كتاب في حلقات
همنجواي في الحلة (12)
لحية رئاسية
أحمد الحلي
في العام
1982 وفي ذروة
الهزائم العسكرية التي تعرض لها جيش
النظام في الحرب
العراقية الإيرانية التي كان
صدام يأمل منها
تكريس اسمه وتسويقه على الأقل عربياً
بوصفه قائدا عسكرياَ مرموقاً وبالتالي بطلاً للتحرير القومي،
هذه العبارة التي
تم رفعها والترويج
لها إعلامياً على نطاق واسع
على طول جبهات القتال
من زاخو إلى الفاو
وعبر وسائل الإعلام والأبواق المختلفة .
في هذا
العام تم تجنيده وزجّه في احد
قواطع الجيش الشعبي
، وجرى ترحيلهم على
الفور إلى قاطع (ديرة لوك) في محافظة دهوك
، وأثناء ذهابه
من ديرة لوك إلى سرسنك بوصفه
سائقاً لإحدى سيارات التموين ، شاهد قائد
الفيلق وقد ترجل
للتو من سيارته العسكرية وهو
بصدد القيام بجولة
تفتيشية للقاطع ، ولما علم
الجنود والمراتب بالخبر ارتعبوا
وأصيبوا بالهلع ، وتواروا عن الأنظار كما لو أنهم فئران
مذعورة تهرب من
مخالب قط جائع ، وبقي هو وحيدا
في وسط الساحة
، إلا انه تسلّح بعدم المبالاة ولم
يأبه للأمر ، وقعت عينا
القائد عليه وهو يتمشى بحذاء (الكَيوة) الشعبي بطريقة غير مكترثة وملتحيا بلحية
طويلة مشذبة ، جن جنون القائد وصاح
به ؛
يا أنت ! تعــــــال .
فأدرك انه المقصود ، فمشى
إليه وهو يقول
في سرّه ؛ سأجعل منك أيها القائد
العفريت أضحوكة وعبرة للجميع هنا ! اقترب
منه بطريقة بطيئة
ليشعره بعدم اهتمامه بل وازدرائه له ، وبعد أن صار
قريباً بما يكفي
لم يؤدّ التحية
العسكرية ، فطاش
عقل القائد وصاح
بهستيرية ؛ ما هذه
اللحية أيها المقاتل
، فقال له
على الفور ؛
هوّن عليك أيها
القائد فأنا على
ملاك وزارة الأوقاف
! فما كان
منه إلا أن
انحنى أمامه إلى
الأرض قائلاً بخشوع ؛
آسف أيها الشيخ
المبجل ، لقد
أزعجتك ، وأرجو
أن تصفح عني !
ذلك أن هذا القائد
يعلم جيداً أن
الشيوخ الذين هم
على ملاك وزارة
الأوقاف والمنسّبين على
القطعات العسكرية هم في
حقيقة الأمر عناصر
مجندون في جهاز
المخابرات أو الاستخبارات
العسكرية وان لديهم
رتباً عسكرية عالية
ودرجات حزبية ليس بوسع أحد أن يعلم ما هي ،
وهم مرتبطون مباشرة
بديوان رئاسة الجمهورية
، وكنوع من
التكفير عن الذنب
طلب منه القائد
أن يذهب بمعيته
في الجولة التفتيشية
وان يعودا معا إلى مقر
قيادة الفيلق حيث
سيولم له وليمة
فاخرة ..
فقال له بحدّة
؛ إن الجنود
ينتظرونه ليجلب لهم
أرزاقهم ، فوجد
القائد نفسه في
موقف لا يُحسد
عليه ، فقال ؛ بارك
الله فيك أيها الشيخ
الجليل ، واني لشاكرٌ لك
موقفك النبيل هذا
مع الجنود الذين
هم بمعيتك ، وسأدوّن موقفك النبيل
هذا في سجل الزيارات ...
