الاثنين، 28 سبتمبر 2015

هبوط خاطئ-عدنان المبارك




هبوط خاطئ


-  في كل فوضى هناك كون ، و في كل اضطراب هناك أمر سرّي. كارل يونغ ( 1875 – 1961 )
عدنان المبارك
      ( لا أصدق بأني هنا ، فهذا مكان غريب وحتى أني لا أعرف الى أي بلد يعود. دلائل كثيرة تشير الى أنه من بلدان البحر الأسود. لكنها ليست قاطعة. فلغاية الآن لم ألتق بأحد من هنا. كنت في سيارة قديمة. ( اشتريت ) مقعدا فيها. في البدء تصورت بأني أحلم  لكن هذا المكان الغريب يؤكد على أني في يقظة. هو شبه مقفر.غابة صغيرة وحقول مهجورة وفي الأفق مياه زرقاء. ربما هناك بحر أو بحيرة أو مستنقعات شاسعة. في كل الأحوال لدي اقتناع بأني لا أزال في هذه القارة. بضعة بيوت توحي سقوفها بأنها عرفت الثلوج أكثر من مرة. سقوف الجملون لايعرفها الجنوب.لا أجد أمامي طريقا آخر غير المضي صوب هذه المياه. أربعة أو خمسة كيلومترات بيننا ، لأمض ، فقد أعثر في الطريق على بيوت أو إشارات أخرى على وجود الانسان. كنت في موقف شبيه بهذا . متى ؟ عشر سنوات ؟ عشرين سنة ؟ لا يقين عندي.زقد يكون محض خيال  أني كنت أعمل في شركة أجنبية تحفر قنالا يربط بين نهرين. منطقة صحراوية لاتنخفض حرارتها لا في النهار ولا في الليل. كنا نقلي البيض على غطاء محرك السيارة. نشرب الماء بلا أنقطاع. لكن في المساء يغني مهدي لنا ، وكان شاعرا ومصورا ، بوذيات وعتابات وبستات عراقية قديمة. ولد ثوريا ، وأظنه لغاية الآن يحمل في داخله تصورات غير واضحة تماما عن ثورته رغم اجتيازه الثمانين من العمر.الشمس هنا رحيمة ، الطقس معتدل. لا أعرف في أيّ فصل أنا الآن. ربما الربيع أو مطلع الخريف. أو عزّ الصيف. في الجغرافيا أنا أسوأ من  رجل أميّ. أخلط الأسماء والبلدان بل القارات .لا أظن أن شيئا أو أحدا يهددني في هذه البقعة. في كل الأحوال ليست هذه صحراء بل أرض صغيرة تعرضت للقحولة لاغير ، وعموما صرت أخترع في كل بضع دقائق قصصا خرافية عن ربط نهرين وكل هذا الكلام الذي لا يصدّق...
     انتبه الى ذبذبات صوتية  في كوعه الأيمن. جاءته رسالة جديدة: ( نقلنا زرّ الاتصال من كوعك الى شحمة الأذن اليسرى. كن على استعداد دائم ). اذن هكذا هي الأمور ! في جوانب معيّنة نحن لا نختلف عن الأفعال البشرية !
      ركّز التفكير الآن على ( ورطته المكانية ). المخرج هو في وصول إشارات من المركز. أكيد أن المركز لم يقطع عنه هويته الحقيقية وكامل تأريخه على سيّارهم الذي انتبه الآن الى أنه من الكواكب السعيدة ، وما يزيد من السعادة أن كواكبا هادئة بالجوار. كان واثقا من أن وضعه سيستقيم قريبا خاصة أذا أعلمه المركز أين هو الآن ، وذكّره بمهمته على هذا السيّار التعبان. أكيد أنها ليست بالمهمة الخطيرة. فهناك آخرون يصلحون لمهمات من هذا الصنف.
      وجد أنه من الأصلح أن يستلقي تحت تلك الشجرة العجفاء، فمطبّات الطريق حين كان في تلك السيّارة أخذ يشعر الآن بما فعلته به. قبل أن تجيئه المعلومات من المركز  تذكر بأنه أخذ من السيارة  كتيبا تركه أحد الركاب. أخرجه الآن من الجيب الخلفي لسرواله. عنوان غريب : ( ابتسامات مع تيميس ). فهذه الربّة اليونانية لاتعرف الابتسام كما ليس من مهامها أن تبتسم. الكتاب قديم أيضا فهو يعود الى العقد السادس من القرن العشرين أي حين كانت أنظمة أخرى في شرق القارة. فكر بأنها أنظمة في منتهى السذاجة بل تبدو كأنها تتجاهل حقائق أساسية تخص هذا اللبون العاقل. أنتبه الى أنه كتاب ممزق كثيرا لكن يمكن قراءته. لغة الكتاب يمكن فك لغزها. لغة سلافية من وسط أوربا. قطع التفكير بالكتاب ، فها أن المركز أعاد الاتصال معه : ( أنت في منطقة البحر الأسود ، بالضبط في غرب تركيا. حصلت تعديلات على المهمة : تتوجه الآن الى الشمال. خذ استراحة. لديك كل المعلومات عن كتابك خاصة. كل جواب على كل سؤال تجده عند الضغط على شحمة الأذن. سنعيد الاتصال. ). المركز سدّ قنوات الاعلام عن هويتي و كامل تأريخي. لايهم ، هم يعرفون أحسن مني. وليس بالسيء اذا ابتسمت الآن مع تيميس. الاستلقاء تحت الشجرة مريح حقا.
      أفلح في قراءة الكثير من مقدمة الكتاب الممزقة وخاصة جملته الأولى : ( الناس الحكماء  يقولون بأنه في الآراء والأحكام تنعكس ، وكما في المرآ ة ،  الحياة المعاصرة وبكل مظاهرها ، اذن : على القضاء أن يحسم النزاعات والمآسي والأوضاع المعقدة. وهنا لا تخلو المسألة من التماعات لمملكة المرايا...)   غريب أنني صرت أفهم كثيرا ما في داخل هذا اللبون وادمانه على مشاهدة الأوضاع المضحكة التي قد تبدو غريبة على القضاء - هذه المملكة التي أخترعها
...  )

 *  النص أعلاه عثر عليه في حاسوب مكتبة عامة ، ولايعرف لغاية الآن كاتبه. على أكبر احتمال قام بوضعه كاتب مغمور لكنه لا يفتقد مثل هذا الخيال. في الحاسوب وجدت ملاحظات لم يتسن للكاتب الاستفادة منها في أكمال القصة. وأنا كناشر لهذا النص كاملا ومن دون أيّ تعديل  أجد أنه يستحق النشر ، ولو من باب الكشف عن وجود مثل هذه الميول في أدبنا الذي هو مثل الحمار الحرون الذي يلتهم ما يعطى له من علف ولايريد طرق درب آخر غير المعتاد.
كانت هناك ملاحظات عن الكتابة في هذه القصة :
- سبق للكائن الغريب أن زار الأرض في العهود المبكرة من ظهور الانسان. هذه حقيقة أخفاها عنه المركز في البدء رغم أنه في رأس هذا الكائن  كانت هناك أشباح ذكريات عن الزيارة الأولى.
– المركز يقترح ، بل يأمره بالبقاء على الأرض كي يرفع فيما بعد تقريرا عن الفناء التام لهذا السيّار من جراء حروب متتالية وكوارث في درب التبانة، وكل هذا جاء وفقا لحسابات دقيقة في مؤسسة ( الرياضيات العليا ) لكوكب المخلوق. المركز يذكر بأن خطأ حصل في الحسابات أيضا ومن هنا الهبوط الخاطيء للمخلوق المذكور في القصة أعلاه  على الأرض .
-   جاء أيضاح تال  للمخلوق : المركز لم يذكر واقعة زيارتك السابقة للأرض كي لا يربك هذا الأمر الجهود من أجل الوصول الى الحقيقة الموضوعية.
-  قرارالكائن : أريد البقاء على الأرض. فهذا الكوكتيل / السيرك البشري  يفزعني من ناحية ومن جهة أخرى يحفّز  (الخيال ) وفق تعريفنا وليس الآخر البشري. ومن هنا رغبتي  في ابدال كل شيء فيه غريب على طبيعة الانسان وبايولوجياه. بالفعل . صار رجلا حقيقيا ولد على هذه الأرض و مرشح للقيام بمختلف الأدوار بدءا بصيرورته زعيما أو مشردا يفترش الرصيف، في بلد آخر أو نزيل دارالمجانين وهلم جرا .
- من الضروري أن لا يكون خيار واحد عند كتابة القصة. فلاشيء يثير الخيال  مثل أغواء الامكانيات.
- أنا كاتب  بالصدفة لاغير... وكوني غيرمقروء كثيرا يفتح أمامي واسعا باب اللعب واللهو في هذا الحقل من نشاط الانسان والذي ينعت بالمتسامي...
-  لم يبق لي شيء غير هذا الخيال الذي وهب لي من دون مقابل. في الحقيقة أنا ضقت ذرعا بهذا الأدب وخاناته التي يريدونها أن تبقى الى الأبد. بأختصار : طز على الخانات والقوالب وأسواق الغرور الأدبية. رغم كل شيء سأكمل هذه القصة حال  تصليح حاسوبي التعبان ، فالذهاب الى المكتبة العامة ليس بالأمر البسيط على واحد أنهكته كل مكائن هذا الجسد الذي يخال اليّ بأنه لا يعود لي بل استبدلوا  ، خفية ، به جسدي الذي خرجت به من الرحم.  نعم ، سوف لن ألهو بالأدب فقط بل عليّ بهدمه على حد تعبير خوليو كورتاثار لا فض فوه ...

أستره بارك – أيلول / سبتمبر 2015












ليست هناك تعليقات: