا يسمحون لنا بالاقتراب، بل ولا يسمحون لنا بمغادرة حدود أجنحتنا، أي جحورنا، فانا اعتقد إنهم يتدربون!
    اقتربت الضفدعة منه وسألته بصوت خفيض:
ـ يتدربون...، ماذا تقصد...؟
ـ  وأنا أغادر جحري طلبا ً للارتواء بهذا الماء الأزرق، سمعت ثورا ً يتحدث مع ابن أوى ويقول له: إنهم يستعدون لخوض غمار الحرب!
اقتربت السلحفاة كثيرا ً منه وسألته بصوت مرتبك:
ـ ماذا قلت يا جرذ النفايات...؟
ـ اقسم لك...، أنا سمعت...، فانا أصغيت إلى الثور يتحدث عن الاستعدادات...، وهذا يعني إنهم رفعوا الشعار الخالد: التدريب، ثم التدريب، ثم التدريب! 
ولم يكمل: ثم الهزيمة. ضحكت السلحفاة وهي تخاطب الضفدعة:
ـ دعينا نرجع إلى وطننا ونبحث عن حشرة، أو عن قشة.
  فسألها الجرذ:
ـ أتأكلون القش، أم هذه إشاعة...؟
   خافت السلحفاة:
ـ سيدي، أنت تعرف إننا لا نسرف في الطعام، فالإسراف مضر...، كما إننا كائنات عشبية في الأصل، وأخيرا ً لماذا تعتقد إننا نبث الإشاعات...؟
ابتسمت الضفدعة وهي تواصل كلامها:
ـ مع ان الأزمات ما انفكت تتفاقم علينا، لكنها أزمات خلاقة، ثم إنها ناعمة، وكما يقال: حريرية، وشفافة! 
ـ آسف...، فانا لم اقصد الاستفزاز...، أو جس النبض، فانا لا أتصيد زلات اللسان، فقد ولى والى الأبد زمن الجواسيس، والتجسس،  وزمن الوشاية، والوشاة، بفضل الرصد الالكتروني ذاتي الذكاء، ألا يكفي هذا ....للاطمئنان؟
  بصوت ناعم اعتذرت وقال:
ـ في الواقع كنا سألناك عما يجري، هناك، في الساحة...، ولم يخطر ببالنا إضاعة الوقت في سفاسف عفى عليها الزمن، وأصبحت من الماضي.
فقال:
ـ أنا لم اقل كلاما ً زائدا ً، بل قلت لكما: إنهم يتدربون....، والتدريب ضرورة استعدادا ً للمواجهة...، فانا لم أتحدث حتى عن الأزمات الخلاقة.
    صرخت الضفدعة في وجهه، بعد ان استنشقت رائحة كلب يقترب:
ـ أغرب عنا يا لص المزابل، وابحث عن حشفة لم تلتقطها العصافير!
   قبل ان يولي الأدبار تمتم:
ـ هذا أفضل من العيش في مثل هذا المستنقع، والحشفة أفضل من القش، مع إنها نعمة لا تقدر بثمن وإن كانت محض فضلات!
     اقترب كلب نحيل ولعق بلسانه قطرات من الماء، فسألته السلحفاة:
ـ يا صديقنا، يا شبيه النمور، ماذا يجري في الساحة الكبرى....؟
تأوه، وتنفس قليلا ً من الهواء، وهز ذيله:
ـ أين...؟
ـ قلت لك في الساحة الكبرى...؟
   فقالت الضفدعة تخاطب السلحفاة:
ـ المسكين هرم، شاخ، ونوعه يوشك على الانقراض...، فهو لم يعد يكترث بالأصوات  ...، ولا بالاحتفالات، ولا حتى بالمناسبات البهيجة!
فقال لها:
ـ تأدبي! فانا لم اعزل من العمل، ولم أصبح فائضا ً...، ولكن لماذا لم توجه لكما الدعوة للمشاركة في الاحتفال...، اقصد لماذا لم يتم استدعاءكما؟
ـ يستدعوننا....، ماذا فعلنا..؟
ـ اقصد للمشاركة في عرس مديرنا العظيم...!
ـ آ ...
وتأوهت السلحفاة بنشوة زائفة، لتسأله في الحال:
ـ لقد عرفنا الطرف الأول...، ولكن من هي صاحبة السعادة سيدة الحديقة الأولى...؟
  فقال بصوت جهوري:
ـ وهل هناك غير أستاذتنا الببغاء تليق بمقام استأذنا كبير العظماء؟
ـ يا له من عرس كبير، زعيمنا الثعلب منحها حظوة السيدة الأولى، وجعل منها مستشارة فوق العادة!
    اعترض الكلب، وقد بدأ يتراجع خطوات إلى الخلف:
ـ لا تفسدوا علينا حرية التعبير، ولا تدعوهم يتراجعون ويقننون الكلام علينا!
   صاحت الضفدعة تنق نقيقا ً:
ـ من يفسد هذه الحرية، نحن أم أنت أيها الكلب السائب غير الملتزم بالولاء لزعيمنا الخالد...؟
   ولى من غير اثر. فتقدم نحو البركة دب ضخم، وراح يرتوي من مائها. فسألته السلحفاة:
ـ بارد! ومنعش، هذا الماء الأزرق المشبع بالاخضرار...، أليس كذلك؟
رد الدب بنشوة:
ـ  بل أكثر من ذلك...، حتى لو كان باردا ً في هذا الشتاء الشديد البرودة، وحتى لو كان اخضر مشبعا ً بالاحمرار والسواد البرّاق!
ـ آ ...، دب مؤمن! ولكنك لم تخبرنا بما يجري في ساحة العظماء...؟
ـ ماذا يجري...؟
   تساءل شارد الذهن، ثم أضاف:
ـ آ ....، يتدربون على أعمال بهلوانية استعدادا ً لاستقبال زائر كبير...!
ـ كل هذا الهرج، وهذا الصخب، من اجل الاستقبال..؟
ـ من يعلم..؟ قد يكون ابتهاجا ً لمناسبة ما، فالمناسبات لا تعد ولا تحصى، حتى ان باقي الحدائق تحسدنا على هذا الترف الباذخ في المسرات، السعادات، والنعيم!
   اقتربت الضفدعة منه وهمست في آذنه تسأله:
ـ لماذا تكذب، أثمة ضرورة لهذا الكذب...؟
ـ أنا...؟
  رد باستغراب، وأجاب بذهول:
ـ اكذب على من...؟
ـ تكذب على نفسك!
    كاد يسقط من شدة الضحك، فقالت السلحفاة له وهي تحدق في فمه الكبير:
ـ ما هذه الأسنان الخرافية..؟
ـ ما بها...؟
ـ كأنك سرقتها من تمساح ميت، أو من ديناصور منقرض...؟
    أجاب وهو ينهض بصعوبة من شدة الضحك، مبتعدا ً لتلافي نتائج الجدل:
ـ بعد لحظات ستتهمونني بسرقتها من وحيد القرن، أو من ذئب أعمى!
   قالت الضفدعة للسلحفاة:
ـ دعينا من هذا المشرد...، لنقترب ونرى ما يحدث، على ارض الواقع.
ـ أنا لا أجازف...، فقد نتعرض للاختطاف، أو القتل...، فالضواري طليقة، والجوارح تحّوم ...
ـ آ ...، منذ زمن بعيد لم نر مثل هذه الفعاليات والأعمال البهلوانية..، رغم البرد الشديد في هذا الشتاء القارص.
ـ بالفعل ...، فانا أرى النمر يثب إلى الأعلى، أعلى من الحبال، وارى القرود تمشي فوقها  بلا حذر...، بل ها هو الدولفين ذاته يقفز أعلى منها ويدور في الفضاء، يا له من مهرجان يبعث في النفس البهجة، والمسرة!
فقالت السلحفاة:
ـ بل أنا أرى الحبال ترتفع إلى الأعلى، وتدور، والنمر يرقص بينها، تتبعه القرود تؤدي قفزات إلى اليسار والى اليمين بخفة ورشاقة...، والحبال تساعد الدولفين على الوقوف بثقة تامة، حتى إنني لا اعرف من يساعد الآخر على هذا اللعب؟
وأضافت:
ـ ها هو النمر يبتعد عن الحبال.
ـ أنا أراه ذئبا ً، أو كلبا ً أجنبيا ً...، بل ربما تكون فقمة، أو كائنا ً مستحدثا ً!
  فردت بانشراح:
ـ ما الفارق...،فالكل يلعب، يتدرب، يلهو، ويمرح...، من الأسد إلى الغزال....، ومن أفراس النهر إلى المستحدثات الذكية، لأن من لا يلعب يطرد من اللعبة، بل ربما يعاقب!
ـ كما طردونا!
ـ دعك ِ من المزاح...، فهم لم يطردوننا...، بل نحن لم نلب الدعوة!
ـ وهل وصلتنا دعوة...؟
ـ أجل...، دعوات، ومنها المشاركة في فعاليات السيرك الكوني!
ـ آ ....، تذكرت، نحن اخترنا الرقص تحت الماء الأزرق الشفاف، وقلنا: لهم تسليانهم ولنا تسالينا! بل قلنا إننا نتفوق عليهم بان حبالنا أكثر مرونة وليونة وانسيابية!
   ساد الصمت لبرهة، تبدد باقتراب أتان تترنح:
ـ يا لهذا الجمال، والرشاقة...، اقتربي، فالماء وفير....، فضلا ً عن توفر العشب والدغل.
   اقتربت ببطء شديد. فصاحت الضفدعة تسألها:
ـ أأنت مريضة، أم ثملة، أم متولهة بحبيب...؟
ردت الأتان بصوت حزين:
ـ ولدت بغلا ً للتو!
ـ جميل...، سلامتك، فما أعظم هذا الانجاز، فولدك لن يصبح حمارا ً، وتحمل عليه الأثقال، مثل أسلافه، ومثلك ِ...  ثم انه لن ينهق، ولن يصبح صوته من أقبح الأصوات! فلماذا أنت حزينة؟
ـ أنا لست حزينة، بغلي هو الحزين، ولدي العاق!
   قالت السلحفاة بأسف:
ـ حتى الأمهات رحن يشهرن بأولادهن، ويقللن من شأنهم...، فيا لها من محنة تجعل الأم تشهر بوليدها، بدل ان تفرح به؟
      قربت الأتان فمها من الماء وراحت ترتوي، وهمت بالانسحاب. فسألتها الضفدعة:
ـ لم تخبرينا عما يجري في المنصة الكبرى..؟
ـ مصيبة!
ـ يا ساتر ....
وتساءلت السلحفاة بخوف:
ـ  هل هم حقا ً يتربون استعدادا ً للدفاع عن حديقتنا ...؟ 
صاحت الأتان:
ـ  عن أي استعدادات تتحدثين ...؟
ـ إذا ً فهم يلعبون، يمرحون...، استعدادا ً لاستقبال زائر كبير...؟
ـ أي لعب، أي استقبال...؟
ـ لكن ما هذا اللعب بالحبال، أيتها الأتان الحزينة، ما هذا الصخب، الزعيق، التهريج، الزئير، العواء، والنباح، ما هذه الوصوصة، والخشخشة والهمهمات...، أليس من اجل الدفاع عن كرامتنا، وحقوقنا، ومجدنا العظيم ...؟
ـ أي مجد...، وأية عظمة...؟
    قالت السلحفاة بصوت مرتبك:
ـ إذا ً...، هذا التدريب على الحبال يجري لإقامة الاحتفال بالعرس، عرس زعيمنا بالاقتران على سيدتنا الأولى...؟
ـ أي عرس...؟
ـ عرس مديرنا على السيدة مستشارته...؟
ـ ما هذا الكلام، من صرّح به...؟
ـ إذا ً هم يتدربون على الألعاب البهلوانية...، فانا رأيت النمر يقفز قفزات عالية في الهواء، تارة يدور الحبل من حوله، وتارة هو يدور من حول الحبل...، ورأيت ابن أوى، مثل الذئب، يجتاز الحبال برشاقة، بخفة، كأنه ساحر، مثل غزال ...، ورأيت الدب ...، بل انظري ـ أيتها الأتان العزيزة ـ كأنه يطير...، حتى وحيد القرن أصبح خفيفا ً مثل ريشة في مهب الريح!
ـ ما هذا الكلام ....، الغريب، غير المسؤول...؟ 
    وابتعدت عنهما، تترنح، توشك على السقوط، صامتة ولم تجب. فصاحت الضفدعة مرة ثانية بصوت حاد النهايات:
ـ إذا ً فأنت تتجاهلين القرار القاضي بمعاقبة كل من لا يبتهج في هذا اليوم البهيج، ويعاقب كل من لا يفرح في هذا النهار السعيد، ويسجن كل من يتخلف عن حضور هذا الاحتفال المجيد....؟
   نهضت الأتان بصعوبة، واقتربت منهما، وفتحت فمها ببطء:
ـ أفضل ان ترجعا إلى قاع المستنقع...، فقد تنجوان من ...، الكارثة!
  فسألتها السلحفاة وهي ترتجف:
ـ أهناك كارثة في الأفق...، بعد ما جرى علينا...؟
    ارتج جسد الأتان، وتمايل، وهي توشك ان تفقد توازنها، بعد ان استعادته قبل قليل، غير قادرة على النطق. فسألتها الضفدعة:
ـ  ماذا حصل، ماذا يحصل...، اخبرينا، قبل ان نتوارى في مستنقعنا الخالد.
قالت بصوت مرتجف:
ـ إنها حفلة موت!
ـ حفلة موت.....؟
ـ نعم...،  فانا رأيت الحبال تدور حول الرقاب، الواحدة بعد الأخرى ...، رقبة الذئب، النمر، الأسد، الفهد، الدب، التمساح....، ثم...، رأيتهم يجرجرون ولدي المسكين...، بغلي الذي ولدته فجر هذا اليوم، فلذة كبدي...، ورأيت أقدامه الصغيرة تتعثر بالأرض، وكاد يقع، ويسقط....، فقلت له: لا تخذلني. فقال لي: تبا ً لك، ماذا فعلت كي أموت، فصحت به: مت مغوارا ً بطلا ً كأنك في ساحات الوغى، والمنازلات الكبرى، ولا تمت ذليلا ً، مثل كلب أجرب يقتل في الظلمات!  
   قالت السلحفاة للضفدعة البدينة:
ـ دعينا نعترف بأننا لم نر صورة، ولم نسمع صوتا ً، ولم نرى شيئا ً غريبا ً، وان ما حصل ليس إلا آثار حمى برد، ووهن ابدأن خاملة...، دعينا نمحو هذا الذي كاد يبدو حقيقة، في هذا الفجر...، ولا نصّدع رؤوسنا بالحبال إن دارت حول رقابهم، أم ان رقابهم هي التي كانت تدور حول الحبال....، فقد ظننا إنها لعبة حبال بريئة، مسلية، ولم يخطر ببالنا إنها لعبة موت!
  اقتربت الأتان منهما، وهمست:
ـ ألا تخشيان خشونة الحبل وقسوته عندما يدور حول الرقبة الناعمة....، الطرية؟ 
صرخت السلحفاة:
ـ نحن نخشى الرقاب الخشنة القاسية عندما تدور حول الحبال الرقيقة، الناعمة! 
14/3/2015



21 آذار ...يوم الشعر العالمي- د. وريا عمر أمين

.

21 آذار ...يوم الشعر العالمي

                             د. وريا عمر أمين

أُبَارِكُ  في  النَّاسِ  أَهْلَ  الطُّمُوحِ         وَمَنْ  يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ  الخَطَـر
وأَلْعَنُ  مَنْ  لا  يُمَاشِي  الزَّمَـانَ        وَيَقْنَعُ  بِالعَيْـشِ  عَيْشِ  الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ  حَيٌّ ، يُحِـبُّ  الحَيَاةَ           وَ يَحْتَقِرُ   الْمَيْتَ  المُندَثَر
فَلا  الأُفْقُ  يَحْضُنُ  مَيْتَ  الطُّيُورِ        وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر
                                          ابو القاسم الشابي

         الشعر هو  أسمى أشكال التعبير اللغوي ، يجسد الحرية المطلقة للفكر والإبداع. يتكون من المشاعر الانسانية النبيلة و يحتل الموقع المركزي في حضارة الانسان..وهو وسيلة حية ومؤثرة لسرد الوقائع الحياتية و جعلها اكثر حيوية. ، ويشكل عنصراً اساسيا مكوناً لهوية الشعوب.
         الشعر لغة انسانية موحدة تجمع الاسرة البشرية الواحدة و يعبر عن مكنونات النفس في علاقتها مع الانسان و الوجود و الحياة و الذات  و يعد الحجر الأساس في قدرته على التواصل الأكثر عمقاً للثقافات المتنوعة. له أثر كبير في تعزيز إنسانيتنا المشتركة ، كون أن جميع الأفراد في العالم يتشاطرون ذات التساؤلات والمشاعر والاحلام و الاهداف و يواجهون ذات التحديات و المصير المحتوم.
       الشعر متحف تأريخ المشاعر الانسانية الفياضة والأحاسيس الرقيقة ، واروع ما فيه هو انه لا يستوعب ولا يتقبل الا ماهو جميل . خالد خلود الحب و الجمال وسوف يبقى مادامت قيم الخير تلوح في الأفق نورا وهاجا يبدد الظلام الحالك.
     اهمية الشعر تكمن في تماسه الحقيقي مع الهم الانساني. الشعراء هم قادة المجتمع  المفكرون، لهم القدرة على توعية الضمائر بأوجه الظلم التي يعاني منها العالم . هم وحدهم يستطيعون تغير الحياة. يخلقون عالما جديدا يلهم الناس ويعلمهم السلوك النبيل و حب الحياة.  كتبوا الشعر بدمائهم. كتبوها بالألم و الامل والحلم ،كتبوها بأرواحهم النقية وإرادتهم العظيمة من اجل يوم افضل و مستقبل مشرق للانسان اينما كان.
     تحتفل اليونسكو سنويا باليوم العالمي للشعر. حيث اُعتمد أثناء الدورة الثلاثين لليونسكو عام 1999 بباريس  مقررا بإعلان 21 آذار من كل عام يوما عالميا للشعر لاظهار الدور الحيوي الذي يؤديه الشعر في حياة الانسان بغض النظر عن اللغة او اللون او الدين او العرق او الفكر،  للتذكير بالكلمة الجميلة والمشاعر الفياضة والأحاسيس الرقيقة و دورها في تحقيق التقارب بين الناس و الشعوب.  ويوفر فرصة للحوار والتأمل.
       ووفقا لمقرر اليونسكو، فإن الهدف الرئيسي من ذلك هو دعم التنوع اللغوي من خلال التعبير الشعري، ولإتاحة الفرصة للغات المهددة بالإندثار بأن يُستمع لها في مجتمعاتها المحلية.
      لتحقيق هذه الاهداف تعمل اليونسكو على وضع برامج عمل تستجيب للتحديات التي تواجه البشرية في مجال الفكر و الثقافة لحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي و تشجيع  نشر التراث الشعري العالمي وحفز الإبداع الشعري و رسم صورة جذابة للشعر في وسائل الإعلام . كما تشجع الدول الأعضاء على القيام بدور نشط في الاحتفال باليوم العالمي للشعر، سواء على المستويين المحلي والقطري، وبالمشكاركة الايجابية للجان الوطنية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات المعنية الخاصة منها والعامة مثل: المدارس والبلديات والمجمعات الشعرية، والمتاحف والمراكز الثقافية، ودور النشر، والسلطات المحلية...


محاولة لقمع القلم الحر... دعوى قضائية حكومية ضد رسام كاريكاتير عراقي!- محاولة لقمع القلم الحر... دعوى قضائية حكومية ضد رسام كاريكاتير عراقي!






محاولة لقمع القلم الحر...
دعوى قضائية حكومية ضد رسام كاريكاتير عراقي!
عبد الجبار العتابي



 

3

      وصلت محاولات الترهيب إلى الكاريكاتير العراقي، والى احد ابرز رساميه، وقد أقيمت ضده دعوى قضائية لأنه مارس حقه بالنقد !!
 أعلن العديد من المثقفين العراقيين تضامنهم مع رسام الكاريكاتير خضير الحميري الذي رفعت ضده دعوى قضائية بسبب رسوماته التي انتقد فيها عمل الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية، وعدوا ذلك محاولة للاعتداء على الصحافة العراقية بشكل عام والكاريكاتير بشكل خاص، مؤكدين انها محاولة بائسة لطمس الحقيقية وإسكات القلم الحر والريشة الصادقة، الذي هو صوت الفقراء والمعدمين، موضحين ان الدعوى اجراء تعسفي ظالم يراد منه تقييد لحرية التعبير وموضحين انها مخالفة دستورية وقانونية صريحة، فيما اكد البعض ان الدعوى القضائية وسام شرف على صدر الكاريكاتير العراقي يزيده فخرا.
تقييس وسيطرة نوعية
فقد اعلن الفنان خضير الحميري استغرابه من الدعوى مؤكدا انه مارس في الرسومات حقه في توجيه النقد لأي جهة أو شخصية أو ظاهرة أو سلوك يستوجب النقد، وقال: تم تبليغي هذا اليوم 5/3/2015 بالمثول أمام السيد قاضي تحقيق محكمة النشر والإعلام يوم الأحد 15/3/2015 للنظر في الدعوى المرفوعة ضدي من قبل السيد سعد عبد الوهاب عبد القادر رئيس الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية إضافة لوظيفته..لأني (تطاولت) في توجيه النقد للجهاز المذكور في رسومي المنشورة على صفحات مجلة (الشبكة العراقية) في 4آب 2014..
 وأضاف: كنت قد نشرت في هذا التاريخ مقالة و5 رسوم تحت عنوان ( تقييس وسيطرة نوعية) مارست فيها حقي في توجيه النقد لأي جهة أو شخصية أو ظاهرة أو سلوك يستوجب النقد..
 وتابع: ما قلته في المقالة الصاحبة للرسوم:" لا أعرف فيما إذا كان الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية مازال يفرض سيطرته على نوعية البضائع التي نستهلكها، أم انه أوكل المهمة الى ضمير التجار و( حرصهم) على مصلحة المستهلكين، وفي الحالتين تبدو المهمة عسيرة وسط سيل الاستيراد من مناشئ لا تفرق بين التقييس و..التفقيس!،فالعلامة التجارية الواحدة مثبتة على بضائع متباينة المستويات، فهذا أصلي وذاك تجاري، هذا باب أول وذاك شباك ثاني،هذا ياباني والآخر صيني، هذا وارد أوربي وهذا وارد موزمبيقي !،ولا دليل يعين المستهلك نحو البضاعة الجيدة من البضاعة (الكلك)، سوى أن يشتري ويجرب..ثم يعض أصابع الندم !!.
دعوة للتضامن
اما رسام الكاريكاتير الفنان علي المندلاوي، فقد دعا الى دعوة للتضامن مع الفنان الحميري، وقال: يتعرض فن الكاريكاتير، والصحافة في العراق للاعتداء، والتحجيم، وفي احسن الاحوال الى المقاضاة.
واضاف:فناننا الكبير خضير الحميري الذي رفد الصحافة في بلادنا والصحافة العربية، والكردية ايضا منذ بدأ النشر منذ اواخر الستينيات من القرن الماضي، وحتى اليوم، وحتى مدى غير منظور في المستقبل استدعي الى المحكمة لنشره رسوما ينتقد فيها اداء مؤسسة لم نلمس منها فعلا مؤثرا، مؤسسة نأتمنها جميعا على حياتنا،مؤسسة لا تدري بان الكيد سيرتد اليها، لانها وحسبما اشار الحميري في رسومه اللوذعية، وحسبما نلمس جميعا قاصرة إلى حد كبير في اداء مهامها.
وتابع: نحن جميعا مع الحميري، مع الكاريكاتير الحر، مع الصحافة الحرة، مع النقد، مع صيانة صحة الإنسان وأمنه الغذائي.
 لن تسير لوحدك أبداً
من جانبه خاطب رسام الكاريكاتير الفنان برهان المفتي زميله الحميري بقوله: خضير... لن تسير لوحدك أبداً، فقال: يبدو أن الربيع لا يحب الكاريكاتير، فمطاردة الرأي الكاريكاتيري والرؤية الكاريكاتيرية تنشط في آذار.
واضاف: في الذكرى الأولى لرحيل رسام الكاريكاتير أحمد الربيعي كمداً وهروباً، نرى هجوماً هذه المرة على أيقونة من آيقونات الكاريكاتير، الجميع يعرفه بألتقاطاته الذكية من صميم مشاكل المجتمع: خضير الحميري، رسام بروح آهات الناس، قريب منهم حتى تحسه يأكل معك دون عزيمة ! صاحب ضحكة مليئة حزناً ونظرة تحدي مغلفة بإنكسارات الوطن.
وتابع: رغم أن القضية التي أستدعي بها خضير للمحكمة " لتطاوله " كاريكاتيرياً على جهاز التقييس والسيطرة، إلا أن الربيع أصر أن يكون الإستدعاء في آذار، جهاز السيطرة النوعية فقد السيطرة على أعصابه وتصرف بتشنج واضح تجاه خضير،ولأنني مشجع ليفرپولي وأحفظ جيداً أغنية نادي ليڤرپول، فأني أقول لأبي عمار: خضير... لن تسير لوحدك أبداً.
الدعوى ساقطة
 الى ذلك استغرب الكاتب عدنان حسين، رئيس تحرير جريدة المدى، وقال: في البلاد الأخرى يفرشون السجاد الأحمر تحت أقدام رسام مثل خضير الحميري، لكنه في بلادنا وفي هذا الزمن الأغبر بالذات مطلوب رأسه!.
 واضاف: "جريمة" الحميري انه بطريقته (الشقندحية) المحببة رسم كاريكاتيرات عن السلع الخربانة والمزورة المنتشرة في أسواقنا، وأرفقها بمقالة، فهو كاتب متمكن أيضاً.
وتابع: قبل كل شيء، الدعوى ساقطة لأنها لم تُرفع في المدة القانونية. ومع هذا أتمنى عليه أن يذهب غداً الى المحكمة بخطى واثقة ورأس مرفوعة... إنها من القضايا التي تشرّف صاحبها.. ليست قضية فساد داري ومالي تجري لفلفتها بين كبار المسؤولين الفاسدين في دولتنا.
واضاف ايضا: أتمنى عليه أن يذهب الى المحكمة ويقدّم مطالعته بشأن التهمة الموجهة اليه، وأن يطلب من المحكمة تزيين صدره بنيشان المسؤولية الاجتماعية والوطنية التي كانت وراء الرسوم والمقال، فأسواقنا غرقى بنفايات السلع الصينية والإيرانية والتركية والسورية، وعلى إدارة التقييس والسيطرة والنوعية أن توفد كبار مسؤوليها الى الباب الشرقي وشارع الجمهورية وشارع الرشيد والبتاويين وسوق مريدي في العاصمة وفي ما يماثلها في المدن الأخرى، للتأكد بأنفسهم بان معظم السلع التي تُباع هناك والمستوردة من مختلف المناشئ هي زبالة حقيقية.
وختم حديثه بالقول: خضير الحميري.. تقدّم الى المحكمة واطلب شهادتنا.. نحن معك حتى لو تطلّب الأمر ان نذهب معك الى السجن، فهذا ليس بغريب في هذا الزمن الأغبر.


غالب المسعودي - طائري الأثير(قصة سُريالية)

السبت، 14 مارس 2015

عادل كامل تجارب ملونة










مبدعون في الذاكرة-د. إحسان فتحي



مبدعون في الذاكرة


الزملاء المعماريون والمهندسون العراقيون الأعزاء في كل مكان

تحياتي الطيبة

د. إحسان فتحي

هذه بعض السطور عن الصديق العزيز وزميل المسيرة في قسم العمارة في جامعة بغداد، هيثم خورشيد، وهو الطير المهاجر الذي يرنو دوما بحنين عميق إلى الديار العتيقة في الوطن، وها هو قد التجأ إلى الرسم كوسيلة تشغله عن هموم العراق وما يجري فيه من مآسي ودمار. هذه تحية له ولعلنا نرى نماذجا من رسوماته، وتمنياتنا له بالصحة والعافية والمزيد من العطاء.

آمال سالم-الصورة أو مقاومة الغياب










 آمال سالم
الصورة أو مقاومة الغياب


 


    اذا كانت المصوّرة الفوتوغرافية آمال سالم قد احترفت، كزملاء لها، مهنة الصحافة، فإنها لم تختر إلا عينها. فالصحافة لديها كاختيار شبيه بمن ينتظر من لا وجود له، لأنها، ببساطة، حاولت الإمساك بهذا الذي لم يترك إلا ماضيه: محوه: الغياب. فهي أدركت أنها لم تنشغل بمراقبة عمل (سيزيف)، وإنها لن تؤدي دوره حسب، بل عليها ان تخترعه! فهي اختارت العمل ذاته الشبيه بمن اختار هبات الضوء: مقاومة الظلام. لكن عملها في الصحافة لم يقيدها بنقل الخبر (الصورة). لا لأنها أدركت ان مهمة (الجسور) هي الإقامة، رمزيا ً في الأقل، وليس وسيلة للعبور، والنقل، بل لأن العمل ذاته، هو اللغز، وهو ان يحافظ على ديناميته.
    على ان (اللغز) لا يكمن في المكان، ولا في مرور الزمن، بالمعنى المألوف، بل في العثور على علاماته وهي تنحدر إلى الغروب. كان عملها الفني لوعة أم اكتشفت أنها في الجحيم. فالخسائر وحدها ستعوضها بما تحول لدي البعض إلى مظاهر، بمعنى: أقنعة. لهذا ليس لديها إلا ان تصوّر عالمها الذي لا تعرف أكان قدرا ً أم  عليها ألا تستسلم له.
    فانشغالها بالتركيب، والجمع، والتوليف، والصهر ...الخ، كلها اهتمامات فلسفية لا علاقة لها بالأقنعة، سمح لها ان تدمج المسار الشاق ، والجذاب ـ للفنون بفن العصر: التصوير .
    فما هو قيد الزوال، لم يعد سطحا ً، أو بعدا ً أحاديا ً، أو ملمسا ً، أو لونا ً، بل، كما في لا وعيها السحيق، يشتغل في الأقاصي، حيث الأبعاد لا وجود لها من غير من يعيد إليها ـ بروح الضوء والمراقب ـ عناصرها، وهنا رسخت آمال سالم أقدم قانون للحرية: فك القيود/ أو الاشتباك معها، والحفر في الظلمات.

 

     فلم تجد للحرية أدق تعريف يماثل إنها ليست للدعاية. ذلك لأن الفن لم يمت، حتى وان تحول، كما تحولت بعض المقدسات، إلى سلع، وهوس بالمال، والبذخ، فكانت منحت حياتها برمتها للعمل، وربما، كما قال اكزوبري، ذات مرة، كي تنساه.
   ولهذا انغمرت بتصوير المدينة التي سكنتها، من ثم لم تتخل عنها. فبغداد ليست مدينة أشباح، وموتى، ومقابر، وسفك دماء، كما إنها ليست أزقة، وبيوت تحجرت وتحولت إلى أقفاص، ومكعبات، بل مازالت تمتلك الرفيف المشفر وعليها ان تحاوره: تصوّره، حيث لحظة الإبداع، لا تخدعنا بالخلود، أو بالأبدية، بل بما لم يدشن بعد. ففي مرئياتها اجتمعت العلامات كي تحول الوهم إلى مشاهد كائنات تحمل أسرار مدينتها، وأسرارها هي أيضا ً.
   وإذا كانت قد قدمت آلاف الصور للرسامين، كي يستثمروها في أساليبهم الواقعية، فانها لم تخف انها وحدت عمل الارض بالفكر: الرحم بالوعي، والقديم بالمستحدث. فلم تعمل بشعور الآسف، أو الجفاء، في بلد لا يجيد إلا محو علاماته، ورموزه الإبداعية، عامة، وإنما عبرت ـ بفنها ـ حيث صورها تدوّن مشروعها الطويل في قنص ولادات النهار ـ وما توارى في الظلمات.
   عمليا تبلورت رؤيتها بدمجها لموروثات لغز البذرة، كأقدم علامة حملت مشفرات عمل الأم، الولادة، مع ما سيشكل تحولا ً إلى الجنسانية الذكورية، لم يحدث طوعا ً، أو طاعة، أو رضوخا ً لقيود المهنة، والمجتمع، بل وعيا ً في ما يمتلكه الوعي ـ للمستقبل ـ بما يمثله الفن من ارتقاء ـ ورقي ـ وتشذيب، كي يصبح الجمال هو هذا الذي لا يرتد، ولا ينغلق، بل الذي يمارس إقامته، في المرور، وليس في الاستهلاك.



 


   إنها مصوّرة أعادت للأشكال ما كان توارى فيها من خلجات، وحياة، في الأصل، وكونت منها ـ رسالتها، من غير عون، عدا ما يمتلكه هاجسها الجمالي من العبور من الغياب إلى الحضور، ومن السطح إلى الأبعاد، انه، بإيجاز: كل هذا الكامن في لغز الوجود، وقلب مفهوم الغواية، إلى تحرر منها، والى حرية، وهي وحدها تصبح توغلا ً في مخفياتها، والإمساك بهذا الذي يمتلك سر ديناميته، وديمومته، حيث لم تخسر آمال سالم، إلا ما سيتحول إلى علامات ضوء، وعلامات تقاوم غيابها.
 
وكنت كتبت، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، الإشارة التالي:
ـ " تقنيات   التصوير الفوتوغرافي  وفن الرسم


  




   في سياق تاريخ طويل للفنون، لا يمكن فصل الفعل (الحدث/ الحركة) عن الأثر الذي يدخل في تركيب الذاكرة،  ذلك لأنهما سيشكلان  أصول فن التصوير الفوتوغرافي، ومبررات تدشيناته البكر. والمصورة آمال سالم، لم تمارس عملها الفني، إلا بعد أن اشتغلت سنوات غير قصيرة في الصحافة، ورصدت ـ عبرها ـ الحياة المعاصرة في العراق.  بيد أنها سرعان ما وجدت موهبتها في حقل أكثر صلة بالتشكيل، بمعناه الجمالي والفني معا ً .. فبهرتها العناصر في تداخلاتها، وحركتها، ومجالها المتجدد.
    في هذا المسار، كما عند عدد قليل من المصورين العراقيين، دمجت الفنانة عمل العدسة بلغة الرسم  وما يتوخاه من رهافة، وجعلت المكان ـ بحركته ـ البصرية علامة متداخلة بوظائف التصوير الفوتوغرافي: إنها ليست لعبة لاختزال الزمن، بل الوقوف بجواره، وإعادة صياغته كي يأخذ امتداده ومغزاه. هكذا ستوثق بغداد، وناسها، والطبيعة، محافظة على دينامية الأشكال، كفن له نظامه الخاص. وهذا الجهد ستتمسك به آمال سالم، كي يغدو مادة للرسامين، ولكنها ستبث خطابها داخل تكوينات تؤكد عنايتها بالإنسان، وتراثه الشعبي، ورموزه، مع الاحتفاظ بما سيشكل أسلوبها في الرؤية. فالأشكال لن تصير أشياء ً، وإنما سترتبط عناصر الرسم، كالضوء، وملمس الخامات، والمساحات، والمنظور، وحساسية الفضاء وشفافيته: إنها أولت نصوصها، عبر سنوات عملها كمصورة في الصحافة أو كفنانة تعمل لحسابها الخاص، ولإشباع رغبتها الجمالية، عناية ارتبطت بعملها اليومي، وبرصدها للمتغيرات والثوابت بتأملات لا تبعث إلا على الدهشة، والأسى العميق أيضا ً.  وفي الوقت نفسه، لن تغادر مكونات الأثر، كبنية تتحرك داخلها الأفعال، والأشكال، حيث يغدو فن التصوير الفوتوغرافي مجاورا لفن الرسم، في علاقة جدلية تبلغ ذروتها في: بلورة نص تتكامل فيه الروافد، كعناصر وكحركة، وكخامات وتحويرات، لتندمج، وتتكامل لأجل النص الجمالي، بانتقاله من الرسم إلى العدسة، ومن الأخيرة إلى شفافية الرسم، ورهافته."




*آمال سالم
ـ  ولدت في بغداد. وعملت في الصحافة منذ عام 1979 في الاتحاد العام لنساء العراق. وفي العام 1980 انتقلت إلى وكالة الأنباء العراقية.  وأسهمت ـ كمصورة  صحفية ـ  في الوكالة بتوثيق معظم الأحداث التي شهدتها البلاد. كما شاركت في جميع معارض الوكالة داخل العراق وخارجه. ودربت عددا ً من الكوادر في التصوير الصحفي.  وشركت في اغلب المعارض التي أقامتها جمعية المصورين العراقيين. وفي العام 1997 انتقلت للعمل في دائرة الفنون كمصورة للأعمال الفنية والمعارض الشخصية، وكان لها دورها في أرشفة الحركة الفنية منذ ذلك الوقت. وقد حصلت على جوائز وشهادات تقديرية. والفنانة تحمل شهادة الدبلوم في التصوير الفوتوغرافي منذ عام1989. تعمل في وزارة الثقافة، ومصورة في مجلة: تشكيل.

مرثية مدينة اور-اهل الجنوب السمومريون



مرثية مدينة اور
اهل الجنوب السمومريون


      يشكل أدب مراثي المدن المدمرة جنساً خاصاً في الأدب الرافديني، ولدينا عنه نماذج عديدة منها: لعنة مدينة أكاد، ومرثية سومر وأور، ومرثية نفَّر، ومرثية مدينة أور، التي سوف نقدم فيما يلي منتخبات من سطورها البالغ عددها نحو 430 سطراً.
يعود النص بتاريخه إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، وهو يصف الهجوم الكاسح الذي شنه العيلاميون الإيرانيون وقبائل السوبارتو البدوية على مدينة أور السومرية وتدميرها. ولكن كاتب النص لا يصف هذا الحدث في سياق تاريخي، بل في سياق ديني، ويعزو الحدث بكامله إلى غضب الآلهة على المدينة واتخاذهم قراراً بتدميرها.
لقد كانت السلطة العليا في الكون كما تصوره الرافدينيون تتركز في يد مجمع الآلهة. وكان هذا المجمع ينعقد، كلما دعت الحاجة، في معبد الإله إنليل المدعو إيكور في مدينة نيبور، وذلك برئاسة كبير الآلهة آن. وقبل التداول في المسائل التي عقد الاجتماع للنظر فيها،
كان الآلهة يأكلون ويشربون مما يقدم إليهم من قرابين في المعبد، وبعد ذلك يتعاهدون على الالتزام بالقرارات التي سوف تصدر عن المجمع، ثم تطرح أمامهم المسائل للتداول بشأنها، حيث يعلن كل إله بقوله (هييم)، أي فليكن ذلك، دلالة موافقته على القرار. بعد ذلك يقوم آلهة الأقدار السبعة بالصياغة الأخيرة للقرارات وتُعطى إلى الإله إنليل مهمة تنفيذها. وهو يلعب في نصنا هذا الدور الرئيسي في تدمير مدينة أور وإفناء شعبها. ولكن حتى هذا الإله الأقوى في مجمع الآلهة لم يكن بمنجاة من مساءلة المجمع الذي اعترض في إحدى المرات على سلوكه المشين عندما اغتصب في شبابه الإلهة ننليل، حيث قرر الآلهة بالإجماع نفيه لفترة مؤقتة إلى العالم الأسفل، على ما تقصه لنا أسطورة إنليل وننليل. يبتدئ نص مرثية مدينة أور بوصف الكاتب لكيفية قيام آلهة البلاد بهجر معابدها ومدنها قبل أن تحل الكارثة الوشيكة:
لقد هَجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
الثور البري، هجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
ملك كل الديار، هجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
إنليل هجر اصطبله، وحظيرته قد أسلمت للريح.
وزوجته هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ننليل هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ملكة كيش هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ننماخ هجرت كيش، بيتها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
يتابع كاتب النص على هذا المنوال حتى يستنفد لائحة آلهة سومر الرئيسية، وكيف هجر كل منهم مدينته ومعبده. ثم يأخذ بعد ذلك بتوجيه مرثاته إلى كل المدن والمعابد التي هجرها آلهتها بالترتيب نفسه. وعندما ينتهي من ذلك، نجد الإلهة ننجال، إلهة مدينة أور وزوجة إله القمر نانا (=سن)، تندب مدينتها أور التي حُمّ عليها القضاء.
اليوم الذي كنتُ أخشى،
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب عليَّ وقُدّر،
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع.
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب علي وقُدر،
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع.
اليوم الذي كنت أرتعد منه، يوم العاصفة،
يوم العاصفة ذاك قد كُتب علي وقدر،
هبط علي مثقلاً بالدمع.
الليلة التي كنت أرتعد منها،
ليلة البكاء المر قد قُدّرت عليّ،
لم أستطع الهرب أمام ليلة القضاء تلك.
جفا الرقاد وسادتي والأحلام،
لأن الأسى المر قد قُدِّر على أرضي وشعبي.
سعيت إلى شعبي كما البقرة على عجلها،
فلم أستطع نشله من الطين،
لأن الحزن والأسى قد قُدرا على مدينتي.
حتى لو نشرت جناحي وطرت إليها مثل طائر،
فإن أور ستُدمَّر فوق أساساتها،
أور ستفنى في مكانها.
وحتى لو أنني صرخت ونُحتُ:
" يا يوم العاصفة ذاك عُد إلى صحرائك"
فإن وطأة العاصفة لم تكن لتُرفع عني.
بعد ذلك نجد الإلهة تسعى يائسة لدفع الكارثة عن مدينتها. وتستجدي مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار بشأنها:
ثم توجهتُ بتصميم نحو مجمع الآلهة قبل انفضاضه،
بينما كان آلهة الآنوناكي جلوساً يتعاهدون.
جرجرت ساقيَّ، فتحت ذراعيَّ،
بحرقة ذرفت الدموع أمام آن،
وبصدق نُحتُ أمام إنليل.
قلت لهما: عسى أور لا تُدمر،
عسى مدينتي أور لا تُدمر قلت لهما،
وعسى شعبها لا يُسلم إلى الذبح، قلت لهما.
ولكن آن لم يثلج صدري بكلمة،
بل أصدر الأوامر بهلاك أور،
وسيفنى أهلها وفق القضاء النافذ.
بعد ذلك يبدأ الإله إنليل هجومه الكاسح على المدينة مستخدماً العاصفة سلاحه المرعب الفتاك:
دعا إنليل العاصفة، والناس ينوحون.
أخذ الرياح الطيبة من سومر، والناس ينوحون.
وأرسل بدلاً منها الرياح الشيطانية، والناس ينوحون.
وأوكل بها كينجالولا حارس العواصف.
دعا الرياح التي تُهلك الديار، والناس ينوحون.
واختار إنليل جيبيل إله النار مساعداً له.
دعا الأعاصير السماوية، والناس ينوحون.
دعا الأعاصير الزاعقة عبر السماوات، والناس ينوحون.
العواصف التي تهلك الديار تزأر فوق الأرض، والناس ينوحون.
وفي جبهة الرياح أوقد النيران المتوهجة، والناس ينوحون.
والعواصف التي أمر بها إنليل في حقد،
غطت أور مثل عباءة واكتنفتها مثل ملاءة كتان.
أيها الأب نانا، لقد آلت المدينة إلى خراب، والناس ينوحون.
وجثث أهلها، مثل كسرات الفخار، ملأت جنباتها.
الجدران المتينة قد تهاوت، والناس ينوحون.
وعند البوابات العالية وفي الطرقات، تكدست الجثث،
وفي جاداتها العريضة التي شهدت الاحتفالات، اختلط الموتى،
وذابت الأجساد من تلقاء نفسها مثل زبدة تحت الشمس.
رجالها الذين لقوا حتفهم بالفأس مطروحون بلا غطاء رأس،
ورجالها الذين صُرعوا بالحراب مطروحون بلا أكفان،
في المكان الذي ولدتهم فيه أمهاتهم مضرجون بدمائهم.
في أور هلك القوي والضعيف من الجوع.
الآباء والأمهات الذين لزموا بيوتهم التهمتهم الحرائق،
والصغار الذين لزموا أحضان أمهاتهم جرفهم الطوفان مثل السمك.
تركت الأمهات بناتهن، والناس ينوحون.
ترك الآباء أبناءهم، والناس ينوحون.
وآلهة المدينة، مثل طائر محلق، هجرت مدينتها.
ننجال، مثل طائر محلق، هجرت مدينتها.
ثروات أور التي تراكمت في الديار وُضعت عليها أيدي مدنسة،
وفي عنابرها المليئة بالخيرات أُضرمت النار.
العيلاميون والسوبارتيون المخربون عاملوها باحتقار،
بالمعاول هدموا أور، البيت البار، والناس ينوحون.
أحالوا المدينة إلى ركام، والناس ينوحون.
إلهتها صرخت: وا أسفاه على مدينتي، وا أسفاه على بيتي.
ننجال صرخت: وا أسفاه على مدينتي، وا أسفاه على بيتي.
أنا السيدة، مدينتي آلت إلى خراب، وبيتي آل إلى خراب.
أيها الإله نانا، أور آلت إلى خراب وشعبها قد تشتت.
لقد لعن آنو حقاً مدينتي، ومدينتي حقاً آلت إلى خراب.
لقد أعلن إنليل حقاً عداوته لبيتي، وبيتي حقاً أُعمل فيه المعول.
في حقول مدينتي لم يعد ينبت القمح، وفلاحوها هجروها،
والكروم وبساتين النخيل التي كانت تفيض بالخمر والعسل،
صارت تغل الأشواك الجبلية.
أيها الإله نانا، أور لم تعد موجودة، ولم أعد سيدتها.
الويل لي، المدينة آلت إلى خراب، البيت آل إلى خراب.
أي نانا، أور المقام المقدس، آلت إلى خراب، وشعبها هلك.
الويل لي، أين أجلس، الويل لي أين أقف.
أنا ننجال، مثل راع مهمل راحت خرافه نهباً للسلاح.
الويل لي، أنا التي نُفيتْ من المدينة ولا تجد مكان راحة لها.
أنا ننجال التي نُفيتْ من بيتها ولا تجد لها سكناً.
بعد أن تتابع ننجال على هذا المنوال وتنتهي من تفجعها، يبدأ كاتب النص بتوجيه خطاب مطول إليها:
أيتها الملكة اجعلي قلبك مثل الماء، كيف تقدرين على العيش؟
أي ننجال اجعلي قلبك مثل الماء، كيف تقدرين على العيش؟
أيتها السيدة البارة التي هُدمت مدينتها، كيف تقدرين على البقاء؟
لقد صارت مدينتك مدينة غريبة، كيف تقدرين على البقاء؟
لقد تحول بيتك إلى بيت للدموع، اجعلي قلبك مثل الماء.
مدينتك التي آلت إلى خراب، لم تعودي سيدتها.
بيتك الذي اُسلم إلى المعول، لم تعودي تسكنين فيه.
شعبك الذي سيق إلى الذبح قد أدار ظهره لمليكته.
أور المقام المقدس راحت نهباً للرياح، كيف تقدرين على البقاء؟
أغانيك تحولت إلى نواح، وأنغامك صارت إلى نشيج.
في طرقك التي كانت ممهدة للعربات، زحفت أشواك الجبال.
أي مليكتي، حقاً لقد هجرتِ مدينتك، حقاً لقد هجرت بيتك.
فإلى متى تقفين جانباً كأنك عدو؟
ومع أنك كنت الملكة المحبوبة في مدينتك فقد هجرتها،
ومع أنك كنت الملكة المحبوبة من شعبها فقد هجرت شعبك.
عسى آنو ملك الآلهة ينطق قائلاً: هذا يكفي.
وعسى إنليل ملك كل الديار يرسم لك قدراً طيباً.
عساه يعيد مدينتك إلى مكانتها لتمارسي عليها السيادة.
أيها الأب نانا لا تدع العاصفة تستقر قرب المدينة.
عسى أن تُحطَّم شكيمة العاصفة تماماً.
ويُغلق في وجهها الباب كما تُغلق بوابة الليل العظيم.
أيها الأب نانا، إن المستضعفين الذين مشوا في طريقك،
يذرفون الدموع أمامك، دموع البيت المقوض، ويستصرخونك.
والمطروحون ذوو الرؤوس السود يسجدون أمامك.
أيها الأب نانا، إن المدينة التي ستعود سيرتها الأولى،
سوف تخطو بفخر وعزة أمامك.
إن المدينة التي ستعود إلى مكانتها، سوف تبجلك.
على هذه الطريقة ينتهي نص مرثية مدينة أور، وقد بدأت أور تنهض من كبوتها وتضمد جراحها لتعود إلى سابق عهدها كواحدة من أهم مدن وادي الرافدين الجنوبي.
على الرغم من أن هذا النص يقوم على حادثة تاريخية وقعت في زمن معين ومكان معين، إلا أن الكاتب قد ارتفع بالحدث من مستوى التاريخ إلى مستوى الأسطورة. فهو والحالة هذه ينتمي إلى زمرة من الأساطير أدعوها بالأساطير التاريخية. أما عن رسالة النص فواضحة كل الوضوح، وهي تقول لنا إن عالمنا قائم على الصيرورة والتبدل الدائم، والإنسان لا يكاد يطمئن إلى ثبات وديمومة رغده حتى يحم عليه قضاء الآلهة بغتة وهو غارق في لهوه ومتع حياته اليومية التي أَمِنَ إلى استمرارها؛ والدول والممالك لا تقوم وتزدهر فتصل أوج عزها حتى تأتي ساعة انحدارها. إن أور لم ترتكب ذنباً واضحاً ومع ذلك قررت مشيئة الآلهة الخافية على الأفهام تدميرها وإفناء شعبها، وليس على الإنسان أن يتساءل عن مشروعية القضاء والقدر. مثل هذه الرسالة يقدمها لنا مقطع من نص آخر معروف بعنوان «مرثية سومر و أور»، وهو يدور حول الموضوع نفسه. فبعد أن رأى إله القمر نانا هول الكارثة التي حلت بمدينته، يمثل أمام إنليل ملتمساً الرحمة لها:
أي أبي الذي أنجبني،
أي ذنب جنته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها؟
أي إنليل أي ذنب جنته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها.
أي أبي الذي أنجبني،
افتح ذراعيك، خذ إليك مدينتي انشلها من وحشتها.
أي إنليل، افتح ذراعيك خذ إليك مدينتي انشلها من وحشتها.
دع اسمك يعلو في أور مجدداً، وأهلها يتكاثرون من أجلك.
فيجيبه إنليل بعد أن استمع إليه مطولاً، بأن قرار الآلهة لا رجعة عنه، وأن البشر لم يُعطوا ميثاقاً باستمرار الأحوال وراحة البال. لم تقترف أور إثماً أو ذنباً ولكن قد حُمَّ عليها القضاء:
أجاب إنليل ابنه نانا- سُوين:
قلب المدينة يبكي، وناي القصب فيها ينوح.
شعبها يقضي يومه في النواح والنحيب.
أي نانا، أيها النبيل، عد لشأنك،
فإنك لن تقايض بالدمع شيئاً.
حُكْمنا لا مبدل لكلماته، حكم مجمع الآلهة.
لقد مُنحت أور سلطاناً ولكنها لم تُمنح دواماً.
منذ القدم، منذ أن أرسيت البلاد إلى يومها هذا،
من رأى منكم مُلكاً باقياً؟
كذا فسلطان أور قد اجتُث وولى.
أما أنت يا نانا، فدع الهم عنك واهجر البلد.


ما ألذي جرى للطيار الألماني فوق بغداد في 15 مايس 1941؟-د.إحسان فتحي








د.إحسان فتحي

  وكيف غيرت هذه الحادثة تاريخ العراق والمنطقة برمتها؟ كان يوم الخميس 15-5-1941 يوما صيفيا حارا وبسماء زرقاء جميلة وصافية. نسيم خفيف يهز نخيل البساتين البغدادية بإيقاع متمايل. أهالي بغداد نزلوا توا من نومتهم القلقة في سطوح بيوتهم ذلك لان الوضع السياسي كان متوترا جدا وحكومة ماسمي بـ (الدفاع الوطني) كانت تتلقى الضربات العسكرية من القوات البريطانية في قاعدة الحبانية وتتوجه نحو بغداد. رشيد عالي الكيلاني كان قد أعلن انقلابه على حكومة طه الهاشمي يوم 1 نيسان 1941 وسبب ذلك في هروب الوصي عبد الإله بن علي في سيارة السفير الأمريكي (بول نابنشو) الى  الحبانية ، ونقل بعد ذلك إلى بارجة حربية بريطانية راسية في شط العرب اسمها (كوكشيفر). الطائرات البريطانية بدأت بقصف بغداد منذ 4 مايس.  السفير الألماني والحقوقي اللامع (فريتز غروبا) كان قد نسق مع الانقلابيين منذ فترة طويلة للحد من نفوذ البريطانيين في العراق والاعتماد بدلا من ذلك على المانيا النازية التي كانت تحقق الانتصارات تلو الاخرى وعلى كافة الجبهات وخاصة في شمال أفريقيا. وبهدف تحقيق ضربة فاعلة للقوات البريطانية في المنطقة اختارت القيادة الألمانية الطيار البارز الميجور (اكسل فون بلومبرغ) وهو ابن الفيلد مارشال المشهور ( فيرنر فون بلومبرغ) للقيام بجولة استطلاعية بالعراق للتمهيد بتأسيس فرقة عسكرية عراقية وعربية من المتطوعين وبقيادة المانية. اطلق الاسم الحركي ( سبيشل ستاف اف) على الطيار اكسل وكان تحت امرة الجنرال (هلموت فيلمي).  كانت الخطة السرية هذه تتضمن قيام مجموعة من الطيارين الالمان سميت ب (فلايجر  فوهرر اراك) تتبعه فور نجاح مباحثاته يوم السبت 17 مايس في مقر القيادة العراقية. كان كل شيء يبدو مرتبا ومحكما. رشيد عالي ووزير دفاعه ناجي شوكت كانا متلهفان لمقابلة هذا الطيار الألماني الوسيم.  اقترب الطيار اكسل من بغداد وشاهد من بعيد قبتي الروضة الكاظمية الذهبيتين تسطعان ببريق يسحر  العيون، ورأى نهر دجلة العظيم وهو يتلوى كعاشق يحتضن حبيبته بقوة ويهيم بها في ملحمة وجودية أزلية.  قرر الهبوط في مطار بغداد المدني في الوشاش، على ما يبدو، وليس في مطار معسكر الرشيد البعيد الذي كان الانجليز يطلقون عليه اسم (الهنيدي). كان صوت أي طائرة في سماء بغداد يعني انها انجليزية وستقصف المدينة.  وكان لدى الجيش العراقي آنذاك عددا لا بأس به من المدافع الرشاشة المضادة للطائرات. ظهر له مدرج المطار بكل وضوح وبدء يهبط بطائرته تدريجيا وبكل عناية. وفجأة انهال عليه الرصاص من كل صوب واتجاه!  حاول ان يصعد بطائرته مرة أخرى ولكن الأوان كان قد  فات!  أصيب برأسه بطلقة نارية. بدأ نظره يتلاشى ولكنه استطاع الهبوط بطائرته، والدخان الأسود ينفث منها،  واستمرت الطائرة بالتحرك بسرعة حتى انزلقت في منطقة ترابية في اخر المطار.  هناك روايات مختلفة تحاول تفسير ما حصل، احدهما تقول بان الطيار اصيبب (نار صديقة) من العراقيين لاعتقادهم بأنه طيار انجليزي جاء ليقصفهم. ورواية أخرى تقول بأنه أصيب من قبل طيارة انجليزية لأنه تبين بأنه أصيب برصاصة بأعلى رأسه مما يدل على إصابته مباشرة من طائرة  تطير فوقه. هرع الناس من المناطق المجاورة لرؤية الطيارة المعطوبة ولكنهم شاهدوا الطيار قد فارق الحياة مصابا بطلقة نارية في أعلى رأسه. أتت مفرزة من الجنود العراقيين وتم نقل جثة الطيار السيئ الحظ إلى السفارة الألمانية ودفن لاحقا في المقبرة المسيحية في باب الشرقي.  في موقع الحادث كان احد الأشخاص الذي كان يعملون في سوق السراجين قد انتبه إلى مقعد الطيار الجلدي الفاخر ذو اللون البيجي واقتلعه بسرعة وذهب به فورا إلى احد الأسطوات المشهورين في السوق وباعه إليه. فكر هذا الاسطة المتمرس في أحسن طريقة يمكن بها استغلال هذا الجلد الفاخر الذي لم يسبق ان رأى مثله بكل حياته! قرر ان يصنع (جرابين) رائعين قد يغري بهما بعض الشخصيات البغدادية الهامة لمسدساتهما المفضلة!  وفعلا تم ذلك. الجراب الأول هو الآن عند ورثة نجيب الربيعي، رئيس مجلس السيادة سابقا (1904-1965) والآخر هو الآن عند المحامي نصير الجادرجي! ان هذا (الجراب) الجلدي الفاخر الذي تجدون صورته ملحقة مع هذا المقال هو كل ما يتبقى من خطة ألمانية رهيبة كان من الممكن ان تغير خارطة الشرق الأوسط تماما، لكن الأقدار تأتي بأمور غير متوقعة، والتاريخ يزخر بالأحداث والمفاجآت المذهلة. أما الداهية فريتز جروبا فقد استطاع الإفلات من البريطانيين الذين حاولوا المستحيل للقبض عليه!  هرب إلى الموصل ثم الى تركيا وبعدها وصل ألمانيا وواصل عمله الدبلوماسي.
 15-3-2015 

ما ألذي جرى للطيار الألماني فوق بغداد في 15 مايس 1941؟--