وبعد عودته
إلى مقر القاطع
دخل إلى غرفة
آمر القاطع ،
فأخبره بما حدث
له مع قائد
الفيلق ، وطلب
منه ، بحكم
انه كانت تربطه
به علاقة خاصة ،
أن يخبر القائد
إذا ما استفسر
الأخير عنه ، أن يصادق
على الكذبة التي جعلها تنطلي على
القائد فصاح آمر القاطع
؛ استحلفك بالله أن تحلق
لحيتك ، وان لا
توقعني في هذه المآزق
التي يبدو انك
تستمرؤها وترتاح لها
، فقال له
بحدة ؛ اقسم بالله
العظيم إنني لن
احلق لحيتي إلا
بعد أن يقوم
عدي صدام حسين
بحلاقة لحيته !!
مَنْ يقاتل بشرف يستحق
الـ......
أتيح لنا من خلال قاطع الجيش
الشعبي ، أن نقيم صلات مودة وصداقة مع
جنود ومراتب إحدى الوحدات العسكرية المحاذية لنا ، وبالنسبة لي فقد كنت
شغوفاً بمطالعة الصحف اليومية ، التي لم تكن لأسباب مجهولة تصل إلى مقر قاطعنا ،
كنتُ تواقاً لأن أقرأ فيها النصوص
المترجمة وما كان ينشره بعض الأدباء والكتاب من قصائد ومواضيع لا تدخل في خانة
السياسة ولا تتحدث عن الحرب أو تمجّد الطاغية ، لا سيما وأنه لفت نظري في الآونة
الأخيرة أن عدداً من الأدباء ، وجراء الضغوطات الأمنية التي كانت تحوط بهم ، كانوا
يعمدون إلى المواربة والاحتيال على المعنى من أجل إيصال رسالتهم الإنسانية الرافضة
للحرب وتوجهات الحزب القائد على حد سواء ، وقد نجح بعض هؤلاء في ذلك ، فيما تمكن
البعض الآخر من الهرب إلى خارج العراق ، كان من الطبيعي أن تكون لي صلات مودة مع
أحد الخطّاطين في تلك الوحدة العسكرية ، والذي أنيطت به مهمة توزيع الصحف على
سرايا الوحدة ، استطعت بسهولة ويسر أن اكسبه لنفسي صديقاً ، كان يحدّثني عن
مكابداته وآماله العريضة التي كان يحلم بها قبل تخرجه من الكلية ، وإذا بكل ذلك
يطير ويتبخّر هكذا بغتة بسبب رعونة وجنون القائد الضرورة ، بعد أيام التقيته مساءً
، كان مزاجه رائقاً ، قال لي ؛ أتعلم ما حدث لي بالأمس مع رئيس عرفاء الوحدة ،
الذي كان واحداً من الحزبيين الذين يخشى المرء جانبهم ، قلت ؛ تحدّثْ !
قال ؛ بينما كنت بمفردي ، أقوم بخط
عدد كبير من اللوحات التي كنت أعددتها في اليوم السابق ، وكانوا قد زوّدوني بقائمة
طويلة جديدة من شعارات المعركة ، كنتُ منهمكاً بعملية الخط ، ولكنني ، وكعادتي ،
حين أكون بمفردي ، كنت أردد مع نفسي أغنية ما ، أو أتمتم ببعض العبارات التي لم
أفقهها أنا بنفسي ، وفجأة وجدت رئيس عرفاء الوحدة يمد وجهه خلف أذني مباشرة ، وهو
يقول لي بحزم ؛
- ماذا قلتَ للتو ؟
- لا شئ
، لم أقل أيَّ شئ ، هل سمعتَ أنتَ شيئاً ؟
- نعم ،
سمعتك تقول شيئاً ، ثم ضحك بمودة ، واستحلفني بالله أن أعيد على مسامعه ما قلتُ
آنفاً ، وأقسم بابنه الوحيد بأنه لن يبوح لأحد بما سمع مني وأنه سوف لن يفعل أي شئ
ضدي .
وحين
تأكدت من صدق لهجته وثقت به ، وأعدتُ عليه قراءة الشعار الذي كنت قد أكملت خطّه
على اللوحة ، ولكن ، كما فهمته أنا ، قلتُ
ها أنت
تقرأ العبارة المكتوبة ؛ " مَنْ يقاتل بشرف ، يستحق القنادر" !
ممرّغاً مفردة الــ(المجد) التي أراد القائد
الضرورة إضفاءها على المقاتلين مستبدلاً إيّاها بــ ( الوحل) ...
فضحك
طويلاً بنشوة كما لم يضحك من قبلُ ، وودعني .