قصة قصيرة
السنوات العجاف
عادل كامل
شرد ذهن البقرة وهي تصغي إلى ذبذبات جنينها، فطمأنته إن سنوات الجفاف، السنوات العجاف، سنوات ندرة الطعام، والفاقة، والأمراض، وانعدام الاستقرار توشك أن تبلغ ذروتها، وتصبح من الماضي، وإنها، خاطبته عبر الذبذبات ذاتها، لن يضطر للموت جوعا ً، أو قضاء حياته متنقلا ً من محنة إلى أخرى، وإلا فإنها لن تدعه يغادر رحمها أبدا !
فخاطبها الثور الواقف بجوارها:
ـ حسنا ً فعلت، فانا نفسي لا امتلك الإجابة...، فهل ستنتهي سنوات الاضطراب، والمصائب، والبلايا حقا ً، أم إنها بالذات ليست إلا حاصل ديمومة ماضيها؟
بيد أن البقرة ردت:
ـ انه يرفس! اللعين، يرفس!
ـ ربما يلعب، يلهو، يمرح...، تأكدي من الأمر؟
ـ لا ...، بل يخبرني بأنه سيجد ألف وسيلة بعدم المغادرة، انه يعلن لي: سأعمل بالرجوع إلى ما قبل هذا الوجود!
هز الثور رأسه إلى اليسار، والى اليمين، وحدق في عيني البقرة الشاردتين:
ـ من كان يتوقع هذا ...، فانا طالما عرفت ـ وتأكد لي بما لا يقبل الشك ـ انك بقرة عقيم! ثم، جاءت سنوات القحط، والشغب، وندرة الأعشاب، والدغل، والأشواك، وحلت سنوات الحرب، والغبار الأسود، والغبار الرمادي، وسنوات الرمل، فهزل جسدك حتى كان من المستحيل أن يحصل هذا الحمل إلا بمعجزة...؟
ـ يا نور قلبي، يا ثوري الجميل...، دعك من هذا الكلام...، الم يتم تعقيمك، بمعنى تم اخصاؤك، في عام النكبة، ولم يتركوا لا ثورا ً ولا عجلا ً ولا حتى من كان يتمتع بأطياف ذكورة، طليقا ً لا في البساتين، ولا في الحقول...، إلا وعقموه ...؟
ـ بلى... ، سيدتي، فعلوا ...، لكن هذا كان بلا نفع، فالنبتة العنيدة تنبت حتى في أقسى الصخور، الم أخبرك: إن القضاء على خلية الخلق شبيه باستحداثها من العدم؟
شرد ذهنها، أقال هذا أم لم يقله، لم تكترث، لأن شرودها سمح لها بمخاطبة جنينها، بعد ان هدأ عن الرفس:
ـ أخبرتك، يا عزيزي، إن سنوات المحنة لن تمتد...، طويلا ً، ولن تستمر إلى الأبد...، وان الأمطار على وشك السقوط، كما تقول العرافات، وخبراء الأنواء الجوية، والحكماء، وباعة الغنم، والماعز، والبعران، والجاموس، وكما أكدت الغزلان الخبر ببعض التردد...، وهذه ليست دعايات، أو إشاعات، أو كلام سحرة...، فقد تأكد لنا، لو امتدت سنوات الكارثة ...، فان سلطات الحديقة وعدتنا بتوزيع العلف المستورد مجانا ً...، أسوة بما يحصل خارج حديقتنا؟
ضحك الثور، ووجد جسده اقل وزنا ً، بل حتى شعر برغبة بالطيران، فسألته البقرة حالا ً:
ـ أسردت طرفة لك كي لا تبكي، بل كي تقهقه من غير سبب؟
هز رأسه، ومازال لا يقدر أن يمنع نفسه من الضحك:
ـ لا...، بل تذكرت سنوات النعيم، والوفرة، وما كان فائضا ً في المعالف، من أرزاق، ونعم، وطعام؟
لم تجب، لأنها تذكرت كيف تم إرسال أعداد كبيرة من العجول، والثيران، عداه هو، إلى المجزرة. ودار بخلدها إنها ربما كانت هي المعجزة، وإلا لماذا كان الاستثناء؟
اكتأب الثور، وأحس بألم حاد يسري في جسده، متنقلا ً، ليقول لها:
ـ لا تحزني! ما أن تضعي حملك هذا حتى يتم التخلص منه!
ولم يخبرها: فالناس جياع، بل تمتم: إنما السنن هي أكثر عنادا ً من استبدالها، أو تبديلها، أو تعديلها، أو دحضها!
سمع الجنين، وهو في شهرة الأخير، كلمات الثور، الوالد، فاخبر والدته بأنه سيضرب عن تناول أي مادة تصله منها، وسيمتنع عن إكمال نموه، ليولد ميتا ً: حيث ستضطرين إلى إجهاضي! آ ...، سأولد ميتا ً، ولن تضطري لرؤيتي وأنا أجرجر إلى المجزرة، ويذبحني ابن سفاح؟ وأضاف معتذرا ً لها؛ فقد لا يكون القصاب هو تحديدا ً ولد كما هو حالي، لكن رائحة سكينه لا تدع كلماتي إلا أن تفقد بصرها، وبصيرتها، فعذرا ً لهؤلاء الذين يلدون رغم استحالة ولادتهم!
ـ لا يا حبيبي، لن ادعك تفعل هذا أبدا ً، وان تأتي بلا نفس، بلا ضحكات، بلا صراخ، ولن اسمح خوارك، واراك تلعب كباقي العجول....، لا لن ادعك تفعلها!
ورفعت صوتها:
ـ فانا قد اهلك من شدة الحزن، والأسى..، بسببك يا عجلي، لن ادعك تفعلها، فلا تفعلها، أرجوك!
فسمع الثور ذبذبات الجنين وفك شفرتها، وقرأها، فقال للبقرة:
ـ اخبريه، يا عزيزتي، أن المصيبة التي لا حل لها ليست مصيبة، والذنب الذي نرغم على اقترافه ليس ذنبا ً، ثم إن كل من يأتي من المجهول يبقى بقبضته، ولن يفلت منها، حتى لو كسرت يد هذا المجهول، أو بترت، أو فقدت وجودها!
صمتت البقرة فترة غير قصيرة، وسألته:
ـ ما هي هذه المصيبة...؟
فأجاب:
ـ مع إنني لا اعرفها، لكن لا معنى أصلا ً للبحث عن حلول للمشكلة التي لا حل لها.
وأضاف من غير تردد، أو تلعثم:
ـ فالحمل حصل....، إن كانت الأم عقيما ً، والوالد مخصيا ً، أم لا...، فالحمل بحد ذاته ذهب ابعد من المعجزة! فما فائدة المعجزة أن تحصل من غير حمل...، وما معنى الحمل الذي حصل حتى لو لم تكن هناك معجزة....؟
ـ صحيح، طمأنتني....، لكن اخبرني ماذا سنفعل؟
ـ الاحتمالات كثيرة..، متعددة، ومتنوعة...، فانا سمعت إنهم سيوزعون العلف مجانا ً، وسمعت إن سنوات الجفاف قد بلغت نهايتها، وسمعت إنهم سيسمحون لنا بالعودة إلى الحقول، والى المزارع...، بل ويسمحون لنا بالهجرة إلى حدائق العالم، من غير قيد أو شرط، بل وهناك أخبار سارة أخرى لا تحصى...
أخبرت البقرة جنينها:
ـ هل سمعت، الم اقل لك أن المستقبل لنا!
وتأوهت:
ـ آ ...، لو كنت شاعرة وأنشدت: لن ندعك أيها المستقبل تمشي وحيدا ً في المتاهات!
فقال لها:
ـ وهل يمتلك السيد والدي الإجابة على السؤال الذي لا جواب عليه؟
ارتج جسدها، وارتجفت، فقال الثور يخاطب الجنين:
ـ يا ولدي....، أنصحك: لا تخرج!
ـ قلت لها...، ولكنها قد تهلك بسببي؟ فما أن أموت، حتى يأتي الطبيب، ويأمر بإرسالها إلى ....، والباقي أنت تعرفه، فانا قبل أن أتكّون تكوّنت في ّ رائحة السكين!
خار الثور، ودار حول البقرة دورة كاملة، وتمتم:
ـ لا حل للمعضلة التي نحن فيها.
ـ أية معضلة....، الم تقل إنها غير موجودة باستحالة وجود حل لها؟
ـ بالضبط...، لأن حملك لا وجود له، وهذه حقيقة لا يمكن دحضها.
ـ تماما ً، ولكنه يرفس، وربما يلعب، وربما نال عضوية السيرك، أو نال شرف الزعامة...، من يدري، عندما تكون المعرفة آخر ما يحصل؟
فخاطب الثور الجنين:
ـ وماذا لو لم تكن أمك عقيما ً، ووالدك مخصيا ً، وماذا فعلت لو تكن السنوات سنوات قحط، وفاقة...، يلهو الفأر بالأسد، والبعوضة تدرب النمور على الرقص، القملة تتزعم مواكب المجد، والضفدعة تغزل شعرا ً بمغزل الريح....، ماذا كنت فعلت؟
ولم يدع الجنين يتفوه بكلمة، أضاف متابعا ً بصوت مرتجف:
ـ هل سنعرف ماذا تفعل...، أتأتينا بالمعجزات....، وتبشرنا بالخوارق...، أم لا تكون إلا خير خلف لخير سلف...؟
لم يدم الحوار طويلا ً، لأن البقرة جاءها المخاض، فوضعت عجلها. الأخير نهض حالا ً. على انه لم يكن عجلا ً، بل شبيها ً بديناصور له رأس أفعى، وذيل تمساح، فخاطبهما بصوت حاد:
ـ لا أريد أن أراكما أمامي أبدا ً....!
صدمت البقرة، لكنها راحت تعالجها بمشاعر أم، فولولت، وأخذت تتضرع، ثم وجدت إنها تتخذ موقفا ً مغايرا ً:
ـ لولا الوصايا ....، وأنا تركتها تتسلل إليك، عبر دمي، طوال حملي لك...، لكنت أرسلتك إلى المحرقة!
فقال لها بصوت مدو ٍ:
ـ أنا هو من يقول: لولا الوصايا ....، لكنت ....، ولكن آن لك أن تذهبي، اغربي، وابحثي عن زريبة لا أراك فيها. أما أنت، أيها المخصي، فاختر المصير الوحيد الذي لا تستطيع أن تتلافاه!
اقتربت البقرة منه، وسألته، قبل تهم بالفرار:
ـ أهذا جزاء عملي معك، أهذا ثمرة شقائي، أهذا ما كنت آمل أن احصل عليه؟
صرخ غاضبا ً:
ـ ومن طلب منك بذل هذا كله...، اهو من اجلي...، أم إن السنوات العجاف تعرف بماذا تحبل، وبماذا تلد...؟
خار الثور، ودار حول نفسه، مثل مخمور، مع انه تجنب تناول ماء البركة المسكر، وصرخ في وجه الديناصور الوليد:
ـ لن تفلت منهم!
ـ يا أحمق...، أتعرف من أنا.....؟ أنا هو سليل تاريخ طويل يسري في ّ...، أنا المنحدر من الأفاعي، والديناصورات العملاقة، من التماسيح، ومن ذكاء الضباع، وحنكة الغربان، ومكر الهداهد، أنا أخذت من سم العقارب حصانتي، ومن القنافذ دفاعاتي...، ولم ارث منك إلا هذا القرن! وسأكسره.
أمر الابن حرسه الخاص برفع القرن الشبيه برمح، واستبداله بقبعة، وإضافة حراشف شفافة للذيل، مع تركيب حزمة من الأجنحة للطيران العالي، وأخرى للطيران الخفيض، من غير إهمال نصب مجسات رادارية للمراقبة عن بعد.
صفق الثور، بإرادة لا واعية، شارد الذهن:
ـ حقا ً أنت وحدك جدير بالبقاء...، وحدك جدير بالثناء...، فماذا تلد المحنة غير من يقهرها!
قال الابن:
ـ اغرب عني...! فانا بنفسي سأذهب إلى البحر واتي بالغيوم، أنا بنفسي سأصلح ما تم تخريبه، سادعوا الموتى للمشاركة في اعمار ما هدمه الأعداء، والفاسدين، والكسالى، أنا بنفسي سأعاقب كل من مس ارض حديقتنا ومستنقعاتها وأجنحتها....، آنذاك تكون السنوات العجاف قد بلغت نهايتها.، فلا منازعات، ولا حروب، ولا تمويهات.
فقال الثور متضرعا ً:
ـ خذني معك! أتضرع إليك، قبل ذبحي؟
ـ آ ...، أيها الأحمق، أنا لن أغادر قبل أن أراك معلقا ً، ولحمك يوزع للضواري الجائعة، وقبل أن أرى جلدك يرسل إلى المصانع لتصنع منه البساطيل، والحقائب، وارى الباقي يرسل إلى المتحف..!
فكر الثور مذعورا ً:
ـ أبن من أنت...؟
ـ أنا هو ابن المحنة التي لا وجود لها! فانا هو ابنك، وابن تلك التي تعرف بمن حبلت!
بعد أن كبل الثور بالسلاسل، وربط بالحبال، خاطب الابن:
ـ أيها الزعيم ....، أيها المغوار، أيها القائد، أيها البطل ....، لا تلد المحنة إلا من يذهب ابعد منها.
اقتربت البقرة من الثور، وهمست في آذنه، وهي ترتجف أيضا ً:
ـ ذات مرة أخبرتني بان المعضلة التي لا حل لها هي وحدها تحمل بشارة الخلاص؟
ـ كان هذا في سنوات الخوف، والقحط، والمجاعة، والخراب...
فسألته:
ـ وهل اختلف الأمر...؟
ـ لا...! فالزعيم أمر بتوزيع الهدايا، وأوسمة المجد.
اقتربت البقرة من الزعيم، وراحت تتضرع أن يخلي سبيل زوجها، لأنهما سيغادران، من غير رجعة. لكن الزعيم قال بصوت آمر:
ـ سأفعل ذلك! بعد أن سأغفر للجميع؛ للبعوض والعناكب والبرغوث والقمل والسحالي والجرذان والديدان والحشرات والبرمائيات والخنازير وبنات أوى، إلا هو .....، وأنت معه!
فقالت البقرة وهي توشك على الانهيار:
ـ لم يكن الذنب ذنبه، صدقني أيها الزعيم الجبار، ولم أكن أبدا ً شريكته في ارتكاب هذا الذنب...، فلا هو ارتكب الإثم ولا أنا آثمة!
ـ آ ...، يا لها من أسطورة! يا لها من مسرحية، ملهاة، عندما اجهل الجواب على سؤال: من أتى بي إلى هذا الوجود إذا ً...؟
ـ لا احد! فأنت ابن هذه الزرائب، والحظائر، والحفر، والمستنقعات...، ولدت من الهواء والتراب في ليلة المجاعة، بعد اشتداد المذابح، إبان سنوات الفاقة، وتفشي الأوبئة، أنت هو ابننا الغالي، العزيز، أيها القائد الخالد. ألا يرق قلبك لكلمات أم تجهل من يشفي جرحها، مع إنها حرصت أن تحميك من الأذى، ومن الظلمات.
وراح يصغي لها، بلا مبالاة، فسره أن يرى الجميع غادروا أوكارهم، حفرهم، جحورهم، حظائرهم، وبركهم، ليتجمعوا بمجموعات ملأت الساحة الكبرى، والممرات، والمساحات الأخرى، وهم يهتفون، يزعقون، يصفقون، ويلوحون للابن الذي أمر بوضع نهاية لعصر الجفاف، والشروع بتدشين عصر الرفاهية.
فخاطب الجميع، وهو يربت فوق كتف الثور، من اليسار، وفوق كتف البقرة، من اليمين:
ـ كانت سنوات يجدر بنا نسيناها، ومحوها من ذاكرتكم...، وإلا ما فائدة تذكر الفوضى، وتذكر خسائرها، حيث الجار قتل جاره، والابنة دست السم لوالدها، والابن لم يلتزم بالوصايا.....، والزوجة توشي بزوجها، ولم ينج من هذا العصر الغريب إلا هذا الواقف أمامكم، وهذه الأم التي حبلت بي رغم استحالة الحمل، إلا بتوفر حزمة من المعجزات...
هتف وزير التصفيق والدعاية:
ـ ارفعوا أصواتكم، ابتهجوا...، اهتفوا ...، فالقائد لم يخرج إلا من رحم الحرية، ولم يأت إلا بعد أن قهر الاستحالات، وعبر محيطات المياه الآسنة...، فانتم يا سكان حديقتنا، طلقاء...، طلقاء بمعنى الكلمة، وبإمكانكم الحصول على مكرمات زعيمنا هدايا مجانية، في ذكرى عام النصر، والفلاح، والمجد.
بكت البقرة، وهي تعانق الثور:
ـ الم ْ أخبرك، يا خلي الغالي، إن النهايات السعيدة، هي وحدها التي تزيح سنوات الغبار، والوحل، والرداءة...، الم اقل لك إن المستقبل لحديقتنا، وعصرها البهيج.
اقترب الثور منها، وهمس في آذنها من غير كلمات، ففهمت انه حصل على مزرعة نائية وعليها أن ترافقه في الذهاب إليها: حيث هناك، أيتها الغالية، سنفكر بإنجاب ابننا الثاني، بعد زوال السنوات العجاف!
فقالت الأم تخاطب زعيمها:
ـ عندما التقطتك من الشمس، سمعتك تقول لي، أماه: كلما ازدهرت النكبات فالأمل يكون قاب قوسين أو أدنى...، فقلت لك: لن تدوم الظلمات إلا وتجد من يروضها، وما أن وضعتك، أيها الزعيم، حتى بدأت بشائر الرخاء، وبدأ شعبك يدرك انك قدوتهم، فالشمس دليلك، وشعبك زرعك! فلا عقم ولا عقيمات، ولا قصاب يلوح بالسكين، ولا مجازر، ولا أقفاص، لا القوي يسلب قوت الضعفاء، ولا الضعفاء يسرقون من كنوز الأغنياء، الكل يتنعم بالموازنة، والمصالحة، والشفافية، وإلا سيقال ماذا تلد الأفعى غير الصل، وماذا تلد الظلمات غير الظلم؟
اقترب الثور منها كثيرا ً، وهمس في آذنها، من غير كلمات، خشية قراءة ما يدور برأسيهما، ففهمت أن لا تتكلم، وان لا تفكر، وان لا تحلم، بل أن تمشي خلفه، بهدوء، بوقار، وبصمت، لأن هناك زمرة من القصابين، يقفون عند بوابة الحديقة، بالانتظار!
28/1/2017
السنوات العجاف
عادل كامل
شرد ذهن البقرة وهي تصغي إلى ذبذبات جنينها، فطمأنته إن سنوات الجفاف، السنوات العجاف، سنوات ندرة الطعام، والفاقة، والأمراض، وانعدام الاستقرار توشك أن تبلغ ذروتها، وتصبح من الماضي، وإنها، خاطبته عبر الذبذبات ذاتها، لن يضطر للموت جوعا ً، أو قضاء حياته متنقلا ً من محنة إلى أخرى، وإلا فإنها لن تدعه يغادر رحمها أبدا !
فخاطبها الثور الواقف بجوارها:
ـ حسنا ً فعلت، فانا نفسي لا امتلك الإجابة...، فهل ستنتهي سنوات الاضطراب، والمصائب، والبلايا حقا ً، أم إنها بالذات ليست إلا حاصل ديمومة ماضيها؟
بيد أن البقرة ردت:
ـ انه يرفس! اللعين، يرفس!
ـ ربما يلعب، يلهو، يمرح...، تأكدي من الأمر؟
ـ لا ...، بل يخبرني بأنه سيجد ألف وسيلة بعدم المغادرة، انه يعلن لي: سأعمل بالرجوع إلى ما قبل هذا الوجود!
هز الثور رأسه إلى اليسار، والى اليمين، وحدق في عيني البقرة الشاردتين:
ـ من كان يتوقع هذا ...، فانا طالما عرفت ـ وتأكد لي بما لا يقبل الشك ـ انك بقرة عقيم! ثم، جاءت سنوات القحط، والشغب، وندرة الأعشاب، والدغل، والأشواك، وحلت سنوات الحرب، والغبار الأسود، والغبار الرمادي، وسنوات الرمل، فهزل جسدك حتى كان من المستحيل أن يحصل هذا الحمل إلا بمعجزة...؟
ـ يا نور قلبي، يا ثوري الجميل...، دعك من هذا الكلام...، الم يتم تعقيمك، بمعنى تم اخصاؤك، في عام النكبة، ولم يتركوا لا ثورا ً ولا عجلا ً ولا حتى من كان يتمتع بأطياف ذكورة، طليقا ً لا في البساتين، ولا في الحقول...، إلا وعقموه ...؟
ـ بلى... ، سيدتي، فعلوا ...، لكن هذا كان بلا نفع، فالنبتة العنيدة تنبت حتى في أقسى الصخور، الم أخبرك: إن القضاء على خلية الخلق شبيه باستحداثها من العدم؟
شرد ذهنها، أقال هذا أم لم يقله، لم تكترث، لأن شرودها سمح لها بمخاطبة جنينها، بعد ان هدأ عن الرفس:
ـ أخبرتك، يا عزيزي، إن سنوات المحنة لن تمتد...، طويلا ً، ولن تستمر إلى الأبد...، وان الأمطار على وشك السقوط، كما تقول العرافات، وخبراء الأنواء الجوية، والحكماء، وباعة الغنم، والماعز، والبعران، والجاموس، وكما أكدت الغزلان الخبر ببعض التردد...، وهذه ليست دعايات، أو إشاعات، أو كلام سحرة...، فقد تأكد لنا، لو امتدت سنوات الكارثة ...، فان سلطات الحديقة وعدتنا بتوزيع العلف المستورد مجانا ً...، أسوة بما يحصل خارج حديقتنا؟
ضحك الثور، ووجد جسده اقل وزنا ً، بل حتى شعر برغبة بالطيران، فسألته البقرة حالا ً:
ـ أسردت طرفة لك كي لا تبكي، بل كي تقهقه من غير سبب؟
هز رأسه، ومازال لا يقدر أن يمنع نفسه من الضحك:
ـ لا...، بل تذكرت سنوات النعيم، والوفرة، وما كان فائضا ً في المعالف، من أرزاق، ونعم، وطعام؟
لم تجب، لأنها تذكرت كيف تم إرسال أعداد كبيرة من العجول، والثيران، عداه هو، إلى المجزرة. ودار بخلدها إنها ربما كانت هي المعجزة، وإلا لماذا كان الاستثناء؟
اكتأب الثور، وأحس بألم حاد يسري في جسده، متنقلا ً، ليقول لها:
ـ لا تحزني! ما أن تضعي حملك هذا حتى يتم التخلص منه!
ولم يخبرها: فالناس جياع، بل تمتم: إنما السنن هي أكثر عنادا ً من استبدالها، أو تبديلها، أو تعديلها، أو دحضها!
سمع الجنين، وهو في شهرة الأخير، كلمات الثور، الوالد، فاخبر والدته بأنه سيضرب عن تناول أي مادة تصله منها، وسيمتنع عن إكمال نموه، ليولد ميتا ً: حيث ستضطرين إلى إجهاضي! آ ...، سأولد ميتا ً، ولن تضطري لرؤيتي وأنا أجرجر إلى المجزرة، ويذبحني ابن سفاح؟ وأضاف معتذرا ً لها؛ فقد لا يكون القصاب هو تحديدا ً ولد كما هو حالي، لكن رائحة سكينه لا تدع كلماتي إلا أن تفقد بصرها، وبصيرتها، فعذرا ً لهؤلاء الذين يلدون رغم استحالة ولادتهم!
ـ لا يا حبيبي، لن ادعك تفعل هذا أبدا ً، وان تأتي بلا نفس، بلا ضحكات، بلا صراخ، ولن اسمح خوارك، واراك تلعب كباقي العجول....، لا لن ادعك تفعلها!
ورفعت صوتها:
ـ فانا قد اهلك من شدة الحزن، والأسى..، بسببك يا عجلي، لن ادعك تفعلها، فلا تفعلها، أرجوك!
فسمع الثور ذبذبات الجنين وفك شفرتها، وقرأها، فقال للبقرة:
ـ اخبريه، يا عزيزتي، أن المصيبة التي لا حل لها ليست مصيبة، والذنب الذي نرغم على اقترافه ليس ذنبا ً، ثم إن كل من يأتي من المجهول يبقى بقبضته، ولن يفلت منها، حتى لو كسرت يد هذا المجهول، أو بترت، أو فقدت وجودها!
صمتت البقرة فترة غير قصيرة، وسألته:
ـ ما هي هذه المصيبة...؟
فأجاب:
ـ مع إنني لا اعرفها، لكن لا معنى أصلا ً للبحث عن حلول للمشكلة التي لا حل لها.
وأضاف من غير تردد، أو تلعثم:
ـ فالحمل حصل....، إن كانت الأم عقيما ً، والوالد مخصيا ً، أم لا...، فالحمل بحد ذاته ذهب ابعد من المعجزة! فما فائدة المعجزة أن تحصل من غير حمل...، وما معنى الحمل الذي حصل حتى لو لم تكن هناك معجزة....؟
ـ صحيح، طمأنتني....، لكن اخبرني ماذا سنفعل؟
ـ الاحتمالات كثيرة..، متعددة، ومتنوعة...، فانا سمعت إنهم سيوزعون العلف مجانا ً، وسمعت إن سنوات الجفاف قد بلغت نهايتها، وسمعت إنهم سيسمحون لنا بالعودة إلى الحقول، والى المزارع...، بل ويسمحون لنا بالهجرة إلى حدائق العالم، من غير قيد أو شرط، بل وهناك أخبار سارة أخرى لا تحصى...
أخبرت البقرة جنينها:
ـ هل سمعت، الم اقل لك أن المستقبل لنا!
وتأوهت:
ـ آ ...، لو كنت شاعرة وأنشدت: لن ندعك أيها المستقبل تمشي وحيدا ً في المتاهات!
فقال لها:
ـ وهل يمتلك السيد والدي الإجابة على السؤال الذي لا جواب عليه؟
ارتج جسدها، وارتجفت، فقال الثور يخاطب الجنين:
ـ يا ولدي....، أنصحك: لا تخرج!
ـ قلت لها...، ولكنها قد تهلك بسببي؟ فما أن أموت، حتى يأتي الطبيب، ويأمر بإرسالها إلى ....، والباقي أنت تعرفه، فانا قبل أن أتكّون تكوّنت في ّ رائحة السكين!
خار الثور، ودار حول البقرة دورة كاملة، وتمتم:
ـ لا حل للمعضلة التي نحن فيها.
ـ أية معضلة....، الم تقل إنها غير موجودة باستحالة وجود حل لها؟
ـ بالضبط...، لأن حملك لا وجود له، وهذه حقيقة لا يمكن دحضها.
ـ تماما ً، ولكنه يرفس، وربما يلعب، وربما نال عضوية السيرك، أو نال شرف الزعامة...، من يدري، عندما تكون المعرفة آخر ما يحصل؟
فخاطب الثور الجنين:
ـ وماذا لو لم تكن أمك عقيما ً، ووالدك مخصيا ً، وماذا فعلت لو تكن السنوات سنوات قحط، وفاقة...، يلهو الفأر بالأسد، والبعوضة تدرب النمور على الرقص، القملة تتزعم مواكب المجد، والضفدعة تغزل شعرا ً بمغزل الريح....، ماذا كنت فعلت؟
ولم يدع الجنين يتفوه بكلمة، أضاف متابعا ً بصوت مرتجف:
ـ هل سنعرف ماذا تفعل...، أتأتينا بالمعجزات....، وتبشرنا بالخوارق...، أم لا تكون إلا خير خلف لخير سلف...؟
لم يدم الحوار طويلا ً، لأن البقرة جاءها المخاض، فوضعت عجلها. الأخير نهض حالا ً. على انه لم يكن عجلا ً، بل شبيها ً بديناصور له رأس أفعى، وذيل تمساح، فخاطبهما بصوت حاد:
ـ لا أريد أن أراكما أمامي أبدا ً....!
صدمت البقرة، لكنها راحت تعالجها بمشاعر أم، فولولت، وأخذت تتضرع، ثم وجدت إنها تتخذ موقفا ً مغايرا ً:
ـ لولا الوصايا ....، وأنا تركتها تتسلل إليك، عبر دمي، طوال حملي لك...، لكنت أرسلتك إلى المحرقة!
فقال لها بصوت مدو ٍ:
ـ أنا هو من يقول: لولا الوصايا ....، لكنت ....، ولكن آن لك أن تذهبي، اغربي، وابحثي عن زريبة لا أراك فيها. أما أنت، أيها المخصي، فاختر المصير الوحيد الذي لا تستطيع أن تتلافاه!
اقتربت البقرة منه، وسألته، قبل تهم بالفرار:
ـ أهذا جزاء عملي معك، أهذا ثمرة شقائي، أهذا ما كنت آمل أن احصل عليه؟
صرخ غاضبا ً:
ـ ومن طلب منك بذل هذا كله...، اهو من اجلي...، أم إن السنوات العجاف تعرف بماذا تحبل، وبماذا تلد...؟
خار الثور، ودار حول نفسه، مثل مخمور، مع انه تجنب تناول ماء البركة المسكر، وصرخ في وجه الديناصور الوليد:
ـ لن تفلت منهم!
ـ يا أحمق...، أتعرف من أنا.....؟ أنا هو سليل تاريخ طويل يسري في ّ...، أنا المنحدر من الأفاعي، والديناصورات العملاقة، من التماسيح، ومن ذكاء الضباع، وحنكة الغربان، ومكر الهداهد، أنا أخذت من سم العقارب حصانتي، ومن القنافذ دفاعاتي...، ولم ارث منك إلا هذا القرن! وسأكسره.
أمر الابن حرسه الخاص برفع القرن الشبيه برمح، واستبداله بقبعة، وإضافة حراشف شفافة للذيل، مع تركيب حزمة من الأجنحة للطيران العالي، وأخرى للطيران الخفيض، من غير إهمال نصب مجسات رادارية للمراقبة عن بعد.
صفق الثور، بإرادة لا واعية، شارد الذهن:
ـ حقا ً أنت وحدك جدير بالبقاء...، وحدك جدير بالثناء...، فماذا تلد المحنة غير من يقهرها!
قال الابن:
ـ اغرب عني...! فانا بنفسي سأذهب إلى البحر واتي بالغيوم، أنا بنفسي سأصلح ما تم تخريبه، سادعوا الموتى للمشاركة في اعمار ما هدمه الأعداء، والفاسدين، والكسالى، أنا بنفسي سأعاقب كل من مس ارض حديقتنا ومستنقعاتها وأجنحتها....، آنذاك تكون السنوات العجاف قد بلغت نهايتها.، فلا منازعات، ولا حروب، ولا تمويهات.
فقال الثور متضرعا ً:
ـ خذني معك! أتضرع إليك، قبل ذبحي؟
ـ آ ...، أيها الأحمق، أنا لن أغادر قبل أن أراك معلقا ً، ولحمك يوزع للضواري الجائعة، وقبل أن أرى جلدك يرسل إلى المصانع لتصنع منه البساطيل، والحقائب، وارى الباقي يرسل إلى المتحف..!
فكر الثور مذعورا ً:
ـ أبن من أنت...؟
ـ أنا هو ابن المحنة التي لا وجود لها! فانا هو ابنك، وابن تلك التي تعرف بمن حبلت!
بعد أن كبل الثور بالسلاسل، وربط بالحبال، خاطب الابن:
ـ أيها الزعيم ....، أيها المغوار، أيها القائد، أيها البطل ....، لا تلد المحنة إلا من يذهب ابعد منها.
اقتربت البقرة من الثور، وهمست في آذنه، وهي ترتجف أيضا ً:
ـ ذات مرة أخبرتني بان المعضلة التي لا حل لها هي وحدها تحمل بشارة الخلاص؟
ـ كان هذا في سنوات الخوف، والقحط، والمجاعة، والخراب...
فسألته:
ـ وهل اختلف الأمر...؟
ـ لا...! فالزعيم أمر بتوزيع الهدايا، وأوسمة المجد.
اقتربت البقرة من الزعيم، وراحت تتضرع أن يخلي سبيل زوجها، لأنهما سيغادران، من غير رجعة. لكن الزعيم قال بصوت آمر:
ـ سأفعل ذلك! بعد أن سأغفر للجميع؛ للبعوض والعناكب والبرغوث والقمل والسحالي والجرذان والديدان والحشرات والبرمائيات والخنازير وبنات أوى، إلا هو .....، وأنت معه!
فقالت البقرة وهي توشك على الانهيار:
ـ لم يكن الذنب ذنبه، صدقني أيها الزعيم الجبار، ولم أكن أبدا ً شريكته في ارتكاب هذا الذنب...، فلا هو ارتكب الإثم ولا أنا آثمة!
ـ آ ...، يا لها من أسطورة! يا لها من مسرحية، ملهاة، عندما اجهل الجواب على سؤال: من أتى بي إلى هذا الوجود إذا ً...؟
ـ لا احد! فأنت ابن هذه الزرائب، والحظائر، والحفر، والمستنقعات...، ولدت من الهواء والتراب في ليلة المجاعة، بعد اشتداد المذابح، إبان سنوات الفاقة، وتفشي الأوبئة، أنت هو ابننا الغالي، العزيز، أيها القائد الخالد. ألا يرق قلبك لكلمات أم تجهل من يشفي جرحها، مع إنها حرصت أن تحميك من الأذى، ومن الظلمات.
وراح يصغي لها، بلا مبالاة، فسره أن يرى الجميع غادروا أوكارهم، حفرهم، جحورهم، حظائرهم، وبركهم، ليتجمعوا بمجموعات ملأت الساحة الكبرى، والممرات، والمساحات الأخرى، وهم يهتفون، يزعقون، يصفقون، ويلوحون للابن الذي أمر بوضع نهاية لعصر الجفاف، والشروع بتدشين عصر الرفاهية.
فخاطب الجميع، وهو يربت فوق كتف الثور، من اليسار، وفوق كتف البقرة، من اليمين:
ـ كانت سنوات يجدر بنا نسيناها، ومحوها من ذاكرتكم...، وإلا ما فائدة تذكر الفوضى، وتذكر خسائرها، حيث الجار قتل جاره، والابنة دست السم لوالدها، والابن لم يلتزم بالوصايا.....، والزوجة توشي بزوجها، ولم ينج من هذا العصر الغريب إلا هذا الواقف أمامكم، وهذه الأم التي حبلت بي رغم استحالة الحمل، إلا بتوفر حزمة من المعجزات...
هتف وزير التصفيق والدعاية:
ـ ارفعوا أصواتكم، ابتهجوا...، اهتفوا ...، فالقائد لم يخرج إلا من رحم الحرية، ولم يأت إلا بعد أن قهر الاستحالات، وعبر محيطات المياه الآسنة...، فانتم يا سكان حديقتنا، طلقاء...، طلقاء بمعنى الكلمة، وبإمكانكم الحصول على مكرمات زعيمنا هدايا مجانية، في ذكرى عام النصر، والفلاح، والمجد.
بكت البقرة، وهي تعانق الثور:
ـ الم ْ أخبرك، يا خلي الغالي، إن النهايات السعيدة، هي وحدها التي تزيح سنوات الغبار، والوحل، والرداءة...، الم اقل لك إن المستقبل لحديقتنا، وعصرها البهيج.
اقترب الثور منها، وهمس في آذنها من غير كلمات، ففهمت انه حصل على مزرعة نائية وعليها أن ترافقه في الذهاب إليها: حيث هناك، أيتها الغالية، سنفكر بإنجاب ابننا الثاني، بعد زوال السنوات العجاف!
فقالت الأم تخاطب زعيمها:
ـ عندما التقطتك من الشمس، سمعتك تقول لي، أماه: كلما ازدهرت النكبات فالأمل يكون قاب قوسين أو أدنى...، فقلت لك: لن تدوم الظلمات إلا وتجد من يروضها، وما أن وضعتك، أيها الزعيم، حتى بدأت بشائر الرخاء، وبدأ شعبك يدرك انك قدوتهم، فالشمس دليلك، وشعبك زرعك! فلا عقم ولا عقيمات، ولا قصاب يلوح بالسكين، ولا مجازر، ولا أقفاص، لا القوي يسلب قوت الضعفاء، ولا الضعفاء يسرقون من كنوز الأغنياء، الكل يتنعم بالموازنة، والمصالحة، والشفافية، وإلا سيقال ماذا تلد الأفعى غير الصل، وماذا تلد الظلمات غير الظلم؟
اقترب الثور منها كثيرا ً، وهمس في آذنها، من غير كلمات، خشية قراءة ما يدور برأسيهما، ففهمت أن لا تتكلم، وان لا تفكر، وان لا تحلم، بل أن تمشي خلفه، بهدوء، بوقار، وبصمت، لأن هناك زمرة من القصابين، يقفون عند بوابة الحديقة، بالانتظار!
28/1/2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق