الثلاثاء، 29 سبتمبر 2015
الاثنين، 28 سبتمبر 2015
في نصوص علي النجار التشكيلية مخفيات اللاوعي بين الاغتراب والمنفي-عادل كامل
في نصوص علي النجار التشكيلية
مخفيات اللاوعي بين الاغتراب والمنفي
عادل كامل
[1] ملامح
إذا افترضنا ان حياة الرسام تنقسم إلى قسمين، وأحيانا ً إلى مراحل، ففي الأولى يسهم الرسم بصناعة الرسام، وفي الثانية، يصنع الرسام الرسم. وقد توجد مراحل أخرى يهدم فيها الرسام الرسم، أو يهدم الرسم الرسام...، فان تجربة علي النجار، التي بدأت عند تخوم تجارب الرواد في التشكيل العراقي الحديث، في خمسينيات القرن الماضي، ثم اشتغلت بمعالجات تخلت عن (المراحل) كي تمارس عمليات البناء/ الهدم، والهدم/ البناء، انطلاقا ً من مشروع يقف على الضد من: البذخ، التمويه، القناع، المدح، توخيا ً للبقاء شديد الانحياز لتأملاته، وصدقها.
ربما نقول: إن كبار الرسامين، أي المشتغلين بالرسم، عبروا من الواقع إلى الرسم، وفي الوقت نفسه، مهدوا لنا كيف نُستدرج للعبور من الرسم إلى الواقع، لكن الأخير سيضعنا إزاء تجربة تحولت إلى خبرة على صعيد الألوان، الفضاء، الرهافة، الرموز ...الخ، لأنها ذاتها هي التي ستتميز بعلاماتها، أو بما تتركه من اثر، وأصداء، إزاء المجهول. فالتاريخي يكمن عبر نسيج النص، اللوحة، كي يمارس النص الفني الإقامة في المسافة ذاتها التي شغلت كيان الفنان، لكن هذه الإقامة عندما تدمج المراحل، والعمر، بدءا ً بالطفولة، والعذابات اليومية، والسكن في المنافي، ومواجهة العلل، والتحولات، والمتغيرات، تعدو موقفا ً إزاء العالم، بعد ان يكون الفنان قد صهرها، شذبها، وأعاد صياغتها، عبر ذروة ستشكل مرحلة ممتدة عبر هذه المفازات، كي تزداد صفاء ً طالما مكث الفن يدوّن ما هو منوع، ومركب، وحدسي، ومتداخل، لصالح الصوت النائي الذي لم يقدر العالم بأسره على محوه، كي يعيد بناءه، كما تضمنت الآثار ذاتها التي صنعتها الأساطير، بتحولها من الواقعي المحسوس، واليومي، إلى الافتراضي، والمتخيل، كي لا يتقهقر هذا إلى الأصل، بل كي يصير أصلا ً آخر، ينبثق، مثلما يعيد كل موت لغز بذرته العنيدة، عبر مشفراتها، وآليات عملها، بموت غير محكوم إلا بالمعادلة ذاتها للظلام ـ وطاقته، وهو العدم وقد غدا ممتدا ً، إلى وجود مكّون بالوضوح الذي حفر في مستحيلاته.
فما تلخصه تجربة أكثر من نصف قرن، عند علي النجار، من لوعة ومسرات، حساسية وصدمات، صخب وفراغات، قسوة وهشاشات، بوح وصمت..الخ، يمكن ان يقارن بإعادة قراءة جدار رسّم إنسان الكهوف فوقه كل هذا الذي يمتلك الأصل وضده، الوجود ومخفياته، آلامه ومباهجه، غموضه وما هو اشد غموضا ً، ما قبل العضوي وما بعد الزمن: هذا الانشغال بما حول المحو إلى ضوء، والغياب إلى حضور، وكأنه يؤدي ما كان يؤديه المرتل في صلاته عندما منحت الآلهة نفسا ً من أنفاسها، وأرسلته بإناء، وقد وضعته في قلب الإنسان. فالمندثر يتشبث كي لا يكون إعلانا ً، أو دعاية، أو علامة للعبور...، بل احتفاء ً ـ ربما ـ بما تداخلت فيه الأزمنة، وهي تحافظ على زمنها الفريد، النائي، الخاص، الذي عاشه الفنان، ودوّنه، مثل من لم يفقد الأمل، حتى لو كان افتراضيا ً، ووهما ً، أو طيفا ً من الأطياف، كي يكون الرسم إقامة لم تترك أثرها حسب، بل راحت تدعونا للاحتفاء بإسرارها وبأسرار الرسم،، بملغزاتها وبما كتمه الرسم وما أعلن عنه: انه الرسم الرسام، معا ً، وهما المسافة الفاصلة بين المسافات، لكنها أبدا ً لم تعمل إلا بحضورها، في كلية الغياب.
[2] أزمنة
لم يتم دحض احتمال أن الفن ظاهرة غرائبية، حد المرض، أو الجنون، كما فعل الرسام الهولندي (روبنس)، بالرغم من أنه سيصبح قديسا ً للرومانسيين، وللمدرسة الرومانتيكية، بعد قرن، فقد استعاد فكرة: ان العقل السليم في الجسم السليم. لأنه سيرسم موضوعاته وكأنها في احتفال، إنما ليس كما فعل الرسام (بوش)قبل قرنين، عندما عرى مآسي محاكم التفتيش، وصور الإنسان في القاع. لكن روبنس، كما سيصّور الفنان الحديث، احتمى بالجسد، وجعل منه علامة بالغة الترف، والنشوة، والكمال. فروبنس لم ْ يأت بسلطة جديدة للفن، بعد أن ثبت عصر النهضة: مكانة الجسد، استنادا ً إلى موروثهم الإغريقي. ففي عصر روبنس، كانت سلسلة من الخرافات قد استبعدت، فلم تعد الأرض مركزا ً للكون، على سبيل المثال، كما كان التشريح، في الطب، قد أسهم بنبذ الشعوذة، وطرد الساحرات، بسيادة تطبيقات العلم الحديث، وتدشينات العقلانية الحديثة. ولم يكن لدي روبنس إلا أن يصّور الحياة الجديدة، منذ القرن 17، بعد الازدهار التجاري ـ وبدء الثورة الصناعية في أوروبا، إلا أن يتبنى موضوعات المسرة، حد البذخ،، ومتع الحياة، بعيدا ً عن رؤية المشهد بكليته، وفي جدله. فلم يكن الجسد مأوى للشيطان، أو وصمة عار، أو علامة تدني. لقد أعاد له، كما فعل الإغريق، كماله، وتناسقه. فنصوصه النشوانة لم تعد تنظر إلى العالم الآخر، النقيض، المختلف، الذي رآه (رامبراندت)، ولا (دورر) قبل ذلك، بل راح يصور سعادته ـ كسفير لهولندا في لندن حتى في فترات الأزمات ـ عبر البذخ النادر للحواس، وجماليات النشوة، ورهافتها، مع تجاهل محرمات الجسد، وحشمته القديمة. ولم يكن نموذجه لجسد المرأة، إلا ليمثل الوضع قبل الطرد، ممتلئا ً بالحياة قبل أن يصدعها الآخر، ولا المرض، ولا الشيخوخة، ولا الزمن نفسه. كانت لوحاته تمجد ازدهار (السلطة) وخطابها، وليس العكس. ليمثل فنه ريادة منحت الجسد حقوقه، خاصة، أنه لم يترك تفصيلا ً إلا وبلغه؛ لتبدو واقعيته من صنع المخيال، ولا علاقة لها بالمشهد في كليته. فالمقدس العنيد، منذ الآن، لن يحجب ولن يستر خلف أقنعة، أو قشور. لأن (الحقيقة) عارية، وهي حقيقة ما قبل تدخل الزمن/ والشيطان/ في واقعة ارتكاب (الإثم)، أو تذوق ما كان يجب أن يبقى نائيا ً، ومحرما ً. روبنس، بآليات لاوعيه، سمح للحياة أن تمتد خارج التابوات، فصورها كمعطى خارج الدحض، والاستلاب. فالهدف ـ هنا ـ ليس سقوط الجسد، والعقل السليم، بل كمالهما.
[2] الزوال بوصفه ديمومة!
بيد أن تاريخ الفن، منذ انشغلت الأصابع برهافتها، قبل مليون سنة في الأقل، لم تهمل كون الجسد أول تدشين لغاية ستّولد وسائلها، حقبة بعد أخرى، ألا وهي أن هذا الجسد، ليس رمزا ً فحسب، بل معطى للوجود بمخفياته، الأمر الذي جعل المشفرات تبقى تحافظ على آلياتها النائية، وسيكون من الصعب فك عملها بأدوات ـ هي في الأصل ـ خاضعة لمجموعة شائكة من المخفيات. كما ستشكل حماية الجسد ـ من الألم والوهن والموت ـ محركا ً للتطبيقات العملية لديمومته. مما سيولد لغة رمزية ـ من السيف إلى الوردة ـ على نحو يغدو فيه الفن أكثر التصاقا ً بالجسد ذاته. بوصفه المستلم والباث في ذات الوقت. فالميت سيترك جسده رهينة، كي تعود إليه روحه (نفسه)، الأمر الذي جعله يسن نظام حمايته من التلف. فما معنى حياة تتعطل فيها الأعضاء؟ وما معنى لوجود الفن ـ من مثلث الرمح وخرز القلائد وزخارف الأساور إلى حزام العفة...؟ ومن الأواني إلى ماموثات المغارات وغزلانها وصولا ً إلى حداثتنا ـ لو لم يكن وجوده مقيدا ً بأنظمته نفسها: البيئية/ الاجتماعية/ والنفسية..؟
علي النجار، منذ نصف قرن، ـ وبصفته وريث حضارة عراقية منحت الجسد موقعه في الخطاب الحضاري/ الفني، سبقت الرومان، وعصر النهضة، والحداثة الأوربية، بألفي سنة ـ سيجد في الجسد إشكالية فلسفية لا يمكن فصلها عن الفن ـ ولا عن رؤيته الوجودية. فالجسد استحال كيانا ً معرضا ً للأذى، بعد أن أستمد وجوده بوجود عناصر أرضية (الطين/ والدم/ مع هبة منحتها الآلهة إليه وهي (النفس): وربما هي الروح أو ما يميز هذا الكائن عن أقرانه، من النبات والحيوان. إنه وحده، النموذج المركب من معادلة ثلثيها من الأرض ـ وهي المحكومة بالفناء ـ وبثلث من السماء، يصعب تحديد ماهيته، أو دوره. فأقدم نص عراقي (جلجامش) سيعالج إشكالية انهيار الجسد (موت أنكيدو)، ومنح (العمل) أقدم مفهوم مجتمعي كي ينتج فيه الإنسان مصيره، هو بمثابة تفكيك للغز الجسد، وإشكاليا ته. وعلي النجار لم يجعل الجسد نموذجا ً لخطاب الاحتفاء بالحياة، ومجدها، بل ملاذا ً، وحماية من: الآخر/ ومن الزمن. فالبعد الفلسفي ـ السيكولوجي، الرمزي، سيسمحان لعلي النجار التوغل في الأقاصي: الاحتماء بما هو قيد الزوال، والتجول في مساحات المتاهة: اللاوعي، لتصبح الأرض مض ممر نحو اللاحافات، حيث المحنة ليست تاريخية أو من صنع المتضادات البشرية فحسب، بل كامنة في اللغز: هل الآلهة ـ بما تمتلكه من لا متناهيات ـ بانتظار وجود كائنات زائلة تؤدي لها ولاء السيادة ـ والامتنان؟ إنه ليس منهجا ً في الشك الفلسفي، بل في الإنسان ذاته فهو ليس مثالا ً ـ لا أشور ً يقود، ولا رومانيا ً إلى التكامل، كما لا ينتمي إلى مسرات (روبنس) ومنهجه المقترن بالمجد الأرضي وعالمه الباذخ بالشهواتـ والنعم، وإنما إشكالا ً لن يمتد إلا بتكرار الامتداد، لحظة أثر لحظة، بزواله. حتى أن النص الفني، في هذا السياق، لا يهمل رمزية التشبث بالخالد، والأبدي، كقناع لحتمية الاندثار. علي النجار، لا يزخرف محنته، ويزوقها، ولا يتوارى فيها، بل سيدّون (يرسم ويحفر) تاريخ عراك لهزيمة لا يغدو فيها النصر إلا أثرا ً ، ملاذا ً تذهب إليه الأصابع علها تجد لومضات القلب سكننا ً، حتى لو كانت المسافة برمتها، ليست إلا الزوال ذاته.
[3] الأثر: تدوّين المخفيات
لم يكرس علي النجار فنه، للاحتفال، كما ستتعمق النزعة الباذخة في الرسم العراقي، بالحياة، في الوقت الذي كان من الصعب تلمس مظاهر واقعية للعصر الحديث. كانت تجربته تضعنا في مجال آخر: ليس الارتداد أو النكوص، بل قراءته للحاضر بعد إزالة قشوره. فالأقنعة ـ إذا لم يكن الخطاب الفني برمته بعيدا ً عن البرمجيات البكر ـ ليست إلا ـ كاللغة ـ لا تذهب أبعد من أنظمتها النائية، إلا بالترميز والتشفير الذي يعمل بديالكتيك المحركات ـ الأشكال. إن علي النجار، منذ البدء، لم يحتفل بالطبيعة، ولا بالجسد، ولا بما هو مغاير للوجود بصفته إشكالية. وكمقارنة للمعنى ـ هنا ـ فلإشكالية لن تنغلق عند مسار أخير، إنما تحافظ على صلاتها بما ينبثق عبر العصور، الأمر الذي منحه، في تجاربه الأولى، منهجا ً في الحفر: لا فوق الجدران القديمة، أو في مخفياتها فحسب، بل في الجسد الذي سيحافظ على موقعه بين العناصر ـ والتصورات. فالفنان لا يتكلم، لأن الرسم ليس وسيلة أو أية في ذاته، بل ـ هو ـ محاولة لتحقيق الوجود ذاته وهو غير قابل للتحقيق. فالجمال لن يصبح عاما ً، كقوانين راسخة، بل جزءا ً من موقف ـ وعصر، مع انشغال بمحنة وجوده، ومحنة تدمير هذا الوجود. فالفنان لم يعلن منهجه إن كان واقعيا ً أو مثاليا ً، بل عمل وكأنه أمسك بالجدل كي لا يتحول (الموضوع) إلى: أشياء، وإنما ليحافظ على ديناميته، بما فيها من بدائيات غائصة، ومحكمة، ومعاصرة. لقد قلت (كأنه) بدل منحه اليقين، لأن رهافة الفنان لم تعمل كعمل الواعظ، أو لتجعل من الحكمة منهجا ً لها، بل على العكس: يعمل الفنان بحرية حتفه: تلك المواجهة مع عالم وجد نفسه فيه، مراقبا ً لمعادلات لن تترك لهذه الحرية إلا أن تأخذ موقعها من الإشكالية: وجود لا يجد حمايته إلا في سلاسل دفاعات جميعها لن تترك إلا أثرا ً لهذه المواجهة. فالفنان يترك حواسه جميعا ً ـ أصابعه وجسده وبصره ـ وخاماته، تدوّن عمق المأزق: استبصار ما يحدثه البصر من تعرية للسطوح، والأبعاد، في تصوير علامات النص، وعملية نسجه. الأمر الذي جعله لا يشبه إلا نفسه، بعد أن أختزل تاريخ الرسم التعبيري/ والمشفر، وما لا ينتسب إلى مدرسة محددة. فهو يتتبع خطاه في تلمس مساحة المنفى، إن كان في الجسد، أو في الأرض التي ولد فيها، أو في مدن الحداثات وما بعدها. إنه لم يبد إعجابا ً بالطبيعة، أو بكائناتها، ومنها الإنسان، إلا وقد تحولت إلى وجود لازمة (مأزق)، مع وجوده، في نصوص لن تصبح (علامات) إلا بصفتها تحافظ على مشفراتها، بدل التباهي بالعثور على خلاص. إنها تناور مضمونها بأشكال تخص عمل الزمن نفسه، مثلما إنها تحمل علامات شاهدها ـ شاخصها أيضا ً. فالرسام لن يكف عن تتبع اللامرئيات كي تأخذ موقعها في النص: المخفيات وقد كفت أن تحتفل بمجدها!
[4] ممرات الفن: المرئيات ليست خاتمة
لم يبن (سيزان) نصه بحياد، كي يفصل المحركات (المكونة من أشياء) عنها. أي ما يهدف إليه التكوين. فثمة تمهيدات لا تحصى نبه إليها حكماء الأزمنة السحيقة، والفلاسفة، والمشتغلين بـ (الكلمات). فالأشياء بصفتها خالية من الحياة، كأشياء صماء، استبعدت عن ضرورات تدخلها في التأويل. فالفن للفن ليس نزعة باذخة للفن، أو دعوة نخبوية إلا بحدود إعادة معالجة الأسس التي ستبنى عليها الأشياء: الكلمات في الشعر/ الألوان في الرسم/ والخامات المختلفة في النحت مثلا ً. لكن عدم فهم الوجه المخفي لهذا السياق، هو ـ وحده ـ سيمنح النص (والشكلانية برمتها في هذا الاهتمام) بريقا ًكأنه وحده الدال على معدنه النادر. ذلك لأن رسام المغارات، لو استبعدنا أسباب التعبير وأعدنا قراءة النص من الزاوية ذاتها، فانه، هو الآخر، سيكون بناء ً. وبمعنى آخر: كان عمله بمثابة تفكيك/ وهدم، للأشياء إعادة وضعها في موقعها من نصه.
