الأربعاء، 1 فبراير 2017

تشكيليون في الذاكرة محمود صبري بين التنظير والرسم :ماضي حسن









تشكيليون في الذاكرة
محمود صبري بين التنظير والرسم




ماضي حسن

مدخل
إذا أردنا أن ندخل إلى عالم الفنان (محمود صبري) فاننا سنكون امام واقع يفرض علينا احكام ضمن مفهوم البداهة الماثلة للعيان وهي اقتران شخصية هذا الفنان في مجال بنيته الفكرية ونتاجه الفني بعملية الابداع والبحث، والفن بدون هاتين الصفتين يضحى اداء ميتا بلا تفاعل مع معطيات كل عصر ومكان وعندما عرف تولستوي Tostoi الفن بأنه (ضرب من النشاط البشري الذي يتمثل في قيام الانسان يتوصيل عواطفه الى الاخرين) فانه حينئذ اهمل الجانب الفكري وافرد مساحة الوجدان ويقع رودان Rodan بذات الاحادية ولكن التركيز على الجانب الذي فقده تولستوي أي (الفكر) اذ يقول:-
(ان الفن مظهر لنشاط الفكر الذي يحاول ان يتقهم العالم وان يعيننا نحن بدورنا  على ان نفهمه) .

 

ونحن نرى ان بجمع التعريفين يسكتمل المعنى وقد تجسد ذلك عند تعريف سوريو Soriau اذ يقول (ان الفن هو نشاط ابداعي من شانه ان يصنع اشياء او ينتج موضوعا) وبهذا النص سنعود الى بداية الحديث والقول بأن الفن هو ابداع : أي اصالة ومرونة وطلاقة، والاصالة هنا تعني الارتباط بالنمط (الافتراقي) وليس (الاتفاقي) أي الخروج من دائرة الشعور الجمعي المترسبة في دائرة سياق انماط التفكير والتي تكبل عجلات الحراك الابداعي في بعض جوانبها.
بهذا المبدأ وبهذه المنطلقات كان الفنان (محمود صبري) باحثا ومبدعا وملتزما بقضايا مجتمعه ومتجاوزا المشكلات الادائية .

 

لقد عبر عن ذلك في العقد الخامس بدراسات فكرية الى جانب نتاجاته الفنية التعبيرية في الرسم،لقد كان محمود صبري يحاور المستجدات المعاصرة في زمن التكنونووي وبنفس الوقت يمسك منابع جذور الفن وفك رموزه وقوانينه السائدة، لقد اراد ان يربط الساكن بالمتحرك او يكشف عن ذلك على وجه الدقة فقوانين سرعة الضوء ومنظومة التفاعل والاتحاد بين اجزاء الاجزاء لم تكن منعزلة عن قوانين مفردات التشكل البصري ونسيجه المتجانس بين المرئي واللا مرئي،لقد كان محمود صبري واقعيا وماديا في الرؤى والاستنتاج، بل علميا في مختبرات النتائج والتحولات التجريبية واللامرئي عنده حقائق تحكمها قوانين علمية لها تأثير ووجود في اطار مساحة التحول من حالة الى حالة أي من المادة الى الطاقة والعكس صحيح ايضا،فأجزاء الذرة غير المرئية لم تعد تصورات (فنتازية) .



الصلة بالواقع الاجتماعي:-
ولو عدنا مرة اخرى الى المنطلقات التي انطلق منها الفنان نلاحظ الالتزام بالواقع الاجتماعي من ارهاصات وانكسارات منعكسة في بنيتها التحتية (الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية) أي نتائج واقع شيء تتداخل فيها اسباب ونتائج ،العلة والمعلول، دال ومدلول، فوارق طبقية ومسار سياسي تتحكم فيه بنية التركيبة الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن مداخلاتها باحداث المنطقة عموما ومنها احداث عام 1967 وثورة الجزائر وغيرها لقد كان عمله (نعش الشهيد) خلاصة لتلك  التمثلات في ضمير الفنان واحساسه الواعي لجميع قضايا مجتمعه لقد كان الفنان يشّخص الواقع بحساسيته ودقة ،انه يرصد الاسباب المحركة ونتائجها في اسلوبيته التعبيرية مبتعدا عن او رافضا بالاصح حكاية ترفية الفن وتزيينه الارستقراطي وانزله من عرشه العاجي الى حيثيات الواقع الشعبي لقد كان محمود صبري بسيطا عندما توسط البسطاء ومفكرا عندما اعتنق صهوة المفكر والمنظر والناقد ، ومن المفيد القول هنا ان الانتماء الفني الى الوسط الجماهيري الذي فعله الفنان ليس بطريقة الافتعال والتي يتولد عنها نتاج مبتورة، بل حافظ على القيمة العليا التي ترتكز على المنابع التاريخية والذاتية بخطاب معاصر ،وقد تناول الموضوعات الاجتماعية الاكثر وضوحا وتماسا مع الحالة الانسانية وتأثيراتها المعلنة دون الفقر الاجتماعي ،الامراض، المظاهرات، التشهير، ومشاكل اخرى. ان تلك الزوايا من المجتمع كان الفنان يرصدها، يتفاعل يدخل الى الوجدان والفكر معا ولم يعد محض تسجيل لظاهرة عابرة كان الفنان مسؤولا عن تبني هذه الظواهر وتحويلها الى عمل تنبثق من خلاله موجات من التساؤل والاثارة والدهشة والحوار والتفسير والاستنتاج الى ما يمنحه المستقبل من تحولات او (انتفاضات) مقترحة او متوقعة بذلك فقد حقق الفنان وظيفته التنبؤية والتنظيرية ،لقد زاوج الفنان هنا منذ بداية منطلقاته الاولى بين حالة الاداء التعبيري للمشكلة (القضية) وبين مستويات التفكير التنظيري الناقد لحيثيات الواقع ومشكلاته.

أسلوبية الفنان:-
لا تفضل انماط الانساق، او عناصر الوحدات المتسقة في اعمال الفنان عن (دراماتيكية) الافعال المحركة لها وبهذا التفاعل الجدلي تتحدد لنا اسلوبية الفنان الواضحة انها خطوط حادة وداكنة تكشفها تعبيرات (تراجيدية) متأسية على مصائرها ويختلط الوجع مع الوجدان، المأساة مع الامل المعاناة مع الصبر، ويتحقق بعد ذلك بانسجام عندما تفصح البنية الشكلية للعمل مع المحمولات الداخلية له (المضمون) ففي الالوان ينفرد العمل باللون الاحمر مع الاسود ليشكل استجابة مع مضمون العمل للثورة وتأخذ بنائية التوزيع في عمل (تشييع الشهيد) جانبين للكتل المتراصة ،اذ تشكل الوجوه والقامات المنتصبة التي تحمل الشهيد نمطا إيقاعيا متكررا تلتحم الاجساد الحاملة للشهيد منظوية تحت جسده الممتد أفقيا للإيحاء بقيمة وعظمة التضحية من اجل هذه الاجساد الباقية ،انها تحتمي به وتؤكد وجودها من خلال تضحيته، اما الصف الثاني من العمل فتبدو الأشكال أكثر دينامية وذعرا من الموقف صيحات نساء ووجوه واجمة وايدي مرتفعة يتوسطهم جندي ربما يتوعد بثأر له والمضي قدما في المواصلة لدرب الشهيد، ان هذه الصورة للمشهد الدراماتيكي الذي جسده الفنان هي ترجمة وإحاطة لأفكار الفنان في مرحلته تلك ،وكذلك لاستشراقات المستقبل نظريا وعمليا في مجال الفني في الرسم.


ليست هناك تعليقات: