الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

زينب ألركابي صمت الأثر وديناميته-عادل كامل











تشكيل
زينب ألركابي
صمت الأثر وديناميته

  



عادل كامل
     بقصد، ومن غير قصد، تعيد زينب ألركابي صياغة اعقد مسار مكث عابرا ً للزمن، والأزمات، والأعراف، واقصد به: إن الفن جاور الحفر في المناطق النائية، مثلما لم يتخل عن المرئيات: في المخفيات، إن كانت أنطولوجية (وجودية)، أو مألوفة؛ يومية أو أبدية، سريعة الزوال، أو التي أصبحت غير قابلة للغياب. ففي الفن ـ منذ الدمى ذات الرؤوس الضئيلة وصولا ً إلى المجسمات العملاقة ـ ثمة عبور عبر جسور مهمتها الحفاظ على دورها الرمزي. فالأهرامات، أو الزقورات، أو ناطحات السحاب، على سبيل المثال، شبيهة بالأقنعة في أداء مهمة تخفف من الصدمة، بل وهي تتحايل على (الجوهر) أو الحقيقة. فليس الإنسان هو المثال، بل علاماته. ولا علاقة لمفهوم البنية ـ أي استبعاد العاطفة والتعبير ـ بالعمل الفني، لأن عزل الغائب أو الذي توارى غدا مثل الحتمية التي هي ذاتها عمقت القطيعة معه، بجعلها شاخصة. فالرموز المتداولة ـ إن كانت نصبا ً ضخمة أو لقى أو مصغرات ـ تحكي بلغتها المعاني المزدوجة بين الإفصاح، في الإعلان، وبين التستر، لأجل الإعلان ذاته. ولسنا بحاجة إلى براهين وإثباتات تفسر بناء القناع ـ والمخلفات النادرة ومنها الفنون، بعد زوال موضوعاتها، وأشخاصها، ومن نفذها ـ فالمتحف، بمعنى الذاكرة، مثال لا يقبل الدحض. وهنا يصبح المتلقي وحده يتبنى مهمات إعادة البناء كاملة، أي: إنتاج حضوره. زينب ألركابي، بوصفها حاملة لجينات إنسان وادي الرافدين، وجدت سلاسة أو فطرة في اختيار الحطام/ الأثر/ للاستدلال على الغائب. فبدل ان تبني زقورات، أو جنائن معلقة، أو تبني أجنحة للثيران، أو تقيم مجسمات للأسود، وبدل ان تشيد ناطحات سحاب، سمحت لأصابعها النحيلة المرهفة ان تأخذ دور (إنانا) في إكمال الدورة: الدفن ـ البعث.



  





   فالفنانة تلون مجسماتها الخزفية/ النحتية، بأمومة عنيدة، رمزية، كي تعيد شيئا ً من مراثي سومر وأكد، وتضعها في الواجهة. فأعمدتها، ولقاها، وأقنعتها، ومصغراتها غدت الأصل، كأنها أصغت عميقا ً لبودلير، وهو يقلب مفاهيم عصره الجمالي، لكن ليس نحو جماليات باذخة، أو استثنائية، بل الإيغال بالبحث عن المخفيات، وقد تحولت من زمنها إلى زمن الأثر ـ النص الفني. هنا تحديدا ً يأخذ الحطام معناه تعبيرا ً، وبعيدا ً عن العالم الافتراضي، لأن الفن لا يحتفي، كالقلائد للتزيين، بل للنبذ، ولصالح التأمل الوجودي، كأنها مشفرات تم اختيارها بأكثر قيود الحرية تحديا ً: البوح أو الاعتراف.  فالحرية تختفي ـ كقناع أو غواية ـ لتصبح واقع حال: حرية اثر، تحكي الذي كف عن النطق، باختيار البورتريه، الرأس من غير جسد، والسماح للمتلقي بإعادة إنتاجه، وليس بتأويله حسب.




 


    وبلذّة لم يبق منها إلا المرارة ـ المراثي أو صمتها ـ لتعيد التقاط الأجزاء المتناثرة، للمعنى، فتستبدل المخفي، بالحطام، والماضي بالحاضر: رأس كف عن عمله، بل حتى عن معناه، لكنه سيحافظ على النسق ذاته الذي سمح لاستخراج أندر المعادن من التراب، وهو ذاته، يعيد لمادة (الظلام/ وربما العدم) لغز وجودهما بما يمتلك من طاقات على الإشعاع. فعنوان تجربتها (مرايا النفوس)، ليست ممارسة شبيهة بممارسة لعبة النرد، وترك المصادفات تتجمع، أو تتوافق، بقدر إقامة عزاء، لكن من غير أسف، أو بالأحرى، للتشبث بحضور لا وجود له إلا في حدود الحداد، فالفنانة تستحضر المستقبل، وليس الماضي، لأنها تمارس دينامية الأثر بما يتضمنه القناع ـ الشاخص ـ والعلامات الأخرى، وتسمح للأسف بالتحول إلى صدمة: واجهة، سطوح، أشلاء، أجزاء، شظايا، حتى وإن قامت الفنانة بالتقاطها، كما يلتقط الراصد ومضات نجوم غابت قبل ملايين السنين.
     عمليا ً لا تمثل هذه الكلمات شهادة إعجاز، أو تفوق، ـ وإن كان المناخ الفني في البلاد وفي بغداد تحديدا ً تحت درجة الصفر ـ كإطراء أو مدح لها، بل لأنها تبنت إحياء الدوافع ذاتها لدى صانعي الأختام. أسلافها في سومر، وفي العراق القديم. ففي خامة (الطين) ترقد الصبوات، مثلما الآلهة وهبتها شيئا ً من أنفاسها، لتأخذ الأسطورة مداها الأبعد، وتغادر، كي تتحول الأرض، إلى مرآة، بمعنى إنها ستواصل احتفاءها العنيد بمعنى الغائب، المندثر، وبين تكونه من الرماد ـ الغياب. ليمتلك توقا ً لم يدحض، ولم يدمر، بل ازداد توقا ً للامتداد، والتجدد. فزينب ألركابي لم تغفل إنها تعلمت بداهة منعم فرات، وبعضا ً من رؤى أستاذها مؤيد نعمة، وقد انشغلا بالإصغاء إلى لغز الصمت. فالفنانة تعيد سردها لطقوس شبعاد ـ وأوجه الشبه بينها تسترعي الانتباه ـ وهي تذهب إلى العالم النائي، لكن ليبقى نظرها مصوبا ً نحو الرأس، خارج هيمنة الانجذاب إلى الظلمات، بل نحو اللغز الكامن في الديمومة، حتى وهي لا تمتلك إلا زمن انتقالها من المجهول، إلى المجهول الأبعد! فهنا تكمن غواية أخرى متأصلة ما ان تتحرر، حتى تكون أقدم أنظمة المشفرات، قد مارست قدرتها على العمل، وقدرتها على الخلق، ليس من العدم ـ كما تفعل الآلهة ـ بل من العناصر، وتحديدا ً، من الإرادة، وهي تقهر عوامل القهر.
ـ معرض (مرايا النفوس) زينب ألركابي ـ صالات وزارة الثقافة ـ بغداد 2014
ـ درست فن الخزف في محترف مديرية التراث الشعبي.. وأكملت دراستها في كلية الفنون الجميلة ـ فرع الرسم 2014.  عضو في نقابة وجمعية التشكيليين العراقيين./  شاركت في العديد من المعارض المشتركة وحصلت على كتب شكر وشهادات تقديرية.
ـ عملت في مجال التصميم./  عضو الربطة العراقية للفنون التشكيلية وشاركت في المعرض التأسيسي على قاعة فائزة الحيدري 2004.


كوميديا اجتماعية ساخرة-كريستيانه شلوتسر ترجمة: رائد الباش






الفيلم التركي "رجب إيفيديك 2":
كوميديا اجتماعية ساخرة


كريستيانه شلوتسر
ترجمة: رائد الباش


نجح فيلم "رجب إيفيديك 2" في اجتذاب الآلاف من المشاهدين لدور السينما محققا إيرادات عالية، حيث يصور هذا الفيلم الكوميدي التهريجي الفوارق الاجتماعية في تركيا والتناقضات في طبيعة هذا المجتمع بشكل دقيق وساخر. كريستيانه شلوتسر تعرفنا بالفيلم.