علي النجار، قبل أن يستند إلى حفريات اللاوعي ـ واللاشعور، لم ينشغل بالزخرفة، والتنميق، والتكوين لصالح جماليات الفن (الباذخ) بعيدا ً عن موقعه في الخطاب الكلي، وليس كأثر في التقسيمات الاجتماعية للعمل. بل انشغل بالنص بصفته شديد الصلة بما يحدث بعيدا ً عن المراقبة ـ والملاحظة. فالأشياء، في نهاية المطاف، لا تبلغ ذروتها في الرأسمالية فحسب، بل في جذورها، وهي لا تقوي إلا على أن تؤدي دورها في العملية البنائية ـ وفي هدمها. وعلي النجار، بصفته من أندر الرسامين العراقيين، والأقل إثارة للضجات، انشغل بالثقافة ـ أي بالإنسان من منظور ثقافته ووعيه للعالم ـ وليس باشياءه، فهو لم يموه بعزل المحركات عن مخفياتها. فلم يستخدم السطوح بعزل عن تلك العوامل التي لا تتم البرهنة عليها إلا علاماتها. فهو: يركب/ يدمج/ يصنف..الخ مفرداته البصرية كي لا يفصل (النص) عن موضوعه المنتقى. إن عدم اهتمامه بالفصل، لم يجعله (شكلانيا ً) وأحاديا ً في عملية البناء الفني. فالجمال ـ والحقل الجمالي ـ حتى وإن كان المثاليون قد منحوها شيئا ً من المقدس، والمتعالي، لن تسامى بعيدا ً عن الدافع النقدي ـ المختلف والمعارض ـ في إعادة بناء ما يتطلب أن تتمثل فيه عناصر التوازن ـ والجلال ـ والومضات الإبداعية التي هي عملية سابقة على تقسيم العمل ـ ولاحقة عليه أيضا ً. فالرسام لا يرسم لفئة محددة، كالنخب الأكثر ثراء ً، أو للسوق، كما لا يرسم للعدم: إنه يرسم ذاكرة كل كائن لن يكرر ـ حرفيات برمجته إلا بتعديلات ستظهر في مهارات الأداء، وتقدمه أيضا ً. فإذا كان النبات يمتلك ذاكرة ـ نواة دماغ ـ في مكان ما من الجذر، فان امتياز البشر، والفصائل المماثلة، غادر عالم الأرض، ومكث في الرأس. فثمة أفق يمتد، من الحواس إلى لا حافات الكون، ستسمح للفنان ـ وقد راح يكون عالمه بالإشارات والرموز والمشفرات ـ كي لا يبني نصا ً أحاديا ً، لا باذخا ً ـ كنصوص روبنس ـ ولا نصا ً للاستهلاك، بل متوازنا ً بين خصوصية الفن، والمتلقي؛ نصا ً ليس بصفته (سلعة) محض، بل بما يمتلكه من أبعاد تجعل الوعي فيها، فاتحة لتدشينات تجعل (الأشياء) جزءا ً من العملية الإبداعية،وليس نهاية لها.
[5] المندثر ـ ممتدا ً
قبل أن يمسك رواد السوريالية بما لفت نظر (فرويد) إليه، حول العالم الغاطس، المسمى باللاشعور؛ المخزون والمكبوت والمجمد في الوعي (الدماغ)، كان اللاشعور لا يعمل بمعزل عن اللاوعي منذ حصل ان دشنت الحواس عملها في العلامات الشبيه بالفن. فما هو (تحت) في الذات، بحسب التجربة، وبما في اللاوعي، بحسب آليات عمله الكلي، كانت النصوص الاستثنائية تحقق تقدما ً في عمليات البناء. فالحقائق وحدها ـ كي تكتسب هذا المجد ـ تمتلك قفاها، ونفيها، وكل ما هو متوار ٍ بعيدا ً عن السطح. علي النجار، لم يرث من أسلافه، منذ فنون سومر وحكمتها، وحضارات الشرق، التصدع البشري وحده، بل، أكثر من ذلك، إشكاليات الإقامة في الوجود ذاته. فالحريات محض علامات خارجية للغاطس بما دعاه (عمانوئيل كانت) بـ: الشيء في ذاته. لقد وجد الفنان نفسه إزاء عالم يعمل على دمجه، وترقيمه، أي ـ في نهاية المطاف ـ على محوه، وعزله عن (كيانه الذاتي) وخصائص تفرده، وما يمتلكه من أبعاد جمالية، وإنسانية، غير زائفة، الأمر الذي جعله أكثر عنادا ً في الاشتغال من (الواقعي) إلى: محركات هذا الواقعي ـ الراسخ، ألا وهو اللاوعي الذي تكون عبر أزمنة طويلة للغاية، داخل خلايا تمتلك آلياتها في العمل. لكن علي النجار، على خلاف من سمح للأشياء ذاتها ان تستنطق ذاتها، مكث بصريا ً، وديالكتيكيا ً، في إعادة قراءتها. ثمة، هنا، أزمنة قد دفنت عميقا ً في أكثر المناطق سرية، في اللاوعي ـ وليس في اللاشعور وحده ـ راح يحفر فيها، كي يستخرج ـ منها ومن ذاته ـ: كائنات وكيانات وعلامات لا وجود لها في الحاضر، إلا كمخفيات. حيوانات ليست أسطورية، بل سابقة عليها، ونباتات، هي الأخرى، بدت شبيه بالبشر، وأجواء لونية لا تحدث إلا عبر من أمسك بملغزات آليات الأحلام العميقة. فعلي النجار لا يني يزيح حجب تلك الأحلام، حد الكوابيس، ويتركها مرئية: إنها كيانات لم يحولها إلى أشياء ـ وهو الفارق بينه وبين من دفع بالفن إلى جمالياته الباذخة/ الأحادية/ النخبوية في الأخير ـ بل منحها لغزها وهي تثب من ظلماتها إلى ظلمات مضاءة بالوعي: العالم القائم على نظامه السائد: الاشتباك. حيث الأخير يعمل على خلخلة الحواس، والوظائف، لرسم المشهد بعيدا ً عن جاذبيته، ومحسناته. فالفنان لم يعمل عمل المزخرف، لأجل التزويق، بل لأجل الصدمة. فالعالم الغاطس يفتقد إلى الشفافية، لكن الفن، سيجعل من الأخيرة، تعمل كالمعادل الموضوعي الذي تحدث عنه (اليوت) بين الحدود، في معالجة الصدمات. فالفنان يصّور عالم: الغابات/ البراري/ والبحار وقد تداخلت فيها كائناتها النباتية والحيوانية تداخلا ً جعله يستبعد الأشكال الهندسية ـ التي سيرجع إليها بعد أربعين سنة وهو يتفحص الجسد، ويتأمله ـ جسده ـ في المنفى ـ ليتمسك بعملية رصد ما ستؤول إليه تعقيدات تكوّن النصوص، وأشكالها. فالعشوائية ذات النظام السحيق، التي اعتنى بمعالجتها في نصوصه الفنية، سمحت له برؤية عالم يقع تحت ـ في الخفاء ـ داخل وعيه المستحدث. ثمة زواحف، وثدييات لاحقة على النبات، وقد سبقتها مشاهد البراكين، والطوفانات، لمشهد لن يحدث إلا في المختبرات الكبرى، وقد رصدها بعد أن وجد حاضره لم يبتعد ـ إلا بأنظمة التزوير/ الأقنعة ـ عن تلك العصور التي صاغتها قوانينها، وأنظمتها. فالزمن ـ هنا ـ تكومت فيه المسافات كي تبلغ درجة الكثافة القصوى: الصفر. والأخير، ليس بالتأويل، بل بالمشاهدة، كالعدم. ذلك لأن الرسام لن يتباهى بكائناته، بل يصّورها كأجزاء كوّنت لا وعيه ـ وهو لا وعينا السحيق ـ لا في ماض ٍ فان ٍ، بل في امتداده، وقد غدا بلا مقدمات، لكنه كون حاضره الذي أعاد بناءه الفنان، كنصوص كوّنت المشهد، ولم تغادره.
[6] المفنى ـ ومشفرات المنفي
(1) نادرة هي النصوص التي تدوم طويلا ً، إن لم كن تكاملت فيها علل وجودها، ومقاومتها لعوامل اندثارها. والنجار، الذي ظهر في خاتمة عهد الريادة الفنية، وذروتها، في خمسينيات القرن الماضي، لم يجد ميلا ،ً أو رغبة، أو وعيا ً كي يحول فنه إلى علامات للاحتفاء، أو الاحتفال، بل ترك (هويته) تؤكد أن المحو غدا ظاهرة تتطلب المعالجة. فكانت رهافته الفنية قد سمحت له أن يستعيد (حريته) في قراءة الحاضر. وإذا كان الرسم الواقعي ـ كالرواية ـ سيجد دحضا ً أو سلسلة من التحويرات، فقد وجد الفنان، أنه أكثر علاقة مع ذاته، في تحديد منهجه في الرسم. كانت ستينيات القرن الماضي ـ عالميا ً ومحليا ً ـ مدوّية. فهي لم تخبأ ما ستؤول إليه انفجاراتها البركانية، من الصين إلى فرنسا، ومن أمريكا اللاتينية إلى الوطن العربي. فالحرب الباردة ستخلي نهايتها لمناف ٍ وحريات تتصارعان بأشد المناورات عملا ً بالمشفرات. وإذا استبعدنا شرط أن يكون الفنان مدركا ً لموقعه، وموقفه منها، فان رهافته، بالضرورة، لن تغر له إن أختار دربا ً للاختباء. علي النجار، بحساسيته وفطرته وعفويته ـ كالتي كانت لدي أستاذه فائق حسن وأثرها في ريادته ـ ترك نصوصه تجاور، وتحاور، وتعالج مفهوم: المنفى ـ والمنفي. والشاعر المعري لم يترك برهة للاستراحة ـ برؤيته الكلية، وفي مقدمتها: ان الإنسان سيناور بالتصّورات، ويجعلها، في الغالب، مغايرة لها. كان إحساس على النجار بالمنفي، داخل (المنفى) منحه قدرة رؤية المتناقضات/ والتصدعات الحاصلة أمامه. فليس ثمة إلا أن تجرفه عاصفتها، أو يقاومها باختيارات مستحيلة. فألف عام من ديمومة الاحتضار، واستبعاد تمهيدات عملية لصياغة المصير، لا علما ً ولا معرفيا ً، جعلت مساحة المنفى، عند المنفي، لا تقبل المناورة. والسؤال: أكانت تجاربه الفنية محض مرآة، للواقع الذي يغلي، ويتعرض إلى التفكيك، أم كانت بمثابة مناورة للدفاع، بحسب آليات عمل الموجود في الوجود؟ كان الجسد لا يمتلك إجابات، ولا الحواس، ولا الوعي إلا في حدود عدم الاندماج. فكان فنه، قبل أن يبحث عن ملاذ آمن له في العالم، لغة لا تنتمي إلى الكلام، بل ولا إلى الصمت، إنها ـ شبيه برسومات المغارات والدمى والأختام وتماثيل عصر الآلهة الأم ـ تحكي ما لا يحكى من إعلان يصعب إخفاءه: الاستنجاد بغائب يعيد للأرض سكينتها، والإنسان سلامه. كان هذا الإحساس بالمنفى، في نصوصه، يأخذ الطريق الذي لم يزّور فيه الفنان، عمق الاشتباك. وبعيدا عن محن اليسار أو اليمين، المبرمجة أو التي لم تجد شكلا ً آخر لعملها، فان خسائر الجميع، لن تتوازن مع من سيربح قليلا ً من الزهو أو شارات التفوق. نصوص علي النجار الفنية، منذ غدا الجسد جرحا ً في الاستبصار: ليس غاية وليس وسيلة، بل استحالة. فالمنفى في: المجتمع/ العائلة/ النفس..الخ، لن يدع انتظار الفجر إلا تمويها ً لفجر سيولد داخل حدود البنيات نفسها. فعناصر النص الحديث (وهي ذاتها شبيه برسومات ما قبل التاريخ/ الفطريين/ المهووسين جنسيا ً/ وما قبل الكتابيين/ وبأكثر الراديكاليين الأوربيين تضادا ً مع أنظمة الرأسمال/ المخصيين/ واللامنتميين..الخ) تحدق في عالم لن تدع فيه للعثور على نهايات لها مقدمات مغايرة لها لم يحصل فيها (الصياد) القديم/ أو المعاصر، إلا على ما سينزله من محو بخصمه وإيذاء يبلغ حد الجور، والمرض، كي تتجسد في رسومات (علامات) تكونها مشفراتها، ومن الصعب تفكيكها إلا بالأسلوب الذي يعيد للرماد مكوناته قبل الحرق.
(2)
علي النجار، مع تجارب متفرقة لزملاء له، جرفهم (وربما سحرهم/ جذبهم) هذا الانحياز إلى حداثة لا تتوخى التلاعب بالفن، في الأقل أن لا يعلن عن موته، أو أن لا يغدو قناعا ً، أو أن يتحول إلى (سلعة) في سياق: الإنتاج ـ الاستهلاك، وليس التأمل أو الحكة. فنصوصه الفنية، بما فيها من أشكال مستدرجة من الأزمنة السحيقة، تعاصر حداثات الحاضر، لكن ليس لدحض (المحنة) أو مقاومتها، أو تمجيدها، بل لتحديد الاحتيار، بين اختيارات أخرى مهمتها كانت اقل تكلفة، بما تؤديه للمجتمع الناشئ، وهو مازال مهوسا ً بـ: رب الجميع ضد الجميع. هذا الاختيار المبني على بناءات غاطسة في اللاوعي ـ وفي اللاشعور ـ تظهر مدى عمق لمفارقات التي لم تتعرض للنقد/ التفكيك/ الدحض، إلا كتمهيد لحقبة لا يصبح فيها الاشتباك أساس الإقامة. إنه تأويل ينحاز لمنهجية التحليل السيكولوجي، لكنه، لن يجعل من الرسم الحديث، علامة مرض)، كما لفن النظر (خروشوف) ـ أمين سر الحزب الشيوعي السوفيتي ـ وهو يتأمل لوحة لبيكاسو، إنا لأن الغاطس في لوحة بيكاسو ـ في هذا الاتجاه ـ تظهر ما تم دفنه خلف الخطاب المعاصر نفسه. فالمرض (الخاص بالجسد) ليس هو المرض في (الفن)، إلا إذا كانت التعبيرية قد كفت ان تكون فنا ً. لكن المرض (فيهما) ليس علامة امتنان أو ثناء. انه عواء شبيه بما دفن تحت قاع البحر، وليس هو الذي يتناثر مع الأشلاء، أو يظهر عند رمال السواحل. نصوص النجار، سمحت لآليات اللاوعي ان تمنحه مراقبة: ذاته/ مجتمعه/ وكائناته، كي تمهد لقراءة تبقى تستدرج قراءها لقراءة عالم يكونه المنفى ـ وهيدغر لم يغب عنه هذا التصور في رؤية الإنسان الحديث مقذوفا ً/ مرميا ً ـ لا يمتلك المنفي فيه قدرة تلمس الدرب الذي لا وجود له لنجاته، إلا وقد غطاه رماد الاشتباك، وغباره، وإشعاعاته القاتلة بصمت. لكن هذا لن يدحض أن (الأمل) ـ في التشبث بالحياة ـ غواية شبيه بـ (الهمسات) التي برمجت حكاية الطرد ـ والعصيان، وإنما مناورة قائمة في جعل ما سيزول، نابضا ً بمبررات وجوده. ومنهج علي النجار، وهو يصّور منفاه، لا يناور جماليا ً، ولكنه سيتمسك بـ (هويته/ بصماته/ شخصيته؛ أي أن يكون: هو، وليس آخر تم استحداثه بحسب ضرورات العصر) التي ـ شغلت كل من رأى لا حافات المنفى ـ لن تعزل عن: طيوره/ أشجاره/ نساءه/ حيواناته/ أطفاله، صخوره/ أجنته..الخ وقد استحالت إلى كائنات حشرت في سفينة ما قبل (الطوفان ـ المعاصر) لعالمنا الحديث ـ المحكوم بملغزات العولمة ومشفراتها ـ كي تدل أن الوعي بالفن ـ وأيا ً كانت طرائقه ومعالجاته واستثناءاته ـ لا يمكن عزله عن حساسية الفنان، والتي ستشكل احد مكونات هويته في مواجهة: المحو.
(3)
فالهوية ليست تركيبا ً مضادا ًللاضطراب الحاصل في: الذات، أو في المجتمع، ولا رصدا ً لعشوائية منتظمة تعمل وكأنها مدوّنة مسبقا ً فحسب، بل لأن الهوية لدي الفنان، لن تغادر وعيه بتحديد ماهية الاشتباك، والتباساته. فقد كان علي النجار يستطيع قراءة لوحات (روبنس) أو بعض لوحات فائق حسن، أو ألدروبي، لو كان قد استبدل رهافته، بدرب آخر، يجعل من الفن قناعا ً للتداول ـ وللأمل معا ً. لكن هذا كله لم يجعل من نصوصه شفافية عمياء! أو مبصرة، بل لذّة بالغة المرارة للانتماء إلى المنفى الذي مكث غريبا ً فيه، وعاملا ً محركا ً للمتلقي في إعادة قراءة الوقائع، وتشخيصها، كي لا يتحول الفن (هذا) إلى نخبة لا تعرف أن (الجماهير) مازالت تصفق للصياد. فهل يتوغل الفنان في منهجه هذا بالبحث عن (كمين) أو رؤية نصوصه كعلامات مراقبة، لم ينتجها، إلا المنفي داخل منفاه؟ أيا ً كانت الإجابة فان الفنان علي النجار، لم يتخل عن رؤية الأزمنة في زمن متجاور: إن المنفي سيصّور رفيف روح عملت جدران المنفى، ومن حافظ على ديمومته، على محوها. إنما نوصه الشبيه بهذا الرفيف، لا تتوخى صناعة آمال لن يخسر فيها المنفي حياته، إنما لن يكون لنصر الآخر، إلا مسافة الزوال، وقد بلغت خاتمتها. إنها الحشرجات، الاستغاثات، التي دفنها منعم فرات في مجسماته، تجد ممراتها، في نصوص علي النجار، وهي تجعل اللون ـ كما هو لغز امتزاج الدم بالتراب لصناعة إنسان وادي الرافدين ـ عنصرا ًديناميا ً لن ينفصل عن هويته، أو عن رؤيته الفنية.
[7] اللون ـ لا حافات المجهول
لم يدوّن رسام المغارات، وهو يلون رسوماته الشبيه بالفن، دلالة استخدامه لها، وإن بدت للخبراء (والعلماء) أنها ذات صلة بالخامات المتوفرة (الفحم/ المواد العضوية/ الرماد/ الصخور الملونة/ المعادن) دون إهمال رؤية الأشياء بألوان مختلفة، وليس بلون واحد، لا يذهب ابعد من ثلاثين ألف سنة. ولأن علي النجار سمح لبصره ان لا يتقيد بالوعي، فان لاوعيه سيعيد لنا مفهوم الخطاب المشفر للألوان، وليس للمعاني التي نفذت سحريا ً، أو التي استدمت السحر فيها. فالفنان لن يستخدم ترف الألوان، أو غزارتها، ولا بهجتها، إلا في حدود مشفراتها بما تريد الذهاب به ابعد منها. هذه المقارنة ستبقى تعمل في حدود التأويل، فالرهافة بذاتها تقانة مستحدثة، مع (الأصابع/ البصر/ وبدء نشوء الدماغ) في إقامة ممرات (جسور) بين الرائي ومرئيا ته. وهي جسور (ممرات) بالغة التداخل والتعقيد، لأنها ليست ممرا ً أحاديا ً، إنما ستعمل عمل الدماغ في أداء ما يمتلكه من استجابات واختيارات. هنا لا يرسم الفنان علي النجار ببصره، أو بقلبه، بل يرسم بكيانه. فهو ـ عمليا ً ـ لا يرسم، بل يؤسس حورا ً ترك فيه المجهول يتدخل بألوانه ـ وأشكاله ـ المنتقاة. فالقصد لن يتوقف عند الدلالة المحددة، بل يتخطاها كي تحكي نصوصه استحالة أن تجد طريقا ً آخر، كالكلام، أو الاشتباك. ثمة أداة تنتمي إلى التهذيب ـ مع ان فرويد أغلق هذا الاحتمال وذكر ان الإنسان ـ في الأصل ـ لم يخلق كي يكون مهذبا ً / أو متحضرا ً؛ كي يصنع حضارة جديرة بمعناها ـ إلا ما هو شبيه بالتهذيب سيسلكه إنسان المغارات، وهو ما سيسلك علي النجار، في عالم أشد تعقيدا ً في لامبالاته تجاه مصائر البشر. ألا يحق لقراءة المتلقي ان تتخلى عن برمجتها في الثابت، كي تفكك دلالات الألوان، وباقي عناصر الفنان النائية، للمعنى الكامن في ماهية الإنسان ذاته؟ فالرسم ليس إشباعا ً، مع انه ـ منذ وجد ـ لم يفارق مجساته الدفاعية ـ الخاصة بديمومة ما هو عليه ـ بمعنى ان الإشباع ممتدا ً ـ ومتجددا ً ـ إزاء موضوعات تبدو حلولها ممكنة، لكنها عمليا ً، لن تجد غاية لها إلا في طرق لن تبلغ خاتمتها أبدا ً. فعلي النجار يلوّن، بما هو مضاف للبرمجة ذاتها التي لوّنت الأشجار والغيوم والطيور ..الخ بما و خاص بأشعة الشمس، في مجموعتنا، ومجرتنا، إضافة إلى المكونات الأخرى، مع حاسة البصر، كي يضعنا في اختياراته الفنية: ألوان تتطلب ان تجد من هو خبير بفك مشفراتها، مادامت قد اقترنت بموضوعات: محو الذات ـ وجعل الموجودات أكثر إدراكا ً باستحالة مغادرة منفاها. فالألوان لا تناور، ولا تعمل بالرموز المتعارف عليها، بل بالبحث عن ملاذ حول (الاشتباك) إلى حلم، والمنفى إلى فردوس غير قابل للدحض! هذه المهمة لم يعمل عليها (روبنس) إلا في حدود الآني، والذاتي، عبر نشوء واقعية أحادية استغلت الجانب الآخر من الواقعية، فيما عمل علي النجار، بذاتية لم تهمل جماليات الفن، حتى بقلب الواقعية إلى قاعها. فالألوان ليست وحشية، وليست مشغولة بمهارات رسام يتوخى الاستمتاع ـ والإمتاع ـ كما في أساليب مغايرة شاعت في الرسم العراقي ومنحته انحيازا ً لأحادية استخدام اللون ـ بل كي يحفر خلف المشهد المصاغ بالأقنعة، والعادات الاحتفالية للألوان، وبهرجتها، المقترنة بعادات راسخة في تذوق الألوان، والانحياز إلى لذائذها، وما تبعثه من بهجة، ومسرات، فيما يختار علي النجار، قفا المشهد: ما الذي يحدث للرائي ـ المنفي ـ في منفاه؟ لأن (لغة)الألوان مازالت مشفرة وتتطلب معرفة متخصصة في اكتشاف نظامها، وعمله. فهي تتكلم ـ ترسل/ تبث/ تنبه ..الخ ـ على اننا لن نجد إلا استجابات لا واعية لندائها النائي: ليس للمنفى حدود بعد أن وجد المنفي، كلما اتسعت رؤيته، إلا أن يتشبث باستحالة الكف عن العمل بالمستحيلات، ومنها التدوين بمشفرات ليست خاصة بالمنفى، أو بالمنفي، وإنما بالمعنى ذاته الذي كلما بدا قيد الاستبصار، والمشاهدة، ازداد اقترانا ً بالمستحيلات، والمجهول.
[8] المنفى ـ حدود المخيال والرسم
لم يغادر علي النجار جسده، مع إن ما لا يحصى من الخلايا تندثر، وأخرى تولد، وهو يغادر البلاد التي ضاقت عليه على الرغم من تفردها بالثروات الطبيعية، وبالكنوز الحضارية. لم يغادر جسده الذي سيحمله معه وهو يتعقب الإشكال ذاته القائم بين الذات ـ والموجودات/ وبين الذات ـ والوجود. ولا أعتقد انه كان يبحث، وهو يوشك أن يخسر حياته بخسارة جسده ـ حيث المنفى الداخلي تضافرت عليه ما لا يحصى من العوامل كي تجعله خارج مسؤوليات الحكومات والمؤسسات الإنسانية ـ عن فردوس خاص به، ليتناول فيه لذائذ اللحوم، وليحصل على تعويضات خسرها في حياته الأرضية، أو كي ينجو بجسده وهو يرى كيف يتم (تدمير/ وتعقيم) الأرض ـ الرحم وكل ما هو خاص بالانتماء إليها وبهويتها ـ لجعل المستقبل بدرجة الصفر. لقد غادر علي النجار منفاه، بهدوء، بحثا ً عن بلاد لا يجد فيها من يحد من حرية خياله في الأقل، كي تتوازن لديه متطلبات الكائن البشري، في أبسط شروطها: حرية الحلم. على أن المنفى لن يخلع من ذاكرته، بمحض العثور على بلد لا تجري فيه محاكمات من غير أدلة، ولا توجد فيه اغتيالات بالجملة. فالمنفى سيتحول إلى مكان (وربما إلى لا مكان يتناسب والتحولات السياسية ـ الجغرافية، في زمن ما بعد ـ ما بعد ـ الحداثات ـ والدخول في حقبة مغايرة لسنوات الحرب الباردة، كي يبذر فيه أكثر البذور قدرة على الإنبات: إنها بذور ستتركه يغوص في أسئلة الإنسان الأولى ـ والتي مازالت تتمتع بامتدادها ـ : الأسئلة التي لن تجد خاتمة لها ما دامت دورة الحياة ذاتها لم تبلغ ذروتها. إن علي النجار الذي جعل الفن اختيارا ً لحياته، لم يجعله ملاذا ً إلا لأنه يتضمن ذات الغايات الأبعد من وسائلها. وفي مقدمتها انه تتبع نسغ المخفي في فنون الإنسان ـ وآثاره التي لا تحصى ـ وصولا ً إلى عصر انتهاك الجسد (الجمعي)، بمنطق مضاد لأية شرعية قائمة على التوازن: أو ما يسمى بـ (العدالة). فلم يحول فنه إلى (سلعة) ـ أو يرسم بمنطق موت الفن ـ كي يدخل لعبة قائمة على النظام ذاته الذي يتحكم بوجود المنافي، إن كانت على صعيد الأقاليم، أو على صعيد مراكزه الكبرى، أو في حدود الجسد، ومتطلباته الأساسية، بل جعله يستعيد مقاومته لموته ـ وموت الفن ـ كي تبقى الحياة تومض بلغز وجودها. فنصوصه تحكي هذا الذي برمج كدفاع يدحض فلسفات عالمنا القائمة على (المصادرة/ الاستيلاء) و (الاجتثاث) و (العنف) و (الصدمات المروعة)، عبر نصوص فنية غير مصممة ان تغدو واجهات لمؤسسات تعمل على (ترقيم) الكائن البشري، كنمل، أو حشرات، أو قطيع من الأنعام، والتحكم بأحلامهم، بعد التحكم بمصائرهم. ذلك لأن وعي الفنان الشعري، الجدلي، لم ينحز إلى مؤسسة المنفى، لا في وطنه، ولا في أي بلد أقل مراقبة للمخلوعين الوافدين وللمهجرين والمهاجرين والتائهين الذين وجودا (أجسادهم) تتكيف ـ وليس تندمج ـ فيه. ولأن الشعر مازال يحمل مفهوم يدحض الاحتفال بالموت، فان قضية علي النجار، لن تحافظ على علامتها المحلية إلا وهي تعيد للفن لا حدوده. إعادة قراءة المسافة بين المنفي ـ ومنفاه: بين الجسد والآخرين، وبين الذات ولا حافات الأسئلة المعمرة، أو التي ليست بلا معنى، أو فائضة. فالفنان لن يرسم من أجل الرسم، كما أنه عندما غادر وطنه لم يفعل ذلك طوعا ً، إنما سيجعل من نصوصه الفنية ومضات يدوّن فيها حكايات يصعب سرد مخفياتها إلا بالرسم.
[9] لغز الرسم وأطيافه
فهل سيجد سببا ً للفن، مستحدثا ً، إلا وقد تتبع ما توارى في ظاهرة الفن، سببا لرؤية أن ومضات (الوعي) ستدله على لا اللا متناهيات ـ خارجه ـ فحسب، بل في مناطقه النائية، داخل جسده، وقد غدا وعيه مفتاحا ً يدور في أي مكان عدا ثقب القفل ـ كي لا تبدو المنافي منعزلة بعضها عن البعض الآخر، ولا عن وعينا فيها، إنما سيتمسك علي النجار بالرسم (كتمسك الأم بوليدها)، كمناورة بين ذاته والحياة، وليس بين ذاته والمجهول. فالميتافيزيقا ستغدو تصّورا ً لا يمكن عزلها عن اكتشاف الملاذات المستحيلة. ونصوصه لعام (2010) لا تكمل الدورة التي بدأها قبل نصف قرن، بل تعيد قراءتها لرؤية عالم خال ٍ من المنافي، ومن المنفيين: من وجود حتم ان يكون (الصياد) فيه مركزاً، والضحايا خارج الحياة، والتاريخ. إنه المحفز نفسه مكث يعمل في مخيال الفنان بصناعة ممرات ـ جسور ـ لكائنات عليها ان ترى ما يحدث في الخلف: خلف الأسواق/ والمرايا/ وما تبثه شاشات التلفاز، والمواقع، وما لا يعد من وسائل إبقاء السستم (النظام) مثلما هو عليه، يزحف نحو خاتمته. إنها رسالة تذكرنا بنصوص سومرية، وبابلية لدي حكماء تلك الأزمنة السحيقة، بإعادة تفكيك سلطة (المركز) ـ المراقب ـ إزاء الآخر، المنتمي إلى الطبيعة/ والطفولة/ وحقوق المرأة/ والنبات/ والحيوان/ وباقي عناصر الحياة ..الخ فثمة ـ إلى جانب الرسم ـ الوعي بمسارات الوعي وتوجهاته، جعلت النجار يمارس الكتابة، بما تتضمنه من انشغالات فلسفية، وجمالية، واجتماعية، مهمتها لن تنفصل عن هاجسه كفنان، وشاعر، أينما ذهب، وحل، فانه لم يتخل عن التفكير بعالم لا يتأسس على (الإيذاء) حد المحو، على صعيد الكائنات، أو ممتلكاته، مما سيجعل فنه ليس معاصرا ، من أجل المعاصرة، بل قائما ً على سؤال: لماذا الإيذاء حد المحو، وبدرجات باذخة التنفيذ، والاحتفال، بالآخر، أيا ً كان، وفي أي زمن، مادام ثمة استحالة لم تجعل من الحياة فائضة؟ إن فن علي النجار، صنع منه طيفا ً، إنما سيسكن هذا الطيف أكثر القلوب براءة، مثلما إن علي النجار، جعل من فنه علامات لـ (منفى) تمتد عتباته إلى بذور الخلق الأولى، ولن تنتهي عند جدران منافينا المعاصرة، المستحدثة، بلوعة تخلو من الإجابات، بل تزخر بالأسئلة التي لعلها لن تتوارى، أو تغيب، مهما كان غبار، أو رماد الاغتراب خاليا ً من الألوان؟
هبوط خاطئ-عدنان المبارك
هبوط خاطئ
- في كل فوضى هناك كون ، و في كل اضطراب هناك أمر سرّي. كارل يونغ ( 1875 – 1961 )
عدنان المبارك
( لا أصدق بأني هنا ، فهذا مكان غريب وحتى أني لا أعرف الى أي بلد يعود. دلائل كثيرة تشير الى أنه من بلدان البحر الأسود. لكنها ليست قاطعة. فلغاية الآن لم ألتق بأحد من هنا. كنت في سيارة قديمة. ( اشتريت ) مقعدا فيها. في البدء تصورت بأني أحلم لكن هذا المكان الغريب يؤكد على أني في يقظة. هو شبه مقفر.غابة صغيرة وحقول مهجورة وفي الأفق مياه زرقاء. ربما هناك بحر أو بحيرة أو مستنقعات شاسعة. في كل الأحوال لدي اقتناع بأني لا أزال في هذه القارة. بضعة بيوت توحي سقوفها بأنها عرفت الثلوج أكثر من مرة. سقوف الجملون لايعرفها الجنوب.لا أجد أمامي طريقا آخر غير المضي صوب هذه المياه. أربعة أو خمسة كيلومترات بيننا ، لأمض ، فقد أعثر في الطريق على بيوت أو إشارات أخرى على وجود الانسان. كنت في موقف شبيه بهذا . متى ؟ عشر سنوات ؟ عشرين سنة ؟ لا يقين عندي.زقد يكون محض خيال أني كنت أعمل في شركة أجنبية تحفر قنالا يربط بين نهرين. منطقة صحراوية لاتنخفض حرارتها لا في النهار ولا في الليل. كنا نقلي البيض على غطاء محرك السيارة. نشرب الماء بلا أنقطاع. لكن في المساء يغني مهدي لنا ، وكان شاعرا ومصورا ، بوذيات وعتابات وبستات عراقية قديمة. ولد ثوريا ، وأظنه لغاية الآن يحمل في داخله تصورات غير واضحة تماما عن ثورته رغم اجتيازه الثمانين من العمر.الشمس هنا رحيمة ، الطقس معتدل. لا أعرف في أيّ فصل أنا الآن. ربما الربيع أو مطلع الخريف. أو عزّ الصيف. في الجغرافيا أنا أسوأ من رجل أميّ. أخلط الأسماء والبلدان بل القارات .لا أظن أن شيئا أو أحدا يهددني في هذه البقعة. في كل الأحوال ليست هذه صحراء بل أرض صغيرة تعرضت للقحولة لاغير ، وعموما صرت أخترع في كل بضع دقائق قصصا خرافية عن ربط نهرين وكل هذا الكلام الذي لا يصدّق...
انتبه الى ذبذبات صوتية في كوعه الأيمن. جاءته رسالة جديدة: ( نقلنا زرّ الاتصال من كوعك الى شحمة الأذن اليسرى. كن على استعداد دائم ). اذن هكذا هي الأمور ! في جوانب معيّنة نحن لا نختلف عن الأفعال البشرية !
ركّز التفكير الآن على ( ورطته المكانية ). المخرج هو في وصول إشارات من المركز. أكيد أن المركز لم يقطع عنه هويته الحقيقية وكامل تأريخه على سيّارهم الذي انتبه الآن الى أنه من الكواكب السعيدة ، وما يزيد من السعادة أن كواكبا هادئة بالجوار. كان واثقا من أن وضعه سيستقيم قريبا خاصة أذا أعلمه المركز أين هو الآن ، وذكّره بمهمته على هذا السيّار التعبان. أكيد أنها ليست بالمهمة الخطيرة. فهناك آخرون يصلحون لمهمات من هذا الصنف.
وجد أنه من الأصلح أن يستلقي تحت تلك الشجرة العجفاء، فمطبّات الطريق حين كان في تلك السيّارة أخذ يشعر الآن بما فعلته به. قبل أن تجيئه المعلومات من المركز تذكر بأنه أخذ من السيارة كتيبا تركه أحد الركاب. أخرجه الآن من الجيب الخلفي لسرواله. عنوان غريب : ( ابتسامات مع تيميس ). فهذه الربّة اليونانية لاتعرف الابتسام كما ليس من مهامها أن تبتسم. الكتاب قديم أيضا فهو يعود الى العقد السادس من القرن العشرين أي حين كانت أنظمة أخرى في شرق القارة. فكر بأنها أنظمة في منتهى السذاجة بل تبدو كأنها تتجاهل حقائق أساسية تخص هذا اللبون العاقل. أنتبه الى أنه كتاب ممزق كثيرا لكن يمكن قراءته. لغة الكتاب يمكن فك لغزها. لغة سلافية من وسط أوربا. قطع التفكير بالكتاب ، فها أن المركز أعاد الاتصال معه : ( أنت في منطقة البحر الأسود ، بالضبط في غرب تركيا. حصلت تعديلات على المهمة : تتوجه الآن الى الشمال. خذ استراحة. لديك كل المعلومات عن كتابك خاصة. كل جواب على كل سؤال تجده عند الضغط على شحمة الأذن. سنعيد الاتصال. ). المركز سدّ قنوات الاعلام عن هويتي و كامل تأريخي. لايهم ، هم يعرفون أحسن مني. وليس بالسيء اذا ابتسمت الآن مع تيميس. الاستلقاء تحت الشجرة مريح حقا.
أفلح في قراءة الكثير من مقدمة الكتاب الممزقة وخاصة جملته الأولى : ( الناس الحكماء يقولون بأنه في الآراء والأحكام تنعكس ، وكما في المرآ ة ، الحياة المعاصرة وبكل مظاهرها ، اذن : على القضاء أن يحسم النزاعات والمآسي والأوضاع المعقدة. وهنا لا تخلو المسألة من التماعات لمملكة المرايا...) غريب أنني صرت أفهم كثيرا ما في داخل هذا اللبون وادمانه على مشاهدة الأوضاع المضحكة التي قد تبدو غريبة على القضاء - هذه المملكة التي أخترعها
... )
* النص أعلاه عثر عليه في حاسوب مكتبة عامة ، ولايعرف لغاية الآن كاتبه. على أكبر احتمال قام بوضعه كاتب مغمور لكنه لا يفتقد مثل هذا الخيال. في الحاسوب وجدت ملاحظات لم يتسن للكاتب الاستفادة منها في أكمال القصة. وأنا كناشر لهذا النص كاملا ومن دون أيّ تعديل أجد أنه يستحق النشر ، ولو من باب الكشف عن وجود مثل هذه الميول في أدبنا الذي هو مثل الحمار الحرون الذي يلتهم ما يعطى له من علف ولايريد طرق درب آخر غير المعتاد.
كانت هناك ملاحظات عن الكتابة في هذه القصة :
- سبق للكائن الغريب أن زار الأرض في العهود المبكرة من ظهور الانسان. هذه حقيقة أخفاها عنه المركز في البدء رغم أنه في رأس هذا الكائن كانت هناك أشباح ذكريات عن الزيارة الأولى.
– المركز يقترح ، بل يأمره بالبقاء على الأرض كي يرفع فيما بعد تقريرا عن الفناء التام لهذا السيّار من جراء حروب متتالية وكوارث في درب التبانة، وكل هذا جاء وفقا لحسابات دقيقة في مؤسسة ( الرياضيات العليا ) لكوكب المخلوق. المركز يذكر بأن خطأ حصل في الحسابات أيضا ومن هنا الهبوط الخاطيء للمخلوق المذكور في القصة أعلاه على الأرض .
- جاء أيضاح تال للمخلوق : المركز لم يذكر واقعة زيارتك السابقة للأرض كي لا يربك هذا الأمر الجهود من أجل الوصول الى الحقيقة الموضوعية.
- قرارالكائن : أريد البقاء على الأرض. فهذا الكوكتيل / السيرك البشري يفزعني من ناحية ومن جهة أخرى يحفّز (الخيال ) وفق تعريفنا وليس الآخر البشري. ومن هنا رغبتي في ابدال كل شيء فيه غريب على طبيعة الانسان وبايولوجياه. بالفعل . صار رجلا حقيقيا ولد على هذه الأرض و مرشح للقيام بمختلف الأدوار بدءا بصيرورته زعيما أو مشردا يفترش الرصيف، في بلد آخر أو نزيل دارالمجانين وهلم جرا .
- من الضروري أن لا يكون خيار واحد عند كتابة القصة. فلاشيء يثير الخيال مثل أغواء الامكانيات.
- أنا كاتب بالصدفة لاغير... وكوني غيرمقروء كثيرا يفتح أمامي واسعا باب اللعب واللهو في هذا الحقل من نشاط الانسان والذي ينعت بالمتسامي...
- لم يبق لي شيء غير هذا الخيال الذي وهب لي من دون مقابل. في الحقيقة أنا ضقت ذرعا بهذا الأدب وخاناته التي يريدونها أن تبقى الى الأبد. بأختصار : طز على الخانات والقوالب وأسواق الغرور الأدبية. رغم كل شيء سأكمل هذه القصة حال تصليح حاسوبي التعبان ، فالذهاب الى المكتبة العامة ليس بالأمر البسيط على واحد أنهكته كل مكائن هذا الجسد الذي يخال اليّ بأنه لا يعود لي بل استبدلوا ، خفية ، به جسدي الذي خرجت به من الرحم. نعم ، سوف لن ألهو بالأدب فقط بل عليّ بهدمه على حد تعبير خوليو كورتاثار لا فض فوه ...
أستره بارك – أيلول / سبتمبر 2015
المرفأ الأخير: العدد الثامن لسنة 2015 ... القصيدة ... إرتياب.! ...
المرفأ الأخير: العدد الثامن لسنة 2015 ... القصيدة ... إرتياب.! ...: العدد الثامن لسنة 2015 القصيدة إرتياب.! د.غالب المسعودي دونَ خوفٍ أعلنُ تحولي عن مسار التأريخ هو ...
الجمعة، 25 سبتمبر 2015
العمى الأسود(قصة سُريالية)-د. غالب المسعودي
العمى الأسود(قصة سُريالية)
د. غالب المسعودي
إستلقى جنب حوض السباحة في ملابس الاستحمام ,وضع على
عينيه نظارة شمسية تبرق بالوان قوس قزح ,تمدد على كرسي صنع خصيصا لهذه المهمة,
جسده يفوح بالشباب والعنفوان, فتاة مراهقة تتطلع اليه أعجبتها الهيئة, مارست كل
حذاقتها في الغطس لم ينتبه....! عينه ترنو الى السماء, حاولت اثارته بجسمها الغض
لم ينتبه....! بقي لها إغواء حواء, وجدته يقرا كتابا لكن عينيه في السماء ,ابتسمت
له ...! عينيه في السماء ,رشت على جسده سحابة ماء ,انتفض ,سقطت نظارته, تفاجَئَت
بفصي لؤلؤ يتجولان في محجر عينيه, غادرت المكان منتفضة على انوثتها التي لم تستطع
التمييز, استلقت في حجرة نومها على سرير
خشبي, اشتراه زوجها من اسواق السلع المستعملة ,غرفة وحيدة في منطقة يطلق عليها (التجاوز)
كانت تحلم وحلمها سريالي عندما دعتها صديقتها للذهاب الى العاصمة علها تجد لها
عملا في احد محلات الكوفي شوب, انتظرت طويلا لم يأتي الزبون اعلمتها حاستها
السادسة ان هذا مقلب ,غادرت المكان التقطها سائق تاكسي اين تذهبين ودموعك منهمرة
والليل اوحد, قالت له اذهب الى بيتي, اين بيتك في جمهورية الواق واق ,في أي محافظة....؟
قالت له قوقتي وين أختي في الحلة.... وصلت متأخرة زوجها في حلمه الرابع بعد المئة,
اتصلت بها صديقتها التي اغوتها اين انت ....؟لماذا ذهبت نحن الان في الجنة المنطقة
خضراء الولدان المخلدون يسكبون لنا الخمرة في اباريق من ذهب.... الا ان هناك شاب
متمرد عينيه في السماء بين يديه كتابا ويقرأ نامت على تعبها استيقظت مبكرا لتذهب
الى عملها رنّ جرس الهاتف صديقتها الاخرى تكلمها وهي تذرف الدموع ما بك....؟.
تصورنا ان أي شيء اخضر هو الجنة صحوت الان مغطاة بسوائل لا اعرف مصدرها الا انها
لزجة جُردت حتى من ملابسي الداخلية كل شيء في جسمي يؤلمني رائحة المشروبات
الكحولية تزكم انفي تفقدت شنطتي العزيزة اهدنياها حبيبي قبل ان يهاجر الى بلاد
الغربة, لم اجد شيئا الا عباءتي وجزء من حجاب اوصتني صديقتي ان اتلحف بهما قبل ان
نصل الى المنطقة الخضراء قالت لي انهم متدينون ولا يستقبلون الا المرأة المحجبة,
لحسن الحظ لم اجلب معي الا هذا النقال نوع (صرصر) يبدو انه لا يعجبهم تركوه لي كي
اتصل بك صباحا ,اخبريني كيف حالك...؟ اجابتها انا الان في احسن حال سأذهب بعد قليل
الى عملي زوجي سيرتب اعمال البيت لكن قولي لي كيف ستغادرين المنطقة وتأتين الى
الحلة....؟ سأغري أحدهم لاسيما وانا عريانة وهم لم لحد الان لم يشبعوا من صور نكاح
الحمير, انهم سيعثرون علي تجنبا للفضيحة, اغلقت هاتفها ,يبدو ان الرصيد قد نفد, بعد
ايام التقين بشارع تجاري في مدينتها اثار النكبة واضحة على وجوه صديقاتها ,سالتهن
ماذا حصلتن من هذه التجربة ...؟لا شيء المهم خضنا التجربة, قبل ان تنهي السؤال
سائق تكسي متهور صدم الحافة الجانبية من الرصيف تطايرت شظايا الاسمنت اصابت حصى
وجنتها لم تستطع الشرطة العثور على السائق ادخلت مستشفى الجراحات فقدت الوعي بعد
اجراء العملية اسلمت الروح , كد الاطباء لإنقاذها ,دفنت في مقبرة السلام قرب عمتها
وخالاتها وكثير من قتلى المعارك المتنوعة وجرائم الفحش الجنسي وضحايا عصابات السطو,
لم يكن هذا سردا واقعيا لكن الاحداث تتري بلا فلسفة والعمى جزء من تركيبة العقل
المنحط ,ابحث في خزانتي عن سيكار لم اجد, قفز في ذهني سؤال ,ما لون المناطق الاخرى....؟
لم اجد لونا يطابقها يبدو اني اصبت بالعمى الاسود في وطني كل شيء اسود حتى العمى.
الخميس، 24 سبتمبر 2015
في ذكرى رحيل شاعر الحرية-*مريم حيدري
في ذكرى رحيل شاعر الحرية
*مريم حيدري
لأن هناك الشعراء، ولأنهم في حياتنا، ولأنهم يبقون حتى حين يغادرون عالمنا، يمكن أن نطمئن. ليس شعارا هذا، ولا تفاؤلا ساذجا، فإن الشعراء قدامى وحديثين، استطاعوا أن يمنحوني شعورا استثنائيا في كثير من الأوقات التي كان يمكن أن يسودها اليأس والظلام، شعور هو مزيج من البهجة، والهدوء، واللامبالاة.
واليوم وأنا أستمع لصوت الشاعر الكردي أحمد شاملو (1925-2000) يخرج من الجهاز، وينتشر في البيت في احتفال أحادي قمت به لنفسي في ذكرى رحيله، تنتابني رغبة/أمنية أن يحضر الآن لأقبّل يده من فرط ما ترك لنا كل هذا الجمال، وخلقه من كلمات كان يمكن أن تكون كائنات بسيطة في العالم، بلا أي فائدة، كما سبق ورغبت في ذلك بعد قراءة بعض الشعراء النادرين.
وقليل هم الشعراء الذين يحسون ويلمسون ما حولهم بكامل حواسهم البشرية، والشعرية، ويستطيعون أن يسجلوا ذلك في قصائدهم بتلقائية شعرية، وبراعة فنية، وشاملو هو من أولئك. فإلى جانب كونه من أهم رواد الشعر الحديث في إيران، بل أهمهم، بإبداعاته في فضاءات القصيدة، وكتابته لقصيدة النثر، ونتاجه الهائل في الشعر، والترجمة، والبحث، وإضافة إلى الإرث الجميل الذي تركه لنا من قصائد الحب، كان ناشطا سياسيا يساريا، وواجه الكثير من الضغوط والمضايقات بعد الانقلاب الذي حصل عام 1953 في إيران وأدى إلى سقوط دولة “الدكتور مصدق” الذي كان ينادي بمبادئ الاستقلال والحرية في إيران، وتأميم النفط وخروجه من يد الأجانب، إذ تلت هذا الانقلاب اعتراضات واسعة في البلاد، واعتقالات كثيرة. فسجن شاملو، وفقد خلال تلك السنوات كثيرا من أعماله المترجمة أو المؤلفة إثر تفتيش بيته وسوقه نحو السجن. لكنه في السجن أيضا عكف على كتابة قصة طويلة ضاعت في انتقاله من سجن إلى آخر، كما بدأ بالبحث والدراسة على كتاب “الشاهنامه”، الملحمة الشعرية الإيرانية التي كتبها الفردوسي فی القرن الرابع للهجرة.
هذه النشاطات والاهتمامات بالسياسة ونشدان الحرية، تركت آثارا كبيرة على نتاج شاملو الشعري، تمثلت في قصائد تعدّ من أروع قصائد الشعر السياسي ونصوص الحرية في إيران، والتي تتميز في كثير من الأحيان بطابع إنساني سام، وحبّ يأبى أن يخمد في ظلّ الظروف الحالكة وسيطرة التعسف والعنف.
من جانب آخر، وبما أن شاملو كان يتمتع بصوت جميل، فقد سجّل كثيرا من القصائد بصوته على أشرطة ما زالت من أجمل ما يستمع إليها هواة الشعر في إيران، منها ترجماته للوركا، وقصائد جلال الدين الرومي، كما أنه قرأ الخيام في شريط صوتي برفقة غناء للمطرب الإيراني الشهير محمد رضا شجريان. ويكاد صوته أن يكون أجمل صوت بين جميع الشعراء الذين سمعتهم، أنا المغرمة أيضا بالأصوات الجميلة، لا سيما أصوات الشعراء، كل مرة حين أسمعه يقرأ بالفارسية قصيدته الشهيرة:
“يا للهفتي، كم أريدكِ يا من بعدكِ امتحاني المرّ بالوأد! /يا للهفتي، كم أطلبك!/ كأن/ على ظهر حصان/ حيث السّرج/ وبلا سكينة./ والبعد/ تجربة عبثية./
رائحة قميصك،/ هنا/ والآن.ــ /الجبال باردة/ في البعد./ يدي/ في الشارعِ والسرير/ تبحث عن حضورِ يدكِ الأليف،/ وتأمّل الطريق/ ينسج/ اليأس.
دون نجوى أصابعِك/ فقط.ــ/ والعالم فارغ من أيّ تحية.
يقرأ والحياة تصبح أكثر ضوءا، وهدوءا. الحياة المؤقتة التي تحدّث عنها يوما، وعرف كيف يبقى خالدا فيها، وخارجها: “أهمية الحياة، وفضلها، يكمن في كونها مؤقتة، في أنك عليك أن تظهر خلودك في مكان آخر، وذلك المكان هو “الإنسانية".
شاعرة ومترجمة من إيران.
_________
*المصدر: العرب
الخميس، 17 سبتمبر 2015
الأحد، 13 سبتمبر 2015
السبت، 12 سبتمبر 2015
قراءة في رواية ( اسمي أحمر) لأورهان باموق صراع الأضداد والنظائر-أحمد الحلي
صراع الأضداد والنظائر
أحمد الحلي
أن تنسلخ روايةٌ ما عن لغتها الأم وتنسلك في حيوية ونسيج اللغات الحية الأخرى ، فإن معنى ذلك أنها قد استوفت عناصر القوة والديمومة ، وأنها بلغت الذروة في الجمال وحسن الإتقان ...
وفي حقيقة الأمر ، فإن هناك صفاتٍ ومزايا كثيرة ومتشعبة وأحياناً عسيرة جداً يتوجب أن تتوفر في الرواية الناجحة من أجل أن تصل إلى مثل هذه المنزلة الرفيعة
الرواية التي بين أيدينا ، تنتمي إلى هذا النوع من الروايات ، فهي رواية استثنائية بل ومن طراز فريد ، وهي بعنوان " اسمي أحمر" للروائي التركي أورهان باموق ( مواليد اسطنبول عام ) 1952 والذي حاز بها على جائزة نوبل للآداب عام 2006 وسط إجماع تام في الأوساط الثقافية العالمية بأنه هو من سيفوز بهذه الجائزة الأدبية المرموقة ... وهي صادرة عن مؤسسة المدى قبل أعوام بترجمة عبد القادر عبداللي....
تتشعب أحداث الرواية الدراماتيكية وتتشظى على مستويات متعددة ، وكل مستوىً منها ربما لم يتح للكثيرين منا من قبل أن يلم إلماماً كافياً بالموضوع الذي تدور حوله ...، وبناءً على ذلك فإنها تضع على مائدتنا أطباقاً شهية متنوعة من الزاد المعرفي الذي نحن بأمس الحاجة إليه ...
وكما يتبدّى لنا منذ البداية ، فإن باموق استلهم أحداثاً معينة من التأريخ العثماني في العصور الوسيطة وتوقف عنده ملياً ليقوم بوضع أساسيات البناء المعماري الفخم لروايته ، شأنه في ذلك شأن أي سلطان من سلاطين آل عثمان ، ممن اعتادوا أن يتركوا بصماتهم وسمات عصرهم من خلال الطرز المعمارية الباذخة للمسجد الذي يتركه خلفه أحدهم قبل موته ، بيد أننا نستطيع أن نتبين أن الأثر الذي تركه باموق هو الأكثر ديمومة ورسوخاً وديناميكية ...
النقش خانة أو المركز الأساسي للفن العثماني
تدور فيه وتتفرع عنه هذه أحداث الرواية ، وهو مؤسسة تعليمية تابعة لديوان السلطنة مباشرة ، وهو بمثابة مدرسة نظامية يتلقى فيها عشرات التلاميذ النابهون تعليمهم وتدريبهم على يد أساتذة مهرة في فن النقش ، وتنحصر مهمة هذه المدرسة وطلابها وأساتذتها في تزويق وتذهيب وتزيين الكتب التي يأمر السلطان أو الوزراء بتأليفها أو الاعتناء بها بناءً على توصية خاصة من كبار مستشاريه ...وغالباً ما يجسد بعض هذه الكتب مرحلته الزمنية بما فيها من حروب واستعراضات عسكرية ضخمة وكذلك ما يتعلق بمناسبات اجتماعية كحفلات الزفاف والختان ورحلات الصيد التي يقوم بها السلطان نفسه أو أحد أبنائه أو كبار باشواته ، أو ما يتعلق بأحداث تأريخية أو دينية بعينها كتصوير وتجسيد قصة الإسراء والمعراج ...
قصة حب من طراز خاص
هذه هي الثيمة الأبرز والأكثر قوة وفاعلية وديناميكية في هذه الرواية وهي العقدة التي تتشابك وتتفرع عنها كل الخيوط ، حيث يتيح لنا الكاتب أن نتتبع بشغف تصاعد وتيرة الحب بين بطل الرواية "قرة" وبين ابنة خالته " شكورة" التي وبحكم صغر سنها لم تكد تعي شيئاً من المشاعر الجيّاشة التي تتملك قلب ابن خالتها تجاهها ، وحين يحاول هذا أن يصرّح بحبه لها ينتبه زوج خالته إلى ذلك ويعتبر أن قرة تجاوز حدوده ، فيوصد بوجهه الباب ، الأمر الذي يدفع بالعاشق إلى الانسحاب والانكفاء ، فيحاول أن يجد له متنفّساً في مزاولة أعمال أخرى يستطيع من خلالها أن يكرّس له وجوداً ، ثم يقرر الرحيل عن اسطنبول إلى أمكنة أخرى نائية ...
وهو يخبرنا عن طبيعة عمله هناك قائلاً ؛
" بعد أن تركت اسطنبول بأربع سنوات فقط ، وفي أثناء تجوالي في سهول دولة العجم المترامية ، وفي جبالها المغطاة بالثلج ومدنها المهمومة حاملاً الرسائل وجامعاً الضرائب ، انتبهت إلى أنني بدأت أنسى وجه حبيبتي الصغيرة التي بقيت في اسطنبول ، اضطربت وبذلت الكثير من أجل تذكر ذلك الوجه ، وفهمت أن الإنسان لا بد أن ينسى الوجه الذي لم يره مهما كان يحبه ، وفي سنتي السادسة التي قضيتها أخدم الباشوات في الكتابة والسفر في الشرق ، أصبحت أدرك أن الوجه الذي تخيلته لحبيبتي هو في السنة السادسة ، وبدأت أتذكر وجهاً آخر تماماً ، عندما عدت إلى المدينة بعد اثنتي عشر سنة وأنا في السادسة والثلاثين أدركت أنني أتألم لنسياني وجه حبيبتي " .
وكان زوج الخالة ، أي والد شكورة ، قد شرح لنا الحالة التي مر بها قرة ؛ " وككل شاب يدخل بيتنا ، أو يعرف بوجود ابنتنا الوحيدة شكورة ولو من بعيد عشقها قرة ، ولعل عشق الجميع لابنتي جميلة الجميلات لم يكن أمراً خطيراً يحتاج التوقف عنده ، ولكن قرة الذي تتاح له ، بحكم صلة القربى فرصة الدخول إلى بيتنا ورؤية شكورة ، كان هائماً بها ، ولم ينجح بدفن هيامه بداخله، كما كنت آمل ، ارتكب خطيئة التعبير عن حريق قلبه لابنتي ، وعلى إثر ذلك اضطر لقطع رجله عن بيتنا "
وبعد ثلاث سنوات ، يزوّجها أبوها من فارس ، وكان عمرها حوالي خمسة عشر عاماً ، وبعد أن يجعلها هذا المحارب تلد صبيين ، يذهب إلى الحرب ولكنه لم يعد وتستمر الحالة لأربع سنوات تالية . وفي حقيقة الأمر فإن شكورة هي التي اختارت زوجها ، وتروي لنا كيف حصل ذلك ؛ " لعلكم شعرتم أن أبي يحبني كثيراً ، جاء ثلاثة أولاد قبلي ، ولكن الله أخذهم واحداً واحداً وتركني أنا البنت ، يهتم أبي بي كثيراً ، ولكنني لم أتزوّج من رجلٍ اختاره هو ، بل تزوّجت من فارس رأيته بنفسي وأعجبني ، لو بقي الأمر لوالدي لكان خياره رجلاً من أكبر العائلات ويفهم في النقش والفن ، وقوياً وصاحب جاه ، وغنياً مثل قارون ، ولأن رجلاً لهذا غير موجود حتى في كتبه ، كنت سأبقى في البيت منتظرة ، وسامة زوجي اسطورية تتبادلها الألسن ، أرسلت له خبراً عن طريق وسطاء ، ووجدت فرصة فبرز أمامي في طريق عودتي من الحمّام ، عيناه تقدحان شرراً ، وعشقته فوراً ، جسمه أبيض ووجهه مائل إلى السمرة ، وعيناه خضراوان وذراعاه قويتان ولكنه يبدو بريئاً ، وهو صامت كطفل نائم ، رفضه والدي في البداية لأنه محارب فقير ، ورضي بتزويجي له عندما قلت له ؛ " سأقتل نفسي" !
ولم يلبث زوج الخالة أن يكتب إلى قرة طالباً قدومه من تبريز ، لسبب آخر يشرحه قائلاً ؛ " أنا أعمل منذ فترة على كتاب طلبه مني أساس العالم حضرة سلطاننا ، ولأن الكتاب يتسم بالسرية سحب سلطاننا من كبير المحاسبين مبلغاً من المال لأجلي
اتفقت مع أمهر نقّاشي النقش خانة السلطانية ، أكلّف واحداً منهم برسم كلب ، وآخر شجرة ، وآخر إطار مع غيمات في الأفق وآخر خيول ، الأمور التي أكلّفهم برسمها هي كتلك التي رسمها أساتذة البندقية ، أردت أن يمثّل سلطاننا العالم كلّه ..."
جديرٌ بالذكر أن زوج الخالة هذا ، الذي تم تكليفه بهذه المهمة الخطيرة ، كان عمل لعدد من السنوات سفيراً للسلطان في البندقية ، وكما يبدو فإن السلطان أرسله إلى هناك لسبب خاص جداً يتمثل في أن يطلع عن كثب على مهارات الفنانين الإيطاليين في تلك الفترة ، من أجل توظيفها واستثمارها في رسومات الكتب التي يأمر السلطان بتأليفها ...
وبعد أن يحضر قرة إلى اسطنبول بعد غياب عنها دام أكثر من اثنتي عشر عاماً ، يتحدّث له عن طبيعة المهمة التي أوكلها السلطان إليه بصدد تأليف الكتاب والإشراف عليه ؛ " قلت كل رسم يحكي حكاية ، ولتجميل الكتاب الذي نقرؤه يرسم النقاش أجمل مواقف الحكاية ، التقاء العاشقين لأول مرة ، قطع البطل رستم الرأس الوحشي للشيطان ، قدر رستم الذي أدرك بعد فوات الأوان أن الغريب الذي قتله هو ابنه ، مجنون ليلى الذي فقد عقله لعشقه وسط الطبيعة الوحشية بين الأسود والفهود والوعول وبنات آوى ، وحزن الاسكندر عندما ذهب إلى الغابة لمعرفة المستقبل من الطيور ، فوجد صقراً ضخماً مزّق حجلته الخاصة ، لا أحد يستطيع التفكير برسم من دون حكاية ..."
تتداخل أحداث الرواية وتتشابك وفق اسلوب السرد الشيّق الذي ابتكره باموق ، وهو أسلوب يعتمد على ما تحكيه لنا شخصيات الرواية ، كلٌّ وفق منظوره وتصوره ، وهو أتاح حتى لبعض الحيوانات أو الجمادات والصفات أن تتحدث ...
وحين يخرج قرة من بيت خالته من دون أن يتاح له أن يرى حبيبته ، وأثناء محاولته القفز على حصانه ، تظهر له بطريقة حكائية امرأةٌ ضخمة جداً سرعان ما عرفها ، إنها يهودية تلبس ثياباً زهرية ، وتحمل صرّتها متوجّهةً نحوه .
قالت ؛ " يا سبعي ، يا شاب ، فعلاً إنك وسيم كما قالوا عنك ، هل أنت متزوج أم عازب ؟ هل تشتري منديلاً حريرياً من إستر أم الصرّة لحبيبتك بالسر؟
وحين يعلن عن رفضه تقترب منه أكثر وتدس في يده رسالة ، قالت له ؛ " اركب حصانك ، وسقه خبباً ، اذهب بجانب هذا الجدار ، ثم انعطف إلى اليمين ، ولا تحرف طريقك ، وعندها تصل إلى شجرة الرمان ، التفت وانظر إلى البيت الذي خرجت منه ، إلى النافذة التي تقابلك "
حين يصل إلى المكان المحدد تنفتح النافذة المغطاة بالجليد ، وهناك يرى وسط إطار النافذة المتلامعة تحت أشعة الشمس وجه حبيبته ، بعد اثنتي عشر سنة ، ها هو وجهها بين الأغصان المغطاة بالثلج .
تخبرنا إستر اليهودية بمضمون رسالة شكورة إلى قرة وفيما يلي نصها ؛
" قرة أفندي ، أنت تأتي إلى بيتنا اعتماداً على صلة القربى التي تربطك بنا ، لا تتوقع أن تحظى مني بإشارة ، حدثت أمورٌ كثيرة بعد ذهابك ، تزوّجت ولديَّ ولدان كسبعين ، أحدهما أورهان ، قبل قليل دخل ورأيته ، أنا منذ أربع سنوات انتظر عودة زوجي ، ولا أفكر بأمرٍ آخر ، يمكن أن أشعر بوجودي مع ولدين وأب عجوز أن لا أحد لنا ، ولا مناص ، وأننا ضعفاء ، ويمكن أن أكون بحاجة إلى قوة رجل وحمايته ، ولكن يجب ألا يفكر أحدٌ باستغلال هذا الوضع ، لهذا السبب ، لطفاً ، لا تطرق بابنا مرةً أخرى ، أحرجتني مرّة ، كم تعذّبت لإثبات براءتي أمام أبي " .
ترى إستر اليهودية أن رسالة شكورة هذه تدعو إلى العشق أكثر مما تدعو إلى رفضه ، ودليلها ، أن كاتبتها عطّرتها بعطرٍ نفّاذ يدوم طويلاً ...
لم تلبث شكورة أن تحدثنا عن حياتها في بيت أهل زوجها مع ولديها ، حيث كان الأب يطمح ، وبعد انقطاع أي خبر عن ابنه الفارس في الجيش العثماني أثناء حربهم المتواصلة مع الصفويين ، أن يتزوّج ابنه الثاني حسن المقيم معهم في ذات البيت من شكورة ، وكان يتوجب عليهم أن يثبتوا أمام القاضي أن الزوج المفقود متوفّى من خلال إحضار شهود ...
تقول شكورة ؛ " لو بذلت مجهوداً لأمكنني أن أعشق حسن ، وهو أصغر من زوجي المفقود بثماني سنوات ، ولكن عليَّ بذل الكثير من أجل أن أعشق هذا الرجل الذي جعلني غسّالة ، ولم يتردد بإرسالي إلى السوق لشراء الأغراض كالجاريات والعبيد " ، وتخبرنا أن حسن هذا حاول عدة مرات مضايقتها ، تقبيلها ، مداعبتها بيديه ، مخبراً إياها أن زوجها لن يعود أبداً ، مهدداً إيّاها بأنه سوف يقتلها ، وبكى أمامها مثل طفل ، ولأنه عجول وفوضوي على حد قولها ، لم يُعطِ فرصةً للعشق النبيل والحقيقي الذي تحكي عنه الملاحم ، ففهمت أنها لا تستطيع الزواج منه .
في إحدى الليالي ، عندما حاول الضغط على باب غرفتها التي تنام فيها مع ولديها ، تنهض فوراً ، ودون اهتمام لخوف الأولاد فتصرخ بأعلى صوتها ؛ " إن الجان الشرّير يحاول الدخول إلى غرفتها ، فيستيقظ حموها على صراخها ، فيُدرك السبب الحقيقي وراء صراخها ، وفي الصباح تعلن أمامهما أنها ستذهب مع ولديها إلى بيت أبيها المريض لرعايته ، وأنها ستبقى هناك لمدة طويلة .
وبما أن حبكة الرواية الأساسية تعتمد على ثيمة النقش والمرويات القديمة المتعلقة به ، فإنها زخرت بعشرات الحكايات من عصور مختلفة ، ولا سيما المتعلقة بالعشق والغرام ، والتي غالباً ما تنتهي بنهاية فاجعة غير متوقعة ، وتبرز لنا حكاية خسرو وشيرين المنقولة من التراث الفارسي ، فبعد مكابدات وألم يتزوج خسرو من حبيبته شيرين ، إلا أن ابنه شيرويه من زوجته الأولى ، سرعان ما يعشق زوجة أبيه شيرين ، وبينما كان الأب العجوز مع زوجته الجميلة شيرين ينظر إلى الرسم المعلّق الذي كان يمثلهما وكان يظهر فيه شاباً وسيماً ، يرتعد قلبه فجأة ، فيدخل الابن من النافذة ، ويغرز خنجره الكبير في صدر أبيه ، ليقضي ليلته مع معشوقته شيرين ، التي تستسلم له طواعية ...
الشيخ نصرت الأرضرومي
يتطرق باموق في روايته هذه إلى قضية التطرف الديني بطريقة ساخرة ، ويأتي الحديث عن هذا الأمر في بداية الرواية على لسان كلب ، حيث يتحدث عن أحد الشيوخ المتزمتين ، والذي كان يحث أتباعه ومريديه على التقوقع والانغلاق ويحرضهم على مهاجمة كافة المظاهر التي لا تتناسب مع رؤيته للدين والتشريع الإسلامي .
يقول الكلب " كان يا ما كان في قديم الزمان ، كان هناك عاصمة فيها جامع ضخم ، لنفترض إنه جامع البيازيد ، هناك واعظ لا يعرف أصول العلاقات أتى من مدينة ريفية ، لعله كان مضطراً لإخفاء اسمه ، ولنفترض أنه الشيخ حصرت ، هذا الرجل واعظ عنيد ، كان كل جمعة يهيّج المصلين ، ويبكيهم حتى أن هناك من تجف عيناه من كثرة البكاء ، ويُغمى عليه وينصرع ، ولكن ، انتبهوا ، لا تُخطئوا ، فهو لا يبكي مثل بقية الوعّاظ الأقوياء اللسان ، بل على العكس ، فهو يُبكي الجميع ولا يرف له جفن ، وحديثه المؤنّب للجماعة يُعطيه قوة إضافية ، كان هذا الشيخ لا يكفّ عن القول ؛ " السبب الوحيد للغلاء والوباء والهزائم هو نسيان الإسلام كما كان في زمن حضرة نبينا ، وانخداعنا بكتب وأفكار أخرى ، وأحابيل مختلفة على أنها من الإسلام ، هل كان في زمن حضرة محمد قراءة مولد ؟ هل كان يُعمل أربعينية للميّت توزع فيها الحلاوة والعوّامات على روحه ؟ هل كان يُقرأ القرآن الكريم حسب المقامات الموسيقية شأنه في ذلك شأن الأغاني ؟ هل كان هناك من يصعد إلى المئذنة قائلاً لنفسه ؛ ما أجمل صوتي ! هل كان المسلمون في بداية عهد الرسالة يطلبون من الموتى والأضرحة مدداً ويسجدون للحجارة مثل الوثنيين ؟
ويأخذ هذا الشيخ بالتهجم على أصحاب الطرق الصوفية ناعتاً إيّاهم بأبشع النعوت ومختتماً كلامه بـالتوصية ؛ يجب هدم الزوايا والتكيات ، وحفر أساساتها بمقدار سبعة أشبار ورمي التراب الناتج عن هذا الحفر في البحر ، وفي هذه الحالة فقط يمكن إقامة الصلاة هناك ..
ويتطرّق الكلب إلى مسألة أخرى ؛ " يقال إن الشيخ حصرت ، عندما يشتد انفعاله ، ويتطاير اللعاب من فمه يأخذ بالصراخ ؛ " أيها المؤمنون ، شرب القهوة حرام ، ولأن حضرت نبينا يعرف أنها تخدر العقل وتثقب المعدة ، وتسبب الفتق والعقم ، ولأنها حيلة شيطانية فإنه (ص) لم يكن يشرب القهوة قط ، إن المقاهي أمكنة يقصدها أهل الكيف ..."
ونحن نعلم أن هناك الكثير من الأتباع والمريدين ممن يتأثرون بهذا الشيخ المهووس ، وكان أحد هؤلاء المدعو ظريف ، وهو واحد من أربعة نقّاشين كانوا يعدون أفضل نقّاشي السلطنة ، وكان عمله على كتاب زوج خالة قرة يقتصر على التذهيب ، وقد أحدثت تخرصات الشيخ الأرضرومي في عقله بلبلة واضطراباً كبيرين ، لا سيما إتهام الشيخ لزوج الخالة من طرف خفي بأنه يحضر كتاباً للسلطان فيه مخالفة صريحة لتعاليم الإسلام ، فيُعلن ظريف عن ندمه ونكوصه عن الاشتراك مع رفاقه الثلاثة في هذه المهمة ، ويُفضي بمخاوفه إلى أحد زملائه ، الذي خشي أن يتفاقم الوضع أكثر فأكثر ، لا سيما وأن تأثير الشيخ الأرضرومي أخذ يتعاظم وينتشر ، فيقرر أن يضع حداً لذلك ، وعندما يلتقيه ثانية يلمس مدى اضطرابه وفزعه من خلال قوله وتأكيده ؛ " إن الرسم الذي تعملونه حرامٌ عظيم ، أتعرفون هذا ؟ إنه كفرٌ لا يجرؤ عليه أحد ، إنه زندقة ، ستُحرَقون في قعر جهنم ، لن يهدأ عذابكم ، ولن تخف آلامُكم ، وقد أشركتموني في هذا ... "
يتمشى معه ، وبعد أن يصيرا بالقرب من البئر ، يخبره أن المال الذي وعده به موجود في حفرة على بعد خمس عشرة خطوة من البئر ، يقول القاتل ؛ " أمسكت الصخرة الموضوعة بجانب البئر بانهماك ، وبينما كان يعد خطوته السابعة أو الثامنة لحقت به ، ونزلت بالحجر على رأسه من الخلف بكل قوتي " ، وبعد أن يتأكد من موته يرميه في الجب .
حديث ما بعد الموت (1)
الآن أنا ميّت، جُثةٌ في قعر جُب ، مضى كثيرٌ من الوقت على لفظي نفَسي الأخير ، وتوقف قلبي منذ زمن طويل ، ولكن لا أحد يعرف ما جرى لي غير قاتلي السافل ، إنه رذيل مقرف ، أصغى إلى نفَسي للتأكد من موتي وجسَّ نبضي ، ثم رفسني على بطني ، بعد ذلك حملني إلى الجُبّ ورفعني وألقاني ، رأسي الذي كسره الحجر تفتت في الجب ، انسحق وجهي وجبيني ، وخدّاي لم يبق منهما أثر ، تكسّرت عظامي امتلأ فمي دماً ، أربعةُ أيامٍ مضت على غيابي عن البيت ، زوجتي وأولادي بحثوا عني ، ابنتي انهارت لشدة البكاء وهي تنظر إلى باب الحديقة ، عيون الجميع على الباب والطريق ، كنت سعيداً ، الآن أفهم أنني كنت سعيداً ، كنت أعمل أفضل تذهيب في نقش خانة السلطان ، ليس هناك مُذَهّب يستطيع الاقتراب من مهارتي ، كان يدخلني في الشهر تسعمائة قرش أبيض من عملي في الخارج ، وهذا بالطبع يجعل موتي لا يُطاق ، باختصار أنا المدعو بين النقّشين ظريف أفندي متُّ ولكنني لم أُدفَن .شكايتي الآن ليست من تساقط أسناني مثل الحمص الهش في فمي المدمى ، وليس من سحق وجهي إلى حد عدم معرفته ، وليس من استعصائي في قعر جب ، بل من شعوري بأنني ما زلت حياً ، عليهم أن يجدوا جُثتي في أسرع وقت ، ويصلّوا عليّ ، ويشيّعونني ويدفنونني ، والأهم من هذا عليهم أن يجدوا قاتلي ، عليكم معرفة أنه إذا لم يُلقَ القبض على ذلك السافل ، فلن أهدأ في قبري حتى لو دفنوني في قبرٍ رائع ، وسأبقى أبثّكم اللاإيمان والبلبلة ، جدوا ابن القحبة قاتلي ، وأنا أحكي لكم بالتفصيل عمّا رأيته في الحياة الآخرة ، ولكن بعد أن تقبضوا على قاتلي عليكم أن تعذّبوه بـ ( المنغنة) ، وأن تكسروا عظامه الثماني عشرة ، وتُفضّل عظام الصدر ، وجعلها تطقطق ببطء ، بعد ذلك تثقبون جلدة رأسه ذات الشعر الطويل المزيّت والمقرف بالسياخ الخاصة بالجلادين ، واقتلعوا ذلك الشعر شعرة شعرة وهو يصرخ ، ولكن يتوجب عليّ أن أنبهكم منذ الآن ، أن وراء موتي مؤامرة مقرفة على ديننا وتقاليدنا ورؤيتنا للعالم ، افتحوا أعينكم ، واعرفوا لماذا قتلني أعداء الإسلام الذي تؤمنون به وتعيشونه ، ولماذا يُمكن أن يقتلوكم في يوم ما ، ها هي أقوال الواعظ الكبير الشيخ نصرت الأرضرومي كلها التي كنت أستمع إليها باكياً تتحقق قولاً قولاً ..." .
وبالعودة إلى إستر اليهودية ، فقد كانت دائبةً وسريعة الحركة ، تقتني بعض الحاجيات الضرورية والملابس النسائية من السفن الراسية ثم تعرض بضاعتها متجوّلةً على النسوة المرفهات في بيوتهن ، والأهم من ذلك كله أنها كانت تقوم بعملها الأساس ، وهو نقل الرسائل بين المحبين مقابل أجر ، وكانت لديها حيلها الخاصة للاطلاع على فحوى كثيرٍ من تلك الرسائل ، بل وأنها كثيراً كانت تعمد إلى إطلاع بعض المتنافسين على رسائل بعضهم إلى الفتاة ذاتها ، وقد لاحظنا كيف أن هناك من كان ينازع قرة على قلب شكورة ، وهو حسن أخو زوجها المفقود والأصغر سناً منه بثماني سنوات ، والأهم من ذلك أن شكورة نفسها كانت تستظرفه ، وتتمنى في بعض الأحيان لو أنها ألقت بنفسها في حضنه ، ولكنّ صرامتها واعتدادها بنفسها يمنعانها من ذلك ...
يقرأ حسن رسالة قرة إلى شكورة جواباً على رسالتها السابقة ؛
" شكورة خانم الحبيبة ، لأنني عشت سنوات طويلة على خيال شخصٍ واحد ، أتفهّم بإكبارٍ انتظارك لزوجك وعدم تفكيرك بغيره ، ما الذي يُمكن توقّعه من امرأة مثلك غير الاستقامة والعفة (هنا يضحك حسن مقهقهاً) ولكن مجيئي إلى أبيك من أجل النقش لا يعني أنني سأضايقه ، هذا لا يخطر ببالي أبداً ، كما أنني لن أقول إنك أعطيتني إشارةً أو منحتني جرأة ، عندما بدا لي وجهك من النافذة كالنور لم أفكر سوى أن هذا عطاء من الله لي ، لأن سعادتي لرؤية وجهك تكفيني ، أما وأنك تقولين لا تقترب مني ، فهل أنتِ ملاك ليكون الاقتراب منكِ مخيفاً إلى هذا الحد ؟"
بعد أن يعثروا على جثة ظريف على إثر انتشار رائحة العفونة المنبعثة منها ؛ نقرأ ما يقوله القاتل الذي يدلي هو أيضاً باعترافاته أسوة بشخصيات الرواية الأخرى ؛
" كنتُ أكثر الباكين عندما كان يُرَدم التراب البارد الرطب فوق جسد ظريف أفندي المسكين المتفتت ، كنت أصرخ قائلاً ؛ " دعوني أموت وأُدفَن معه ، وبدأ ثرثارو النقش خانة يعتقدون أن بيني وبين ظريف أفندي علاقة صميمية ..."
رسالة
شكورة خانم ، أنا احترق مثل الجمر ، وأعلم أن هذا لا يهمك ، عندما أنام أحلم أنني أطارد خيالك في الهضاب القفراء ، كلما تتركين دون جواب رسالة تتلقّينها مني ، أعرف أنكِ تقرأينها ينغرز في قلبي سهمٌ في نهايته ثلاثُ ريشات ..."
إزاء حيرتها أمام هذين العاشقين المتنافسيْن ؛ حسن وقرة ، ولكونهما يتألمان جرّاء هذا العشق ، تشرع بالمقارنة بينهما ؛ " قرة ذهب اثنتي عشر سنةً بعيداً وانقطع وزال ، وحسن يرسل إليّ يومياً رسائل منقوشة في زواياها رسوم طيور وغزلان ، ولكثرة قراءة هذه الرسائل أخذتُ أخاف منه بدايةً ، ومن ثم تعلمت كيف أشعر بالفضول نحوه ، ولمعرفتي أن حسناً فضوليٌ للإطلاع على ما يخصّني لم أُدهَش لمعرفتي بالأمر ، شككت أن إستر تسمح له بقراءة الرسائل التي أرسلها إلى قرة ."
ولكنها تعلم أن قلبها ، في سره ، يخفق لعاشقها القديم قرة ، فتقرر أن تلتقيه في أحد البيوت المهجورة ، وكان يُطلق عليه بيت اليهودي المشنوق ، ترسل ولديها مع الجارية خيرية إلى السوق وتذهب إلى لقاء عشيقها ، وحين يلتقيان تدور بينهما أحاديث شجية ، تقول ؛ " حكى لي حكايات جميلة جداً وكثيرة ، حكى عن النظر إلى الرسم والوقوع في العشق ، وتحدث عن تحمله العذاب من أجلي ، الآن لا أشعر سوى بسحر كلماته ترن في داخلي ، شعرت بالذنب لأنني جعلته يتعذب على مدى اثنتي عشرة سنةً ، يا لقرة ويا لجمال عباراته التي يقولها ، ويا لجمال هذا الإنسان ، إنه مثل طفل بريء ، أقرأ هذا في عينيه ، حبّه لي يمنحني الأمان ، ثم تحاضنّا ، استمتعت بهذا إلى حد أنني لم أشعر بالذنب ، وبشعور ممتع أحلى من العسل فقدتُ صوابي ، اندسست فيه أكثر ، وسمحت له بتقبيلي وأنا قبّلته ، وبينما كنا نتبادل القبل شعرت بأن العالم كله دخل في ظلامٍ لذيذ ، أردتُ للجميع أن يتحاضنوا مثلنا ، كأنني أتذكر أن العشق أمرٌ كهذا ، أدخل لسانه في فمي ، كنتُ مستمتعة إلى حد شعوري بأن العالم كلّه بدأ يغرق في جمالٍ برّاق ..."
وبينما شكورة وقرة منشغلين بعشقهما ، كان والد شكورة قلقاً جداً بشأن مقتل نقّاشه ظريف أفندي ، واعتبر أن ذلك يتضمن رسالة تهديد مباشر له ، وأنه ربما سيكون الضحية التالية ، وبناءً على ذلك حاول جاهداً التوصل إلى معرفة القاتل ، بعض القرائن والدلائل رجّحت أن يكون واحداً من بين النقاشين الثلاثة المتبقين الذين يعملون معه على الكتاب السري الذي كان السلطان قد كلفه بإنجازه ، فيرسل قرة إلى كبير النقاشين الشيخ عثمان لاستطلاع رأيه حول هذا الأمر ، خاصة وأن هؤلاء الثلاثة بالإضافة إلى المرحوم ظريف هم أقرب تلامذته إليه وأنه (أي الشيخ عثمان) هو من أطلق عليهم ألقابهم التي عُرفوا بها ...
في تلك الليلة ، التي أتيح لقرة أن يلتقي فيها بمعشوقته شكورة ، كان هناك من يطرق باب بيت زوج الخالة ، يستقبله هذا بوجل ، على الرغم من أن بينهما عملاً مشتركاً ، يسأله ؛ هل تخاف يا بني من الرسوم التي نُعدها ؟
فيجيبه ؛ " لم يعد كتابُنا سراً ، لعل هذا غير مهم ، ولكن الشائعات في كل مكان ، يُقال بشكل غير مباشر إننا نكفر بديننا ، يقال ، ليس حضرة سلطاننا من طلب تأليف الكتاب ، بل هو كتاب عملناه حسب مزاجنا ، ويقال أيضاً إننا نحضّر كتاباً يسخر من حضرة سلطاننا ، وهو كتاب إنكار وزندقة ، وإننا نقلد فيه معلمي الكفار من الرسامين ، وأننا ننظر بعين الكلاب الشاردة القذرة منظورياً ، فإذا رسمنا ذبابة وجامعاً نرسم الذبابة بحجم الجامع بحجة أن الجامع في الخلف ، وهذا كفر بديننا ، وسخرية من المؤمنين الذاهبين إلى الجامع ، وأنا لم أعد أستطيع النوم لكثرة ما أفكر به " ..
يثور بينهما حوارٌ طويل حول هذا الأمر ، يُمسك الحُقّة البرونزية الثقيلة بيده ، يقول زوج الخالة عندما يراه متفحصاً الحقة البرونزية ؛ إنها حُقّة مغولية عمرُها ثلاثمائة عام ، جلبها قرة من تبريز ونستخدمها للون الأحمر فقط ، في تلك اللحظة يعترف له ؛ أنا قتلت ظريف أفندي .
ومع ذلك يستمر النقاش بينهما حول النقش والحكايات الأسطورية والواقعية المتعلقة به ، ربما تفادياً منهما من الوصول إلى اللحظة الحاسمة ، وأخيراً يهوي بها على رأسه ...
حديث ما بعد الموت (2)
صار عقلي ورؤيتي وذكرياتي وعيني هي مخاوفي ، تداخلت فيما بينها ، لم أكن أرى أيّ لون ، أدركت أن الألوان كلّها غدت أحمر ، اعتقدت أن دمي حبرٌ أحمر ، وجدت الموت في تلك اللحظة ظلماً وجوراً ، أغلقت عيني حزناً ، ولكي لا يكون الرجل المعادي لي آخر ما أره في هذا العالم ، بعد هذا فوراً رأيت ضوءاً لطيفاً ممتعاً ، كان ذلك الضوء جذّاباً وممتعاً مثل نوم من شأنه أن يهدئ كل آلامي ، سألت مثل طفل ؛ من أنتَ ؟ قال أنا عزرائيل ، أنا الذي أنهي سفر ابن آدم في هذا العالم ، أنا أفصل الأولاد عن أمهاتهم والأزواج عن زوجاتهم ، والعاشقيْن كلٌ منهما عن الآخر ، والآباء عن بناتهم ، لن يبقى حيٌّ في هذا العالم دون لقائي "
يعلم السلطان بحادثة قتل زوج الخالة ، ومعلومٌ أن الأخير كان مقرّباً من السلطان ومن خاصته ، وأنه أوكل إليه عدداً من المناصب كما أسلفنا ، وأهم من ذلك كله أنه أوكل إليه بتأليف هذا الكتاب الخطير الذي كان النقّاشون الأربعة يضعون لمساتهم الأخيرة عليه ، ولم يتبق سوى تدوين الوقائع ومجريات الأحداث ، حيث وجد زوج الخالة أن خير من يستطيع القيام بهذه المهمة هو قرة ، ومن أجل ذلك كتب إليه يستقدمه إلى اسطنبول ..، ويجري استنفار كبير لمعرفة القاتل ، وكانت الشبهات تحوم حول أحد النقاشين الثلاثة المتبقين ، ولكن من هو بالتحديد ، لا أحد يدري .
حين تعود شكورة من خلوتها مع قرة ، تتفاجأ وتنصدم بموت أبيها ، ولا سيما وأنه تم بهذه الطريقة البشعة ، ولذا وبناءً على تفاقم الإحساس لديها بأنها أصبحت وحيدة وأنه لا بد من ثم من وجود رجل قوي بقربها يوفر الحماية لها ، ونعلم أنها سبق واتفقت في لقائها مع قرة على ضرورة أن يتزوجا على الرغم من أن وضعهما والظروف المحيطة بهما كانت ملتبسة إلى أبعد الحدود ، حيث وتلافياً من إقدام حسن وأبيه على استصدار أمر قضائي باستعادتها إلى بيت زوجها إذا علما بوفاة أبيها فكان لابد من إخفاء موته بأية وسيلة ممكنة والادعاء بأنه مريض ، كما أنه لا بد لهما من استصدار أمر قضائي يتضمن الإقرار بموت زوج شكورة المفقود من أجل أن يصبح الزواج ممكناً ...
وكان السلطان ، حين علم بحيثيات قضية مقتل زوج الخالة قد أصدر أوامره إلى الصدر الأعظم أن يستدعي إليه كبير النقاشين الشيخ عثمان وكذلك قرة وأن يبلغهما بضرورة أن يتم الكشف عن قاتل زوج الخالة ، وحدد لهما موعداً أمده ثلاثة أيام من أجل أن يتوصلا إلى معرفة اسم القاتل ، وإلا فإنهما سوف يتعرضان إلى التعذيب الشديد ثم يُقتلان هما وباقي النقاشين الثلاثة وبعد بحث واستقصاء طويلين في عدد كبير من المخطوطات السلطانية القديمة التي سُمح لهما بمعاينتها ، واستناداً إلى رسومات عثرت عليها زوجة ظريف أفندي في جيبه يوم جيء بجثته بعد استخراجها من الجب ، وبهذه الطريق يستطيع كبير النقاشين وقرة من تحديد هوية القاتل ...
يذهب قرة إلى النقاشيْن فراشة ولقلق ويخبرهما أنه تم التعرف إلى القاتل وأنه زميلهما زيتون ، ويتفق الثلاثة على الذهاب إلى بيت زيتون بعد أن يضعوا خطة مدروسة ، يواجه قرة زيتون بالاتهامات حول رسمة الحصان التي وجدوها في جيب ظريف أفندي ، فيُنكر أنه قام برسمها ، فيخبره قرة أن الذي قام بتحديد المسؤولية عن ذلك هو شيخهم عثمان أفندي نفسه ، أما أن يخوننا أبونا وأستاذنا ، ويتسبب بقتلنا أو نخونه ونتسبب بقتله ، وبينما هو سارح في أفكاره وهو في موقف الدفاع عن نفسه ، يشعر أنهم يتهامسون ، وفجأة يقفز الثلاثة فوقه محاولين تثبيته إلى الأرض ، وحدثت مدافعة ومعركة ، ولكنهم استطاعوا أخيراً تسميره إلى الأرض ، وأمسك قرة خنجره ووضعه على رقبته ، ثم أخرج قرة من حزامه شيئاً ، إنها إبرة طويلة ، رأسها مدبب جداً ، يقول زيتون ؛ " في لحظة قرّبها من عيني ، ثم تحرّك حركة أبدى فيها إمكانية غرزها في عيني " ، قال قرة ؛ " قبل ثمانين سنة أدرك أستاذ أساتذة النقش في بلاد فارس بهزاد عند سقوط مدينة هرات بيد أعداء ملكها أن كل شيء انتهى ، ولكي لا يجبره السلطان الجديد على نقش أمور لا يحبها ، أعمى نفسه بشرف ، ثم انتقل المغرز مع بهزاد الأعمى والسكران من هرات إلى تبريز ، ومن هناك تم إرساله هدية مع كتاب الشاهنامة من الشاه طهماسب إلى والد سلطاننا ، وهو بيدي الآن ، بعد أن سرقته من خزانة السلطان ، وأثناء ذلك حصل تدافع بينهم ، يقول زيتون ؛ " وحدث كل شيء بسرعة ، إذْ لم أنتبه إلى ما حدث ، شعرت بألم حاد بعيني اليمنى وتخدّر جبيني للحظة ، وبعد ذلك عاد كل شيء كما كان ، ولكن ترسّخ في داخلي هلع ، ثم رأيت الإبرة تنغرز بتصميم في عيني اليسرى ، شعرت بالحرقة ، كأن الخدر الذي في جبيني انتشر في رأسي كله ، وتوقف هذا الخدر عند خروج الإبرة ، كانوا ينظرون مرةً إلى عيني ومرةً إلى رأس الإبرة ، كأنهم غير واثقين مما حدث " .
وأخيراً لم يجد زيتون بداً من أن يعترف بجريمتيه ، محاولاً تبريرهما ، ثم يطلبون منه أن يُطلعهم على الرسم الأخير في الكتاب الذي تشاركوا في إنجازه والذي كان سرقه من أحد الصناديق في بيت زوج الخالة بعد قتله إياه ، ذلك الرسم الذي بقي سراً لم يعلم أيٌ منهم إلا جزءاً من ماهيته ، فيناولهم إياه ، ويستغل انهماكهم بالنظر إليه فيلوي ذراع قرة فيسقط الخنجر من يده ، يلتقطه ، ويُقرّب رأس الخنجر الحاد من عين قرة ، ثم يجمع زيتون أغراضه التي تناثرت ...
ولكن ما إن خطا خطوة أو إثنتين نحو الباب ، حتى قفز فوقه قرة بمهارة ، ولكنه لم يكن محظوظاً ، حيث تعرقلت قدمه بشيءٍ ما وفقد توازنه ، وأمسك به زيتون من رقبته والخنجر بيده ، وأمر زميليه الآخرين بالجلوس حيث هما ، فجلسا ، ثم يُدخل رأس الخنجر في منخر قرة ، يقول له ؛ " أستطيع أن أقطع رأسك إن أردتُ الآن ، ولكن يمكنني أن أعفو عنك من أجل سعادة شكورة وولديها ، عاملها جيداً " ولكن يده تتصرف عكس معنى كلامه ، فيُنزل خنجره على رقبة قرة بكل قوته ..( نعلم بعد ذلك أن قرة لم يمت ، وهو نجى من هذه الضربة القاتلة ليعيش بقية حياته مع حبيبته وزوجته شكورة ، وربما يكون الحب هو من حقق معجزة نجاته ) .
يأخذ زيتون أغراضه على عجل ويقرر الذهاب إلى مبنى النقش خانة ، وما أن يصل إلى هناك يوقفه أحدهم ، يقول زيتون ؛ " كان لصوته خنة تخدش الأذن ، قال إن الخنجر المدمّى ذا المقبض المرصع بالياقوت الذي بيدي يعود له ، وقد سرقه ابن أخيه شوكت بالاتفاق مع أمه شكورة ، ثم سلّماه إلى قرة ، وهذا يثبت أنني من رجال قرة الذين داهموا بيته واختطفوا شكورة " ، ويستدرك زيتون ؛ " إن هذا الرجل الغاضب الذي يدّعي المعرفة استنتج بأن قرة سيأتي مع أصدقائه إلى النقش خانة ، وكان يحمل سيفاً طويلاً يبرق بلون أحمر ، حاولت أن أوضح له ، حاولت أن أقول ؛ الرحمة توقف " ! ولكنه كان قد نفّذ الحركة ، أما أنا فلم أستطع حتى إشهار خنجري ، استطعت رفع يدي التي تحمل الصرة ، طارت صرّتي في الهواء ، قطع السيف الأحمرُ يدي أولاً دون إبطاء عابراً رقبتي من هذا الطرف إلى ذاك قاطعاً رأسي ..." .
حديث ما بعد الموت (3)
أدركتُ أن رأسي قُطع من الخطوتين المهتزتين اللتين خطاهما جسدي الذي تركني ، ومن هزّي الخنجر بشكل غبي ومن تدفق الدم من رقبتي مثل النافورة وانهياري على الأرض ، رجلاي المسكينتان كانتا تمشيان تلقائياً وتتخبطان مثل تخبط حصان مسكين دون جدوى قبيل الموت ، وبسبب سقوط رأسي وسط الطين لم أستطع رؤية قاتلي بشكلٍ كافٍ ولا الصرة المليئة بالرسوم والحاوية ذهبياتي التي طالما تمسكت بها بقوة ، الأمر الذي فكرت فيه قبل أن يقطع السيف رأسي هو ؛ أن السفينة ستبحر بعد ساعة وأنني سوف أتمكن من الصعود إليها والذهاب من ثم إلى الهند حيث أخدم في بلاط الشاه هناك ..." .
الجمعة، 11 سبتمبر 2015
قصص قصيرة جدا ً مستعمرة الديناصورات- عادل كامل القسم الأول
قصص قصيرة جدا ً
مستعمرة الديناصورات
عادل كامل
القسم الأول
[ويأخذ مورغان العشيرة عند الايروكوا، وعلى الأخص عند قبيلة "سينيكا" كشكل كلاسيكي لهذه العشيرة البدائية. ففي هذه القبيلة توجد ثماني عشائر مسماة بأسماء حيوانات: 1 ـ الذئب؛2 ـ الدب؛ 3 ـ السلحفاة؛ 4 ـ القندس؛ 5 ـ الأيل؛ 6 ـ دجاجة الأرض؛ 7 ـ مالك الحزين؛ 8 ـ الصقر.]
انجلز. " أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"
[ إلى الصديق الذي سألني، قبل ثلاثين سنة، لماذا تكتب عن الحيوانات، أقول: هناك أشقاء لنا مازالت خطاهم لم تصل هذه العتبة!]
المقدمة
[1] قصة كتبها لا احد:
" قطع رأس الحسين ووضع عند عبيد الله بن زياد ثم قطع رأس عبيد الله بن زياد ووضع عند المختار الثقفي ثم قطع رأس المختار الثقفي ووضع عند عبد الله بن الزبير ثم قطع رأس عبد الله بين الزبير ووضع عند عبد الملك بن مروان.....، فمن قطع رأس الأخير....، الذي كان منشغلا ً بقراءة حكاية قابيل وقد قطع رأس هابيل، وكان ادم يراقب المشهد وهو يمسك برأسه محدقا ً في السماء...."
[2] البلبل قال:
" كان علي ّ أن أغلق فمي..، أن أغلقه إلى الأبد...، بدل أن أغرد لكم، لكم وحدكم، لإمتاعكم، وترفيهكم، وإسعادكم، وإشباع غروركم...، ولغايات لم أكن اجهلها، ولم تكن مجهولة عنكم أيضا ً...، فإذا كنت اعرف لمن كنت أغرد، وأنا طليق في الغابة، فانا اعرف أيضا ًلماذا لا امتلك قدرة على إغلاق فمي، والكف عن النواح، والأنين ....، وأنا في القفص، أمامكم، لأنني مازالت أشيعكم بصوتي، مع إنكم لا تظهرون إلا مسرتكم، ورضاكم......، فكما أنا لم استطع الإفلات من كمائنكم، لا اعتقد إنكم تفلتون من كميني وأنا أراكم لا تذهبون ابعد من هذا المصير...."
[3] الآن
" لاذت العائلة هاربة من بطش الموت، بعد أن أوصدت منافذ الخلاص بوجهها، صوب البحر، للنجاة، لكن الأخير ابتلع الأم والبنت والولد، فأفاق الأب ليدرك أن عزلته غير قابلة للفهم، ولا للتأويل، فجلس عند قبر العائلة، في البلاد التي طردته، وعملت على قتله، بانتظار أن يأتي الموت، ويضع خاتمة للحكاية...، فهل جاء...؟"
5/9/2015
[1] التمساح والدب
سأل الدب جاره التمساح، بصوت شارد:
ـ هل فكرت بالمصير الذي ينتظر السحالي، والنمل، ورفاقنا البشر؟
هز التمساح رأسه بحركة آلية لكنها لفتت الأنظار:
ـ لم يعد يشغلني هذا المصير ولا يثير قلقي، يا صديقي، فقد غابت مليارات الصنوف...، وأخرى توقفت عن النمو، وسواها تحول إلى مخلوقات مختلفة ..
ـ آ ....، هذه نظرية عتيقة، يا سيدي، فالبرمجة العامة للأنواع هي التي ستحدث، على حساب التآلف، فضلا ً عن عدم الصلاحية.
أجاب التمساح ساخرا ً:
ـ ما هذه الخواطر، في هذا الصباح البارد، وكلانا تحرر من الخوف، والعدو المشترك لنا، وأصبحنا بمعزل عن التهديد بالقتل!
ـ آ .....، صحيح، حقا ً لا أمتع من الوجود في هذه المحمية، ومن العناية التي نلقاها، وكل ما يضمن مستقبلنا، ونحن نراقب آلاف الزوار...
ـ أكاد أشاطرك الرأي...، لو لم يحشرونا جميعا ً في هذه الحديقة، داخل هذه الأقفاص.
ـ لا تقل ذلك...، ولا تتذمر، فبعد أن أصبحنا عائلة واحدة، داخل أسوارها، فقد أصبحنا نرى الفيل يتنزه برفقة الذئب، والغزال يمرح مع السبع، والأرنب يقفز فوق جسد النمر، والطيور تلهو مع الحيتان، وابن أوى يلعب النرد مع الكركدن ...، بعد هذا كله أصبحنا لا نرغب أن نعود إلى الأسئلة العتيقة: لماذا حشرونا في هذا المكان!
ـ حشرونا هنا، أيها الصديق العزيز، كي لا ننقرض...، ونزول من الوجود، فنحن اليوم لا نشكو من البرد، ولا من الجوع، لا من الخوف ولا من الأعداء...، أليست هذه هي الحرية؟
ـ أكاد أقول نعم...، لكن لا أنت، ولا أنا، من أسهم في صنعها!
ـ هذه نظرية عفا عليها الزمن...، فالجديد إننا أصبحنا عائلة واحدة.
اقترب مدير الحديقة، مع حشد كبير من الزوار، والعلماء، منهما، وقال لهما:
ـ حتى إننا بدأنا نستحدث لغة جديدة مشتركة بين الأنواع المختلفة، بل نستحدث أنواعا ً لا وجود لها أيضا ً.
صرخ الدب:
ـ بل أصبحنا نشترك معكم بالتخلص من العالم القديم!
[2] مشكلة
خاطبت الجرادة الذئب:
ـ أرجوك ...، لماذا لم تغلق فمك وتكف عن العواء...، هل أنت مريض، أم جائع، أم تشعر بالخوف؟
ـ لا ...، وهذه هي مشكلتي!
[3] عودة
بمرح سألت السمكة الزرقاء زميلتها السمكة الذهبية:
ـ البحر الصغير، هنا، في هذا القفص الزجاجي، يسمح لنا بالاستمتاع على مدار الساعة...، نستيقظ متى نشاء، نلهو، وننام متى يكون ذلك مسليا ً...!
أجابت الأخرى:
ـ هذا صحيح ....، لولا إننا لا نعرف متى سيعيدوننا، بعد الانتهاء من مهمتهم معنا، إلى البحر الكبير الذي اصطادونا منه!
[4] الطبيب والديناصور
عندما استيقظ الديناصور الأب، وجد نفسه وحيدا ً، فلم يشاهد الأشجار، ولا السماء، ولا المساحات الشاسعة التي عاش فيها، فدار بخلده، انه ربما لم يكمل الساعات المخصصة للنوم، أو انه مازال يعاني من الكوابيس القديمة...، ولكن ما أن فكر بالعودة إلى مغارته المخصصة له، حتى شاهد طبيب المحمية يقترب منه، ويخاطبه بدهشة مرحة:
ـ حمدا ً لله، ظننا انك لحقت بأسلافك، وأصبحت نسيا ً منسيا، أما الآن، فأنت تفند نظرية الانقراض، وكل من صدع رؤوسنا بمشكلات الغياب، والزوال!
هز الديناصور رأسه الكبير، وقال بمرح للطبيب:
ـ أنا أيضا ً كنت أظن إنني لن أراك أبدا ً!
[5] ماموث
عندما وجد الماموث الضخم جسده مكبلا ً بمخالب الأسود وأنيابها، انتفض بشدة حتى كاد يفلت منها، ولما كان ذلك ـ فكر مع نفسه ـ بحكم المستحيل، طلب من الأسود الإصغاء له، للحظات لا أكثر، فقالت الأسود بصوت واحد:
ـ تكلم.
ـ المشكلة إننا، نحن الماموثات العظيمة، عندما نقتلكم، ونمسح الأرض بكم، لا نجني فائدة تذكر من هذا ...، لأننا نترككم تتعفنون في البرية، أما انتم فتقتلوننا حتى من غير تفكير، لتفترسوننا.
قال كبيرهم ساخرا ً:
ـ ماموث يفكر!
ـ إزاء اسود هي ذاتها لا تعرف كم هي نتنة، حتى وهي على قيد الحياة!
[6] حدود
بعد أن وجد البلبل ثغرة، في القفص، وهرب منها، عاد يبحث عنها، ليدخل، فقالت شريكته:
ـ الآن أدركت لماذا من الصعب التخلي عن القيود!
فقال لها:
ـ الحرية، من غير قيد، كالقيد بلا حرية....، فعندما هربت من القفص، كنت أظن إنني ساجد حريتي في الغابة، وليس بانتظار أن أقع في شباكهم مرة ثانية، أو أن أقع فريسة الصيادين الآخرين....، فقررت العودة إلى قفصي، خشية أن لا اعثر على ثغرة للعودة إليك، يا شريكة حياتي، وهذا أقسى من القيد نفسه، وأقسى من العبودية نفسها!
ابتسمت وقالت له بمرح:
ـ الآن عرفت لماذا اخترع الناس أقفاصهم!
صاح، وهو يحّوم حول القفص:
ـ عندما نكون داخل القفص لا نتوق إلا للحرية ...، وعندما نصبح طلقاء لا نعرف كيف نحمي حريتنا!
[7] مصير
قال الخنزير لزميله، وهو يتأمل رقبة الزرافة:
ـ حمدا ً للرب انه لم يخلقنا مثل الزرافات...، لا نعرف أين نحمي رؤوسنا!
ـ ليس المهم، يا زميلي، أن تكون لك رقبة طويلة، أو قصيرة، بل أن يكون في نهايتها رأس!
فقال بغضب:
ـ هل سمعت أحدا ً شتم الزرافة...، مع إنها تخفي رأسها في الرمال...، ليس هربا ً من المفترسين، بل بحثا ً عن التراب البارد!
ـ اعرف ...، كذلك نحن نزداد شراهة للطعام الجيد طالما نعرف نهايتنا!
[8] حكمة!
بعد أن امسك الثعلب بالديك، صاح الأخير:
ـ لن تنجو من أنياب كلابنا ولا من مخالبها...، فأين ستهرب، وأين ستفر، لتنجو من فعلتك الشنيعة..؟
أجاب الثعلب بلا مبالاة:
ـ دعني استمتع بك، أيها الديك السمين، الآن...، وقبل فوات الأوان، أما الباقي فانا غير مسؤول عنه!
[9] لعبة
سأل الخروف صاحب الصوف الأسود، شقيقه المتبختر بالصوف الأبيض:
ـ هل تعرف لماذا يضاعفون أعدادنا، ويوفرون لنا الطعام الممتاز، ويسهرون على رعايتنا، وحمايتنا من الأمراض، ومن الضواري، ومن اللصوص...، ولماذا يحرصون على تحسين نوعنا ...؟
ـ اعرف!
وأضاف:
ـ كي تزداد ثرواتهم!
فسأله:
ـ لكن ..، اخبرني، لماذا يحرصون على الإنجاب، وزيادة أعدادهم، هؤلاء عديمي الشفقة...؟
ـ من اجل الحروب...، فمن سيحارب لولا الفائض من الناس، أليس كذلك؟
ـ زيادة في الماشية، وزيادة في عدد السكان، وزيادة في عدد الضحايا، وزيادة في الثروات...، فقل لي من الكاسب في هذه المعادلة، أو في هذه اللعبة ...؟
ـ لا احد!
ـ لا...، المنتصر هو الموت!
ـ يا أحمق ...، الموت، مثل الزمن، محض أداة....، فهل سألت نفسك هل تشعر السكين بعاطفة وهي تجتز رقبتك؟!
ـ ما الغاية إذا ً...؟
ـ لو كنت اعرفها، لهربت إلى بلاد يلعبون فيها لعبة مختلفة!
[10] أمل
بعد الحرب الشاملة، التي جرت في الغابة، لم ينج إلا وحيد القرن، وغزال مبتور الساق، أعمى، منها. فخاطب وحيد القرن الغزال بصوت رقيق:
ـ لا مناص إننا، أنا وأنت، سننجب ذرية جديدة نأمل أن لا تحمل شعار: نموت، نموت، نموت من اجل الأرض!
