الأحد، 9 سبتمبر 2012

أين مال التجار يا غرفة تجارة بابل ؟ !!!!-حامد كعيد الجبوري

أين مال التجار يا غرفة تجارة بابل ؟ !!!!
للنجاح آباء متعددون والفشل لقيط لا أب له ، والناجح والمتفوق يقع تحت أنظار الكثير قدحا أو مدحا ، والقدح كالعادة أكثر من المدح بكثير ، والغريب في علاقاتنا الحالية أن الناجح لا نمد له يد الدعم والشكر والإشادة ، بل نحاول ان نجد له اكثر من هفوة نصنعها ليقال انه فاشل ، وبين هذا وذاك نجد الكثير من الناجحين يخترقوا الصعاب ليثبتوا أنهم الأجدر والأفضل معتمدون على طاقاتهم وخبراتهم الذاتية ، فترة قبل سقوط صنم الدكتاتورية البغيضة قامت غرفة تجارة بابل بخدمات تخص شريحة التجار كإنشاء جناح طبي علاجي لتجار بابل ، وحقيقة كان وقتها معلما صحيا يشار له ، أو تقوم الغرفة بعمليات ختان جماعية لفقراء المدينة ، أو تقديم مبلغ زهيد للفقراء أيام الأعياد أو في رمضان ، ومعلوم أن واردات الغرفة آنذاك لا توازي وراداتها اليوم ، ولا أريد أن أكون ظالما لو قلت أن قسما من إدارات الغرفة يوم ذاك لم تحسن استخدامها المالي لذا وصلت لنا العديد من المؤشرات السلبية ولسنا بصدد الحديث عن الماضي ، الآن يتحدث الكثير من التجار أن واردات الغرفة المالية كبيرة جدا لا توازي ولا تساوي وارداتها سابقا ، فأين تذهب أموال التجار ؟ ، ومن أين مصادر تلك الأموال ؟ ، حملت أوراقي صوب غرفة التجارة والتقيت رئيسها المهندس الاستشاري ( صادق هاشم الفيحاون ) أولا ، ولم يجبني بشئ بل حول أسئلتي لنائبه السيد ( جاسم مطر أبو خمرة ) وأضاف لي حديث معك ، وردا على قسم من أسئلتك حينما تستجمع وتشاهد ما نقوم به اليوم ، أذعنت لذلك وبدأنا المشوار الرائع مع السيد ( جاسم أبو خمرة ) فأطلعنا على بناء فخم وبمساحة كبيرة أسميت ( قاعة متعددة الأغراض ) مما دعانا ان نحدد سؤالنا كالتالي . س : كيف تبلورت لديكم القناعة لهذا الصرح الكبير ؟ ج : أحدى جلسات مجلس إدارة الغرفة سنة 2010 م أقترح المجلس أن نقيم قاعة متعددة ألأغراض على أرض الغرفة المتروكة من مجمل مساحة القطعة العائدة لغرفة تجارة بابل ، ومساحة الأرض الفارغة أكثر من ( 1000 ) م2 ، وهذه الأرض الفارغة أصبحت مكبا للنفايات سواء من عمال الغرفة أو من البيوت القريبة لها ، وأقتُرح أن تقام عليها قاعة متعددة الأغراض . س : هكذا مشروع يفترض وضع تصاميم له من قبل مكتب هندسي استشاري ، فمن وضع لكم هذا التصميم ؟ . ج : بدءا وضع تصاميم المشروع المهندس الاستشاري ( حمزه المعموري ) والتصميم الذي وضعه يعتمد على البناء الذي يسمى ( ربد سلاف ) وقوامه ( الكونكريت ) المسلح ، وبما أن ال ( ربد سلاف ) مكلف جدا ويحتاج الى أموال كبيرة لا أمكانية للغرفة على توفيرها ، وهنا أقترح المهندس الاستشاري ( حيدر هاشم الفيحان ) عضو مجلس ادارة الغرفة تغيير التصاميم من ( كونكريت ) مسلح الى تصميم حديدي يسمى ( ستيل ستركجر ) ، وهذا التصميم الحضاري الجديد له ميزة قلة التكاليف ، وقلة الأحمال على الأرض ، وبلا أعمدة داخلية تشوه صورة القاعة وتستنفذ جزءا من مساحتها . س : المساحة المتروكة لكم حوالي 1000 م2 ، هل استغلت المساحة بكاملها ؟ . ج : نعم استغلت المساحة بالكامل وتم بناء القاعة الأرضية وفق القياسات التالية ، الطول 33 م ، العرض 25 م ، وللقاعة ملحقات ( كونكريتية ) تشمل ، 1 : ( الصحيات ) رجالية ونسائية . 2 : قاعة للاجتماعات كبيرة بمساحة 55م2 تستغل في الطابق الأول للاجتماعات والمؤتمرات الصغيرة ، وفي الطابق الثاني يمكن استغلالها إدارة للقاعة ، أو ( كوفي شوب ) ، أو مجمع ( انترنيت ) . س : هكذا مبلغ بعشرات الملايين هل حسبتم كيف يموّل ؟ ومن أين ؟ . ج : التمويل بالكامل من الغرفة ووارداتها التي هي عبارة عن اشتراكات التجار ، واستثمارات الغرفة . س : من أين هذه الاستثمارات ؟ . ج : لدينا محلات مؤجرة ، ولدينا ساحة لوقوف السيارات ، ولدينا عمارة في شارع الامام علي ، ومحلات جنب الغرفة ، وكل هذه الواردات تشكل مصدرا للتمويل وبناء المشروع الضخم . س : بعد انجاز الطابق الاول وملحقاته من مجمع صحي للنساء وآخر للرجال ومكتب ادارة للطابق الاول والثاني ، وبهذه المواصفات الهندسية من اعمدة خرسانية جانبية عملاقة ، وإكمال السقف الاول للقاعة ( ستيل ستركجر ) ، كم أخذ منكم وقتا لانجاز الطابق الاول ؟ . ج : بدء عملنا الشهر العاشر عام 2010 م والعمل متواصل ليومنا هذا للطابق الاول والثاني والملحقات ( الكونكريتية ) على حد سواء ، بمعنى متصل ومترابط مع الآخر . س : لو شكلت لجنة من اختصاصيين ماليين ومهندسين ومقاولين كم تتوقع المبلغ المالي الذي سيحدد من قبلهم ولهذه المرحلة ؟ ، وكم صرفتم من مال لإنجاز هذه المرحلة ؟ . ج : قاعة الطابق الاول 825 م2 ، وقاعة الطابق الثاني بنفس المساحة 825 م2 ، أكملت بطريقة ( ستيل ستركجر ) مع ملاحظة بناء كافة الاركان بأعمدة ( كونكريتية مسلحة ) وعملاقة ، والبناء الذي أكمل بطريقة ( الكونكريت المسلح ) مع السقوف هي 800 م2 ، كل هذا البناء والغرفة تستقبل يوميا الشركات والاختصاصيين الهندسيين ويشاهدون مراحل العمل وانجازه ومن باب الفضول يسألون ما صرفناه من مال لانجاز هذا العمل ؟ ، وبدورنا نحيل السؤال لهم فتكون الاجابات مختلفة بالرقم ومتقاربة مع بعضها نسبيا وتتراوح تقديراتهم بين ( مليار وربع ) دينار عراقي ، وبين ( مليار ونصف ) دينار عراقي ، فنضحك بوجوههم ونقول ربما بهذا المبلغ سننهي كل أعمال البناء ومراحله ، وحقيقة الأمر نحن صرفنا مبلغا ومقداره ( 545 ) مليون دينار عراقي ، مع وجود فضلة من الأسمنت والطابوق و ( شيش التسليح ) والرمل والحصى ، وملاحظة أن الطابق الأول ( ستيل ستركجر ) يتخلله صب من الخرسانة المسلحة والطابق الثاني بطريقة ( سندويج بنر ) . س : ما هي المقترحات الموضوعة من ادارة الغرفة لهذه القاعة متعددة الاغراض ؟ . ج : بعد أن أتت وفود عديدة محلية وعربية وعالمية لغرض اقامة المعارض التجارية في محافظة بابل ، لم نجد القاعات المناسبة لاحتضان هكذا مشاركات ومعارض في كل المحافظة ، لذا أخذت الغرفة على عاتقها تصميم وبناء هكذا قاعات كبيرة ، لاحتضان هذه الفعاليات والنشاطات التجارية التي نقيمها او نستوعبها مع الاخرين ، و ملاحظة امكانية استقبال الفعاليات والنشاطات الثقافية والاجتماعية والمعارض الفنية وعقد المؤتمرات والندوات العلمية وغيرها ، والقاعة تستوعب الكثير ولكل الاغراض التي ذكرنا . س : شاهدنا بناءا مسقفا ب( الكونكريت المسلح ) وبمساحة 250 م2 ، هل بالنية اكمال بناء طابق ثالث له ؟ ، ولماذا سيستخدم مثلا ؟ . ج : نعم في النية الاستفادة منه ومن هذه المساحة ذوو الطابقين الأرضي وهي محلات مجاورة للغرفة ، والطابق الثاني الذي اكمل صب سقفه وأعمدته وننتظر انهاء التصاميم له سواء بطريقة ( ستيل ستركجر ) ، أو الصب ( الكونكريتي ) المسلح ، وحسب توفر السيولة المالية للغرفة ، ويمكن أن يستغل من قبل التجار والمستثمرين لإنشاء ( مول ) كبير بجوار الغرفة . س : بعد أن تم انجاز الهيكل للقاعة وملحقاتها ماذا تنتظرون لإكمال عملكم أو مشروعكم ؟ . ج : ننتظر فتح عطاءات المقاولين الكهربائيين لإنجاز مرحلة الكهرباء ، ومن ثم بقية المراحل تباعا كالأرضيات وطلاء الجدران بمادة الأسمنت وإنهاء تغليف الأعمدة ، وإكمال المرافق الصحية ، والواجهات التي قررنا أن تغلف بطريقة ( الكوم بوز ) لأنها الطريقة الحديثة والحضارية ، وكل هذه الأعمال تنجز تباعا وحسب أمكانية التمويل من واردات الغرفة حصرا . س : أستاذ جاسم هناك سؤال أجلته لنهاية حديثك كمشرف على أعمال البناء ، وسؤالي هل أنت الوحيد المنسب لهذه المهمة الصعبة ؟ ، أم هناك لجنة متعاونة معك لهذا الغرض ؟ . ج : لا يعقل أن أكون لوحدي مشرفا ومتابعا ومحاسبا لهذا المشروع بل هناك لجنة تشكلت بموجب أمر إداري أصدر من الغرفة ، واللجنة بإشراف ومتابعة المهندس الاستشاري السيد ( صادق هاشم الفيحان ) رئيس غرفة تجارة بابل ، وبطريقة التنفيذ المباشر وبرئاسة السيد ( جاسم مطر أبو خمرة ) نائب رئيس الغرفة ، وعضوية السيد ( صلاح حسن الخليفاوي ) نائب رئيس الغرفة ، والسيد ( صلاح مهدي السعيد ) عضو مجلس إدارة الغرفة ، والسيد ( قاسم مطر العكيلي ) عضو مجلس إدارة الغرفة ، وعضوية موظفين حسابيين وهما السيد ( محمد حبيب ) ، والسيد ( حيدر جوير ) ، وهناك دور رئيسي مميز لعضو مجلس إدارة الغرفة والمشرف على تنفيذ البناية وهو المهندس الاستشاري ( حيدر هاشم الفيحان ) الذي لولاه لما غيّرت التصاميم التي وضعت من قبل مكتب استشاري متخصص ، والذي كان متابعا لكل مراحل العمل وبجهوده استطعنا تقليص النفقات وكسب الزمن لصالح المشروع . إذا لابد من أكمال التحقيق والاستنارة بما يصرّح به المهندس الاستشاري ( حيدر هاشم الفيحان ) ليحدثنا عن أسباب التغيير ؟ ، وقناعته المهنية العلمية في هذا البناء فتوجهنا له ليجيبنا عن ذلك ؟ . ج : أسلوب البناء بطريقة ( Steel structural ) هو الأسلوب الحضاري المتبع عالميا في الوقت الحاضر لأن فيه اقتصاد في التكاليف لا تقل عن 60 % بالنسبة لأسلوب التنفيذ بالخرسانة المسلحة ، والأحمال النازلة على الأسس تشكل نسبة 30 % من أحمال الخرسانة المسلحة ، والتصاميم الحديدية فيها من المرونة الكثير للتغيير بحيث استطعنا رفع سقف القاعة من 3 م الى ما يقارب 6 م ، وبذلك أعطينا للقاعة منظورا معماريا جديدا ، يضاف لذلك سرعة التنفيذ ، وتقليص وقت الإنجاز الكلي للبناء . هناك مسألة مهمة تدور بخلد القارئ والتاجر على حد سواء وهي ، لماذا تصرف أموال غرفة تجارة بابل بهذا البناء الفخم ؟ ، ومن المؤكد أن التاجر الحريص يسأل ما هي المردودات المالية الاستثمارية لهذا البناء ؟ ، اسئلة توجهنا بها الى السيد ( صلاح حسن الخليفاوي )عضو مجلس إدارة الغرفة ،وعضو اللجنة المشرفة عن أكمال هذا البناء فأجاب . ج : دأبت غرفة تجارة بابل منذ الدورات السابقة أن تنجز أعمالا مميزة تخدم أبناء المدينة عموما والتجار خصوصا ، ومن الأعمال السابقة للغرفة هو جناح مرجان الخاص في مستشفى مرجان ، وفعلا كان مشروعا لا يزال يذكره أبناء مدينة الحلة الفيحاء وتجارها ، وكذلك بناء عمارة استثمارية في شارع الامام علي والتي هي عبارة عن محلات تجارية خدمت تجار ومواطني محافظة بابل كثيرا ، وأردنا بهذه الدورة الثلاثون ( 30 ) للغرفة أن نترك أثرا مغايرا وأكثر منفعة مما فعله من هم قبلنا من مجالس إدارة للغرفة ، ولم يكن أفضل من هذا المشروع الذي تفتقر له مدينتنا الحلة الفيحاء حيث لا قاعة نظامية حضارية تحتضن الفعاليات التجارية وغيرها في بابل ، لذا توكلنا على الله وبدأنا مشروعنا الذي سوف يكن له مردودا ماليا كبيرا للغرفة ولتجار بابل على حد سواء . بعد أكمال كل محاور نقاشاتي مع لجنة بناء القاعة متعددة الاغراض استجدت لي مجموعة من الأسئلة التي تلح علي لإنهاء هذا التحقيق مع السيد رئيس غرفة تجارة بابل المهندس الاستشاري ( صادق هاشم الفيحان ) ، وحقيقة كان يفترض إداريا أن يكون اللقاء الأول معه ، إلا أنه قال دعني للآخر لربما ستحتاج لأجوبة كثيرة ، وهذا ما حصل فعلا ومن حسن الصدف كان نهاية التحقيق معه وكما قلنا لحصول أكثر من تساؤل لم أحصل على إجابته من السادة الآخرين ، لذا توجهت لمكتبه وكان الحوار معه مفتوحا ودون تحرج أو إحراج . س : لماذا تتبنى غرفة تجارة بابل دعم الثقافة وبعض الأنشطة الأخرى كالنشاط الرياضي مثلا ، علما أن هذه الأنشطة لا تمت الى التجارة بصلة من قريب أو من بعيد ؟ . ج : نحن نرى أن للغرفة مكانة معنوية في محافظة بابل ، واستكمالا لدورها وانطلاقا من هذه المكانة بادرت الغرفة بدعم الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضة في عموم المحافظة ، فقامت بطبع العديد من الكتب الاقتصادية والثقافية والتاريخية التي تختص بتراث المدينة ووصل عدد الكتب التي تبنت الغرفة طبعها ( 12 ) أثنى عشر مطبوعا ، إضافة لدعم الانشطة الرياضية والفنية المتنوعة وبذلك فإنها تؤدي دورها كمؤسسة حيوية يهمها الصالح العام وخدمة أبناء المدينة ، لغرض تشجعيهم ودعم كل العاملين المخلصين في هذا البلد بعد أن لمسنا في هؤلاء النخب الوطنية الجهد المتواصل ، والنوايا المخلصة لخدمة مدينتهم و بلدهم ، ومنهم الأدباء والفنانون والرياضيون والموسيقيون وأوائل الطلبة وفي كافة مراحل الدراسة . س : قبل دخولي لمبنى غرفة تجارة بابل شاهدت أشخاصا يجلسون في غرفة الاستعلامات ، وحين سألت عنهم علمت أنهم من فقراء المدينة والمعوزين رجالا ونساء ، فهل تمد غرفة تجارة بابل الدعم المالي لهذه الشرائح المحتاجة ؟ . ج : نعم تقوم الغرفة بدعم المحتاجين والمعوزين وبخاصة من طبقة صغار التجار ، وأنشأ لهذا الغرض صندوق التكافل الاجتماعي وشكلت لجنة لتوزيع المال من هذا الصندوق على هذه الشريحة من المحتاجين والفقراء والأيتام ، وليس هذا وحسب بل هناك صندوق منشئ لدعم التجار الذين يتعرضون للحوادث لاسيما حوادث الارهاب الأعمى ، كما أن هناك باب لمساعدة المحتاجين من المرضى لمساعدتهم لإجراء العمليات الجراحية أو شراء الأدوية اللازمة ، كل ذلك تقوم به الغرفة وهو جزء من ممارستها المهنية تجاه الأسر التجارية وبدافع التزامنا نحو ابناء مدينة بابل الفيحاء . س : أستاذ صادق أنك تتحدث عن مال ليس بقليل وحقيقة أنا مطلع على كثير من هذه التفاصيل كدعم المهرجانات الوطنية ، واستضافة كبار الشعراء والمثقفين العراقيين ، وعقد جلسات ثقافية اجتماعية كثيرة ، وكما تحدثت عن دعم الرياضة والفن والآداب ، وسؤالي من أين مصادر تمويل الغرفة ؟ . ج : الغرفة لا تتلقى أي دعم حكومي أو من أي مؤسسة دولية أو عربية أو محلية وكل أموال الغرفة تتحقق من اشتراكات التجار ومن استثمارات الغرفة حيث تمتلك عمارة تجارية وساحة لوقوف السيارات وكذلك من الانشطة المختلفة التي تقوم بها الغرفة وتتقاضى عنها أجور خدمة ، وتوظف هذه الايرادات لتغطية رواتب الموظفين والأنشطة العامة التي تقوم بها الغرفة ، إضافة الى صيانة أبنية الغرفة وإنشاء القاعة التي تشيد حاليا بمساحة تقرب من ( 3000 ) ثلاثة ألاف متر مربع . س أستاذ ابو جعفر على ذكر القاعة متعددة الأغراض ماذا ستفيد الغرفة لاحقا ؟ . ج : المشروع الذي تقيمه الغرفة حاليا عبارة عن قاعة متعددة الاغراض على مساحة ( 1000 ) م2 ، طابقين ، وصالة استقبال ، ومجموعتين صحيتين ، وقاعة مداولة ملحقة بالقاعة ، ومخزن ، وإدارة ، وهو مشروع استثماري سيستغل لإقامة الاجتماعات والندوات العامة وللعرض الداخلي للمعارض التجارية والثقافية والعلمية ، وربما سيستخدم كسوق موسمي أو وقتي لأيام أو أسابيع إذا طلبت منا بعض الشركات إقامة مثل هكذا أنشطة ، وبالتالي يمكن أن يعود للغرفة بواردات تدخل في ميزانيتها لتحقيق الاهداف الاقتصادية التي تطلّع بها الغرفة . س : أستاذ أبو جعفر من المؤكد أن مثل هكذا نشاطات اقتصادية ستزيد من رأسمال الغرفة ومدخولاتها المالية عند انجازها ، ما هي تطلعاتكم المستقبلية في استغلال هذه الاموال ؟ . ج : في الحقيقة لدينا طموحات كثيرة وكبيرة للنهوض بمستوى اداء الغرفة ، والقيام بمشاريع عديدة أسوة بالغرف التجارية في العالم المتقدم والمتحضر ، كامتلاك أرض معارض كبيرة نعمل الان على استئجارها مساطحة من بلدية الحلة أسوة بالمعارض في العديد من دول العالم ، كما نخطط لإقامة كلية مهنية باختصاصات تصب في المجالات الاقتصادية أو التكنولوجية التي تساهم في تنمية المحافظة وتطوير الايدي العاملة في المجالات التجارية والصناعية ، أو معهد تدريب مهني لتطوير العاملين في هذه القطاعات كما هو معمول به في الدول الاوربية ، أو امتلاك فضائية أو قناة إذاعية للدعاية والإعلان التجاري ، وكثير من المشاريع التي يحول دون تنفيذها الإمكانيات المالية . س : أستاذ صادق هاشم الفيحان رئيس غرفة تجارة بابل أثقلت عليك كثيرا بأسئلتي الطويلة والمتشعبة ، وربما جعلتك تبوح بأسرار لا تريد أن تنشر هذه الأيام ، وسؤالي الأخير هو ، هل أنت كرئيس غرفة تجارة بابل مقتنع بما تؤديه من عمل ؟ ، وهل تجد ان مجلس الادارة متعاون معك ومع الجميع لإنجاح عملكم التضامني ؟ . ج : أنا في تقديري أنه مهما كان رئيس الدائرة أو المؤسسة فاعلا ومتمكنا مهنيا وعلميا لا يستطيع أداء مهماته وواجباته بالشكل المطلوب وبدون التعاون مع العاملين معه سواء كانوا اعضاء مجلس ادارة او موظفين ، ونحن بفضل الله نعمل كفريق عمل واحد ، وكذلك العلاقة بين مجلس الادارة والموظفين في الغرفة نشكل عائلة كبيرة يصل تعدادها الكلي الى خمسين شخصا من الرجال والنساء ، حمدا لله أذ جعلنا أسرة متعاونة متحابة تعمل لخدمة مدينتها الفيحاء ، وخدمة للصالح الوطني العام . *1 : أنهيت تحقيقي عن القاعة متعددة الأغراض الساعة ( 12 ) ظهرا يوم الثلاثاء 4 / 9 / 2012 م ، الساعة الواحدة ظهرا من نفس اليوم غادر السيد جاسم مطر أبو خمرة متوجها لداره ، قبل وصوله للدار أحس بألم في صدره ، أقترح على سائقه إيصاله لمستشفى مرجان للأمراض القلبية والباطنية ، أدخل لردهة الإنعاش الساعة الثانية بعد الظهر ، فارق الحياة الساعة الثالثة بعد الظهر . *2 : تثمينا للجهود الشخصية المميزة التي بذلها السيد جاسم مطر أبو خمرة نائب رئيس غرفة تجارة بابل قرر مجلس إدارة الغرفة تسمية القاعة متعددة الأغراض بأشم الراحل ( جاسم مطر أبو خمرة ) .

الثلاثاء، 4 سبتمبر 2012

لوحات بصراوية بريشة نجدية-أبو عبد الله النجدي

لوحات بصراوية بريشة نجدية
قرر أبي (رحمه الله) أن ننتقل في خمسينيات القرن الماضي من الزبير إلى البصرة, فشعرت حينها بتغيير جذري مفاجئ أسلمني إلى حيرة لم يتحملها عقلي الصغير, فقد هالني ارتفاع المباني, وسحرتني شناشيلها, وبهرتني واجهاتها الخشبية المزركشة, وتهت وسط الزحام مندهشاً متسائلاً: من أين جاءت هذه الجموع البشرية الغفيرة ؟. . 7.JPG كان سوق المغايز, أو ما يسمى (سوق الهنود) أشبه بخلية نحل, ترى الناس فيها يتدافعون بالأكتاف, في مشهد لم نألفه في الزمن, الذي كانت فيه شوارع الزبير الترابية خالية من التجمعات البشرية الهائلة, فالبيوت الطينية هناك لا يزيد ارتفاعها على طابق واحد, وتكاد تكون شبه موحدة من حيث التصميم والمواصفات العامة. . في البصرة, افتقدت ضوء الشمس, وموجات الغبار, واشتقت لبساطة الحياة الفطرية, وهدوئها المريح, فلا ضجيج في مدينة الزبير, ولا سيارات, ولا تسمع نداءات الحمالين وزعيق العتالين الأشداء, وهم يحملون البضائع الثقيلة على ظهورهم, ولا يزعجك دوي الشاحنات المحملة بالبضائع, ولا عربات الحمل المتكدسة في سوق العشار, حيث كنا نسكن في قلب السوق الكبير وسط المحال التجارية المزدانة بالبضائع, في بيوت عالية فسيحة مؤلفة من طابقين, بنوافذ خشبية كبيرة ومظللة. . أحسست بالفارق الجذري الكبير بين بيوتاتنا الطينية البسيطة في ضواحي مدينة الزبير, وبين هذه الواجهات الحضارية, والمكاتب التجارية, والشوارع المكتظة بالناس, فلم نعد نستعمل المراوح (المهافيف) اليدوية, ولا جرادل المياه (السطول), فقد حلت محلها الحنفيات المتدفقة بمياهها الرقراقة بلا انقطاع, والمراوح الكهربائية بأجنحتها المحلقة في سقوف الغرف. . 8.JPG في الليل تشع أنوار المصابيح البلورية, وتفوح روائح البضائع من المخازن المتخمة بالمواد التجارية المستوردة, حيث تختلط رائحة الليمون العماني برائحة الشاي السيلاني, والقهوة البرازيلية فتمتزج بعرق المارة, وتتداخل مع نداءات بائع اللبن الرائب, الذي كنا نشتري منه ما نريد, ومن العجب العجاب انه كان يترك لنا الأواني كي يستعيدها في اليوم التالي من دون أن يخشى ضياعها أو سرقتها, فالبصرة مدينة الأمن والأمان في ذلك الزمان. . في الصباح, أيام العطلة الصيفية, كنا نتسكع في السوق الكبير, نشاهد البضائع بأشكالها وأنواعها, فالدكاكين ممتلئة بما لذ وطاب, نقف أمام دكان الحاج (ذنون المصلاوي), الرجل الأصيل بوجهه الباسم, وجسمه الممتلئ, وحزامه المشدود دوما على بطنه, عيوننا ترمق بضاعته بشغف ظاهر, فيبتسم وينادينا ليقدم لنا قطعة نعناع يسمونها) البرميت), لا ادري سبب التسمية, كانت البساطة سمة من سمات البصريين التي لا تعرف التكلف, فالكل يبتسم حتى بائع الخضار والفاكهة. . كنت أتطلع إلى واجهات المحال التجارية متفقدا معروضاتها المتنوعة, حتى أصل إلى بائع شربت الزبيب المكتظ بالزبائن, وحينما يحالفني الحظ بامتلاك ما يكفي من النقود, أهرع لشراء كأسا عذبة منه, فارتشفها على مهل, بلذة غامره حتى الثمالة. . اعتدت الجلوس على الرصيف القريب من بائع الشربت أمام محل (أديب خلف) بائع اسطوانات الغناء, استمع إلى حضيري ابو عزيز, وصديفة الملاية, والقبنجي, وعبد الوهاب, وهو يصدح بصوته الرخيم (يا وابور قلي رايح على فين, يا وابور قلي جاي منين). كنت أحب التجوال متفقدا الأسواق والحارات, حتى الفت الضجيج, واعتدت على رؤية الآلاف في الأسواق كأسراب النحل, فتقودني أقدامي إلى جسر العشار, اعتدت النظر هناك إلى ذلك المتسول الأعمى, الذي كان يقف وسط الجسر مع ابنته الشابة بجسده الممتلئ وسدارته المعهودة, كان هو وساعة (سورين) معلما ثابتا من معالم جسر العشار. . 9.JPG نهر العشار, وما أدراك ما نهر العشار, لطالما سحرني هذا النهر, وأرغمني على الوقوف طويلا أمام انسياب مياهه العذبة, ورؤية الأطفال يقذفون بأنفسهم ضاحكين, فكنت أغبطهم لأني لم أكن أجيد السباحة. كانت لي ذكريات وذكريات في هذا النهر المتفرع من شط العرب, والذي يمتلئ بمياه المد ليصل إلى البصرة القديمة, يجذبني أحياناً منظر الأسماك وهي تحوم حول قطعة خبز طافية تنافسها عليها طيور النورس المشاكسة, فكنت احتفظ في جيبي ببقايا الخبز لإطعامها, كان في نظري أجمل أنهار الدنيا, لكنه صار اليوم مستودعا للنفايات, ومكباً القاذورات. . كانت شريعة البهرة تحتضن مرسى القوارب العشارية, والبهرة: طائفة هندية من فرق الشيعة, يأتون كل عام بواسطة البواخر, التي اعتادت الإرساء على رصيف العشار, فيستقرون مؤقتاً في خان كبير يجمعهم كلهم, يسمى خان البهرة في مكان لا يبعد كثيراً عن مطعم بومباي الهندي, الذي كانت رائحة طعامه تجلب الجياع والمتخمين, كنت ارقب جموع الهنود (البهرة) من رجال ونساء وأطفال, تدهشني ملابس نسائهم, التي تشبه ملابس الراهبات في القرون الوسطى, اشاهدهم كيف يستعدون لركوب الباصات الخشبية للذهاب للنجف وكربلاء, في الواقع كنت فضوليا في تقييمهم من حيث ملامحهم ومظهرهم, فلم أجد بينهم لا في الرجال ولا في النساء ملامح جمالية, كانت الفتيات الصغيرات شاحبات الملامح, يفتقدن الجمال الهندي المعروف, وكان الرجال يتعاملون مع النساء بخشونة وصرامة غريبة, أدركت حينها إن البصرة بوابة العراق ونافذته المطلة على العالم. . في شريعة البهرة حيث الأبلام العشارية المنسابة فوق سطح الماء بمظلاتها تحمل المتنزهين, كنت أتمنى أن أقوم بجولة نهرية بقارب يحملني إلى شط العرب, لكنني كنت صغيرا, ففاتحت والدي برغبتي, فطلب من احد الخدم مرافقتي وأعطاه أجور النزهة. . حينما كان البلم العشاري يمخر عباب شط العرب, جلست مأخوذا بجمال مناظر أشجار النخيل والمراكب والبواخر, التي هالني حجمها وهي تشق الماء في طريقها إلى المرفأ, تعرفت لأول مرة على رائحة الشط فعشقتها, وكنت أمد يدي لارتشف جرعات من مياهه الرقراقة متأملا عظمة الخالق, فارتبطت منذ ذلك الوقت بعشق غريب للجداول والنخيل ورائحة شط العرب. . 10 كانت الرحلة أشبه برحلة سندبادية, رويتها لأصدقائي في مدينة الزبير, فتجمعوا حولي وكأنني قادم من جزر الواق واق. . في البصرة وجدت نفسي أتأقلم بسرعة عجيبة, وكأنها انتقالة نوعية لطفل عاش سنواته المبكرة في بيئة قاسية, وتقاليد متشددة, كان من النادر أن نرى النساء كاشفات الوجوه في مدينة الزبير, ومن المستحيل اختلاط الجنسين من الأطفال حتى مع الأقارب, لكن استقراري في هذه المدينة التي لم يهدأ ضجيجها, ومشاهدتي النسوة كاشفات الرؤوس, وأحيانا لا يرتدين العباءات, خصوصا نساء اليهود والمسيحيين, غيرت نظرتي بأن المرأة ليست جسداً متسربلاً بغطاء اسود, فقد كانت جاراتنا يهوديات يحترفن الخياطة, يخرجن للشارع بكامل زينتهن من دون أن يجلبن انتباه العيون الشرهة, فكنت أتعمد الوقوف أمام بيوتهن حينما يخرجن متبرجات, فانتهز الفرصة لتنسم شذى العطور التي تفوح منهن, كنت أتساءل ببراءة الأطفال, هل العطر حكر على هذه النسوة ؟. . في الليل أمضيت ليال طويلة أعاني من الأرق, لم أكن قد الفت النوم بعد في سرير تحجب فيه الناموسية عالمي السحري, وتمنعني من مراقبة النجوم, والاستمتاع بطراوة نسمات الليل تحت ضوء القمر, في المساء تشتد الرطوبة ويضطر السكان لوضع الناموسيات اتقاءً للذعات الناموس, كنت أظل مستيقظا لساعات متأخرة تقطعها دقات ساعة سورين وهي تشير إلى منتصف الليل, فتغرق البصرة في سكون عجيب لا تقطعه إلا أصوات زفرات مكائن الطحين, وصدى غناء البحارة الخليجيين في سفنهم الخشبية, حيث يقضون أمسياتهم بالغناء, لم نعد نسمع نباح الكلاب وعواء الذئاب في بر الزبير, ولم نعد نرقد في أسرتنا المكشوفة بلا تلك الناموسيات. . لقد شكل انتقالنا منعطفا سحريا في حياتنا بالنزوح من حياة القرية لحياة المدينة, لكنني مازلت أتوق لحياة البرية مشدودا البساطة والدعة والقناعة, فلم تكن لدينا تطلعات برفاهية لم نحصل عليها مثلما وجدنها في البصرة, حيث وجدت إن نقود الإنسان تخدمه, فتأكدت من انك إن لم تدفع لن تأخذ ما تريد, فقد كنت في البصرة اشتهي أمورا كثيرة لم أجدها في حياتي في الزبير, كنت أحب تناول الحلويات, وكانت الأسواق عامرة بعروضها المغرية, وحينما احصل على مصروفي اليومي المتواضع وهو (آنه) أي أربعة فلوس تظل الحيرة تتقاذفني بكيفية التصرف بها, هل اشتري شربت الزبيب, أم كأساً من الايسكريم الأزبري, أم اشتري بها سمبوسة هندية حارة من مطعم بومباي ؟, وحينما تجود على والدتي بعشرة فلوس تدسها بيدي سرا لئلا يعرف جدي, الذي كان شعاره الدائم: إن الفلوس تفسد الأطفال, كأني اسمع صوته الودود يتردد في مخيلتي, وهو يصيح بنا: اخشوشنوا فأن الترف يزيل النعم. . كانت العلاقات بين أبناء المحلة علاقات ود ومحبة, فقد كانت تضم مسلمين بشتى مذاهبهم, ومسيحيين ويهود وصابئة, وكان الشجار نادرا ما يتجاوز الكلمات, تدفعني طبيعتي البدوية أحيانا إلى التدخل بمشاجرات لا ناقة لي فيها ولا جمل, خصوصا حينما أشاهد طفلين يتشاجران بعنف, احدهما اكبر سنا وأقوى جسدا من غريمه, الذي لا يملك وسيلة للدفاع عن نفسه, فأتدخل لفض الاشتباك بين المتنازعين, وسط تحريض رفاقي على أن اتركهم وشأنهم ليشاهدوا نتيجة الصراع, فأقف بين الخصمين محاولا إبعادهما, وأحيانا أنال صفعه طائشة من هذا أو ذاك, فأسعى دائما لإيقاف المعركة بحيادية, فإن وجدت تجاوبا وانفض الصراع, وذهب كل منهم في سبيله, أتنفس الصعداء وتنتهي مهمتي, اما إذا أصر احدهم على الاستمرار في الشجار, حينها أكون طرفا فيه, فينال المعتدي ما يستحق من لطمات وركلات, وقد يسفر الشجار عن كر وفر, وتمزيق ملابس وكدمات. لم أكن اشعر بأنها علامات شقاوة, بل إحساس بنصرة الضعيف على القوي, وكان والدي يحذرني من التدخل في أمور لا تخصني, حتى لا أتسبب بإحراج الكبار. . كانت البصرة حينها جنة وارفة الظلال, خير عميم, وعلاقات جيرة ووئام ومحبة, وهكذا سار الأطفال على نهج آبائهم, فلم نتشاجر ولم تتكدر الخواطر, بل كنا فسيفساء عراقيه مصغرة, لا فرق بين هذا وذاك, لا بمذهبه, ولا بعرقه, ولا بانتمائه. . كانت إحدى نساء الجيران تجيد صنع طرشي الخيار, الذي كان يسيل له لعابنا, وكنت افعل المستحيل لشراء بضعة خيارات أتناولها قبل الغداء كفاتحة للشهية, لم يكن في بيع الطرشي ما يعيب, بل كنا نسعى لنظل زبائنهم رغم ضيق ذات اليد, كانت (الصمونة) وطرشي العمبه وجبة لا تُقاوم, خصوصا إذا كان الطرشي من دكان عمر الهندي, الذي تنتشر رائحة بهاراته لمسافة بعيده قد تصل إلى التنومة, فيتسابق الزبائن لشراء المنتجات والبهارات الهندية, التي لا تخلو منها مطابخ البصريين .كانت الأسماك خلال إقامتي بالزبير لا تشكل وجبة غذائية, إذ نادرا ما يتناول أهل نجد الأسماك حتى في موسم الصبور, الذي دخل بيوت النجديين بوقت متأخر. . لقد تناولت ولأول مره وجبة التمن العنبر بالسمن والزبيدي, فأعجبني مذاقها رغم تمسكي بوجبة التمن واللحم, ووجدتها تغييرا رافق التغيير المفاجئ في أسلوب حياتنا, وجدت الكثير من الأطعمة ذات مذاق غير مألوف خصوصا التمن المخلوط بالروبيان بالبهارات والهيل والزعفران, من تلك الأطعمة البحرية التي لم نألفها, فشكلت قفزة نوعيه في تذوق الطعام, فالنجديون لم يألفوا البحر ولا منتجاته . كان السمك القطان المشوي على الموائد تخفق له القلوب, فحل محل كتل اللحم والخضروات, خصوصا إذا ازدانت الموائد بطرشي (أبو الخصيب(, وكلما استقر بنا المقام كلما اكتشفت عالما جديدا من معالم الطعام, لم تكن المائدة النجدية شحيحة في مكوناتها, لكن للنجديون أطعمة تقليديه جاءوا بها من صحراء نجد, مثل الجريش, وهو قمح مدقوق يطبخ مع الخضروات الطازجة واللحم, إضافة إلى وجبة تتشابه في مكوناتها وهي (المرقوق), و(المطازيز), وتصنع من العجين يقطع على شكل دوائر, ويطبخ مع الخضروات وعصير الطماطم واللحم, وتكاد تكون تلك الوجبات مقصورة على أهل نجد إضافة إلى التمن المخلوط بالماش أو العدس, مع عصير الطماطم السميك بالفلفل الحار, والذي يصر أهل الكويت على انه وجبة كويتية, تسمى (الموش), و(الدقوس), وهي بالأصل وجبة نجديه أصيله, ويبدو لي إن أهل نجد لم يفكروا بتسجيلها كعلامة تجارية مميزه .. كانت هذه انطباعات طفل نجدي لا يتجاوز السابعة تجول بقلبه وروحه وبدنه في مدينة خرافية, كانت تسمى البصرة الفيحاء, وكانت تتباهى بزينتها, وجمالها الأخاذ, وتزدان ببساتينها ومرافئها وجداولها المتدفقة بالخير والعطاء. . 11 كانت بندقية الشرق فخنقها دخان البنادق, وجفت سواقيها, وغرقت سفنها في منعطفات شط العرب, لكنها لم ولن تفقد هويتها العربية الأصيلة, ولن تتنازل عن مكانتها التاريخية التي تبوأتها في عصور الازدهار والتألق. . . والحديث ذو شجون --

الخميس، 30 أغسطس 2012

لوحات فنية كاريكاتورية تتميز بالاداء التشكيلي العالي وعمق الفكرة


إضاءة- ( من بره هلّه هلّه ، ومن جوه يعلم الله !!!مستشفى الحلة الجمهوري )-حامد كعيد الجبوري

إضاءة ( من بره هلّه هلّه ، ومن جوه يعلم الله ) !!! ( مستشفى الحلة الجمهوري )
بعد أن استنفذنا الأمثال الشعبية العراقية بالسلبيات والإيجابيات أن وجدت بمسيرة الحكومة العراقية لجأنا الى الأمثال المصرية التي تنطبق على الواقع العراقي المر والمتعمد ، نفوس محافظة بابل يربو على 1800 مليون وثمان مائة الف ، موزعون بين أقضية ونواحي ومركز مدينة بابل الحلة ، وربما أن سكان قضاء الحلة يصل لحوالي المليون بشر ، ومؤكد مثل هذا العدد من البشر يحتاج لخدمات إنسانية متواصلة ، سنترك كل الخدمات ونسلط الضوء على الجانب الصحي فقط ، لم يكن بخلدي أن أثير مثل هكذا تساؤلات ألا بعد أن وقفت وجها لوجه أمامها ، قبل ثلاثة أشهر نقلت أحدى أقاربي لمستشفى الحلة الجمهوري وهي تشكوا من أعراض الزائدة الدودية ، وصلنا المستشفى حوالي السابعة مساءا ، بعد الفحص الأولي قرر الدكتور الجراح أنها بحاجة لإجراء العملية وبصورة سريعة ، أجرينا لها الفحوصات الأولية التي أرادها الدكتور وبقينا ننتظر أجراء العملية ، ومريضتنا تتلوى من شدة ألم الزائدة ووصلت لحد الغثيان والتقيؤ ، ونحن نترجى فلان ونستعطف الآخر دون جدوى ، ليس السبب بإهمال الدكتور ولكن السبب أن صالة العمليات الوحيدة في المستشفى مشغولة بأجراء عمليات أخرى ولمرضى ينتظرون أجراء عملياتهم لمثل هكذا حالات ، ردهة الطوارئ مكتظة بعشرات الحالات ، تسمم ، طلق ناري ، حوادث سيارات ، طعنة سكين أو طلقة متخاصمين ، الكل ينتظر الدور لإجراء عملياتهم المستعجلة ، طبيب جراح مختص واحد يعاونه الأطباء المقيمون ، بعد الساعة الثالثة فجرا وحمدا لله دخلت مريضتنا لصالة العمليات وكنا نعتقد أن الزائدة الدودية انفجرت داخل أحشائها ، نقلت مريضتنا بعد العملية الى الطابق الجراحي الثالث ، المصعد الكهربائي معطل ، لا بأس هناك مصعد خاص للعلميات ، هرعنا الى الطابق الثالث متسلقين السلالم ، فوجئنا أن الممرض المختص يقول أريد أمبولة ( بسكوبان ) الى المريضة ؟ ، قلنا أين نجدها قال الصيدلية الخارجية المقابلة للمستشفى ، والحمد لله تكللت العملية بالنجاح وخرجت المريضة في اليوم التالي لبيتها ، أمس ليلة 28 ، 29 / 8 / 2012 م شكى أخي من ألم في بطنه ، راجع اختصاصي باطنية وكانت نتيجة التشخيص انسداد في الأمعاء ويجب الدخول الى المستشفى ، ذهبنا به لمستشفى الحلة الجمهوري الجراحي وأكد الجراح تشخيص اختصاصي الباطنية ، لا يمكن بأي حال أن نلوم الكادر الطبي لأنه متفان بعمله ، اختصاص الأشعة وجدت لديه أجهزة حديثة سألته أين تدربت على هذه الأجهزة ؟ ، قال هنا في المستشفى والكادر الذي ذهب الى الخارج للتدريب لم يباشر عمله معنا ، ولا يزل المصعد الكهربائي معطل ، سبحان الله الأرصفة جديدة ، الأسيجة جديدة ، المكاتب كلها جديدة ، بناء قاعات أخرى ، سألت لماذا ؟ ، قالوا لأنه أسهل شئ لصرف المبالغ التي ترصد من وزارة الصحة هي هذا البناء الذي يصرف هباء ، أيها السادة لا نحتاج هذه الصرفيات غير المبرمجة ، نحتاج لمصاعد تستوعب الناس ، نحتاج لأكثر من صالة للعمليات ، نحتاج لأكثر من جراح خفر ، نحتاج لأكثر من صالة ولادة في مستشفى الحلة الجمهوري ، نحتاج للرفق بصرفيات التعمير ، لا نريد بناءا من الطابوق ، نحتاج بناءا للإنسان والوقوف على خدماته الصحية ، للإضاءة .......... فقط .

السبت، 25 أغسطس 2012

إضاءة-ما لم تنقله الفضائيات-حامد كعيد الجبوري

إضاءة ما لم تنقله الفضائيات
حدثني بمن ... أثق به كثيرا وبعنعنة موثقة جدا يقول ، حدثني الفيل بن الفيلة ، نقلا عن الحمار بن الحمارة ، مصدره الفرس بن الحصان ، عن البغل أبن أخت الحمار قائلا ، أنقذت الحكومة العراقية الوطنية المنتخبة جزاها الله خيرا العملية السياسية التي بناها العراقيون ( طابوكة طابوكة فوك روس الخلفوهم ) ، ولولا أن تتدارك الحكومة ما حدث في البرلمان العراقي الذي أختلف لأول مرة ، نؤكد أول مرة في حياته داخل قبة البرلمان ، البرلمان متفق على توزيع الحقائب السيادية وغيرها بين الكتل ، ومتفق على قرصنة وزرائهم على المال العام وبعلم الجميع ، ومتفق على أن يبنوا الأمن العراقي الوطني بطريقة ( دمج ميليشيات ) أحزابهم من الأميين والمتخلفين وأصحاب السوابق ضمن الحلقات الرئيسية لدوائر الأمن والجيش والشرطة ، ومتفقون ، ومتفقون .... ألخ ، ومن عجائب الدنيا هذه الأيام أن يختلف البرلمان العراقي بسبب جوهري وحيوي وانتخابي جدا ، أراد الأخوة البرلمانيون الكورد أن يمنحوا كل عائلة كوردية تحت قبضتهم الحديدية وغيرها من العراقيين مبلغا من المال مقداره 100 دولار أمريكي للعائلة بمناسبة عيد الفطر السعيد لهم البرلمانيون ، وقرروا الانسحاب من العملية السياسية ما لم يؤخذ بمقترحهم الوطني ، وثارت ثائرة القوائم السنية البرلمانية ، وقالوا وهددوا بتعليق عضويتهم في البرلمان ما لم يعطى لكل فرد عراقي 30 دولار أمريكي ، وأما القوائم الشيعية المحبة لمذهبها والنادبة و ( اللاطمة ) ( حسينها ) صباح مساء هددت بالتآزر مع بقية الكتل البرلمانية وسوف تسحب ثقتها من رئيس الوزراء ما لم يتم تنفيذ مطلبها الجماهيري المرسوم ، ولأنها تريد أن لا تتوافق مع طلبات البرلمانيين الآخرين فقالت على الحكومة أن تدفع 50 دولار لكل فرد عراقي ، رافعة سماء المنحة كما رسمت من الآخرين ، والغريب أن لا أحد من الفضائيات كان في قبة البرلمان لنقل هذه الأخبار التي تسر وتفرح الشعب المبتلى بالكهرباء والخدمات والإرهاب ، وحمدا لله وصلت كل هذه الأفكار بقدرة قادر عليم للحكومة العراقية الرشيدة والراشدة ، فقررت الاجتماع فورا لتدارك وتلافي هذا السقوط الحتمي للحكومة والبرلمان والعملية السياسية برمتها ، وقدم سعادة وزير المالية لفخامة رئيس الوزراء المقترح التالي ، نجمع المبالغ المطلوبة 100 دولار زائد 30 دولار زائد خمسون دولار فتكون النتيجة 180 دولار ، ولأن الحكومة الرشيدة أرادت إجهاض هذا التآمر المراد منه إسقاط هيبتهم ودفاعا عن هذه الهيبة ، لذا أقترح أن يعطى لكل رب أسرة 80 دولار ولكل فرد من أفراد العائلة 50 دولار ، وبلغت الوزارات بالأعمام والمصارف لتنفيذ الأمر ، وهكذا انتشلت الحكومة العراقية الموقف الذي كاد يؤدي بالبلاد لهاوية محتومة ، وأخرست الأصوات النشاز ، للإضاءة ....... فقط . استدراك : كذبة العيد السعيد تيمنا وتجذيرا لكذبة نيسان

قصة قصيرة-أنا قتلت الإمبراطور-عادل كامل

قصة قصيرة أنا قتلت الإمبراطور
لم يثر القصر، فيّ ، رهبة أو ريبة ، بل ولم أتردد ، أو تراودني فكرة التراجع. كان يبدو لي مثل جرة كبيرة، جرة مزخرفة بطلسمات وحزوز وأشكال هندسية منتظمة ، فخطر ببالي ، انها، كالتي في بيتنا. كانت خزانا ً غريبا ً لحفظ الحبوب والزيوت والحوم . وكدت اضحك ، لأن القصر لم يعد فخما ً أو مثيرا ً للأبهة والفخامة ، لولا انني تداركت ، ان جدي الذي قتل غدرا ً ، والذي كان قد شارك في حروب القوقاز في أعالي جبال روسيا ، والأنضول ، قد عثر على جرة لم تكن سجنا ً للمارد الاكبر ، الذي كان من يعثر عليه تتحقق له أمنيات العمر ، بل كانت محشوة ، حد استحالة تفكيك محتوياتها ، بليرات وقطع تحمل صورا ونقوشا ً لملوك غريبي الاشكال .. ولا أحد يعرف ماذا فعل جدي بها ، مع اننا لا نستبعد انه أعادها الى دجلة ، الذي يقع بيتنا بمحاذاته . كان القصر جرة أسرار ، دار بخلدي ، لكن القصر لم يثر فيّ أسئلة .. فأنا كنت أحتفظ ، داخل رأسي ، بزوايا ومناطق أعرف كيف أرتب فيها أفكاري وأسراري .. وغاب القصر ، وغابت الجرة ، عندما دفعت بجسدي النحيل نحو الباب ، ومشيت متمهلا خشية أن اقع في كمين ، أو أقع متلبسا ً في فعل لا مناص قد يجرجرني إلى الفضائح . ثم دفعت جسدي ، ونظرت إلى الوراء : كان الفجر باردا ً، وأشعة الشمس مازالت تحمل رائحة بثت فيّ شجاعة التقدم ، حيث لم أشعر إلا وأنا لصق جدار حفرت عليه أشكال كائنات داخلة في صراع أثار في ّ قشعريرة الهزيمة ونشوة النصر . حدقت بعمق بحثا ً عن الإمبراطور .. فلم أجد ، أمامي ، إلا كائنا ً ضخم الجثة يصدر أوامره ، الى جنده ، ومن حوله ، قادته ، وقد تقدمته كوكبة من الفرسان والاسود . آ ... لا أعرف لماذا بدا لي المشهد مسليا ً ، لا لأنه من الماضي ، بل لأنني حزنت ان تذهب الأساطير ، كجرة جدي ، وتختفي ، بكنوزها . فكرت ان هذا الذي أراه ، الذي أراد أن يكون صخرة تتحدى الزمن ، لا يبعث في ً الآن إلا ذكرى غامضة ، تركتها تغيب وتأخذ مكانها في الحفظ . كان الإمبراطور القديم يرسل نظراته الى الأمام ، كأنه يحثنا على التقدم . بيد إنني ، وأنا أستدير نحو مكان ضيق ، فكرت في الكائن الذي كنت اقصده ، وليس الذي تحول الى أثر ، هذا الذي أحفظ كلماته كاملة ، كأنها دوًي الرعد بعد أزمنة جدباء . - (( ماذا تفعل هنا ؟ )) كان هو ذا صوت صديق والدي ، وقد لامس جسدي من الخلف ، فحدقت في عينيه ، نافذا ً داخله حتى جعلته يكتم صوته داخله . قال - : (( ستنفذ خطتك بمفردك إذا ً ؟ )) لم أسمح له أو لنفسي بفسحة تردد : - (( أجل )) لا أعرف كيف ومتى تعلمت إن الكائنات تنقسم الى قسمين لا أكثر ، النوع الذي يمتلك الفعل ، زمنه ، والآخر ، الذي تذره الرياح وتلعب به العواصف . وأنا لم اختر إلا الذي قدره ألا يكون صلبا ً ليتحطم وأن لا يكون رخوا ً ليزول ، لكني لست نوعا ً ثالثا يقبل التصدع . عندها عدت الى نفسي ، فلم أجده . غاب الآخر . فلم أعر الأمر أهمية تذكر . دفعت جسدي الى الأمام ، نحو باب مصنوع من الخشب وقد شغل بعناية كأنه مرقد . أمسكت القفل .. كانت نقوشه دائرية ، وفي الوسط ، وجوه متداخلة يحار المشاهد في تفسيرها . آ ... اللعنة على من صنعك كم كان يفكر في إضاعة وقتي .. بيد أنني اجتزت الباب ، بخفة . فالقفل صار بين أصابعي عجينة طرية ، وتركته سائلا ً ذاب في الأسفل . ها أنا في القاعة الكبرى .. وفي الوسط ، تقع منصة الإمبراطور .. كان جدي لوالدي يقول : لا تدع نفسك ، وأنت تنظر في محيا جلالته ، ان تنشغل بما هو منشغل فيه ، ولا تحدق في عينيه ، فالإمبراطورية كلها ستنقلب ضدك . لكن لا أحد هناك .ز اقتربت من المقاعد المجاورة ، حيث ، في الأسفل ، جرار متراصة .. حتى كدت أسأل نفسي : ما معنى قصر ؟ لم اسمح لنفسي ان تلهو ، فانا حرصت ألا أكون ضحية أخطاء ، ما ، حتى لو كانت صائبة. - (( هنا سيجلس الإمبراطور .. )) رحت أرتب الاحتمالات ... مكان الحرس ، والحرس السري .. الحرس الاستثنائي .. الحرس الخاص .. والحرس الذي يشرف على الجميع .. لأنني ، في الحالات كلها ، لن أكون مرئيا ً .. أو هكذا على ّ ان أكون ، عندما أتقدم من جلالته وأقوم بتنفيذ خطتي . لكن ماذا لو فشلت ؟ لم أفكر .ز بل كنت قد ألغيت فكرة الفشل وأية طريقة للخلاص . لقد عزمت ان أكون ضحية توازي الفعل . فالهرب أو التفكير بالخلاص لا يعد الا رذيلة لمثل هذا الفعل . القتل . القتل المقدس . بيد إن صوتا ً غامضا ً أخترق جدران أفكاري ، كان واضحا ً ، قويا ً ، بدأ يرن ، ليبلغ درجة الأذى . فأغلقت المنافذ ، لكن ، بلا جدوى ، فقد كنت أنا الذي أستدعيه ، عبثا ً ، في لحظات تسبق تنفيذ الفعل .. وتركته يرتفع : [ لقد رأيت الإمبراطور - وهو روح العالم – يخرج من المدينة لكي يذهب مستطلعا : وانه ، في الواقع ، لإحساس خارق رائع يحسه المرء إذ يرى فردا ً مثل هذا متمركزا هنا في نقطة ، ممتطيا ً صهوة جواد ، يمتد الى العالم ويهيمن عليه ] * عدت أتفحص المكان ، وأنا أعود لا أصغي الى أحد . كنت واضحا ً مثل أفكاري تماما ً .. ففي الأسبوع القادم ، في مثل هذا اليوم البارد ، سيلقي جلالته خطاب القرن .. وسأكون جالسا في الترتيب الذي يقع خلف حاشيته ، هنا ، فوق مقعد فخم حفرت عليه نذر التنفيذ .. وماذا .. ؟ كانت محض كلمات عابرة .. فأي نذر هذا الذي أتكلم عنه قبل التنفيذ . هنا ، ومن هنا .. ستكون المصائر قد أخذت ترتيبها في الواقع .. جاء صوت صديق والدي ، يكرر كلمته الأولى : - (( ستنفذ خطتك بمفردك إذا ً ؟ )) في شرود نادر بين الفعل الجمعي والفردي الخالص حلمت بالقرار الذي يتضمن الإجابة المحكمة ، أجبت : - (( لا توجد ثغرة عابرة بإمكانها أن تفسد المصائر )) ودار بخلدي ، متذكرا ً ، لعنة حلت على صديق لي أوقعه الخوف في جحيم الموت ، إنه سمح أن يسأل ذاته : أكان هذا هو القرار الوحيد ..؟ لأنه سأل نفسه متابعا ً : وهل كانت هي أحكم الخطط ؟ فتم القبض عليه .. وتعرض إلى حفلات إنتزاع المخفيات .. فسلخ له جلده ..ثم ترك ليستريح، وليشفى ، هكذا ، كانوا ينتزعون الجلد بعد الآخر .. وعندما لم يبق منه إلا العظام ، أعترف انه لم ينفذ إلا دفاعا ً عن كرامة سحقت .. وانه - ودوّنت كلماته وتناقلتها الأفواه سرا ً – لو عاد الى الحياة ، فلن يكرر إلا الفعل ذاته . كان صديق والدي يقف أمامي ، عندما دار بخلدي : أتراه سيخبر والدي .. ؟ لكنه قال لي : - (( أنا لم أر والدك منذ أسبوعين .. قل له ، سأزوركم قريبا ً )) لم أصدق ما حدث إلا عندما كنت طليقا ً تحت السماء .. كم كانت زرقاء حتى أخذت أبكي وأنا احك جلد ظهري بساق شجرة . لكن ماذا لو ذهب هذا الرجل وأخبرهم بالأمر ... ؟ كلا .. لأنه عمليا ً يشاطرني نيتي .. إلا أني أزدت رعبا وأنا لأتساءل : الا يندم ، مع نفسه ، في لحظة ضعف .. أو .. عندما تشتغل دودة الندم في ضميره ، وهو الذي يشغل مركزا ً كبيرا ً في القصر ؟ هل يترتب عليّ إبعاده هو .. قبل .. أن يعيدني بذورا ً كونية مع عناصر الكون ؟ لم أجب .. بل إنشغلت ، لثانية ، تحت زرقة السماء ، وقد دثرتني بحنان أليف ناعم غريب .. آ ... لو لم أولد كي لا أكّلف بمثل هذا الفعل الذي لا يخلو من براءة قابلة للدحض .. كلا .. لأنني صرت ، وأنا أتنقل في الغابة الكبيرة ، ومنها خرجت الى المدينة ، أفكر في الاحتمال الآخر : ماذا لو حدس جلالته ، وأستبصر ، هو ، هو الإمبراطور ، وليس سحرته أو عرافاته ، ما سيحل به .. ماذا ... ؟ لا أحد يصدق ماذا فعلت في الشارع .. لقد أخذت أضرب الأرض حتى فقدت وعيي . كنت أقول في أعماقي : إذا كان جلالته لا يقدر أن يحدس مسار خطتي كاملة ..فأنه ليس إلا شبيها بالذي كان جدي قد أخبرنا حكاية تروى عنه منذ دهر . قال إنه رفض طعاما ً جاءت به سيدة بالغة الفتنة . فقالوا : لماذا لا تتناوله ؟ فقال لهم : إنه طعام مسموم . وعندما جاءوا بالسيدة الى الإمبراطور .. سألها : لماذا هذا الفعل ؟ قالت : لأنني قصدت أن اعرف هل تقدر ان تعرف ماذا عملت لك .. وها أنت تبرهن للعالم كله انك عرفت وانك الإمبراطور حقا ً . فعفى عنها. لكن أحدا ً لم يرها بعد ذلك اليوم . كنت قد أستعدت طاقة احتمال معالجة قضايا ما قبل الموت وبعده ، وأفعال الاطياف داخل أجزاء اللامرئيات ، واللامتناهيات ، وحدوس هؤلاء الذين تصنعهم أندر الاقدار .. وصرت لا أكترث لأي فعل قد يعرض خطتي للعراء والفشل . فوقفت أمام بائع عجوز واقتنيت منه حلوى .. وبادلته الكلمات . كان يهز رأسه وأنا أتحدث عن طيف القدر الذي لا تقدر الأقدار أن تحرفه . لا أعرف أكان قد حدس كلامي : لو كان يمتلك قدرة السلامة فلن يكون لفعلي إلا الإهمال والزوال . هز البائع رأسه وقال لي : - (( ياولد .. عد الى البيت .. أحدهم يناديك .. )) ليس لدّي قدرة الرد عليه . غادرته في الحال . بيد ان مخيلتي جرجرتني إليها . ها انذا أقع في مسار لم أفلت منه . ماذا لو سألني الإمبراطور ، شخصيا ً ، وطلب مني إيضاحات تناسب القرار .. سأبتسم وأقول له : سيدي ، انك تحاكم الذي نذر نفسه للموت ، لأنه سبب الأذى للآخرين ، ولا تسأل نفسك : هل يمتلك الضحية أية قدرة على أفعاله .. ومن ذا الذي جعله لايرغب إلا أن يتلاشى ، وأنت ، سيدي ، تعرف ان الذي يفعل هذه الافعال من أرق الكائنات رهافة ، واكثرهم سلامة عقل ؟ هل توجد لذة خالصة للقتل .. أم قتل النفس هو مسار لهدف أبعد .. أم .. سيدي .. هو لا إرادة خالصة صنعتها إرادات قهرت الإرادة الأولى ؟ سيقول لي : هل جننت أم أصبحت فيلسوفا ً ؟ سأقول حالا ً : سيدي ، أنت قتلت الفلاسفة وسعيت الى .. قتل .. الفلسفة .. وأنا .. سعيت ان أقتل القاتل . سيقول : خذ . سيطلق النار عليّ .. مع أنني ، في تلك الأبديات الخاطفة تخيلت السيف يعبر عبري .. تخيلت الفاصل بين الرأس والجسد .. وتخيلت الرصاصات يستقرّن داخلي : البذور الكونية الاليفات .. هاتفا ً : انه الفعل الوحيد ، ياسيدي ، الذي يناسب أفعالنا . وأنا لم يكن لدّي إلا أن أنجزه حتى نهايته . فان كان لديكم ، خلاف هذا ، فدعني أغادر قصرك . كانت وجوه المارة كالحة ، مدببة ، مثلثة ، تحاصرني ، محاولا ً أن لا أندمج فيها . كانت الوجوه شاحبة حد تلاشيها مع شحوب أشعة الشمس : إنها كانت تسد الطريق عليّ . أدركت ، في برهة ، انني لا أكن لها إلا ضربا من العداء والازدراء وليس عليّ ، إلا ان أكون خارجها . كنت أخشى الاندماج بها والتلاشي معها وهي تبعث موجات من الدوي والضربات المتكررة فوق أسفلت الشارع الصلب . وكنت وحيدا ً. وجلست ، داخل جدران غرفتي ، أمام نافذة نصف مغلقة ، أدوّن أدق التفاصيل التي مرت عليّ. ولا أعرف كيف انتهى النهار ، ليحل الليل ، الزمن الذي أندثر فيه في عمق السكينة . مساءً ، أمام شاشة التلفاز ، ظهر الإمبراطور . كان يتكلم بسعة ، لا يبتسم ، وكدت لا أفكر إلا في عباراته المندمجة التي تجعل الآخر في متاهة . ما الذي يريد أن يوصله إلينا .. والي أنا تحديدا ً ، بصفتي أتمتع بحضور غير زائد أو ناقص بين الموجودات الأخرى .. كان يحدق فيّ .. فسرت في داخلي رعشة باردة جعلتني اكف عن الأسئلة ، واستسلم لمراقبته صامتا ً .. هل كان عليّ أن أغادر ، لأن الإصغاء أليه قد يشكل ضربا ً من التأييد ، وليس مراقبة لها أهميتها في المصير . فجاء صوت والدي عنيدا ً : - (( تابع ، فجلا لته يذهب بعيدا في ... )) شرد ذهني ، برهة ، ولم أفق ، إلا والإمبراطور يخاطبني شخصيا ً : - (( الأزمنة تذهب ، لكنها لا تختفي إلا عبر امتدادها .. وهزات الوجدان الكبرى تزداد إثباتا داخل الكرامات الجليلة .. )) ماذا أقول .. ؟ كنت أزداد ، أنا الآخر، عنادا ً في تنفيذ خطتي . فلم أدع كلماته تتسلل داخل صناديق رأسي . لقد كنت لا أخشى شيئا ً كفزعي من الاستسلام لكمائن كلماته حيث تفضي إلى الاسترخاء ، وتماثل المتضادات . والآن ما الذي علي ّ أن افعله ؟ وأنا أدرك انه لم يلق خطابه في اليوم والزمن المحدد .. كما إنه لم يذهب إلى القاعة الإمبراطورية الكبرى .. ؟ ها .. هل .. متندراً على أفكاري وخططي التي باءت بالفشل .. كانت نهاية جديرة بمقدماتها .. محملا ً مشروعي نتائجه المناسبة .. وأناس اكتشف عزلتي بعيدا ً عن العائلة .. في اليوم التالي ، مساء ً ، زارنا صديق والدي ، ناثرا ً عطره الفريد في قاعة الاستقبال . الغريب انه لم يلفت نظر والدي إلى شيء، بل ناولني خطاب الأمس ، مطبوعا ً بعناية ، مع خطابات صادرة حديثا ً .. قال والدي ، وهو يرمقني بنظرة عابرة : - (( تأجيل الموعد ، لأسباب تدرك إنها لم تعد .. في هذا الفصل .. )) كتمت فرحة كادت تقضي عليّ : عظيم .. كأن القدر يلعب حيث أقود خيوط اللعبة . فعادت مشاهد القصر أمامي .. وأبوابه .. ومداخله .. وممرراته السرية :: وصالة العرش .. والكرسي ... و... ثم وجه صديق والدي الكلام إلي ّ : - (( سأصطحبك معي ، إذا كان ذلك يسرك .. )) لم أشعر بالخديعة تأخذ مكانها اللائق ، كما شعرت بها ، في ذلك السياق . انه الكمين الذي لا مناص لا اعترض عليه كي أكون أنا أول ضحاياه . لا لأنه جاء ليستدل على خطتي أو من اجل استنطاقي والتعرف على احتمالات أن أكون لاعبا مموها عليه مسارات الخطة ، بل ، ببساطة ، إن القرار ذاته سيكون سيد الأدلة القاطع ، ضد كل الاحتمالات المغايرة . ولا اعرف كيف غادرنا .. تاركا ً فيّ جمرات مازالت تنتظر انبثاقها من أعماق الرماد . قلت : هو ذا الدرس الأول في التحليق عاليا ً ، وإلا لن يكون لوجودي إلا هامشا ً خارج الواقع . كان عليّ آلا استرجع الأحداث ، مع نفسي ، خشية أن تكون هناك رقا بات قادرة على التقاط ومضات الأدلة وفضح الشفرات . لأنني أنا شخصيا كنت تعلمت هذا العلم الفريد .. وكنت قد وضعت علاماته المباشرة . فالطاقات لا تتقاطع إلا عند تحولها من فضاء إلى فضاء آخر . . ورجل الرقابة يمتلك مؤشرا ً للاستدلال على هذا التقاطع ، فيمتلك الوقت ، الحل الوحيد الذي تترتب عليه المتتاليات والنتائج . لأنني شرعت أدوّن قنا عات فذة لها أثرها لدى كل آخر لامسته الرهافات الكبرى . فأنا احلم أن يكون الحلم سيد النظام . بيد إن الزمن غدا متوقفا .. زمن الإمبراطورية وأيامها وفصولها الرتيبة ، بل كان ، أمام الأزمنة ، يتراجع متدحرجا نحو ماضيه. فرحت أطالع كل النصوص التي تؤرخ مسيرته وشخصيته .. كلمة كلمة ، وعبارة عبارة ، وجملة جملة ، وصفحة صفحة ، فكم بدت لي مسيرته ناصعة حد إنها امتلكت قدرتها على الاختراق .. وقد بدا لي ، وأنا احلل ، أن القدر ليس إلا فعلا ً يواصل بحنكة أثره في الحريات والمصادفات والمصائر . فكدت أصعق أمام الأدلة كلها التي لا تجعل مني سوى هذا الفعل .. إن فعلته أو لم افعله .. ويالها من هزيمة أن تشم رائحتها قبل أن تشهد أشكالها ونهايتها . هزيمة أنك لا تقدر إلا أن تشغلها ، بصبر علماء الباحثين عن أوليات الجذور الكونية وبذورها اللامرئية . بيد إن هزيمة لا تماثلها هشاشات المكاسب الضائعة ، راحت تدق في ظلام ملفات ذاكرتي . وأي قدر آخر لا يمتلك إلا براهينه على ما قلت ، عندما بعث الإمبراطور ، طالبا ً مقابلة والدي ، حيث ذهب ، وعاد حاملا ً كنوز السعادات . لقد جعله الإمبراطور علامة لقصره . فأهداه أرضاً إضافية ، تجاور أرضنا ، أمام دجلة . وضمناً ، سمعت والدي يخبر أمي أن أفراح الأعالي ، وجدت طريقها إلينا ، واليّ أنا تحديدا ً .. حيث أبدى والدي إستعداده ليجعلني واحدا ًمن أتباع القصر . وكنت أكرر أمثلة أعرفها في التجلد والصبر . فصارت السبل أقل إلتباسا ً والتواء ً ... ثم إنني ، وإن لم أجتز العشرين من عمري ، صقلت حد الاكتفاء . فصرت أبدو أمامهم كالصخرة التي تعبر من أمامها العصور .. والأجيال .. فلم أضع خطوة في موضع التساؤل .. ولم أدون كلمة تخدش حياء النص . فانا قررت أن امتلك حكمة من صار عمره الزمن كله .. المكان الذي لا تغيب الحركة فيه إلا لأنها المكان ذاته متسعا ً للمديات . فأي مسرة لا تخدشها الصغائر أو الوشايات ، هي تلك التي راحت ترتب لي خطاي . وهل كان للبرد ، كي امرض ، حسابه المختلف . لم أبح بكلمة .. لقد رتبت ملفات ذاكرتي بما يجعل المسارات متناسقة . لكني صرت ورقة ذابلة كما كانت تكرر أمي ذلك داعية الأقدار والصالحين والأطهار وكل من ترتفع فوق مرقده منارة ورجالات المدينة الأخيار إلا تأخذني العاصفة كما جاء ت بي .. ها انذا أعرف إنني صرت محتضرا ً ، لأنني لم أبح إلى أحد ، ولا لنفسي ، أنني لم أكن أقاوم التصادمات إلا بقوة إرادة الموت والاحتضار . فمنذ متى تضرعت بيوم مضاف ؟ وهل يجدر بي فعل ذلك كاشفا ً عن الهشاشة التي انقلبت فخامة لدى أراذل القوم ؟ وفجأة كان الإمبراطور بمجده ، وأوسمته ، وأبهته ، وصوته الأجش ، يقف أمامي. كانت فرصة جعلت الهوامش تمتد حيث المركز قلب المعادلات . هو ذا الذي كنت احلم أن أقف أمامه أجزاء لا حساب لها في الزمن ، يحدق فيّ ، متضرعا ً إلا أذهب مصادفة في الأبديات ، بل أن أمند .. وسمعته ينطق : - (( أيها الولد .. أنا خاطبت القدر ، ليجعلك صالحا ً ابد الدهر ... )) وروى حكايات أكوان تتهامس في مصائرها . ثم عاد يحدثني عن جدي الذي لامست بصيرته حافات الليل ن ولم يسر ، باتجاه نهارات لا مناص إنها لا سواها ، حكمت دورتها ومضت في السبيل . ثم أعترف هامسا ً لي في عزلتي انه في قديم الزمان كاد أن يختطف قلب أمي ، لولا إنها تبعت نجمتها وغابت . كدت أقول : ما الذي تريد أن تقوله يا جلالة الأب الإمبراطور ؟ كدت أحبط له نواياه .ز فانا لم يكن القتل لديّ سبيلا ً لبذرة يولدّها موتها .. ولست معنيا بقتل الأب .. وأي قتل يحمل قانون الدورات .. والأساطير . بيد أنني غيبت الكلام ومحوته داخل ملفات ذاكرتي ، جاعلا الوعي شفرات لا تلفت النظر في عبارة ما تتطلب التأويل والريبة . فما الذي عليّ أن أقوله لجلا لته ، وقد جعلتني الحمى طيفا ً يثب بعيدا ً عن اغواءات الأرض : - (( جئت ، أيها الذي سيبقى أسمه .. )) كاد يقاطعني إذ قرأت الأبعد الكامن في صمته . قلت : - (( أنت الوالد الذي جاء .. )) قرب رأسه مني وهمس في أذني : - (( جئت أقتلك . )) أي تحوّل أوقعني في الشرود والمتاهات ، فانا لا اعرف ماذا فعلت تحديدا ً .. فقد كانت أبواب الدار موصدة : باب البيت ، وباب الحديقة ، وباب المطبخ .. كلها ، كانت موصدة .. وعندما عدت إلى سريري ، لم أر إلا ظلاما تشوشه ومضات طيفية وصوتا رقيقا يلامس سمعي - (( أين كنت ؟ )) وكانت أمي واقفة أمامي : - (( أرجوك عد إلى سريرك .. )) إنها المرة الاستثنائية التي حلمت فيها إلا أكون حيا ً . لقد كدت أجمع قواي وأمسك بالسكين التي أضعها تحت وسادتي وأقطع بها حكاية ولدت هذا الصخب والإثم .. لولا .. أن ... الإمبراطور .. كان قد ظهر .. واضحا .. أمامي .. كان ساحرا ً ، يبث هالات قزحية لها عطر الألفة والسكينة فكدت أبكي . كما أفعل أمام مشاهد الأشجار والفجر والطيور .. أبكي حد التلاشي . وسمعته يرفع صوته : - (( كنت أعرف انك تحمل صفاتي .. )) كيف ؟ سألت نفسي في ذعر مكتوم . وأصغيت إليه : - وكنت أعرف أنك مثلي تماما ً ... )) كيف ؟ سألت نفسي خارج الرقابات المحتملة ، وقراءات باثات الأعماق .. لكن جلالته تابع كمحارب أعداؤه يكملون إليه صولة الإنجاز : - (( كنت أعرف انك رسمت خطة بارعة لقتلي . )) تجمدت تماما ً ، وأنا اصغي ، بقوى ميتة : - (0 أنت فعلت ذلك قبل أن تولد .. )) صمت ، كي أدرك ، ضد معرفتي كلها ، أية هزيمة كان عليّ أن أتذوقها كاملة : - (( من قتلك يا جلالة الإمبراطور ... ؟ )) أبتسم ، كالذي تنحني له الأزمنة والأمم : ـ ((أنا .. أنا هو الذي فعل ذلك )) أي سلام مضاف وقع فوق قلبي . فماذا كنت سأفعل لو لم يقع ذلك .. وأي عواطف كدت أطلقها عيدا ً بانتظار ألا يكون موتي قد سبق ولادتي . بدل أن اصدق أن ليس للنهايات فاتحات وجداول وانبثاقات . رفع رأسه ، مبتسما ً بإيجاز ، تاركا ً كلماته منذرة : - (( لن أقتلك .. )) صحت : _ (( أنا هو الذي سيفعل ذلك . )) سمعت أمي تقول : - (( مسكين .. لا يمكن أن يكون إلا شبحا ً )) - (( أنا هو الذي سيطلق النار .. )) - (( كن هادئا ً )) بعد مضي وقت .. مليارات الأجزاء التي تداخلت ، أفقت .. أو هكذا وجدت نفسي أتلمس أصابعها . كان شعرها الأسود يحيط بمحياها الأبيض .. وكانت تحدق فيّ كأنها تتضرع .. الا تفقدني .. إنها أمي إذا ً .. فسألتها بشرود : - (( من هذا الذي كان معنا ليلة أمس .. ؟ )) - (( لا أحد )) تجمعت في َ قوة أنفجرت في صرخة : - (( من كان هذا الغريب .. ؟ )) - (( قلت لك لا أحد .. )) أعدت رأسي إلى الوسادة . كم هي لذيذة ولينة هذه الوسادة ، التي بعثت في ّ الأحلام ، وجعلتني أتنقل ، من كوكب إلى كوكب آخر .. - (( وكنت تتهامسين معه .. ؟ )) - (( ماذا قلت .. ماذا تقول .. ماذا تقصد .. ؟ )) - (( هو .. هو .. الشبح .. قناعه أم هو ذاته .. ؟ )) - (( من هو .. ؟ )) - (( هذا الذي ينتظر .. ألـ.. . )) - (( يا ولد .. إنك نصف ميت .. )) ثم ، وأنا أفكر في البذور البكر لخلايانا ، وبالتسلسل الذي أتخذ أشكالا متراصة ، ورخوة ، كنت أراه يقف أمامي . كنت وحيدا ً مرميا ً في نهاية السرير .. لا أمتلك قدرة الاستجابة لعمل من الأعمال .. كنت ككائن داخل قوقعة ، وقد انتزعت ورميت في العراء . كان يتكلم بصوت عذب ، ناعم ، وكنت أصغي إليه باستسلام تام . أي صوت هذا الذي باستطاعته أن يشكل مجدا ً من الصلابات والغرائب .. فأستسلمت لرغبة بالبكاء .. قال فجأة : - (( لن تقدر أن تفعل ذلك .. أيها الولد .. )) رفعت رأسي قليلا ً : - (( ماذا تريد مني ... ؟ )) - (( أريد أن تنقذ نفسك ، وترجع إليها ، فأنا نفسي لم أشيّد هذه الإمبراطورية ، إلا بالرجوع إليها .. )) ثم أختفي ، كشكل ضاع بين الإشكال ، فجوة إندمجت بالفجوات .. سألت نفسي : كيف تنبثق الأشكال ، وتبدو كأنها أخفت سرها وهي تمتلك دورها في استكمال مصيرها . ليس ثمة ما هو فائض أو زائد ... يحدث .. في الرأس أو خارجه .. ذهبت إلى الحديقة .. وتأملت أمواج دجلة .. وسمعت أصوات الحمامات وهن يسردن حكاياتهن بين الأشجار . كان مشهد النخيل ساكنا ً .. وكنت لا أقدر إلا أن أثب ، من مكان إلى آخر .. ولم أر كائنا ص غريبا ً معنا . كانت أمي تحدق في الأمواج .. ولم أكن منشغلا بالأسئلة .. فقررت ، بلا إرادة ، العودة إلى داخل البت ، من الباب الخلفي .. وصرت وجها لوجه أمام والدي . كان وحيدا يجلس في غرفته ، يرتل ، ويمسك بكأس أعاده إلى مكانه ، بجوار إناء يشبه السمكة .. حدقت فيه ، وكنت أكلم نفسي : أحيانا ، نبدو إننا ننتمي إلى سلالات لا أصل لها .. 0 (( ليس هذا مهما ً ، أجلس .. )) قلت في نفسي : حتى إنني صرت أجهل عبث الكلمات ونظامها .. - (( قلت لك ، اجلس )) ساد الصمت بيننا زمنا بلا حدود . كان الزمن مقفلا ً . وكان كل منا يرغب بالانسحاب .. والمغادرة .. والاختفاء . بيد أنني شعرت ، في لحظة ، انه لا يرغب ان يفقدني . أية صدمة لا توصف يخلقها اختفاء الابن ، قبل الأوان ؟ - (( والآن عد إلى سريرك .. )) - (( حسنا ً )) - (( في يوم ما .. ستكبر .. ولن .. تندهش .. )) لم أقدر أن أعود إلى النوم غلا قبيل الفجر . لقد وجدت نفسي ملقى في مكان آخر ، وقد مضى عليّ نصف قرن .. كنت مهدما .. خائر القوى .. كي أرى الشبح ، أو الطيف ، أو الدكتاتور ذاته ، أمامي . كان يتكلم بصوت ناعم ورقيق : - (( أعرف إنك مازلت تحمل الرغبة ذاتها .. )) لا أعرف عن ماذا أتكلم .. ومن يكون هذا الذي شغلني حد غياب التذكر ، وماذا يربد ؟ تركته يتكلم : _ (( هيا ، أفعل ، ونفذ خطتك التي امتدت طويلا ً )) - (( ماذا تقول ... ؟ )) - (( قلت أفعل الذي شغلك كثيرا ً .. قلت اقتلني واسترح )) ارتديت ملابسي ، على عجل ، وذهبت إلى القاعة . كانت غاصة بالبشر .. كائنات لا اعرف من أين جاءت ، مكدسة ، ولا تسمح لك بالحركة أو بالمرور .. لم يكن جلالته حاضرا ً .. بيد انه كان مثار كلام الناس جميعا ً .. كنت وحيدا أنتظر تنفيذ خطتي التي مضى عليها زمن طويل . أية رغبات تنبثق ، حادة ، كأنها القدر ، هي التي ترتب مسارات الأحداث ؟ سألت نفسي : هل كنت عاهدت الإمبراطور ألا أسمح ، حتى لخيالي ، أن يشط أو يأخذ هذا الاتجاه .. ؟ هل كنت تابعا من أتباعه .. وهل يتحتم عليّ ، أن اترك الزمن يعمل عمله ، وأقول لهم ، أين .... ذهب ... الماضي ؟ همس صديق والدي في أعماقي : لن يأتي أبدا ً .. وأضاف : هناك أمور ستكون ضدك تماما ً .. وقال بأسلوب آمر : غادر .. حالا ًً . أي إحساس مرير يعيد لي ترتيب مشاعري وأنا أتأمل المارة : كلا .. لم تكن مرارة ـ بل لامبالاة لا تخلو من الصلابة . فأي اعتراف ضمناً بالهزيمة جعلني أراقب الرجال والنساء داخل المدينة . من منا الفائض ؟ دار بخلدي ، وأنا أردد : كلانا له مذاق الموت الذي ينمو ، ينبثق ، الذي صار هو الموت الذي لا يموت . لا أعرف هل فقدت الوعي ، أم تقيأت .. أم كنت جريحا ً .. أو تحولت إلى أجزاء متناثرة ، الأمر الوحيد الذي لا أشك فيه هو إنني كنت أحمل معي مدية .. كنت كمن يبحث عن ... ضحية .. هي التي تستدعيني إليها . كنت أضرب الأرض بلا مبالاة .. بشرود .. بتردد .. وكان لصوت أقدامي فوق الأرض صدى فريد . ثم أفقت .. كان جسدي يهتز ، من الداخل ، ويرتجف : أين أنا ؟ سألت نفسي .. مكتشفا ً عبث الأسئلة . كانت الأصوات عالية ، مدوية ، وتأتي من الجهات كلها .. أصوات يوم الحشر .. أصوات الكائنات التي مضت ، وها هي ، تتجمع ، مثل خلايا تواصل إنشطارها الهندسي .. أما أنا .. فكانت أفكاري تنمو نموا ً رياضيا ً . كانت الحشود تأتي من الجهات المختلفة .. من البساتين والأزقة ، وكأنها تخرج من الأنفاق . هل اختفى ضحيتي التي طالما فشلت حتى أن أؤذيها بنظرة ! وهل خرج الناس احتفالا بهذا الغياب .. أم .. انه ضرب مبهم من الدورات والانتظارات القهرية ؟ أفقت ، مرة أخرى ، أمام حشود كان عددها في ازدياد ، وقد اصطحبت الطبول ، ومختلف الآلات الموسيقية . كانوا يرقصون .. بجنون لا يشبه الرقص . كانت ثمة هستريا . وعندما اندمجت بكتلة بشرية ، شممت رائحة روث ، وبول .. فكنت أستمع إلى أصوات حيوانية .. وأرى ... قطعان المواشي وقد انحدرت مع القادمين من الحقول والبوادي والقرى النائية : ثيران وأغنام وأبل ودواجن وفيلة وكلاب وطيور ملونة كبيرة وصغيرة وفد حشرت معنا حتى لم أقدر إلا أن أضحك بصوت مرتفع ، بلا تردد ، وأنا أقول في نفسي : إنها ذاتها السفينة التي تحدث عنها جدي .. ماذا قلت ؟ لم انتظر إجابة .. لأنني كنت ، وجها لوجه ، أمام شبحي .. فهل أفعلها .. وأطعنه .. ؟ كان الإمبراطور يتقدم ، بمحاذاتي ، تاركاً عطر جسده ينتشر في الفضاء .. وعرفت ، بالرغم من استحالة الإصغاء لعبارة واحدة ذات معنى ، إن جلالته سيلقي خطابه .. ضربت الأرض برفق ، مستسلما ً ، مستعيدا ً أزمنة الكلام . طالما كان يمضي الأيام فوق المنصة ، متحدثا ً عن مزارع الروح ، وحتى عن محاصيل الذاكرة ... هكذا ، شاهدت المراسلين وأجهزة النقل والبث تشتغل ، وكأننا في عيد . لأن كل الذي كنت أراه ، كان يحدث مباشرة ، وعلى الهواء .. فهل كنت مازلت محموما ً ، أو أتستر بما أجهله ؟ دار رأسي ، فأنا لم أعد اصدق أنني أمتلك قدرة الفصل بين القشور والثوابت ، أو بين الوعود والنهايات . فكلما أزداد تراص الناس في أكبر ساحات المدينة ، تضاءل وجودي حد التلاشي . حتى كدت أتراجع ، تاركاً مخططاتي تتبدد وتزول . لكن خطاب العرش الأخير جعلني أتريث : ما الذي أراد أن يفعله طوال هذا الزمن .. هذا الذي كان ، أمامي ، تنحرف أعتى العواصف أمامه ، ولا يصير الرجال ، إلا قشور بصل . وكضؤ هابط من المجهول ظهر جلالته ، منتزعاً منا صمتنا الأبعد . كان مثل طيف يخرج من الخفاء ، طوال عقود ، محميا ً بالأسرار التي صاغت مصيره . ولم ينطق إلا عندما جمد الكلام في رؤوسنا . لم أقترب .. ولم أبتعد .. كنت أشغل المكان الذي لامناص هو المكان الوحيد المحدد لي .. وهنا ، بين الفجوات الصلبة ، استسلمت لخدر الذهول .. كان جسدي لينا ً ، رغوا ً ، كأنني انتزعت من قوقعة ، وقذفت بعيدا عن نفسي . أما الإمبراطور ، فكان يتحدث عن الذي كنا لا نقدر أن نراه.. كنا كتلة بكثافة الصفر . وكدت أتراجع ، ولا أفكر أفكارا ً صبيانية . لكن صديق والدي همس في أذني : - (( لم أخبره .. هل تصدق ؟ )) وقال متابعا ً ، قبل أن احدد مكانه في الحشد : - (( انه لم يعد يكترث لك .. ! )) فقلت في نفسي : متى أكترث لنا كي يكترث لي .. وفي اللحظة المناسبة الوحيدة التي كنت أقدر أن أحقق فيها انتزاع قدره منه، كنت ، بهدؤ ، مستسلما ً ، أحدق فيه ، كأنني أحدق في المجهول. كنت مثل خشبة، أو صخرة . أتراني كنت أمتلك قدرة التفكير واختيار الفعل الوحيد الذي كرست له حياتي كلها ؟ فقد كان يتكلم عن القرون القادمة ، كأنه يحدق في أشكال لايراها إلا وحده . صفق الجميع بصوت كالرعد ، فكادت السماء تقع فوق المدينة . لكننا كنا نراه ، بإشارات منه ، يبعد الخطر عنا ، ويعيد للفضاء مداه الكامل . كان يبدو لي انه أسكرنا بحلم لا نقدر أن نتخلى عنه . آه ... لأنني ، في لحظة ، تذكرت كيف دخلت القصر ، تلك الجرة الكبيرة المزخرفة المزدحمة بالأبواب والممرات المزينة بالنقوش والتماثيل ، وذلك الفضاء الكثيف المعّطر بالسكينة والخشوع . تذكرت أنه زارنا ، وقدم لي ، لي أنا شخصيا ً ، هدية عيد ميلاد الأرض ، وبادلني طرائفا شفافة . إنني أكاد لا أصدق أنني فعلت ذلك ، في حضرته .. أكان ذلك ، كما يحدث لنا الآن، مرتبا ً بانسجام مع اتفاقاتنا الخفية ؟ كان صمت الحشد تاما ً . لأنه كان قد كف عن الكلام . كان صمتنا إصغاء كالذي يحدث في الأساطير ، أو الأحلام . ولم تكن إلا لحظة مماثلة عنيدة كنت أقف فيها أمامه ، بثبات ، وأنا أمسك بالمدية ، متوجعا ً نحوه ، وبكل قواي ، غمدت النصل وجعلته يستقر في أعماق الجسد المقدس الذي كان قد أختفي . ماذا فعلت ؟ سمعت لغطا ً ، وضوضاء ، ولم أكن أدرك ما الذي حدث ، بعد ذلك ، لولا إنني ، أفقت ، وأنا في حديقة الدار ، أمام النهر . ولم يكن لدّي متسعا ً من الوقت كي أتساءل ... فقد شاهدت السيدة والدتي مقطعة متناثرة الأجزاء فوق العشب .. تسمرت مثل تمثال أحدق في محياها الذي تحول إلى قطعة بيضاء .. كانت تبتسم ، ولم تتكلم . فلم أقترب ، ولم أتكلم . لأنني هرولت باتجاه الباب الخلفي ، صاعدا ً السلالم الخشبية .. لا أفكر إلا في الاختفاء . بيد إنني لمحت والدي ن كما في مرات لا تحصى ، يجلس في ركنه ن يلعب الشطرنج . فقررت أن أستنجد به ، أو لعله ينقذني . فانا كنت لا اعرف ما الذي كان يحدث . قلت له : - (( جئت .. أنا جئت ... يا والدي العزيز .. )) قال بصوت هاديء ، وهو ينقل الفيل إلى مكان بعيد : - (( أجلس )) بعد صمت لا أعرف كم دام ، سألني ، في ذهول : - (( من قتلها ؟ )) قلت وأنا انتزع الكلمات انتزاعا ً : - (( هو .. هو الشبح .. أنتزع روحها .. )) - (( لا ... )) - (( من يكون القاتل إذا ً ؟ )) ثم ، وهو يتابع إكمال كلماته ، قال : - (( إذهب وجمعها )) عدت إلى غرفتي .. أغلقت الباب . لم تكن ثمة مرآة .. بيد إنني كنت أرى جسدي كله ، في مرايا لا تحصى . كنت واقفا ص أمسك بالمدية .. وقطرات الدم مازالت تلوثها ... وبهدؤ ، رفعت يديّ ، وتركت النصل يستقر في القلب . أية لذة كانت تسري في ّ من الأعلى إلى الأسفل .. ها هي لذّة الموت تسري في ّ ناعمة ، ثم فجأة سمعت أصواتا ً تدوي ، تزمجر . وكنت أطلق النار .. فترتفع الأصوات من الجهات كلها . لم اعد امسك بالفأس ، أو المدية ، يل بسلاح آخر ، من الفولاذ ، مصوبا ً فوهته نحو المركز ، في القلب والرأس , .... في ّ .. وقد أرتفعت الضجة عاليا ً ، وكانت الأرض تزلزل ، وثمة رائحة ما نفاذة ملأت الهواء : عطر الدم ولونه يمتزجان بزرقة الفضاء . وكنت أرقص , وسط العالم ، والأصوات ترتفع عالية ، قوية ، من الجهات كلها .ما الذي حصل .. أين المرايا ، ولماذا تكورت الجدران من حولي كأنها علبة ... أين أنا ؟ - (( من .. ؟ )) نهضت .. كان الإمبراطور ذاته يقف أمامي وقد طالت لحيته بلونها الأسود الداكن كثيرا ً ، أنا الذي رأيته حليقا ً ز كان متعبا ص . وكدت أسأله إن كان هو الإمبراطور ذاته أم انه بعث بأحد مساعديه ؟ كانت تصوراتي مشوشة حد الوضوح الذي لم تعد فيه الأسئلة ذات شأن . فانا غمدت المدية عميقا فيه و ... وأطلقت الرصاص عليه ... وها هو أمامي ، ها هو جسده يشهد على وجود آلاف المنافذ والشقوق والثقوب .. اقترب مني مبتسما ً .. ولم يتكلم . كان يحدق في ّ بلا مبالاة ، شارد الذهن . - (( اجلس .. )) وجمعت قواي ، مضيفا ً : - (( كان ينبغي أن أفعل ذلك .. )) هز رأسه .. كأنه صورة . لأنني تذكرت المرات التي نجا فيها من الموت .. حتى أصبحنا نشك أن يكون هو ذاته الذي حكم البلاد أزمنة لا أحد يعرف كيف سيعاد كتابتها ومن ذا الذي ، داخل ممرات هذا الحلم ، يمسك بخفايا الحبال التي صاغت المشاهد.. - (( هل ترغب أن أتي لكم بالماء أو .. ؟ )) رفع يده اليمنى ، ملوحا بها ، وغادرني . أما أنا فكنت أحاول تفكيك الذي مازال يحدث . ها أنذا داخل جدران منيعة ، وقد وضعت في الوسط . كانت الغرفة مثل كوخ القصب ، مستطيلة ، والجدران شيدت بإحكام من حولي . لم أكن أرغب إلا بالقليل من الهواء الذي لا أعرف كيف كنت أحصل عليه .. لقد تخيلت وجودي يماثل أول خلايا بذور الحياة فوق هذا الكوكب . وكان الظلام ، كالضؤ ، لا يسمح لي إلا باستعادة الذي مازلت أفكر فيه . ها انذا أكف عن الحلم ، حتى إن صديق والدي ، في ذات ليلة باردة ، أتاح لي فرصة نادرة للهرب . قلت له : وأبن يمكن أن اذهب ، والأرض كلها غدت علبة مرمية في ظلام كثيف .. ؟ لم يسخر مني .. وأنا لم أندم أنني لم افعل ذلك .. فقد كانت يد الإمبراطور قد احتلت ذاكرتي ، وها هي تهيمن على أعمال رأسي الذي بدأ يكف عن الحلم . كنت ، عبر الفصول ، وتوقفات الأزمنة ، أسترجع لذائذ أيام الطفولة .. فكنت مازلت أشم رائحة الفجر بمحاذاة الأمواج أمام بيتنا ، وأصغي للبلابل تغرد .. ثم .. سرقت أحلامي ، ولم يبق لديّ إلا أن أحلم باستعادتها . أحلم انني كنت أحلم . مات والدي ولم تمت أمي ، وأنا مازلت اسكن فضاءات علبتي بما تيسر لي من أحلام وأضطرابات كانت تحفر ذاكرتي على اقتناص المصائر . كان شبح جلا لته قد أحتل جغرافية الامتدادات كلها ن في كون لا يتكون من حافات ، عدا الموضع الذي أقُتطع من الفراغ وصار مأوى لي ـ أرى عبره ، مصائر العابرين والقادمين . بيد إني كنت أزداد يقينا ً ، بعد كل حقبة ودهر ، وعقود من الويلات والنكبات والكدر العميق ، أنني غير مسؤول عن مصيري إلا في حدود الرضا بهذا العقاب . لقد بحت لصديق والدي ، معترفا ً ، انني لم أكن احلم أن أفعل فعلة شنيعة .. بل كنت لا أحلم إلا أن أراقب ضفاف الأحلام ، حيث أمضي مع نبضات الأثير الذي يكون هذا الذي تكون ويتكون . فقالوا كلمتهم في ّ ، وعزلوني كمخلوق منشق ، وفائض ، ومبتور العقل . وكم تلذذت ، قلت له ، بالباطل الذي اشتعلت به ، تحت رعب آليات مرور الأيام وطلب الخبز .. لم أكن أمتلك إلا قدرة أن أبدو ، في العتمة ، إلا إمبراطورا ً صغيرا ً ، حشرة داخل قوقعة ، في زمن تجمد فيه الزمن .. وازداد يقيني حد غياب النفي والتمرد ، بان إدراك استحالة الخلاص هو ضرب من الخلاص .. وإنتظار الموت ، هكذا ، هو أملي الرائق في بناء خصائص حياتي داخل هذا الشيء المكور ، الذي شيدته بالدموع وبتوقفات نبض القلب . ثم فجأة سمعت ضجات عالية ، كتلك التي استمعت إليها ، قبل سنوات بعيدة .. فقربت رأسي – لأنني لم أعد أمتلك حاسة محددة كي أتعرّف عليها بما كان يحصل – من الجدران . كانت الأرض تزلزل .. والأصوات تدوي .. وأدركت ، ولكن لا أعرف كيف أدركت ، إن جلالة الإمبراطور قد زال من الوجود . لقد أغتيل . فصرخت .. داخل حدود مملكتي ، أنا قتلته .. أنا قتلت الإمبراطور . وكان هناك من يصدق ، وآخر يعترض ، وثالث يسخر ، ورابع لا يكترث للأمر .. أنا قتلت الإمبراطور . كنت أصرخ بقوة كل الذي محاهم جلالته ومسح آثارهم من الوجود ، بقوة كل الأصوات التي أختفت ، وبكل قوى الأجساد التي أطيح بها .. أنا قتلته .. أنا فعلت ذلك . ولم يتسلل الخوف إليّ حتى بدرجة أنملة أو .. فخفت .. خفت وأنا أسأل نفسي : كيف لا تخاف أيها الخائف ؟ بكيت ، ولم اعثر على كائن يحميني أو ألوذ به . كانت الأرض خالية ، مثل صحراء بلا أطراف .. لم أر فيها القوافل ، ولم أر الأمراء ، ولم أر الواحات ولا المدن . كانت الرمال تتساقط من الجهات كلها ، وكانت الأرض رخوة ، تعرقل حركتي . كان الكون خالٍ إلا مني . فجلست مستسلما ً أبكي أطلب من يعيدني إلى حفرتي ، علبتي ، سريري .. فأنا لم أعد أعرف أأنا في جرة ، أم في مصح ، أم أعيش في عائلة منفية في حدود جدرانها . ولم يعثر علىّ أحد .. ولم أفلح في التشبث بأحد .. كنت أراهم يضربون الأرض ، يهو سون ، يهرجون ، يتقافزون ، وكأنني صرت الذي تدوسه ملايين الأقدام بعد الموت ، كما الخرافات اللذيذة تقول ، طيفا ً أو شبحا ً .. كنت أثب ، واقفز ، وأهمس : أنا صرعت الإمبراطور . بيد إنها غدت حكاية بلا أصابع .. وكانت صلعاء ! فصرت لا أسمح للغضب أن يتسلل إلى أعماقي .. فأنا لم أعد أكترث أن أكون حقا قد ولدت أو لم أولد .. أن أكون حيا أو ميتا ً .. أن أنتظر الاستيقاظ أو الاندثار .. أن أكون أنا الذي قتلته أو يكون هو الذي قتلني .. أنا كنت ، ولا أعرف كيف حدث ذلك ، أدرك أنني لم أجرح حتى بشرة الزمن أو قشرته ، ولم أقطف حتى وردة .. فقط تذكرت أنني تعرفت على صبية أحببتها كما يحصل في كتب الأساطير ، وإنني جعلتها حمامة ، وكنت ادعوها بحمامتي ، يا حمامتي .. أنا هو غصنك ، أنا هو عشك .. في هذه الغابة .. لكن الصبية سخرت مني وجعلت مني هزأة .. لأنها أرادت أن أفعل كما يفعل كل الرجال في آخر الليل .. فهربت . ونجوت منها ، كما نجوت من الأيدي التي طاردتنا طوال قرون . ها أنذا أعود إلى ركن صغير داخل جدران غرفتي ، مستسلما للذة غامرة أجهل أسبابها ، إن لم أكن لا أريد أن أتعرّف عليها ، وقد ابتعدت الأصوات أو صارت نائية حد الاختفاء ، كما لم تكن ثمة روائح أو أضواء أو عوامل تكوّن عوامل التذكر ، ولانبثاق . والغريب أنني لم أكن أفكر في وسيلة للفرار أو الهرب أو النجاة . لقد أدركت إن الاستحالة هي ذاتها التي صارت منفذا استثنائيا ً للذهاب إلى الأقاصي .. أن أحلم إنني مازلت أستعيد مصيري كله .. أقتطف من الاستحالة هذا الذي أنا فيه .. أرى الذي في طريقه أن يكون واقعا ً . الزمن الذي لم يذهب والذي أراه معي يشاطرني حفرتي أو سريري أو عملي . فهل سأخاطب نفسي : ماذا فعلت بها ، أيها الملعون التائه المخبول ؟ كلا .. يا .. أنا مازلت أمتلك قدرة الاستدراك .. قدرة دفع الخيط أو سحبه وليس تركه يذهب أو منعه من الدخول . ويا لهذا الفرح الذي لا أعرف أأفرح به أم هو الذي صار يتندر مني ، وعلى ّ ، أنا الذي أكاد أكون ولدت ورحلت بالترتيبات التي لم أكن طرفاً فيها ... - (( ماذا .... ؟ )) ها أنذا أستيقظ .. من يعلم .. قد لا تكون سوى أضطرابات لا تقع إلا في الجانب الأخر ، ولكن في المسار ذاته .. من الحكاية ذاتها . ها أنذا أراه ملتحيا ، كوحش وقع في الأسر ، أمامي . أراه مهدما ً ، يكاد ، مثلي ، مستسلما ً للذهول . ً هو ذا الذي لم يقدر أي إمبراطور إلا أن ينحني أمامه.. ويصير ممسوحا .. متلاشيا ً .. هو ذا الذي كانت كلماته تجد من يجعلها سارية قبل أن تلامس الهواء .. هو ذا الذي شيّد ، في قلب الغابات والوديان والصحارى قصوره ، هو ذا الذي كان لا يعرف ماذا يفعل أمامه أعتى العتاة إلا أن يستسلم ويصير كائنا ً رخويا ً .. هو .. ذا .. الذي .. كاد يلقّب بكل ألقاب وصفات من اجتاز عتبة الزوال .. هو ذا الذي صرنا نعرف أنه عبر هوة الموت .. هو ذا .. أمامي يجلس يداعب لحيته بهدؤ .. ولم يلتفت لوجودي أو يثره هذا الوجود .. وإنما مثله ، كنت أحلم ألا أحلم حتى في مثل هذا الحلم .. فهل أخبره كيف كنت ، في يوم قديم ، كدت أطلق عليه النار ، وأجعل المدية تعمل عملها في قلبه الدموي .. لا ... فقد كنت ، مثله ، أحمل دوافع خطاه التائه وهو يتنزه في متاهاته البعيدة . لكني .. بهدؤ .. ناولته المدية .. - (( ما هذا .. ؟ )) - ((المدية التي كنت قررت أن .. )) - (( ومن منعك أن تفعلها .. ؟ )) لم أجب .. بل كنت لا أرغب إلا بالعثور على مكان لا أرى فيه الذي آلت إليه جذور القصة .. نهاية ما لها بداية لا تنتهي وكأنها الليل يتعقب بالمرصاد رائحة نهارا ته ، حيث حياتنا لا تولد الا عبر ما بينهما .. - (( أعدها إلى مكانها .. )) وأضاف : - (( المدية التي لا تعمل في المرة الأولى .. ترتد عليك ... )) جمعّت قواي وصحت : - (( أيها الإمبراطور العظيم ، انك أفلحت في قتلي الآن . )) - (( ومن قال انك تقدر أن تموت ؟ ! )) فكرت عبر الوهم الأشد كثافة من كل الكثافات والحقائق ، في أعماقي السحيقة ، متندرا ً ، وأنا أدون في ورقة أخفيتها ، أو اختفت من تلقاء نفسها : إنني لم أكن ، في يوم من الأيام ، متطرفا ً حد النجاة من التطرف ، ولم أكن متزمتا أو مناصراً للمحافظين على رتابات لا تتصدع داخلها قوى البدائل والمغامرات ، بل كنت اشك عميقا ً بالذي كان يجرجرنا من متاهة إلى أخرى ، ذلك اليقين الراسخ بان ما سينجز لا يمتلك ما أخفاه الدهر البائد ، فهي لعبة يد صاغت من التراب كل هذا الذي شغلنا ، وهي لعبة راحت تلعب بكل أزمنتها ، ولا يمكن عزل حدودها الا بخيوط واهية من الالتماعات العابرة . إنني اكتم ذات الصدمة التي عرفها جدي ودفنها معه في أعماق جراره وقذف بها إلى دجلة : أن هذا الذي صنع عبر الصبر والشقاء والعذاب والتجلد هد بلحظة بلغت ذروتها في الجنون والشطط وإنعدام الشرف ، لا تقارن بدهر من الزحف والكد والكتمان والسكوت : ما الذي أمتلكه كي لا أكون أكثر من رماد متناثر هو كل ما خلفته غابة هذا الوطن .. ؟ وهل يقدر أحد يمتلك ذرة نقاء أن يلومني أني شاركت الحلم مساره حد التلاشي ؟ هكذا صرت وحيدا ً ، معزولا ً ، لا أصغي إلا لأصوات نائية تعبر الفضاءات . همست ، إليه ، أو في نفسي ، إن المرارات السود عندما تبلغ هذا الحد ، لن تدوم . مثل الذي يصنع الموت لت يتلقى إلا لذعاته . وقد كانت هي المرة الوحيدة ، عبر قرون ، وقد كفت في ّ الضجات ، وأنا أستسلم لموت أنتظر أن أسكن سكينته التي لم أتذوق منها ، إلا حكاية يرويها ولد لم يغادر جدران أيام صباه ، ولم يحتم إلا بنوافذ أحلامه التي سرقت منه ، وترك وحيدا ، معزولا ً ، وهو لم يجتز عتبة بذور الحلم . بغداد / الغزالية 26 / 5 / 1989 –16 / 12 / 2003 * عن ( هيغل ) / فرانسوا شاتليه . وزارة الثقافة والإرشاد القومي / دمشق – 1976 ص 31 [ هيغل / 1806 مراسلات / الجزء الأول ]

الجمعة، 17 أغسطس 2012

قصة قصيرة- ضفـاف-عادل كامل


قصة قصيرة ضفـاف
( هذه المرة، فقط، أمتلك قدرة خلع الكلمات كي أجتاز الصحراء، نحوك تحديدا، في الزمن غير المناسب) متوقفا عن الكتابة، متأملا خيوط الشمس، فوق أصابعه النحيلة، الشاحبة، وهي تمسك بقلم الرصاص، من ثم، رفع نظره وحدق في أشجارا لحديقة، بزمنها القديم، قبل نصف قرن. ثمة بياض لا صفات له داعب خياله الفسيح، وجعله يواصل الكتابة( بالإمكان تماما الامتنان لسعادات نادرة يحسم فيها المرء إشكالات العمر كالاعتراف باستحالة الرحيل من غير هذا الاعتراف) وقال من غير تدوين ( إنها لا تميز أيضا أي رجل قاوم الموت كي لا يرحل إلا بخجله الخفي. ماذا قلت؟) ودوّن( لكن القلب يصدم انه لم يكن لينا أو رخوا بما كان عليه القلب من اتزان وطيش معا. أنت الآن تستعين بلمحة البرق تلك التي امتدت بعيدا بين كائنين منفصلين متصلين بحلم الاستحالة.كان عليّ، مثل الأيام، احمل الهدف وامضي قلت لك مرات ومرات بدون اجتياز أول المسافة) ورفع صوته: ما أبهى هذا الصباح الصيفي بلذة هواء بارد! ربما هو..هو. وكتب على عجل ( الحب الذي غدا يطرق بأعتى صمته معلنا ان الحياة لم تكن إلا في هذا المكان) وحدق في الجدار المزين بعشرات الصور، في الفراغ المشحون بالفضاءات (دوّن) ( كان من المستحيل لنا ان نعمل بخيال ابعد.. قلت لك ذلك قبل ربع قرن: اتذكر كلماتك: تقدم.. وكان عليّ ان افكر طوال هذا الزمن.. الم اقل ان الموت، الموت ذاته، ليس نهاية قلت لي النسر معا. قلت : لنفكر معا) ورغب لو اتصل بها ، هاتفيا. وطلب منها ان تشهد امتنانه السعيد لكلمات لاتحدث الا في لحظات لم تعاد مرة أخرى. لقد ماتت زوجه بحادث إنفجار قذيفه، بفعل الحرب،ومنذ غادر ابنه البلد بعيدا منقطعا عنه، ومنذ تزوجت إبنته، صار يؤدي واجبه كأنه في فضاء أبدي( فأنا لم يعد باستطاعتي سماع دقات الساعة ، أو الذهاب إلا الى البعيد، بأجنحة من هواء ، الحرب هي إذا ً التي سرقت المرأة التي قط لم تكن إلا ذروة الغموض ، الظلم لم ابح بفرحي ولم احزن لرحيها . كل مافعلته هو انتظار لا أحد ، لم تعد الكتب تمتلك سحر فضاء الزمن ، ولا الانشغال برسومات غامضة فوق الورق.. قلبي لم يفرغ من الامل، ولم تزحزحه المرارات ، كنت مندفعا في المتاهة كشمس في اندثارها . فان هذا الضياء وهذا الظلام .. أنا قط لم امسك بأبديتي ، تلك– قلت لك- محنتي . قلت لي: بالإمكان البدء ، مرة بعد مرة ، ولم تكن لكلماتك الا كمرور البرق في فجر مبهم الألوان . اتساءل : هل حدث هذا فعلا . هل كنت على يقين ان الوهم بلغ ذراه . وصارت – تلك الفتاة – امبراطورية اضطراب شفافة ليت لي قوة الاصغاء لصدى روحي، وليت لي ، ياوردة ليل المتاهة ، ان امنحك هذا الاثر ، حياتي بهذا الفضاء، بهذه الكلمات.. وكأني عقدت العزم كله، بعد استئذان الماضي .. لتبادل..) وتوقف عن الكتابة . نهض . مصغيا لدقات الساعة العاشرة ، نحو النافذة : اضطرابات مقدسة !أكان عليّ – كذلك دار بخلده – ان ادفن البرق بالجدران .. لم يكن يفكر في صوتها الغامض .. في شيء ما مضى .. لكنه ، رفع صوته ورأسه الى الأعلى ، قليلاً ، فوجد ان شيئا ما – فيها – لايريد ان يذهب (اشياء كثيرة تندرج في المحو .. تذهب بكل صلابتها وقوتها وتغدو مندمجة بفضاء لا حدود له) فكرت ، (وانا اصغي اليك : الايام .. هي .. الا نتركها تذهب بعيدا عنا..) وكتب مواصلا:ـ تلك الكلمات ، الان ، تبدو كضوء النهار ، فوق جسد واهن، انفجرت فيه رغبات خاطفة ، كلمات لها مذاق لون المسرة! ادرك ، حالا، لا معنى لاستعادة المحو . لقد اصبحت وحيدا وحدة الوهم بين الاوهام .. لاتوجد ) ويرفع رأسه، وهو يكتب، بعد ان تنفس سيكاره المر.. ( اية عزلة .. وكل عناصر الكون في وحدة .. وهم .. فأنا كنت اعيش معك طوال الزمن .. وكنت اعيش مع الاخرى ، ايضا..) وترك القلم يسقط فوق الورقة .. تأمل كلماته كنجوم متناثرة في السديم .. رفع صوته : لماذا عدت الى الكتابة .. الم تعترف في اعماق ذاتك: كن وحيدا .. الم تقل ، لنفسك، تآلف مع الفضاء حد ان تكونه .. بيد ان جسده لم يساعده على الوقوف ، فجلس ، امام المنضدة، وامسك بالقلم الفضي ، وكتب ( غالبا ما نقع ضحايا رغبات جد لا مرئية .. انعطافة ضوء ، أو لذة غامضة ، محاولة لعبور العتمة ) وبحث عن توازن مستحيل ، ابتسم بفم مغلق ، وصك باسنانه .. وتراجع الى الوراء قليلا ، وكان قد قال لنفسه ، مرات ومرات ، لا تكن في المشهد، ولا تتظاهر بالتفوق (للحق ، أدوّن لك بصبر أخير ان تفوقي كان هو الإخفاق الجليل! وسيدهشك الإصغاء لصوتي داخل سكون الكلمات لم أكن متفوقا بلا مبالاتي لنفسي قبل ان أتحول الى شيء من أشياء المحو ..) وكتب بهدوء ( لا اعرف ماذا تفعلين الآن .. ولكني أدرك جيداً انك تتجهين نحوي .. كم أنت جميلة ، وزرقة السماء تظهر سواد شعرك ، وتخفي حزنك، وتظهره كنهار ابدي . الآن اعرف عميقا أي وهم اكتسب اليقين ، وأي يقين سحرنا بذاته الغامض . وعلى ان أهمل هذا التحليل ، والتحديق في ظلك المتحرك فوق سواد الطريق . علي ان أسير خلفك ، أو معك ، أو أمامك، وليس أن أكون بصاصا لوهم تفوق على يقين انك غائبة في مكان مجهول . ستقولين وانت تقرئين هذه الرسالة : ِِلم َتركتني أذهب وحيدة إذا ً ؟ أقول لك: كان عليك أن تختطفي هذا الظل قبل أن يمحوه النور ويتجمد الدم في جسدك وانت تقولين لنفسك) كنت اعرف ان شيئا ما تلبسك .. الحب الذي دفعك إليّ .. وأنا التي أضاعتك في المحبة كان ذلك هو سرك .. أجل . لكل منا خطاه الخفية ، المتحركة قليلاً بعيداً عن الخط العام. تلك التي لانعرف اصنعتنا بهذا الانشداد والتململ ام نحن الذين صنعناها بهذا الغموض . المهم – ان المتاهة توحدت بالتائه، والتائه، كلما تقدم ، وتقدم ، اكتشف انه قيد الاستيقاظ . لقد جلست هذا الصباح بقوة ما جعلتني أراك داخلي ، بعد ان لم تعد هناك عزلة ، لا العالم ضدي ولا أنا ضده، لا الموت يأتي ويغلق هذا الصوت ولا هذا الصوت ببعيد عن الموت.انها – ايتها الغالية – ليست محنة ولا ذلك – هو – الذي دفعني كي اكتب : والآن ، استعادت الارض ابنها لسرها .. وكاد يفقد وعيه . منذ زمن بعيد كان يرى جسده يتلاشى ، بلا الم ، ويصير شيخا . قال لنفسه ، من غير اكتراث : اين اختفى الظل؟ وجمع قواه ( لدى رغبة واحدة للاعتراف.. كان علينا ان نسير معا.. انما .. حصل العكس .. لقد عشت في قبر .. ولم افلت منه.. حتى وانا امنح هذا الحلم ، فوق الورق ، بارقة أمل .. من ذا يدرك كم تعذب هذا العجوز.. وكتم .. كي لا يفقد نبله . انت ، وحدك، تعرفين حفايا الامر.. ووحدك ، لم تفعلي شيئا ..) من ذا الذي يقدران يتابع كابوسا .. وكتب بخط متعجل (بهذه المراره العذبة اصبحت أجرجر اصابعي نحو اعماقي السحيقة .. لقد دفنها الخيال وازلها من كل وجود.. حتى اصبحت بؤرة التلاشي. انت وحدك تعرفين . ماذا تعني انبثاقات الاعياد المرة .. الفرح الفائق ..) وخزة قلبه ، فتنفس ، مبتسما ، مصغيا لمن يطرق الباب، وقد فقد قدرة كتابة خبر الجملة : أعرف أنكٍِِِ كنت تعرفين هذا كله ).

الخميس، 16 أغسطس 2012

هل كان رشيد أو البهلول مجنونا ؟,الجزء الثاني والأخير,حامد كعيد الجبوري


هل كان رشيد أو البهلول مجنونا ؟ أم نحن المجانيين !!! الجزء الثاني والأخير حامد كعيد الجبوري لم يصدق رشيد أن طبيبا يخون أمانته ويحنث بقسمه لذا أخذ الحقنة ، وأصبح طيعا سهل الانقياد ل( مفرزة )الأمن ، أمبولة ذات 2 سي سي استطاعت أن تجعل رشيد الجبار ذو العضلات والقوام القوي الى حمل وديع يمتثل ليس لشرطي بل لطفل صغير ، ولكن الى أين ذهبوا برشيد هذه المرة ، أخذوه لبغداد التي لم يزرها منذ تخرجه ، اجتازت العجلة بهم بغداد لتتجه صوب طريق ديالى القديم ، هناك حيث مصحة الأمراض النفسية والعقلية ، لم يصدق مدير المستشفى أن هذا الرشيد مجنونا ، هز برأسه وأودعه ( قاووش ) 8 ، كيّف رشيد العيش بهذا السجن المحجر ، وفطن أن أغلب ( القاووش ) هم على شاكلته ، لم يصادق منهم أحدا ألا شخصا مسيحيا أسمه ( بطرس ) ، أحب أحدهما الآخر ، وكان بطرس يخفي تحت وسادته حبلا لنشر الغسيل ، يستعيره رشيد كلما غسل ملابسه ، زيارات متقطعة من أخيه جعفر وأبن عمه شوقي ود محمد ، سرعان ما تقلصت تلك الزيارات وانقطعت بسبب الأجر آت المعقدة ، بعد أربع سنوات وتيقن إدارة المستشفى أن رشيد أصبح مجنونا فعلا أفرج عنه ، وكانت مساعي العائلة سببا يضاف للإفراج عنه ، أدرك رشيد الموقف وأصبح كل شئ له جليا واضحا ، وبدأ مشوار ( البهللة ) والتسكع والصعلكة بشوارع الحلة وأرصفتها وأزقتها ، ينام حيث تنتهي به قدماه ، وربما كان لرشيد مشوارا مهما له وهو الجلوس قبالة مقهاه التي أحب ، أو الجلوس على دكة مسجد ( الكطانه ) ، وسوق الهرج ، والجسر القديم ، وأماكن أخرى ينتقيها بين الحين والآخر ، ولم يكن جلوسه عبثيا بل كان يلقي محاضراته العربية وخطبه الدينية ، البعض كان يتصوره مجنونا لطول لحيته ، وشعره الكث الطويل ، وملابسه المتسخة ، يحاول أحدهم أن يعطيه شيئا من المال فيرفض أيما رفض ، وويل لمن يفعلها معه ، الغريب أن رشيد كان يعتقد أن الأمن لا يلاحق المجانين ، وهذه حقيقة معروفة فالإنسان العاقل يطارد ، والمجنون تهمله دوائر الأمن ومقرات الحزب المجتث ، إلا مع رشيد فكان الرجل متابعا وهو عاقل ، وتحت أنظار الأمن والحزب ، وهم أجنوه ، كان أخواه محمد وعلي يتابعان جلوسه في أي مطعم أو مقهى ويدفعان ما أنفقه صاحب المطعم أو المقهى لرشيد ، وكرّمته !!! الدولة والحزب بأن أخرجا له تقاعدا يصرف لأخيه جعفر كوصي عليه ، ورشيد مستمر على محاضراته والأمن مستمر بتوقيفه ، ويطول ويقصر ذلك التوقيف وفقا لقناعة ضابط الأمن المكلف ، وأخوته يتابعونه من موقف لآخر ، مرة أقنعه أخاه ( علي ) ليأخذه الى حمام ( المهدية ) ، استجاب رشيد لذلك الطلب ، أراد علي أن يقدم نصيحته لأخيه رشيد ولكن هيهات فالفرق بينهما لا يدركه علي ولا ندركه نحن الخانعون ، قال رشيد لعلي ( يا علاوي يا عزيزي عم تتحدث ، أنني في عالم غير عالمكم ، ولا أظن أنك ستفهم ذلك ، كنت وصلت أفاقا لا يصلها غير الطامحين التواقين للحقيقة المجردة عن سفاسف ما يتمسك به الآخرون من مظاهر ، أوصدت أبوابي عن العالم ، وعشت عالمي الذي لن يناله أي منكم إلا بعد الجهد الذي قدمته في كل مراحل العذاب التي بها مررت ، فلكي تدخلون عالمي عليكم أولا أن تسعوا لقول الحقيقة دون نفاق ، ، ثم أن تقاوموا من أجل كرامتكم وتواجهوا الظلم ، ثم أن تكسروا أذرع الطغاة ، وبعدها تعيشوا في الشماعية لردح من الزمن يؤهلكم لما أنا عليه ، وهيهات أن تتحملوا أيا من ذلك ) . استدراك 00000000 اولا : لم نعلم أن دوائر الأمن قد كرّمت رشيد وذلك بجبه أي بقطع مذاكره ( أعضاءه التناسلية ) ، هذا ما شاهده مشيعوه وهو على دكة المغتسل . ثانيا : كان رشيد يمر على الشاعر ( جبار الكواز ) وأصبح بينهما أكثر من حديث مألوف ، أحد الأيام سأل الشاعر رشيدا قائلا له ، لم نكتب نبكي من قصيدة قفا نبك لمرؤ القيس بحذف الياء من نبكي ؟ ، لم يتردد رشيد وأجاب ( حذفت الياء يا جبار لأنها جواب طلب مجزوم ) ، أي مجنون هذا ؟ . ثالثا :لرشيد رأي بخطباء وشيوخ المساجد والجوامع ، فرشيد يستنكر لغتهم الملحنة ، وعدم فهمهم الفقه الذي يفترض بهم نشره ، وعدم شعورهم بقداسة هذا المنبر التربوي الأخلاقي الثوري الديني ، كنت والمرحوم شوقي جابر نتردد على مسجد ( أبن أدريس ) لنستمع لمحاضرة صديقنا أحد المشايخ ، فوجئ الجميع بدخول - ( درويش ، ملابس ممزقة ومتسخة ، شعر كث ، لحية تصل لبداية الصدر ، شفاه صفراء ترتعش من كثرة التدخين ، يحمل عصا غليظة غير نظامية ) - رشيد لباحة المجلس ، صمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير ، بادر خطيب المسجد ومن منبره منقذا للموقف وقائلا لرشيد ، ( تفضل أستاذ رشيد أجلس ) ، قال رشيد أنا لا أجلس أن سمعت لحنا في اللغة أو خطأ فقهيا ، قال الشيخ هو كذلك ، وفعلا جلس رشيد مصغيا لكل شئ ، وقبل أن ينهي الشيخ حديثه سأله رشيد بمسألتين فقهيتين لم أدركهما ، أجاب عليهما الشيخ وهز رشيد رأسه قائلا أحسنت وخرج من المسجد ، همس الشيخ لي ولشوقي قائلا ، ( والله لم أحرج بحياتي كما أحرجت هذا اليوم مع أستاذ رشيد ) ، أي مجنون هذا . رابعا : وصلت رسالة من بطرس موجهة لرشيد البهلول ، سلمت لمقهى ( حسن علي ) ، مفادها أني قد يئست يا رشيد ، أتمنى حضورك تعال ليلا خلسة وخذ الحبل الذي كنت أخفيه عنك ، ولكن سوف لن تجده تحت الوسادة ستجده معلقا بسقف ( القاووش ) ، وهذا دليل جنون آخر للاثنين رشيد وبطرس ، وفعلا نفذ بطرس ما نوى . خامسا : ربما يعد رشيد ممن أسميناهم جزافا ( الماركسيين الإسلاميين ) ، ولا أعرف هل أن رشيد قرأ شيئا للمفكر الإسلامي هادي العلوي ، ومن المؤكد أنه قرأ وتأثر بأفكاره . سادسا :آخر دليل على أن الأمن والحزب المجتث هما سببا صعلكة وجنون رشيد وقتله شهيدا ، أقترح الخطاط العالمي ( محمد علي شاكر شعابث ) أخذ رشيد الى لندن للعلاج ، ولأنه يتقن اللغة الأنكليزية بطلاقة وعاش ردحا من الزمن هناك ، ولا تزل عائلته في لندن أو انتقلت لألمانيا ، قدمت المعاملة لدوائر الصحة ، وحصل جعفر الذي سيرافق أخاه على جواز السفر ، ولم توافق دوائر الأمن على منح رشيد جواز سفر ، هذه هي الإنسانية البعثية ، يمنح المرافق جوازا للسفر ويمنع المريض من السفر ومنح الجواز . الخاتمة ------- قدمت أسرة آل شعابث للحلة الكثير ، شعراء وشعراء شعبيون ، نساء شواعر ، أطباء ، مهندسون ، معلمون ، فنانون ، موسيقون ، خطاطون ، باحثون ، وآخر ما قدمته هذه الأسرة الكريمة للحلة الفيحاء الرشيد البهلول . المصادر ----- 1 : معلومات شخصية أحتفظ بها سمعتها من الصديق الراحل شوقي جابر حدثني بها مطولا عن الراحل رشيد . 2 : رواية د محمد شعابث ( هكذا أرادوك يا شطر بيت لم يكتمل ) طبعت في البحرين . 3 : حكايات كثيرة دقيقة ترويها الناس عن الراحل رشيد .