يعالج هذا الفيلم بطريقة ساخرة الفوارق الطبقية في المجتمع التركي هكذا يبدو شكل كابوس البشرية المتحضِّرة - مثل شكل رجب إيفيديك Recep Ivedik الذي يتصرَّف بعفوية وبهمجية ومن دون أدب، ويلجأ لاستخدام يديه في كلِّ شيء ويحمل كرشه مثل نيشان النصر ويرتدي تقريبًا في كلِّ مناسبة قميصه البرتقالي الخالي من الذوق. ورجب إيفيديك يتكلَّم دائمًا في البداية بملء فمه ثم يسرع إلى الفرار. كما أنَّ طبيعته الوراثية التي تعجّ وتدوي في ضخامة جسمه لا تسمح له بالعمل. وبالإضافة إلى ذلك من السهل جدًا إثارة غضب هذا الشاب المترهِّل الذي لا يعرف أين يذهب بقوّته.

غير أنَّ الجمهور التركي يريد مشاهدة رجب إيفيديك واقتحام دور السينما، ولكن ليس جميع أبناء بلده يرغبون في ذلك؛ فهناك أيضًا أتراك يقولون إذا أردنا سماع نصيحة بوَّاب عمارتنا فيجب علينا الاّ نشتري تذاكر سينما. وهذا يشكِّل من ناحية أخرى إهانة بحقِّ البوابين الأتراك أو يشكِّل مثلما يرى الأتراك تبجيلاً لهم.

فكاهة التناقضات الاجتماعية

وذلك لأنَّ هذا الشاب المستحيل يحظى بقدسية. فرجب إيفيديك كان عام 2008 بطل الفيلم الأكثر نجاحًا في تركيا والآن وبعد ذلك بأقل من عام واحد يتم عرض فيلم "رجب إيفيديك 2" الذي يحطِّم من جديد في بلده جميع الأرقام القياسية. وفيلم رجب إيفيديك متعة للأسرة مع العلم أنَّ تحديد أعمار الأطفال الذين تسمح لهم مشاهدته باثني عشر عامًا لا يعتبر في الحقيقة أمرًا مزعجًا، فمن الواضح أنَّه تم تحديد هذا العمر بسخاء. ومنع الصغار من مشاهدة فيلم رجب إيفيديك يفترض أن يحميهم من الألفاظ العامية المبتذلة التي يستخدمها هذا الشخص الغليظ والتي يعتبر نجاحها لدى الجمهور بالنسبة لنقَّاد السينما الأتراك محرجًا للغاية.

حطم فيلم "رجب إيفيديك 2" أرقاما قياسية في حجم الإيرادات المالية ولكن يعدّ هذا أيضًا من ضمن فكرة فيلم رجب إيفيديك. فهذا المهرِّج العفريت يعيش على كونه الشخص الوحيد الذي يفعل ما يثير استنكار الآخرين، ولا شكّ في أنَّ نكته المضحكة تستمد وجودها من التناقضات الاجتماعية - مثلما هي الحال لدى شخصية مسرح خيال الظل التركي التقليدي، قراقوز أو في مسرح الدمى. وفي هذا الفيلم يتم تسليط الضوء على الاختلافات الطبقية الواضحة في تركيا المعاصرة. وهذا الجمل التركي رجب إيفيديك يصطدم بعالم لا يستطيع أمثاله فيه سوى الفشل.

وهذا الدبّ الملتحي بلحية تذكِّر بسوالف كبيرة لا يعرف أنَّ المرء لا يمكن أن يطلب كأس شاي في مقهى ستاربكس الخاص بالقهوة بالحليب؛ كما أنَّه يدهن الخبز في مطعم لوجبات أسماك السوشي بطبقة سميكة جدًا من معجون الوسبي الحاد، وفي أحد نوادي اليوغا في اسطنبول، حيث تتدرَّب نساء نحيلات كأقلام الرصاص لا يجد أي حصيرة بلاستيكية تناسبه، وكذلك في الحفلات التي يرتدي روادها ملابس رسمية سوداء اللون وغربية للغاية يظهر هذا القروي الأناضولي مرتديًا بدلة رياضة.

في عالم الأتراك البيض

شاب لا يستطيع التعامل مع الطبقة العليا المترفة التي تعيش في عالم خاص فيها...مشاهد تذكر بفيلم "صعيدي في الجامعة الأمريكية" وهناك مبالغة في وصف شخصية هذا المغفَّل التركي من جميع النواحي، بحيث أنَّها لا تصلح في الحقيقة من أجل تحديد هوية الفرد التركي. وإذا كان هناك مجال لتحديد الهوية من خلال رجب إيفيديك، فإنَّ هذا لن يكون ممكنًا من خلال شخصية إيفيديك بقدر ما سيكون ممكنًا من خلال كلِّ وضع محرج جديد يقع فيه هذا المستضعف. وهناك شعور بالميل نحو عالم "الأتراك البيض" الجميل الجديد، عالم النخبة المتمدِّنة؛ شعور مألوف لدى الملايين ممن هاجروا في العقود الأخيرة من المناطق الريفية البعيدة إلى المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير. وكذلك تتضح الغرابة بين الشريحة العليا من أبناء الطبقة المتوسطة وجيش اليد العاملة الرخيصة التي تسهِّل حياة الأغنياء.

وسيكون بالتأكيد جيدًا جدًا لو تمت ترقية رجب إيفيديك وتحويله إلى مناضل اجتماعي رومانسي يقاوم المجتمع الاستهلاكي التركي الجديد، ففي آخر المطاف لقد حسب مبتكر شخصيته بالذات حساب نجاح فيلمه الجماهيري. وهذا الرجل كذلك ليس شخصًا ساذجًا. والممثِّل ساهان غوكباكار
Sahan Gökbakar المولود في عام 1980 في أزمير درس الموسيقى والفن في انقرة في جامعة بلكينت المرموقة وتبيِّن إحصاءات التعليم العالي لعام 2002 أنَّه كان واحدًا من أفضل الخرِّجين الجامعيين. ثم بدأ التمثيل في أعمال كوميدية تلفزيونية.

وكذلك كان رجب إيفيديك أحد الشخصيات التي ابتكرها، شخصية رجل لا يعرف قواعد المجتمع، ولذلك كان يخالفها باستمرار ويحاول إنقاذ نفسه بالتصرّفات الغليظة والفظة من كلِّ الحالات التي كان يقع فيها. وهو في ذلك أقرب إلى البطل الحزين والمتسلّط الذي يعتبر في الواقع حبيب جدَّته.

زميل عمل متنكِّر في زي عروس


Bild vergrössernالجدة الكنز...الجدة المفاجأة الكبرى لبطل الفيلم وهذه هي الجدة التي تخلق كلَّ القصة البسيطة وتطلب من حفيدها أن يجد عملاً ويحصل على تقدير الناس المحيطين به، وبالإضافة إلى ذلك تطلب منه أن يتزوَّج. وينجح في العمل والزواج بعد الكثير من المحاولات الفاشلة (حيث يعمل في توصيل طلبات البيتزا وبائعًا في صيدلة ومضيف طيران ومحاسبًا في سوبرماركت، ومع ذلك يزعج رجب إيفيديك الزبون بتعليقاته على الواقيات الجنسية حتى يخرج من المحل، ولكنه لا يتظاهر بالحشمة والحياء).

ورجب إيفيديك ليس محظوظًا أيضًا في ملاطفة النساء، ولهذا السبب يقدِّم لجدَّته المحتضرة زميل عمل متنكِّر في زي عروس. وتغلق الجدة عينيها ويفرح الحفيد بفتح صندوق كنزها الذي وعدته به في حال تنفيذ المهام الثلاثة. ولكنه يجد الصندوق فارغًا إلاَّ من صورة الجدة المبتسمة. وهذا هو أجمل مشهد، لأنَّه يضع الإعلان عن الحب محل وعد الاستهلاك.

نجاح السينما التركية

"أنا أحصل على جائزتي من المشاهدين، ولا أحتاج أي جوائز أخرى من أي أحد"، مثلما نقلت صحيفة زمان التركية كلام مبتكر شخصية "رجب إيفيديك"، المخرج ساهان غوكباكار الذي وكل إخراج أفلامه إلى شقيقه توغان البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا. ويتم تخصيص ما يقارب الأربعين في المائة من تذاكر السينما في تركيا لمنتجيها، الأمر الذي يعتبر حلمًا بالمقارنة مع الوضع في أوروبا.

وبالإضافة إلى السينما التركية المضحكة والبسيطة والتي تحظى باعتراف عالمي نشأ في تركيا أيضًا نوع آخر من الأفلام التي تحقِّق أرباحًا من خلال عرضها المواد التاريخية وتكسر من خلال ذلك المزيد من المحرَّمات؛ مثل فيلم "ألم الخريف"
Güz Sancisi الذي أخرجته مؤخرًا المخرجة تومريس غيريتلي أوغلو Tomris Giritlioglu. وهذا الفيلم يحكي عن غضب شخص غوغائي تركي على اليونانيين في إسطنبول عام 1955. لقد شاهد هذا الفيلم منذ بدء عرضه في الثالث والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير في تركيا نحو نصف مليون شخص وهو أمر رائع في حد ذاته.




التطورات في الرواية الحديثة: التناص وتجديد الشكل-طراد الكبيسي

التطورات في الرواية الحديثة: التناص وتجديد الشكل

طراد الكبيسي –



جرت مراجعة للرواية بعد رحيل نجيب محفوظ، من قِبل جيل الستينات من الروائيين في مصر تحديداً، ومن أبرزهم: إدوار الخراط، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، خيري شلبي، عبد الحكيم قاسم، محمد جبريل، فؤاد قنديل وإبراهيم أصلان.. وكانت مراجعة على مستوى البنية والخطاب والشكل والرؤية (1) لتحديد التطورات الحداثية في الرواية العربية عموماً، وفي مصر خصوصاً.
وكان من أبرز هذه التطورات: تجديد الشكل الروائي عن طريق كسر خطية السرد والتتابع الزمني الطبيعي. فنجد مثلاً بعض أعمال يوسف القعيد، تقوم على مقاطع سردية تعتمد التسجيلات والشهادات المباشرة وغير المباشرة والوثائق والتقارير التي تتكامل لتجسيد الحدث في مستواه الأول (2).
هذا ما دعاه إدوار الخراط: الكتابة غير النوعية ، يقول: قمت منذ سنوات، بتجربة جديدة تنتمي إلى ما يسمى: الكتابة غير النوعية، ومن خلالها يتوحّد الشعر والسرد والقصُّ والتصوّف وينصهر في مقاطع قصيرة نسبياً، يمكن قراءة المقاطع مستقلة، لكنها بالضرورة تُثري بعضها بعضاً، وتُشكِّلُ في النهاية نصاً واحداً أطلقت عليه: رواية (3).
أما ميلان كونديرا، فيطلق على هذا النوع من الرواية: الرواية البوليفونية ، حيث تترابط خطوط عدة ضمن مجموع واحد، ويضيف أن أنواع الخطوط الخمسة موجودة لدى بروخ في روايته السائرون نياماً : رواية، قصة، تحقيق صحفي، قصيدة، مقالة . يقول كونديرا: هذا الاستيعاب لأنواع غير روائية في بوليفونية الرواية، يُؤلِّفُ الابتكار الثوري لبروخ . ويتابع: الواقع أن واحداً من المبادئ الأساسية لكبار البوليفونيين يقوم على تساوي الأصوات. يجب ألاّ تكون ثمَّة سيادة لأيّ صوت . وعن تجربته في الجزء الثالث من كتاب الضحك والنسيان ، الذي يحمل عنوان الملائكة يقول: اكتشفت طريقة جديدة في بناء القصة، يتألف هذا النص من العناصر التالية: (1) الحدُّوتة عن الطالبين. (2) السيرة الذاتية. (3) المقالة النقدية. (4) حكاية الملاك والشيطان. (5) حكاية إدوار الذي يطيرُ فوق براغ (4).
أما الناقد الفرنسي إيف روتير ، فيقول في كتابه: مدخل إلى تحليل الرواية : في الجزء الأكبر من الأحوال، تمزج الرواية عدداً من ضروب الخطاب الاجتماعية والأدبية، المتناقضة وغير المتجانسة. وهذا واحد من المعايير التي يحتفظ بها ميخائيل باختين انطلاقاً من دراسة (رابيلة) أو (دوستيوفسكي) بغية تعريف الرواية بأنها حواريّة، بمعارضتها الملحمة القائمة على المناجاة. فالرواية تُقابل القانونَ الأحادي بتعددية أصواتها، وبالحوار الدائم بين ضروب الخطاب والنصوص (5).
هذا يعني، في إطار تعريف الرواية، أو في بعض تعريفاتها الحديثة، في الأقل: أنها خطاب المتناقضات الذي يصطرع في ساحته، ليس فقط مجموعة من اللغات المُتصارعة، وإنما مجموعةُ الخصائص الكيفية المتناقضة. والواقع أن السيولة التي تتسم بها البنية الروائية هي التي تجعل احتمالات النص السردي التشكيلية لانهائية في عددها أو صيغها .
هذا، إذا أخذنا أيضاً في الحسبان، الخصائص الثلاث الأساسية التي تميّز الرواية من حيث المبدأ عن غيرها من الأجناس الأدبية -حسب باختين- وهي:
- اتسامُها بالتجسيد الأسلوبي أو الأسلوب ذي الأبعاد الثلاثة. وهو أمر وثيق الصلة بالوعي متعدد اللغات الذي تحقَّق في الرواية.
- التغيّر الجذري الذي تُحدثُه في التناسق الزمني للصورة الأدبية وتكامل بنائها.
- فتح منطقة جديدة لبناء الصور الأدبية بناء متكاملاً ومتساوقاً، هي منطقة الارتباط الوثيق مع الحاضر في كل تجلياته المتعددة والمفتوحة.
تتفاعل هذه الخصائص عضوياً في ما بينها من جهة. وفي إطار تفاعلها مع اللغات واللهجات المتعددة الأخرى، تُجذِّرُ علاقةَ النص الروائي بالواقع الاجتماعي الذي هو في تحوّلٍ دائم من جهة أُخرى (6).
بتعبير آخر، فإن دراسة الأشكال المختلفة للرواية، تساعد على اكتشاف ما هو عارض أو طارئ، وبالتالي تحرير الشكل الحقيقي لما يجب أن يكون عليه النص السردي. ذاك أن كل تغيّر حقيقي في الشكل الروائي، وأيَّ بحثٍ مثمر في هذا الموضوع، لا يمكن أن يقوم إلا من خلال تغير مفهوم الرواية نفسها الذي يتطور نحو نوع جديد - أيّاً كانت تسميته. وربما على نحو ما قال صموئيل بيكيت: ما أقوله لا يعني أنه لن يكون هناك شكل للفن. إنه يعني فقط أن شكلا جديدا سيكون هناك. وهذا الشكل من نمط يسمح بالفوضى، ولا يحاول القول إن الفوضى شيء آخر. وتظل الأشكال منفصلة عن الفوضى، وعمل الفنان الآن هو إيجاد شكل يحتوي الفوضى .
لعل هذا - أو بعضاً منه - ما ذهب إليه بعضهم من أن النص الحكائي بأساليبه المتعددة والمتنوعة، نص متموج لا حدود نهائية له قابلة للتصنيف. ويستمد قواه من طبيعة مكوناته والمصادر التي تغذيه وتثري استراتيجيته النصية وتضاعف طاقاته الدلالية، بحيث أن الحكاية فيه تتمظهر تمظهرا جديدا تعلن فيه عن استنطاقٍ لمخبوء الماضي، واستبصار بالآتي، وعن استدعاء لما يعجز الإنسان عنه، وتفجير لطاقاته بما ينظم سردها من ترابط، وبما تقيمه لغتها من حوار، وصهر للعلاقات بين الأشياء.
أما التناص، فقد بات استراتيجية العديد من الروائيين، على حد تعبير الروائي نبيل سليمان، حيث قال: إذا كنت قد وضعت استراتيجية التناص نصب عيني منذ رواية (المسلَّة)، فقد توجهتْ استراتيجية العجيب منذ (مدار الشرق) إلى كنوز الأدب الشفاهي . وأضاف أنّ المسلَّة تعبير يعيد إلى الذهن مباشرة المسلات التاريخية المشهورة، مثل مسلَّة حمورابي، والمسلَّة المصرية.
أما مسلة نبيل سليمان، فهي على غرار المسلات القديمة. أما دور الراوي في الرواية فهو نقشها. قال: جلست أروى -ابنته- قُربي، وشرعت أنقش فوق المسلَّة، ثُمّ عُدْتُ فدثرتها بقلبي، وتابعت النقش فوقه .
يقول نبيل سليمان عن رواية امرأة القارورة لسليم مطر: تستثمر إلى أقصى مدى خصائص العجائبي والغرائبي أو الفانتاستيك، كي تكتب راهن الحرب العراقية - الإيرانية، وكي تصوغ للبشرية تاريخها الخاص، فتتوالى وتتداخل أسئلة الرواية والملاحم والأساطير الطريفة التليدة وأسئلة وعي الذات، ووعي العالم الآخر الأوروبي (7).

والتناص هو أن يحيل النصُّ إلى نصوص أخرى سابقة. أي: في كل نص، يتموضع في ملتقى نصوص كثيرة، بحيث يعدّ قراءة جديدة لها - بحسب سولير. أما فوكو فيرى أنه لا وجود لتعبير لا يفترض تعبيرا آخر، ولا وجود لما يتولد من ذاته، بل من تواجد أصوات متسلسلة ومتتابعة، ومن توزيع الوظائف والأدوار (8). وهذا ما يدعى ب إعادة الكتابة ، وبالتعالي والتداخل النصي. أي ما يجعل النص في علاقة خفية أو جلية مع غيره من النصوص، بحسب جيرار جينيت. وبتعبير آخر: المكان المشترك، حيث أن كل نص يحيل ضمنيا أو صراحة إلى نصوص أخرى. وهذا ما دعاه جينيت ب تفاعل النصوص . أما جوليا كريستتفا، فتنظر إلى التناص بوصفه ممكن التطبيق على الشعر الحديث والكتابة الروائية المعاصرة على السواء، ولكن في نطاق ذلك المفهوم التوسعي للتناص، الذي يشمل مجمل الكتابة المعاصرة.. وتعليقا على دراسات باختين عن رابليز ، و دوستويفسكي ، قالت: لقد كان يتحرك باتجاه فهم ديناميكي للنص الأدبي. يرى إلى كل لفظة داخلة بوصفها ناتجا لتقاطع عدد من الأصوات.. أو هي ناتج التداخل بين عدد من الوساطات النصية المتوحدة في حقل دلالي، بل أيضا في مجالات صوتية، وتركيبية لغوية، وأظن أن الجديد عند باختين هو رؤية هذا التداخل للتعددية الظاهرة من خلال مستويات مختلفة، وليس فقط على مستوى المعنى، بل على مستوى التركيب اللغوي، والصوتيات كذلك (9) .
وعن التناص في رواية لا أحد ينام في الإسكندرية لإبراهيم عبد المجيد، تكتب الناقدة اعتدال عثمان: يقوم السرد في الرواية على سلسلة من المعارضات، فكل حكاية تروى تعارض سابقتها، بل إن استهلال فصول الرواية كلها يقوم أيضاً على المنحى نفسه. إذ نجد في مستهل كل فصل شذرة من كتابات فرعونية أو قبطية أو إسلامية، إضافة إلى مقتبسات من التراث الهندي والبابلي. وقد أُدرجت هذه الشذرات والمقتبسات على سبيل معارضة للأحداث المروية. إن التناص بين الجانبين التخييلي والتاريخي في إطار المعارضة النصية يولّد تعدداً من شأنه إعادة تكوين صورة الإسكندرية عبر استعادة المحيط الثقافي والبيئي وأثرهما في طبعها بطابع خاص. فغدت المكان الذي يجمع المكونات والأصوات المتعارضة المتنافرة، حيث يلتقي هؤلاء الذين لا مرفأ لهم، وحيث يشكل هذا اللقاء معارضة أخرى لدلالة عنوان الرواية (10).
  المصادر والإشارات

1- نقصد الملف الذي نشرته مجلة الرافد ع 114، 2007، ص 34 - 87.
2-المصدر نفسه: ص 52، اعتدال عثمان.

3-مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة: ص 172.
4- فن الرواية، ت: بدر الدين عرودكي، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2001، ص 55 - 56.
5- عن مقالة: انفتاح النص: الواقعية وتفاعل النصوص ، ت: علي نجيب إبراهيم، مجلة البحرين الثقافية ، ع 24، 2000، ص 129.
6- صبري حافظ: الإبداع والتأويل: عن تغير الحساسية الأدبية وتحولات الخطاب الروائي العربي ، مجلة: كلمات البحرينية، ع 18-19، 1994، ص 143 - 146.
7- ينظر كتاب: أفق التحولات في الرواية العربية : دراسات وشهادات لمؤلفين عدة، دار الفنون، مؤسسة شومان، عمان، والمؤسسة العربية، بيروت، 1999، ص 198 و92. ورواية المسك ، دار الحوار، سوريا، اللاذقية، 2004.
8- سعيد علوش: المصطلحات الأدبية المعاصرة، منشورات المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، 1984، ص 123 - 124.

9- عن حوار معها. ت: سيد عبد الخالق، مجلة البحرين الثقافية ، ع 26، 2000، ص 80 - 87.

10- مجلة الرافد ، ع 114، 2007. مصدر سابق، ص 53.


قراءة في الخطاب الإبداعي للفنان غالب المنصوري في معرضه (طلاسم )-د.عبد الرضا جبارة





قراءة في الخطاب الإبداعي
 للفنان غالب المنصوري في معرضه
  (طلاسم )
د.عبد الرضا جبارة






      يقودنا . . الفنان غالب المنصوري الى استبيان تناصه السردي عبر مفردته التشكيلية في لوحات ( طلاسم ) وهي امتياز بصري وسلوك احترافي في التعاطي والاقتراب من روح اللون . ذات المحتوى البصري المشفف الذي يميل باتجاه بنائي دون الارتهان لسطوة اللون التعبيرية ، حيث يحقق المنصوري إعادة ترتيب الغياب والاغتراب وفق آليات اللون المتسارعة . . واذا كان المنصوري قد توصل الى تأسيس قيم جمالية في معرضه ( العالم فراغ كبير فيه نقطة )  فأنه في هذا المعرض قد استبطن اسرار تلك القيم ومنحها اقتداراً واستغواراً بكسر مألوفية السرد البصري ، فلقد وجد أن تغيير الدلالات في الزمن اضحا يتسارع مع اللون ومكونات اللوحة الاخرى ، ولم يسمح لغير الاتزان ان يكون مقياسا ، لذلك تبدوا هذه القيم التي سعى اليها المنصوري ( في طلاسمه ) مدهشة وتضعنا امام مسألتين هامتين ما أن يقتفى اثرهما حتى يتبين اهمية اختراق مألوف السرد في نص اللوحة وأولى هاتين المسألتين هي كسر حدة السرد . . اذ كانت البقع اللونية تتعاور مهمة السرد حيث تفوقت بشكل لافت ، فأنت ترى ( كمتلق ) السرد ينتقل بك من بقعة الى اخرى في لعبة فنية تصل احياناً حد الادهاش مع طرائق في نسج فضاء اللوحة وضمن مفردات انسانية ميلودية تراوحت بين مزاولات كثيرة للعبة التقنيات في التضمين والمجاز والرمز والتي تعلن عن كينونة ساكنة ومتفجرة في ان واحد . . اما المسألة الثانية ، فهي كسر زمن السرد البصري او كسر حاضر نص اللوحة ليفتح على زمن ماضن له ، والمعروف ان كسر زمن النص السردي البصري وقد مارسه المنصوري بكثافة واقتدار كبيرين يحيلنا الى حركة اللوحة ، واذا علمنا ان زمن النص في لوحات المنصوري اطول بكثير من الزمن على مستوى الوقائع ادركنا حجم مسؤلية السرد البصري عنده في تغطية قليل من الزمن بكثير من السرد بعيدا عن الزوائد والافراط في اللون ، وهو في كل هذا الارتقاء يفسح المجال لذائقة المتلقي بأستكمال دائرة الاحساس الذي يغلف تأثيرية اللوحة . . لانه عرف كيف يرتب بياناته اللونية المحررة وبذات الدرجة من المعتم المتأتية من قيم البنى الداكنة وتدرجاته التي تعلن عن روح صناعة عالية وتشي بعلو ريشته وسط هذا الركام الهائل من التجارب التشكيلية وهو بذالك يقف في موقع متقدم من اللغة اللونية المحكمة المضافة الى تجاربه السابقة ولا سيما في معرضيه ( العالم فراغ كبير فيه نقطة ) و ( مقاليد وجودية ) . . وبهذا المعنى فقد شكلت لوحاته مناسبة لاطلاق مفاهيم جديدة حول ضرورة الفن من خلال الاستنارة بخلاصة الثقافات العالمية الاخرى دون الارتماء في حدود الجغرافية التي قد تضاف الى خرائطنا الذاتية ، وان الامر غير متعلق بنسخ الاساليب القادمة الينا من الغرب ، وانما في ايجاد المعادلة الذهبية التي تساعد على صهر كل تلك الاشياء والتنوعات وصولا الى صناعة الهيكل الحقيقي للتجربة الذاتية عند الفنان(غالب المنصوري ) التي يتضح انها تتسم بروح متجددة في اتخاذ موقف سريع ازاء التعديلات التي تطرء على الوجدان الثقافي العراقي ، ولعل مثل هذا الهامش لم يعد يتسع لكل تلك التراكمات الكمية من الاساليب والتجارب والخبرات التي حملت بعض الفنانين على القفز من فوقها ، وليس البناء عليها وهذا ماجعل المنصوري رغم كل الضروف التي مارستها عليه ثقافة العصر متماسكاً واعياً لذاته عارفاً بها . . ومن هنا بدأت سلسلة تفاعلاته في بيئته الحضارية على الرغم من بلوغة تخوما تجريدية عالية مع المنظور الصوفي وظل دائم القلق ازاء هواجسه المرتبطة بالزمان والمكان وكأنها تحمل في مضامينها تقييمات نوعية تؤشر تلك الحالات المفعمة بالحركة والتجاورات وهو دور يحترفه بأتقان مع لفت الانتباه الى أن المنصوري قد شكل برأي الكثيرين في كل معارضه تعزيزا للحضورالتشكيلي وحسماً مطلقاً لصالح فن يتجه بكليته الى محيط الحداثة ومنجزها البصري فيما يغير الزمن ايقاعه وتستحيل ( اللوحات ) شيئا فشيئا  ضمن هذا الموكب الاستعراضي من تقنيات بصرية متكاثرة بشكل متسارع الى ممارسة خارقة في النقض والاختلاف حيث تعلن اللوحة في اكثر من ميدان سيادتها الروحية لصالح المنجز المتصل بحدس اللحظة واستثمارها بشل جلي ، ولا غرابه في هذا الأمر ، فالقيم الجمالية والفراغية تتفجر بالشكل الواضح في الرؤية ، فكلاهما يعبر لنا عن الصراع الابدي بكل وضوح فكأنك تعيش في اللوحة . . فالمنصوري اعتمد المزاوجه بين البقع اللونية التي اخذت شكلا هندسيا او زخرفيا بل تموجا وكأنها غيوم متداخلة ، اذ زاوج بين هذه الأرضية  اللونية والخط الذي يوحي وكأنه خط من الضوء . يرسم اشكالا إنسانية دون ان يتوقف عند نقطة معينة  من هذا الشكل . . كما اننا نلاحظ بأن الفورم عند المنصوري بعيداً عن تاريخية الوجود الجدلي لماهية الفكر بوصف اللوحة استنطاقاً مضاعفاً لمكنونات الواقعة الذي يحاول المنصوري الاقتراب منه بمهارة حاذقة وبراعة في تثوير كوامنه ، فتساوقت في سردياته اكثر من وشيجة فنية . . ولم يكتف بهذه المتقابلات الشيئية بل حشد في فراغاته وخطوطه مهيمنات هي خلاصة القم التي واكبها في رؤاه . . وأمتدت في بناء



 






. وأمتدت في بناء تعبيري ينم عن اقتدار واضح في بنائه الاستعاري الذي وصل بالعناصر الواقعية والتعبيرية الى حدود الرمز . . وهكذا يخرج العمل الفني في
 ( طلاسم ) المنصوري من البصمة الشخصية إلى الطابع الجمعي فيسقط من خصائص الطراز والقاعدة والأبعاد ويؤخذ منحا أشكالي وفلسفي ليتمنطق داخل موقف الفنان الذي تجلى وكأنه تعبير عن انصهار مع مادة الروح في عملية ( سيميائية ) مركبة ومقصودة في ان واحد حيث يقودنا . . وبفعل قراءاته المسننة و   ( المشفرة ) الى طرائق عمله التي يتماهى معها حتى النخاع ، وضمن مفردات ميلودية تشكيلية تراوحت بين مزولات كثيرة للعبة التقنيات في التضمين والرمز . وقد نجح المنصوري في ان يوظف منطقة واسعة من الرؤية لتكون مساحة واسعة لحركته بكائناته الملونة الأمر الذي يعني انه استطاع ان يوسع مجالات استلهام الرؤية تشكيلياً ، فهو لايخفي منهجه الانتقائي الذي هو سمه أساسية من سماته منذ السبعينات ، حيث نرى مزيجا عضويا مع تجاربه التي خاضها في مواجهة ( النظام السياسي ) . ولم يكتف بهذا بل انه شكل من خلال هذا المزيج عملا فنيا يقودنا الى مجهول خفي اخر اهتدى اليه بموهبته الساحرة . لقد استجاب المنصوري بكل مالديه من قلق ورؤية الى متحفه الخيالي ، فرسم عافية كل الاسئلة التي تقافزت فوق شفاهنا بما يراه مناسباً من اجابات ، وهو برئيي انما يسلك الطرق الصحيحة التي يجب ان يسلكها أي رسام حقيقي . لذلك فأن ( فرادته ) تكمن في انتقائيته . . وفي منهجيته ذلك لأنه استجاب للواقع ولكل قوانين التاريخ . . بكل تحولاته ، كما تمثل خط الهدنه الذي يفصل تلك التواريخ ، ومن هذا المنطلق فأن معظم لوحات ( طلاسم ) لم تستند الى ثوابت شكلية محددة ، بل كانت تمثل المشهد الثقافي الانساني العام بكل تناقضاته بأتجاه الرغبة في احداث المزيد من التحول . . ان اعمال الفنان غالب المنصوري تمثل بتجلياتها مستويات البحث الجمالي هذا البحث القلق المغامر والمتجدد والعاصف الذي يؤكد ماذهبت اليه بصدد مقاومة الذات ، فهي تحفل بالمعنى وتسعى الى تأكيد انتمائها الى مايمكن ان يثري التجربة الفنية وبالاخص بما يتعلق بكيفيات التلقي ، فتؤكد عيانيا ان ما يترشح منها له صلة وثيقة بالمعايشة البصرية تلك ، لانها تستمد انبثاقاتها مما تخلفه من اشكال . . . هذه المعايشة الكامنة والتي هي جزء جوهري من كيان اللوحة ومن رؤية المنصوري . . . لم تشكل المقياس لنمو التحول الفني حسب . بل وشكلت عامل تحريض مضاف للأسراع في اكتشاف مايمكن ان تؤدي اليه هذه التحولات من تشاكلات . فهي تضعنا في صلب المقاومة بكل انواعها . . . مقاومة التاريخ بأعتباره عنصر تصنيف . . ومقاومة الحياة بأعتبارها منطقة تكريس معاش . فاللوحة عنده تسعى الى تأسيس كيان تأريخي خاص بها . وفي نفس الوقت تسعى الى تأكيد نفورها من امكانية وقوعها في مصيدة القدر التأريخي . . من هنا يمكن القول ان ثمة نقاط رئيسية مفصلية تساهم في ديمومة اشاكلية التواصل . وهي بمثابة مقدمات اشكالية واقعة . . ومشهودة في كافة معابر المجتمع . . ان هذا الوعي هو المجال الوحيد الموازي للتطور في الحياة في زمن غدا فيه التمسك بالمسؤولية ازاء الذات هو الجدار الذي يمكنه من التصدي للعالم المادي ، ولأنه المخزون البصري الهائل الذي يحمل في ذاته امكانية تطوره بما فيه من بعد انساني اثر في يوم ما من الايام على ثقافات العالم . واللوحة لدى المنصوري بنائاً على ذلك تبدوا مناسبة لأطلاق مفاهيم جديدة حول ضرورة تشكيل ( وعي جديد ) من خلال اللوحة والمفردة التشكيلية . ومن خلال الأستنارة بخلاصة التجارب والثقافات دون الارتماء في حدود الجغرافية التي قد تضاف الى خرائطنا الذاتية . . وان الامر غير متعلق بنسخ الاساليب القادمة الينا من هذا الاتجاه او ذاك ، او اعادة ترجمة القيم التي وفدت الينا مع المد الثقافي العام . . وانما هي ايجاد المعادلة الذهبية التي تساعد على صهر كل تلك الاشياء والتنوعات وصولا الى صناعة الهيكل الحقيقي للتجربة الذاتية . . في تجربة الفنان المنصوري التي يتضح انها تتسم بروح متجددة في اتخاذ موقف سريع ازاء التعديلات التي تطرأ على الوجدان . . ولعل هذا الهامش لم يعد يتسع لكل تلك التراكمات الكمية من الاساليب والتجارب والخبرات التي حملتها لوحات( طلاسم ) . وهذا مايجعل المنصوري واعياً لذاته وذات العالم وعارفاً بهما . . ومن هنا بدأت سلسة تفاعلاته مع بيئته وركائزها ومع الذات وهواجسها . بهذا المعنى يلامس التشكيلي المبدع غالب المنصوري عالم الفن الادبي ، وهو دور اتقنه ووقف في وسطه بطريقة سحرية ربما ليس اكثر ادهاشا من لوحاته التي تؤدي دورا جماليا ( بأمتياز ) ولكن بذات الدرجة من التماهي بينه وبين تكويناته وامزجته الثرية .

 

الأعزاء المعماريون العراقيون والأصدقاء-د.إحسان فتحي





الأعزاء المعماريون العراقيون والأصدقاء



تحيات وسلامات،  فاستمرارا لفكرة (الأوائل) في عالم العمارة العراقية، والتي لاقت ترحيبا كبيرا، ادرجت لكم اوائل الذين حصلوا على الدكتوراة  من خارج وداخل العراق، بعد التأكد حتى من تاريخ الشهر الذي منحت به الشهادة، وكذلك صور اوائل الخريجات العراقيات ( ماعدا عطارد الصراف التي لم افلح حتى الان بالحصول على صورتها)، وكذلك الزميلة رائقة اللوس التي تعتبر أول من درس العمارة من العراقيات في اي جامعة عراقية. طبعا كان هناك عددا لابأس به من السيدات المعماريات الأجنبيات اللواتي درسن في قسم العمارة جامعة بغداد.

اما بالنسبة للدكتور محمد مكية (أطال الله عمره) فاعتقد أيضا بانه  اول من حصل على شهادة الدكتوراة من العرب وليس من المعماريين العراقيين فحسب، ولكنني لست متأكدا تماما من ذلك لان احدهم من مصر قد يكون قد سبقه الى ذلك، وسنعلم قريبا الحقيقة المؤكدة.

ويسرني ان أعلمكم بأن أول دكتوراه في العمارة حصل عليها الزميل فائز البيروتي في أيلول 1991، وبحثت بشكل مفصل ودقيق في تطور البيت البغدادي خلال القرن العشرين، وهي برأي تعتبر الآن احد المراجع الأساسية في تاريخ العمارة العراقية المعاصرة، ولان الباحث فائز بذل جهودا فوق الاعتيادية في بحثه الميداني وفي ظروف سياسية واقتصادية كانت غاية في الصعوبة

وللحديث صلة

د.إحسان فتحي

جمعية المعماريين العراقيين

رواية الكاتب العراقي فاضل العزاوي "آخر الملائكة"- ترجمة: رائد الباش فولكر كامينسكي



رواية الكاتب العراقي فاضل العزاوي "آخر الملائكة"
رواية تنبأت بظهور "داعش" وانكساره على صخرة العدالة



ترجمة: رائد الباش
فولكر كامينسكي

أثارت رواية "آخر الملائكة" -التي ألفها الكاتب فاضل العزاوي قبل 25 عاما من تاريخ نشر هذا المقال- ضجة كبيرة في سوق الكتب الألمانية. وجاء نشر ترجمتها الألمانية عام 2014 بمثابة تكريم متأخر لهذا الكاتب العراقي المعروف عالميا. وبينما كانت هذه الرواية غير معروفة في ألمانيا لفترة طويلة، حققت في المقابل نجاحا كبيرا في المناطق الناطقة باللغتين العربية والإنكليزية. الناقد الأدبي الألماني فولكر كامينسكي يستعرض رواية "آخر الملائكة" لموقع قنطرة.
كان فاضل العزاوي يريد كتابة رواية حول العراق، حتى قبل مغادرته العراق في عام 1977. غير أنَّه لم يتمكّن إلاَّ في منفاه في برلين من تنسيق الأحداث المحيطة ببعض الأشخاص، الذين وصفهم -في حوار أجري معه- بأنَّهم كانوا من "أصدقائه ومعارفه الجيدين"، بحيث تكوّن من ذلك عالم روائي.
ومثلما أكّد في الدورة الأخيرة من المهرجان الدولي للأدب في برلين، لم يكن فاضل العزاوي يريد فقط كتابة مذكرات حول مسقط رأسه مدينة كركوك، بل كتابة عمل شامل حول "العالم العربي برمّته". وهكذا تبدو هذه الرواية من النظرة الأولى فقط مقتصرة على حقبة الخمسينيات في العراق. بيد أنَّها في الواقع تصوّر عالمًا رائعًا، تمتزج فيه مصائر غير عادية وقصص حقيقية ورؤى تنذر بنهاية العالم بصورة شيقة تخطف الأنفاس.
لا يمكن نقل مضمون هذه الرواية إلاَّ بصورة مقتضبة، نظرًا إلى كونها غنية بالشخصيات والأبطال: ومن بين أبطالها السائق حميد نايلون، الذي يفقد عمله لدى شركة النفط البريطانية العاملة هناك ويقرّر تأسيس نقابة مهنية ويضع خطط انقلاب ثورية موضع التنفيذ.
يرى الناقد الأدبي الألماني فولكر كامينسكي أنَّ رواية "آخر الملائكة" وعلى الرغم من الجانب المعتم فيها فهي أقرب ما تكون إلى كونها رواية مفعمة بالبهجة، يتم فيها استكشاف ما هو سلبي من خلال الدقة المفصّلة بكلّ التفاصيل وتحويله إلى سخرية غريبة.
ملائكة شيطانية باعتبارها مرآة للمجتمع
وكذلك يلعب برهان عبد الله دورًا كبيرًا، وهو صبي يبلغ عمره سبعة أعوام وله موهبة خارقة. وبرهان يتواصل مع ثلاثة ملائكة يظهرون في شكل رجال كبار في السنّ، يصبح لهم تأثير عليه وعلى حي جقور الذي يتصدّر الرواية - ولكن ليس فقط بالمعنى الجيد. ومع مرور الوقت يظهر أنَّ هذه الملائكة هي قوى ظلامية وشيطانية: وهي صور رمزية لتطوّر كلّ المجتمع العراقي، الذي يغرق مرارًا وتكرارًا بعد مراحل مؤقتة من الأمل في الفوضى والعنف.
من المثير للدهشة أنَّ هناك الكثير من الإشارات الواقعية إلى الوضع الراهن في العراق، والتي تظهر في رواية العزاوي، وكأنما قد توقّع هذا المؤلف من خلال نطرته إلى حقبة الخمسينيات سيناريوهات الحرب الأهلية القادمة. وعلى الرغم من انتقال بعض حلقات هذه الرواية إلى الخرافة وإلى -مثلما يرد في الرواية- "إلغاء الحدود بين الممكن والمستحيل"، فإنَّ السؤال الملح حول إيجاد حلّ سلمي للتعايش بين الأهالي -في هذا البلد المتعدّد الأعراق والمتعدّد الأديان- يحتل بالنسبة للمؤلف مكان الصدارة.
في هذه الرواية أيضًا لا يخلو مزيج العرب والتركمان والأكراد واليهود والمسيحيين من التوترات والعداوات والخلافات، ولكن مع ذلك فقد كانت تسود لدى الأهالي في فترة الملكية في الخمسينيات رغبة في التعايش السلمي. ويعود هذا أيضًا إلى التدخّل الشجاع من قبل بعض الأشخاص البارزين، الذين يتحمّلون المسؤولية بشجاعة عن المجتمع في اللحظات الحرجة.
يقوم خضر موسى، وهو تاجر أغنام، بتنظيم زيارة رسمية من تلقاء نفسه إلى الملك فيصل الثاني، من أجل تجنّب الوقوع في صراع وشيك مع المحتلين البريطانيين. تثبت طريقة وصف العزاوي لهذا العمل في تفاصيله موهبة الأسلوب الهزلي الكبيرة التي يتمتع بها هذا الكاتب. تبدو زيارة قصر الملك من أجل طلب المساعدة مجرّد محاولة غير مجدية، ولكن مع ذلك يتمكن وفد أهالي كركوك من الوصول إلى القصر ومن تقديم طلبهم إلى الملك الشاب - غير المؤهل سياسيًا.
وأمَّا كون مهمة السلام هذه قد أسفرت أخيرًا عن تجدّد العنف والاضطرابات الدموية أثناء النقاش مع الجيش، فهذا يبدو في منطق هذه الرواية أمرًا حتميًا تمامًا، حيث تحل محلّ كلّ فترة أمل بصورة منتظمة أعمال العنف، التي يعلق الراوي عليها بأسلوب هزلي ساخط.
بين التقليد والحداثة
وعلى الرغم من هذا الجانب المعتم في الرواية إلاَّ أنَّ "آخر الملائكة" أقرب ما تكون إلى كونها رواية مفعمة بالبهجة، يتم فيها استكشاف ما هو سلبي من خلال الدقة المفصّلة بكلّ التفاصيل وتحويله إلى سخرية غريبة. ويعود سبب ذلك من ناحية إلى أشخاص الرواية غير العاديين، الذين يؤمنون بقيام الأولياء من موتهم، ويتواصلون مع الملائكة ويحافظون على سيطرتهم على أنفسهم حتى في أثناء لقائهم مع الموت المجسّد -وهو رجل كهوف مسن وحميد يرتدي قبعة حمراء وقبقابين خشبيين.
ولكن مع ذلك يعود الفضل في سهولة أسلوب العزاوي قبل كلّ شيء إلى فنّه الروائي، الذي يستمده من الشعر التقليدي الشرقي مثل "حكايات ألف ليلة وليلة" ويستند إلى نصوص دينية مثل القرآن والعهد القديم والعهد الجديد، غير أنَّه على وجه الإجمال يحافظ على أسلوب النثر الموضوعي الحديث.
لقد أتاح هذا الدمج بين التقليد والحداثة المجال للكاتب فاضل العزاوي من أجل كتابة هذه الملحمة الشرقية -التي كان يخطط لكتابتها- وفي الوقت نفسه مكّنه أيضًا من تتبُّع أسئلة واقعية جدًا حول هموم الناس وعنائهم.
رحالة لا يعرف الهدوء
 عندما يعود برهان عبد الله في نهاية الرواية إلى كركوك، بعد أن تجوّل طيلة ستة وأربعين عامًا من دون انقطاع في أصقاع العالم، فعندئذ يمكن للمرء أن يجد في ذلك إشارة إلى صورة المؤلف الذاتية الطوباوية، على الرغم من أنَّ الكاتب فاضل العزاوي قد أخفق حتى يومنا هذا في العودة إلى العراق.
وذلك لأنَّ الوضع السياسي لا يسمح -حسب رأيه- بهذه العودة. ولكن على العكس مما توهم به الصور المعتمة في نهاية الرواية فإنَّ فاضل العزاوي يرى بصيصًا من الأمل لمستقبل يسوده السلام في العراق.
إنَّ رواية فاضل العزاوي هذه تعرض بأسلوب مثير وممتع للغاية الطرقات المنحرفة والمتعرّجة التي يضطر الناس في بعض الأحيان إلى اجتيازها من أجل المضي في طريقهم الخاص والنجاة بأنفسهم.

      قنطرة 2014



السبت، 6 ديسمبر 2014

10 قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل

10   قصص قصيرة جدا ً




عادل كامل
[1] أسف
بعد سنوات طويلة، شاهده، مصادفة، فقال له:
ـ اغفر لك ذنوبك مجتمعة، يا سيدي....، اغفر لك انك أمرت بسجني، كأعمى جرجر من الشارع، واغفر لك انك أمرت بتعذيبي، حيث لم يتركوا موضعا  سليما ً في جسدي، واغفر لك انك جعلتني لا أميز بين النهار والليل، ولا بين الأعلى والأسفل، ولا بين الباطل والحق، واغفر لك انك أمرتهم ان يحولني إلى دمية تتحرك بحسب توجيهاتك، ونزواتك، وأوامرك....، واغفر لك انك سرقت أحلامي، وحولتني إلى خشبة أو حصاة مرمية في قارعة الدرب....، لكنني لا استطيع ان اغفر لك انك أطلقت سراحي،  وقلت لي: آسفون...، ليس لأنك ستكمل برنامجك العنيد  وأنت قصدت ان أرى ما أحدثته في الآخرين، وفي الحياة، كي تزداد فخرا ً، ولذّة، وانتقاما ً،، بل لأنك قصدت إيهامي بأنك هو من منحني الحرية، وليس لأنني لم اعد بحاجة لها! اغفر لك انك قتلتني، ولكنني لا استطيع ان اغفر لك انك جعلتني، عندنا أراك، ازداد إعجابا ً بالكلاب، والجرذان، وحتى بالضباع! فانا للأسف اترك لك حريتك، كي تتذوق مرارتها، إنما، في نهاية المطاف: لا أنت هو من اخترع الإثم، ولا أنا كنت امتلك البراءة..!

[2] حفلة
     لم أكن استطيع التقدم، كي أرى ما كان يحدث في الحلبة، ولم أكن اقدر على التراجع، والتواري. كانت الأصوات مرتفعة، وصاخبة، مشبعة بالغبار،  وهي ممتزجة برائحة حجبت عني رؤية ما كان يحدث.
   الآخر الذي بجواري سألني:
ـ هل انتهت الحفلة ..؟
  إذا ً إنها حفلة! دار بخلدي، فسألته:
ـ هل بدأت..؟
   فأجابني هامسا ً:
ـ لا ترفع صوتك.
فقلت:
ـ أنت تكلمت بصوت مرتفع.
  عندما ساد الصمت لبرهة من الوقت، سمعنا احدهم يتكلم بصوت جهوري صاخب:
ـ هو ذا البعرور الذهبي يتناثر، كنجوم في عتمة الليل..
تبعه آخر يقول:
ـ بعرور خرافي لونه كبريق الفضية، ويشع مثل ماسات تتموج فوق سطح البحر...
ثم تلاه ثالث:
ـ مدور مربع مكعب آت ٍ ذاهب مثل ريح تنث رذاذا ً كحبات رمان، بعرور كبشي ...
وأعقبه رابع:
ـ بعرور ابلي مثل باقة ورود في حقل نسجت كمنديل عاشق متيم ...
فقال الواقف بجواري:
ـ أين هو خروفك..؟
ـ خروفي ..؟
فقال بأسى حد البكاء:
ـ الماعز الذي جئت به نفق في الطريق...
بعد برهة اضطررت ان اسأله:
ـ إنها حفلة بعرور إذا ً...؟
   حدق في عيني شزرا ً، وقال:
ـ أسرع!
   تقدمنا خطوة، نحو الحلبة، وكان الخطيب يقول:
ـ بعرور هذا التيس اسود مثل عقيق في جيد هيفاء عند النبع.
 تلاه آخر بصوت سحري:
ـ بعرور نعاجي كندى بستان عند الفجر، يتناثر يتجمع كقلادة ياقوت ...
   فسألت الواقف بجواري:
ـ بعيرك هرب منك...؟
ـ لا...، كان تيسا ً عنيدا ً..
ـ آ ...، للأسف، ليس لدي ما أتبارى به، وافتخر...، فانا لا امتلك لا حمارا ً، ولا بغلاً، ولا ثورا ً، ولا حتى نعجة!
ـ اسكت....، قل لهم انك جئت تشاركهم الاحتفال.
ـ بماذا ..؟
ـ بالدرر، والياقوت، والعقيق، ألا يكفي هذا أيها الغريب!

[3] ولادة
   قال يخاطب زميله الذي عثر على اسمه، بين الشواهد، مصادفة:
ـ الآن عرفت لماذا أغلقت فمك وذهبت..
     لم ينتظر سماع الرد، فقال متابعا ً:
ـ وعليك، الآن، ان تشكرني لأنني لم أمنعك من الموت...، فلو كنت معنا، حتى هذا اليوم، لأدركت، بعد فوات الأوان، إننا لم نكن نجهل لماذا نموت، بل لماذا ولدنا.

[4] الآخر
     عندما اجتاز حدود قريته، وجد نفسه طليقا ً، فتنفس الصعداء وقال يخاطب نفسه: ـ الآن عليك ان تبحث عن مكان لا يراك فيه هذا الذي لم يكف عن  الكلام.  فزار مدن وقصبات وعواصم لا تحصى ...، لم يمكث في واحدة منها، حتى وجد نفسه قد بلغ نهاية الأرض...، حيث رأى السماء بلون ابيض والأرض تمتد بلا حدود:
ـ آ .....، كأنني اجتزت الزمن، وأنا الآن وحيد بينهما....
  صمت، ونظره يتوغل على الأفق الذي امتد بلا حافات، ومصغيا ً إلى صوت كان يدور داخل رأسه:
ـ  كان عليك ان تتخلص مني وأنت في قريتك، فلا أنا أراك ولا أنت تراني، فلا أنا أؤذيك، ولا أنت تؤذيني!
   رفع رأسه ليرى السماء امتدت مع الأرض من غير لون. فقال لنفسه:
ـ لو لم أتكلم فهل كنت استطيع ان اكف عن الإصغاء؟ أيها البياض ماذا فعلت بي كي تتبع خطاي حتى وأنا افقد عقلي!
[5] كلمات
      ليس لأنني لا امتلك شيئا ً ما اخسره، تجدني لا اشعر بالأسف، أو لأنني كنت امتلك شيئا ً ما فقده، وغدا استرجاعه بحكم المستحيل، ولم اعد أتذكره، كي احن له، أو لاستعادته، وللأسف عليه، بل، يا صديقي، ليس لدي ّ ما أسف عليه تماما ً، في الأصل.
     فأنت تتذكر قصة السيدة المسنة، التي شعر بالأسف، ليس لموت الطائر الذي أحبته، واعتنت به، وعاش معها سنوات، بل لأن الصبية سرقوا ذلك القفص منها، القفص الذي كان هو كل ما تبقى لها في هذه الحياة.
   عندما قلت لك: في الأصل .....، فانا لم يسرقوا كتبي، ولم يغلقوا نافذتي، ولم يهدموا السقف علي ّ، ولم يسرقوا أحلامي، وغيرها من متاع هذه الدنيا، بل بعثروا ذاكرتي، وتركوها تتناثر مثل غبار لم يعد يسمح لك حتى بتنفس الهواء...، كي اكتشف كم أنا وحيد، بلا جسور مع العالم، ولا حتى مع نفسي....، فهل حقا ً لم اعد امتلك حتى هذا الأسف وأنا أموت كي أخبرك بعدم  قدرتي حتى على امتلاك مشاعر   الأسف، ولا مشاعر الخسران...؟!
[6] ديمومة
     مصادفة، رآه عند ساحل البحر، يراقب الزوارق، والطيور، شارد الذهن،  فاقترب منه، وجلس بمحاذاته، بهدوء، ومن غير ضجة، وتكلم بصوت خفيض:
ـ كم يبدو المشهد غريبا ً، يا سيدي، أنت لم تتخذ قرارا بإنهاء حياتي، قبل عقود، عندما كنت تمتلك القرار...، وأنا لم أبح لك بما كنت اعرف...، فلم تقدر على انتزاع كلمة واحدة مني، وأنا حافظت على الكتمان...، كم يبدو المشهد مسليا ً، وربما طريفا ً أيضا ً، حيث هربت أنت من الموت، بعدي، بسنوات، فلم يدم المجد لك، وأنا بدأت استعيد بعض خسائري ....، إنما المثير للغرابة، أو المفارقة، إننا، أنا وأنت، وجدنا بلدا ً يستقبلنا، من غير أسئلة أو اعتراضات تذكر. فالجلاد وضحيته يجلسان يتأملان البحر، والطيور، والزوارق.....، لكن الغرابة لا تكمن هنا، بل لأنني غفرت لك قسوتك، وإنزالك اشد الأذى في ّ، ولم أشهر بك، ولم أفكر حتى بالثأر، ولكنني لا استطيع ان اغفر لك انك سمحت لي بالبقاء حيا ً!

    لم يجب، بل نهض، بهدوء، مبتعدا ً، ولم يلتفت إلى المتكلم. ولكنه ترك خلفه أصداء كلمات متناثرة راح الآخر يجمعها:
ـ أذهب وأسأل الله، لماذا سمح لمن عصاه بالحياة! فمن أكون أنا كي تسألني لماذا لم أبقيتك تتنفس حتى يومنا هذا..؟
[7] أسئلة
ـ ها أنت في النعيم، فماذا تريد، كي تغلق فمك...؟
رفع رأسه قليلا ً تاركا ً فمه يتكلم:
ـ بل السؤال غدا أكثر تعقيدا ً، واستحالة ...، لأنني عندما أمضيت حياتي في الجحيم، كنت اعرف ماذا أريد، فلم افقد الأمل من مغادرته....، أما الآن، في هذا الفردوس، يا سيدي، فقد بدأت أسأل الأسئلة التي ليس لدي ّ أجوبة عليها! فهل تخبرني ـ لو تفضلت ـ أأنا وجدت للنعيم، أم النعيم وجد من اجلي....؟ ثم، يا سيدي، ماذا كنت فعلت كي تعاقبني بالجحيم، ثم...، ها أنت تتركني لا اعرف ماذا افعل في هذا الفردوس؟!

[8] جائزة
     قرأ الخبر للمرة الثالثة، كي يصدق:
ـ أنت ....، صاحب الرقم ......، فزت بالجائزة الكبرى!
    صدق الخبر، لان البطاقة تحمل الرقم نفسه، وبين يديه، وصدق انه، أخيرا ً، كسب الرهان. ولكنه، في الوقت نفسه، لم يقدر ان يكتم ألما ً عميقا ًكواه بوجود ما لا يحصى من الخاسرين.

[9] رسائل
     بعد ان انتظر إجابات على رسائل بعث بها إلى عدد من المعارف، والزملاء، ولم تصله الردود...، لم يجد سببا ً ما يدعوه إلى عدم الرد على الرسائل التي كانت تصله من أشخاص يكتبون له للمرة الأولى. آنذاك أدرك ان القوانين التي عرفها هي ذاتها لم تتغير، ولم يجر تعديلات تذكر عليها.....، وأدرك، في الوقت نفسه، انه غير مسؤول عن إخفاقاته باستحالة تغييرها، أو حتى تعديلها...، فبعد ان ذاق المرارات، واشد الهزائم سخرية، ووجدها لاذعة، ومزرية، أكد ـ لنفسه ـ انه لم يكن يجهل ان الضحية هي وحدها طالما أكملت دور جلادها، وان أعلى الهرم لا معنى له من غير قاعدة يجثوا عليها، إنما، دندن مع نفسه، بقليل من المرح، انه لن يسمح للأخير، إن كان وحيد زمنه، أو وحيد الأزمنة كلها، ان يزهو بنصر ستكون ذروته جنازة يتقدمها بنفسه بصمت لا تختلط فيه حتى النوادر!

[10] وصية
   مازال صوت جدتي يأتيني من البعيد، غير مكترث إن كان من السماء، أو من أعماق الأرض، فانا أصغي له مثلما اعرف ان أصابعي مازالت تتشبث ببقايا جسدي:
ـ " لا تؤذ الصخور، يا ولدي.....، فهي، مثل الإنسان، تتألم عند الولادة، وتحتفل في الأعياد، وتأن عند المصائب، وتكف عن الكلام عند الموت ..."
   فلم اترك حصاة، إن كانت تميزت بلونها، أو بشكلها، أو بملمسها، أو بما تمتلكه من إيحاء، إلا وجمعتها، ووضعتها في خزانة زجاجية بعيدا ً عن الغبار، أو عبث العابثين. وها أنا ـ بدل ان أدوّن وصيتي ـ تركت بصري يراقب ما كنت قد جمعته خلال سنوات حياتي:
ـ فانا سأذهب، كما الريح...، تعبر، تمر، وتغيب...، إنما الصخور ...
    لجم فمي صديق، بل وبخني، وقد مزق الورقة التي كتبت فيها ثنائي لواحدة من تلك الصخور. وصوته، هو الآخر، مازال يرن في رأسي:
ـ  أتخالف الجميع...، في مدح السيد الأمير، الماسك بجمرة الأقدار ...، كي تمجد حصاة!
    سمعت صوت جدتي، يأتيني مثل منديل رقيق يحجب عني الضوء:
ـ " لا تؤذ الصخور، يا ولدي.....، فهي، مثل الإنسان، تتألم عند الولادة، وتحتفل في الأعياد، وتأن عند المصائب، وتكف عن الكلام عند الموت ..."
 بغداد ـ 20/11/2014