الاثنين، 27 فبراير 2017

جهنم- رواية جديدة لعادل كامل

https://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N
  •                                                                                               [ إن ابعد المجتمعات عن أخلاق السماء وعن طاعتها هي أكثر المجتمعات تحدثا ً عن السماء وولادة للمتحدثين عنها وعن آلهتها.]
  • عبد الله القصيمي
  • لتنزيل الرواية اضغط على الرابط فوق

الأحد، 26 فبراير 2017

ماذا بعد أيها الموت ؟- روناك عزيز



 نص

ماذا بعد أيها الموت ؟






روناك عزيز

ما أطولها أغصان النرجس التي تنبت فوق أهدابي ..
حبيبي كيف هو الموت ؟
أسال الجثة الراقدة بجنبي .. 
جثة شاعر مغمور ربما كتب آلاف قصائد العشق، أغزر من كالمطر ..
أتسلق جدران قبري ..بين الوجود والعدم 
حاجز بلون البحر وبلون عينيك، يا قدري 
أخطو نحو النهايات .. 
لاشيء هنا سوى بقايا خلفتها الحروب ..
فقدان الذاكرة الذي أصبت به، يتساقط مني 
مع كل خطوة ،وأتذكر أسماء الأشياء ..
آه أمنا حواء كم مرة تموتين ..
تحت أنقاض هذا الكوكب المالح ،الغارق في ظلمات البشر ،أجد ألأفواه تصرخ 
وتصرخ ..المذابح التي كانت على مر العصور تقف في طوابير الانتظار 
والأبواب تشبه المستحيلات 
ماذا بعد أيها الغراب ؟
لا مكان لدفن الجثث والسماء تمطر النار ماذا بعد ...
في الزوايا القصوى لـ: جحيم البشر 
تجلس القرفصاء، الحروب اللعينة، وتنتحبْ..
الديناصورات التي هنا تأن وجعاً 
الديناصورات البشرية التي لم تنقرض يوماً ..
لا ليل ولانهار ..الأبدية؛ تلك الرسالة الغامضة ..الرسالة التي تشبه كل الوجود ..المكتوبة بلون الزهر 
لا جاذبية هنا، والبعد الرابع يقف عند باب الله 
وعتبته ..
متى تساقطت كل هذه النجوم فوق رأسي 
وأغني، أغني وأنا أحلقٌ 
وعلى كتفي أحمل غابات الانتظار 
هل تكتم سري أيها الموت ؟
في قلبك أخبئ رسائلي العاشقة 
لحبيب لم أره قط 
مدفون هناك، ربما تحت أغصان النرجس، 
هناك حيث يحتضر قلبي. 



الثلاثاء، 21 فبراير 2017

أختام *- عادل كامل
















أختام *


 الختم الخامس


عادل كامل

 

 [6] هوية الفعل ـ الأثر
    يبلغ الوعي ذروته: انه ـ في كل خطوة ـ يخترع توازنه. فانا لم اعد معزولا ً عن أدواتي: القلم/ الورقة/ الضوء/ وتتبع ما أراه يتوارى ...، بل أصبحت امتدادا ً له طالما كلانا تحولات محكومة بما لم يعد للمعرفة فيه إلا الاختباء فيه. معرفة الفن وهو يخفي معناه، نائيا ً، عن كل خاتمة. فهو شريك الجسد في هذا الامتداد، وليس في القطيعة. وبمعنى ما يعلن الفن عن شراكته لي في تلافي المنفى ـ والنفي. فانا  لا أتطهر فحسب، بل اكف عن المقاومة. فأجد أنني لم أتحول إلى آخر، بل أتوحد مع ذاتي كي تكتمل النهايات بمقدماتها.
   هل بلغ الوعي ذروته، حقا ً، كي أرى حياتي ـ بفجواتها وبمفارقاتها وإرباكاتها ـ كعناصر انصهرت مكوناتها فيه واستحالت عنصرا ً مغايرا ً، أم ظهر لي، برغم هذه المراقبة، أني أتمسك بآليات لا واعية للتمسك بالأثر ـ دالا ً على صانعه، رغم إدراكي التام للصفر وما يخفيه من امتدادات لا تغادر لغزه!
    لا يحتمل الفن، ولا العملية الفنية، هذا التأويل. فالمحكوم بالموت، قبل رحيله، وحده يكون (عبر) ماضيه، كما لا معنى للقبر، بصفته ذرات تراب، المحو وحده سيبقى يحدد هوية الفعل ـ الأثر!
[7] حافات المحو
   وبمعنى ما يصعب تتبع المحركات اللا مرئية، وتحولها إلى فعل، والى مشروعات للقفز في مساحات المجهول. والأصعب من ذلك، ان تجد نفسك مشاركة في عمليات الهدم، كي تغيب، بعيدا ً عن الرصد، والتوثيق، ومدى صلتها بالإبداع، ومشاكله!
     في هذا الشرود، مازلت المح هذا الكيان الغامض، القائم على أكثر من تصادم. لأن سؤال ماذا نريد لم يقترن بأدواته الحديثة، وبالوضوح المطلوب. فالعشوائية ستؤدي دورها حتى النهاية، وهي التي كادت ان تنفي شرعية (التجريب) وتجعله محض ادعاءات قائمة على الخطأ والصواب.
     ماذا نريد ...وما الذي يستحق ان لا نريده، ونستبعده أصلا ً والذي سيشكل علامة لا يمكن عزلها عن كل ما سيشكل مصائر المشتغلين في الفن، وطرقه، وعلاماته..؟
    لن أتحدث عن الذين كانوا يشاركوننا هذا الهاجس المعرفي، في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، لأن من مكث معنا، هو الآخر، كان لا يمتلك إلا الدرب المتغير وقد خيمت عليه غيوم كالحة بفعل تحولات العالم من ناحية، وما يجري في القارات المحتضرة، وقد زوروا الأسماء، بمنحها تسميات مراوغة: كالعالم الثالث، النامي، من ناحية ثانية!
   ان كل ما يتصل بالتنمية البشرية، والتحضر، والتراكم المعرفي، تم استبعاده، واستئصاله، وترك الجميع يتخبطون في سراديب خالية من السلالم، كما ذكر منعم فرات، أو كعمل مجرشة الملا عبود الكرخي، سمة لقرن في طريقه إلى الأفول.  
  ولنستبعد نظريات المؤامرة، ونقول: هذه هي أخطاؤنا! حسنا ً،لكن الذي حصل شبيه بقصص ادمون صبري، ليست مضيعة للوقت، له ولنا حسب، بل لا جدوى من إعادة قراءتها!
    فالتنمية ستتراجع حد الصفر، بمعنى: أنها ستغلق سرداب منعم فرات، وتترك من فيه يتخبط في الحفر! هو ذا كهف أفلاطون، يدور المفتاح في قفله، فلا إضاءة ولا ظلال! فما يروى وحده قد بلغ ذروته: لن يتزحزح لا إلى الأمام، ولا إلى الخلف!
    أنا لست بصدد إعادة الحفر في موجهة الانخلاع: لماذا حدثت، وكيف استكملت برنامجها: حياتنا وهي لا تتباهى الا بخرابها! انه خرابي في نهاية المطاف. فبعد 1958، مرورا ً بالمتغيرات المشحونة بموجات القسوة، والذعر، خلال المتغيرات السياسية، وحتى يومنا هذا في عام (2011)، ولكن هل ثمة دراسات توقفت عندها، بمنظور يتوخى تفكيك المشهد كاملا ً، وليس ثقب مغلق! فالسيناريو الممسرح بين الفصائل، لم يجد من يرجعه إلى حده الأدنى من المحركات. ولا أنا سأفعل ذلك أيضا ً. لأن المشترك العام فقد مركزه. فليس هناك مقدسات، ولا وجود للحد الأدنى من الثوابت. فالجواهري، على سبيل المثال، أثنى على شخصيات لا تقل إساءة إلى الإنسان، وحقوقه، وتنميته، ومعرفته، لا مبرر لها ..الخ وهو ما ينطبق على شخصيات أخرى، مع ذلك كان غياب ألجواهري، ومئات العلامات الثقافية، في مختلف حقول المعرفة، والإبداع، ضربة توازي التنكيل بأصحاب المشاريع التنموية  ، والحريات. فلقد تحولت الأراضي الزراعية إلى أدغال، وتدهورت مشاريع الري، فيما أصبحت المصانع في ذمة التاريخ، من معامل صناعة الورق إلى الزجاج، ومن النسيج إلى الجلود والمعلبات ..الخ إلى جانب دفن المصانع الأهلية، وتركها تحتضر وتلفظ أنفاسها في الأخير.
   كانت الهجرة شبيهة بحدث (كارثي)، وكأنه ليس من صنع البشر، بل من عمل كائنات تعمل في كوكب آخر، لأن وضع قائمة بها، خلال نصف القرن الماضي، سيرسم لنا نهايات المشهد. فماذا لو كان الوعي، أو شيئا ً شبيها ً به، قد تصدى لموضوع الانخلاع، والفرار الجمعي، وناقشه بأدوات غير التي أدت إلى ذروته، ماذا كان سيحدث....؟ أم علي ّ ان لا ابعد شبح الأثر الكارثي الذي جعل مصائر البشر قيد التدمير، والزوال..؟
    هذه الظلال، والضلال، ستعمل في أقاصي الرأس: في خلايا الدماغ، وفي ومضات الوعي، بعيدا ص عن الثنائية، وبعيدا ً عن مثنويات الفلسفات القديمة، فانا عشت ـ كعدد من زملائي ـ المشهد حد تذوق خفاياه اللاذعة، المهلكة، ثانية بثانية. فالإنسان لم يولد في الخوف، ولن يعيش فيه، كي يدفن في حفرته فحسب، بل الخوف (وربما علي ّ ان أقول: اللا تنمية/ اللا عمل/ اللا احترام، ومعاملة بعضنا للبعض الآخر وكأننا في أتون: حرب الجميع ضد الجميع) سبق حضورنا أصلا ً، لأن المشهد برمته لم يعد بحاجة إلى ديمومة. لكن الاحتضار ـ وهذه إشكالية لم نر من يشخصها لنا بما هي عليه ـ غدا البرنامج الذي علينا ان نحافظ عليه: الشعوب التي عليها ان لا ترى النور، هي ذاتها، عليها ان تبقى عليلة، تدور في المحور ذاته، ولا تنتج إلا ما شخصه الملا عبود الكرخي: مشاجرات مومسات الميدان! في ذلك الزمن (الكلجية) التي تم استبدال معناها من موقع لجماجم ثوار بغداد إلى موقع للدعارة!
    لا احد أضاء لنا الدرب تمام الإضاءة، حتى لو كانت خاتمته سابقة مقدماته، إلا في حدود تنمية الإقصاء، ومن مختلف الفصائل، شعارات للتشهير، والمطاردة، والإذلال. فالمعركة، برمجت كي لا يخرج منها احد إلا مثقلا ً بالذنوب! ألا يبدو القرن الماضي (بين 1921 ـ 2011) مشهدا ً لا ينتمي إلى مسرح العبث، واللامعقول فحسب، بل إلى ما لا يسمى، والدخول فيه، كالدخول في حفرة كومت فيها مئات الجثث مجهولة الهوية في صيف بغداد الذي لا يرحم! ـ: عطر التاريخ، يا بودلير، ويا أيها المعري، ويا طرفة، ويا أيها الحكيم السومري الذي لخص المأزق ذاته قبل ستة آلاف عام، العطر المشبع بالنتانة، وشفافيات المحو، والتنكيل، باسم الحداثة، وما بعدها، حيث لم يجمعنا القبر، بل كان على كل منا ان يجد وسيلة للتواري، وتجنب الأصوات، ولفت النظر! فالفصائل ستوكل إليها مهمة تجاوز مشروع ذبح الجميع للجميع، نحو: ترك المستقبل يمحو ماضيه!


الأحد، 19 فبراير 2017

الوصفة السحرية للفوز بجائزة عربية-*نبيل سليمان

الوصفة السحرية للفوز بجائزة عربية
*نبيل سليمان

في حمّى الجوائز وصخبها في الفضاء الثقافي العربي، باتت الأصابع ترطن – على الكيبورد أو بالأقلام – بثقافة الجوائز، أي بموسم وأموال ومؤسسات ومواصفات، ودور نشر بعينها، وحكّام مكرسون، وكواليس تشكك بالذمم، واختلاط يستوي فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، دون أن ينفي كل ذلك ما يتحقق من تقدير لبعض من يستحقون، وبعض ما يستحق.

ولعل علينا من البداية أن نميز بين الجوائز التي تتوجه إلى مجمل ما أنجز روائي أو ناقد أو شاعر أو مترجم أو مفكر، مثل جائزة العويس أو جائزة الملك فيصل أو جائزة القاهرة للإبداع الروائي، وبين الجوائز التي تتوجه إلى رواية أو فيلم أو بحث، بالمفرد، مثل جائزة كاتارا أو الجائزة العالمية للرواية العربية (والشهيرة بالبوكر العربية) أو جائزة الشيخ زايد في أغلب فروعها.

ومهما يكن، فالسؤال هو السؤال: ما السبيل إلى الفوز؟ لماذا فاز فلان – كشخص أو نص؟ ومن موسم إلى موسم، ومن جائزة إلى أخرى، تتفتق ثقافة الجوائز عما يرضي لجان التحكيم و/أو أصحاب الجائزة. ولكن قبل الذهاب أبعد، ربما كان تحديد القول بمسمّى بعينه، يجعله أكبر جدوى، وينأى به عن مألوف لغط الجوائز. لذلك أسوق السؤال عما يعنيه نظام جائزة البوكر العربية بالنص على أن مجلس الأمناء يعين لجنة التحكيم من خمسة أشخاص: نقاد وروائيون وأكاديميون من العالم العربي وخارجه، والمجلس يختار من يفوز، نصاً أو شخصاً، من بين من ترشحهم لجنة التحكيم. فقد بدا أن إسناد المهمة إلى أكاديمي في الاقتصاد مثلاً، هو ورطة له وللجائزة. كما بدا أن (تطعيم) اللجنة بمستشرق أو مستعربة ينادي عقدة الخواجة. وبما أن القدوة هي البوكر الأم الإنجليزية، فأهلاً بالناشرين العرب إلى مجلس الأمناء وإلى اختيار المحكمين. ولكن ما دام حال النشر العربي على ما هو عليه، فلا مناص من شبهة الاحتكار، وبالتالي أن تغلب في التداول دور لبنانية، لذلك يحسن أن تحضر أيضاً دار مصرية، مثلاً، ولا بأس بحضور غيرها بين دورة وأخرى.

2

ذات مساء من شتاء 2008، جمعتني أمسية في حلب مع يوسف زيدان، وكان ثالثنا المطران يوحنا إبراهيم، مطران السريان الأرثوذكس في حلب، والذي اختطف مع المطران بولس اليازجي في ريف حلب منذ أربع سنوات، ولا يزال مصيرهما مجهولاً. وقد أدارت الأمسية الروائية شهلا العجيلي. ولسببٍ ما، ليس أقل من مسٍّ أصابني، تنبأت أمام الملأ لرواية زيدان “عزازيل” بفوزٍ عظيم.

وبعد قليل من الأمسية ظهرت القائمة القصيرة للدورة الثانية 2009 من جائزة البوكر العربية. وفيها رواية “عزازيل” مع روايات لفواز حداد ومحمد البساطي وإبراهيم نصرالله وإنعام كجه جي والحبيب السالمي، وكنت قد قرأتها جميعاً. ووجدتني أعيد قراءة “عزازيل” فتضاعف رهاني عليها – رغم ملاحظتي على درجة تسريد الفكرة أحياناً – ربما لما تخاطب به حمولتها الفلسفية والمذهبية والدينية حاضرنا، وربما لمعرفتي العميقة برئيسة لجنة التحكيم يمنى العيد. ومهما يكن فقد كسبت الرهان، وحين وقّع يوسف زيدان لابنتي نسختها من الرواية في معرض الكتاب في أبو ظبي، إثر إعلان فوزه، حدثها أمام الملأ عن نبوءتي، وهذه واحدة.

أما الثانية فتتعلق برواية شكري المبخوت “الطلياني”، إذ جمعتنا ندوة نهارية في “مدنين” التونسية عشية الدورة الثامنة للبوكر العربية. وكانت لي نبوءتي أمام الملأ بفوز “الطلياني”. وقد أكدتُ النبوءة في سهرة في مدينة تونس ضمتني والروائية آمال مختار مع الروائي الذي كانت روايته تتنافس مع روايات لعاطف أبو سيف وجنى فواز الحسن ولينا هويان الحسن وحمور زيادة وأحمد المديني، وكنت قد قرأتها جميعاً، ولم أخشَ على “الطلياني” إلا من منافسة “شوق الدرويش”.

3

بعيداً عمّا في النبوءتين من ادعاء، أو طرافة، أقلقني في الدورات الأخيرة للجائزة أن أجد في القائمة القصيرة نصوصاً بالكاد تصلح للنشر، وأن يكون بين المحكمين من أشكك في أهليتهم للحكم على الرواية، وإن يكن واحدهم أكاديمياً في الاتصالات أو  صحافياً مشهوداً له، فكل ذلك أمر، والتحكيم في الرواية الأفضل لهذه الجائزة أو تلك، أمر. ولم ولن يعزيني القول إن البوكر العربية معنية بالمقروئية والترويج أولاً.

في دورة 2013 من جائزة الطيب صالح للرواية والقصة، قيض لي أن أكون من المحكمين مع عبدالله إبراهيم وآخرين. وقد نالت رواية الصديق عز الدين التازي “المغرب” الدرجة الثالثة. ولم تتأخر المفاجأة، إذ أسرعت جائزة العويس إلى التازي على جملة منجزه الروائي. وفي هذه الواقعة، كما أحسب، دلالة صارخة على المفارقة بين أن تأتي أحدث رواية لك في الدرجة الثالثة من جائزة محترمة، بينما تفوز عن مجمل إنجازه بجائزة محترمة أخرى، فهل هو الخُلْف وحده بين المحكمين؟ أم هي إرادة أولي أمر الجائزة؟ أم هو زحام الجوائز العربية في العقد الأخير مما يؤثر في اختيار المحكمين من بين من هم أدنى كفاءة أو أهلية؟

ثمة جائزة تأكدت مصداقيتها خلال زمن طويل، وكانت رائدة في هذا السبيل. وقد كنت واحداً ممن رشحوا لها محكمين في بداياتها قبل عقدين ونيف عقد. وفي علمي أن واحداً من كهنة الجوائز بجدارة، رشّح – لماذا لا أقول عيّن؟ – لهذه الجائزة من تلامذته من هو أو هي أدنى كفاءة، وترشيحه لا يرد. وبهذا الترشيح/ التعيين تكون لصاحبنا اليد الطولى في منح الجائزة الفلانية لفلان أو فلانة، وفي فمي بحصة، وفي فمي ماء، لهذا الأمر، ولما يلي.

وثمة جائزة كبرى جداً، شهدت سهرةً قاهرية مع محكّم فيها، وهو (جوكر) التحكيم في شتى الجوائز. وقد جلجل الرجل، وهو ناقد ذو شأن بحق، بأنه اختار في إحدى دورات تلك الجائزة رواية للفوز، فأعيدت إليه الروايات المرشحة ليعيد الاختيار، فأعاد، فأعيدت له الروايات ثالثة، فبلغ به الغيظ أشده. وهو محق إن صدقت روايته، فضرب كفه في علبة الروايات، وانتزعت الكف جزافاً رواية، وأرسل لأولي الأمر: هذا ما اخترت، ففازت الرواية (الجزافية).

4

 فلنعد إلى السؤال المقلق: ما الذي في هذا البحث أو في هذه الرواية مما يؤهل لهذه الجائزة؟ ما الذي في منجز هذا الشاعر أو هذا الناقد مما يؤهل لهذه الجائزة؟

بقدر ما يسعني أمعنت في أغلب ما في القائمة الطويلة لدورة 2017 من البوكر العربية، مما استطعت قراءته، حتى الآن، وتساءلت: هل كان للزلزال العراقي المتفاقم منذ قرابة أربعة عقود، دور في الاختيار، ما دامت رواية سنان أنطون “فهرس” معنية بالغزوة الأميركية 2003، ورواية إسماعيل فهد إسماعيل “السبيليات” معنية بالحرب العراقية الإيرانية؟ هل كان للهجرة والتهجير والمهاجرين وموئل اللجوء دور في الاختيار ما دامت رواية أمير تاج السر “منتجع الساحرات” تلوح للاجئين في شرق السودان بذراع اللاجئة الإريتيرية آبيا تسفاي، وما دامت رواية عدنان ياسين “هوت ماروك” تلوح للاجئين من جنوب الصحراء إلى مراكش؟ ولكن ماذا لو فازت رواية محمد حسن علوان “موت صغير”، أي ماذا لو فازت السيرة الروائية لإمام المتصوفين ابن عربي؟ وماذا لو فازت رواية إلياس خوري “أولاد الغيتو”، أي ماذا لو فازت رواية الحكايات الفلسطينية التي بدت كجزءٍ ثانٍ لرواية “باب الشمس”؟

في دورة 2014 كانت الراية لرواية أحمد سعداوي “فرانكشتاين في بغداد”، وفي الدورة نفسها جاءت رواية إنعام كجه جي “طشاري” في القائمة القصيرة، مثل روايتها “الحفيدة الأمريكية” في دورة 2009، فهل للمرء أن يخلص من ذلك إلى أولوية ما للموضوع العراقي؟

في الدورة السابقة (2016) فازت رواية ربعي المدهون “مصائر كونشرتو الهولوكست والنكبة”. وكانت رواية المدهون “السيدة التي من تل أبيب” قد بلغت القائمة القصيرة في دورة 2010، كما بلغت القائمة القصيرة رواية محمود شقير “مديح لنساء العائلة”. وكانت رواية عاطف أبو سيف “حياة معلقة” قد بلغت القائمة أيضاً في دورة 2015، وقد سبقتها رواية إبراهيم نصرالله “زمن الخيول البيضاء” في دورة 2009، فهل للمرء أن يخلص من ذلك إلى أولوية ما للموضوع الفلسطيني، بالأحرى: الفلسطيني الإسرائيلي في البوكر العربية؟

لكن من هذه الروايات ما هو حفر روائي في التاريخ، مما ما زال بعضهم يصنفه كرواية تاريخية، أو يحدد “موضوع” الرواية بالتاريخ. ومثلها هي رواية لينا هويان الحسن “ألماس ونساء” ورواية حمور زيادة “شوق الدرويش” اللتان بلغتا القائمة القصيرة، وقبلهما كانت الراية لرواية ربيع جابر “دروز بلغراد” في دورة 2012، ولا ننسى روايته التاريخية “أمريكا” من دورة 2010، فهل لنا أن نقدر إذن أولوية ما للتاريخ؟ وماذا إذن عن التطرف والطائفية مما شغل بالمعية رواية “مولانا” لإبراهيم عيسى، ورواية سنان أنطون “يا مريم” في دورة 2013، وقبلهما، في دورة 2012 رواية بشير مفتي “دمية النار”، ورواية خالد خليفة “مديح الكراهية” في الدورة الأولى، والتطرف والطائفية هما إذن الموضوعان/ الموضوع الأثير للجائزة العتيدة.

من فلسطين إلى التاريخ إلى اللجوء إلى التطرف.. تتنوع الموضوعات كعنصر وازن أو رئيسي في الوصفة السحرية، والقارئ هو من يحدد الأولوية، ولكن كما يقدّر الناشر، وكما يريد، فإذا صح ذلك، فماذا بقي للتحكيم إذن؟ هل بقيت له جماليات الرواية كعنصر ثانوي في الوصفة السحرية المنشودة؟

بتشغيل هذه الأسئلة في جائزة الشيخ زايد مثلاً، تبرز الرصانة وقلّة الإثارة والصخب. ولا تبعد عن هذا النهج جائزة نجيب محفوظ التي تقدمها الجامعة الأميركية في مصر، بينما نجد أن كل دورة من دورات جائزة الكومار التونسية هي معركة ثقافية بامتياز، يبلغ الضرب فيها أحياناً ما تحت الزنار. وقد فازت بها “الطلياني” سنة 2015 و”ديوان المواجع” لمحمد الباردي سنة 2014 فتركزت الحملة على الجائزة منظمين وحكاماً وفائزين، بدعوى ذهابها إلى الدكاترة وابتعاد الشباب وغير المدكترين والمدكترات، فهل يكون من الوصفة السحرية للجائزة أن تكون أكاديمياً، وبالتالي، صديقاً للأكاديميين الذين يستأثرون بالتحكيم أو تكون الغلبة فيه لهم على الأقل؟

5

من كلمة رئيسة لجنة التحكيم الروائية العزيزة سحر خليفة في إعلان قائمة البوكر العربية الطويلة لدورة 2017: “الروايات بمجملها تعبر عمّا يدور في العالم العربي من تفاعلات وصراعات وانتكاسات، وأيضاً: آمال وأحلام”. فهل للمرء إذن أن يتساءل عمّا إن لم يكن ما يعصف بسورية من كل هذا الذي يدور في العالم العربي، حتى خلت القائمة الطويلة من أية رواية سورية؟

ثمة من رد السؤال برواية تيسير خلف “مذبحة الفلاسفة”. لكن الكاتب فلسطيني، ومقامه السوري زمناً لا ينزع فلسطينيته ولا يزاوجها بسوريته. ويبقى إذن الجواب المسكوت عنه حتى الآن، وهو أنْ ليس من رواية سورية مرشحة لهذه الدورة، ترقى إلى القائمة الطويلة.

لعل الأمر يحتاج إلى توضيح من الجهة المنظمة، يبين ما إن كانت دور النشر لم ترشح رواية سورية مثلاً. وإذا ما كان الترشيح قد حصل، فهل كانت سوية الرواية أو الروايات المرشحة، متدنية؟ أم إنها لم تنسجم مع مؤشرات التحكيم؟  ومهما يكن ففي حدود علمي أنه قد صدرت روايات سورية هامة بين بداية تموز – يوليو 2015 ونهاية حزيران – يونيو 2016، أي ضمن الفترة التي حددتها الجائزة لصدور الرواية المرشحة. ومن تلك الروايات أعدد: “الذين مسهم السحر” لروزا ياسين حسن، “اختبار الندم” لخليل صويلح، “لعنة الكادميوم” لابتسام التريسي، “البدل” لخليل الرز، “الموت عمل شاق” لخالد خليفة، “مترو حلب” لمها حسن، “الشاعر وجامع الهوامش” لفواز حداد، وأخيراً وليس آخراً “ليل العالم” لكاتب هذه السطور. وكثير من هذه الروايات صدر عن دور النشر ذات الحظ السعيد في البوكر العربية.

أليس من بين كل هذه الروايات واحدة قد أدركت سر الوصفة السحرية؟

___

الأحد، 5 فبراير 2017

فاطمة ألعبيدي رحلة البحث عن الفردوس المفقود-عادل كامل








تجارب عراقية معاصرة

فاطمة ألعبيدي

رحلة البحث عن الفردوس المفقود




عادل كامل

[1]  مؤشرات
     مازال يدور في ذهني سؤال لم اجب عليه: أيهما  مهد للآخر ـ الضروري أم الجمالي ـ لاكتساب جدلية يستحيل تفكيكها من غير العودة إلى الصفر: كيف تكّونت، أو نشأت رسومات المغارات، إن لم تكن استثناء ً في الانتقال من الضرورة إلى السحر، ومن العشوائية إلى الدلالات الرمزية، ومن التشوش إلى البناء المنظم، ومن الاضطراب إلى  البناءات الجمالية ...، وهي الضرورة التي من الصعب عزلها عن فضاء الحرية...، فإذا كانت التجارب المبكرة ـ وهي ليست فنية إلا بوصفها اخفت هذا الهاجس ـ في الفخار أكثر وضوحا ً في الإقناع، فان آثار النحت ـ للآلهة الأم ـ ومشاهد الصيد المنفذة فوق جدران المغارات، ستتحدث عن أقدم مفهوم للمصنع: الرحم.  فالطبية ـ بحد ذاتها ـ بوصفها مازالت بدائية وغير مركبة، إلا إنها كانت أقدم نظام للتوليد ـ والتكاثر، وتحدي الغياب. إلا أن عصر الفلسفة سيأتي بعد سنوات طويلة لردم الفجوات، ذلك لأن المصنع، من وجهة نظر (بدائية/ شحيحة التجارب) ستتوقف عند الحياة اليومية، كصعوباتها، وكالبحث عن الحلول الممكنة لتجاوز التحديات، والمعوقات، في الحقبة ذاتها كانت الوظائف تأخذ طريقها إلى التخصص، من المباشر إلى الرمزي، ومن المتاهات إلى الأدلة. فاليد/ العين/ وباقي الحواس، في مجال المنجزات شبه الفنية، ستمتلك مهارات لصياغة أدوات معرفية مبكرة توازي انشغاله بتحصين دفاعاته ضد التهديدات اليومية الدائمة.  فهل كان (الرسم) كعلامة أولى، مع المجسمات، وتحول الأصوات إلى إشارات، والصور إلى علامات، حروف، بمثابة تحول مهد للتقدم المزدوج في صناعة: الأدوات ـ ومن ثم ـ صناعة: علاماتها، أم كان لتحول الوظائف، من مباشرة إلى رمزية، ومن خشنة إلى رقيقة، ومن خلوها من المعنى إلى انتظامها ببرمجة مبكرة للمعاني، أثره الذي سيؤدي دوره المستقل عن الأداء المباشر...، كي تكتسب التصوّرات، من المجال الافتراضي المبني على الاحتمالات، دون إغفال التعلم من الأخطاء، لغة معرفية مبكرة ـ بعد اكتشاف النار والخامات والطاقات الكامنة في الطبيعة، وفي الذات ـ ممهدة للخيال أن يشكل جزءا ً من خصائص (المصنع) ولغزه...؟
   ها أنا أجد فن (الرسم) بعضا ً من الإجابة، بعد أن توارت الأسئلة عبر نسيجه البنائي، فالحائك يخفي سر الحياكة بالخيوط ليعلن عن ميلاد مستحدث، كما توارت أسئلة (النحت) في مجسمات الآلهة  الأم، مثلما ينقلنا السؤال الخاص بتكون اللغة إلى: الإنسان نفسه بوصفه لغزا ً...، بدل التوقف عند (الأثر/ العلامات/ الرموز/ واللا متوقع من الإشارات..الخ)، إنما كي تأتي فتوحات لا نهائية تمد الجسور بين (الذات) وأثرها، بين الضوء وظله، الصوت وصداه، وبين تراكم (العلامات) وأسرار اشتغال تلك المصانع، بوصفها لم تعد (بدائية) ـ ككل ما يحدث بعيدا ً عن الإرادة الواعية ـ لتدخل في حقبة إن الإرادة، ليست مستقلة عن مستحدثاتها، كعمل الطائر ببناء عشه، ليس بوصفه سكنا ً فحسب، بل بما يمثله من تحديات سمحت للأشكال ـ كمستحدثات ـ أن تؤسس نظام محاكاة (الرحم) ـ ولكن بإشراف مباشر لقوى أخذه بالتقدم، وبالتغيير، وليس بالتأمل حسب: الدماغ. لأن عمل الأخير، هنا، (كعمل قوانين الولادة ـ الموت/ الليل ـ النهار/ الحضور ـ الغياب ...الخ) يدشن تضافر العناصر عبر عملها المشترك ـ وليس المزدوج ـ نحو بنية جمالية ترتقي بكل ما يتعرض للاندثار، ليصبح بنية تؤدي دورها في ديمومة الامتداد، حتى لو كانت محكومة بزوالها العنيد.

         


   فالرسم عند كثير من الرسامات، وعند عدد من الرسامين، سيعمل على إعادة صياغة الإجابات، بإخفاء أسئلتها، إن لم يرتق بالأسئلة إلى مجال يجعل من التطبيقات، عالما ً لا ينتظر شروحا ً، أو تأويلات زائدة. فالرسامة فاطمة ألعبيدي، تختزل عمل (المصنع) بما يمتلك من عناصر فنية ـ شعرية ـ وجمالية. فمنجزها الفني يتقاطع مع النافع، ولكنه، في الوقت نفسه، يعيد الحفر في أقدم الأسئلة: إن لم يكن الرسم  ضرورة...، كالشعر...، فلماذا استحدثه الإنسان، قبل أن تتكون معتقداته، وأعرافه، ومحرماته، ومعارفه الأخرى،  حتى لو كانت غير مدوّنة...، فهل ثمة أسئلة ـ كامنة في البصريات ـ تلخص  النسق التعويضي ( سيكولوجيا ً / فسلجيا ً / افتراضيا ً...الخ) لصدمات الغياب....، يتقاطع مع المنجز ـ بتوحد عمل المخيال بعيدا ًعن اليومي المباشر، ولا يدع مجالا ً لاتساع الفجوة بين الصدمات وطرق مجابهتها ـ حيث الأسئلة العصية تماثل سؤال:   هل يصنع شعره، أم الشعر هو الذي يصنع الشاعر...؟
    فالحلقة ـ هنا ـ لا تماثل انبثاق الليل من النهار، أو النهار من الليل، ولا تماثل خروج الحي من الميت، وخروج الميت من الحي....، قدر دينامية صانعي العلامات، بما يمثله الصانع، من علاقة جدلية للدينامية ذاتها ـ وهي ـ في الأخير، تستبعد ضرورات البرهان، بوصفه الطاقة  غير القابلة للنفاد.
    فالرسامة فاطمة ألعبيدي، تسمح للبديهة أن تمتلك قانونها، مثلما لا تقّيد القانون بضرورات الوظيفة ـ البديهة ـ فالرسم، عندما يعمل عمل الموسيقا، يؤدي دور الارتقاء، أو الانتقال بالخامات من وجودها المحض، الملقى، نحو عالمها الافتراضي، ألحلمي، الأكثر تساميا ً، والأقل تقيدا ً بعالم الضرورات، الأرض، وقسوتها.


[2] بعيدا ً عن الازدواجية
   بعد نصف قرن من العمل في الكتابة ـ بمعظم أقسامها ـ أجد الفجوة مازالت اكبر ـ مما كنت اعتقد ـ بين ما يدور في ذهن (الكاتب) وتطبيقاته، ونصوصه المدوّنة، حتى تبدو الأخيرة تعمل بمعزل عن المجال الذهني ـ التخيلي/ الافتراضي ـ مما يوسع المسافة ويمنحها بعدا ً آخر بين (الكاتب)، والمتلقي، من ناحية، وبين الكاتب ومن سيتولى إعادة تقيم منجزه، بغية استخلاص الدرس، من ناحية ثانية.(1)
   فالإشارات النقدية التي وجهها د. مازن المعموري لعدد من العاملين في حقلي التدريس، وفي الكتابة، وهم يتناولون تجربة الرسامة وجدان الماجد، لا تبدو سليمة فحسب، بل تظهر المدى السلبي لهذه العلاقة، كي يغيب (النقد) ـ الذي طالما استبعدته إلا بوصفه مؤشرات بحث لنقاد الغد ـ بالمرة، عنا، باستثناء إشارات متناثرة، على مدى تاريخ الفن الحديث في العراق، لم تفض إلى إحكام معرفية لصياغة لغة نقدية، أو حتى مقاربة للنقد، وما يتطلبه من: معلومات صحيحة، ورؤية نقدية واضحة، فضلا ً عن الخبرات التي يتطلبها الكاتب، كي يحق له أن يتحمل مسؤوليات النقد، ومستلزماته العلمية، والفلسفية..
   وإذا كانت إشارات المازن قد بدأت أساسا ً بما تم عرضه من تجارب الرسامة الماجد ـ وهي التجارب المثيرة للشفقة حقا ً بوصفها نفذت لذائقة لا علاقة لها بالفن ـ فان  التجارب المميزة لها، كفنانة شابة، كانت تثير الفضول، بل والدهشة، بما فيها من مغامرة وتجريب. وعلى كل فان ازدواجية (الفنان/ الفنانة) ـ هذه ـ  تلقي المزيد من الضوء على أسماء كبيرة، بدءا ً بفائق حسن  وإسماعيل الشيخلي، وانتهاء ً بالحرفيين المشغولين بمحاكاة لوحات المستشرقين، والخيول، والأزقة البغدادية، واستنساخ الجانب السطحي من الحرف العربي، ضمن التشكيل الحديث...الخ، مع تفاوت التكنيك، والثقافة، والغايات. إنها  ازدواجية تماثل ما يعانيه الفنان من تخبط، وهو يرسم بأكثر من أسلوب، حتى اذكر إن الفنان حافظ ألدروبي، قال لي ذات مرة: رسمت بكل الأساليب ولكني لا اعرف ماذا يريدون أن ارسم؟! مما يوضح غياب الرؤية النقدية لدى الفنان، مثلما نجدها، لدى معلمي الفن، وهم يتظاهرون بدور الأستاذية،  ويرتدون أقنعة النقاد الكبار.
    وأدق مثال تطبيقي يفسر مدى أثرهم في تردي المستوى التعليمي ـ في كليات ومعاهد الفنون الجميلة ـ حد تدميرهم للكثير من المواهب،  والإسهام بقمع مغامرة التجريب، بوصف الفن: تحديا ً، كما قال هاوزر، وليس بحثا ً عن مكاسب آنية، وزائلة.
   إلا أن الاستثناء يبقى قاعدة لمواصلة الكتابة، كالذي نجده في تجربة الفنانة فاطمة ألعبيدي، باستبعاد الازدواجية، لا في الغايات ولا في الأسلوب حسب، ليس لأنها بعيدة عن الوسط (الفني)، أو لأنها لم تحترف مهنة تلبية متطلبات الذائقة الاستهلاكية، بل لرؤيتها المغايرة لهذا التوجه، ومدى انحيازها لمشروعها الفني/ الجمالي، وعملها المتواصل، الحثيث، بمنح الرسم صلة جدلية بالموسيقا، ومعالجة الرموز كوحدات جمالية متضمنة بنيتها البنائية، ونسيجها الخلاق، ضمن سنوات تكاد فيها عزلة الفنانين تحتم علي البعض منهم،  نذر الكثير من حياتهم من اجل فنهم، وليس من اجل أهداف تتقاطع من رسالة الفنان، وما يتضمنه الفن من أبعاد حضارية، وإنسانية.







1 ـ إشارتي إلى المقال الذي كتبه د. مازن المعموري تعقيبا ً على ما جاء في مجلة"آفاق أدبية) العددان الثالث والرابع/ السنة الأولى 2011، حول الملف المنشور حول الفنانة "وجدان الماجد".

 


[3]  جسور
    وإن كان هناك من يولي (الذات) دورا ً ـ يبدو منعزلا ً عن مكوناته، مناخه، وأهدافه ـ في تحديد خصوصية هذه الذات، ذات الفنان، وهو اعتقاد يستند إلى وضع الذات على المحك، وفي المواجهة، لكن لو عزلت هذه الذات ـ كعزل أية ذرة عن أخرى ـ يغدو (الموضوع) قد فقد احد أركان وجوده بوصفه عابرا ً لمجموع: أجزاءه، نحو الكل الذي هو ـ بحد ذاته ـ وحدة، بنية، تدخل ضمن سلسلة من العلاقات، تبدأ باللا مرئي ـ ولا تتوقف عن المرئيات، ليس لأن الحركة تمثل جسورا ً لا عدد لها بين الحدود، بل لأنها غير مستقلة بذاتها، مهما بدت، تمتلك كيانها الخاص، والفريد.
    وفاطمة ألعبيدي، التي حملت تراثا ً عائليا ً نادرا ً ـ كالذي عاشته نزيهة سليم، وعشتار جميل حمودي ووسماء حسن على سبيل المثال ـ ستغذي تجربتها بالحفر في المنجز  التشكيلي العراقي الحديث، والنسوي منه خاصة،  بما يحقق تجانسا ً مع رؤيتها للعالم، كي يأتي الفن صيغة منصهرات لبناء نصوصها الفنية. فلا يمكن إغفال إن مديحة عمر عالجت جماليات الحرف العربي عبر جدلية خيالها وصلته المتجذّرة بالمورث، والبيئة، كالذي شغل نزيهة سليم بمفهوم الاختزال، وعالم المرأة، بينما خصصت بهيجة الحكيم مسيرتها لتصوير البستان ـ الفردوس ـ متجانسا ً مع تجارب سعاد العطار، مهين الصراف، بتول الفكيكي، ليلى العطار، وداد الاورفلي، سلمى العلاق وغيرهن، فضلا ً عن تجارب متضادة للتطرف شكلت (انثويتها) وفق مفهوم: الخصب، التوليد، بسمة (شرقية) سمحت لتضافر عناصر البيئة، والموروث عامة،  والمحلي الشعبي تحديدا ً، باستقصاء الذاتي ومنحه سمة (الهوية) للتشكيل النسوي الحديث في العراق.
    فتجربة فاطمة ألعبيدي، تأتي لتؤكد مدى قراءتها لقرن من التشكيل الحديث، ولكن بعين عملت على منحها خصوصيتها في الاستبصار. إن المتلقي المعني بالقراءة ـ وليس إغفالها أو هدمها ـ سيعثر على مفهوم (النسج) لديها بوصفه عملية حياكة، إنما بأدوات أسهمت الفنون الحديثة بتشذيبها، وصقلها، لتتوحد فيها الطاقات الكامنة للفنانة، عبر أشكالها كلغة تتوخى منح الآخر حرية اكبر بقراءة موضوعاتها المختارة، مما يؤكد إنها لم تغفل منهجها التجريبي المعزز لمفهوم (الهوية) ـ الخصوصية ـ بإضافات شعرية، وفكرية، تجعل من البعد الجمالي موقفا ً إزاء عقود من الصدمات، والتحولات، والخراب. فالفنانة لم تنحز إلى الموضوعات الفنية على حساب شعرية النص الفني، وجمالياته، كما لم تعزل أشكالها عن رؤيتها ذات الجوهر الواقعي، فهي لم تستخدم الأثر إعلانا ً عن (الواقع)، بل استبدلته بلغة ضمنتها محركاتها باستخدام العناصر التشكيلية: اللون/ الخط/ الملمس/ الفضاء: الحركة/ والتباين في القيم الضوئية... الخ، لتلخص المسار الدينامي للأسلوب الذي يحافظ على ديناميته، ولا يتوقف عند نهاية مقررة مسبقا ً. فالفنانة ترسم بذات أدركت مدى اتساع موضوعاتها المعالجة، وبهذا فان تجربتها الفنية حافظت ـ من غير تزمت ـ على المنجز النسوي للفنانات الرائدات، بسماتها الشرقية، عبر منح الصوت أعلى دراجته: اللون.  فالصمت يغدو لغة لا تتوخى المعنى إلا بوصفه غدا أسلوبا ً للرؤية ـ وللحياة.   انه جسر سمح للفضاء الخارجي أن يشكل نسقا ً لبناء النص الفني، وفي الوقت نفسه، يمارس النص دوره جسرا ً للعبور من  العالم الداخلي نحو الفضاء الخارجي. فالواقعية سمحت لها أن تجد في التجريد كل ما لا يمكن شرحه ـ أو تحديد معناه. إنها ـ من زاوية ابعد ـ تجعل  من موضوعات (الحياة) المعنى المستتر للآلهة (إنانا): رؤية المشهد من زواياه المتعددة، عبر صراع سمح للقراءة أن لا تتوقف عن خلاصة أخيرة، أو نهائية، بل ستعالجها بمنحها الطاقات الكامنة في ذاتها ـ كفنانة ـ وفي خاماتها، كعناصر  مكونة لنصوصها الجمالية.


[4] عناوين: التجريد أم الاختزال؟
    لم يترك فنان الكهف عناوين لرسوماته، ليس لأن اللغة لم تكن أداة قد دخلت في الخدمة، بل لأن وضع أي عنوان لها كان بإمكانه أن يعزلها عن معناها الأبعد، إن لم يصنع فجوة قابلة للتشتت، وقد يصعب ردمها. على أن وضع العنوان ـ شبيه بمن يسير  نحو هدف محدد، كوضع إشارة دالة على مكان بدل الوقوع في المتاهة، فهل هذا دقيق إزاء موضوعات تتضمن أكثر من إشكالية، كالثنائيات في تصادماتها، في تشكلها، في انصهارها، وفي تحولاتها....؟
     تضع فاطمة ألعبيدي، عناوين نصوصها الفنية،  ليس كي تدلنا على طريق يفضي إلى المعنى المقصود...، كرسم برتقالة ووضع عنوانها معها! ولكن عندما يرسم الرسام صورة شخصية لشخص محدد فانه يضطر لوضع اسم الشخص المرسوم...، وهنا يحدث الاختلاف بين رسام محترف يؤدي عملا ً محددا ً وبين فنان ربما ـ هو ـ يعمل على استقصاء المعاني الكامنة في ذاته ـ مثلما ستكون كامنة في منجزه الفني.
     ولأن تجربة فاطمة ألعبيدي ولدت في حقبة مكتظة بالاتجاهات والأساليب، منذ أربعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، ولأنها عاشت مرحلة تحولات، تصادمات، واجتهادات، فقد بات بحكم التجريب أن تختار الفنانة منحى لها بين عنوان العمل الفني ومضمونه.   فهل قصدت أن تدلنا ـ بالعنوان ـ كإشارة أو كعلامة ـ أم كجسر يقود إلى ما بعد الضفة الثانية...؟
    إن الرسامة تختار ـ على سبيل المثال ـ  العنوانين التالية لعدد من رسومها: صدام الخير والشر/ شمس وإعصار/ جزيرة العشاق/ جنتي/ الجزيرة الحلم/ أفكار متصارعة/ ظهور الفجر/ طائر السلام/ أحلام التفاؤل/ ألوان التحليق في السماء/ راقصة البالية...الخ، فنجد إن هذه العناوين تشترك بالحديث عن موضوعات اختارتها بعناية، كاستحالة استبدال عنوان بآخر، أو نص بنص سواه...، ولكن القراءة الأكثر عناية بدراسة العلاقات ما بين العناصر التشكيلية واللغوية ـ أي العناوين ـ يفضي للتعرف على مساحة ضاجة بما لا يمكن تقييده بعنوان، ولكن هذا لا يماثل وضع كلمة (تجريد) إزاء ما لا يحصى من الرسومات التجريدية، وإنما هو  إجراء مقاربة لموضوع متحرك/ دينامي، يتقاطع مع تحديد المعنى بكلمة أو بعنوان. فالصراع القائم على أزمنة، فلسفات، أفكار، تيارات، أساليب مختلفة، متنوعة، يوسع من العلاقة ويمنحها المعنى الذي حمل عنوان (إنانا)، كرمز: للسلام والحرب، للحب والبغضاء، للرقة والقسوة، وللحياة والموت...الخ فهو لم يغادر القصد الذي كلما غدا مرئيا ً ازداد بعدا ً وتواريا ً، ليس داخل الكلمة وحدها، بل في المضمون ذاته الذي عمل على ابتكار عناوين له، طالما الهدف امتلك أصلا ً جدليا ً، لم ينغلق عند خاتمة أخيرة، أو نهائية.
   إنها ـ إذا ً ـ تنظر لمرئياتها برؤية تحفر في المجال الأبعد، ومادامت أدواتها تستند إلى البصريات ـ عناصر الخط/ اللون/ الفراغ/ الأفق/ والملامس.... الخ ـ فإنها ستعمل كي تتوغل ابعد منها، عبر أنساقها المختزلة بضرب سمح للمعاني أن تصبح تجريدات، وفي الوقت نفسه، سمحت للتجريد أن يحمل عنوانا ً خاصا ً، ومحددا ً. ذلك ليس لأن مادتها تتسع للذهاب ابعد من السكون حسب، بل منهجها الذي سمح لها باختيار المقاربة مع الموسيقا ـ الألوان، غاية كامنة في وسائلها، مثلما توحدت الوسائل مع غاياتها.  فهل ثمة خلاصة تجعل من نصوصها التجريدية شكلية خالصة، أم إنها تناور ـ ككل غواية كامنة في الدهشة ـ بينهما؟  ليس لدي  المتلقي إلا حرية استقصاء اختيارها الدائم لرصد الأضداد، ليس لأجل تصويرها، بل لمنح البصريات ذات الطاقة المشفرة الكامنة في الحرف ـ وفي الكلمة ـ وفي ما تعمل اللغة عليه باستنطاق فعل التوغل في المناطق المجهولة، كي يأخذ المعنى مصداقيته وهو لا يصوّر إلا إشكاليات غدا البعد الجمالي مفتاحا ً لفك المضامين الكامنة خلف أقفالها الموصدة.


[5] الموسيقا بوصفها بعدا ً
    كما من الصعب ـ ولكن ليس من المستحيل ـ تعريف النحت بعيدا ً عن أبعاده الثلاثية، فان الرسم، منذ كونته عناصره التقليدية، لم يغادر السطح ـ بالمعنى المبكر لتحديد المصطلحات ـ لكن هذا وحده سيمهد للذهاب ابعد من المرئيات ـ السطوح، والأبعاد ـ بالانتقال من التعبير المحض نحو مكوناته الجمالية، وما يخفيه من مشفرات تعمل وفق الأنظمة التي هي قيد الاكتشاف، أو التي ستبقى نائية ومخبأة في مداها المجهول.
    فإذا كان النحت ـ مع الفخار ـ يماثل المكان بوصفه تراكم أزمنة ـ فان الرسم ـ عند رسامي المغارات ـ لم يهمل المجال  الزمني/ الحركي/ الصوتي/ كأحد عناصر بناء النص ونسجه ـ الشبيه بالفن ـ والفني بعد ذلك. فالزمن ـ بحد ذاته ـ كما في تجربة ألعبيدي ـ سيمثل هاجسها بتأمل المرئيات ورصد تحولاتها. فالفنانة ـ بعفويتها وانعتاقها من المحاكاة والاستنساخ والتنصيص المباشر ـ تسمح لهذه العلاقة أن تصوّر فضاء ً مسرحيا ً ـ ومضادا ً له في الوقت نفسه ـ للأشكال، في رصد انبثاقها، وأفولها. هكذا يتجدد الاشتباك، من لوحة إلى لوحة أخرى، كتتمة، تكملة، تماثل العامل المساعد ـ في التفاعلات ـ  بالحفاظ على دوره الدينامي، ولكن هذا العمل (الوسيط أو المساعد) سيشكل لغز القوة بتناميها من المادي نحو الروحي، فهو ضرب من القوة الداخلية ـ بما تمتلكه الفنانة ـ مع ما في الطاقات الخارجية، كعلاقة جدلية تتضمن رؤيتها ـ وهاجسها ـ لمفهوم: النسج أو البناء. على إنها لا تقوم بعمليات البناء إلا انطلاقا ً من دراستها للطبيعة ـ بخاماتها  ومكوناتها ـ تفكيكها وبعثرتها وتركها تتدفق، تتناثر عبر العلاقة ذاتها القائمة بين المساحة وما تشغلها من عناصر: نقاط/ خطوط/ حدود حرة/ حد إن الفنانة ستحرر أشكالها من أنظمتها الهندسية، وتجعلها أكثر قدرة على التسامي، ومغادرة حتمية الانجذاب إلى الأرض ـ كثقل ـ لتحقق بهذا الدافع توقا ً يهدم ـ ويعيد بناء ـ  أقدم قواعد التكوين. فالمركز لن يتجمد عند خط الأفق، أو في بؤرة الحدث، إلا ليأخذ مداه، بحركة شبيهة بحركة الزمن لا  ُترصد إلا عبر الوحدات المرئية،  ضمن وحدات القياس الخاصة بكل لون ـ مثلما هي متحققة في الأصوات ـ والموسيقا بعد ذلك. إنها تترك لا شعورها ـ ولا وعيها ـ يحققان أقدم برنامج سابق على بواكير فن التجريد في فاتحة القرن العشرين، ليرى (كاندنسكي)، الذي تبنى مفهوم الروحي في الفن، بضرورة العودة إلى اقل الأجزاء أهمية، في التجارب الفنية، المكملة للعمل الفني، ولكنها سوف تؤدي دورا ً أساسيا ً، وليس مساعدا ً أو تمويهيا ً، أو وهميا ً، وسيكون من الصعب عزلها عن الأثر الفني، حتى لو كانت قد نشأت بمحض المصادفة. فالمخربشات أو العفويات أو اللا متوقعات ... الخ، المنفذة في الكثير من الرسومات ـ القديمة والحديثة والأكثر حداثة ـ تتضمن انشغالا ً نادرا ً لتقصي كل ما يصعب رصده، أو الإمساك به، فهو سبيه بالزمن الخالص، لأنه شبيه بالضوء وقد تحرر من المجال، كي يصعب التعرف على ماهيته (الزمن)، أو ماديته (الضوء)، إلا عبر التصادم ـ ضمن عملية الرصد ـ والبناء، أي بناء تلك اللحظة الاستثنائية للراصد، وقد غدا ـ هو ـ  المركز ـ والعامل المساعد ـ معا ً، في تحقيق هوية: النص الفني.
    إن فاطمة ألعبيدي التي بدأت تجاربها برصد الطبيعة ـ  البيئة ـ لم تتوقف عند المحاكاة، بالمعنى الواقعي أو التقليدي أو بما شرّع له (مونيه) في تصوير: اللحظة ـ الانطباع، بل استثمرت هذه الخبرات لتصوير كل ما يذهب ابعد من التصوير. فالتجريد ـ بهذا المعنى ـ ليس اختزالا ً ـ بحسب تجربة موندريان ـ من المشخص إلى ذروته، وتجريده من ملامحه، بل العمل على تقصي المجال غير الخاضع للبصر ـ والبصريات ـ بما يمتلكه من ماهية تماثل الزمن ـ في ذاته ـ والضوء في انتقالاته نحو مجالات تمتلك مديات ابعد من أدوات الرصد.
   ليدخل ـ في هذا النسج ـ عنصر الصوت، مكملا ً المجال اللغوي الصامت. فنحن إزاء ثلاثة مداخل اشتركت في رصد (الحدث)، فالزمن غدا مسرحا ً، والألوان ـ بتنوعها ـ اتخذت علاماتها، فيما سيمثل الصوت أكثر صلة بحاسة الإصغاء، لكن ليس حاسة السمع، بل للخلايا الكامنة في الدماغ.
    ولهذا يبدو (التجريد) قد امتلك أسبقية تاريخية في بنائية النصوص ـ الأنا القديمة التي أكسبتها مديات العبور نحونا فعلها الدينامي ـ مثلما التقطها الرائي المعاصر، مكملا ً المجال الحدسي ـ بمرتكزاته العلمية ـ لتمثل آليات التجريد ـ بما يمتلكه من ذهاب ابعد من الآخر ـ المتلقي ـ وهو يمتلك حرية التأويل، بعد حرية التذوق ـ الدهشة، وإعادة القراءة.
      وهنا تحديدا ً تهدم فاطمة ألعبيدي، ولا تتجنب حسب، مفهوم (الفن ألتزييني، ألتزويقي) نحو الفن الخالي من البذخ ـ أو المنفذ للأغراض النفعية، المباشرة، المكملة للتأثيث، والاستعمالات العملية،  بتقصيها للمعاني الغائبة، النائية، في ذاتها، وفي العالم الخارجي، وفي النص الفني أخيرا ً، بما تمتلكه من حرية ـ هي الأخرى ـ تشترط الذهاب ابعد من وظيفتها العملية، أو التطبيقية. فهي تنحاز  لمضمون توحد بعناصره الاعتبارية، وربما الافتراضية، وإن بدت مرئية، أو مسموعة، وقابلة للرصد، ليجرجرنا للامساك أبدا ً نحو الذي يذهب ابعد من أثره ـ فهو ليس تجريدا ً خالصا ً إلا لعمله على تتبع آثار خطاه الدينامية، فهو ـ في نهاية المطاف ـ تجربة في الرؤيا ـ مثلما هو تجربة قائمة على الرؤية الفنية، بأدواتها، وعناصرها الجمالية.





[6] بصمات: الهوية ومضاداتها
    مع إن أي مفهوم للـ (الهوية) لا يتوخى ملاحظة تأثيرات التيارات (العالمية) وعبورها من غير قيود، بل وبسلاسة، نحو أكثر المناطق تحصنا ً، أو جمودا ً، ودراسة المفاهيم الأقل دينامية للهوية، بل والساكنة، وما تعانيه من تصدعات، وصراعات، على صعيد المحركات، من ناحية، ومنظومتها العلاماتية التي تشكل ملامح الأسلوب في تميزه، وقدراته على الفعالية، سيقلل من نتائج أية دراسة تجد في الفن مقاربة للحفاظ على الترابط، أو التقدم إلى الأمام، من ناحية ثانية، وأخيرا ً فان الاستحداث ـ أو أي مفهوم للابتكار ـ إن وجد، فانه إن فقد هويته، فانه سيمنح العشوائية قدرات لا محدودة، في تقويض الفن، وبصماته، ومصيره أيضا ً.
   فإذا كانت كثير من التجارب الفنية قد بدأت بالنموذج (الأوربي)، على مدى القرن الماضي، بوصفها ولدت بعد قطيعة مع التاريخ العام، والثقافي، والفني خاصة، دامت قرون طويلة من الزمن، فان بعض التجارب الفنية لم تهمل  دراسة الاتجاهات (العالمية) وعبر تحول عالمنا إلى مجموعة من القرى، الأسواق، المهرجانات، الألعاب الرياضية، الالكترونية، والتدميرية ...الخ، لم تهمل البحث المتواصل عن إعادة نسج النصوص الفنية بفهم متقدم للايكولوجية، بمعناها الشامل: البيئي، الوراثي، الاجتماعي، النفسي، الثقافي، الجمالي ...الخ،  لتحديد مقاربة لمفهوم (الهوية)، مادام عالمنا يشيد تقدمه وفق آليات الصراع ـ التصادم ـ والمحو.
     ولأن تجربة  فاطمة ألعبيدي، لم تحصل في كوكب غير كوكب الأرض، وفي بلاد شهدت (تخمة) من النكبات، والماسي، فإنها ستبقى شديدة الصلة بإعادة قراءة العلاقة بين تأثيرات هذا الواقع، في نصوصها الفنية، من ناحية، وبين رؤيتها الفنية وما يكمن في اختيارها للرسم، كأسلوب يحقق لها (الانتماء/ الموقف)، والحفر في بيئتها، وليس مغادراتها، طلبا ً للملاذ، والسلامة، من ناحية ثانية.  
   ولأن الفن الشرقي، لم يعد كامنا ً في (الذاكرة/ المتحف)، أو في الماضي، بعد أن اكتسب خصائص الهوية ـ البصمات ـ الأسلوب، وليس الفن الشرقي، في الوقت نفسه، هو المحاكاة للسطوح، المرئيات، العلامات، بأساليب لا تتجانس مع التطور الهائل للعلوم، والبيئات، والأفكار، والتقنيات، ولهوية (المواطن) فوق كوكبنا، فان الفن الشرقي، لم يعد عملية استنساخ آلية تلبي حاجات السوق، كي تزدهر بعض التيارات الأحادية، كرسم العلامات التراثية، أو الاثارية، أو تصوير المناطق السياحية، أو الاستحواذ على الأشكال الجاهزة، أو تلبية رغبات (السائح) الأجنبي، وإنما غدا المشروع الفني أكثر تعقيدا ً، وصعوبة، مادام الاستحداث ـ بحد ذاته ـ لا يحدث مصادفة، أو عشوائيا ً...
   وليس من الصعب اكتشاف نزعة الفنانة لتأمل عالمها وقد تحول إلى مهرجان تزدحم عناصره تارة، أو تختزل إلى فضاءات ومساحات باعثة على السلام، والسكينة. فالرسامة لا تزخرف، ولا تنقش، ولا تحاكي ملامح الفنون الشرقية، إلا بإعادة تأملها لبيئتها، ورصد التحولات، والمتغيرات، ومنحها  لغة بصرية تتمتع بالعفوية، والسلاسة، والتلقائية، والسماح لخيالها أن يأخذ مداه الأبعد...، فهي لا تستعير برنامجا ً محددا ً، لا من حداثات الفن الأوربي، ولا من تراثها الشرقي، إلا بحدود نزعتها ببناء لغة عابرة لـ: (الأنا)، وعابرة للأحادية، نحو (أنا) طليقة، تعمل على إعادة رصد ما يحدث، بنزعة شعرية، قوامها دمج انشغالات الحواس، بعضها بالبعض الآخر، خاصة: السمع والبصر...، فالألوان تشترك ـ حد الاشتباك الذي يقارن بما يحدث عند النساج في نسج عمله ـ ببناء رقعة ذات سطح فضائي، أكثر من كونه بعدا ً مكانيا ً، فالفنانة لم تستخدم التركيب، و التوليف، أو استخدام الخامات اللا فنية، أو التلصيق، وباقي الوسائل المستعارة من التجارب العالمية ...الخ،  ليس لأنها لا تود أن تجاور (موضات) أو (نزعات) المحاكاة القائمة على عزل اكبر بين (الفن) و (المتلقي العام) فحسب، بل لتجنبها وتوخيها العودة إلى سلاسة كادت تغيب إزاء الاستعارات، والاستنساخ، حد الاستحواذ، من الفنون الأكثر صلة بعالم قائم على العنف، ومحو الآخر، فالفنانة ألعبيدي تسمح لرؤيتها برصد المجالات المكرسكوبية أحيانا ً، والأخرى المنظور لها عن بعد...، وذلك لأن  الحلم غدا مكونا ً من أجزاء تبني بها توقيعها ـ بصمتها ـ شخصيتها، حيث الحلم لن يتشكل رومانسيا ً، بل بتهذيب العاطفة واختزالها كي ترسم بالصوت،  لتسمعنا أعلى الأصوات، عبر الخطوط والحركة، وعبر نافورات الألوان، وعبر اختلاف الإيحاء ألملمسي، دامجة (المعاني) بالتكنيك، عبر الأصوات وقد استحالت إلى عناصر بصرية، مثلما تؤدي العناصر الفنية وظيفة تدوّين المشفرات عبر نزعتها الروحية لعالم اقل تصادما ً، وقسوة. فالهوية لم تتكون عن قصد، كالتكرار أو التوكيد، ولم تتكون بمحض المصادفة أيضا ً،  بهاجس التجربة والخطأ، وإنما ستصبح اختيارا ً قائما ً على معرفة (حرة) وقد قيدت بأكثر الآمال غواية: الحلم. فالفردوس سيشكل علامة مشفرة لفهم عالمها الداخلي، وقد غدا فضاء ً مركبا ً من وحداته المختلفة، حيث العلاقة بين اللا متناهي في الاتساع، محاذيا ً أو مقابلا ً اللا متناهي في الضيق، كعلاقة جوار لأكثر الأشكال توفرا ً في الطبيعة: العناصر: الماء والهواء، وهما يعيدان غزل صور لعالم يزول ـ  ولكن لعالم يتكون أيضا ً. فالهاجس الواقعي ـ حد الوثيقة ـ ينصهر، حد المحو، ضمن هاجسها المشفر  برصد التصادم، التفاعل، كمشهد مرئي، وملموس، نحو ذروته: الموسيقا ـ المجال الروحي وهو يلخص رؤيتها ـ ليس جماليا ً حسب ـ بل باستعادة مكانة الفن السحيقة، وموقعه كأداة افتراضية زاخرة بومضات الحياة في  تحولاتها. فالجمالي يفقد أحاديته، كي يغدو مخاضا ً لسلاسل من المواجهات، إنما لا توهمنا الفنانة بأنها عثرت على (الأمل)، ولكنها، عمليا ً، لم تتخل عنه.
عضو رابطة نقاد الفن [الايكا] منذ عام 1982

الفنانة في سطور
ـ ولدت في العراق ـ 1974
ـ عضو جمعية ونقابة الفنانين العراقيين.
ـ نشأت في بيت الفنان الرائد محمود العبيدى، ودرست الفن على يديه.
ـ شاركت في المعارض الجماعية داخل القطر وخارجه.
ـ حازت على العديد من الجوائز الفنية الدولية والعربية.

الخميس، 2 فبراير 2017

السنوات العجاف- قصة قصيرة- عادل كامل

قصة قصيرة

السنوات العجاف



عادل كامل
     شرد ذهن البقرة وهي تصغي إلى ذبذبات جنينها، فطمأنته إن سنوات الجفاف، السنوات العجاف، سنوات ندرة الطعام، والفاقة، والأمراض، وانعدام الاستقرار توشك أن تبلغ ذروتها، وتصبح من الماضي، وإنها، خاطبته عبر الذبذبات ذاتها، لن يضطر للموت جوعا ً، أو قضاء حياته متنقلا ً من محنة إلى أخرى، وإلا فإنها لن تدعه يغادر رحمها أبدا !
 فخاطبها الثور الواقف بجوارها:
ـ حسنا ً فعلت، فانا نفسي لا امتلك الإجابة...، فهل ستنتهي سنوات الاضطراب، والمصائب، والبلايا حقا ً، أم إنها بالذات ليست إلا حاصل ديمومة ماضيها؟
   بيد أن البقرة ردت:
ـ  انه يرفس! اللعين، يرفس!
ـ ربما يلعب، يلهو، يمرح...، تأكدي من الأمر؟
ـ لا ...، بل يخبرني بأنه سيجد ألف وسيلة بعدم المغادرة، انه يعلن لي: سأعمل بالرجوع إلى ما قبل هذا الوجود!
    هز الثور رأسه إلى اليسار، والى اليمين، وحدق في عيني البقرة الشاردتين:
ـ من كان يتوقع هذا ...، فانا طالما عرفت ـ وتأكد لي بما لا يقبل الشك ـ انك بقرة عقيم! ثم، جاءت سنوات القحط، والشغب، وندرة الأعشاب، والدغل، والأشواك، وحلت سنوات الحرب، والغبار الأسود، والغبار الرمادي، وسنوات الرمل، فهزل جسدك حتى كان من المستحيل أن يحصل هذا الحمل إلا بمعجزة...؟
ـ يا نور قلبي، يا ثوري الجميل...، دعك من هذا الكلام...، الم يتم تعقيمك، بمعنى تم اخصاؤك، في عام النكبة، ولم يتركوا لا ثورا ً ولا عجلا ً ولا حتى من كان يتمتع بأطياف ذكورة، طليقا ً لا في البساتين، ولا في الحقول...، إلا وعقموه ...؟
ـ بلى... ، سيدتي، فعلوا ...، لكن هذا كان بلا نفع، فالنبتة العنيدة تنبت حتى في أقسى الصخور، الم أخبرك: إن القضاء على خلية الخلق شبيه باستحداثها من العدم؟
     شرد ذهنها، أقال هذا أم لم يقله، لم تكترث، لأن شرودها سمح لها بمخاطبة جنينها، بعد ان هدأ عن الرفس:
ـ أخبرتك، يا عزيزي، إن سنوات المحنة لن تمتد...، طويلا ً، ولن تستمر إلى الأبد...، وان الأمطار على وشك السقوط، كما تقول العرافات، وخبراء الأنواء الجوية، والحكماء، وباعة الغنم، والماعز، والبعران، والجاموس، وكما أكدت الغزلان الخبر ببعض التردد...، وهذه ليست دعايات، أو إشاعات، أو كلام سحرة...، فقد تأكد لنا، لو امتدت سنوات الكارثة ...، فان سلطات الحديقة وعدتنا بتوزيع العلف المستورد مجانا ً...، أسوة بما يحصل خارج حديقتنا؟
    ضحك الثور، ووجد جسده اقل وزنا ً، بل حتى شعر برغبة بالطيران، فسألته البقرة حالا ً:
ـ أسردت طرفة لك كي لا تبكي، بل كي تقهقه من غير سبب؟
   هز رأسه، ومازال لا يقدر أن يمنع نفسه من الضحك:
ـ لا...، بل تذكرت سنوات النعيم، والوفرة،  وما كان فائضا ً في المعالف، من أرزاق، ونعم، وطعام؟
    لم تجب، لأنها تذكرت كيف تم إرسال أعداد كبيرة من العجول، والثيران، عداه هو، إلى المجزرة. ودار بخلدها إنها ربما كانت هي المعجزة، وإلا لماذا كان الاستثناء؟
  اكتأب الثور، وأحس بألم حاد يسري في جسده، متنقلا ً، ليقول لها:
ـ لا تحزني! ما أن تضعي حملك هذا حتى يتم التخلص منه!
ولم يخبرها: فالناس جياع، بل تمتم: إنما السنن هي أكثر عنادا ً من استبدالها، أو تبديلها، أو تعديلها، أو دحضها!
    سمع الجنين، وهو في شهرة الأخير، كلمات الثور، الوالد، فاخبر والدته بأنه سيضرب عن تناول أي مادة تصله منها، وسيمتنع عن إكمال نموه، ليولد ميتا ً: حيث ستضطرين إلى إجهاضي!  آ ...، سأولد ميتا ً، ولن تضطري لرؤيتي وأنا أجرجر إلى المجزرة، ويذبحني ابن سفاح؟ وأضاف معتذرا ً لها؛ فقد لا يكون القصاب هو تحديدا ً ولد كما هو حالي، لكن رائحة سكينه لا تدع كلماتي إلا أن تفقد بصرها، وبصيرتها، فعذرا ً لهؤلاء الذين يلدون رغم استحالة ولادتهم!
ـ لا يا حبيبي، لن ادعك تفعل هذا أبدا ً، وان تأتي بلا نفس، بلا ضحكات، بلا صراخ، ولن اسمح خوارك، واراك تلعب كباقي العجول....، لا لن ادعك تفعلها!
   ورفعت صوتها:
ـ فانا قد اهلك من شدة الحزن، والأسى..، بسببك يا عجلي، لن ادعك تفعلها، فلا تفعلها، أرجوك!
      فسمع الثور ذبذبات الجنين وفك شفرتها، وقرأها، فقال للبقرة:
ـ اخبريه، يا عزيزتي، أن المصيبة التي لا حل لها ليست مصيبة، والذنب الذي نرغم على اقترافه ليس ذنبا ً، ثم إن كل من يأتي من المجهول يبقى بقبضته، ولن يفلت منها، حتى لو كسرت يد هذا المجهول، أو بترت، أو فقدت وجودها!
    صمتت البقرة فترة غير قصيرة، وسألته:
ـ ما هي هذه المصيبة...؟
   فأجاب:
ـ مع إنني لا اعرفها، لكن لا معنى أصلا ً للبحث عن حلول للمشكلة التي لا حل لها.
وأضاف من غير تردد، أو تلعثم:
ـ فالحمل حصل....، إن كانت الأم عقيما ً، والوالد مخصيا ً، أم لا...، فالحمل بحد ذاته ذهب ابعد من المعجزة! فما فائدة المعجزة أن تحصل من غير حمل...، وما معنى الحمل الذي حصل حتى لو لم تكن هناك معجزة....؟
ـ صحيح، طمأنتني....، لكن اخبرني ماذا سنفعل؟
ـ الاحتمالات كثيرة..، متعددة، ومتنوعة...، فانا سمعت إنهم سيوزعون العلف مجانا ً، وسمعت إن سنوات الجفاف قد بلغت نهايتها، وسمعت إنهم سيسمحون لنا بالعودة إلى الحقول، والى المزارع...، بل ويسمحون لنا بالهجرة إلى حدائق العالم، من غير قيد أو شرط، بل وهناك أخبار سارة أخرى لا تحصى...
     أخبرت البقرة جنينها:
ـ هل سمعت، الم اقل لك أن المستقبل لنا!
وتأوهت:
ـ آ ...، لو كنت شاعرة وأنشدت: لن ندعك أيها المستقبل تمشي وحيدا ً في المتاهات!
فقال لها:
ـ وهل يمتلك السيد والدي الإجابة على السؤال الذي لا جواب عليه؟
   ارتج جسدها، وارتجفت، فقال الثور يخاطب الجنين:
ـ  يا ولدي....، أنصحك: لا تخرج!
ـ قلت لها...، ولكنها قد تهلك بسببي؟ فما أن أموت، حتى يأتي الطبيب، ويأمر بإرسالها إلى ....، والباقي أنت تعرفه، فانا قبل أن أتكّون تكوّنت في ّ رائحة السكين!
    خار الثور، ودار حول البقرة دورة كاملة، وتمتم:
ـ لا حل للمعضلة التي نحن فيها.
ـ أية معضلة....، الم تقل إنها غير موجودة باستحالة وجود حل لها؟
ـ بالضبط...، لأن حملك لا وجود له، وهذه حقيقة لا يمكن دحضها.
ـ تماما ً، ولكنه يرفس، وربما يلعب، وربما نال عضوية السيرك، أو نال شرف الزعامة...، من يدري، عندما تكون المعرفة آخر ما يحصل؟
 فخاطب الثور الجنين:
ـ وماذا لو لم تكن أمك عقيما ً، ووالدك مخصيا ً، وماذا فعلت لو تكن السنوات سنوات قحط، وفاقة...، يلهو الفأر بالأسد، والبعوضة تدرب النمور على الرقص، القملة تتزعم مواكب المجد، والضفدعة تغزل شعرا ً بمغزل الريح....، ماذا كنت فعلت؟
   ولم يدع الجنين يتفوه بكلمة، أضاف متابعا ً بصوت مرتجف:
ـ هل سنعرف ماذا تفعل...، أتأتينا بالمعجزات....، وتبشرنا بالخوارق...، أم لا تكون إلا خير خلف لخير سلف...؟
   لم يدم الحوار طويلا ً، لأن البقرة جاءها المخاض، فوضعت عجلها. الأخير نهض حالا ً. على انه لم يكن عجلا ً، بل شبيها ً بديناصور له رأس أفعى، وذيل تمساح، فخاطبهما بصوت حاد:
ـ لا أريد أن أراكما أمامي أبدا ً....!
     صدمت البقرة، لكنها راحت تعالجها بمشاعر أم، فولولت، وأخذت تتضرع، ثم وجدت إنها تتخذ موقفا ً مغايرا ً:
ـ لولا الوصايا ....، وأنا تركتها تتسلل إليك، عبر دمي، طوال حملي لك...، لكنت أرسلتك إلى المحرقة!
فقال لها بصوت مدو ٍ:
ـ أنا هو من يقول: لولا الوصايا ....، لكنت ....، ولكن آن لك أن تذهبي، اغربي، وابحثي عن زريبة لا أراك فيها. أما أنت، أيها المخصي، فاختر المصير الوحيد الذي لا تستطيع أن تتلافاه!
    اقتربت البقرة منه، وسألته، قبل تهم بالفرار:
ـ أهذا جزاء عملي معك، أهذا ثمرة شقائي، أهذا ما كنت آمل أن احصل عليه؟
صرخ غاضبا ً:
ـ ومن طلب منك بذل هذا كله...، اهو من اجلي...، أم إن السنوات العجاف تعرف بماذا تحبل، وبماذا تلد...؟
    خار الثور، ودار حول نفسه، مثل مخمور، مع انه تجنب تناول ماء البركة المسكر، وصرخ في وجه الديناصور الوليد:
ـ لن تفلت منهم!
ـ يا أحمق...، أتعرف من أنا.....؟ أنا هو سليل تاريخ طويل يسري في ّ...، أنا المنحدر من الأفاعي، والديناصورات العملاقة، من التماسيح، ومن ذكاء الضباع، وحنكة الغربان، ومكر الهداهد، أنا أخذت من سم العقارب حصانتي، ومن القنافذ دفاعاتي...، ولم ارث منك إلا هذا القرن! وسأكسره.
     أمر الابن حرسه الخاص برفع القرن الشبيه برمح، واستبداله بقبعة، وإضافة حراشف شفافة للذيل، مع تركيب حزمة من الأجنحة للطيران العالي، وأخرى للطيران الخفيض، من غير إهمال نصب مجسات رادارية للمراقبة عن بعد.
   صفق الثور، بإرادة لا واعية، شارد الذهن:
ـ حقا ً أنت وحدك جدير بالبقاء...، وحدك جدير بالثناء...، فماذا تلد المحنة غير من يقهرها!
قال الابن:
ـ اغرب عني...! فانا بنفسي سأذهب إلى البحر واتي بالغيوم، أنا بنفسي سأصلح ما تم تخريبه، سادعوا الموتى للمشاركة في اعمار ما هدمه الأعداء، والفاسدين، والكسالى، أنا بنفسي سأعاقب كل من مس ارض حديقتنا ومستنقعاتها وأجنحتها....، آنذاك تكون السنوات العجاف قد بلغت نهايتها.، فلا منازعات، ولا حروب، ولا تمويهات.
فقال الثور متضرعا ً:
ـ خذني معك! أتضرع إليك، قبل ذبحي؟
ـ آ ...، أيها الأحمق، أنا لن أغادر قبل أن أراك معلقا ً، ولحمك يوزع للضواري الجائعة، وقبل أن أرى جلدك يرسل إلى المصانع لتصنع منه البساطيل، والحقائب، وارى الباقي يرسل إلى المتحف..!
   فكر الثور مذعورا ً:
ـ أبن من أنت...؟
ـ أنا هو ابن المحنة التي لا وجود لها! فانا هو ابنك، وابن تلك التي تعرف بمن حبلت!
    بعد أن كبل الثور بالسلاسل، وربط بالحبال، خاطب الابن:
ـ أيها الزعيم ....، أيها المغوار، أيها القائد، أيها البطل ....، لا تلد المحنة إلا من يذهب ابعد منها.
    اقتربت البقرة من الثور، وهمست في آذنه، وهي ترتجف أيضا ً:
ـ ذات مرة أخبرتني بان المعضلة التي لا حل لها هي وحدها تحمل بشارة الخلاص؟
ـ كان هذا في سنوات الخوف، والقحط، والمجاعة، والخراب...
   فسألته:
ـ وهل اختلف الأمر...؟
ـ لا...! فالزعيم أمر بتوزيع الهدايا، وأوسمة المجد.
    اقتربت البقرة من الزعيم، وراحت تتضرع أن يخلي سبيل زوجها، لأنهما سيغادران، من غير رجعة. لكن الزعيم قال بصوت آمر:
ـ  سأفعل ذلك! بعد أن سأغفر للجميع؛ للبعوض والعناكب والبرغوث والقمل والسحالي والجرذان والديدان والحشرات والبرمائيات والخنازير وبنات أوى، إلا هو .....، وأنت معه!
   فقالت البقرة وهي توشك على الانهيار:
ـ لم يكن الذنب ذنبه، صدقني أيها الزعيم الجبار، ولم أكن أبدا ً شريكته في ارتكاب هذا الذنب...، فلا هو ارتكب الإثم ولا أنا آثمة!
ـ آ ...، يا لها من أسطورة! يا لها من مسرحية، ملهاة، عندما اجهل الجواب على سؤال: من أتى بي إلى هذا الوجود إذا ً...؟
ـ لا احد! فأنت ابن هذه الزرائب، والحظائر، والحفر، والمستنقعات...، ولدت من الهواء والتراب في ليلة المجاعة، بعد اشتداد المذابح، إبان سنوات الفاقة، وتفشي الأوبئة، أنت هو ابننا الغالي، العزيز، أيها القائد الخالد. ألا يرق قلبك لكلمات أم تجهل من يشفي جرحها، مع إنها حرصت أن تحميك من الأذى، ومن الظلمات.
       وراح يصغي لها، بلا مبالاة، فسره أن يرى الجميع غادروا أوكارهم، حفرهم، جحورهم، حظائرهم، وبركهم، ليتجمعوا بمجموعات ملأت الساحة الكبرى، والممرات، والمساحات الأخرى، وهم يهتفون، يزعقون، يصفقون، ويلوحون للابن الذي أمر بوضع نهاية لعصر الجفاف، والشروع بتدشين عصر الرفاهية.
    فخاطب الجميع، وهو يربت فوق كتف الثور، من اليسار، وفوق كتف البقرة، من اليمين:
ـ كانت سنوات يجدر بنا نسيناها، ومحوها من ذاكرتكم...، وإلا ما فائدة تذكر الفوضى، وتذكر خسائرها، حيث الجار قتل جاره، والابنة دست السم لوالدها، والابن لم يلتزم بالوصايا.....، والزوجة توشي بزوجها، ولم ينج من هذا العصر الغريب إلا هذا الواقف أمامكم، وهذه الأم التي حبلت بي رغم استحالة الحمل، إلا بتوفر حزمة من المعجزات...
     هتف وزير التصفيق والدعاية:
ـ ارفعوا أصواتكم، ابتهجوا...، اهتفوا ...، فالقائد لم يخرج إلا من رحم الحرية، ولم يأت إلا بعد أن قهر الاستحالات، وعبر محيطات المياه الآسنة...، فانتم يا سكان حديقتنا، طلقاء...، طلقاء بمعنى الكلمة، وبإمكانكم الحصول على مكرمات زعيمنا هدايا مجانية، في ذكرى عام النصر، والفلاح، والمجد.
   بكت البقرة، وهي تعانق الثور:
ـ الم ْ أخبرك، يا خلي الغالي، إن النهايات السعيدة، هي وحدها التي تزيح سنوات الغبار، والوحل، والرداءة...، الم اقل لك إن المستقبل لحديقتنا، وعصرها البهيج.
      اقترب الثور منها، وهمس في آذنها من غير كلمات، ففهمت انه حصل على مزرعة نائية وعليها أن ترافقه في الذهاب إليها: حيث هناك، أيتها الغالية، سنفكر بإنجاب ابننا الثاني، بعد زوال السنوات العجاف!
    فقالت الأم تخاطب زعيمها:    
ـ عندما التقطتك من الشمس، سمعتك تقول لي، أماه: كلما ازدهرت النكبات فالأمل يكون قاب قوسين أو أدنى...، فقلت لك: لن تدوم الظلمات إلا وتجد من يروضها، وما أن وضعتك، أيها الزعيم، حتى بدأت بشائر الرخاء، وبدأ شعبك يدرك انك قدوتهم، فالشمس دليلك، وشعبك زرعك! فلا عقم ولا عقيمات، ولا قصاب يلوح بالسكين، ولا مجازر، ولا أقفاص، لا القوي يسلب قوت الضعفاء، ولا الضعفاء يسرقون من كنوز الأغنياء، الكل يتنعم بالموازنة، والمصالحة، والشفافية، وإلا سيقال ماذا تلد الأفعى غير الصل، وماذا تلد الظلمات غير الظلم؟
     اقترب الثور منها كثيرا ً، وهمس في آذنها، من غير كلمات، خشية قراءة ما يدور برأسيهما، ففهمت أن لا تتكلم، وان لا تفكر، وان لا تحلم، بل أن تمشي خلفه، بهدوء، بوقار، وبصمت، لأن هناك زمرة من القصابين، يقفون عند بوابة الحديقة، بالانتظار!
28/1/2017

النزعة الوطنية في رواية "الزيتون لا يموت" لعبد القادر بن الحاج نصر-هيام الفرشيشي


نقد

النزعة الوطنية في رواية "الزيتون لا يموت" لعبد القادر بن الحاج نصر



هيام الفرشيشي

  
انخرط عبد القادر بن الحاج نصر ككل كتاب الرواية إثر الاستقلال في موجة كتاب الرواية الوطنية ، وبما أن الرواية الوطنية تستلهم صفحات التاريخ المشرقة والشخصيات الفاعلة في صنع الاستقلال وقوى الشعب التي تفاعلت مع هذا المشروع السياسي المناوئ للاستعمار ، فقد كانت بمثابة ولاء للوطن وإثبات للذات ، و تنشئة الأجيال على الحس الوطني وعلى النسج على أحداثه البطولية ، لذلك تعتمد أغلب الروايات الوطنية للتدريس في المعاهد الثانوية ببلادنا ( تونس ).
تنفتح رواية "الزتون لا يموت" على حيرة الاسكافي وهو يمسك الجريدة القديمة ، ويؤجل الحديث عن عنوان الجريدة إثر تلمس الحالة النفسية والمزاجية للشخصية التي تريد الانتقال إلى مكان موهوم يخرجها من التردد والاستسلام ، الصحيفة إذن هي العمل : " لقد سمع أن جريدة العمل قد أحتجزت هذا الصباح ، وهي لذلك لم تصل إليه ليقرأها .. ويخيط الأحداث بين سطورها ، ويفهم موقفه من نفسه ، ومن منزلته ، ومن العالم . لقد علم أن الجريدة صدرت وأحتجزت ، وهاهو يقرر أن يراجع موقفه " ص11 . ثم نراه يتساءل إثر وصف حركات يديه المتشنجة ونظراته القلقة " لكن لماذا احتجزت سلطات الاحتلال جريدة العمل . إنه يكاد يعرف ذلك . ويعرف أن فيها حروفا كان من الأجدر أن يطلع عليها .. ويقرأها ويعيد قراءتها . هذه الحروف قد تنير له السبيل .. إنه يعرف ما تخفيه من أسرار . إنه يعرف ككل الناس ماذا تعني كتابة العنوان باللون الأحمر .. يعرف أن ذلك بداية نشاط وحركة .. وكم ظل يتابع هذه العناوين الحمراء ، وأجهد نفسه ، فظل لاهثا وراء سر كلماتها حتى أدركه ، وهو لا يشك أنه أدركه على حقيقته " ص12
يبدو الاسكافي عضوا في حركة التحرر من الاستعمار فهو يدرك الإشارات السياسية ، ويتناول فحمة ، ويكتب شعارات على الحائط مناوئة للاستعمار : " أيها الاستعمار ما أجمل أن أرى رأسك الخامج مصلوبا على خشبة .. مرميا في صتدوق قمامة " ص13 . بل يكتب أكثر من شعار وهو ينكل بجسم الاستعمار رغم إدراك مصيره المرتقب . وينتقل من كتابة الشعارات إلى كتابة الخواطر الذاتية المجسدة لوعيه السياسي والذي تفجر من خلال مواكبته لقراءة مقالات الزعيم بورقيبة ، وهو يتجسد لنا بهذه الأعمال بمثابة المثقف العارف بأصول اللعبة السياسية أكثر من كونه عامل بسيط ، إذ يتخطى التعبير المباشر إلى الرمز حين يرسم منزلا ومدخنة طلاها بالسواد لكي تختفي وتحل محلها شجرة الزيتون .
تبدو شخصية الاسكافي واضحة ، وهي شخصية الوطني المناوئ للاستعمار والذي يمتلك أبجديات وترميزات الفعل السياسي على أنه اسكافي فهو في حالة توتر وحيرة ويريد أن يجسد منزلته الإنسانية في هذا العالم ، وهو في حالة ضيق من المشاهدة اليومية لعساكر الاستعمار وهو ينكلون بالتونسيين ، بل يكشف لنا عن السبب الأساسي لرغبته في التنقل من المكان الذي سلط عليه مشاعر الضيق : " سنجازيك .. ائت لنا بالأخبار .. سنعطيك الدراهم . سنريحك من عملك .. اعمل معنا .. ستصبح معنا كالموظف .. ستمنح أكثر من الموظفين .. سنعطيك منزلا جديدا ..هل فهمت ؟ " ص19 . إنه يقاوم إغراءات المستعمر لأنه صاحب قضية سياسية ووطنية لا تجسم إلا بالنضال والثبات . وهو يمتلك الدافع الكافي لخوض المعركة ، بل يبدو لنا قويا في تصوير مشاعر النقمة التي انفجرت داخله ، إنه شخصية ايجابية فاعلة ، يمتلك من البسالة الذكورية ما يجعله لا يقل قيمة عن السياسي المحنك الحاضر في ضمير ووجدان الشعب .
والوطن هاجس ومحرك لأفعاله تلك التي تؤطر بداية الحركة والعمل السياسي منذ بداية الرواية ، من خلال التركيز على الصحيفة التي تؤطر الوقائع السياسية والتاريخية المعروفة . فوعي الاسكافي يجسد الوعي السياسي من خلال أنموذج حزبي : " سيكتب على جدران الدكان : يسقط الاستعمار .. يحيا الحزب .. يحيا الشعب حرا .. يسقط الجنرال " ص21 . والدافع للحركة هو إرادة الحياة ، وتنزيل المناضل منزلة البطل : " كيف يجب عليه أن يحمل مصيره ، كما يحمل الأبطال مصيرهم .. أجل ! إنه أيضا بطل " ص25 .
ينتقل الكاتب من فضاء القرية إلى فضاء المدينة حيث حركات الأيادي غاضبة متشنجة وفيها غضب وعنف ، وحيث يعثر على الحلم الجماعي الذي نبت في القرية الساكنة . والغضب بركان خامد ينتظر قوة الدفع ، واستشعر أن المسافة تقصر بينه وبين حلمه ، وبين الناس في هذا المكان ، بل اكتشف الرابط العاطفي الدقيق الذي يشدهم وهو الشعور الوطني . فيسترجع الحوادث والتحركات الوطنية لهؤلاء الذين انفجروا في "وادي ميللز" أو في "سوق الأربعاء" ، "لماذا لا يكون واحدا من الذين انفجر بهم هذا اليوم " حمام الأنف" وتظاهروا أمام قصر الباي هاتفين بحياة تونس وسقوط الاستعمار " ص32 .
هناك في الغرفة الصغيرة قاده أحمد الذي التقاه على الرصيف ، هناك تحدث عن جراد الجنرال ، وذهل حين عرف بأن أحمد يعرفه لأنه تعرف على جميع أعضاء الحركة . إن زمن المدينة وفضاءاتها لا ينفتح إلا على المظاهرات ، وشخصياتها لا تنم إلا على العمل السري ضد الاستعمار ، بدءا بعامل البلدية الذي ينقل أخبار ومواعيد الاجتماعات والمظاهرات ويوزع المناشير . فكل الأحداث السابقة ما هي إلا تبرير لمظاهرة 8 افريل في "رحبة الغنم" . فالزمان والمكان يشيران إلى حدث تاريخي هام اتسعت له زقاق وجدران المدينة والذي ترتب عليه الشعور بالانفراج : " ذلك أن الفجر قد بدا يقترب من السماء والأرض والعباد . وأن الليل شرع في الابتعاد . وكان في نفسه حنين لا يقاوم " ص50 .
للمعركة ضد المستعمر قائد للحركة ، وجموع تتدافع في ساحة القصبة ، يحملون اللافتات ، وبرز أحدهم وهو يخطب . وقد استبدل الكاتب كلمة "متظاهرين" بكلمة الشعب ليعطي لتلك الأحداث طابعا وطنيا :
- بداية المظاهرة في رحبة الغنم على مقربة من منزل الزعيم الذي كان طريح الفراش - المناداة ببرلمان تونسي عبر الصراخ والهتاف
- الامتزاج بين مظاهرة الحلفاوين ومظاهرة رحبة الغنم في باب بحر .
- القبض على علي بلهوان وجلبه إلى المعركة العسكرية لاستنطاقه بالتربينال
- المطالبة بإطلاق سراح الزعيم علي بلهوان
- إطلاق الرصاص على المتظاهرين من قبل المستعمر
- التقاط الحجارة وقذفها على جنود الاحتلال
- اندفاع جماعة نحو عربة تراموي وأوقفوها وكسروها
- نقل الضحايا غلى نادي الحزب
- القبض على أعضاء الحركة
وإثر هذه الاحداث الوطنية المؤرخة تنتهي رواية " الزيتون لا يموت " بالأمل على المعاناة : " وأحس أن الظلام يداهم عينيه .. وأنه يريد أن ينام .. أن يسقط على الأرض .. وكان الليل آنذاك يتحول إلى فجر " . وما نستشفه من خلال هذه الرواية عودة المؤلف إلى أحداث الرواية انطلاقا من تاريخ الحركة الوطنية في تونس والتي تعد ملحمة كفاح انسجم فيها القائد الوطني مع أعضاء الحركة وانتقى الوقائع والأحداث التاريخية المقترنة بعيد الشهداء (9 أفريل) وهي نتيجة عمل سياسي منظم بقادة زعيم الحزب الحبيب بورقيبة ، والذي فجر الوعي السياسي في نفوس الأحرار عبر كتاباته في جريدة العمل .
وتمجد الرواية العمل الوطني ، وتبني على شخصيات فاعلة انتقلت من حالة الضيق إلى حالة الانفراج . ولم تقل الرواية شيئا جديدا عما ورد في كتب التاريخ إذ قامت على استلهام المقاومة من شخصيات تاريخية معروفة وخاصة الزعيم بورقيبة التي ظلت صورته غائبة ، ولكن كلماته هي الحاضرة والمرتسمة لأنها تشكل الوعي الوطني في أذهان أعضاء حركة الحزب . كما تناولت شخصية علي بلهوان لكونه خطيبا سياسيا دون أن يقترب الكاتب من روح تلك الشخصية ، فقد وردت في سياق الأحداث لكونها من "الحوافز المشتركة" التي تؤدي وظفتها حسب السياق والواقعة . اما شخصية الزعيم بورقيبة فهي من " الحوافز الديناميكية " التي ساهمت في تغيير الأحداث بتوجيهاتها . أما الاسكافي وأحمد وعامل البلدية وغيرهم من المتظاهرين فهم " حوافز ديناميكية " أيضا قامت على عاتقهم الأحداث النضالية ، وهي أرفع من ان تكون شخصيات قارة مساعدة ، فقد كتب الاسكافي الشعارات الحزبية وترك دكانه حين طلب منه المستعمر التحول إلى مخبر وانخرط في العمل السياسي التحريري ، وأحمد الذي خرج من السجن السياسي وعاد إليه في آخر الرواية ، وهو يتلقى العقاب والإهانات كان يؤمن بديمومة الصراع ، ويبقى عامل البلدية رمزا وطنيا " إن عامل البلدية زيتونة مباركة يضيء زيتها .. في كل شارع من العاصمة عامل بلدي فرع من هذه الزيتونة كاملة لها فروعها " ص94
- كل تلك الحوافز المشتركة والديناميكية يرى من خلالها الوعي الوطني ، فاهتمت الرواية بهاجس الوعي السياسي في حركة زمنية خطية . تتجه من التأزم نحو الانفراج وجعلت المنطق التاريخي يعلو على المنطق الروائي .فلم تتشعب أحداث هذه الرواية بل كانت تتجه وجهة مقررة وهي التمهيد لأحداث 8-9 أفريل 1938 . ولم تخرج هذه الرواية عن خط الرواية الوطنية التونسية التي ظهرت مع محمد العروسي المطوي حيث ينفذ الفعل السياسي المنكمش من القرية إلى المدينة كفضاء للعمل السياسي والعمل السري .