قصة قصيرة
ساعات في شباك اللا وجود
عدنان المبارك
- كل يوم هو قليل من الحياة ، وكل استيقاظ قليل من الولادة ، وكل صباح قليل من الشباب ، الا أن كل حلم هو بديل الموت. أرتور شوبنهاور ( 1788 – 1860)
كتبت عن الآخرين كثيرا .لأبدأ الكتابة عن بعض زوايا الداخل التي أهملت لزمن طويل. في أواخر العمر انتفض شوبنهاور فيّ , قرأته كثيرا لكني وجدت مؤخرا أنه كان محقا على طول الخط. عاش اليومي كألماني كما أنا الآن كأوربي. لكن عدا اليومي أبصر كل الأشياء بأكثر من عينين. في زمن المراهقة وأولى سني البلوغ أخافونا بشوبنهاور بل برجال وديعين ومسالمين أمثال المسيح وكانت وبوذا والرواقي زينون. قائمة الفنانين ( البوروجوازيين ) كانت طويلة جدا. مرة ، ولربما أكثر ، ذكرّتهم بكلمة المسيح عن الساكن في بيت من زجاج ويضرب الآخرين بالحجارة. أعترف بأني لم أكن حذرا في فترة الشباب بل لغاية الشيخوخة ، في الاستماع الطويل الى المسيح. لكنها كانت ذنوبا صغيرة عامة. ومنذ أسابيع أنام وأستيقظ وأمامي صورة الفيلسوف الألماني. هذا الصباح استيقظت مبكرا. لا أعرف السبب. أكيد أني كعجوز لست بحاجة الى كثير من النوم. خرجت في العاشرة من البيت. وجهتي الباص الذي يخترق تلك الغابة الساحرة. سأقضي النهارهناك وجزء من الليل. آخر باص من هناك يعود في الساعة التاسعة. تذكرت أن هناك مصطبات وطاولات في الغابة. عملت كم سندوتشه وملأت الترمس ببيرة البرميل. تلفنت الى مجيب ، وهو كاتب عراقي مرح يبيع روحه مقابل كم نكتة وشائعة. اعتذر بسبب وجع معدة يفتك به. فكرت بأن الوحدة في الغابة مبتكر قديم للإنسان. قبل كل شيء سأتجول هناك ثم أجلس مع البيرة وأتذكر ، كعادتي ، كل الأمور السيئة وليس في حياتي وحدها. الانفصال عن الواقع مرض قديم ، لكن أمراضا شتى تحاصرني من كل الجهات ، وليكن معها هذا أيضا.
تجولت وعدت الى مصطبتي المفضلة التي تنشر فوقها شجرة صنوبر ضخمة أغصانها التي تبدو مثل أيادي عملاق من احدى الأساطير السكندنافية. شربت قليلا من البيرة وها أن كل كوابيس العراق أخذت تحاصرني من جديد : لو أن هذا لم يحدث لحدثت نكبات أخرى ، لو أن صدام رضخ للأميركان وصحبهم الاسرائيليين لما حدثت الحرب الأخيرة ، وقبلها لوجاءه ( صوت العقل ) لما غزا الكويت ، ولو تقبل بهدوء رواقي ما يضمره الملالي لما أستعرت الحرب معهم. لو تصفح التأريخ ولو قليلا لعرف بأن المصالح هي فوق كل شيء ، أكيد أنه عرف بهذه الحقيقة لكني تذكرت طائراته التي قصفت جزيرة مجنون حيث كانت ثغرة القوات الإيرانية. لسد الثغرة أفنى عددا لابأس من الجنود العراقيين هناك. لو لم يحصل كل هذا لعاش الناس بلا خسارات في الممتلكات والأرواح. و لو لم يكن يتيما و( شقاوة ) لما حدث كل هذا. الغيظ والحسرات المتوالية حرمتني من طعم السندويتشات والبيرة. قبل أسبوع خلع سنّي طبيب عراقي. قال هذا الشاب بالغ الهدوء : ( ليس بالغريب اذا وصلت هجرة العراقيين الى الأسكيمو. سادية " الجماعة " ، أستاذ ، لاتشبع ). عشب الغابة أخضر ، أشجارها خضر ، لا أعرف متى تصل الخضرة الى السماء والرب. بهذه الصورة غير المعقولة أوغل في التفكير. خسرت معركة أخرى : الهاجس العراقي غيور كثيرا يريد هيمنة مطلقة لكني أصبح أحيانا كمن أزيح عن صدره ثقل أكبر من صخرة سيزيف ، حين أروح مع أفكار أخرى. حتى هذه توميء بكل قسوة وتشف الى حفر الماضي التي وقعت فيها ، الى كل ذلك الزمكان البريء لكن المقفر في كثير من مساحاته.
بقيت في الغابة لأكثر من عشر ساعات. أستمعت الى تسجيلاتي الموسيقية ، فالطبيعة في الغابة افترقت عن الريح وعمّ السكون الذي هبط ، كما خيّل اليّ ، من سماء مجهولة. في طريق العودة فكرت بأن هذا الاحتقان يدفعني الى مشاعر متطرفة : كمد التذكارات القديمة والصفاء المترجرج للحاضر الذي منّ عليّ بهذا التسجيل الموسيقي وذاك. فوك النخل فوك ... مختارات من باخ و موتسارت وشوبان وبيتهوفن. صعدت نشوة الموسيقى الى اليافوخ. نهضت وأخذت أرقص تانغو حزينا فهمت من همسه أن لا حدود بين الوجود والآخر : اللاوجود. خيل اليّ أني فتحت قفص اللاوجود وخرجت الى الآخر مهرولا ! لا أعرف كيف هو هذا اللاوجود. ربما يقترن عندي بتصور لهروب الى مكان لم يكتشفه ألمنا المشترك.
أفكار عن شوبنهاور، معضلة التجريد والتشخيص، قدوم مفترض لغودو... وللدقة كانت هناك أخرى لا تخلو من الاضحاك كأن أتحول الى سمكة في بحر تحت الأرض ! أوأن يأخذني صديقي ع. ك ويضعني مع قرد صغير مرح على غصن عال في احدى أشجار مملكته الحيوانية ، أو هلوسة عن لقاء مع أصدقاء قدامى أمثال صاموئيل بيكيت وهيرونيموس بوس ولويس بونويل وسقراط . في الحقيقة هؤلاء أصدقاء اعتادوا على المجيء اليّ بعد منتصف الليل كي نعربد نكاية بالوجود كاملا ! لكنها نكاية صغيرة حسب ، فالحصار لا تفكّه العربدة. الوجود. الكل يعتبر الوجود حالة إيجابية يكون العدم نقيضها. شوبنهاور العزيز ينعت الحالة بأنها عالم المخيلة / التصور. خلافا لإرادته لا أجد في العدم نفيا مطلقا للوجود. وحتى أن العدم لا يكترث لهذا الأمر. انه المرحلة الأخيرة وكفى !
لقاءات منتصف الليل ليست بين أصدقاء. غودو أعرفه من زمان .ها هو جالس الآن مثل التمثال لكنه قلب تصوري عنه رأسا على عقب. هاديء يميل الى الوقار، ومن النوع الصامت. بونويل يقلقني بنظراته الثاقبة. مرة واحدة سمعته يجدف بصوت عال. كان غاضبا خلال أكثر من لقاء. قال بما معناه أن الموت اختطفه قبل أن يحققق بضعة مشاريع فلمية. تكلم طويلا عن واحد منها. كالعادة يغلف أفكاره الحقيقية بأخرى شبه بريئة ، وهكذا كان مشروعه الفلمي عن كيف تحاكم الله هيئة قضائية (محايدة ) من مختلف القوميات. قال بأنه كملحد ، و( الحمد لله ! ) سيكون محامي الدفاع عن الله. ظهر الشاطر حسن أيضا. كان بريئا على طول الخط لكن هذا لايعني بأنه عديم المكر ولا يعرف التأني في التفكير. بعد كل لقاء مع هيرونيموس بوس لا أشعر بالشبع ولا الارتواء. هل كان خائفا أم أراد أن يضحك على الجميع حين عمل تلك اللوحات التي خلط فيها الفاحش بالجليل.
هكذا أنا دائما . تفكيري يخترق شتى المواضيع . أفكر في آن واحد بشوبنهاور وإشكالية التجريد والتشخيص ( كتبت بضع مرات عنها لكني اكتشفت قبل كم يوم بأني لم اعطها حقها كاملا ). هناك زوار دائميون هم أكثر واقعية في أحلامي وليس في اليقظة. بعضهم بالغ العصبية وحتى أنه يصرخ مهددا ويتهمني بأمور لم أسمع بها أبدا. لكن في الغابة كانت الغلبة لأمور أخرى. بهذه الصورة تذكرت بأني أخذت معي كتابين عن التجريد والتشخيص والرياضيات ورواية الروسي فكتور بييليفن ( حياة الحشرات ) من عام 1993. هناك روايته الأخرى (جيل بي P ). ، قيل أن الفلم المعتمد على الرواية كان من اثارات عام 2006. لم أقرأ هذه الرواية ولم أشاهد الفلم. بونويل أغرم بكشف عورة الشر. ونجح على طول الخط. بيكيت الصادق أكثر من كل رسول طرح بكل كبرياء وصفة ثمينة حقا : كل هذا لعبة فاشلة وهيهات أن تكون هناك مسرة حقيقية. حشرت الكتابين من جديد في ( حقيبة الظهر )، وأخذت أتصرف كايّ متنزه ، أبحلق في الأشجار والطيور وأتابع قطرات ندى الصباح المحتضرة على العشب. كذلك أخرجت السندويتشات وترمس البيرة. هذه البيرة قوية. بالطبع أخترتها عامدا. ففي الغابة يحلو الانتشاء. حين بلغت الثامنة عشرة اشترى أبي قنينة بيرة ديانا احتفالا بعبوري امتحانات الإعدادية. لم تكن الأم راضية. قال لها : البيرة بريئة وليس مثل عرقي الذي تلعنينه كل ليلة. حينها ضربت البيرة رأسي بقوة وجاءني شعورغريب بأني سكرت. طمأنني الأب بالقول : ( البداية هكذا دائما . نشوة البيرة تتبخر بسرعة ). الذاكرة تفسد كل متعة. سيكون شيئا رائعا ومفيدا لوأخترع العلم أداة تفتح الذاكرة وتغلقها حسب الطلب. شربت أكثر من نصف بيرة الترمس وتمددت على المصطبة على أمل أن أغفو قليلا. هذه المرة نجحت وتسللت الى مملكة النوم التي تنسيني كل فظاعاتنا. آخر وجه أبصرته قبل نزولي الى المملكة كان لهيرنيموس بوس المغرم بالرمزية التي كرسها لخطايانا وأحوال نقصنا. بعده بقرون جاء السورياليون بلعبهم التي أوحى لهم بصنعها...
بقيت طويلا لا أصدق بأني غفوت على المصطبة حتى الثامنة والدقيقة الخمسين. هرولت الى موقف الباص. انفرجت أساريري ، فها هو يتقدم صوبي . جاءتني مسرة صغيرة : سأفكر بأصدقائي مرة أخرى ، فطريق العودة يستغرق أكثر من نصف الساعة. كذلك قررت أن أفكر أطول ببيكيت ...
استره بارك – آب / أغسطس 2015
ساعات في شباك اللا وجود
عدنان المبارك
- كل يوم هو قليل من الحياة ، وكل استيقاظ قليل من الولادة ، وكل صباح قليل من الشباب ، الا أن كل حلم هو بديل الموت. أرتور شوبنهاور ( 1788 – 1860)
كتبت عن الآخرين كثيرا .لأبدأ الكتابة عن بعض زوايا الداخل التي أهملت لزمن طويل. في أواخر العمر انتفض شوبنهاور فيّ , قرأته كثيرا لكني وجدت مؤخرا أنه كان محقا على طول الخط. عاش اليومي كألماني كما أنا الآن كأوربي. لكن عدا اليومي أبصر كل الأشياء بأكثر من عينين. في زمن المراهقة وأولى سني البلوغ أخافونا بشوبنهاور بل برجال وديعين ومسالمين أمثال المسيح وكانت وبوذا والرواقي زينون. قائمة الفنانين ( البوروجوازيين ) كانت طويلة جدا. مرة ، ولربما أكثر ، ذكرّتهم بكلمة المسيح عن الساكن في بيت من زجاج ويضرب الآخرين بالحجارة. أعترف بأني لم أكن حذرا في فترة الشباب بل لغاية الشيخوخة ، في الاستماع الطويل الى المسيح. لكنها كانت ذنوبا صغيرة عامة. ومنذ أسابيع أنام وأستيقظ وأمامي صورة الفيلسوف الألماني. هذا الصباح استيقظت مبكرا. لا أعرف السبب. أكيد أني كعجوز لست بحاجة الى كثير من النوم. خرجت في العاشرة من البيت. وجهتي الباص الذي يخترق تلك الغابة الساحرة. سأقضي النهارهناك وجزء من الليل. آخر باص من هناك يعود في الساعة التاسعة. تذكرت أن هناك مصطبات وطاولات في الغابة. عملت كم سندوتشه وملأت الترمس ببيرة البرميل. تلفنت الى مجيب ، وهو كاتب عراقي مرح يبيع روحه مقابل كم نكتة وشائعة. اعتذر بسبب وجع معدة يفتك به. فكرت بأن الوحدة في الغابة مبتكر قديم للإنسان. قبل كل شيء سأتجول هناك ثم أجلس مع البيرة وأتذكر ، كعادتي ، كل الأمور السيئة وليس في حياتي وحدها. الانفصال عن الواقع مرض قديم ، لكن أمراضا شتى تحاصرني من كل الجهات ، وليكن معها هذا أيضا.
تجولت وعدت الى مصطبتي المفضلة التي تنشر فوقها شجرة صنوبر ضخمة أغصانها التي تبدو مثل أيادي عملاق من احدى الأساطير السكندنافية. شربت قليلا من البيرة وها أن كل كوابيس العراق أخذت تحاصرني من جديد : لو أن هذا لم يحدث لحدثت نكبات أخرى ، لو أن صدام رضخ للأميركان وصحبهم الاسرائيليين لما حدثت الحرب الأخيرة ، وقبلها لوجاءه ( صوت العقل ) لما غزا الكويت ، ولو تقبل بهدوء رواقي ما يضمره الملالي لما أستعرت الحرب معهم. لو تصفح التأريخ ولو قليلا لعرف بأن المصالح هي فوق كل شيء ، أكيد أنه عرف بهذه الحقيقة لكني تذكرت طائراته التي قصفت جزيرة مجنون حيث كانت ثغرة القوات الإيرانية. لسد الثغرة أفنى عددا لابأس من الجنود العراقيين هناك. لو لم يحصل كل هذا لعاش الناس بلا خسارات في الممتلكات والأرواح. و لو لم يكن يتيما و( شقاوة ) لما حدث كل هذا. الغيظ والحسرات المتوالية حرمتني من طعم السندويتشات والبيرة. قبل أسبوع خلع سنّي طبيب عراقي. قال هذا الشاب بالغ الهدوء : ( ليس بالغريب اذا وصلت هجرة العراقيين الى الأسكيمو. سادية " الجماعة " ، أستاذ ، لاتشبع ). عشب الغابة أخضر ، أشجارها خضر ، لا أعرف متى تصل الخضرة الى السماء والرب. بهذه الصورة غير المعقولة أوغل في التفكير. خسرت معركة أخرى : الهاجس العراقي غيور كثيرا يريد هيمنة مطلقة لكني أصبح أحيانا كمن أزيح عن صدره ثقل أكبر من صخرة سيزيف ، حين أروح مع أفكار أخرى. حتى هذه توميء بكل قسوة وتشف الى حفر الماضي التي وقعت فيها ، الى كل ذلك الزمكان البريء لكن المقفر في كثير من مساحاته.
بقيت في الغابة لأكثر من عشر ساعات. أستمعت الى تسجيلاتي الموسيقية ، فالطبيعة في الغابة افترقت عن الريح وعمّ السكون الذي هبط ، كما خيّل اليّ ، من سماء مجهولة. في طريق العودة فكرت بأن هذا الاحتقان يدفعني الى مشاعر متطرفة : كمد التذكارات القديمة والصفاء المترجرج للحاضر الذي منّ عليّ بهذا التسجيل الموسيقي وذاك. فوك النخل فوك ... مختارات من باخ و موتسارت وشوبان وبيتهوفن. صعدت نشوة الموسيقى الى اليافوخ. نهضت وأخذت أرقص تانغو حزينا فهمت من همسه أن لا حدود بين الوجود والآخر : اللاوجود. خيل اليّ أني فتحت قفص اللاوجود وخرجت الى الآخر مهرولا ! لا أعرف كيف هو هذا اللاوجود. ربما يقترن عندي بتصور لهروب الى مكان لم يكتشفه ألمنا المشترك.
أفكار عن شوبنهاور، معضلة التجريد والتشخيص، قدوم مفترض لغودو... وللدقة كانت هناك أخرى لا تخلو من الاضحاك كأن أتحول الى سمكة في بحر تحت الأرض ! أوأن يأخذني صديقي ع. ك ويضعني مع قرد صغير مرح على غصن عال في احدى أشجار مملكته الحيوانية ، أو هلوسة عن لقاء مع أصدقاء قدامى أمثال صاموئيل بيكيت وهيرونيموس بوس ولويس بونويل وسقراط . في الحقيقة هؤلاء أصدقاء اعتادوا على المجيء اليّ بعد منتصف الليل كي نعربد نكاية بالوجود كاملا ! لكنها نكاية صغيرة حسب ، فالحصار لا تفكّه العربدة. الوجود. الكل يعتبر الوجود حالة إيجابية يكون العدم نقيضها. شوبنهاور العزيز ينعت الحالة بأنها عالم المخيلة / التصور. خلافا لإرادته لا أجد في العدم نفيا مطلقا للوجود. وحتى أن العدم لا يكترث لهذا الأمر. انه المرحلة الأخيرة وكفى !
لقاءات منتصف الليل ليست بين أصدقاء. غودو أعرفه من زمان .ها هو جالس الآن مثل التمثال لكنه قلب تصوري عنه رأسا على عقب. هاديء يميل الى الوقار، ومن النوع الصامت. بونويل يقلقني بنظراته الثاقبة. مرة واحدة سمعته يجدف بصوت عال. كان غاضبا خلال أكثر من لقاء. قال بما معناه أن الموت اختطفه قبل أن يحققق بضعة مشاريع فلمية. تكلم طويلا عن واحد منها. كالعادة يغلف أفكاره الحقيقية بأخرى شبه بريئة ، وهكذا كان مشروعه الفلمي عن كيف تحاكم الله هيئة قضائية (محايدة ) من مختلف القوميات. قال بأنه كملحد ، و( الحمد لله ! ) سيكون محامي الدفاع عن الله. ظهر الشاطر حسن أيضا. كان بريئا على طول الخط لكن هذا لايعني بأنه عديم المكر ولا يعرف التأني في التفكير. بعد كل لقاء مع هيرونيموس بوس لا أشعر بالشبع ولا الارتواء. هل كان خائفا أم أراد أن يضحك على الجميع حين عمل تلك اللوحات التي خلط فيها الفاحش بالجليل.
هكذا أنا دائما . تفكيري يخترق شتى المواضيع . أفكر في آن واحد بشوبنهاور وإشكالية التجريد والتشخيص ( كتبت بضع مرات عنها لكني اكتشفت قبل كم يوم بأني لم اعطها حقها كاملا ). هناك زوار دائميون هم أكثر واقعية في أحلامي وليس في اليقظة. بعضهم بالغ العصبية وحتى أنه يصرخ مهددا ويتهمني بأمور لم أسمع بها أبدا. لكن في الغابة كانت الغلبة لأمور أخرى. بهذه الصورة تذكرت بأني أخذت معي كتابين عن التجريد والتشخيص والرياضيات ورواية الروسي فكتور بييليفن ( حياة الحشرات ) من عام 1993. هناك روايته الأخرى (جيل بي P ). ، قيل أن الفلم المعتمد على الرواية كان من اثارات عام 2006. لم أقرأ هذه الرواية ولم أشاهد الفلم. بونويل أغرم بكشف عورة الشر. ونجح على طول الخط. بيكيت الصادق أكثر من كل رسول طرح بكل كبرياء وصفة ثمينة حقا : كل هذا لعبة فاشلة وهيهات أن تكون هناك مسرة حقيقية. حشرت الكتابين من جديد في ( حقيبة الظهر )، وأخذت أتصرف كايّ متنزه ، أبحلق في الأشجار والطيور وأتابع قطرات ندى الصباح المحتضرة على العشب. كذلك أخرجت السندويتشات وترمس البيرة. هذه البيرة قوية. بالطبع أخترتها عامدا. ففي الغابة يحلو الانتشاء. حين بلغت الثامنة عشرة اشترى أبي قنينة بيرة ديانا احتفالا بعبوري امتحانات الإعدادية. لم تكن الأم راضية. قال لها : البيرة بريئة وليس مثل عرقي الذي تلعنينه كل ليلة. حينها ضربت البيرة رأسي بقوة وجاءني شعورغريب بأني سكرت. طمأنني الأب بالقول : ( البداية هكذا دائما . نشوة البيرة تتبخر بسرعة ). الذاكرة تفسد كل متعة. سيكون شيئا رائعا ومفيدا لوأخترع العلم أداة تفتح الذاكرة وتغلقها حسب الطلب. شربت أكثر من نصف بيرة الترمس وتمددت على المصطبة على أمل أن أغفو قليلا. هذه المرة نجحت وتسللت الى مملكة النوم التي تنسيني كل فظاعاتنا. آخر وجه أبصرته قبل نزولي الى المملكة كان لهيرنيموس بوس المغرم بالرمزية التي كرسها لخطايانا وأحوال نقصنا. بعده بقرون جاء السورياليون بلعبهم التي أوحى لهم بصنعها...
بقيت طويلا لا أصدق بأني غفوت على المصطبة حتى الثامنة والدقيقة الخمسين. هرولت الى موقف الباص. انفرجت أساريري ، فها هو يتقدم صوبي . جاءتني مسرة صغيرة : سأفكر بأصدقائي مرة أخرى ، فطريق العودة يستغرق أكثر من نصف الساعة. كذلك قررت أن أفكر أطول ببيكيت ...
استره بارك – آب / أغسطس 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق