الخميس، 10 نوفمبر 2011

قصة قصيرة-أخطاء الإمبراطور وعظمته-عادل كامل

قصة قصيرة

أخطاء الإمبراطور وعظمته

عادل كامل

منذ قرن ، لم يصدر مجلس الإمبراطورية أي أمر يخص منع حريات الناس أو أجراء حساب لهم في أية قضية من القضايا .. ليس لأن أعضاء هذا المجلس هو الشعب كله ، بل لأن أمير الأمراء ذاته قد تحول من ملك يحكم أطراف العالم البعيدة إلى إنسان يتنزه في الحقول ويجلس قرب الجداول ويتناول طعامه مع الفقراء والمتسولة و .. ..
ولكن مجلس الإمبراطورية الخالدة قد أعلن بلا أسف ان أمير أمراء العالم القديم والجديد هو الوحيد الذي لم يكن له ميلاد أو سنوات حكم أو نهاية . فهو مخلوق لا وجود له في الأصل ، وسجله الحافل بالرموز والجواهر والمآثر محض افتراء على جلالته ذاته قبل ان يكون كذبة عامة تلوث ضمائر مليارات البشر . ومثل هذا القرار الذي لم يعلن مباشرة شاع بين الناس وسمع به بطل أبطال الكواكب ، ذات يوم ، وهو يتنزه مع صبية في حقل لزراعة بنات الهوى ذوات الجمال السماوي المقدس ولم يكترث لعقوق أصحاب القرار ، فالناس ، في أعماقه ، هم الناس ولا يمكن صناعتهم حسب الفلسفات أو المعتقدات . أنهم النور السماوي فوق الأرض مثلما هم جواهر الأرض في الأعالي .
أبتسم شمس الشموس وقال لصحفي أجرى معه مقابلة استغرقت عدة عقود من الزمن :
- " في الغالب علينا تفحص الأمر من زاوية أبعد وأعمق وربما من ركن استثنائي .. فأنا نفسي لم أفكر بما حصل ولا بالطريقة التي تجري فيها الأمور .. هكذا أود من أعماقي نسيان أني مخترع هذه الأرض وهذه الشعوب .. في البدء حسبت الأمر محض لعب لا أكثر ولا اقل .. وهكذا صرت أعالج أعقد الأمور ببساطة وبعفوية .. ولكني في الأخير اكتشفت أني غير قادر على خلع الأحذية التي لبسها الشعب . وفي واقع الأمر أني لا أستطيع تصور الناس ألا بأحذيتهم . مثلما لا يمكن التحدث الى رجل بلا رأس . وعلى رغم هذا كله ياولدي فأنا غير حزين أو سعيد والأمر جد عادي هو ان الناس كائنات مصنوعة من الجلد .."

