الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

العربية .. العربية-علي الحليم

العربية .. العربية

علي الحليم

كان عبد الملك بن مروان يقول:
"اللحنُ في الكلام أقبحُ من الجدريّ ِ في الوجه " ، !
و :
" شيّـَبَني ارتقاءُ المنابر مخافة َ اللحن "!
اليوم لم يعدْ أحد ٌ يستحيي من اللحن في اللغة..
ولم يعد يكترث به إلا قلة من النقاد و أساتذةِ اللغة ...
ولم تعد الغيرة على اللغة كما كانت من قبل، وكما ينبغي أن تكون!..
أيامَ العباسيين كان «الخليل بن احمد الفراهيدي» يصغي إلى رجل كان يتلو بعض آي الذكر الحكيم ، وحين قرأ الرجل هذا الجزء من الآية الثالثة من سورة التوبة :
{
وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ....}
نطقها الرجل «ورسولِهِ» بكسر اللام وليس بضمها ، فثارت ثائرة " الخليل " و نهر الرجل قائلا له :
ماذا تقول يا رجل ؟!
قل : « ورسولُه » بضم اللام ، هكذا نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم !!
انظروا إلى أين نقل ( الرجل – القارئ) المعنى بإبداله الضمة بالكسرة !!
برر الرجل خطأه بأن المصحف في ذلك الوقت لم يكن فيه أية وسيلة ترشد القارئ إلى النطق السليم .
كانت هذه الحادثة هي البداية التي تحرك لها عقل ووجدان «الخليل بن احمد الفراهيدي» ، فعكف على دراسة مخرج لذلك حتى توصل إلى الحركات التي تضبط كلماتِنا الآن:
"
الفتحة والكسرة والضمة والسكون " .
اليوم صار الخطأ أمرًا عاديًّا و لا بأسَ عليه ، وصارت الغيرة على اللغة ورد الخطأ ضربًا من المبالغة والحماسةِ غير ِ المحمودة ... و هذا أمر خطير ... لماذا ؟؟
لماذا لا نشير إلى الخطأ ؟؟ كان الخليفة عمر بن الخطاب يقول " رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا " ، فكان البدوي الآتيٍ من أطراف الصحراء لا يتردد في انتقاد عمر ...
نحن أمة علم ٍ و تعلّم !
تتجول هاهنا في منتديات واتا الحضارية ، فتقرأ ما لذّ َ و طابَ من إبداعات في فنون الأدب و اللغة جميعِها ، النثر و الشعر ، القصة و الخاطرة و المقامة و ... و ... و يندر أن تخلوَ هذه المساهمات الإبداعية من الأخطاء النحوية و الإملائية ، و يغلب عليها جلّـِها عدم استخدام علامات الترقيم .
و ما يفرحني أن النقاد و الكتاب و الشعراء و القراء و.. يدلون بآرائهم المفيدة في النصوص التي تـُطرح و يتفاعلون معها كأروع ما يكون التفاعل
و يؤرقني في الآن نفسه ، أنهم – ماعدا البعض – لا يتطرقون إلى ما في هذي النصوص من أخطاءَ نحويةٍ أو إملائية ، و كأن ذلك يلغي من قراءاتِهم نَفـَسَ التشجيع ِ و المجاملة لكاتبي النصوص .
أذكر أن الأديبة " نجوى النابلسي " و هي تطرح أحد مواضيعها قالت للأساتذة جميعهم ما معناه ( لا تجاملوني ، لا تمدحوني ... أريد أن أعرف موقعي !!) مَن يريد أن يتطور ؛ يتعامل بهذا النفس .. و لا أظن أن أحدا منا لا يريد أن يتطور ...
و مَن يُخرج نفسه من دائرة "التلمذة" يحكم عليها بالتوقف عن طلب العلم ، و هو حكم - فيما أرى – يوازي الحكمَ بالإعدام في قوانين الأحوال المدنية !!
إن فوق كل ذي علم عليما ، كلنا يلحن ، يغلط ، و كلنا بحاجة إلى الوقوف علي حقيقة مستوى ما يكتب ... مَن يحيطُ بكل شيءٍ علما هو الله تبارك و تعالى .
منذ زمن ليس بالبعيد كان اللحن أو الخطأ في اللغة ، إن كان نطقًا ، أو كتابة أمرًا خطيرًا ترتعد له أقلام المتخصصين و النقاد ، ويمتعض منه كل إنسان غيور على لغته وتراثه.
إنها لغة القرآن الكريم ، إنها لغتنا ؛ جامعتنا ، مُوَحِدتُنا ، رجاؤنا !!..
وسيلة ُ تفاهمِنا ، تراثنا ، وعاءُ ذكرياتِنا ، ركيزتنا الحضارية و جذورنا المترامية البعد في أعماق التاريخ !!..
و ربما لأنها كل هذا تتعرض اليومَ لهذه الموجة العاتية الهادفة للنيل منها على أيدي "بعض" أبنائها قبل أعدائها ، والتي أدت إلى ترديها على المستويات كافة .
على أية حال هذا موضوع مهم آخر .. آمل أن يناقش و يسلط عليه الضوء هاهنا في منتديات واتا الحضارية .
و الحمد لله أن "واتا" ملأى بالعقول النيرة ، و القامات الفكرية السامقة ، و فرسان اللغة الذين لا يشق لهم غبار .
ما يهم الآن أن أدعو جميع إخوتي و أساتذتي النقاد و الكتاب و الشعراء و القراء ألا يهملوا هذا الجانب المهم ، المهم جدا و ألا " يُطـَنـِّشوا" عن أي لحن :ان صغيرا كان أم كبيرا .
على الكاتب ألا يعزل نفسه عن مراجعة قواعد النحو و الإملاء ، و أن يراجع نصه ، أن يتمهل و ينقحه على مهل قبل أن يلقي به بين أيدي القراء .
كان الدكتور طه حسين رحمه الله يقول :
"
لغتنا العربية يسر لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها"
كم من كتب تضم بين دفتيها أفكارا عظيمة أهملت ، لأنها لم تعرض بلغة تليق بمحتواها ، و لم تقدم إلى القارئ في إخراج جميل يجذبه إليها !!
و كم من ألفاظ اصطبغت بصبغة الفصيح لكثرة تكرارها و عدم التنبيه إليها ، و هي من الفصحى كالثرى من الثريا ....
جمال اللغة يزيد الحق وضوحا ،
ويمنح النص جمالا ،
و يضفي على الكاتب وقارا ،
و يجعل اللهُ به للناقد أجرا !! .
_________________________________________________________________


غالب هلسا يسرد حكاية موت تأجل الإعلان عنه- د. فيصل دراج*

غالب هلسا يسرد حكاية موت تأجل الإعلان عنه

 د. فيصل دراج*

احتفى غالب هلسا في روايته "سلطانة" ، التي تستعيد أيام الشباب ، بشكلين من الخلق: الذات الكاتبة التي تخلق أنثى خصيبة تذهب إلى المستقبل ، و "النظرية الثورية" التي تضمن خلق مجتمع عادل ، لا انحراف فيه. اقترب ، في الحالين ، من فكرة "الانبثاق" ، التي تطلق إنساناً نجيباً ، يصاحب التاريخ ويساعده ، على تغيير مجراه. كان في الأفق نظرية ماركسية ، تقنع نصيرها بأنه يجسّد الصواب ، وأن الصواب الذي يؤمن به يأخذ بيده إلى الانتصار.

عاد الروائي في آخر رواياته :"الروائيون" ـ 1989 ـ إلى "النظرية الصائبة" ، منتقلا من "عمّان منتصف القرن العشرين" ، إلى قاهرة ما قبل حرب حزيران ـ 1967 ـ وبعدها. كان الروائي ، في زمن الكتابة ، يقترب من شيخوخته والحلم الماركسي قد اعتلّ منذ زمن وأصبحت التجربة كلها ، قابلة للتقويم. ولأنّ الماضي أكثر الأزمنة وضوحاً ، ترك الروائي الحاضر مع تداعيه وعاد إلى الماضي ، سارداً حكاية موت تأجّل الإعلان عنه. لا موقع ، في زمن الماركسي المكتهل ، لأنثى خصيبة ولا لكتاب يجمع بين الصواب والانتصار. تنفتح نهاية الرواية على موت صريح ، بعيداً عن زمن "سلطانة" ، الذي كلّما اعوجّ أسعفه جمال دائم الحضور.

وضع هلسا في عمله الأخير خطاباً أيديولوجياً مباشراً ، يشرح مآل "نخبة شيوعية مصرية" تألقت ، زمناً ، وسقطت سريعاً في موت بطيء. جاء الموت من سلطة مستبدة ، تواجه التنوّع السياسي بالسجون والجلادين ، ومن خطاب سلطوي تلفيقي يقول شيئاً ويفعل غيره ، ومن "عوالم المثقفين" التي تحتمل الطهر والبراءة والمساومة المرتبكة والحسبان الدنيوي. قابل الروائي بين شيوعيين يؤمنون بقوة الأفكار وبالإرادة الإنسانية المقاتلة وسلطة تدمي الأفكار والكتب وتكرّم الجلاّدين معلناً ، في النهاية ، عن انتصار السجون ومكتبات الظلامّ. استبدلت رواية "الروائيون" بـ "سلطانة" الأنثى المشبعة برموز الخصب والانبعاث ، امرأة لا هالة لها ، تنوس بين الدأب النظيف وخفة قاتمة تقترب من الدعارة.

يغيب حضور "الأم" المتواتر ، ولا يتبقى لها إلا حضور ومضي ، يلمع سريعاً ويحاصره الظلام: "برز وجه الأم ، فجأة ، صارماً ، أبيض ، مؤطراً بمنديل وشعر أسودين. عيناها سوداوان ، واسعتان ، .... منذ زمن بعيد لم يتذكرها ، فما الذي جاء بها صارمة ، تحمل إليه اللوم والإدانة". كانت "الأم" ، في زمن مضى ، تفصل بين الطهر والدنس ، وتهزم الأخير ، وكان "الصبي" نقياً ، وكان الطرفان رمزين من رموز الثورة والأمان.

استدعى "الشيوعي المهزوم" وجه أمه مستجيراً بنقاء مفقود ، ومحتجاً على مآل لا يليق بنظرية أرادت توليد التاريخ من جديد. أعلن ، غاضباً عن انفصال رمزي عن حاضنة انتمى إليها طويلاً ، وعن رغبة بعودة زمن غنائي لن يعود. سأل المثقف المغترب الموت حلاً منعته عنه الحياة. قدم السارد الشيوعي خطاباً يتهم "الأرواح المفككة" ، وصاغه بأدوات فنية تجعل التفكك أكثر وضوحاً. كان السارد الرومانسي ، في زمن شيوعية واعدة ، مرتبطاً بشكل فني عضوي ، يلتبس بسارد عليم ، لا ينفصل عن شخصياته ولا تنفصل شخصياته عنه ، ويسوسها مطمئناً إلى أفق مفتوح. فهو من شخصياته وشخصياته منه ، و "الأنا الهائلة" تحتضن الطرفين.

لا شيء من هذا في زمن احتضار الحلم الشيوعي ، الذي سرده غالب هلسا ورحل. فالأنا الرسولية الخالقة لا موقع لها ، والمخلوقات الجميلة أطياف أو ما يشبه الأطياف ، والمستقبل هو الحاضر السائر إلى التداعي. ولهذا يغيب ضمير المتكلم ويهيمن ضمير الغائب ، فلا وضوح ولا يقين ولا اتصال ، وما كان موحّداً ، تنطقه "أنا خالقة" وتنطق من خلاله ، تحوّل إلى شظايا بشرية ، تخاف الوجوه وتلتمس الأقنعة. انطوى زمن الوعي الرومانسي وانطوى معه الشكل الفني العضوي ، في نبرته الغنائية ، وأخذ مكانيهما شكل فني قلق أقرب إلى "التقرير الصحفي" ، يلتفت إلى نثار النهار ولا يعبأ بملامح الوجوه. كأنّ الراحل الجميل الذي أراد في "الروائيون" تقديم رواية وشهادة ، جعل من الشكل الفني مرجعاً لـ "المضمون" ومضاعفة له. أملى الشكل ، الذي يوحي بالتفكك ، حواراً مترهلاً ، يحيل على شخصيات فارقت زمناً حالماً كثيفاً ودخلت ، واجفة مغلوبة ، إلى زمن وجهه قناع وقناعه واهن يميل إلى السقوط.

أنتج هلسا ، المثقف القلق ، شكلاً فنياً مخلخلاً ، يحيل على مناضلين مغلوبين ، اطمأنوا إلى "بعض الحقائق" ، أو لم يطمئنوا إلى شيء واطمأنوا ، في الحالين ، إلى قدرة السلطة على ابتلاع ما خارجها. فبعد خروج الشيوعيين من السجن بدوا ، كما تقول الرواية ، غرباء عن مجتمعهم ، هو لم يفتقدهم حين اعتقلوا ، كما لو كانت ثنائية القهر والإعلام السلطوية قادرة على إلغاء عقود من الكفاح. أفضى جدل الهزيمة والإلغاء الذاتي إلى شخصيات مفرغة ، تعترف بما لا تقتنع به وتقتنع بما لا تستطيع التصريح عنه ، وتنظر إلى أكثر من اتجاه في آن. اكتفى الروائي ، وهو يعاين شخصيات يكتسحها التداعي ، بوصف الشخصيات من خارجها ، قامات واهنة الملامح ـ باستثناء فترة السجن ـ وضعها الاغتراب خارج ذاتها ودفعها الوهم خارج نظريتها ، وشدتها المساومة إلى خارج طبقتها المفترضة. وإذا كان لـ "الكتاب" سلطة وهالة في زمن "سلطانة" ، فهو مرجع الحلم والثورة ، فلا حضور له في زمن الخيبة غير المتوقعة. وضع هلسا في روايته سياق كتابتها ، أواخر الثمانينات الماضية ، قائلاً بما لم يقله صنع الله إبراهيم وشريف حتاته ، اللذان سبقاه إلى موضوع "السجن والشيوعيين" ، في "نجمة أغسطس" و "العين ذات الجفن المعدنية". دفع الروائي ، الذي عاش التجربة وشهد عليها ، بغضبه المحبط إلى تخومه الأخيرة ، ورأى في الانتحار حلاً وحيداً للمثقف الرومانسي.

أعلنت عناوين الفصول الروائية الثلاثة ، بشكل مستقيم ، عن رحلة بطولية متوجّة بالخسارة. سرد السجن" ، وهو عنوان الفصل الأول ، اللقاء بين مثقف مناضل وجلاّد أمّي ، وأعقبه فصل "عالم الأوهام الجميلة" ، الذي رصد ما لا يعطبه السجن وتعطبه الأوهام الذاتية وتلاه فصل "الجحيم" ، الذي تأمل هزيمة تكاثرت إلى هزائم. أفصحت العناوين عن دلالة مواضيعها ، واختصرت أزمنة الشخصيات المختلفة إلى زمن خارجي عقيم ، حيث الفرد يدور حول ذاته ويصل إلى لامكان ، ويتبادل مع غيره قشور الكلام وينسى الكلام. فبعد أن كانت الشخصية في السجن واضحة الشكل ، محددة الملامح واللغة ، أصبحت بعده سديمية الشكل فقيرة الكلام. رصد هلسا ، بموهبة مخادعة ، العلاقة بين "الحرية" وتجلّي الملامح ، وبين السجن الخارجي الكبير واندثار الوجوه.

رسم الروائي عطب الإنسان في النظام القمعي بشكلين: الثنائيات العاطفية التي يبنيها الحب ويهدمها الجلاد ، إذ لكل سجين حب ينتظره ، ولكل عاشقة مسجون تحنّ إليه. بيد أن تجربة السجن تزيح الأمور الطبيعية عن مواقعها ، تبذر فيها عطباً ، يكاثره الخروج من السجن وعدم الخروج منه أيضاً. كأن السجن يعطب القلب ويفرج عن أرواح شاردة الاتجاه. فما كان قبل السجن لا يعود كما كان بعده. وواقع الأمر أن هلسا ، الذي كان يقترب من ستيناته ، قرأ في مأساة الشيوعيين المصريين مأساة الوجود في ذاته ، حيث الحالم يرى إلى "رابية" وينتهي إلى "زنزانة". وطّد الروائي قوله بـ "تكرارية الصورة ، التي تختصر الأيام المتواترة إلى يوم وحيد فقير المعنى ، كما لو كانت أزمنة الحياة في تعدديتها سقطت في زمن سلطوي ، يسبقه السجن ويتلوه.

مزج هلسا ، وكما فعل دائماً ، بين السيرة الذاتية وسيرة جماعية. كتب ما عاشه في زمن ، وكتب إحساساً بالفجيعة صدمه في زمن لاحق. استعار من "سلطانه" ثنائية الطهر والدنس ، وتأمل بها "عادلين" نزل عليهم ظلم كبير. وإذا كان الطهر ، في زمن الصوت الرومانسي ، يلتبس بأمومة واسعة الحضور ، فإن الطاهر في زمن الخيبة ينتهي إلى الانتحار. اقترب الروائي وهو يقترب من أيامه الأخيرة من القول" الرشيد: "الأكثر علواً هم الأشدّ سقوطاً" ، موزعاً العلوّ على المناضل الأخلاقي والسقوط على "بقايا المثقفين". ولعل إحساسه بالفجيعة اللصيق برومانسية لم تنطفئ ، دفعه إلى تعرية الشخصية الشيوعية من نقائها المفترض ، فالبعض يعاقر الخمر يومياً وآخر يدفعه" شذوذه" إلى مساومة السلطة الأمنية ، وثالث يقول بماركسية تخلط بين حرية السلوك والبغاء. وسواء مارس "الشيوعيون" ما يمارسه غيرهم من البشر ، أو تمسكوا بطهرانية حاسمة ليست غريبة عن بعضهم ، فقد أراد الرومانسي المهزوم أن يرجم "رفاقاً" هزموه حين خذلوا قضيتهم.

دافع الماركسي المهزوم ، وهو صورة عن المثقف الرومانسي بامتياز ، عن صورته الإيجابية مرتين: مرة أولى عن طريق السلب ، حين رحل عن عالم الدنس وسار مع كتبه إلى قبره الأخير ، ومرة ثانية عن طريق الإيجاب حين ترك وراءه "مناضلة" تتابع ما آمنت به من دون اضطراب. ملاحظتان تثيرهما رواية هلسا في هذا المجال: تنتسب المناضلة المتمسكة بقضيتها إلى القاع الاجتماعي ، جاءت من بيئة معدمة وعلّمها الشيوعيون القراءة والكتابة ، كما لو أن الروائي يرجم المثقفين المحترفين والنخبة القائدة ويعفّ عن غيرهما. أمّا الأمر الثاني فيمس "البطل الإيجابي" القديم ، الذي كان يقوده التاريخ المتخيّل إلى نصر منتظر ، قبل أن يسوقه انقشاع الأحلام إلى موت طوعي.

عبّر السارد الطهراني ، رمزياً ، عن تشاؤمه الشديد بأكثر من طريقة: لا يعيش الشيوعيون العلاقات الأسرية ، كأنهم لا يعرفون العائلة ولا يرغبون بتأسيسها ، يرتبطون وينتظرون ويتطلعون ويقبضون على الفراغ. والمعنى ملتبس ، يحيل في وجه منه إلى هشاشة وجودهم ، ويكشف وجه آخر عن قدر مأساوي. فعلى الذاهبين إلى المدينة الفاضلة أن يكتفوا بأطيافها. تغيب العائلة ويغيب معها ، لزوماً ، النسل ، أو الاستمرارية البيولوجية ، باستثناء المرأة "الفقيرة الأصول" ، التي أنجبت بنتاً. كأن الشيوعيين الذين يريدون إنجاب الثورة لا ينجبون ، أو أن السلطة القامعة تمنعهم عن الإنجاب وهي تمنععنهم شروط الحياة العادية.

هل هزم الشيوعيون أنفسهم قبل الأوان أم هزمتهم السلطة قبل الأوان وبعده؟ لا جواب يحمل برهاناً قاطعاً. بيد أن الأكيد أن الأحزاب تعيش بالسياسة وأن الاستبداد المتوارث يعيش بقتل السياسة. تمر رواية "الروائيون" على صورة "السياسة السلطوية" مرات أربع: "الخطيب الاشتراكي الرسمي" الذي يدافع عن "اشتراكية حقة" تساوي بين اختلاف الرأي والخيانة ، و"ضابط المخابرات الصعيدي" الذي يخفي جهله بمسدسه ويحوّل التعذيب إلى "مدرسة وطنية" ، والرئيس جمال عبد الناصر ، الذي اشترى بعض الشوعيين بحفنة من الجنيهات ، بعد خروجهم من السجن لا قبله ، وسلطة ما بعد عبد الناصر التي حوّلت "الفولكلور الصعيدي" إلى نظرية ثقافية. وكما تبني السلطة القهرية سياسة شكلانية فوق أشلاء السياسة الحقيقية ، تُواجه الثقافة بفولكلور ثقافي سلطوي ، يدمر الثقافة والفولكلور معاً. ولهذا يحاور "المخبر" المثقف الحزبي ليصبح "مخبراً" آخر.

ما هي وجوه المأساة في مسار مثقف شيوعي خادعه الطريق؟ الوجوه كما مرّ عليها هلسا تباعاً هي: السجن ، خيانة المنهج ، فقدان العائلة ، غياب الاستمرارية البيولوجية ، أو احتمال غيابها ، و"إيمانية الوعي الكتبي". يحيل الوجه الأخير ، كما نعلم ، إلى بهجة المعرفة المنفتحة على الكون والتاريخ ، التي إن تحزّبت تحوّلت إلى معرفة إيمانية مكتفية بنفسها ، لا تحفل كثيراً بالكون والتاريخ. وبسبب جمالية المعرفة ، التي تبدأ بالكتب وتنتهي بها ، تحتفي شخصيات هلسا بالكتب ، فالمرأة التي تجاوزت جهلها تحلم بتأليف كتاب ، والمثقف الطهراني يحاول أن ينقذ نفسه بالكتابة ، والفتاة التائهة تقرأ شيئاً في علم الجمال. إذا كان إيمان المثقف الملتزم من "إيمانية وعيه الكتبي" ، فما الذي يتبقى له إذا سقط في منتصف الطريق؟ قد يقع الوعي الواقعي على جواب لا مفاجآت فيه ـ فالكتب وجه أبدي من وجوه الخليقة ـ على خلاف الوعي الموغل في رومانسيته ، الذي ينتحر أو يعود إلى وضع ما قبل القراءة
أنتج هلسا نموذجاً شيوعياً تراجيدياً ، يحلم بالثورة ودفء العائلة ، ويريد أن يجمع بين المفاهيم النظرية ووقائع الحياة البسيطة. حين يتذكر الطهراني زمن "ما قبل ـ السياسة" يقول : "هذه هي فكرة إيهاب. فكرته المنسية ولكنها تعيش في داخله بعمق ، عن البيت: مكان تزول فيه الأوجاع ، ويمنحك ، ماذا؟ ماذا تسمي ذلك؟ أجل. يمنحك الحماية. مكان مكتظ بالأمهات ونساء غامضات ، مغويات ، يبرقن في العتمة.... بيت نصف مستشفى ونصف قلعة". يصوغ المهزوم بلغة دافئة أطياف الطفولة والبيت الآمن ، بعد أن فقد اتجاه المستقبل ، ويتمنى أن يرى تفاصيل الحياة ، بعد أن خذل الكتب وخذلته الكتب: "عندما يكتشف الإنسان أن كل تفاصيل الحياة المجانية والمهملة قد تحوّلت إلى ثروة حقيقية ، عندما تصبح هذه التفاصيل أجزاء في كلية ذات معنى". ينطوي الحنين إلى البيت ، كما بهجة اكتشاف تفاصيل الحياة ، على وجهين: وجه الهزيمة ووجه أشد ثقلاً عنوانه مأساوية الوجود الإنساني الذي لا يروض أبداً ، ذلك أن للمثقف الرومانسي موقعاً ما في جميع الأزمنة ، مثلما أن في جميع الأزمنة ما يغتصب موقع المثقف ويطرده خارجاً.

أدرج غالب ، بين شخوص روايته ، شخصية روائي تخلّى عن حلم الرواية وآثر الانتحار. والدلالة واضحة: لا موقع للكتابة الروائية في مجتمع مقموع ، أو: لا موقع للعمل الروائي المتعدد الأصوات في مجتمع يسوسه صوت وحيد يلغي السياسة. والنتيجة النهائية ، شاءها كاتب "الروائيون" أو لم يشأها ، هي التالية: لا أفق للمشروع الشيوعي ، وهو مشروع متعدد الأصوات ، في مجتمع لا سياسة فيه ، لأن هذا المشروع ، رغم مستوياته المتنوعة ، رواية كبرى. ولهذا دعا غالب روايته بـ "الروائيون" وجعل من كل شيوعي روائياً بالقوة ، ووضع سر الشيوعيين جميعاً في مآل الشيوعي المنتحر. أغلق الروائي ، رمزياً ، دفاتر الحركة الشيوعية المصرية ، ووضعه في زمن محدد هو بداية الحقبة الساداتية. اشتق.
هلسا دلالة النظام الناصري من استحالة الكتابة الروائية (لا رواية بلا ديمقراطية) ، وقرأ معنى المشروع الشيوعي المصري في كتابة روائية مستحيلة. كأنه يقول: لا يفسّر أفول الحركة الشيوعية المصرية ، في شكلها القديم ، بأخطاء الشيوعيين المتعددة ، بل بدور الدولة البوليسية في تحطيم الثقافة والسياسة وإلغاء شروط الإبداع الروائي الجماعي. قدّم هلسا اجتهاداً روائياً ، قابلا للرفض أو الدحض أو القبول ، دون أن تمنع عنه الاحتمالات الثلاثة صدقاً أخلاقياً لا شبهة فيه.

* ناقد ومفكر فلسطيني


زينب ألركابي صمت الأثر وديناميته-عادل كامل











تشكيل
زينب ألركابي
صمت الأثر وديناميته

  



عادل كامل
     بقصد، ومن غير قصد، تعيد زينب ألركابي صياغة اعقد مسار مكث عابرا ً للزمن، والأزمات، والأعراف، واقصد به: إن الفن جاور الحفر في المناطق النائية، مثلما لم يتخل عن المرئيات: في المخفيات، إن كانت أنطولوجية (وجودية)، أو مألوفة؛ يومية أو أبدية، سريعة الزوال، أو التي أصبحت غير قابلة للغياب. ففي الفن ـ منذ الدمى ذات الرؤوس الضئيلة وصولا ً إلى المجسمات العملاقة ـ ثمة عبور عبر جسور مهمتها الحفاظ على دورها الرمزي. فالأهرامات، أو الزقورات، أو ناطحات السحاب، على سبيل المثال، شبيهة بالأقنعة في أداء مهمة تخفف من الصدمة، بل وهي تتحايل على (الجوهر) أو الحقيقة. فليس الإنسان هو المثال، بل علاماته. ولا علاقة لمفهوم البنية ـ أي استبعاد العاطفة والتعبير ـ بالعمل الفني، لأن عزل الغائب أو الذي توارى غدا مثل الحتمية التي هي ذاتها عمقت القطيعة معه، بجعلها شاخصة. فالرموز المتداولة ـ إن كانت نصبا ً ضخمة أو لقى أو مصغرات ـ تحكي بلغتها المعاني المزدوجة بين الإفصاح، في الإعلان، وبين التستر، لأجل الإعلان ذاته. ولسنا بحاجة إلى براهين وإثباتات تفسر بناء القناع ـ والمخلفات النادرة ومنها الفنون، بعد زوال موضوعاتها، وأشخاصها، ومن نفذها ـ فالمتحف، بمعنى الذاكرة، مثال لا يقبل الدحض. وهنا يصبح المتلقي وحده يتبنى مهمات إعادة البناء كاملة، أي: إنتاج حضوره. زينب ألركابي، بوصفها حاملة لجينات إنسان وادي الرافدين، وجدت سلاسة أو فطرة في اختيار الحطام/ الأثر/ للاستدلال على الغائب. فبدل ان تبني زقورات، أو جنائن معلقة، أو تبني أجنحة للثيران، أو تقيم مجسمات للأسود، وبدل ان تشيد ناطحات سحاب، سمحت لأصابعها النحيلة المرهفة ان تأخذ دور (إنانا) في إكمال الدورة: الدفن ـ البعث.



  





   فالفنانة تلون مجسماتها الخزفية/ النحتية، بأمومة عنيدة، رمزية، كي تعيد شيئا ً من مراثي سومر وأكد، وتضعها في الواجهة. فأعمدتها، ولقاها، وأقنعتها، ومصغراتها غدت الأصل، كأنها أصغت عميقا ً لبودلير، وهو يقلب مفاهيم عصره الجمالي، لكن ليس نحو جماليات باذخة، أو استثنائية، بل الإيغال بالبحث عن المخفيات، وقد تحولت من زمنها إلى زمن الأثر ـ النص الفني. هنا تحديدا ً يأخذ الحطام معناه تعبيرا ً، وبعيدا ً عن العالم الافتراضي، لأن الفن لا يحتفي، كالقلائد للتزيين، بل للنبذ، ولصالح التأمل الوجودي، كأنها مشفرات تم اختيارها بأكثر قيود الحرية تحديا ً: البوح أو الاعتراف.  فالحرية تختفي ـ كقناع أو غواية ـ لتصبح واقع حال: حرية اثر، تحكي الذي كف عن النطق، باختيار البورتريه، الرأس من غير جسد، والسماح للمتلقي بإعادة إنتاجه، وليس بتأويله حسب.




 


    وبلذّة لم يبق منها إلا المرارة ـ المراثي أو صمتها ـ لتعيد التقاط الأجزاء المتناثرة، للمعنى، فتستبدل المخفي، بالحطام، والماضي بالحاضر: رأس كف عن عمله، بل حتى عن معناه، لكنه سيحافظ على النسق ذاته الذي سمح لاستخراج أندر المعادن من التراب، وهو ذاته، يعيد لمادة (الظلام/ وربما العدم) لغز وجودهما بما يمتلك من طاقات على الإشعاع. فعنوان تجربتها (مرايا النفوس)، ليست ممارسة شبيهة بممارسة لعبة النرد، وترك المصادفات تتجمع، أو تتوافق، بقدر إقامة عزاء، لكن من غير أسف، أو بالأحرى، للتشبث بحضور لا وجود له إلا في حدود الحداد، فالفنانة تستحضر المستقبل، وليس الماضي، لأنها تمارس دينامية الأثر بما يتضمنه القناع ـ الشاخص ـ والعلامات الأخرى، وتسمح للأسف بالتحول إلى صدمة: واجهة، سطوح، أشلاء، أجزاء، شظايا، حتى وإن قامت الفنانة بالتقاطها، كما يلتقط الراصد ومضات نجوم غابت قبل ملايين السنين.
     عمليا ً لا تمثل هذه الكلمات شهادة إعجاز، أو تفوق، ـ وإن كان المناخ الفني في البلاد وفي بغداد تحديدا ً تحت درجة الصفر ـ كإطراء أو مدح لها، بل لأنها تبنت إحياء الدوافع ذاتها لدى صانعي الأختام. أسلافها في سومر، وفي العراق القديم. ففي خامة (الطين) ترقد الصبوات، مثلما الآلهة وهبتها شيئا ً من أنفاسها، لتأخذ الأسطورة مداها الأبعد، وتغادر، كي تتحول الأرض، إلى مرآة، بمعنى إنها ستواصل احتفاءها العنيد بمعنى الغائب، المندثر، وبين تكونه من الرماد ـ الغياب. ليمتلك توقا ً لم يدحض، ولم يدمر، بل ازداد توقا ً للامتداد، والتجدد. فزينب ألركابي لم تغفل إنها تعلمت بداهة منعم فرات، وبعضا ً من رؤى أستاذها مؤيد نعمة، وقد انشغلا بالإصغاء إلى لغز الصمت. فالفنانة تعيد سردها لطقوس شبعاد ـ وأوجه الشبه بينها تسترعي الانتباه ـ وهي تذهب إلى العالم النائي، لكن ليبقى نظرها مصوبا ً نحو الرأس، خارج هيمنة الانجذاب إلى الظلمات، بل نحو اللغز الكامن في الديمومة، حتى وهي لا تمتلك إلا زمن انتقالها من المجهول، إلى المجهول الأبعد! فهنا تكمن غواية أخرى متأصلة ما ان تتحرر، حتى تكون أقدم أنظمة المشفرات، قد مارست قدرتها على العمل، وقدرتها على الخلق، ليس من العدم ـ كما تفعل الآلهة ـ بل من العناصر، وتحديدا ً، من الإرادة، وهي تقهر عوامل القهر.
ـ معرض (مرايا النفوس) زينب ألركابي ـ صالات وزارة الثقافة ـ بغداد 2014
ـ درست فن الخزف في محترف مديرية التراث الشعبي.. وأكملت دراستها في كلية الفنون الجميلة ـ فرع الرسم 2014.  عضو في نقابة وجمعية التشكيليين العراقيين./  شاركت في العديد من المعارض المشتركة وحصلت على كتب شكر وشهادات تقديرية.
ـ عملت في مجال التصميم./  عضو الربطة العراقية للفنون التشكيلية وشاركت في المعرض التأسيسي على قاعة فائزة الحيدري 2004.


كوميديا اجتماعية ساخرة-كريستيانه شلوتسر ترجمة: رائد الباش






الفيلم التركي "رجب إيفيديك 2":
كوميديا اجتماعية ساخرة


كريستيانه شلوتسر
ترجمة: رائد الباش


نجح فيلم "رجب إيفيديك 2" في اجتذاب الآلاف من المشاهدين لدور السينما محققا إيرادات عالية، حيث يصور هذا الفيلم الكوميدي التهريجي الفوارق الاجتماعية في تركيا والتناقضات في طبيعة هذا المجتمع بشكل دقيق وساخر. كريستيانه شلوتسر تعرفنا بالفيلم.


يعالج هذا الفيلم بطريقة ساخرة الفوارق الطبقية في المجتمع التركي هكذا يبدو شكل كابوس البشرية المتحضِّرة - مثل شكل رجب إيفيديك Recep Ivedik الذي يتصرَّف بعفوية وبهمجية ومن دون أدب، ويلجأ لاستخدام يديه في كلِّ شيء ويحمل كرشه مثل نيشان النصر ويرتدي تقريبًا في كلِّ مناسبة قميصه البرتقالي الخالي من الذوق. ورجب إيفيديك يتكلَّم دائمًا في البداية بملء فمه ثم يسرع إلى الفرار. كما أنَّ طبيعته الوراثية التي تعجّ وتدوي في ضخامة جسمه لا تسمح له بالعمل. وبالإضافة إلى ذلك من السهل جدًا إثارة غضب هذا الشاب المترهِّل الذي لا يعرف أين يذهب بقوّته.

غير أنَّ الجمهور التركي يريد مشاهدة رجب إيفيديك واقتحام دور السينما، ولكن ليس جميع أبناء بلده يرغبون في ذلك؛ فهناك أيضًا أتراك يقولون إذا أردنا سماع نصيحة بوَّاب عمارتنا فيجب علينا الاّ نشتري تذاكر سينما. وهذا يشكِّل من ناحية أخرى إهانة بحقِّ البوابين الأتراك أو يشكِّل مثلما يرى الأتراك تبجيلاً لهم.

فكاهة التناقضات الاجتماعية

وذلك لأنَّ هذا الشاب المستحيل يحظى بقدسية. فرجب إيفيديك كان عام 2008 بطل الفيلم الأكثر نجاحًا في تركيا والآن وبعد ذلك بأقل من عام واحد يتم عرض فيلم "رجب إيفيديك 2" الذي يحطِّم من جديد في بلده جميع الأرقام القياسية. وفيلم رجب إيفيديك متعة للأسرة مع العلم أنَّ تحديد أعمار الأطفال الذين تسمح لهم مشاهدته باثني عشر عامًا لا يعتبر في الحقيقة أمرًا مزعجًا، فمن الواضح أنَّه تم تحديد هذا العمر بسخاء. ومنع الصغار من مشاهدة فيلم رجب إيفيديك يفترض أن يحميهم من الألفاظ العامية المبتذلة التي يستخدمها هذا الشخص الغليظ والتي يعتبر نجاحها لدى الجمهور بالنسبة لنقَّاد السينما الأتراك محرجًا للغاية.

حطم فيلم "رجب إيفيديك 2" أرقاما قياسية في حجم الإيرادات المالية ولكن يعدّ هذا أيضًا من ضمن فكرة فيلم رجب إيفيديك. فهذا المهرِّج العفريت يعيش على كونه الشخص الوحيد الذي يفعل ما يثير استنكار الآخرين، ولا شكّ في أنَّ نكته المضحكة تستمد وجودها من التناقضات الاجتماعية - مثلما هي الحال لدى شخصية مسرح خيال الظل التركي التقليدي، قراقوز أو في مسرح الدمى. وفي هذا الفيلم يتم تسليط الضوء على الاختلافات الطبقية الواضحة في تركيا المعاصرة. وهذا الجمل التركي رجب إيفيديك يصطدم بعالم لا يستطيع أمثاله فيه سوى الفشل.

وهذا الدبّ الملتحي بلحية تذكِّر بسوالف كبيرة لا يعرف أنَّ المرء لا يمكن أن يطلب كأس شاي في مقهى ستاربكس الخاص بالقهوة بالحليب؛ كما أنَّه يدهن الخبز في مطعم لوجبات أسماك السوشي بطبقة سميكة جدًا من معجون الوسبي الحاد، وفي أحد نوادي اليوغا في اسطنبول، حيث تتدرَّب نساء نحيلات كأقلام الرصاص لا يجد أي حصيرة بلاستيكية تناسبه، وكذلك في الحفلات التي يرتدي روادها ملابس رسمية سوداء اللون وغربية للغاية يظهر هذا القروي الأناضولي مرتديًا بدلة رياضة.

في عالم الأتراك البيض

شاب لا يستطيع التعامل مع الطبقة العليا المترفة التي تعيش في عالم خاص فيها...مشاهد تذكر بفيلم "صعيدي في الجامعة الأمريكية" وهناك مبالغة في وصف شخصية هذا المغفَّل التركي من جميع النواحي، بحيث أنَّها لا تصلح في الحقيقة من أجل تحديد هوية الفرد التركي. وإذا كان هناك مجال لتحديد الهوية من خلال رجب إيفيديك، فإنَّ هذا لن يكون ممكنًا من خلال شخصية إيفيديك بقدر ما سيكون ممكنًا من خلال كلِّ وضع محرج جديد يقع فيه هذا المستضعف. وهناك شعور بالميل نحو عالم "الأتراك البيض" الجميل الجديد، عالم النخبة المتمدِّنة؛ شعور مألوف لدى الملايين ممن هاجروا في العقود الأخيرة من المناطق الريفية البعيدة إلى المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير. وكذلك تتضح الغرابة بين الشريحة العليا من أبناء الطبقة المتوسطة وجيش اليد العاملة الرخيصة التي تسهِّل حياة الأغنياء.

وسيكون بالتأكيد جيدًا جدًا لو تمت ترقية رجب إيفيديك وتحويله إلى مناضل اجتماعي رومانسي يقاوم المجتمع الاستهلاكي التركي الجديد، ففي آخر المطاف لقد حسب مبتكر شخصيته بالذات حساب نجاح فيلمه الجماهيري. وهذا الرجل كذلك ليس شخصًا ساذجًا. والممثِّل ساهان غوكباكار
Sahan Gökbakar المولود في عام 1980 في أزمير درس الموسيقى والفن في انقرة في جامعة بلكينت المرموقة وتبيِّن إحصاءات التعليم العالي لعام 2002 أنَّه كان واحدًا من أفضل الخرِّجين الجامعيين. ثم بدأ التمثيل في أعمال كوميدية تلفزيونية.

وكذلك كان رجب إيفيديك أحد الشخصيات التي ابتكرها، شخصية رجل لا يعرف قواعد المجتمع، ولذلك كان يخالفها باستمرار ويحاول إنقاذ نفسه بالتصرّفات الغليظة والفظة من كلِّ الحالات التي كان يقع فيها. وهو في ذلك أقرب إلى البطل الحزين والمتسلّط الذي يعتبر في الواقع حبيب جدَّته.

زميل عمل متنكِّر في زي عروس


Bild vergrössernالجدة الكنز...الجدة المفاجأة الكبرى لبطل الفيلم وهذه هي الجدة التي تخلق كلَّ القصة البسيطة وتطلب من حفيدها أن يجد عملاً ويحصل على تقدير الناس المحيطين به، وبالإضافة إلى ذلك تطلب منه أن يتزوَّج. وينجح في العمل والزواج بعد الكثير من المحاولات الفاشلة (حيث يعمل في توصيل طلبات البيتزا وبائعًا في صيدلة ومضيف طيران ومحاسبًا في سوبرماركت، ومع ذلك يزعج رجب إيفيديك الزبون بتعليقاته على الواقيات الجنسية حتى يخرج من المحل، ولكنه لا يتظاهر بالحشمة والحياء).

ورجب إيفيديك ليس محظوظًا أيضًا في ملاطفة النساء، ولهذا السبب يقدِّم لجدَّته المحتضرة زميل عمل متنكِّر في زي عروس. وتغلق الجدة عينيها ويفرح الحفيد بفتح صندوق كنزها الذي وعدته به في حال تنفيذ المهام الثلاثة. ولكنه يجد الصندوق فارغًا إلاَّ من صورة الجدة المبتسمة. وهذا هو أجمل مشهد، لأنَّه يضع الإعلان عن الحب محل وعد الاستهلاك.

نجاح السينما التركية

"أنا أحصل على جائزتي من المشاهدين، ولا أحتاج أي جوائز أخرى من أي أحد"، مثلما نقلت صحيفة زمان التركية كلام مبتكر شخصية "رجب إيفيديك"، المخرج ساهان غوكباكار الذي وكل إخراج أفلامه إلى شقيقه توغان البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا. ويتم تخصيص ما يقارب الأربعين في المائة من تذاكر السينما في تركيا لمنتجيها، الأمر الذي يعتبر حلمًا بالمقارنة مع الوضع في أوروبا.

وبالإضافة إلى السينما التركية المضحكة والبسيطة والتي تحظى باعتراف عالمي نشأ في تركيا أيضًا نوع آخر من الأفلام التي تحقِّق أرباحًا من خلال عرضها المواد التاريخية وتكسر من خلال ذلك المزيد من المحرَّمات؛ مثل فيلم "ألم الخريف"
Güz Sancisi الذي أخرجته مؤخرًا المخرجة تومريس غيريتلي أوغلو Tomris Giritlioglu. وهذا الفيلم يحكي عن غضب شخص غوغائي تركي على اليونانيين في إسطنبول عام 1955. لقد شاهد هذا الفيلم منذ بدء عرضه في الثالث والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير في تركيا نحو نصف مليون شخص وهو أمر رائع في حد ذاته.




التطورات في الرواية الحديثة: التناص وتجديد الشكل-طراد الكبيسي

التطورات في الرواية الحديثة: التناص وتجديد الشكل

طراد الكبيسي –



جرت مراجعة للرواية بعد رحيل نجيب محفوظ، من قِبل جيل الستينات من الروائيين في مصر تحديداً، ومن أبرزهم: إدوار الخراط، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، خيري شلبي، عبد الحكيم قاسم، محمد جبريل، فؤاد قنديل وإبراهيم أصلان.. وكانت مراجعة على مستوى البنية والخطاب والشكل والرؤية (1) لتحديد التطورات الحداثية في الرواية العربية عموماً، وفي مصر خصوصاً.
وكان من أبرز هذه التطورات: تجديد الشكل الروائي عن طريق كسر خطية السرد والتتابع الزمني الطبيعي. فنجد مثلاً بعض أعمال يوسف القعيد، تقوم على مقاطع سردية تعتمد التسجيلات والشهادات المباشرة وغير المباشرة والوثائق والتقارير التي تتكامل لتجسيد الحدث في مستواه الأول (2).
هذا ما دعاه إدوار الخراط: الكتابة غير النوعية ، يقول: قمت منذ سنوات، بتجربة جديدة تنتمي إلى ما يسمى: الكتابة غير النوعية، ومن خلالها يتوحّد الشعر والسرد والقصُّ والتصوّف وينصهر في مقاطع قصيرة نسبياً، يمكن قراءة المقاطع مستقلة، لكنها بالضرورة تُثري بعضها بعضاً، وتُشكِّلُ في النهاية نصاً واحداً أطلقت عليه: رواية (3).
أما ميلان كونديرا، فيطلق على هذا النوع من الرواية: الرواية البوليفونية ، حيث تترابط خطوط عدة ضمن مجموع واحد، ويضيف أن أنواع الخطوط الخمسة موجودة لدى بروخ في روايته السائرون نياماً : رواية، قصة، تحقيق صحفي، قصيدة، مقالة . يقول كونديرا: هذا الاستيعاب لأنواع غير روائية في بوليفونية الرواية، يُؤلِّفُ الابتكار الثوري لبروخ . ويتابع: الواقع أن واحداً من المبادئ الأساسية لكبار البوليفونيين يقوم على تساوي الأصوات. يجب ألاّ تكون ثمَّة سيادة لأيّ صوت . وعن تجربته في الجزء الثالث من كتاب الضحك والنسيان ، الذي يحمل عنوان الملائكة يقول: اكتشفت طريقة جديدة في بناء القصة، يتألف هذا النص من العناصر التالية: (1) الحدُّوتة عن الطالبين. (2) السيرة الذاتية. (3) المقالة النقدية. (4) حكاية الملاك والشيطان. (5) حكاية إدوار الذي يطيرُ فوق براغ (4).
أما الناقد الفرنسي إيف روتير ، فيقول في كتابه: مدخل إلى تحليل الرواية : في الجزء الأكبر من الأحوال، تمزج الرواية عدداً من ضروب الخطاب الاجتماعية والأدبية، المتناقضة وغير المتجانسة. وهذا واحد من المعايير التي يحتفظ بها ميخائيل باختين انطلاقاً من دراسة (رابيلة) أو (دوستيوفسكي) بغية تعريف الرواية بأنها حواريّة، بمعارضتها الملحمة القائمة على المناجاة. فالرواية تُقابل القانونَ الأحادي بتعددية أصواتها، وبالحوار الدائم بين ضروب الخطاب والنصوص (5).
هذا يعني، في إطار تعريف الرواية، أو في بعض تعريفاتها الحديثة، في الأقل: أنها خطاب المتناقضات الذي يصطرع في ساحته، ليس فقط مجموعة من اللغات المُتصارعة، وإنما مجموعةُ الخصائص الكيفية المتناقضة. والواقع أن السيولة التي تتسم بها البنية الروائية هي التي تجعل احتمالات النص السردي التشكيلية لانهائية في عددها أو صيغها .
هذا، إذا أخذنا أيضاً في الحسبان، الخصائص الثلاث الأساسية التي تميّز الرواية من حيث المبدأ عن غيرها من الأجناس الأدبية -حسب باختين- وهي:
- اتسامُها بالتجسيد الأسلوبي أو الأسلوب ذي الأبعاد الثلاثة. وهو أمر وثيق الصلة بالوعي متعدد اللغات الذي تحقَّق في الرواية.
- التغيّر الجذري الذي تُحدثُه في التناسق الزمني للصورة الأدبية وتكامل بنائها.
- فتح منطقة جديدة لبناء الصور الأدبية بناء متكاملاً ومتساوقاً، هي منطقة الارتباط الوثيق مع الحاضر في كل تجلياته المتعددة والمفتوحة.
تتفاعل هذه الخصائص عضوياً في ما بينها من جهة. وفي إطار تفاعلها مع اللغات واللهجات المتعددة الأخرى، تُجذِّرُ علاقةَ النص الروائي بالواقع الاجتماعي الذي هو في تحوّلٍ دائم من جهة أُخرى (6).
بتعبير آخر، فإن دراسة الأشكال المختلفة للرواية، تساعد على اكتشاف ما هو عارض أو طارئ، وبالتالي تحرير الشكل الحقيقي لما يجب أن يكون عليه النص السردي. ذاك أن كل تغيّر حقيقي في الشكل الروائي، وأيَّ بحثٍ مثمر في هذا الموضوع، لا يمكن أن يقوم إلا من خلال تغير مفهوم الرواية نفسها الذي يتطور نحو نوع جديد - أيّاً كانت تسميته. وربما على نحو ما قال صموئيل بيكيت: ما أقوله لا يعني أنه لن يكون هناك شكل للفن. إنه يعني فقط أن شكلا جديدا سيكون هناك. وهذا الشكل من نمط يسمح بالفوضى، ولا يحاول القول إن الفوضى شيء آخر. وتظل الأشكال منفصلة عن الفوضى، وعمل الفنان الآن هو إيجاد شكل يحتوي الفوضى .
لعل هذا - أو بعضاً منه - ما ذهب إليه بعضهم من أن النص الحكائي بأساليبه المتعددة والمتنوعة، نص متموج لا حدود نهائية له قابلة للتصنيف. ويستمد قواه من طبيعة مكوناته والمصادر التي تغذيه وتثري استراتيجيته النصية وتضاعف طاقاته الدلالية، بحيث أن الحكاية فيه تتمظهر تمظهرا جديدا تعلن فيه عن استنطاقٍ لمخبوء الماضي، واستبصار بالآتي، وعن استدعاء لما يعجز الإنسان عنه، وتفجير لطاقاته بما ينظم سردها من ترابط، وبما تقيمه لغتها من حوار، وصهر للعلاقات بين الأشياء.
أما التناص، فقد بات استراتيجية العديد من الروائيين، على حد تعبير الروائي نبيل سليمان، حيث قال: إذا كنت قد وضعت استراتيجية التناص نصب عيني منذ رواية (المسلَّة)، فقد توجهتْ استراتيجية العجيب منذ (مدار الشرق) إلى كنوز الأدب الشفاهي . وأضاف أنّ المسلَّة تعبير يعيد إلى الذهن مباشرة المسلات التاريخية المشهورة، مثل مسلَّة حمورابي، والمسلَّة المصرية.
أما مسلة نبيل سليمان، فهي على غرار المسلات القديمة. أما دور الراوي في الرواية فهو نقشها. قال: جلست أروى -ابنته- قُربي، وشرعت أنقش فوق المسلَّة، ثُمّ عُدْتُ فدثرتها بقلبي، وتابعت النقش فوقه .
يقول نبيل سليمان عن رواية امرأة القارورة لسليم مطر: تستثمر إلى أقصى مدى خصائص العجائبي والغرائبي أو الفانتاستيك، كي تكتب راهن الحرب العراقية - الإيرانية، وكي تصوغ للبشرية تاريخها الخاص، فتتوالى وتتداخل أسئلة الرواية والملاحم والأساطير الطريفة التليدة وأسئلة وعي الذات، ووعي العالم الآخر الأوروبي (7).

والتناص هو أن يحيل النصُّ إلى نصوص أخرى سابقة. أي: في كل نص، يتموضع في ملتقى نصوص كثيرة، بحيث يعدّ قراءة جديدة لها - بحسب سولير. أما فوكو فيرى أنه لا وجود لتعبير لا يفترض تعبيرا آخر، ولا وجود لما يتولد من ذاته، بل من تواجد أصوات متسلسلة ومتتابعة، ومن توزيع الوظائف والأدوار (8). وهذا ما يدعى ب إعادة الكتابة ، وبالتعالي والتداخل النصي. أي ما يجعل النص في علاقة خفية أو جلية مع غيره من النصوص، بحسب جيرار جينيت. وبتعبير آخر: المكان المشترك، حيث أن كل نص يحيل ضمنيا أو صراحة إلى نصوص أخرى. وهذا ما دعاه جينيت ب تفاعل النصوص . أما جوليا كريستتفا، فتنظر إلى التناص بوصفه ممكن التطبيق على الشعر الحديث والكتابة الروائية المعاصرة على السواء، ولكن في نطاق ذلك المفهوم التوسعي للتناص، الذي يشمل مجمل الكتابة المعاصرة.. وتعليقا على دراسات باختين عن رابليز ، و دوستويفسكي ، قالت: لقد كان يتحرك باتجاه فهم ديناميكي للنص الأدبي. يرى إلى كل لفظة داخلة بوصفها ناتجا لتقاطع عدد من الأصوات.. أو هي ناتج التداخل بين عدد من الوساطات النصية المتوحدة في حقل دلالي، بل أيضا في مجالات صوتية، وتركيبية لغوية، وأظن أن الجديد عند باختين هو رؤية هذا التداخل للتعددية الظاهرة من خلال مستويات مختلفة، وليس فقط على مستوى المعنى، بل على مستوى التركيب اللغوي، والصوتيات كذلك (9) .
وعن التناص في رواية لا أحد ينام في الإسكندرية لإبراهيم عبد المجيد، تكتب الناقدة اعتدال عثمان: يقوم السرد في الرواية على سلسلة من المعارضات، فكل حكاية تروى تعارض سابقتها، بل إن استهلال فصول الرواية كلها يقوم أيضاً على المنحى نفسه. إذ نجد في مستهل كل فصل شذرة من كتابات فرعونية أو قبطية أو إسلامية، إضافة إلى مقتبسات من التراث الهندي والبابلي. وقد أُدرجت هذه الشذرات والمقتبسات على سبيل معارضة للأحداث المروية. إن التناص بين الجانبين التخييلي والتاريخي في إطار المعارضة النصية يولّد تعدداً من شأنه إعادة تكوين صورة الإسكندرية عبر استعادة المحيط الثقافي والبيئي وأثرهما في طبعها بطابع خاص. فغدت المكان الذي يجمع المكونات والأصوات المتعارضة المتنافرة، حيث يلتقي هؤلاء الذين لا مرفأ لهم، وحيث يشكل هذا اللقاء معارضة أخرى لدلالة عنوان الرواية (10).
  المصادر والإشارات

1- نقصد الملف الذي نشرته مجلة الرافد ع 114، 2007، ص 34 - 87.
2-المصدر نفسه: ص 52، اعتدال عثمان.

3-مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة: ص 172.
4- فن الرواية، ت: بدر الدين عرودكي، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2001، ص 55 - 56.
5- عن مقالة: انفتاح النص: الواقعية وتفاعل النصوص ، ت: علي نجيب إبراهيم، مجلة البحرين الثقافية ، ع 24، 2000، ص 129.
6- صبري حافظ: الإبداع والتأويل: عن تغير الحساسية الأدبية وتحولات الخطاب الروائي العربي ، مجلة: كلمات البحرينية، ع 18-19، 1994، ص 143 - 146.
7- ينظر كتاب: أفق التحولات في الرواية العربية : دراسات وشهادات لمؤلفين عدة، دار الفنون، مؤسسة شومان، عمان، والمؤسسة العربية، بيروت، 1999، ص 198 و92. ورواية المسك ، دار الحوار، سوريا، اللاذقية، 2004.
8- سعيد علوش: المصطلحات الأدبية المعاصرة، منشورات المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، 1984، ص 123 - 124.

9- عن حوار معها. ت: سيد عبد الخالق، مجلة البحرين الثقافية ، ع 26، 2000، ص 80 - 87.

10- مجلة الرافد ، ع 114، 2007. مصدر سابق، ص 53.


قراءة في الخطاب الإبداعي للفنان غالب المنصوري في معرضه (طلاسم )-د.عبد الرضا جبارة





قراءة في الخطاب الإبداعي
 للفنان غالب المنصوري في معرضه
  (طلاسم )
د.عبد الرضا جبارة






      يقودنا . . الفنان غالب المنصوري الى استبيان تناصه السردي عبر مفردته التشكيلية في لوحات ( طلاسم ) وهي امتياز بصري وسلوك احترافي في التعاطي والاقتراب من روح اللون . ذات المحتوى البصري المشفف الذي يميل باتجاه بنائي دون الارتهان لسطوة اللون التعبيرية ، حيث يحقق المنصوري إعادة ترتيب الغياب والاغتراب وفق آليات اللون المتسارعة . . واذا كان المنصوري قد توصل الى تأسيس قيم جمالية في معرضه ( العالم فراغ كبير فيه نقطة )  فأنه في هذا المعرض قد استبطن اسرار تلك القيم ومنحها اقتداراً واستغواراً بكسر مألوفية السرد البصري ، فلقد وجد أن تغيير الدلالات في الزمن اضحا يتسارع مع اللون ومكونات اللوحة الاخرى ، ولم يسمح لغير الاتزان ان يكون مقياسا ، لذلك تبدوا هذه القيم التي سعى اليها المنصوري ( في طلاسمه ) مدهشة وتضعنا امام مسألتين هامتين ما أن يقتفى اثرهما حتى يتبين اهمية اختراق مألوف السرد في نص اللوحة وأولى هاتين المسألتين هي كسر حدة السرد . . اذ كانت البقع اللونية تتعاور مهمة السرد حيث تفوقت بشكل لافت ، فأنت ترى ( كمتلق ) السرد ينتقل بك من بقعة الى اخرى في لعبة فنية تصل احياناً حد الادهاش مع طرائق في نسج فضاء اللوحة وضمن مفردات انسانية ميلودية تراوحت بين مزاولات كثيرة للعبة التقنيات في التضمين والمجاز والرمز والتي تعلن عن كينونة ساكنة ومتفجرة في ان واحد . . اما المسألة الثانية ، فهي كسر زمن السرد البصري او كسر حاضر نص اللوحة ليفتح على زمن ماضن له ، والمعروف ان كسر زمن النص السردي البصري وقد مارسه المنصوري بكثافة واقتدار كبيرين يحيلنا الى حركة اللوحة ، واذا علمنا ان زمن النص في لوحات المنصوري اطول بكثير من الزمن على مستوى الوقائع ادركنا حجم مسؤلية السرد البصري عنده في تغطية قليل من الزمن بكثير من السرد بعيدا عن الزوائد والافراط في اللون ، وهو في كل هذا الارتقاء يفسح المجال لذائقة المتلقي بأستكمال دائرة الاحساس الذي يغلف تأثيرية اللوحة . . لانه عرف كيف يرتب بياناته اللونية المحررة وبذات الدرجة من المعتم المتأتية من قيم البنى الداكنة وتدرجاته التي تعلن عن روح صناعة عالية وتشي بعلو ريشته وسط هذا الركام الهائل من التجارب التشكيلية وهو بذالك يقف في موقع متقدم من اللغة اللونية المحكمة المضافة الى تجاربه السابقة ولا سيما في معرضيه ( العالم فراغ كبير فيه نقطة ) و ( مقاليد وجودية ) . . وبهذا المعنى فقد شكلت لوحاته مناسبة لاطلاق مفاهيم جديدة حول ضرورة الفن من خلال الاستنارة بخلاصة الثقافات العالمية الاخرى دون الارتماء في حدود الجغرافية التي قد تضاف الى خرائطنا الذاتية ، وان الامر غير متعلق بنسخ الاساليب القادمة الينا من الغرب ، وانما في ايجاد المعادلة الذهبية التي تساعد على صهر كل تلك الاشياء والتنوعات وصولا الى صناعة الهيكل الحقيقي للتجربة الذاتية عند الفنان(غالب المنصوري ) التي يتضح انها تتسم بروح متجددة في اتخاذ موقف سريع ازاء التعديلات التي تطرء على الوجدان الثقافي العراقي ، ولعل مثل هذا الهامش لم يعد يتسع لكل تلك التراكمات الكمية من الاساليب والتجارب والخبرات التي حملت بعض الفنانين على القفز من فوقها ، وليس البناء عليها وهذا ماجعل المنصوري رغم كل الضروف التي مارستها عليه ثقافة العصر متماسكاً واعياً لذاته عارفاً بها . . ومن هنا بدأت سلسلة تفاعلاته في بيئته الحضارية على الرغم من بلوغة تخوما تجريدية عالية مع المنظور الصوفي وظل دائم القلق ازاء هواجسه المرتبطة بالزمان والمكان وكأنها تحمل في مضامينها تقييمات نوعية تؤشر تلك الحالات المفعمة بالحركة والتجاورات وهو دور يحترفه بأتقان مع لفت الانتباه الى أن المنصوري قد شكل برأي الكثيرين في كل معارضه تعزيزا للحضورالتشكيلي وحسماً مطلقاً لصالح فن يتجه بكليته الى محيط الحداثة ومنجزها البصري فيما يغير الزمن ايقاعه وتستحيل ( اللوحات ) شيئا فشيئا  ضمن هذا الموكب الاستعراضي من تقنيات بصرية متكاثرة بشكل متسارع الى ممارسة خارقة في النقض والاختلاف حيث تعلن اللوحة في اكثر من ميدان سيادتها الروحية لصالح المنجز المتصل بحدس اللحظة واستثمارها بشل جلي ، ولا غرابه في هذا الأمر ، فالقيم الجمالية والفراغية تتفجر بالشكل الواضح في الرؤية ، فكلاهما يعبر لنا عن الصراع الابدي بكل وضوح فكأنك تعيش في اللوحة . . فالمنصوري اعتمد المزاوجه بين البقع اللونية التي اخذت شكلا هندسيا او زخرفيا بل تموجا وكأنها غيوم متداخلة ، اذ زاوج بين هذه الأرضية  اللونية والخط الذي يوحي وكأنه خط من الضوء . يرسم اشكالا إنسانية دون ان يتوقف عند نقطة معينة  من هذا الشكل . . كما اننا نلاحظ بأن الفورم عند المنصوري بعيداً عن تاريخية الوجود الجدلي لماهية الفكر بوصف اللوحة استنطاقاً مضاعفاً لمكنونات الواقعة الذي يحاول المنصوري الاقتراب منه بمهارة حاذقة وبراعة في تثوير كوامنه ، فتساوقت في سردياته اكثر من وشيجة فنية . . ولم يكتف بهذه المتقابلات الشيئية بل حشد في فراغاته وخطوطه مهيمنات هي خلاصة القم التي واكبها في رؤاه . . وأمتدت في بناء



 






. وأمتدت في بناء تعبيري ينم عن اقتدار واضح في بنائه الاستعاري الذي وصل بالعناصر الواقعية والتعبيرية الى حدود الرمز . . وهكذا يخرج العمل الفني في
 ( طلاسم ) المنصوري من البصمة الشخصية إلى الطابع الجمعي فيسقط من خصائص الطراز والقاعدة والأبعاد ويؤخذ منحا أشكالي وفلسفي ليتمنطق داخل موقف الفنان الذي تجلى وكأنه تعبير عن انصهار مع مادة الروح في عملية ( سيميائية ) مركبة ومقصودة في ان واحد حيث يقودنا . . وبفعل قراءاته المسننة و   ( المشفرة ) الى طرائق عمله التي يتماهى معها حتى النخاع ، وضمن مفردات ميلودية تشكيلية تراوحت بين مزولات كثيرة للعبة التقنيات في التضمين والرمز . وقد نجح المنصوري في ان يوظف منطقة واسعة من الرؤية لتكون مساحة واسعة لحركته بكائناته الملونة الأمر الذي يعني انه استطاع ان يوسع مجالات استلهام الرؤية تشكيلياً ، فهو لايخفي منهجه الانتقائي الذي هو سمه أساسية من سماته منذ السبعينات ، حيث نرى مزيجا عضويا مع تجاربه التي خاضها في مواجهة ( النظام السياسي ) . ولم يكتف بهذا بل انه شكل من خلال هذا المزيج عملا فنيا يقودنا الى مجهول خفي اخر اهتدى اليه بموهبته الساحرة . لقد استجاب المنصوري بكل مالديه من قلق ورؤية الى متحفه الخيالي ، فرسم عافية كل الاسئلة التي تقافزت فوق شفاهنا بما يراه مناسباً من اجابات ، وهو برئيي انما يسلك الطرق الصحيحة التي يجب ان يسلكها أي رسام حقيقي . لذلك فأن ( فرادته ) تكمن في انتقائيته . . وفي منهجيته ذلك لأنه استجاب للواقع ولكل قوانين التاريخ . . بكل تحولاته ، كما تمثل خط الهدنه الذي يفصل تلك التواريخ ، ومن هذا المنطلق فأن معظم لوحات ( طلاسم ) لم تستند الى ثوابت شكلية محددة ، بل كانت تمثل المشهد الثقافي الانساني العام بكل تناقضاته بأتجاه الرغبة في احداث المزيد من التحول . . ان اعمال الفنان غالب المنصوري تمثل بتجلياتها مستويات البحث الجمالي هذا البحث القلق المغامر والمتجدد والعاصف الذي يؤكد ماذهبت اليه بصدد مقاومة الذات ، فهي تحفل بالمعنى وتسعى الى تأكيد انتمائها الى مايمكن ان يثري التجربة الفنية وبالاخص بما يتعلق بكيفيات التلقي ، فتؤكد عيانيا ان ما يترشح منها له صلة وثيقة بالمعايشة البصرية تلك ، لانها تستمد انبثاقاتها مما تخلفه من اشكال . . . هذه المعايشة الكامنة والتي هي جزء جوهري من كيان اللوحة ومن رؤية المنصوري . . . لم تشكل المقياس لنمو التحول الفني حسب . بل وشكلت عامل تحريض مضاف للأسراع في اكتشاف مايمكن ان تؤدي اليه هذه التحولات من تشاكلات . فهي تضعنا في صلب المقاومة بكل انواعها . . . مقاومة التاريخ بأعتباره عنصر تصنيف . . ومقاومة الحياة بأعتبارها منطقة تكريس معاش . فاللوحة عنده تسعى الى تأسيس كيان تأريخي خاص بها . وفي نفس الوقت تسعى الى تأكيد نفورها من امكانية وقوعها في مصيدة القدر التأريخي . . من هنا يمكن القول ان ثمة نقاط رئيسية مفصلية تساهم في ديمومة اشاكلية التواصل . وهي بمثابة مقدمات اشكالية واقعة . . ومشهودة في كافة معابر المجتمع . . ان هذا الوعي هو المجال الوحيد الموازي للتطور في الحياة في زمن غدا فيه التمسك بالمسؤولية ازاء الذات هو الجدار الذي يمكنه من التصدي للعالم المادي ، ولأنه المخزون البصري الهائل الذي يحمل في ذاته امكانية تطوره بما فيه من بعد انساني اثر في يوم ما من الايام على ثقافات العالم . واللوحة لدى المنصوري بنائاً على ذلك تبدوا مناسبة لأطلاق مفاهيم جديدة حول ضرورة تشكيل ( وعي جديد ) من خلال اللوحة والمفردة التشكيلية . ومن خلال الأستنارة بخلاصة التجارب والثقافات دون الارتماء في حدود الجغرافية التي قد تضاف الى خرائطنا الذاتية . . وان الامر غير متعلق بنسخ الاساليب القادمة الينا من هذا الاتجاه او ذاك ، او اعادة ترجمة القيم التي وفدت الينا مع المد الثقافي العام . . وانما هي ايجاد المعادلة الذهبية التي تساعد على صهر كل تلك الاشياء والتنوعات وصولا الى صناعة الهيكل الحقيقي للتجربة الذاتية . . في تجربة الفنان المنصوري التي يتضح انها تتسم بروح متجددة في اتخاذ موقف سريع ازاء التعديلات التي تطرأ على الوجدان . . ولعل هذا الهامش لم يعد يتسع لكل تلك التراكمات الكمية من الاساليب والتجارب والخبرات التي حملتها لوحات( طلاسم ) . وهذا مايجعل المنصوري واعياً لذاته وذات العالم وعارفاً بهما . . ومن هنا بدأت سلسة تفاعلاته مع بيئته وركائزها ومع الذات وهواجسها . بهذا المعنى يلامس التشكيلي المبدع غالب المنصوري عالم الفن الادبي ، وهو دور اتقنه ووقف في وسطه بطريقة سحرية ربما ليس اكثر ادهاشا من لوحاته التي تؤدي دورا جماليا ( بأمتياز ) ولكن بذات الدرجة من التماهي بينه وبين تكويناته وامزجته الثرية .