وغاب عن الوعي فترة طويلة من الزمن . وعندما آفاق كان وحيداً .. وبعد أعوام من ذلك التاريخ وجد الإمبراطور حاكم العالم القديم والجديد نفسه قد أستعاد ذاكرته . فذهب الى قصر القصور الذي شيده بمليار جمجمة من رؤوس الأعداء وألقى كلمة أذاعتها حناجر السكان في كل مكان من الأرض .. كلمة موجزة وان تجاوزت الألف صفحة من الحجم الكبير ، أعلن فيها عن ميلاد الإنسان العبقري . لقد هشم في البدء فلسفات الغطرسة وإرادة الحروب وفذلكات الخطاب الرنانة ليعلن بصراحة ان لكل ذات ولدت في عصره واستنارت بهدى وحيه المرسل الغامض القدري والمشيد بآخر حقائق إلكترون العلوم الفضائية الحق كل الحق بشرف الحياة . هكذا أصدر أمره الذي لم يفهم في سياقه التاريخي بمنع القتل والانتحار ولكن الأمر سرى كالنار في الهشيم بعد عقد واحد من الزمن عندما تم هدم السجون والمعتقلات وإلغاء الجيش والبوليس والحرس الإمبراطوري . وقال ان كل إنسان هو حارس الشعب ، والشعب كله حارس كبير الآلهة ، فالعدالة تنبع من جوهر اتحاد الجسد بالشمس العليا للذاكرة الأزلية .
صفق له الشعب سنوات طويلة جداً .. صفق له الأموات في الحروب الكبرى التي خاضها والأحياء المنذورين للخلاص الأخير .. ذلك لأنه أعلن بجلاء مطلق ان الإنسان ولد من النور وبالنور يعيش وإن مات فلا قبر له غير فردوس الشمس . ولهذا السبب أعلن الناس أنهم الملائكة فوق الأرض ، وتمت تسمية أمير العالم بشمس الشموس والنور الأزلي بعيداً عن تاريخ الميلاد أو تفسخ الجسد والظلومات . فالعباقرة ، وهم سكان الإمبراطورية الذين يحكمون العالم ، لا يخضعون لحكم الزمن الجائر .. أنهم الإمبراطور الجد والحفيد وهم الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم . وجاء في خطابه أيضاً ان الذات لا تمتلك ما حصلت عليه وما تحصل عليه فالملكية سر الشر كله ، فالناس ولدوا غرباء ويعيشون هكذا ولن يموتوا ألا غرباء لا شائبة تمس نورهم ولا ظلمة تسكن منازلهم الروحانية . الجميع يعبدون النور في أعالي العلي بعد هدم ظلمات ما تحت التراب الذي صنعه أشرار العالم القديم . ولهذه المعتقدات سحرها الذي قاد الأمة في نكبة النكبات الى الخلاص .. فقد تطوع الشعب كله للموت الذي لا أسم له . فالجد يحدث الابن بلا جدوى العمر تحت نير الظلمات .. والابن يحدث أولاده بالنور المفتدى . في ذلك العام هلك نصف الشعب ثمناً لكرامة الأنوار . فلمن ولد النور ؟ ذلك السؤال أجاب عليه قمر الفضاء ومسيّر الأفلاك بأن النور هو مصدر النور ..
وصفق له الشعب على مدى سنوات .. ولوحظ في هذه المرة ان الأشجار اصطفت في مسيرات حاشدة تشجب قدرية الظلام .. كما خرجت حيوانات البرية كلها : الأسود تتقدم الركب وبعدها النمور والفيلة والثعابين والعقارب والدببة والجمال والنمل والطيور .. مواكب مرت تحي بالنور شمس الشموس وتصفق له حتى في أحلامها قرار إرسال الجميع الى وحل الانتصار .. فالحياة ما عادت تحتمل من غير كرامات الأسرة الواحدة . أمة بلا جيش ولا بوليس ولا حرس ولا سجون ماذا تريد سوى الدفاع عن مملكتها المشيدة بهذا النور الساطع . حتى ان مسيرة كبرى لم تشهد لها الساحات من قبل هتفت وهتفت لسيادته وهي التي لم تولد بعد ولم تنل بعد شرف مباركته لها . تلك الجحافل ستولد في يوم ما من النور الذي لا يحمل أي تاريخ في سجل المستشفيات أو بيانات الميلاد . ففي أمة لا يوجد فيها زواج أو طلاق أعلن الشعب كله تطوعه للحرب التي لم يحسب لها الحساب .. فالقانون الأخير الذي صفقت له الريح وسجدت له الغابات بدغلها وحشراتها حفزت في الأعماق نوايا الخلاص والولاء لجلالة أمير أمراء العالم القديم والجديد . فلماذا الزواج ولماذا الطلاق . قال جلالته ان الحق ينبع من النور . والناس أدركوا من غير كلام أو ويلات حروب أنهم هم النور ولهذا أعلنوا جميعاً تطوعهم ضد الأعداء الأشرار .
وتلك هي فكرة شاعت وترسخت في قيعان الذاكرة : أنها من أشهر القصص التي كتبها أمير الأمراء بقلمه ، ونشرها منحوتة فوق الصخر ، قصة اجتماع أمير الجمال وأمير الملذات والمسرات ، وخادم الحرمات ، وأمير ملائكة الرحمة ، وأمير الحسان ، وأمير الفقراء والكلام الموزون ، وأمير فلسفات الدفاع عن مصدر الضوء وانعكاساته الخارقة والغيبية ، وأمير الصمت الصوفي الشفاف .. وغيرهم ، هؤلاء ، حسب الوثائق ، دخلوا معركتهم الأخيرة ، وماتوا كلهم دفعة واحدة بعيداً عن السيناريو الذي أعد لهم . فساد الظلام خيام القادة بينما كانت عظام مليارات المقتتلين تصفق الى كبير الآلهة الذي هو كنز الكنوز . عظام لصق عظام تصف بلا منازعات وهي غير خائفة من البرد الأخير .
وقال جلالته ، في هذا الخطاب ، ان الناس هم النذور .
وفي واقع الأمر لم يفهم الشعب فكره المتوقد ، على رغم ان الشعب والأشجار والأسماك والطيور وحيوانات حدائق الأثرياء وكل من دب فوق الأرض ذهبوا الى أبعد ما في أيمانه الأخير ، ذلك لأن الجميع أرادوا البرهنة على الولاء كنور يبدد ظلمات العالم .
ومثل تلك الفكرة وحدها بددت تخرصات الأعداء إزاء العالم المشّيد بالنور . فتم إبادة المعارضة أو أصحاب اللسان أو كل من في رأسه بقايا فكر .. وعلى الفور أعلن الأحياء والذين سيولدون في الأزمنة القادمة صواب آراء جلالة أمير أمراء العالم القديم والجديد ان الله هو الإنسان في إلغاء حدود العذاب بين الروح والقبر .
وحينذاك وعلى نحو مرتب بدقة صدرت أوامر بتأسيس قيادات حزبية لها شرفها الأول ألا تكشف أسرارها الى أبد الآبدين . وفي هذا السياق نشرت اعترافات هؤلاء القادة مثلما نشرت كتب عن وسائل متطورة للحصول على اللذة الشهوانية لإفرازات غدد كانت من صنع الإمبراطور . فالطبيعة حمقاء في جوهرها . وقال الإمبراطور أنها ليست حمقاء ألا لأنها لا تتيح للإنسان فرصة التذكر . وقد صفق الشعب كله سنوات لهذه الفكرة حتى ضجر جلالته من الهتاف فصرح ذات يوم كفى للهتاف . فصفق الشعب في أحلامه الخيالية من غير أصابع وهتفت الجماهير لقرون من غير رؤوس أو أدمغه . فقد كان قرار إلغاء وظائف الأعضاء مثمراً في هذا الشأن ، لا أحد يفكر ألا حسب القانون . ومثل هذا الأمر ذاته أكدته تلك الهتافات ألا عودة الى الابتذال الفكري للحوار أو المجادلات . فالبشر هم من نور يولدون فقط وهم قبل وبعد كل الأشياء لا قبور لهم سوى الجمال يحتويهم كبذور لأزهار لا تحترق بفعل الزمن . فالناس لا تتحكم فيهم المعرفة الجبروتية أو الديالكتيكية ألا باعتبارهم محض حيوان ستعدل من مسارها .
وأنشد الشعب وغنى ورقص بكل غرائزه الدفينة .. وتلك حالة شبه حتمية وصارت من أبرز التقاليد في الإمبراطورية ، وكان جلالته يفتخر بأن شعبه ، على عكس سكان الكواكب البعيدة أو البرابرة المجاورين له ، لا يعرف ألا حب الرقص وعبادة الأعياد والنور والخصب . فالناس هم عرس دائم ، حتى ان الشعب ، في واحدة من أكثر المعارك بشاعة ، أعلن احتفاله بزواج كل فتاة عذراء أو لم تولد بعد ، وحينها صدر القانون الذي ألغى جواز بقاء للأنثى ، كل أنثى من الحيوان أو الأشجار أو البشر بلا قرين أو زوج أو من يقوم بدور الإخصاب .. وقد صدر ذلك القرار في أشد أعوام احتدام الحرب ، والذي بالفعل صعق عقول الأعداء . فقد نشطت المخيلة على نحو غريب في إلغاء القرارات السابقة ، ذلك لأن الخصب يمنح الحياة وحدة أكثر الأشياء خفاءً مع أكثر النوايا ملائمة مع الاحتفالات .
على ان الإمبراطور أنسحب الى غابة نائية ومجهولة مع حرسه من النساء . وأعتكف هناك عدة أعوام شاعت خلالها في صحافة البرابرة وسفلة العالم البعيد ان جلالته يعاني من الذهان ، وفي تقرير سري قيل ان حالة من الطيف الشيزوفريني قد جعلته يفقد شخصيته ويتقمص روح الملائكة تارة وروح الشمس في الغالب . لكن ذلك التقرير المشؤوم لم يصمد أمام دراسة شبه ميدانية زعمت ان جلالته صار نبي البرد وأمير الثلوج وزعيم الأمراض المستعصية التي تنسف الدماغ وقوى العقل العليا . على ان الشعب في تلك السنوات ، ومنذ استقراره في الغابات أظهر عبقرية جابه بها أعداء الإمبراطورية .. فقد كان إلغاء الفاصل بين الموت والحياة بهذه الصفاقة قد ولدّ فكرة ان الجميع هم الإمبراطور وان بإمكان سكان عالمنا والعوالم القادمة من تنفيذ أوامره الديالكتيكية التي محورها ان الخصب وحده يمثل الذات منشطرة داخل الجماعات السكانية في تحقيق وحدة الزمن .
ومن ناحية إعلامية حقيقية فأن الأعداء وتحت ذعر الإبادة المخيمة في سماء المعارك قد أعلنوا هدنة مزيفة لم يكن لها من أثر سلبي في عمليات التجنيد وإرسال قوافل الفتيان والشباب والكهول الى وحل الانتصارات .. فقد أعلن أمير الطب والخصب الأزلي أن علماء الإمبراطورية بفضل نور الشمس الخالد قد توصلوا الى نظرية متطورة في الامتداد مفادها – وهذا الأمر غدا حقيقة في اليوم التالي – ان الأشجار بتناسلها لا تقل شرفاً مقدساً في إنجاب المحاربين .. كما تم تطوير الجينات المنحطة للحيوانات والبهائم التي لم تلوثها العقائد والأيديولوجيات المستوردة من الكواكب المعادية الى كائنات مثالية قادرة على الانشطار الذاتي .. وهذه النظريات ، في واقع أمرها ، جاءت لترضي مرحلة معقدة مرت بها البلاد ، خاصة أبان الحرب التي دامت قرن من الزمن الروحي الوسخ ، ذلك لأن الانحطاط الأخلاقي دفع بأكثر الناس صفاءً الى الانزواء والإدمان على تناول البراز وتدخين رائحة البول الجاف والنوم مع جث الحمير الميتة التي بلغ بها الأسى والنبل درجة اختيار الانتحار الجماعي بدل الخضوع لحيل وسفالات الأمر الواقعي . وحكاية انتحار الحمير كتبها ابن الإمبراطور وقال فيها أشياء كثيرة تندد بالانحطاط و القذارات التي لونت الناس وجعلتهم من سكان الجحيم . وانتحار الحمير من زاوية رمزية وواقعية معاً من أكثر الحكايات الشعبية ذات الفكاهة السوداء والسخف المفيد . ففي فجر يوم ربيعي مشمس ، وكان قصف الطائرات العملاقة المقاتلة وعمليات القصف الصاروخي قد توقفت لا بسبب نشوة الطبيعة وبزوغ لمحة مشرفة للجمال وإنما لأسباب تكتيكية لا أحد يعرف أسرارها شاهد الناس في أكبر الساحات والمتنزهات والحدائق والطرق قرار الانتحار الجماعي لحمير البلاد لسبب مباشر أعلن في قرار هذا الاختيار الأخلاقي وملخصه ان القائد العام لقوات وجحافل الحمير قد استيقظ وأصغى الى إذاعات الدول المتصارعة تذيع الأناشيد السماوية وحدها وان زعماء مطاحن الإبادة وهدر الدماء كانوا يتراشقون بالموت مثل كلاب مسعورة بينما كانت أطراف الحرب الخفية تقهقه بلا أسف لموت ملايين الأنذال والفقراء والمساكين ذلك لأنها عندما أشعلت تلك الحرب المسماة (( جوهرة الجواهر )) أرادت التخلص من أسلحتها ومن ثروات تلك البلدان بعد ان عقدت تلك الأطراف السلام فيما بينها لتشعل تلك الحرب بين الشعوب التي فقدت أخلاقها .. كان انتحار الحمير هو الحدث الذي تحول الى وحدة الإمبراطورية من خلال تطوير جينات السرطان حيث ولد جيل يتكاثر بلا حدود استطاع ان يغزوا العالم كله ملتهماً تجار الحروب وزعماء اللسان والكلمات التي لم يعد يصدقها حتى الكلاب والمومسات ووحل الموتى المتعفنين ..
ومثل هذه الأخبار كانت تصل الى أسماع الإمبراطور التي سخر منها أيماناً منه بأن نظرية الخصب النوراني وحدها ستعيد صياغة المخلوقات كلها .. وهذا نفذه أبناء الأمة عفوياً ومن غير ضرورة استثمار آليات العقل العليا أو خفايا الدماغ عندما تحولت الخلايا اللا عضوية الى جنود محنكين منذورين للأنوار والإمدادات والآفاق الرحبة .
ولكن عقل الإمبراطور الجبار الذي يوصف بأنه سبق الدوي المرعب الذي أنشأ الأكوان والذي سيبقى فذاً بعد انهيار هذا العالم وكل عالم أخر من المجرات والكائنات الشريرة المحكومة بحلم العودة الأبدي كان يتعرض لنزوات لا كونية وليس بمقدور أحد أو أي جهاز معلوماتي أو خزان هائل للذاكرة والابتكار الفريد من تحديد تلك الحالات أو حتى وصفها . وربما جاء ذلك بسبب معمر عاش جميع الحروب التي عاشتها الأرض منذ الجد الأول . فذلك المعمر كان يصف للإمبراطور كافة الويلات التي مصدرها عشق المخلوق العضوي لماضيه الهامد ، وان سبب التعقل لدىّ البشر والحيوان في الأزمات الاستثنائية لا يختلف عن الموت نفسه . فالتعب أو الوهن أو الشهوات أو الجوع لا تسبب الظاهرة بل تؤكد مصداقية أعلى عمليات التجريد التي تحدث للذرات المتحركة على هذا النحو الذي يعمل به الدماغ وعلى هذه الشاكلة المعقدة من وعي الوعي . ولعل فشل رسالات وأهداف وغايات كبار المصلحين قد فقدت كل الآمال بإعادة صياغة قانون التحولات .
كان الإمبراطور يصغي لهذا الصوت عله يكتشف وسيلة تفوق وعيه للنور ذاته . وربما هو ذا السبب الذي جعله يغادر المملكة معتزلاً العالم في تلك الغابة يعيش مع النباتات والطيور وينام مع الوحوش الكاسرة ويرتوي من لبنها الساخن ويتعلم لغة الأسماك والصخور فترة طويلة من الزمن اللا روحي . فقد آمن بلا رجعة ان المشكلة لا تخص الأثام الذاتية أو البشرية ولا القدر الأبله المطعون بنبال الحروب القادمة وإنما ثمة ببساطة النور الذي يتحول الى عتمة . وقد فند نظرية السكون والحركة وتم إحصاء الذكور والنساء معاً وكل من آمن بهذا على هذا النحو السطحي فالنور هناك ويليه ما بعد النور مثلما أبداً في الأسرار علانية ما قبل الأنوار الوهاجة . فالسكون حركة خصب تنتظر المباشرة بالأفعال المقدسة . وقد كان قراره بجعل الأشياء كلها والأفعال كلها ذات خاصية صافية لا يشوبها الوهن والفزع والتهتك والانحلال واللا مبالاة ثورة أصيلة هتف لها مليار مليار مليار من اتباع أتباعه والى اليوم الذي لا يأتي ..
ألا ان وهن الآلهة يختلف عن إعياء ذرات الجسد وإحباطات اللذة كما يحصل للبشر . وهذا ما دفعه في ذات يوم مشمس لتصفح مذكرات الإمبراطور الأب ..
وياله من فزع جعل بهائم الغابة تواسيه ودفع بالصخور لمراضاته والأسماك لذرف الدموع من أجله . وقد أطبقت السماء على الأرض ، وزلزلت الأكوان ، وتغير نظام سيرها وتوقدت انفجارات الرأس كماسك بالأوهام ومحلل أسبابها عندما تصفح اعترافات الأب والتي أضاف لها بصورة غير مدونة مشاعر فائقة للوصف والمذلة والجلال .. فقد وردت في فقرة تظهر تألمه اللا بشري واللا محدود لعذاب جلالة الإمبراطور الأب الذي رضخ للقبول بالسلام في ذات مرة في إحدى حروبه حيث كتب أو دون أو قال ان الأب خالجته أوهام وخيالات تخص ارتعاشات الشهوة ممتزجة بالظلام .. تلك الحالة التي أثارت شراسة الأعداء لحساسية الأب العجوز والتي دفعت بهم الى أتعس وأشهر وأنذل حصار حدث حتى عصره .. فقد مات الجند مثلما تجف الأشجار .. وهي أشهر شهدت موت المقاتلين في خنادق النور والعز والمجد وفي وحل الانتصارات .. ولم يبتسم الإمبراطور الابن قط لذلك المشهد الذي أمتزج بوراثة أفكاره ألا بعد ان هداه كبير المعمرين وطلب منه بعد اعتذار مطلق ان يخرج هؤلاء الجند من جيفة الموت .. ففعل الإمبراطور ذلك بعد حرب صاعقة مع رب الظلام وحرب أخرى ضد أميرة بوابات العالم الأخر .. وتمت له سلطة وهيبة إعادة محاكمتهم لاستسلام أجسادهم لشهوات ورغبات الجسد السافلة كحب الطعام والموت .. لكن جلالته كما في أفعاله التي لا توصف عفى وغفر لهم واستثناهم من أي عقاب ليعيدهم الى تربتهم المزروعة بالكنوز والماس والياقوت والزمرد والبترول المنقى .. لقد أعادهم الى تلك الأرض التي لم تجف فيها دماء الأجداد وأجداد الأجداد بعد .. لقد أعادهم الى الأسرار التي جذبتهم أليها أولاً بأول مفنداً تخرصات الأعداء الشيطانية حول إعيائهم ووهنهم وموتهم بسبب الحصار الاقتصادي ..
ولم يبتسم ألا عندما تذكر أسطورة انتحار الحمير المقدس الذي كان وصمة عار أبدية ضد الأعداء الملعونين الذين هم في الأزمنة اللاحقة محض تماثيل نصبت ليبول عليها من أنجبته حرة أو قحبة . وبالفعل مازالت في الإمبراطورية ملايين من تماثيل هؤلاء تستقبل البول والبراز بشهية من أرتكب الأثام كلها .. كما كانت تعلق فيها جثت المعدومين وموتى الشر فهم رمز الجيفة في أمة النور . أبتسم جلالته للحظة فقط فقد تخيل إمبراطورية الأب المحاصرة في تلك الحرب ورضوخ الأب للرحمة أبان انهياره وهو يصعد على سلم الوهم الى أعلى عليين حيث كانت الأمة على وشك الانهيار بسبب انعدام وفقدان الماء والزاد وانتشار العلل والكوارث والانهيارات النفسية التي لا تحصى عندما دخلها الأعداء وساعدوا الناس على الحياة .. تخيل ذلك المشهد المروّع حيث العقائد والدفاتر الفلسفية والكتب الزاخرة بعلوم الأولين مقذوفة بلا مبالاة وبصلف في براميل الزبل ومدفونة مع شرفاء أصحاب الفكر في المقابر الجماعية بينما الناس يزحفون كالحيوانات الكسيرة نحو طعام القمامة المتعفن ..
ولكم حاول ارواء خياله بمعجزات العقاب لهؤلاء الأبناء الأذلاء المستضعفين بدافع انحطاط الخيال من غير ارتواء أو مشاعر ود . فقد كان يستحيل عليه الشعور بالرضا من جراء الضعف البشري الذي أنهك خلايا الأحلام والذي دفعهم الى الاستسلام .
ألا ان كبير المعمرين حاول ان يذهب بخيال الإمبراطور الى مصادر مسراته : الاستمتاع بموسيقى حكاية الخليقة .. ومعرفة مصادر لذة اختراع الأوهام الأصلية ..
فقال الإمبراطور بكلمات مبهمة لكنها حازمة (( أسكت )) وكان ذلك بمثابة شك من جلالته لكبير حكماء عرشه بعد ان صفى آخر أذناب المندسين في عمل آليات الأجهزة الخاصة التي حملت له الولاء المطلق . ألا أنه لم يظهر نواياه إزاء عجوز حكيم دربته المحن وعاركته الصعاب .. لهذا تركه يحفر قبره بيديه . وبهذا التعبير السافل تذكر أجهزة الإنصات الرهيبة التي كانت تقدم له في كل يوم ما دار في خيال وخلد وذهن وأحلام ونوايا أبناء الأمة ، الأمر الذي فرضه هيمنته المطلقة لزمن لم يمتد طويلاً بعد ان أفتضح السر فغير الناس ما بداخل نفوسهم تغييراً جعل البلاد في سلام تام . فأجهزة الإنصات ، وهذا عيبها الوحيد ، غير قادرة على اكتشاف مثل هذه الكمائن ، على رغم أنها أعلنت له مراراً من وجود مشاعر غامضة لديّ من تجاوز الخمسين من العمر .. فمن خلال هلاهل وهتافات ومسيرات أبناء الأمة كان هؤلاء الكهول أقل رغبة بالرقص والشعر الميكانيكي الموزون وأهازيج المدائح وإشعال النيران في الخلايا اللا عضوية . وعلى كل فأنه لم يلتفت لتقاريرها في لحظات المحن ، كالتي يمر وهو يسترجع ، في غابته السرية ، تاريخ الإمبراطورية.
أنه الآن يرى في الشاشة الفلم الموجز لمسيرة حياة جده الإمبراطور الذي كاد يغدو إلهاً .. فقد صنع منه الأعداء وهماً سماوياً فاق أقسى الحقائق وأكثرها دقة . فقد نفى ذلك الحاكم كل التهم التي وجهت له ، وأباد ، بفعل أجهزة الإنصات ، من خالجه الشك في أمر رسالته ونواياه وغاياته .
ضحك الإمبراطور وهو يستمع الى صوت غامض يصدر من مكان مجهول .. صوت يذكره بأن الدولة ، في عصر جده الذهبي ، وبعد حروب أشارت أليها كتب التاريخ كلها ، كانت توزع مثل رغيف خبز يوزع على كلاب تنتظر حصتها بعد انتهاء مراسيم العيد واللعب . ومثل هذه المخاوف والمشاعر والكبت الروحي السقيم المزمن لم يعد يتجادل أو يتحاور بها أحد أو ترد في خواطر الناس . فلا مبالاة استقبال الخوارق تماثل الموت فوق الأرصفة أو الانتحار في ساحة النصر الأزلية . فأي إمبراطور يتدرج سلالم دفة السفينة يخترع لبني البشر البحر الكبر لها وهكذا تتبدل السفن بعد ان تتبدل السواحل .. حتى ان أكثر الأشياء ندرة صار يباع بالمجان أو بلا ثمن .. كأن المملكة برمتها تولد وتعيش وتضمحل لتولد وتنمو وتهلك مثل شريط يعاد سماعه للمرة الألف بعد الألف .. لكن لا أحد يهمه أمر الذاكرة .. وتلك جملة طيرها أحد الكتاب فشاعت فترة من الدهر .. لكنها تلاشت بعد ميلاد بشر برؤوس جديدة ، وبعد ان أزيلت من الكتب كل إشارة لها ، فالأجيال لها حق البقاء بمقدار ، ومن يبد يبد بسبب وعيه ، ومن لم يصفق للإمبراطور فهو خائن لا يؤمن بنظرية الخصب وكسول وبالتالي فعلى أقدام الثيران ان تسحقه وعلى النار ان تحوله الى رماد ليذر بعيداً في الصحراء .
فتارة تنحني الهمم فوق رغيف الخبز – قال كبير المعمرين في نفسه – وكان الإمبراطور يسمع ذلك الصوت الداخلي له – مثل انحناءة قضيب معدني تسلط عليه النار .. فإذا كابرت بعض الهمم .. فآنذاك تشتد النار لتحول الفلز الصلد الى بخار . على ان الحق يحتم علينا الاعتراف ببطولات الجند في المعارك كلها ومنها تلك التي فضل فيها آخر فصيل الاستسلام للموت الخالد بدل النجاة . ففي أسطورة الناس كانت هناك دائماً ذكرى لها مكانها في كتاب الدهر . أنها رقصة رأس مبتور في غرفة إعدام مظلمة . عيد في فرن نووي .
- (( أذهب ))
ولم يضف الإمبراطور كلمة أخرى . وإنما نادى أميرة الكلام وأخبرها بضجره الذي عكر عليه مزاج لذات الفجر . فقالت أنها ستطلب من البشرية الخروج الى الشوارع والهتاف بحياته الى يوم الدين . فقال لها :
- (( لا أريد ذلك .. بعد الآن . أغلقوا أفواه البهائم وحطموا أجهزة الكلام وأبواق اللعنة .. ))
ومنذ ذلك العهد منح الناس الحق كله في الخروج الى الشوارع والساحات والبراري والغابات والهتاف بحياة جلالة الإمبراطور الذي لن يموت الى اليوم الذي لا يأتي، وأعلنت أجهزة الكلام وأبواق الدوي ان الإمبراطور ارتقى خطوة جديدة نحو هدفه الخالد . والحق ان الناس ، بعد مئات السنين ، حولوا الأوامر الى وراثة . وليس هناك أي عالم يقدر ان يفرق بين الأسباب أو الظواهر أو تأويل النوايا . فالجميع عشاق للتصفيق وحب الرقص . أنهم ولدوا للاحتفالات . وهذا هو علم وراثة عصر ما بعد انشطار الخلايا العليا للحساسيات الفائقة . فحتى ان جلالة الإمبراطور الجد في أزمة أعلان الأعداء عن قتل الناس بالأشعة الارتجاجية لقيادة عمليات الدماغ الموحد خرج الشعب كله الذي مات بكل الوسائل ومنها الرفاهية البالغة وأيده . فهؤلاء الأكثر حقداً على جلالته والذين رحلوا مدفونين بالعار والألم والأورام والمخاوف اظهروا له الولاء بما فاق ولاء الأبناء والأحفاد من سلالة الدم الإمبراطوري المشع بالماس والجواهر والأنوار . وهذا الأمر وحده دفعه لأجراء تعديل في حساب من هم أعداء الداخل ومن هم أصدقاء الخارج والذي رسم له حقيقة ان المستقبل مثل الماضي وليمة كلام تنهش بعضها البعض الأخر حتى آخر الزمن . إنما هذا الوعي الجلل المروع والهزيل دفع بالابن لأجراء محاكمة لفكر الأب وأقصاه بعد جدل خاطف من مناصبه الألف ولم يمنحه ألا راحة الشفاء بالعذابات الدائمة . لقد حوله الى امرأة مدماة تطلق يومياً من غير إنجاب ألا هذا الشقاء المستمر . لكن الإمبراطور الحفيد فند خسة حكم الأب عندما أعاد للمرأة مكانتها الجمالية وجعل جرائمها آيات نورانية . أنه ضرب من المستحيل الذي غدا مألوفاً . وفي هذا أيده كبير الحكماء الذي نضج أكذوبة الموت الدائم . فالخصب يسبق كل نوايا الإنجاب . وبهذا أستعاد الإمبراطور نسيانه المقدس ، بعد ان مسح من الدفاتر التاريخية قذارات الأباء والأجداد ، وعاد الى حيواناته المتوحشة في البرية عند نبع الماء . وأحس كأنه عاشق ، مثله في ذلك كمثل من يستقبل الموت نفتح باب الفردوس . فنادى امرأة حسناء هيجت فيه ذكرى جميع اللائي رقد معهن واللائي سيرقد معهن كزوجات وعشيقات أو اللائي لن يحملن ألا مجد الميلاد . نادى الحسناء وقبلها وضاجعها عند نبع الماء حتى وهن جسده . فرقد بلا أحلام فوق العشب ينظر بمرح غامر سلالة من البشر الجدد يهتفون له بالمجد ويرقصون بعد ان أوقدوا النيران من حوله ، ألا أنه لم يكن من تلك السلالة التي تغريها المسرات بالنعيم .. فقد أعاد بناء ذاته المتكاملة .. وصفى حساباته مع النظريات والأفكار والمعتقدات .. ولما جاء برسالته أدرك أنه هو نورها ، وليس الماضي ألا عثرات أمامه ، فكنسه ، كذلك أزال وهم وعود الأزمنة القادمة . وعلى كل ، قال لكبير المعمرين ، أنه سيذهب الى أقصى مكان سري في الغابة . هز الأخر رأسه ومنع عمل أجهزة الإنصات والتشويش وما شاكلها . فالإمبراطور يستعد لبناء كون خارج خارطة الحرب والسلام أو الوعود المنثورة في الكتب . لكن الإمبراطور وبخ عبده وسأله :
- (( أنك تتحسس عليّ .. ))
فقال بخشوع تام :
- (( هو ذا أمرك يا جلالة الإمبراطور .. ))
- (( أعرف .. ولكني بعد الآن أريد ان أحيا بعيداً عن فذلكات أجهزتي الحمقاء .. أريد ان أعود الى .. . ))
واختفى في ركن مجهول . على ان ذلك لم يكن سراً .. فقد صدرت صحف الأعداء وأجزته كلها تتحدث عن انتحاره تارة أو اعتقاله تارة أخرى .. وقد ظهر فيما بعد ان الإمبراطور كان يسرب بعض المعلومات لأسباب خاصة . وأنها معلومات اربكت الجميع وجعلتهم يتيهون في تحليلاتهم .. لماذا أبتلع بعض المناطق المجاورة ولماذا قطع كل يد صافحته في الزمن الماضي ولماذا بارك الموت الجماعي لجحافله الخاصة ولماذا كان يتنزه تحت أشد أنواع الرعب الكوني في شوارع الإمبراطورية مع الأطفال ولماذا اخترع نظرية الخصب التي فندها ولماذا لم يعد يشعر بالسلام الذي طالما جعله جوهرة النور ..
في البلاد كانت الحياة تجري على نحو عادي .. لقد أعتاد الناس سقوط الكواكب والكتل المفككة من الداخل والموت بفعل إلغاء نظام حركة الدماغ أو الرجات الكهرومغناطيسية النووية التي تعطل عمل القلب للحظة والى الأبد والتي تورث الموتى الخمول حتى في حالات الانبعاث .. لقد أعتاد الناس تلخيص مصائرهم من خلال تقليب كتاب الإمبراطورية .. والأدهى من ذلك ان شاشات التلفاز والعروض المرئية في الساحات والمتنزهات وحتى في المعتقلات كانت تعرض أفلام الأعداء الحربية وغير الحربية .. فالناس يعرفون من غير علم أو أدراك مباشر قوة الأعداء في الهجوم والنسف الجهنمي وتشريح أقاصي الأفكار لدى الناس في الخناق أو في المدن التي مازلت تشكو من الخدر العام .. ان أفلام العدو التي شاهدها سكان الإمبراطورية زرعت ما بعد الرعب في قلوبهم حتى غدا النصر يماثل الهزيمة .. فالموت هو جزء من لعبة الأقوياء الذين هدفهم قيادة الفوضى الى نظام محكم ومغلق وسري لا يمكن شرحه أو ملامسته أو معرفة خفاياه . بيد ان احتجاج كبار كتاب الإمبراطورية حول هذا التخريب النفسي والروحي أدى الى هلاكهم المباشر أو إرسالهم الى ساحات التشهير أو دفع بعامة الناس لقذفهم بالبراز .. ومع ذلك أعتاد الناس مشاهدة أفلام وفعاليات أبطال ورموز وثقافات الأعداء مثلما اعتادوا بلذة تدمير بعضهم للبعض الأخر .
وفي تلك الأيام السود أو التي فقدت كل الألوان خرجت جموع الأمة من جحورها على زعم تعرض الأمة للموت بالرعب السماوي والجهنمي ممجدة ارتقاء الإمبراطورية خطوة أخرى في سلم المجد ذلك الذي ان رآه أحد لأبد ان يمسه الجنون . لقد خرجت عن بكرة أبيها تهتف وتصفق وترقص بعد ان زينت المدن بأبهى أشكال الاحتفالات والأعراس كان الحياة برمتها عيد وفرح ، وفي تلك الاحتفالات كان الخطباء يتبارون باشتقاق واختراع لغات محكمة وسرية ومغلقة داخل الانغلاق الصوفي والمثالي والواقعي الرصين .. وكان الناس الذين لا يفهمون الخطباء يهتفون الخطباء يهتفون بأعلى أصواتهم كلما ازدادوا لا معرفة لتلك الخطب المحنكة العظيمة .. وفي الواقع لم يفكر الخطباء ولا الشعراء ولا الكتاب بتلك البهائم التي غيرت معتقداتها آلاف المرات والتي ذاقت مليار صنف من صنوف الهلاك والموت المحقق .
فالنصر محسوم بفعل خفايا النور .. وقال هذا الخطيب الذي سبق ان هلك في عدة حروب ان الجيوش المؤمنة غريزياً بالهزائم حتى النصر قادها أب الجميع في الماضي وفي الغد حتى النصر المؤزر ليشاهد أبناء وأبناء كل الأجيال النورانية والمشعة وصاحبة القرار أوسمة الرماد والزمرد والبول الجاف مرمية في قيعان المستنقعات وفوق أكوام رماد هياكل عظام المخصيين والمحاربين والمومسات والجواسيس والمدراء الذين شبعوا من التهام الذهب وضاجعوا معظم العذراوات والمحصنات من بنات وزراء الإمبراطور نفسه .. أنه النصر الذي مصدره في الغيب آت من النور فوق البسيطة يزلزل عرش العتمة في رأس الجلاد الأكبر . وقال خطيب محنك آخر لا تحصى ثروته ولا تعد ان الهزائم هي قدر الأغنام والماشية والأبقار العجاف التي تساق الى المسلخ من غير اعتراض لأنها مؤمنة عميقاً وبصدق الحكماء ان التضحيات محسوبة ولها مكانتها في رفع شأن الراعي وأتباعه في بناء هيكل العالم الموحد والكبير الذي سيمنح القديسين الشهداء شارة الخلود فالإنسان الفرد والجماعة مثل تلك الجينات فلقها مالك الحجارة لتصير نذراً في أحكام شرعية قانون الأزل الأوحد الذي لا يحق لأحد معرفته أو ليس بالضرورة ان يشرح على رغم عدم رؤيته أو إمكانية تحديد مداه فهو في كل مكان خفي من الذرة ومن النطفة التي ستولد في كل عصر وفي كل زمن بعيداً عن أركان التعصب والغباء ونقصان الوعي . وشرح الخطيب الثالث ان الألم هو الشيطان على هذا النحو المفسد لاستقراء مصادر النور والاشتعال الأمر الذي من خلاله تم إلغاء البرد والأمراض الشتوية والحر وكل تلف قد يسبب فساد عمل حجيرات الدم في شعب الإمبراطورية الموحد الذي يذهب الى الموت كأنه في عيد .
وصار الشعب برمته يخطب ويرقص بعد ان ارتقى الإمبراطور خطوة جديدة في سلم الخلود . فالإمبراطور .. قال أحد الخطباء ذهب الى مناطق أبعد بكثير من خفايا العالم الأخير .. وهو في كلماته يؤشر حكاية الوجود كله منذ الطوفان يوم أمطرت السماء الدماء والجماجم والمتفجرات والأشتعالات فوق النورانية وحتى آخر يوم في هذا الزمن .. فالإمبراطور روى للأمة أحداث الكون قبل فساد فضاء الآلهة يوم لم تكن ضجة ولا أصوات ولا نساء ساحرات ولا رجال قوادون وجواسيس ولا أطفال عراة أو موتى فوق الأرصفة عندما كان الصمت قرين موسيقى كلمات الخلود . كانت الآلهة راضية مرضية لولا أنها ضجرت لأسباب تخصها هي وحدها فصنعت الطوفان لمحدثي الفساد بعد ان فشلت بالقضاء على الإرهاب والاغتيالات السرية وبعد ان فشلت في زرع الرحمة والأيمان فكان الطوفان هو لغتها يوم اشتبكت الآلهة بنفسها في حرب داعرة عند بيت كبيرها الذي أفاق من غفوته وهو الذي لا يغفو ولا يمس جفنه الوهن فقال لها كلمات قليلة ثم جمعها كراع يقود غنمه الى الكهف بعد هبوط الليل وأستأنس بالآراء وبالجدل الوجيز ليصدر أمره بإغراق الأرض ومسح معالمها وإزالة أفعال الشر منها . وقال الإمبراطور ان كبير الآلهة سمح لولده – وكأن الإمبراطور يتحدث عن تاريخه – الصغير بالحفاظ على نفر من البشر المقدسين الأطهار وعلى عدد من البهائم والطيور ليتبع النسل فوق الأرض .. وقال الإمبراطور ان هذا النسل أزداد وملأ الأرض مرة ثانية حتى ارتفعت ضجته وعراكه وصار مصدراً لتلوث صفاء ذهن كبير الآلهة لكن الأخير لم يرسل الطوفان من الأعلى بل ترك القوى يقضي على الضعيف حتى يتم للجميع في يوم مقدر ان تسود فيه أحكام الرب بسيادة هؤلاء الصفوة .
وشرح أحد الخطباء ان العالم اليوم هو في سير منطقي نحو هذه الخاتمة التي يقودها جلالة الإمبراطور الذي لم تلده أنثى ولم يمسسها ذكر حتى في خيالاتها وهي التي صارت أم العالم كله سيدة الأراضي والفرق والأمم وقال هذا الخطيب ان العالم سيخلع فوضاه بعد ان تضع هذه الحرب أوزارها حيث ان كبير الآلهة سيقلد إمبراطورنا وسام الألوهية . ورداً على سؤال غامض مبهم صدر عن عقل ممسوخ لا وجود له هل ان الأعداء سيقضون على هذا الحلم .. فأجاب وهو يزلزل الجبال ويهز الغابات ويرج الأرض ان الإمبراطور لن يصير ضحية غدر ولن يسعى الأعداء في نواياهم الشريرة لجعله شهيداً وإنما هو أقوى من كل الكلمات البراقة لأنهم أصلاً ل يقدرون على قتله أو القضاء عليه إذا حاولوا ذلك كذلك هم سيصابون بالذعر الأولي لو صنعوا منه رمزاً أو شهيداً لأن كل أبناء ما بعد الطوفان سيفسدون سير نظام الكوكب نحو مصيره الواحد الموصد يوم تزلزل الساعة ويقود بريات وصحارى وغابات وبحار العالم نفر قليل من أصحاب الصفوة هيكل السماء والأرض الى المصير المحتوم .
وانهالت الخطب والجمجمات وصدحت مكبرات الكلام وأجهزة الإنذار الصوتي والثقافي والفلسفي تشرح بعمق ان زمن الرعاع قد ولى الى أبد الآبدين وليس على البشر ألا الولاء والإصغاء الى موسيقى صمت كلمات الإمبراطور الآتية من أعماق غابته السرية .
وفي واقع الأمر كان الإمبراطور مسروراً السرور الذي لا يوصف بشرياً أو إنسانياً ألا كومض صادر من خفايا الكون السحيق لتلك الخطب والكتب وآلاف المجلدات التي كانت تواكب تاريخه المجيد .. فقد كان في كل صباح يطلع عليها ويرميها الى النار لتتحول الى أغنية أو كلمة واحدة يبلورها ويعيدها الى شعب إمبراطوريته حيث يجتهد فيها علماء الأمة سنوات وعقود وقرون من الإنهاك والتحليل لتغدو تلك الكلمة حكمة جيل تسري في دماء الأجيال التالية . وكان جلالته في كل مساء يطلع على اجتهاد كبار أتباعه قبل ان يخرج الى الأدغال ويجلس الى حيواناته البرية بعد ان يقذف بها في الغالب الى خزانة تتجمع فيها لقى وآثار عصره الجليدي الماجد . ففي الأدغال كان يخترع روائح التوحش الأليف لنسله القديم ويتنفس ملأ أعماقه شهوات الأنثى عند منابع المياه يخالجه أسى شبحي أنه لم يرقد في رحم امرأة ولا في رحم الآلة وإنما جاء الى هذا العالم مثل نور مصدره النور .. ونسف أسطورة الماء برمتها وبصق في محيا أصحاب النار وكبل أبناء الطين بالهواء كسجن لا مناص منه . لكن رائحة الشواء البشري كانت تحفر مغاليق روحه رغبات الرقاد في رحم أو داخل الحجارة . ألا أن ضباع وأسود وثيران البرية أنسته أحزانه وأرسلت له كل ما يشتهي من إناث البشر والحيوان والطير ومخلوقات البحار وما تحت الأرض وقالت له البرية أوقد نارك يا كبير بني الملائكة الذي لم تلده أنثى ولا أب له من البشر أو الحيوان وأمنح شعبك ذرية مصاغة بالنور من النور تأتي والى النور تذهب . فخلع عنه تاج العالم الذي بثقل كوكب الكواكب وان كان حجمه بصغر رأس دبوس ورقد مع جمع إناث الطير والأسماك والحيوان والإنسان في ليلة أنشق فيها القمر وتناثرت فيها النجوم وتعطلت فيها كافة أجهزة الإنصات والتصوير ولغات الأسرار لينجب في ليلة أم الليالي ذرية تحمل أسمه في مملكات العالم البعيد ..
إنما خرج الشعب كله في تلك الليلة فرحاً يرقص ويغني ويصفق ويهتف لأعوام متواصلة لعيد الخصب وتقدم الفرق والجحافل المنذورة لوحل الفوز والنصر المؤزر صفوف الموتى والأحياء في خنادقهم ومدنهم وقراهم وهي تكتسح الدفاعات الحصينة للأعداء . وقد شاهدت تلفازات العالم وأجهزة التجسس الإمبراطور يتقدم كل هجوم وفي الصفوف الأمامية حتى تعطلت تلك الأجهزة وتهدمت وذابت وانتحرت لأنها لم تدرب وتصمم وتزوّد بما جعلها تفقد تقنياتها المتقدمة وهي تشاهد مليار نسخة أصلية من كيان وشكل وروح الإمبراطور في كل مكان من أرض الوغى وهو يتقدم غير آبه بإنذارات العالم كله ولا بتلك الأسلحة الفتاكة المدمرة للتراب والهواء .. ذلك الحدث الذي عطلت فيه إرادة عمل ذرات وحجيرات الأدمغة التي تصالحت مع الشر والعتمة صار عيداً قومياً خالداً وخطوة أخرى تقدم فيها الإمبراطور نحو مجده المشع بالأنوار .
ولم يعد الى كهفه ألا بعد صمت أطبق على العالم كله . كان يمشي بهدوء مثل ساحر يمشي فوق الجمر غير آبه بلهب النار الموقدة . لا موت يخشاه ولا لغط يخدش سمعه .. لا بصريات تؤذي بصره ولا كلمات مدسوسة توسخ صفحات كتابه .. لا ألم ولا مسرات زائلة .. لا مكان ولا زمن .. وفي كهفه عند الباب اومى بالامتنان الى كل أنثى أخصبت وأرسلت بذريتها المنقاة الى فضاء المطاحن وانصهار الأرواح بباريها في كل ذرات الخلائق حيث أنفس ترقد آمنة مطمئنة وولج الى الداخل حيث طلب من كبير حكماء الخالدين أخبار كبير الآلهة بمجد التاريخ الذي دونه فوق مسلة الإمبراطورية فقال الأخر أنه فعل ذلك في اللحظة التي أراد فيها جلالته ان يعلم كبير الآلهة ان مجده يمتد من مكان الى آخر .. غضب الإمبراطور قليلاً ثم كتم غضبه وهو يعود الى الباب كهفه ينظر الى الباسلين الراقدين في زمن النور الخالد . ولذ له ان يرى الحقب التي مضت تاركة المجد في أبناء الأمة الذين أحبهم كخلايا أزلية تتحرك في ذاكرته الكبرى .
كان يرى المعركة قد بدأت بالكلمات الغامضة ثم بالأيدي وتطورت بعد جيل واحد لتصبح معركة بالحجارة والعصي والعظام .. وهاهو يراها تقتلع المدن والبلدان من خارطة الوجود . لكم فكر في طفولته في مغزى الحرب المدمر والسلام المهين : الموت الذي يلغي المقاصد ويجعل الأطراف كلها في حفرة غضه . كان ذلك في الماضي عندما تلقي أول عقاب صارم من الإمبراطور الأب الذي زج بالابن في خنادق الوحل الأمر الذي دفعه الى بناء هيكل النصر النهائي وجعله لا يحلم ألا بإلغاء فكرة التفسخ التي تفوق بقاء الخلايا في نظامها الرتيب . أنه منذ ذلك الامتحان الذي لم يحسم فيه اختياره للموت دفع بخياله الى أقصاه . لا راحة للجسد ولا سلام للفكر . وهاهو يرى موتاه .. حشد يتناثر فوق الأرض .. رؤوس معلقة وتتدلى من الأشجار .. موتى زرق بالغازات الروحية يقاومون ابتساماتهم الساخرة وراء الجلد المسلوخ . أكوام عظام في الساحات و المتنزهات . مدن خالية من البشر . أطفال متجمدون وشيوخ تحولوا الى بخار . تماثيل بشرية في قدح للماء . شوارع تتلوى من الرعب ومدن خسفت بها الأرض . بحار جفت فيها المياه ولا توجد فيها ألا بقايا حياة . مليار مقاتل في كف حديدي . موتى من الرعب ملتصقون بالأرض وقسم يتطاير كريش في الفضاء . بقايا أصابع فوق الموائد . أرض سوداء تمتد مع الأفق . حيوانات ميته ترتفع رؤوسها نحو السماء . بقايا غابات تحولت الى رماد ..
- (( أكل هذا فعلته أنا .. ؟ ))
فقال كبير المعمرين له :
- (( أنك يا جلالة الإمبراطور مازلت تبحث عن خلاص هذه الأمة .. ))
- (( آه .. أتعتقد أنه بمقدوري أن أفعل شيئاً ؟ أنظر الى الماضي وما بعد الماضي .. ها .. ها .. اقترب مني قليلاً أيها الجاسوس ! هل لحظات السلام الوجيزة للبشر هي الغاية الكبرى التي تحركها مليارات الحشرات البشرية ؟ ها .. لحظات سلام عفنة .. وسخة .. بينما يقود العالم نفرد قليل من أذكى الأذكياء نحو مصيره المحتوم : نحو .. أجل .. العودة الى السلام الذي تتساوى فيه الأشياء : الجلادون يعانقون ضحاياهم بلا تذمر . لا أمراض ولا شيخوخة . أصغ لي يا من أحببت الدنيا وحدها كأنها الزمن كله أني لا أعاني من الأمراض أو الأوهام .. ولا أبدل حالة بحالة .. ولا أعوض قضية بقضية أخرى .. إنما هذه البلاد أو هذا الركن من العالم لا يسعى ألا للإمساك بشرفة أو وجوده العادي .. ألا ترى أني على حق في أحداث هذا اللغط وفي هذه الضوضاء مادام العالم كله أسير حفنة من أذكى والأذكياء الأوغاد .. أو و .. ه .. يا صديقي المعمر الذي يعرف تاريخ هذه الأرض منذ كان فيها شخص واحد هو جدي الإمبراطور وجدتي التي تركت لنا هذه الذرية من الأغنام والمواشي .. أجل .. أنت تعرف تاريخ الذل كله مثلما أعرفه وكأني أعيش في قاعه .. فأين يكمن خلاص الأمة وماذا بمقدوري ان افعل ؟ لقد حاولت ان أقود حتميات الأمور الى شن حرب ضد المفسدين الذين يحاصرون أراضينا ويتلاعبون بمصائرنا ويستولون على ثرواتنا وينهبون عقولنا .. وحصل ما حصل .. لقد صمدنا أمام جبروت أعتى تلك القوى الكاسرة وصرنا على لسان كل من في قلبه نبض وفي عقله بعض خلايا تتشوف للنور .. وأنا كنت طوال الوقت أسير في المقدمة .. ولم أتخلف ولم أهمل صغيرة أو كبيرة تهم مصائر أمتي . كنت أموت وأولد مثل الجميع .. وكنت أدعو الى الإرهاب الذي أدرك الآن أنه الحل الذي يوازي حق الجميع بالحياة . علينا ضرب ونسف وتدمير مصالح الأعداء الحيوية .. ولكن .. ولكن أنت تعرف ماذا حل بنا طوال القرون الماضية . أني للآن لا أعرف لماذا يزعزع الخوف إرادة إنسان فيه من النور ما يفوق ظلمة العالم كله . لست مريضاً ولا خيالياً .. فأنا رجل مثل الجميع ، ولد من رحم أم وله أب ويتنفس الهواء ويشعر بالبرد ويبكي في لحظات الفرح ويحب ويغضب ويتبرز وينام .. ولكني على رغم هذا كله لم أخف من سطوة الأعداء .. وعلى رغم هذا كله أيضاً فأنا لم أفلت من قدري .. من الخراب الذي يمتد الى مئات السنين ومن الوحوش التي تتبادل وتتقاسم وتفترس ضحاياها .. الست أنا الوحيد الذي صرخ في وجه المجهول وصمد سنوات وسنوات للإفلات من مخالبه التي كانت تعمل في القلب ..))

وكتم صوته الداخلي . كان وحيداً بعد ان أمر وحوش البرية بالتهام أكبر المعمرين .. صنوه الذي كان يلاحقه ويطارده لحظة أثر لحظة . كان وحيداً يحدق في الظلام .. وحيداً كأنه لم يعش ولن يموت متفسخاً مثل خلايا فقدت تماسكها ، أنه يحس بذوبان جسده فوق تراب الكهف ، ممتزجاً بالعتمة ، ويشعر ان هناك قوة ما تخلص منها : هذا الشبح أو هذا القرين أو هذا الذي أقلقه طوال العمر يقف أمامه .. يصرخ فيه بكلمات .. بكلمات قليلة .. بكلمة .. بكلمة واحدة .. بلا صوت .. أنهض .. أنهض .. أنهض . لكنه كان يرى جيشاً جراراً يخرج من الكهف نحو الصحراء .. وكان يستمع الى موسيقى الحرب .. ولكنه عندما حاول إظهار مسرته العميقة الخاطفة شعر بقواه تنتقل الى تلك الخلايا وهي تعيد بناء مسلة جديدة . لقد مات وحيداً بينما كانت الحرب قد بدأت تواً . كان وحيداً إنما كان في كل مكان . وراح يحدق في مليارات المحتفلين بيوم الزهو وهي تزحف من القرى والأرياف والمدن نحو ساحة الخلود . كانت تهتف وترقص وتلوح بأسلحتها كأنها تريد ان تصعد الى السماء . كان يحدق بلا مبالاة إنما بكبرياء من حارب آلهة .. وأبتسم وهو يخبر كبير المعمرين ان الحرب لم تبدأ بعد .. وان نظرية الخصب لا بد ان تأخذ مساراً يجعل الأجيال الجديدة أكثر فعالية في نسيان مسارها القديم . فهز الأخر رأسه وأمر صانع النسل بتنفيذ الأمر . وبعد عقد من الزمن وفي هذه الساحة ذاتها أمر جلالة الإمبراطور بإعادة صياغة ذاكرة أبناء الإمبراطورية وإلغاء الخوف ومسح كلمة أعداء من الدفاتر المدرسية وهدم رموز العتمة كلها وإطلاق المشاعر الخفية والداخلية وجعلها القانون البديل للأهداف المضللة لبني البشر . لقد آمن الجميع منذ زمن بعيد بهذا الحلم الذي سبق ان تحقق في الأحلام وهاهو يهدم تلك الفواصل بين الرغبة والتجارة الأبدية . أنهم يمتلكون زمنهم ككتلة بلا مكان ولا أبعاد . أنهم مثل عرس ملائكة . لكن جلالته أعاد بنفسه كتابة أحلام الشعب ، ووزع نعمته بيديه ، ولم يهدأ له بال ألا بعد ان زار أبناء الأمة فرداً فرداً بعد انصراف الليل وتأكد له نسل المعادن ، على مدى قرن قادم ، سيشّهد أعظم إمبراطورية غير محكومة بالزوال . ذلك لأن عمل مجيرات الدماغ الروحية لن تعمل خارج إرادته المتفتحة والمتجددة أبداً . وهاهو يتنزه في أكبر حديقة تحتوي في أركانها وزواياها على نماذج لا تحصى من أسرى الأعداء ومن العلماء ومن القادة والملوك والرؤساء وهم يعاملون معاملة الأرانب والجرذان وبنات أوى .. وعندما وقف وحدق في أكبر إمبراطور دوخ الأرض وكاد يزعزع نظام الفلك وينسف منجزاتها الفذة أمر له بوجبة مضافة من العلف .. وقال لأمير الحرس ان يقوم بتوزيع هدايا على تلك المواشي الأسيرة التي مسخت الى أشكال يأتي الشعب أليها يومياً لينقعها بالبصاق والبول واللعنات .. وكانت مكرمة جلالة الإمبراطور ان يسمح لها بالتبرز خارج أقفاصها . وعندما شاهدها وهي تهرول وتهرب صرخ في وجه كبير المعمرين وأمره بإحراق الأقفاص ونقل الأسرى الى كوكب بعيد على ان يتم تصفية الضعفاء منهم . لكن الأخر حدق في محيا جلالته لبرهة وجيزة من الزمن تحول خلالها الى تمثال . فأمر بتحطيمه ونقله مع الأسرى الى ابعد كوكب لاتقاء الشر الذي خالجه في تلك البرهة الوجيزة من الزمن .
ولم يغادر عاصمته ألا بعد عام أمضاه في تفقد أحوال الناس .. وقد أعلن في خطابه الأخير الذي هو خطاب الوداع ان الإمبراطورية لن تأسف لرحيله لأن كل ذرة حية أو مستقبلاً هي الإمبراطور نفسه .
لكن الشعب أخذ يولول وينوح بعد ان أضرب عن الطعام .. ولم يفلح الإمبراطور في إعادة السلام الى النفوس ألا بعد ان أخذ يحدثهم عن آخر المعارك . هلهل الشعب كأنه في عيد . فقال الإمبراطور ان العدو في حربنا لا يُرى وليس له من وجود أو كيان فوق الأرض أو في أي جرم من أجرام الذاكرة الأزلية لهذا المجهول .. بل وان هذا العدو لا علاقة له من قريب أو بعيد بمحركات الشر في الذرات النورانية داخل مملكات الدماغ والروح والخفايا . أنه العدو الذي لا يسمى ولا يسمع ولا ثقل له ..
فصفق الشعب وآمن ان جلالة الإمبراطور قد بلغ آخر درجة في سلم الخلود .. أنها خطوة ان يكون الشعب كله هو الإمبراطور نفسه .. وفي ذلك اليوم الذي أمر جلالته فيه ألا تغيب الشمس رقد في نعشه الذهبي المشع بالجواهر والعطور التي تحي الموتى وتشفي الأمراض العصية وحدق في الفضاء اللا نهائي لرغبات الإنسان . كان الشعب كله قد غادر للسير في موكب الرحيل . ولم يحدث من قبل ان مزق الناس ملابسهم ولطموا على الخدود وحلقوا شعر الرأس وجرحوا أجزاء مختلفة من الجسد حيث الدماء كانت تسيل فوق الأرض والناس صاروا بلون الدم وهم ينوحون بصمت تارة كصمت الرماد ويصرخون مستغيثين مرعوّبين نادبين شاكين بعد ان فقدوا الصبر والرجاء . وفي الواقع كان جلالته في حياته المريرة لم يختر له قبراً بعد ان أزال قبور الأباء والأجداد وحول الأرض كلها الى حقول وبساتين وغابات .. كما أعلن ذات مرة ان تذكر الموتى هو ضرب من الإحباط وضعف يؤدي الى الإعياء .. لهذا كان نعشه الإمبراطوري يدور في شوارع المدينة العاصمة وأزقتها من غير هدف محدد .. لكن الناس كانوا لا يريدون اختفاء الإمبراطور من حياتهم مما دفعهم الى أبعاد أي احتمال بالدفن في أي مكان .. وفي الحق ليس هناك من له كلمة حاسمة .. فقد كان جلالته الرجل الأول والأخير .. على ان الناس لم يفكروا بالحاكم الجديد .. فقد شعروا بالولاء له في موته كما أعلنوا ذلك حد الموت خلال حياته . ومن يرى بكاء الناس وعويلهم والشحوب الذي غاص في محاجر عيونهم والزرقة الممتزجة بالسواد فوق الوجوه يدرك أو يشعر ان نهاية العالم قد حلت ..
وفي تلك الأسابيع التي كانت الجماهير تدور بجثمان الإمبراطور من مكان الى آخر بعد ان تعطلت أعمال الإمبراطورية كلها كان بعض الأعداء قد فقدوا عقولهم لهذا الولاء الذي لم يحدث لجلالته حتى في أيام حكمه الذهبي .. لهذا قرر كبار الأعداء في اجتماعهم السري تأجيل أعمال العنف أو أعلان الحرب أو التحرش بالبلاد . فالناس الآن لا يرغبون ألا بالثأر لإمبراطورهم ، وضد أي شيء . كما ان التوقعات بنشوب حرب أهلية كان محض هراء .. فالشعب كله قد وضع الجثمان في ساحة الخلود ورفض مغادرتها . وكانت البلاد لأول مرة وكأنها تشهد واحدة من تلك الحروب المروعة الطاحنة التي قاد بها الإمبراطور نصف الأمة الى المستنقعات والى الموت . فقد تعطلت الدولة وصار الناس يعملون بغريزة الذهول .. وخلال تلك الأشهر كانت جثة الإمبراطور تتصلب وتزداد فتوة .. الأمر الذي دفع بالغابات والحيوانات والكواكب وحيوانات البحار والأنهار وكل مخلوق حي أو ستدب فيه الحياة لمشاركة بليارات الناس ذلك المصاب الذي لم يحدث له مثيل من قبل .
وتنوعت أشكال المناحات الى مالا نهاية .. فهناك من كتب آلاف آلاف من الروايات والقصص وهناك ملايين الشعراء الذين برعوا في اختراع أصوات هزائم المجد وكلمات ترسم جرح السماء والأرض .. وهناك أجهزة الصوت المدوية تروي مآثره وحروبه ومجده الذي تبدو فوق العتمة .. وهناك النحاتون الذين شيدوا له آلاف التماثيل في كل مكان من المعمورة وأهم من كل ذلك ان هؤلاء الفنانين سوروا البلاد بسور مرتفع من تلك التماثيل الحجرية والبرونزية والحديدية حماية للبلاد من طمع الأعداء ..
ومضى أكثر من عقد والبلاد مازالت تعمق حدادها وتخترع الوسائل المستحدثة للعزاء .. ومن جهة ثانية فقد الأعداء صبرهم وراحوا يخططون لاستثمار الأمور لنواياهم باحتلال البلاد وتدمير الخيال الشعبي الذي فاق أساطير ذلك العالم .. على أنهم ، والبلاد تسّير نفسها بنفسها من غير ملك أو رئيس أو إمبراطور ، أدركوا عمق الكارثة التي ستحل بهم ان عاجلاً أو أجلاً ، لهذا أجلوا أمر غزوا البلاد واكتفوا بمراقبة الأحداث ..
ألا ان الحشود أفاقت ذات مرة والشمس مازالت مشرقة ولم تغب قط وهي ترى الإمبراطور ينهض من نعشه وقد أستعاد شبابه القديم . كان يشع مثل مصباح بين السماء والأرض ، لا يوصف ، ولا قدرة لأحد أن يراه .. وكان ذلك اليوم هو بدء تاريخ الأمة والبشر في كل مكان . وصار الناس منذ ذلك اليوم يحتفلون كل عام بذلك العيد الذي هو آخر أمجاد الإمبراطور . وعيد الخصب . وبعد مرور قرون عديدة مازال بعض كبار السن يشاهدون الإمبراطور يخرج من الماء أو من الأرض أو يهبط من السماء ويتجول مع الفقراء والفلاحين أو يشهد حفلات الأعراس أو يبارك المصلين في المعابد.. وكانوا يتحدثون عن معجزاته التي فاقت الخيال، وأفعاله التي لا توصف.. فقد كانوا يتركون أبواب منازلهم ونوافذهم مشرعة لكي يدخل منها ويشاركهم حياتهم .. ولم يشك أحد من أبناء الأمة أنه لن ينهض في ذات يوم ويعلن عن بدء حقبة من الأحداث العاصفة والمجلجلة الى أبد الآبدين .

18- 28/ 1/ 1991

أخلاقـــــنا هويتنــــا-بقلم مازن مريزة-باحث أكاديمي



أخلاقـــــنا هويتنــــا
بقلم مازن مريزة
باحث أكاديمي
في ستينات وسبعينات القرن الماضي ، حينما كنا نسبح سعداء في نهر طفولتنا الصافي ، بمائه الرقراق متجهين نحو شاطئ المرحلة التالية ، كنّا نستمتع بكل مرحلة وفترة نمّرُ بها ، من مراحل بناء وتشكيل أولى اللبنات التكوينية لشخصياتنا وثقافتنا العراقية الأصيلة ، التي كنا نستقي مكوناتها الأساسية من مصادر متعددة ، أولى تلك المصادر وأهمها هي المدرسة كونها فرضت نفسها كعنصر حاسم في تشكيل البناء الأساسي لشخصياتنا المستقلة ، بما قدّمته لنا من تربية أخلاقية بجانب العديد من العلوم واللغات والمعارف الأخرى ، وفي غرس القيم الصالحة ، والمفاهيم النبيلة ، في شخصياتنا البضّة التي ستكون يوما جزءا أصيلاً من نسيج البناء الكبير للمجتمع ، بمساعدة ما كان يقدمه المعلم آنذاك ، من صيانة مستمرة للقيم الاجتماعية والإنسانية والوطنية ، إلى جانب قدرته الرصينة في نشر الوعي وإكساب المعارف والخبرات ، بتأثيره الحر والمسئول ، ووعيه التام لدوره كمربي لا كملقن ، وفي مهارته على مزج ودمج جميع المعارف والأنشطة التعليمية المدرسية لتلك القيم وتضمينها في مجمل النظام التربوي المدرسي برمته ، مما دفع الكثير من المختصين إلى القول في أن تأثير المدرسة قد يفوق تأثير العائلة نفسها ، وإن كان لا يمكن بمكان ما إنكار دور العائلة الفعّال في وضع الحجر الأساس لمصفوفة أخلاقياتنا وقيمنا ، التي سنسير على خطاها في ما بعد ، وسنستمر في تقديمها إلى أبناءنا جيلا بعد جيل ، من خلال الأبوين وما قدّموه لنا من تنوع غني في رفد الجوانب المعرفية والوجدانية ، بما كان يتوافر لهم حينها من فسحة ووفرة دائمة للوقت ، وُجهت في معظمها في متابعتنا وتوجيهنا في أدق تفاصيل الدراسة والحياة اليومية والتصرفات المصاحبة لها ، وتعليمنا الموروث اللغوي والأعراف المصاحبة له ، وكيفية الإفادة من مواقف الحياة المختلفة وفنون التحدث والاستماع ، وسلسلة متينة من العلاقات الاجتماعية المترابطة ، مما ساعد كثيرا في إشباع الحاجات المعرفية الكثيرة ،عن طريق تعدد مصادر الإجابة على الأسئلة الدائمة الآتية من الفراغات الناجمة عن تواصل تشكل ونمو الشخصية ، دون الشعور بالملل أوالنقص من تلك المتابعة الدقيقة والتوجيه المتواصل، أما المصدر الثالث المباشر ، الذي خلق تأثيرات بالغة على عملية تكوين الشخصية وبناؤها ، فهو المحيط والبيئة ، بالمعنى الشامل للكلمة ، بما في ذلك من ظروف المناخ ، وأجواء المخالطة خارج البيت ، والأوضاع الاقتصادية ، والطبائع الاجتماعية العامة ، والأبعاد الثقافية للمجتمع العراقي ، ذي الأعراف السليمة المتوارثة جيلا بعد جيل ، والتي ساعدت كثيرا على التقليل من تأثير الأوضاع السياسية الرديئة السائدة آنذاك ، وإزالة الكثير من البقع القاتمة التي خلّفتها سلبيات الظواهر الفردية والجماعية التي حاول النظام الشمولي في ذلك الوقت استثمارها وتنميتها - إن لم يقم بنفسه على اختلاقها بصورة متعمدة – إذ أن تأثيرات البيئة الموبوءة تصطدم دائما ، بالصفات والقيم الايجابية المركبة التي تحيط بالمجتمع ، كفلتر تصفية لكل السلبيات و الأدران الطارئة ، لتحيلها إلى ظواهر ذات تأثيرات محدودة مهما طال بها الزمن أو قصر ، ويعد التلفاز من أهم الوسائل المباشرة للمحيط والبيئة التي تستطيع عن طريقها فرض واقعها الفعلي، وترك بصمات دائمة في ذاكرة الحواس الظاهرة والخفية في عالم الشخصية الذي لا يعرف حدودا معينة تتوقف عندها عملية اكتساب المزيد من الصفات والخصائص ، يتميز التلفاز بشدة تأثيراته المباشرة على المتلقي بغض النظر عن فئته العمرية ، ومدى استغراق شخصيته في السير نحو مقياس التشكل النهائي ، بسبب تعدد وسائله وإمكانياته المختلفة التي تتيح له أن يكون سلاحا ذو حدين ، حسب الأهداف الكامنة وراء المقاصد الظاهرة والخفية لهذا البرنامج أو ذاك ،وإمكانية استخدام هذا السلاح المدهش للمساعدة في تهذيب الشخصية وتنقيتها من رذائلها ، وصيانة فضائلها ، وغرس أرضيتها النقية؛ بأنواع القيم والمُثل السامية ودعم الأخلاقيات الفاضلة النابعة من نفس المجتمع ، وتعزيز الفطرة السليمة للفرد ، رغبة في دفع المزيد من الرقي إلى المجتمع عن طريق شحن الفرد المتلقي لتلك البرامج بالمزيد من البرامج الممتعة الهادفة ذات التوجهات التربوية بشرط عدم تخليها عن عوامل الجذب والتشويق للحفاظ على شريحة عريضة من المتلقين ،وقد يكون الحد الثاني لهذا السلاح ، نموذجا مثاليا لأبشع الوسائل وأمضاها في نشر الرذائل وتعزيزها ،وفرض نماذج تافهة وقميئة من البرامج والفنون تشوه شكل الفضائل الجميل الذي لا تخلو منه أخلاقيات أي شخص مهما كان طوعا أو اختيارا ، والتهاون في حقوق الآخرين وتنمية التوجهات ذات الصفات الذاتية المنبثقة عن الاهتمام بالجمال الخارجي للخلقة والجسد ، وخلق فراغ داخلي جسيم ، يفتقر إلى الكثير من الخصائص الأخلاقية المتعلقة بذات الشخص ، مما يجعل منه شخصا سلبيا لا يبالي إلا بنفسه وبمحيطه الضيق ، يعيش يومه لنفسه فقط مع مستوى عالي من الهامشية المطلقة ، معززا بذلك خلق شريحة متزايدة من الناس ليس لها الكثير من المعايير الدينية والأخلاقية ، مما يجعلها غير منسجمة مع محيطها وبغير ذي فائدة تجاه المجتمع ، بسبب افتقارها إلى روح الرفعة والوعي الحقيقي الذي يوجهها بصورة مستمرة إلى التوحد العام في خدمة أهداف المجتمع الراقية ، بمساعدة تلك البرامج التلفازية الهابطة ، والأغاني الماجنة ، والمسلسلات التي تبيح المحظورات ، من خلال تكرار بث المزيد من الأفكار الجديدة الملوثة بشتى أنواع الانحرافات ومخاطبة الغرائز بصورة علنية ، وبلغة رخيصة تكاد تكون غريبة عن معايير السلوك العام للمجتمع العراقي ، في محاولة مستميتة لجعل تلك الأفكار مألوفة ،بعد أن كانت مرفوضة بصورة قاطعة إلى ما قبل سنوات معدودة ، كما أن الإصرار على بث برامج مستنسخة بكل ما تحمله من إفساد من مجتمعات إباحية تألف تلك المخاطبات الغريزية ، سيؤدي بلا شك إلى تشجيع تفكيك منظومة الأخلاق العامة التي بُنيت على مر القرون ، والمزيد من الانفلات السلبي للأعمار التي مازالت شخصياتها وثقافتها وأخلاقياتها طور التكوين والبناء والتطور،من الأطفال والمراهقين والمراهقات ، الذين لم تتشكل هوياتهم الحقيقية بصورة نهائية بعد ، في خضم العشرات بل المئات من القنوات التلفازية ، التي انتشرت بصورة غير مسبوقة في خضم الأحداث والمستجدات الأخيرة خلال العقد الماضي ، مما يجعل مهمة حصر تأثير تلك القنوات على النشء الجديد شبه مستحيلة ، في ضوء ارتفاع شعبية التلفاز بين مختلف الفئات العمرية للناس ، الذين يختلفون اختلافا جوهريا في مدى حصانتهم الأخلاقية والثقافية والفكرية ، ومقدرتهم على فرز السلبي من الإيجابي ، والتمييز بين الضار والنافع ،والقدرة على التعاطي بصورة أخلاقية صحيحة مع تلك القنوات دون الانجرار وراء الغرائز الوضيعة والعواطف الرخيصة ، ومما يزيد من صعوبة الموقف ، أن هناك بعض القنوات العراقية التي كانت تُعد من ضمن قائمة القنوات الرصينة والتي تتمتع بنسب مشاهدات عالية ، بدأت تتقبل بث بعض البرامج التي قد تتمكن يوما من جرها إلى شواطئ الجانب المظلم ، إذا استمرت في غض النظر ببساطة عن سلوكيات بعض برامجها التي تبث حاليا ، بعد أن نجحت باستحقاق في أن تقدم خطابا إعلاميا شفافا متوازنا على مدى سنوات طويلة ، وأن تفرض برامجها المحترمة على شريحة واسعة من العراقيين بكل فئاتهم العمرية وأطيافهم المتنوعة ، وان تقدم برامجها بصورة هادفة لا ينقصها الكثير من عوامل الجذب والتشويق والمتعة العاطفية البريئة ، وأن تترك بصمة مميزة في عالم الدراما العراقية الجادة بقوالب جديدة ، تحاكي بجدارة مزاج المشاهد العراقي الصعب ، وتتكئ بصورة غير معقدة في اختيار مفردات برامجها المتعددة بما يناسب الذوق الملتزم واللفظ السليم ، والفكرة الهادفة بعيدا عن الجمود والتكرار ، مثل مسلسل غرباء الليل ، وطائر الجنوب ، وغيرها من المسلسلات التي تركت أثراً طيبا ورصيدا عاليا ، يسجل للقناة لا عليها ، كما سيسجل عليها كنقطة ضعف البرنامج الهزلي الهزيل بإخراجه ومقدميه ومعديه وبمحتواه (( أكو فد واحد )) ، الذي فاجأني ظهوره وبثه على تلك القناة التي كنت أعدّها من القنوات الانتقائية ببرامجها النوعية المميزة ، فهذا البرنامج في أغلبه ينجرف بصورة سلبية وإصرار غريب ، على تقديم نكات هابطة ، لا أجد لها وصفا مناسبا غير أنها (شوارعية) ذي توجهات صريحة لممارسة الرذيلة وشرب الخمور ، تخاطب الغرائز الجنسية الرخيصة ، والحاجات الإنسانية الأخرى التي لا يصح الحديث عنها تأدبا والتزاما بمستوى أخلاقي راقي ، يفرضه الذوق العام ، مما لا يصح التصريح به ، والتعاطي باستهزاء وازدراء للمشكلات والظواهر التي يعانيها المجتمع العراقي ، وبطريقة فجة ومؤلمة ، واستخدام رموز لغوية مستهجنة بدلا من الكلمات الصريحة لخلق مفردات بذيئة جديدة ، ستتسبب بلا شك في الكثير من التخريب للذوق العام ، نعم ، لا شك في أننا بحاجة إلى فرجة ملحّة من الشعور بالمرح ، والتمتع بروح الفكاهة وممارسة الضحك ، كسلوك اجتماعي تعبيري ، وانفعال عاطفي طبيعي يرتبط بالنشاط الإنساني دونا عن باقي المخلوقات ، وتشترك فيه كل اللغات ، كلغة مشتركة موحدة بين كل البشر حتى أن مادة الضحك قد وردت عشر مرات في القران الكريم ، وفي أكثر من دلالة وغرض ، أهمها التعبير عن حالة السعادة والفرح ، وعنوان للمزاج العام للشخص ، كقوله تعالى : ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ)) ، وقوله تعالى ((فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا)) ، وقوله تعالى ((وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ )) ، وغيرها ،وربما يكون تعبيرا عن الاستهزاء والاستخفاف ، كقوله تعالى (( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ )) ، وقوله ((فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ )) ، وقد أسهب المختصون والمفسرون واللغويون في تفسير مادة الضحك في القرآن ،والسنة ، والتراث العربي ، فيما لا يتسع الوقت في هذه العجالة لحصره ، ولكن ما يجب التوقف عنده في ما ذُكر ، أن أهم أغراض ودلالات الضحك ، هي التعبير عن السعادة ، والدخول في حالة من المرح والفكاهة والفرح ، أو للتخلص من حالة الاكتئاب والسأم والملل ، التي قد يمر بها الإنسان بشكل يومي ، وهذا هو بالضبط ما يحتاجه المشاهد العراقي ، مع كل ما يعانيه من مشاكل ومصاعب ، وهموم ، أصبحت جزءا من حياته اليومية ، ومعاناته المستمرة ، مما يتطلب إيجاد محطات للتوقف والترويح وطرد الغم عن القلوب ، ودفع العبوس من الوجوه ، ومحاولة رسم الضحكة العفوية الصادقة على شفاهه ، بشتى الوسائل المشروعة ، والإفادة من مواد الفكاهة التي تُعد من أقرب المواضيع ، تقبلا من المشاهدين ، لاسيما أن معظم الآداب في مختلف الحضارات قد اهتمت بطريقة أو بأخرى بما من شأنه جعل الحياة باسمة مرحة وجديرة بالعيش ، بعيدا عن هموم الوجود وهاجس السفر الحتمي إلى حفرة الطين ، ولا بأس أن يكون البحث عن تلك البسمة شعارا يسعى إلى تحقيقه أي مقدم أو مخرج أو معد برامج ، وليس معيبا أن يبحث هؤلاء عن الطريقة المناسبة لتنظيم برنامج أو ملتقى ، يسعى إلى زرع الابتسامة والضحكة وإزالة التوترات التي من شأنها أن تجعل المرء متبرّما ومتشائما من ظروف الحياة ومكابداتها اليومية ، بل المعيب هو الإصرار على الإساءة للذوق العام ، والاستمرار في خدش حياء العائلات العراقية الكريمة ، المعروفة بالتزامها بمصفوفة قيمية قديمة ، وتمسكها بمنظومة أخلاقية عتيدة ، ولاسيما أن الأدب العربي يزخر بالكثير من عمالقة كتّاب النوادر والفكاهات من دون الإساءة لشخوصهم أو مكانتهم العلمية والفكرية ، فالجاحظ مثلا من أبرز مفكري المعتزلة ، توقف طويلا عند النكتة والطرفة لإثبات حضوره ، فكان أن نجح في خلق أسلوب فكاهي جديد يمزج الجد بالهزل ، في رائعته ( كتاب البخلاء ) المليء بالطرافة ، والنكتة المؤثرة من دون إسفاف أو انحطاط ، بالإضافة إلى عشرات الكتب ، التي تناولت مواد الفكاهة والضحك والنوادر الطريفة ، التي تتعدى بوظيفتها إثارة الفكاهة المرح وحسب ، بل وتسعى إلى تثقيف الناس ونشر المزيد من الحكم والأمثال وأخبار الحمقى والمغفلين والبخلاء والطفيليين ، مما يصعب حصره ، وتكفينا الإشارة إلى كتاب (( نثر الدر)) لمنصور بن الحسين الآبي ، الذي جاء في سبع مجلدات ، مليئة بالطرائف والنكات لمختلف فئات المجتمع العربي ، مما سيفيد الجادين في بحثهم عن الطرفة الصادقة والنكتة البريئة المؤثرة ، وربما ستغري القائمين على تلك النوعية من البرامج أن يتأملوا طويلا قبل طرح أي نكتة أو فكاهة مستقبلا ، لئلا تلقي بأي إساءة لتلك القيم والمعايير ، وان يكون الضحك لغرض المرح وبث روح الفكاهة البريئة ، لا الإصرار على الاستهزاء والاستخفاف ، والدعوة إلى الانحلال والرذيلة والقفز فوق كل الخطوط الحمراء للمجتمع ، عن طريق ممارسة أنواعا مبتذلة من الصخب والتهريج ،وإلقاء النكات التافهة المفتقرة لكل وزن و قيمة ، وهو ما دأب عليه مقدِمَيّ البرنامج المترهل بشتى أنواع البذاءة (( أكو فد واحد )) ، بطريقتهم المملة في التطويح وإلقاء الكلام بلا أي ضوابط أو منهجية ، بأسلوب رخيص ، تصاحبه عاصفة من الحركات الخالية من الحشمة التي ربما يسمونها في قاموسهم الجديد رقصا ، حينما يتحفنا أحد مقدمي البرنامج الذي يفتقر لأبسط المهارات كمقدم برنامج ، كالمهارات الحوارية ، ومهارات الثقافة والحضور الشخصي ، بل ويفتقر حتى لسلامة مخارج الألفاظ ، وهو برأيي لا يتمتع بأي مهنية تُذكر ، أو حرفية مهمة تؤهله للقيام بتقديم أي برنامج تلفازي حتى وإن كان هابطا بمستوى (( أكو فد واحد)) ، وأن كل ما يقوم به هو عبارة عن حركات اهتزازية تهريجية بجسمه المترهل ، وكرشه المنتفخ يمينا ويساراً بداعي إضحاك أكبر عدد من الناس ، وكان الأجدى به أن يتعلم الفرق الشاسع بين الفن الساخر والاستهزاء ، وبين الكوميديا والتهريج ، وبين إدارة حوار في برنامج تلفزيوني وإدارة حديث شخصي في ملهى ليلي ، والأهم أن يتعلم كيف أن يضحك الناس لا أن يدعهم يضحكون عليه ،وأن يقرأ بعض الشيء عن المهارات الحقيقية الواجب توفرها في أي مقدم برامج ، ويبدأ في اكتسابها فورا ، أما قائدة ما يُسمى ال (( DJ )) ، فلم أستطع بفهمي الثقيل أن أستوعب بعد ، سبب حشرها في البرنامج ، أو دورها الحقيقي أو الهدف منه ، أو أن أدرك بعد الغاية من تلك الحركات الهستيرية المصطنعة ، لا شك أن هذا البرنامج سيستقطب الكثير من المشاهدين ، ربما لأسباب مختلفة ، قد تكون بدواعي الفضول ، أو لشريحة معينة من الناس ، أو لفئة عمرية محددة ، أو لأسباب أخرى ، وربما سيستمر نجاح البرنامج ، ولكن ليس لكثير من الوقت ، وستكون تأثيراته السلبية أكبر بكثير من نتائجه الإيجابية على القناة على المدى الطويل ، ولا أظن أن هذا البرنامج الهابط سيتمكن من إلغاء تأريخ ووزن تلك القناة الموضوعية التي استطاعت أن تثبت وجودها في فترة ليست بالطويلة ، إن استطاعت تدارك الأمر بسرعة ومهنية ، والتريث قليلا قبل بث الحلقة القادمة ، والتركيز على بث كوميديا هادفة ، واختيار نكات راقية ، خالية من الألفاظ البذيئة والسوقية التي تشجع الانفلات الأخلاقي والتسيب والانحراف .
فالمشاهد العراقي يستحق أكثر بكثير من تلك البرامج التي لا شك من أنها ستترك الكثير من الآثار المؤذية مستقبلا ، والتي ستنعكس فيما بعد على سلوكه الشخصي وذوقه العام، وهي دعوة لجميع القائمين على القنوات العراقية ، لإعادة صياغة الأهداف العامة والخاصة ، للوصول إلى الهدف النهائي ، لا مجرد قنوات بأهداف عشوائية ، تستسيغ عرض أي برنامج بغض النظر عن تأثيراته اللاحقة في سبيل تحقيق المزيد من الأرباح ، أو أن تقوم بدور الطفيليات التي تغزو جسم الإنسان ، وكل غرضها هو الاستمرار وتحقيق أهدافها ومنافعها الشخصية ، بغض النظر عن الدور التدميري التي تقوم به لجسم المضيف وأخلاق الناس على حد سواء ، والتجاوز الشاذ على الأعراف ومعايير البناء الاجتماعي الأخلاقي ، وتشجيع المراهقين والمراهقات للتمادي و التمرد على المجتمع ، وإغرائهم بكسر وتحطيم قيود القواعد الأخلاقية ، التي جهد في وضع أسسها أسلافنا العظام ، ومن المنتظر أن تساعدنا في الصمود في وجه الغزو الفكري والثقافي الحالي ، والتقليد الأعمى لبعض القنوات العراقية والعربية ، للقنوات الأجنبية التي تشجع على الانفلات الأخلاقي والتسيب وربما حتى الانحراف ، ولا أظن أن تلك الأهداف تحتاج إلى الكثير من التفسير والإيضاح في تأثيراتها القاتمة على الأجيال الحالية وما بعدها ، في ظل الوضع المتأزم والمستجدات والأحداث الأخيرة ، إلى جانب انشغال أرباب العوائل بهموم تحصيل الرزق ، وانعكاسات الوضع الأمني والاجتماعي والبيئي على مجمل النشاطات الاجتماعية والإنسانية ، مما أجبرهم على الانشغال أو ربما التقاعس عن متابعة سلوك أبنائهم بالصورة المعروفة سابقا ، فالجيل الذي ينشأ بعيدا عن عيون العائلة ومتابعتها ، وفي ذات الوقت الذي لم يعد من أولويات المؤسسة التعليمة الاهتمام المطلق ببناء مجتمع أخلاقي معرفي ، بسبب انخفاض نسبة يقظتها وإصرارها السابق في شد أزر طلبتها بردود الفعل المناسبة ، في مواجهة بيئة مليئة بالتناقضات وشتى التباينات ، التي تتجلى في ما تجود به الآن العشرات وربما المئات من ماكينات الأعلام ، والقنوات المرئية والمسموعة والمقروءة ، ونوعية ما تبثّه من برامج ، وما يصاحبها من قفزات غير محدودة في وسائل الاتصال ، ووسائل الانفتاح التكنولوجية الحديثة ، وسهولة استخدامها والحصول عليها ، مما يضع جميع الآباء والمربين والقائمين على توجيه مسار المؤسسات التربوية ، وغيرهم أمام مسؤولية أخلاقية خطيرة ، في حماية الأجيال من الإعلام السائر في طريق الشبهات ، والشروع فورا في التفكير في وضع حلول مضادة ، ومسالك صحيحة ، لتكون بها الطرف الأقوى في هذا الصراع ، ووضع استراتيجيات طويلة الأمد للحد من تأثيرات تلك التربية السلبية بمناهجها الفاسدة وأهدافها المزدوجة ذات التوجهات المدمرة ، وإعادة النظر في جدولة أولوياتهم ، والالتفات إلى خطورة المشكلة ، والإقرار بها ، وتأدية الأدوار الحقيقية المناطة بهم ، كوحدة علاج موحدة ، تمارس سياسة متكاملة ، تتوزع بين الأسرة والمدرسة والمحيط البيئي ، ووضع أهداف موحدة من خلال توزيع الأدوار ، في عملية إعادة وضع وتوجيه الأجيال الحالية وما بعدها ، ودعمها بقوة نحو الصمود الواعي بوجه ما أفرزته ظروف الواقع الحالي من تناقضات ومتاهات ، وشتى أنواع الاتجاهات المغرية ، والهجمات الشرسة للغزو الفكري والأخلاقي ، عن طريق تربيتهم في أحضان مجتمع أخلاقي ، والتأكيد على العادات والأعراف والتقاليد السامية ، وتسديد هفواتهم وأخطائهم ، بحرفية ومهنية وهدوء ، على اعتبار أن تلك الأجيال ، ستأخذ دورها يوما في إعادة دورة بناء مجتمع تسوده الرفعة والتضامن والصفاء والأخلاق السامية ، بما سيتكفل بحتمية تطوره ورقيه وسموه وكرامته ، في عالم أنشغل بفك تشابكات استغراقه في مخاضات وتناقضات ترديه وأنانيته وضغائنه ، وأخيرا أذّكر بقول أمير الشعراء :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

أسطورة "الخرزة الزرقاء"-عن مجموعة حمورابي



أسطورة "الخرزة الزرقاء"

تحتل الخرزة الزرقاء والكف مكانة هامة في الثقافة الشعبية للمجتمعات العربية المسلمة وأيضاً اليهودية، فلا يكاد يخلو منها صدر امرأة أو سيارة، فالناس يعتقدون أن بها قوى سحرية تحصن حاملها من المخاطر وتقيه من العين الحاسدة أو تدرأ عن سيارته الحوادث•وتعلق عادة كقلادة حول الرقبة .وتعرف الخرزة الزرقاء أيضاً باسم "خمسة وخميسة" في اللهجة المصرية ، ولكن لها أسماء أخرى أقل شهرة فهي تعرف لدى المجتمعات الإسلامية باسم بـ "يد فاطمة "إشارة إلى فاطمة (الزهراء)عليها السلام وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويسميها بعض اليهود بـ "يد مريام"إشارة إلى مريام التي ورد ذكرها في التوراة وهي أخت النبيين موسى وهارون عليهما السلام.

فرضيات حول نشأة الأسطورة

اختلفت الفرضيات التي تتحدث عن نشأة تلك الأسطورة وكثرت الأقاويل حولها ولكن نذكر بعضاً منها:

- أصل فينيقي

يختلف تفسير رمز الخرزة الزرقاء تبعاً للمذهب والدين ، فيعتقد بعض المسلمون السنة أنها تشير إلى أركان الإسلام الخمس بينما يعتقد بعض الشيعة أنها تشير إلى أهل الكساء الخمس عليهم الصلاة والسلام (محمد ، علي، فاطمة ، حسن، حسين) أما اليهود فيعتقدون أنها تشير إلى كتب التوراة الخمس (أسفار موسى). ولكن لعلماء الآثار وجهة نظر أخرى فهم يرون أن منشأ جميع تلك الإعتقادات لدى الديانتين يعود بجذوره إلى الفينيفيين جيث كانوا يقدسون تانيت آلهة القمر الحارسة في مملكة قرطاج بذلك الرمز. فالدائرة في وسط الكف ترمز للقمر.


- رمز لتهديد الرومان

من المعتقد أن الشعوب السامية التي سكنت أطراف البحر المتوسط هي التي رسمت الكف الذي يحمل العين الزرقاء بهدف ترهيب الرومان الذين استعمروا بلدانهم في حقبة من التاريخ، و ربما كانت العيون الزرقاء هي الصفة التي ميزت الرومان عن الشعوب المستعمرة آنذاك ، وهو تعبير صريح عن لرفضهم للمستعمر الجديد ، فكانوا يحملون عصا وفي أعلاها ذلك الرمز المخيف الذي يهدد باقتلاع أعينهم أو يكتفون بإلصاقه على أبوابهم .وفيما بعد أصبحت رمزاً للحماية من كل شر يحملونه في أعناقهم كقلائد أو يعلقونه على جدران منزلهم.
- صلة بسحر الأرقام

ربما كان للأسطورة صلة بطقوس السحر التي تؤمن بأن لكلٍّ عدد ولكل حرف خصائص ودلالات، فالعدد خمسة وكف اليد بها ذبذبات طاقة الدفاع التي تمنع الأذى عن جسم الإنسان أو ما يخصه إذا ما دُفعت في وجه الحسود•وفي بعض المجتمعات العربية تدفع المرأة بكف يدها (بعد فرد الأصابع الخمسة) في وجه من تظن أنه يضمر الحسد لها فتنطق باسم العدد "خمسة" ومضاعفاته أو أية كلمات مرتبطة به كقولها (اليوم الخميس)•

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2011

مقالة للأثاري ألعراقي ألمعروف د.بهنام أبو ألصوف عن أصل ألسومريين



هذه مقالة للأثاري ألعراقي ألمعروف د.بهنام أبو ألصوف
حول ما يتردد عن أصل ألسومريين أحيلها أليكم للفائدة



من هم السومريون؟

ربما تكون مقولة شيخ الاثاريين صموئيل كريمر بأن " التاريخ ابتدأ من سومر" هي خير مدخل لموضوع نقاشنا الشيق في اطار البحث الاثاري والموضوعي عن جذورالعراقيين القدماء.


الاسم مشتق من سومر, شومر او شنعر ( في التورا اليهودية دعيت شنعار ) , الارض التي تقع في الدلتا الجنوبية من ارض الرافدين (ما بين النهرين - ميسوبوتاميا باليونانية) والتي هي اليوم جزء مما يعرف بالعراق الحديث(من ارك او اوروك مدينة العاهل العراقي الشهير جلجامش).

كانوا يطلقون على انفسهم ( الخارجون من البحر -المطرودون من الجنة ) في سهل الخليج العربي < اطلقت عليهم القاب مختلفة كذوي الرؤوس السوداء كناية عن الجماهير او الشعب وكذا كونهم يحلقون الرأس الا من القمة فتبقى دائرة سوداء في اعلى رؤوسهم ).
(الصورة المقابلة سارية الحرب والسلام في اور, خشب,عاج ولابيس لازولي ,سلالة اور الثالثة 2650 ق.م ,المتحف البريطاني)

في مطلع القرن العشرين وبعد الإكتشافات التاريخية والإثارية الكثيرة في بلاد الرافدين وخصوصا في القسم الجنوبي من عراق الدلتا ، في ما يعرف ببلاد سومر, تم التعرف على اللغة السومرية الى جانب اللغة الآكادية والبابلية والآشورية، كما عرفت الكتابة السومرية التي كانت صورية في البداية في مدن مثل الوركاء، وفارة، وغيرهما، و ذلك في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد ، وتم التعرف من خلال هذه الكتابة على الكثير من أوجه حياة السومريين كمعتقداتهم ودياناتهم وأساطيرهم وفنونهم وأدبهم وحياتهم الاجتماعية وتقنياتهم في الزراعة وخلافه.
إلا أن اللافت للنظر في هذا السياق، أنه مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرن، بدأت تظهر عند الكثير من الزملاء الإثاريين والمؤرخين والباحثين الغربيين آراء مغايرة تماما للحقيقة، والواقع والتاريخ . وذلك أنهم في اواخر القرن التاسع عشرومطلع القرن العشرين ابان البعثات التنقيبية التي قاموا بها, تشكل لديهم استنتاج أن هذا البلد المتخلف حضاريا وفكريا وحياتيا حينها، لا يمكن أن يكون هو اصل لهذه الحضارة القديمة ، كما لا يمكن له أن ينتج مثل هكذا حضارة متميزة في العالم القديم .
ولقد بنوا استنتاجهم ذلك على عاملين :
الأول : عندما وجدوا أن اللغة السومرية هي لغة ملصقة أي أنها تختلف عن اللغات السامية كالآكادية والآشورية والبابلية والكنعانية والفينيقية والارامية والعبرية والعربية ، وهي اشبه ما تكون باللغة الصينية و التركية السائدة في الهملايا و اسيا الوسطى.
الثاني : طريقة بناء السومريين لمعابدهم التي كانت على شكل أبراج مدرجة وزقورات مرتفعة .
الامر الذي دعاهم الى القول وفق هذين الاستنتاجين أنه لابد أن يكون اصحاب هكذا حضارة جبليين، أو انهم انحدروا من مناطق مرتفعة مثل الأناضول أو التبت ، او وادي نهر السند شمال غرب باكستان الحالية ( حضارتي موهنجاداور و خرافا ) ، واستقروا في الدلتا جنوب العراق.
وفي مطلع السبعينات ظهر رأي آخر عند بعض الباحثين يقول أنه قد تعود أصول السومريين الى المجر ( هنغاريا ) ، أو الى حوض بحر إيجه ، ذلك أنه تم أكتشاف قرص كبير ( فستوس دسك ) من الحجر بحجم متر ونصف عليه نوعين من الكتابة ( لينير اي) وهي كتابة صورية، وأخرى( لينير ب ) وهي كتابة مقطعية التي اعتبرت فيما بعد جذرا للكتابة اللاتينية لكنه عندما حلت أو فككت رموز هذه الكتابة في السبعينات على يد ( الانكليزي فكريس) تبين أنه لا علاقة لها بالكتابة السومرية من قريب أو بعيد، خصوصا اذا علمنا أن هذه الكتابة تعود الى 2400 عام قبل الميلاد ، في الوقت الذي تعود فيه الكتابة الصورية المسمارية الى 3400 قبل الميلاد , اي أن هنالك فرق ألف سنة تقريبا بين هذين النوعين من الكتابة ، الأمر الذي يدعونا للقول أن جذر الكتابة تلك ( اللاتينية ) هو سومري وليس العكس ، ثم أن حضارة كريت بعيدة مكانيا عن حضارة سومر مما يعني عدم وجود هذا التلاقح الحضاري المتبادل .
ومع تتالي الاكتشافات الاثارية في بلاد الرافدين منذ بدايات القرن العشرين، بدأت تتضح بل وتتغير قناعة هؤلاء الباحثين التي استقرت في نهاية الامر على خصوصية الحضارة السومرية التي تعود جذورها الى خمسة الآف عام قبل الميلاد. والتي كانت قبلها تسمى باسماء المواقع مثل حضارة جرمو، وحضارة حسونة، وسامراء ، وحلف، وهي حضارات بدأت بصنع الفخار في الأف الثامن قبل الميلاد .وكانت لديهم معرفتهم وأفكارهم واساطيرهم ومعتقداتهم ( على سبيل المثال "انو" اله السماء,و "ايا" اله الحكمة و "ايننا" مانحة الحياة وغيرها .
في أوسط الستينات والسبعينات تشكل لدينا تراكم معرفي عن حضارة سومر بسبب كثرة الحفريات والتنقيبات التي جرت حينها بفعل ظهور الجيل الاول من الاثاريين العراقيين كالدكتور طه باقر وفؤاد سفر وغيرهم ، أكدت هذه المعرفة على خصوصية الحضارة السومرية وتميزها وأصالتها ثقافة وتاريخا ومعتقدا وأنها انجاز عراقي صرف.
وخلال دراستي لكثير من الملاحم السومرية . أستطعت أن أتوصل الى مضمون نظرية أخرى مغايرة عن أصل السومريين في جنوب العراق ، لاسبيل الى دحضها لأن الكشوف الاثارية قد ايدتها وبشدة : ويمكن صياغة هذه النظرية بايجاز على النحو التالي: أن أصول السومرين تعود الى عرقين مختلفين:
الاول: هو( الفراتيين ) الذين انحدروا من شمال وشمال غرب العراق الى دلتا الجنوب طلبا لأسباب الرزق وسعيا وراء حياة أفضل ( وهم الذين اسسوا لحضارات حسونة, حلف والعبيد ) .
الثاني: هم سكان سهل الخليج العربي الذين خرجوا منه بعد أن غمرت مياه البحر العربي والمحيط الهندي سهلهم، فانتقلوا الى جنوب العراق، وهم الذين راح يطلق عليهم فيما بعد( أصحاب الرؤوس السوداء) . لكن السؤال المهم هنا كيف تم هذا الخروج؟
لقد بات معروفا اركيولوجيا أن العالم القديم مرّ بأربعة مراحل جليدية في المليوني سنة الأخيرة، كل مرحلة كانت تعقبها مرحلة دفء ، حيث أن البحار والمحيطات تتجمد بسبب تجمد نصف الكرة الشمالي ,فتنحسر مياه المحيطات والبحار بحدود 100 الى 120 متر، نتيجة لتجمد المياه ، ثم تعود الى حالتها السابقة بعد ذوبان الجليد خلال 200 عام تقريبا . و آخر مرحلة جليدية إنتهت قبل 20 الف سنة .
مع ذوبان الكتل الجليدية أخذت المياه تغمر البحار والمناطق المنخفضة المتصلة بهذه البحار، ومنها بطبيعة الحال منطقة الخليج العربي، الذي لا يتجاوز عمقه 100 متر . مما يعني أنه كان منطقة امتداد طبيعية لأنسياب المياه القادمة من المحيط .
إن الخليج العربي طيلة ال 200 ألف سنة الأخير كان عبارة عن سهل أخضر خصب، تكثر فيه الأشجار من مختلف أنواعها كما تكثر فيه الحيوانات التي كانت تشكل المصدر الغذائي لإنسان هذا السهل الذي كان يصطادها و يأكل لحمها ويتخذ من جلودها غطاء ولباسا ، يمتد هذا السهل على مساحة يبلغ طولها 800 كم وعرضها 200كم ، ممتدا من دلتا جنوب العراق الحالي، الى مضيق هرمز في عمان , كان نهري دجلة والفرات يجريان فيه ويصبان في هذا المضيق . وفي تلك الفترة كانت الجزيرة العربية خضراء وإنسان هذه المنطقة يتنقل بين الجزيرة والسهل بشكل طبيعي لأنها كانت مجاله الحيوي الذي كان يعيش فيه.
ثم ومع بداية إنحسار الموجة الجليدية الرابعة أخذت الكتل الجليدية تذوب وبدأت المياه تتدفق لتملئ البحار والمناطق المنخفضة ومنها منطقة الخليج العربي، حيث بدأت المياه تترتفع به تدريجيا . وهذا ما أثبتته سفينة الأبحاث الالمانية التي قامت في سبعينات القرن الماضي بإجراء سلسلة من البحوث في أعماق الخليج العربي ، و توصلت الى أن المياه أرتفعت في أرض الخليج ثلاث مرات متتالية أولها قبل 20 الف سنة عند مضيق هرمز، ثم في عمان قبل 15 ألف سنة ثم في قطر والبحرين قبل 6 الآف سنة . أي أن ارتفاع المياه حصل تدريجيا عبر ثلاثة مراحل.
و مع تدفق المياه الى سهل الخليج الذي اخذ يغرق تدريجيا ، لم يكن أمام السكان الا النزوح والصعود الى جنوب العراق . هذه المنطقة كانت مسكونة في ذلك الحين من قبل سكان العراق الأوائل المنحدرون من الشمال ( الفراتيين). الذين كانوا قد حملوا معهم أثناء انتقالتهم تلك معارفهم العلمية في الزراعة والري عبر القنوات، كما نقلوا أفكارهم واساطيرهم وملاحمهم ومعتقداتهم الدينية ,كانت تلك المعارف متداولة شفاهيا , ولم يعرف سكان الدلتا في هذه المرحلة الكتابة والتدوين .
ألامر المهم الذي أود ان الفت إليه النظر أن الهاربون من الخليج كانوا قد نقلوا معهم أيضا ذكرياتهم والتي حملّت داخل قصص مفعمة بالخيال والوجدان عن جنتهم و فردوسهم المفقود، وعن الطوفان الذي أغرق أرضهم، وعن الحكماء السبعة الذين أسسوا المدن ، هذا التراث الفلكلوري الملحمي الاسطوري كان لا بد له أن يندمج ويتداخل مع التراث والمعارف التي كانت سائدة في منطقة الدلتا وبين سكانها الذين عرفوا أنانا وتموز .. الخ . هذا التداخل والاندماج بين التراثين هو الذي انتج بالنهاية ما بات يعرف بالتراث السومري أو الحضارة السومرية في جنوب العراق .. ونحن نعلم أنه مع تقادم الزمن والتداخل الاجتماعي والثقافي ذابت الفوارق بين العنصرين متحولين الى شعب واحد أو عرق واحد . هم السومريون سكان جنوب العراق القديم .

السؤال الذي يطرح في بعض الاوساط: هل هنالك علاقة بين السومريين البائدة وسكان اهوار العراق الحاليين ؟
جرت محاولات قام بها علماء في الانثروبايولوجي للمقارنة بين جماجم السومريين التي اكتشفها الدكتور فؤاد سفر في مقابر اريدو ( بحدود 1000 جمجمة ) وبعض من جماجم عراقيي الاهوار, الاستنتاج ان كلا الجمجمتين تنتمي الى جماجم انسان شرق المتوسط ( برايكسيفالي ) مع التخفظ على ان بعض من الجماجم للمعاصرين تنتمي الى جماجم انسان اواسط اسيا ( حوض السند ) والتي ربما تثبت ان بعضا ( ولا نقول كل ) من سكان الاهوار ينتمون الى اسلافهم الذين تم جلبهم الى العراق بداعي السخرة ايام الدولة العباسية والتي كانت مركزا امبراطوريا كروما العالم القديم فنتوقع حصول عمليات انتقال لعناصر بشرية مختلفة بقصد العمل والاستقرار وطلب العيش.

مؤخرا جرت بعض البحوث في مختبرات الهندسة الجينية والوراثية لاكتشاف العلاقة بين سكان اهوار العراق الحاليين و الشعب السومري الذي استوطن نفس المنطقة الجغرافية , الرابط الاتي يلخص ما تم الوصول اليه بالشفرة الوراثية :
http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/21970613

الآكاديون

هم عبارة عن موجة عربية قديمة خرجت من سواحل الخليج العربي ومن أرض الجزيرة العربية بعد أن جفت الأنهار فيها واستقروا في شمال دلتا جنوب العراق( موطن أصحاب الرؤوس السوداء) في منطق نفر ( الديوانية حاليا ) ثم صعدوا الى موقع مدينة بغداد الحالي ، وهم كغيرهم من الأقوام المهاجرة حملوا معهم أفكارهم وتصوراتهم وملاحمهم ومعتقداتهم وقصصهم التي اختلطت بتراث المنطقة السائد انذاك . الواقع أن الآكاديين لم يعرفوا الكتابة ، كانت لديهم لغة ( ربما تكون هي شكلا من اشكال العربية او الارامية ) ، وقد تعرفوا على الكتابه السومرية التي كانت قد تطورت في ذلك الوقت من الصورية الى المقطعية وأخذوا يدونون بها معارفهم.
لقد كان الآكاديون بدوا رحلا من العرب وقد دخل جلجامش في حروب كثيرة معهم وهو الذي دفعهم الى الصعود الىموقع بغداد الحالي .
ظل الآكاديون على هذه الحالة الى أن ظهر لديهم ملك عظيم هو العاهل العراقي سرجون الآكادي (بحدود 2237 ق. م ) ليؤسس اول امبراطورية متعددة الاثنيات في التاريخ ( بسط العراق فيها نفوذه من عيلام الايرانية شرقا الى لبنان غربا, ومن تركيا شمالا الى شبه جزيرة العرب جنوبا) .. وهو ذاته الملك الذي دارت حوله قصة الكاهنة العظمى التي كان محرّم عليها أن تنجب طفلا . ولكنها أنجبته برغم هذا التحريم ووضعت الطفل في سلة في نهر الفرات ... الى آخر القصة أو الحكاية التي استعادتها التورا اليهودية بعد حوالي الف عام في قصة النبي موشي العبراني ( بحدود 1271 ق.م حسب مؤرخي اليهود انفسهم ) على النحو الذي نعرفه . سرجون العظيم هو الذي بنى مدينة أكد في غرب العراق, هذه المدينة لم يكشف عنها لغاية الآن . وظلت هناك تكهنات عن موقعها حتى أن المرحوم العلامة طه باقر كان يعتقد أنها موجودة تحت تل الدير عندما وجد زقورة هناك . وقام بالحفر داخلها لكنه لم يجد رقيم طيني أو شاهد آخر يدل على وجود أكاد في هذا الموقع ، الرأي الذي استقر عليه أن أكاد موجودة في بابل ونحن نعرف أن هذه مدينة غاصّة بالمياه الجوفية حتى أن قبر حمورابي يوجد تحت هذه المياه.

الاثنين، 7 نوفمبر 2011

عراقيون تواقون لعودة الباص الأحمر الى شوارع بغداد -من د.سعدي شرشاب

عراقيون تواقون لعودة الباص الأحمر الى شوارع بغداد


هل يعود الباص الأحمر وتعود أيامه الجميلة في تأمين النقل وتوفير الأمان والوصول إلى مناطق المدينة كافة بزمن معقول ومبلغ لا يرهق جيب المواطن؟.. أمنية أو هو حلم طال انتظاره، تسعى الشركة العامة للنقل البري اليوم إلى تحقيقه عبر توجهاتها الجادة والجديدة للإسهام في حل المشكلة المرورية في البلاد وتأمين خدمات أفضل، هذا على الأقل ما أعلن بعدما تعاقدت وزارة النقل مع شركات كورية لتزويد العراق بالحافلات الحُمر ذات الطابقين وعلى وجبات.. وبانتظار وصولها ومعاودتها دورها، إذ تبقى حافلات النقل العام جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الشعبية والثقافية لعراق القرن العشرين.

الباصات أيام زمان
أبو احمد (كاسب) رجل تجاوز السبعين يتذكر أيام الباص الأحمر ذي الطابق الواحد قائلا: "باص المصلحة تحرك في شوارع بغداد أول مرة من باب المعظم شمالا والباب الشرقي جنوبا عبر شارع الرشيد الذي يعد الشارع الأهم في العاصمة بغداد"، بينما يقول المفتش المتقاعد حسن جبر "تشكلت مصلحة نقل الركاب سنة 1938 شهر حزيران وأُلفت أول لجنة لإدارتها ولكنها لم تعقد أي اجتماع لها حتى 4 حزيران 1940 وتقرر في تشرين الأول عقد اتفاقية مع إحدى الشركات الانكليزية لشراء مئة باص لكن نتيجة لظروف الحرب العالمية الثانية ألغيت الاتفاقية في عام 1942 وبذلك جمدت أعمال المصلحة وتأخر المشروع"، وأضاف جبر، "وبعد تجميدها نقلت أعمالها إلى أمانة العاصمة وتأسست شعبة تتولى مهمة نقل الركاب في العاصمة وقد اشترت الشعبة هذه بعض مخلفات الجيش البريطاني في العراق من اللوريات وركبت لها أبدان خشبية واستعملتها لنقل الركاب"، وأشار إلى انه "منذ نلك الحين والناس يدعون باصات المصلحة (الأمانة) بسبب تبعيتها لأمانة العاصمة وما زال الناس يدعونها الأمانة إلى يومنا هذا". وفي مطالعتنا لتاريخ مصلحة نقل الركاب نجد أن عام 1943 شهد تسيير 21 باصا خشبيا في شارع الرشيد وأعطي الرقم اثنين وتدريجيا توسع عمل مصلحة نقل الركاب وتعددت دوائرها واستمرت شعبة النقليات في أمانة العاصمة بشراء سيارات وشاحنات الجيش البريطاني حتى العام 1945 من (كومر) والتي ساعدت على فتح خطوط وفي 1946 تم توقيع أول عقد لشراء باصات جديدة (27) باصا وفي العام 1947 بلغ عدد الباصات 113 باصا مستعملا وسبعة عاطلا وتجمع بين السيارات التي أبدانها من خشب وكذلك الجديدة مما دعا إلى تشكيل مديرية مصلحة نقل الركاب مرة ثانية ولكنها بقيت مرتبطة بأمانة العاصمة ويرأسها أمين العاصمة وبما ان أمين العاصمة لا يستطيع التفرغ لأعمال هذه المصلحة لم تتمكن من التقدم بحيث تؤمن الحاجة المطلوبة لذلك كثرت الشكاوى حول عجزها". وأردف "ففكر المسؤولون بإعادة النظر فيها وفك ارتباطها من أمانة العاصمة.. وارتبطت بوزارة الداخلية، ثم فك ارتباطها من أمانة العاصمة، ولكنها هذه المرة ارتبطت بوزارة الداخلية على شكل مديرية عامة، أما الناس فقد بقوا يدعون الباصات (الأمانة) ولم يسموها (داخلية)"!!.

تطور إمكانات المصلحة
وفي العودة إلى أرشيف مصلحة نقل الركاب نجد تطورها وفق التسلسل الزمني كما يأتي:
أواخر العام 1951 وصلت صفقة مكونة من (100) باص ذات طابق واحد وأخذت تعمل في شوارع بغداد، وفي 18/2/1953 فتحت الدورة الأولى للتدريب على السواقة، وفي العام نفسه وصلت صفقة أيضا مكونة من 100 باص آخر ذي طابق واحد.. وفي العام 1954 أضيف باص واحد فقط كان قد عرض في المعرض التجاري البريطاني وتم شراؤه من المعرض. وبوصول الوجبة الثالثة من الباصات والمكونة من 20 باصا من ذات الطابقين في العام 1953، قررت المصلحة اعتبار باصات "كومر"المشتراة في العام 1946 – 1947 بحكم المنقرضة وتم سحبها من العمل.

وقد وصلت بغداد في العام 1956، مئة باص جديد، مما دعا المصلحة إلى فتح مدرسة لتعليم السياقة تخرج منها في السنة نفسها 25 سائقا.

بقيت المصلحة تابعة لوزارة الداخلية حتى عام 1959 اذ تم فك ارتباطها من الداخلية، وتم تحويلها إلى وزارة البلديات.

في العام 1960 استطاع مهندسو وعمال المصلحة من إنتاج باصين أطلق عليهما اسم "بغداد".

ثم تسلمت المصلحة 100 باص آخر حتى العام 1962 إذ وصل 80 باصا بطابقين، ثم دخلت باصات نصر من جمهورية مصر العربية وعمل في شوارع بغداد 67 باصا من هذا النوع.

مدراء المصلحة

ويتذكر العديد من السواق والجباة والعاملين في الشركة العامة لنقل الركاب بالاعتزاز بأولئك الرجال الذين نهضوا واشرفوا على عمل "باصات المصلحة"وفي المقدمة منهم المدير العام سيد جعفر الذي حمل شرف التطوير في الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي وتلاه الأستاذ يحيى عبد الباقي مديرا عاما في الستينات والسبعينات ثم الملا حويش في الثمانينات وبعده يحيى العاني.


(الأمانة) ودقة التنظيم

والمصلحة التي حملت اللون الأحمر وتميزت بأنواعها ذات الطابق والطابقين كانت في غاية التنظيم والدقة في آلية عملها فالباص أساسا يعتمد على ثلاث شخصيات في نظام سيره وهم السائق والجابي والمفتش وهؤلاء لكل منهم لباسه الرصاصي المميز ورقمه والجابي هو قاطع التذاكر للركاب وثمن التذكرة في الدرجة الأولى (15) فلسا والدرجة الثانية ذات المقاعد الخشبية (10) فلوس، وعادة يصعد المفتش ليدقق في تذاكر الركاب ويؤشرها فإذا ما وجد خللاً في عدم قطع التذاكر تتم محاسبة الجابي، وعموما السائق لا يتحرك من خط سيره إذا لم يسمع جرس الجابي إشارة للانطلاق، "والجابي"في قطع التذاكر يعرف أن هناك قانونا ملزما له في استيفاء أجور التذاكر بيد أن هنالك إعفاءات من عدم دفع الأجور لمنتسبي مصلحة نقل الركاب بعد إبراز هوياتهم وكذلك إعفاء شرطي المرور وفاقدي البصر والمعوقين والمتخلف عقليا، كما أن هناك تخفيضا للطلبة وهناك بطاقات ركوب شهرية.

محطات الوقوف وأرقام الخطوط

والباصات التي تنوعت وتكاثرت أصبحت تغطي مناطق بغداد وأطرافها كافة وخطوط سير المركبات "المصلحة"عادة لها نقاط إطلاق خط بداية وخط نهاية وما بينهما محطات ركوب للمواطنين معلقة على أعمدة بين مسافة وأخرى ضمن خط سير الباص يقف عندها الركاب او من يروم النزول وأماكن الانتظار هذه بعضها غير مسقف وبعضها الآخر اعتمدت فيه مظلات ومساطب للجلوس ولحمايتهم من حر الصيف وبرد الشتاء، أما أرقام الخطوط فنذكر منها الرشيد رقم 2 والقصر الأبيض أو ساحة الأندلس رقم 4 والكرميات 5 وخط راغبة خاتون، والوزيرية رقم 7 والكفاح ـ الباب الشرقي 8 وباب المعظم ـ شيخ عمر 9 ومعسكر الرشيد رقم 10 والميدان ـ المسبح 11 وكرادة مريم 12 ومدينة الحرية ـ ساحة الشهداء 25 والمنصور 30 والميدان ـ الضباط 36 والثورة داخل 39 والثورة 63 والبواضية 22 والعامرية ـ باب المعظم 66 والدورة ـ ابو دشير 126 والباصات الحُمر تجوب شوارع المدينة بخطوط منتظمة ومواعيد انطلاق ثابتة ومواعيد انطلاق ثابتة ومواقف محدده لها أرقام سير معروفة للأهالي كما ذكرنا بل ونجد هناك حافلة خافرة توصل السائقين والجباة بعد انتهاء واجباتهم الساعة 12 ليلا إلى بيوتهم فيما يتم إيواء الحافلات في كراجات مخصصة حسب خطوط السير وهذه (الكراجات) الكبيرة المساحة تتوفر فيها ورش للإدامة والتصليح والتجهيز بالوقود ويوجد فيها العشرات والمئات من أفضل الفنيين.

الباص الأحمر والجولات الشبابية

وللباص الأحمر ذي الطابقين الذي كان يخترق شوارع بغداد طولا وعرضاً ويغطي كل مناطقها في خط سيره بخط معقول، علامة فارقة للمدينة مثلما كان عنوانا للمعرفة والتسلية البريئة للشباب، الذين الذي يفضلون الطابق العلوي على الطابق الآخر، ففي الطابق الثاني يمكنك أن تراقب معالم المدينة بدورها وأسواقها وجوامعها وجسورها، وأحيانا يمكنك أن تدخن سيكارة بعيدا عن رقابة (الجابي) لأن التدخين في المصلحة ممنوع أساساً، حيث تجد أمامك عبارة (التدخين ممنوع رجاءً) وفوقها عبارة (ساعد الجابي بأصغر نقد كاف)، والشباب عموما وطلبة المدارس خصوصا كانوا يجدون فيه الوسيلة الأمثل للنقل والوصول الى المدرسة والعودة إلى البيت عبر اقتناء تذاكر شهرية مخفضة مكتوب عليها (للطلبة).

والتنقل في الباص حالة مثلت عند المواطنين ارتياحا كبيرا لأمنها وأمانها في النقل، وعموما هذه الحافلات كثيرا ما تحولت إلى ميدان تعارف بين الناس وخاصة النسوة، وتجد فيها غالبا نقاشات تتناول مواضيع اجتماعية وسياسية أحيانا وكثيرا ما يحتدم النقاش حول مسألة أو قضية ما مثل زيادة الرواتب أو فقدان (البيض) من الأسواق أو الزحام على التبضع وغيرها من المسائل.

نادي المصلحة وفريقها الكروي

ولنقل الركاب أيضا نادٍ اجتماعي عريق كان مقره في الباب المعظم ومثل ولزمن طويل ملتقى للطلبة والأدباء والمثقفين، وكثيرا ما كانت تقام فيه أمسيات وحفلات اجتماعية، وكذلك كان لمصلحة تنقل الركاب فريق كردي شهير يشارك في الدوري عاده وكثيرا ما حصد الجوائز ومن لاعبيه المشهورين من النجوم آنذاك حارس المرمى محمد ثامر واللاعب جبار رشك وقيس حميد وخوشابا وغيرهم العديد.

الشركة ونظامها

الشركة العامة لنقل الركاب كانت تعمل بنظام التمويل المركزي لكنها تحولت إلى الشركة العامة لنقل الركاب بموجب قانون الشركة رقم 22 لسنة 2000 والذي يهدف إلى نقل الأشخاص بواسطة حافلاتها داخل بغداد وبين المحافظات وبين العراق ودول الجوار.

ولنا كلمة

اليوم أغلب حافلات (الأمانة) أو (المصلحة) لا وجود لها في الميدان بل أن ما تبقى منها قليل جدا (الصينية) وهي التي تنفث سمومها من الغازات فيما تبدو (عطلاتها)، وحلت محلها باصات صفر في الشوارع قليلة العدد تحمل اسم مجلس محافظة بغداد تقدم خدماتها للطلبة وساهمت في خدمة النقل ولكنها لم تكن ولن تكون بديلا عن تلك الباصات ذات الطابقين وسعتها وجماليتها ومتانتها ونظامها وخطوط سيرها التي غطت عموم بغداد الحبيبة لذلك حينما تزف لنا الشركة العامة للنقل البري أنباء توقيعها عقدا لـ350 باصا آخر من ذي الطابقين لتعود الى شوارع العاصمة فأن الأمل يحدونا بعودة العافية للنقل وخدمة المواطن.

أرقام خطوط السير في الموصل

كان لمصلحة نقل الركاب دور حيوي ومهم في تأمين النقل في اغلب مناطق العراق وليس مدينة بغداد فقط مع ان لها حصة الأسد بيد ان ذلك لا يعني إهمال المحافظات العراقية وإنما توزع الجهد بشكل ايجابي لخدمة المواطن عبر باصات النقل العام ذات اللون الأحمر وفبما يلي أرقام خطوط السير لتلك الباصات في محافظة الموصل.

الربيع (1) المحطة، مستشفى (2) المطار، باب الطوب (3) الغزلاني، باب الطوب (4) حي الثورة، المستشفى (5) النبي، باب الطوب (6) المنصور، باب الطوب (7) موصل الجديدة، باب الطوب (8) الزهور، باب الطوب (9) المجموعة الثقافية، مستشفى (10) القاضية، باب الطوب (11) حمام العليل، باب الطوب (12) اليرموك، باب الطوب (13) المالية، وادي حجر (13/6) المنصور، باب الطوب (14) الرشيدية، باب الطوب (15) الزنجيلي، باب الطوب (16) حي المحاربين، باب الطوب (17) التلفزيون، باب الطوب (18) حي الثورة، باب الطوب (19) وادي العين، باب الطوب (20) الشيخان، باب الطوب (21) مدرسة المشاة، (22) الحدباء، باب الطوب (23) البوسيف، باب الطوب (24) حي المصارف، باب الطوب (25) بادوش، باب الطوب (26) يارمجة، باب الطوب (27) حي العريبي.

طرائف عن سير الباصات

مدينة بغداد استخدمت في وسائط نقلها ايام العشرينات من القرن الماضي "القفه "و "الزوارق "للتنقل بين صوبي الكرخ والرصافة ثم استخدمت "الكاريات "على خط سكة وبعدها اعتمدت عربات الخيل او ما يسمى بـ الربل "ما عدا بعض السيارات الخصوصية بداية الثلاثينات وكانت ابدان هذه الباصات مصنوعة محليا من الخشب وقد اخذت الاعداد تتزايد يوما بعد يوم مع تطور حركة العمران التي شملت بعض الضواحي المحيطة ببغداد . ومن الطريف ان احدهم قام بصناعة باص خشبي ذي طابقين فسيره في شوارع بغداد فجأة مما أثار دهشة الناس واستغرابهم الا ان هذه الباصات جميعا لم تنجح وذلك لخطورتها وحشر المسافرون فيها يفوق استيعابها والغاية من ذلك تحقيق الربح فقط .

وعندما سير اول باص بين باصات مصلحة نقل الركاب "الأمانة" فمن الطرائف التي تذكر عند تسييرها بين باب المعظم والجعيفر ان اصحاب القوارب البلامة الذين كانوا يعبرون الاهالي يكادون يفقدون رزقهم مما جعلهم يعتدون على السواق ولكن ذلك لم يجد نقصا ولهذا ابتكروا طريقة أخرى لتأخير "الباص "وهي انهم عندما يرون الناس يركبون الباص يقدمون السمك المشوي للسائق والجابي مما يسبب تأخيرهم فيضجر الناس ويتجهون الى القوارب.

أما طلبة دار المعلمين العالية فكانوا لا يدفعون اجور النقل فيقومون بالاستيلاء على "سدارة "الجابي ويرمونها من الامام الى الخلف وبالعكس وهكذا تعم الفوضى الى ان يصلوا الدار "كلية التربية "حاليا بدون اجور النقل .

الثلاثاء، 1 نوفمبر 2011

الشاعر العراقي سلمان داود محمد-حاوره في بغداد : عبد الامير المجر


الشاعر العراقي سلمان داود محمد :
____________________________

أنا إبن هذا العدم العراقي المبين الذي يتسع وبحنان فادح للملائكة والقوادين معا ً .. !!

حاوره في بغداد : عبد الامير المجر

تميز العقد التسعيني المنصرم بظهور جيل شعري اتسمت نتاجاته بما يمكن تسميته طرح الاسئلة المربكة ، وذلك بسبب هول ما عاشه هذا الجيل من خرابين ممتدين يبدآن بذات الشاعر المعذبة وينتهيان أو لا ينتهيان بخراب محيطه ، الأمر الذي إنقسمت فيه إبداعات هؤلاء بين السوداوية والنكوص برغم ما فيها من شعرية وبين السوداوية التي تضمر إجابات ربما ذاتية محضة أو ذاتية تتموضع بتعميم السؤال واشراك الآخر بطرحه من خلال النص، وإجابته أيضاً كمعطى مضمر بمقولة النص نفسه، والشاعر سلمان داود محمد يعد من وجهة نظري من النوع الثاني، فبالرغم من أن نتاجه الشعري بشكل عام مجلل بالسوداوية لكنها تأتي في النص لتتستر على معنى يركلها أو يثور عليها لاسيما نتاجاته بعد الاحتلال التي تستحق أن تقرأ مرتين .. ولعل أبرز ما يميز سلمان داود محمد هو عصاميته التي لا تحتاج الى شهود وخصوبة عقله ما أتاح له باستمرار أن يتواصل مع الآخرين سواء أكان يتفق معهم في الرؤى أو يختلف لينضج "حواراً" مع الجميع وكذلك إستطاع "الجميع" من خلاله أن يطلعوا عليه أو يعرفوه وبعد ذلك فهو غير معني بشكل الحكم الذي يصدر بحقه . وبما إني من المختلفين "إجرائياً" معه وقد اكون متفقاً معه تماماً في "نهجه" الذي دلني عليه وربما دله عليّ لذا آثرت أن اغتنم الفرصة لأتوسع معه بحوار قد يعني الآخرين وهذا ما حصل ..

* صف لي مكانك الآن، وأين تقف في هذا الخضم المتلاطم . كي أهتدي اليك.. لنتحاور؟

- دعني في البدء أن أرتعش قليلاً، ذلك أن الخوض في مفهوم "المكان" يستوجب ذلك في تقاليدي الشخصية، بخاصة وأنا في "العراق" أو تحت وطأة هذا "الكانسر" الذي لا فرار منه وهو المتلاعب بالمصائر كيفما اتفق، فما زال يتناوب على حياتي بنقيضين من الأفاعيل، فمرة أراه قصاباً بارعاً لجسد الكلام ومرة أراه الباعث الإستثنائي لإستعادة ما مات من البوح في الآن نفسه، حدث هذا ويحدث راهناً وسيحدث حتماً في تمام الآخرة وما بعدها.. إذن أنا هنا.. أي في مكان يتسع وبحنان فادح لحشد من الملائكة والقوادين معاً، أو لجباة الدم ليل نهار، وبسالة اللاهثين في رد الضرر عن الحالمين بدفتر مدرسي أو كوب حليب أو وردة آيلة للعبق من جهة أخرى، هذا يعني أن لا فرق هناك بين إيواء أسراب من ذباب الإستبداد المفولذ سابقاً وعسليات الغزاة الزقومية لاحقاً، إن هذا الوئام الشنيع بين المتناقضات ورسوخيته في مسقط الرأس جعلني لا أفرق أيضا بين آليات "أمهات المعارك" و"القادسيات" و"نقرة السلمان" وسواها في إنتاج الضحايا، وبين غزارة "الميليشيات" و"دائرة الطب العدلي" و"الهمرات" و"الثأر القبلي" وغيرها في إعادة انتاج تلك الضحايا في الوقت الراهن .. الخ ..
لذلك أقف الآن في عز هذا العدم العراقي الجليل، فهل تستطيع ان تهتدي إلي لكي نتحاور ـ كما تقول ـ وكل هذه المبيدات القامعة للقول بيننا..؟

* أعتقد أننا نستطيع أن نتحاور، خاصة وأن موضوعنا الآتي سيخوض في آفاق المسألة الثقافية، وأرى أن هذه المسألة تقع في صلب إهتمامك بوصفك مثقفاًً عراقياً وشاعراً، فأسألك عن المشهد الثقافي العراقي بين عهدين ، كيف وجدته..؟

- تجدر الإشارة أولاً الى أن ما سيرد من أقوال على لساني في هذا النقاش لا يتبوأ بالضرورة مكانة الناطق الرسمي أو المخول الاعلامي باسم اصحاب الشأن الثقافي او غيره انما هي تفوهات صدر موجوع يريد الوقاية من اعراض التدرن "الرؤيوي" الذي فرض بخشونة الترهيب ونعومة الترغيب وعلى مدى "عهدين" على رؤوس المتضررين" كما أن مفردة "عهدين" الجاحظة من سؤالك أراها تمتد ـ زمنياً وعملياً ـ من أول دبيب للانسان على الارض وحتى الساعة، لذلك أرى أن العهدين المشار اليهما هنا هما في حقيقة الامر "عهد واحد" حيث شاءت التحولات "الفيزيقية" أو "الميتافيزيقية" ربما أن ينشطر على نفسه الى إثنين وذلك في التاسع من نيسان/ 2003، لقد أنجب الماضي طغاة من الطراز "الصغير" و"المتوسط" حتى تبلورت هذه الطغيانات بحكم العادة وإنشغال الرعية بالإختلاف على "غرة شوال" الى "دراكولا" واحد لا شريك له ومن طراز (لارج×××) الذي تم "تفكيكه" في التاريخ الوارد في إعلاه، ثم أتى الحاضر الملقح بنطفة "التغيير" لينجب هو الاخر "دراكولات جدد" توزعت على الخليقة العراقية وبالتساوي لتنعم عليها بأكاليل الأسى وبيادر الخسران
وفقاً لشرعة حقوق الناس "الفلكلورية" والإستحاقات "الديمقراطية" الفائحة من مطابخ "الدستور" الذي ولد وترعرع في كنف المصالح الفئوية وإعوجاج النظرة والأحلام التي يراد لها أن تكون من البنفسج "الحزبوي" لذلك إنعكست هذه الوقائع بألوانها الشاحبة على "قيافة" الثقافة العراقية، وكلمة "قيافة" هنا تحدد مقدار السوء العام الذي نال من الشكل العمومي لهذه الثقافة ولكن ظلت الروح التي تتوارى خلف هذه الأسمال محتفظة بسطوعها ونظافتها ومثابرتها على الإبتكار وحماية الجذر التأسيسي لها إتصالاً مع فكرة مفادها: إن لكل ثقافة رفيعها ورقيعها، والفارق بين الإثين "نقطة" كما ترى... وهذا يؤكد بالوقائع الدامغة أن الثقافة العراقية البتول قد أصابها الأذى الكثير من ضحالة الدخلاء ووساخة الأدعياء ودناءة المتاجرين على حساب عفافاتها وديمومتها التي بلا حدود وليس أخيراً على خصوبتها المعرفية التي كانت ولم تزل والى يوم يبعثون الدرس الابلغ في جمع شمل الجمال والعدالة والأبدية في ملكوت واحد إسمه "العراق" الذي تدربت على حروفه النورانية أبجديات العلم وازدهرت على الرغم من تعاقب العهود المأفونة وسلاطينها عليه، فربما لا تستطيع الثقافة العراقية الطاهرة الآن أن تعيد ذريتها المبدعة الى رحمها من جديد، بدعوى الحفاظ عليها من السوء المتفاقم حاضراً، ولكنها تستطيع وبإتقان كيف أن تضع مثقفي "ضرب السره" في الأماكن المخصصة لجمع النفايات ...

* متى بدأت مغامرتك "المهلكة" مع الكلمة، وكيف..؟!

- إن سؤالك هذا يستدعي رائحة تلك الساعات الاخيرة من الإجازات الدورية وما تنطوي عليه من إكتئاب خاكي، كما يستجلب أيضا ذلك السرد الممل بصدد "العلة" المسماة "الكتابة" التي لا شفاء منها ولا نهاية لها، حيث كانت بداية المغامرة مع الكلمة مؤطرة بفضاءات الوعي المتشكل من القدرة الابتدائية على إنتاج الأسئلة وفقاً لحداثة العمر آنذاك والإحساسات الخام أمام مجريات حياة باهظة الأحداث وجسيمة الأثر على طفل لم يبلغ بعد من إقناع "الكبار" بسؤال مؤداه:
...بماذا يضر " البالغين" لو تركونا نضع النقود المعدنية من فئة الـ"خمسة فلوس" على قضبان سكك القطارات المارة بمحاذاة بيوتنا حينذاك، ماذا يضرهم عندما تتحول حجوم الفئات الصغيرة من العملة الى فئات أكبر قد تصل الى حجم فئة "الدرهم" مثلاً بفعل مرور عجلات "الفاركونات" عليها وبالتالي ستتقلص مساحة الفقر لدى الفقراء ويتفشى الرخاء في أرجاء الحي والوطن من جراء تلك الفعلة "القطارية" التي يكمن في "دهستها" تكبير الفئات النقدية وتحقيق أماني المحرومين.. ولكن.. ياللعار.. لقد أدركت مؤخراً أن "الكبار" كانوا على حق، لاسيما وأن القطارات قد أكلت بانياب خطاها "الطرة" و"الكتبة" وفقدنا رؤوس أموالنا والامال، ومدت الفاقة لسانها ساخرة من تكدس خيبة الأحلام على أرواحنا، أرواحنا التي إستغرقت طويلاً في غباءات النوايا الحسنة.. النوايا الحسنة، التي أفضت فيما بعد الى قطارات جديدة تذهب سريعاً بالنفط الى "الآخرين" وتعود بطيئة وحبلى بالحنطة المسمومة وجرحى الحروب ومستحضرات لتجميل الهزائم .. هكذا كنت أتمثل هذا الدرس للمرة الاولى وأكتبه بلغة ركيكة وبإحساس بليغ لا يقل ركاكة وبلاغة عما يجري الآن في بلاد القطارات التي لا تنتهي ..

* بعد ثلاث مجموعات شعرية ومثلها مخطوطات وغيرها قيد الإنجاز، هل تعتقد انك قلت ما تريده حتى الآن..؟

- أنا مع أطروحة الأخ "فان كوخ" التي تنص على أن "الأحزان باقية ما دامت الحياة" وعليه لن يتوقف الفعل الشعري بإعتباره ـ حياة ومدونات ـ ولكن ثمة فاصل بسيط بين الشعر والأحزان، إذ أن الأحزان تزول بزوال أسبابها بينما الشعر إتخذ من الزمن إمتداده ولا نهائيته على الرغم من أن الشاعر كائن قابل للموت الذي شرعته الآلهة وتداوله العامة مع فائق الأسف، ولكن ليس بمقدور أحد أن يمحو الشاعر وأثره من ذاكرة الوجود حتى لو كان المحو هذا بواسطة ممحاة نووية أو مقدسة ذلك أن الأثر الشعري الحي يدل على حياة منتجة بمنأى عن الظلم الكوني الذي جعل من الشعراء نزلاء حفر مغلقة إسمها "المدافن" فاستناداً الى هذه البديهيات أقول : أنني وعبر ما أصدرته من أعمال شعرية وأدبية و غيرها قد أفصحت عما كنت أريده تماماً وما زلت، بصرف النظر عن الأثمان الدنيوية الفائقة التي ما زالت تلاحقني وتشترط على أن أكف عن البوح الشعري ولم أستطع، علماً أن أمراً كهذا يندرج في سياق الشأن الشخصي فلا أحد ملزم بتقديم التعازي او التبريكات فضلاً عن إنشغالي الآن بتأجيج جذوة تلك الأثمان الجهنمية بالتواصل الشعري مع ما أعلنته شعرياً فيما سبق من خلال "غيوم ارضية" و"علامتي الفارقة" و"ازدهارات المفعول به" بمخطوطات أُخر ستعلن عن "واوي الجماعة" و"سعفة كلام" و"هنا بغداااااااااااااااااااااه" وسواها لذلك اؤكد لك يا عزيزي أن المصاب بداء الكلمات لا تخشى عليه من أحابيل كوليرا الخرس ومخالب كاتم الصوت ومستعمرات الخراب النزيلة ـ مؤقتاً ـ في أعالي الكلام ..

* يقول البعض من الشعراء: إن الزمن العراقي الحالي ليس زماناً للشعر .. كيف تعلق على هذا..؟

- بدءاً أرجو أن تتقبل مني فائق المحبة والإمتنان بسبب تحديد الفشل الشعري والإعتباري ثم إرتباطه الوثيق بهذا "البعض" كما أعتقد، فاذا كان الزمن العراقي الحالي بحسب ما يدعون، فأي صفة يمكن اطلاقها عليهم وهم (شعراء) بلاشعر..؟ ماذا نطلق على(الشاعر) عندما نراه يتهالك على إعتناق مهن كان ينبذها ويتبجح بالترفع عنها في زمن قريب منها مثلاً : "المحلل السياسي" أو"السيد الاعلامي" او"الاستاذ لسان حال الاحزاب والقوميات والطوائف والاعراق والمناطقية.. وهكذا: أو"السيد متعهد المهرجانات الثقافية" الذي يتسلسل (رابعاً) بعد أناس لافرق لديهم بين قصيدة النثر وطريقة (لبخ) الوجوده بالمساحيق التجميلية.. وغير هذا الكثر.. لستُ هنا بصدد محاكمة (هؤلاء) أو تجريح مهابة المهن المذكورة انفاً لا، ولكنني اسأل مستغرباً: لماذا هذا(البعض) الصالح لكل شيء إلا الشعر مازال يعتلي المشهد الثقافي ولايستحي؟.. ربما(القرقوزات) الرصينة هذه أكثر مدعاة للضحك في الزمن الشعري العراقي الحالي و.......الحزين ...

*وأخيراً أرجو أن تختتم حوارنا هذا بما يعجبك من القول وبأيجاز على أن لايغضبني...!

- شكراً - أقولها على مضض- لديمقراطيتك المستبدة هذه، وبعد، أقول:
الأمراء فصيلتان:
الأولى مبجلة حررت رقاب العبيد من الجور والتعسف بلا أثر رجعي وانتهى الأمر...، والأخرى ذبّاحة حررت أعناق الناس من أجسادها بـ"شفافية" لاتقبل اللبس وانتهى الأمر أيضاً.. فلماذا أنت إذن"عبد الامير" ولم تزل.....؟؟!! ..

..............
..............

ماذا تعنون بالليبرالية الديمقراطية؟ - راغب الركابي


راغب الركابي

يوجه إلينا في العادة هذا السؤال التراتُبي: ماذا تعنون بالليبرالية الديمقراطية؟ وبماذا تتميز؟ وماهي أهم خصائصها؟، يأتينا هذا السؤال من أصدقاء ومن مخالفين،
ونحن دوماً نجيب عن ذلك بجواب بسيط يرتبط بما هو متبادر وبما هو متعلق وبما تمثله الليبرالية من قيم في الحياة وللحياة، ونحن على الدوام نربط بين هذه القيم وبما يُمكن تحقيقه للفرد وللجماعة منها، ولأننا في العراق وفي المنطقة العربية والإسلامية نعاني من جملة مشاكل وإشكاليات لا نرى في واقع الحال ما يُمكنه إنقاذنا وترميم جراحنا من غير الليبرالية وقيمها في العدل وفي الحرية وفي السلام، لذلك نربط الإزدهار والتقدم بها، كما نربط بها كل حالة تفكيكية وتحليلية للواقع وفيماهو نافع وغير نافع في حياتنا بها، ولا نبالغ إذا ما قلنا بان المستقبل المنشود والمزدهر مرتبط بها، ولهذا صارت هي الهدف وهي الغاية من الوجود ومن الحياة .
وفي ذلك إنما نجعل من الليبرالية الديمقراطية الشيء المتحرك فينا وفي حياتنا، وكذا المتصل بكل قيم الخير التي نسعى لها، فقيمها ليست إفتراضية أو ذهنية ولا هي نافعة للمستقبل ولا يجوز أن نؤجل فعلها وحركيتها لما بعد التأسيس في كل دولة من دولنا الجديدة، بلى هي حاضرة في ذهن الجميع حتى في ذهن وعقل المناوئين لها أو الظانين بها ظن السوء، لذلك ينتحلون صفات وأسماء من أجل تقريب وجهات نظرهم، بعدما عرفوا إن الشعوب ترفض كل فكر شمولي أو أحادي، وعرفوا إن الشعوب ميالة للمشاركة في صُنع قراراتها، هنا نقول إن الليبرالية الديمقراطية حاضرة في فكرها وفي طريقة تفكيرها التي تطغى على أو في ألسن الجميع، من خلال مفرداتها التكوينية في الحوار وفي الجدل بالحسنى وفي الإيمان بالآخر المُختلف وفي كفالة ذلك وفي تعميمه .
من هنا أقول : إن الإقبال من العراقيين والعرب عليها هو إقبال يرتبط بمصيرهم وحاضرهم كما إنه يرتبط بقيمهم، فليس هناك من حلّ لمشكلاتهم الجمه غير تبني الليبرالية الديمقراطية ليس في العلاج وحسب بل وفي الوقاية، لهذا كان نزوع الناس إليها نزوعاً مندكاً في ومع الطريقة التي يمكنهم فيها ومن خلالها التقدم والتطور، طبعاً قد يقول قائل : لماذا هذا الإيمان بها وبمستقبلها ؟، وأنت ترى إختيارات الناس التي بانت في إتجاه آخر، أقول : نعم هذا صحيح فالطبقات المسحوقة من شعوبنا عانت من الدكتاتورية والإستبداد والظلم، ولم يكن في تخيلها الخلاص من هذا الظلم كما لم يكن في تخيلهم هذا الإنقلاب وهذا التغير، فالجميع كان يؤمن بالمعجزة وبالتدخل الغيبي، ولهذا ربط هذا البعض ما يحدث من تغيير ككونه إستجابة من الغيب لما كان يعانيه الناس، هذا الإيمان ولد نزوعاً عاطفياً مرتبطاً بطبيعة كل إنقلاب أو كل مرحلة إنتقالية من قبل ان تستتب الأمور وتتضح .
فحاجات الناس وهمومهم مرتبطة بالفعل اليومي وطبيعي إن الحكم يكون بناءاً على النتائج، ولأن حال المجتمعات العربية عموماً ستبقى تعيش الألم وتعيش الحرمان، ولأن ما في الواجهة هم أولئك الذين كانوا ولا زالوا يمنون الناس بالحلول السحرية، ولأن ذلك قد أنكشف وثبت إن من هم والساعين إنما هم طُلاب مناصب وكراسي ليس إلاّ، لهذا تبين للكثير أن لا مناص من غير العودة إلى الحلول الواقعية المنسجمة من طبيعة الإنسان ونفسه، تلك الحلول المرتبطة بواقعه وطموحه وأحلامه .
أقول هذا وأنا أرى وأسمع كيف تم لدى الكثير هذا التبدل وكيف تم لهم هذا النضوج وكيف تمت لديهم أسباب كل هذه المعرفة، فالعراقيون وهم رواد هذا الإنقلاب التاريخي في الواقع العربي تلمسوا عن قرب ومن بعد طول معانات وجهد، ماذا يعني لديهم وماذا يعنيهم الوعي والإيمان والإرتباط بالوطن، كما إنهم عرفوا معنى العمل ومعنى التضحية ومعنى ان يكونوا معاً وجميعاً موحدين غير مفرقين، ونقول بإفتخار إننا في - الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي - قد بينا منذ سنيين معنى الإنتماء ومعنى الهوية وكيف يكون التفكير الصحيح الجريء الحر القادر على تسمية الأشياء بمسمياتها، وفي ذلك كنا دعاة للوحدة ولتنظيم الصفوف وإحترام القانون وسيادته في مواجهة الإرهاب والغوغاء وأولئك السفسطائيين وأهل الكلام، فعندنا الإنسان هدف وغاية ومن أجله لابد من العمل الحر النزيه العمل المبدع الذي يؤمن بالتطور سلوكاً وغاية، وعندنا تتميز الألوان وتتوضح الصورة فحاضرنا الذي يبدو غير واضح المعالم عند البعض هو عندنا واضح جلي، لأننا نؤمن بقدرة شعبنا على تخطي كل العقبات والمعضلات لذلك لن يستسلم ولن يخبو ولن يحيد .
أقول : إن القيم الليبرالية التي نفتخر بها ونفاخر تُجسدها تجارب أمم وشعوب تمسكت بها وأنتفعت وتقدمت وطال عودها وأستقام، ولهذا لن نألوا جهداً في أن نجعل منها طريقاً لحياة شعوبنا ومجتمعاتنا، وهذا هو إيماننا الذي نتمثله في الواقع، والذي هو عندنا يعني الحياة الحرة المستقلة المفكرة التي تعتني بالروح وبالجسد، ولأننا نركز على القيم فإننا نركز في الواقع على الأخلاق الليبرالية التي تنبذ الكذب وتحض على الصدق وتعاقب على الجريمة و الظلم، وتدفع لشمائل الأخلاق الكامنة في فطرة الإنسان الغير ملوث والغير محزب في السلوك وفي الإعتقاد .
ونحن في هذا المقال بالذات لا نعرف الليبرالية الديمقراطية تعريفاً معجمياً وكما لا يجب ذلك علينا، لكن الواجب هو التركيز على ما توفره الليبرالية للإنسان في حياته في حاضره وفي مستقبله، و في هذا إنما نبشر بيوم الخلاص من كل عقد الماضي وتخاذله وبؤسه ونكباته، فالعراقيون والعرب اليوم أمام تحد كبير ومواجهة مع النفس ومع الواقع، في أن يكونوا أو أن لا يكونوا، فتحقيق الوجود والإيمان به لن يتم لهم من دون تبنيهم وسيرهم في طريق الليبرالية الديمقراطية، وفي ذلك نكون قد بينا معنى الليبرالية الديمقراطية في وجودها وفي عدمها بالنسبة للعراقيين والعرب في حياتهم وفي وجودهم، وعندما يتم هذا التمازج نستطيع أن نثق بأنهم يسيرون في الإتجاه الصحيح، وأنهم سيحملون نتائج باهرة وأكيدة ستكون لهم ولمستقبلهم، إذ بها ومعها تتم نهضتهم وتقدمهم ورقيهم .
راغب الركابي