[11] ديمقراطية
بعد أن عقدت حيوانات البرية اجتماعها الاستثنائي، قررت استدعاء دارون، للتأكد من عدم صواب نظريته، وان الزمن عفا عليها، فسألت الأفعى العالم العجوز:
ـ لو كانت نظريتك صائبة، فاخبرنا ما المعنى منها؟
أجاب بصوت مرتجف:
ـ أنا لم أكن ابحث عن المعنى، أنا كنت اهرب منه!
صاحت الحيوانات بصوت موحد:
ـ لكنك وضعت أبناء جنسك البشر في أعلى سلم التطور...، فهل هذه هي الديمقراطية الشفافة...؟
ـ آ .....، ما أغباني، مع إنني لم أكن اجهل السواحل العفنة التي انحدرنا منها!
ـ اخبرنا إذا ً أيها الفيلسوف المشاغب...، ما هي مصائرنا...، مثلا ً، أنا الأسد، هل سأصبح بعوضة، أم سأصبح كائنا ً اقل شراسة..؟
أجاب بصوت واهن:
ـ يحدث هذا بسبب ما لا يحصى من الاسباب..!
صاحت الحيوانات بصوت واحد، موحد:
ـ سنفترسك إن لم تجب.
ـ وهل لدينا ـ أنا أو انتم ـ إجابة، وأنياب الموت تعمل في مخفيات قلوبنا، وفي ملغزات عقولنا!
[12] بالروح
وجد الحمل الصغير نفسه قد تحول إلى ذئب، فقال للقطيع:
ـ آن لي أن أكون زعيمكم.
فهتفت حالا ً:
ـ بالروح...، بالدم.
فصرخ:
ـ الآن عرفت لماذا الذئاب الذكية لا تعوي!
فسأل كاتب القصة الحمل:
ـ هل تعرف كم لحمك لذيذ؟!
ـ مثلما اعرف شهية الدود وهو يلتهم جسدك!
قال الكاتب:
ـ أنا أوصيت بحرق جسدي!
ـ آ .....، لكن عليك أن تعرف لماذا تتوهج النيران...، ولماذا تصرخ جهنم: هل من مزيد...؟
[13] لذّة
قالت اللبوة للأسد بعد أن افترس أبناءه:
ـ ها أنت ترغمني لإنجاب أولاد آخرين...، يا لها من لذّة مرة!
فقال:
ـ أليس هذا هو سر صراع البشر على الكراسي! يذبح بعضهم البعض من اجل إعلاء شأن الموت!
فسألت اللبوة الأسد:
ـ وما الذي يجنيه الموت؟
ـ لو كنت اعرف الإجابة لما بحثت عنك!
[14] حوار
غريب أمر سكان هذا الكوكب، لا يتوقفون عن إنجاب المزيد من الضحايا...، والمزيد من الفقراء...، والمزيد من المشردين، والمعتوهين، والخارجين على القانون...؟
لم يجد الأرنب أحدا ً يرد عليه، فترك رأسه يترنح فوق العشب، ليستمع إلى صوت الأرض:
ـ وأنا من يمنحني سعادتي!
فصرخ:
ـ أيتها ألاثمة ...، أنت السبب إذا ً...؟
ـ لا ...، لست السبب حسب، بل الضحية أيضا ً!
[15] وليمة
سأل الكلب البني اللون الذي مازال يتمتع بذاكرة متوقدة، عشيقته ذات اللون الرمادي، وهما بانتظار وليمة المساء:
ـ هل تتذكرين، يا عزيزتي الغالية، ماذا فعلوا بنا...؛ تارة صدرت الأوامر بطردنا، وبإبعادنا، وتهجيرنا، وخلعنا، أو بقتلنا إن لم نفعل ذلك، لأنهم كانوا يخططون للقضاء علينا، ومحو سلالتنا من الوجود، تارة أخرى...؟
ـ آ ...، أتذكر بوضوح، وأتذكر انك طلبت مني ان نغادر المدينة، بعد أن أصبحت مقبرة لنا، ولجنسنا، وهناك، أتذكر ان أواصر الصداقة بيننا قد بلغت ذروتها، وأزاد كل منا هياما ً بالآخر، فأصبحنا عشاقا ً، ومتيمن، رغم إننا هربنا مع الهاربين، وعشنا حياتنا مع المشردين، والمذعورين من القتل...، ويا للبشر من أوغاد، وفاسدين، ومنافقين، وقتلة!
ـ كانت حقبة سوداء في زمن اشد سواد ًوفي تاريخ كاد أن يفقد لونه!
ـ لكنها حقبة لم تدم طويلا ً...، فانا قلت لك: لا المسرة دائمة، ولا الشقاء يدوم إلى الأبد.
ـ اجل، أتذكر، فقد عدنا، أنا وأنت، أيتها الغالية، بعد ان انشغل الناس بحياتهم، فعثرنا على مزرعة، عشنا فيها، بعد ان كان الطعام وفيرا ً، ويكفينا...، مما دفع بأشقائنا للتسلل، والعودة إلى مدينتنا الصابرة، والباسلة...، أنت ِ كنت مرحة، منشرحة، وشديدة العناية بمفاتنك، ومزهوة بجمالك النادر!
ـ إن لم افعل ذلك، يا حبيبي، فقد تجد ألف واحدة غيري تغرم بك، وبفطنتك، وقوتك الاستثنائية!
ـ آ ...، ثم أنجبنا ذرية صالحة، وكدنا نمضي ما تبقى من زمننا الوجيز بهدوء تام...، لا يشغلنا أمر الناس، ولا هم انشغلوا بأمرنا...، لولا دخول غرباء غزوا مدينتنا...
ـ آ ...، أتذكر، أتذكر بوضوح، فقد حلت الكارثة، ووقعت النكبة علينا.
ـ غريب أمر هؤلاء الغرباء، فقد جعلونا في بالهم.
ـ اجل، تركوا لحم الحملان، والماعز، والغزلان، والإبل، والثيران، والجاموس، والطيور...، وراحوا يصطادوننا، الواحد بعد الآخر، حتى كدنا نتعرض للانقراض، ونصبح نسيا ً منسيا!
ـ أنا طلبت منك الهرب، مرة ثانية، كي ننجو بجلدنا.
ـ بل أنا هو من أقنعك بالهرب والعودة إلى البرية، والبساتين البعيدة.
ـ عشنا بعيدا ً عن بيوتنا، وأزقتنا، ومزابلنا...
ـ ومر دهر حتى كدنا نفقد الأمل بالعودة..
ـ ثم...، هرب الغرباء، بعد ان اشتعلت الحرب، وبعد ان وقع العدوان على مدينتنا، فراح الناس يقتل بعضهم بعضا ً، يترصد احدهم الآخر، ويغدر به، ويذبحه من الوريد إلى الوريد...، الجار نكل بجاره، والأشقاء تحولوا إلى أعداء، وصاروا يبدعون، ويتفننون، بشهامة، وبسالة، وبطولة بطرق القتل، والانتقام، والاجتثاث، حد الحرق، والسحل، والمحو.
ـ أنا قلت لك، أيها الغالي، يا أوفى الأوفياء، لم تعد البرية صالحة لنا، فقد وصلتنا أنباء مؤكدة لم تكن تخطر حتى بالبال، ولا في الأحلام!
ـ وعدنا، نزهو بالنصر!
ـ انتظري...، علينا ان نراقب، فليس الوقت وقت ثرثرة، حتى لو كانت بهذه الرهافة، انتظري، فقد يلقون بجثث طرية، جديدة..
ـ آ .....، رغم ان اللحم البشري ممتزج بالمرارة، مج، وفيه زيادة بالملح، والصلابة، ومشوب برائحة عفن كريه، إلا انه ليس طعاما ً فاسدا ً جدا ً....!
ـ المهم، المهم إننا سنمضي شيخوختنا بهدوء، لا احد يتعرض لنا، ولا غرباء يفترسوننا، مادام الناس فقدوا عقولهم، وصاروا مهووسين بهذه الاحتفالات!
ـ مع ذلك، أيها الغالي، لا توجد سعادة تدوم إلى الأبد!
ـ عدت، يا أيتها الغالية، مشغولة بالأفكار العتيقة، وبما عفى الدهر عليه، فهل دامت لأحد، كي تدوم لنا، آيتها الجميلة!
[16] نذور
قالت السمكة العمياء لجارتها إن البحث عن مكان امن، في هذا البحر، غدا أكثر استحالة من انتظار الموت نفسه. فقالت لها بصوت متلعثم:
ـ أنا اقدر حكمتك، يا جارتي، عميقا ً، ولكن انتظار الموت يخلو من الفطنة، وسيؤدي إلى هلاكنا..
ـ حسنا ً، لنعترف بأننا مازلنا نتمتع بأشعة الشمس الذائبة في الماء، وقد غدت نعمة لا تجحد، ونقدر ان الوحل يوفر لنا طعاما ً نتغذى عليه...، مثلما نقدر ان الحيتان العظيمة سمحت لنا بالبقاء داخل هذه الحفر العميقة، البعيدة عن سطح البحر، بمنأى عن المفترسات وشباك الصيادين التي تجوب البحر ليل نهار..
ابتسمت الأخرى:
ـ أنا لم اطلب منك التحدث عن وجودنا كأسماك ولدت عمياء، كي نتجنب رؤية ما يحدث لنا، في هذا البحر، أنا طلبت منك البحث عن حفرة نمضي فيها ما تبقى لنا من أيام .
أجابت بأسى عميق:
ـ أنا لا استخف بك، وبذكائك، كي اطلب التريث، وعدم البحث عن مكان اقل خطرا ً، ولكن ما يجري للحيتان، والمفترسات الكبرى، ولباقي المخلوقات، ومنها هؤلاء الصيادين أنفسهم...، لا يمكن أن يقارن إلا بما يحدث في الجحيم! فالكل يواجهون الخطر الغامض ذاته يا شريكتي في هذه المحنة!
ـ أنت تعرفين إنني اعرف هذا تماما ً، الكل يواجهون حتفهم، ولكنني لم أسالك لماذا ولدنا من غير بصر...، بل أسألك لماذا رضخنا لهذا الحال، حتى أصبحنا ننشد، ونرقص، ونغني، بل ونؤدي طقوس الاحتفال كأننا في عيد؟
هزت رأسها الصغير باستسلام تام، ورددت بصوت بلغ مداه حافات السماء:
ـ نموت، نموت، نموت .. من اجل بقاء البحر!
[17] أسئلة
بعد أن زار الطفل حديقة الحيوان، مع والده، وذهب إلى السوق، صاح:
ـ بابا..، انظر: هذه دمى اسود، ونمور، وفيلة، وأخرى للتماسيح، والذئاب...
ـ ما الغريب في الأمر؟
ـ قبل قليل شاهدناها في الحديقة، فلماذا يصنعون لها مثل هذه الدمى؟
ـ ليقولوا لك: انك انتصرت عليها، وإنها لم تعد شرسة، بل أصبحت وديعة، وأليفة!
صمت الطفل قليلا ً ليسأل والده:
ـ لهذا كانوا، في الزمن القديم، يصنعون التماثيل للآلهة؟
ـ لا، لا يا ولدي، بل كانوا يصنعونها للاتقاء من شرها، من ناحية، وترضيتها، وطلب الرحمة منها، من ناحية ثانية!
ـ وهل كانت آلهة الزمن القديم شريرة؟
أجاب الأب بصوت متلعثم:
ـ وهل كانت الأسود، أو التماسيح، أو الذئاب، في الحديقة، شريرة...؟!
ـ لا! لكن دمى الأسود، تصدر زئيرا ً مخيفا ً، وكذلك التماسيح، والذئاب لها أصوات حادة ومخيفة!
ـ لا تذهب ابعد من هذا ...
لم يغلق الطفل فمه:
ـ عندما كانت هناك كثير من الآلهة، للماء والنار والتراب والأشجار والهواء...، كانت تشتبك في حروب دامية، وما أن أصبحت البشرية تؤمن باله واحد...، استمرت الحروب، ولم تتعض البشرية، وتكف عن سفك دماء الأبرياء؟
ـ آ ....، دعنا نرجع إلى البيت، فهناك سأخبرك بالجواب.
ـ تقصد ...، بعد أن نعود إلى أقفاصنا، ونغلق الأبواب على أنفسنا، تخبرني بالرد؟!
[18] أحلام
كانت الحيوانات تنظر بشرود، من وراء أقفاصها، إلى مشاهد الحرب، عبر شاشة كبيرة وضعت في وسط الحديقة. فقال الذئب لجاره الحمل:
ـ لا يخجلون...، الناس لا يخجلون، يقتلون هذا العدد الكبير من الأطفال، من ناحية، ويهتفون بالكرامة، والعزة، والقضاء على الطغيان، من ناحية ثانية!
أجاب الحمل:
ـ كلما نظرت إلى هذا العدد الكبير من الضحايا الأطفال، أسأل نفسي: لولا هذه الأقفاص الحديدية، المتينة، فهل كنتم ـ أيها الذئاب ـ ستتركوننا نعيش بأمان، وسلام؟
ـ آ .....، من ذا الذي يعيد هؤلاء الأشرار إلى أقفاصهم إذا ً....؟
قال الحمل:
ـ لا تكترث ...، تمهل، فنحن ـ الحملان وصغار الحيوانات ـ سنصبح طعاما ً لكم، أو لسواكم، أيضا ً...، أما الأشرار فلن يتركهم الموت يقتلون الأطفال، والنساء، والشيوخ، إلى الأبد!
قال الذئب:
ـ عدت تفكر، أيها الحمل الماكر، كما يفكر هؤلاء الذين يهتفون بالكرامة، والحرية!
أجاب الحمل:
ـ لا! فربما يأتي اليوم الذي نتصالح فيه معكم، أيها الذئاب، ويتصالح فيه الناس أيضا ً!
ضحك الذئب:
ـ وأنا أقول لنفسي: ربما سيأتي اليوم الذي سنعود فيه إلى البرية!
[19] الأسد والفأر
خاطب الأسد الهرم الفأر الذي عضه وهرب بعيدا ً عن القفص:
ـ في الغابة...، عندما كنت تعضني، كنت تهرب وتختفي في جحرك...، فلا امسك بك، أما الآن، فقد حجزوني خلف هذه القضبان كي تنجو مني أيضا ً!
ضحك الفأر:
ـ لا ..، لا يا سيد الغابة، لا تتوهم كثيرا ً ...، فعندما كنت تهرم، في الغابة، كانت الثعالب تبول عليك، حتى كانوا يقولون، وأنت في هذا الحال: كلب على قيد الحياة خير من أسد عجوز!
ـ ملعون ...، لو كنت اعرف كيف استدرجت الإنسان ليخدمك، ويرعاك...، وجعلته يمنحك هذه الحرية، لكنت تعلمت الكثير!
ـ لن تتعلم! لأننا كنا ـ نحن الكائنات الصغيرة ـ أكثر غباء ً من الإنسان نفسه! وإلا لكان الإنسان اجتثنا من الوجود، أو اكتفى بمشاهدتنا كما فعل معك، داخل هذه الأقفاص، وقد حولكم إلى دمى ملونة!
[20] مقارنات
سألت اللبوة الأسد، وهي تتأمل الغزلان، والحمير، والماعز، والثيران، وغيرها من حيوانات الغابة، سجينة داخل أقفاصها:
ـ ونحن سجناء خلف هذه القضبان، أليس هذا ظلما ً، وسلبا ً للحقوق...؟!
أجاب الأسد بصوت متقطع:
ـ يا عزيزتي...، يا لبوتي الغالية...، فعلوا ذلك كي يمنحوننا حريتنا!
ـ الحرية خلف هذه القضبان؟
ـ بدل أن نلقى حتفنا في البراري وفي الغابات، أو نموت من الجوع، ومن البرد، ومن الحر الشديد!
ـ السنا ـ نحن ـ أسياد الغابة، والبرية، أيها الأسد العظيم!
ـ لا تكترثي ...، فماذا يقول الإنسان، وهو يعيش أسير الأقفاص التي يسمونها: ناطحات السحاب، والمجمعات السكنية، وبيوت الصفيح؟
بحزن تمتمت:
ـ إذا نحن مازلنا نتمتع بالحرية؟
ـ هذه الكلمات لا يستخدمها سوى البشر..، لخداع بعضهم البعض الآخر...، الأفضل أن تقولي، كما تقول الحمير، والماعز، والأرانب، والثيران: لولا هذه العبودية، خلف هذه الأقفاص، فماذا كانت الأسود قد فعلت بنا!
[21] الدب الحكيم
هز الدب العجوز رأسه، وهو يخاطب أحفاده، داخل القفص، في المحمية:
ـ سابقا ً، يا أحفادي، كنا نمضي أزمنة شاقة في صيد سمك السلمون، وفي البحث عن خلايا عسل النحل، وفي العثور على مملكة من مملكات النمل....، أما الآن، في هذه الأزمنة، فيأتينا الطعام جاهزا ً، نظيفا ً، وطريا ً، ومن غير جهد، أو تعب، أو عناء!
فقال احد الأحفاد يخاطب جده:
ـ يا جدي، لا اعتقد أنكم، في ذلك الزمن القديم، كنتم تتسلون بمشاهدة الناس، وقد كفوا عن معاملتنا كأعداء لهم...، الآن تغير الموقف، يا جدي، فقد أصبحنا نمضي أزمنة سعيدة ونحن نتسلى بمشاهدتهم، فلم نعد نراهم أعداء ً لنا، وما عادوا هم يعاملون أعداء َ لهم أيضا ً!
ـ هذا صحيح، لكن الحرب، بين الناس، قد تمتد، وتمتد، لتصل إلينا، في هذه المحمية، آنذاك قد لا نجد مكانا ً نهرب له، وننجو.
صمت الأحفاد طويلا ً، ثم نطق احدهم متسائلا ً:
ـ ولكن لماذا انقسم الناس إلى أعداء ما بينهم... ؟
ـ وأنا أيضا ً لا اعرف...، ولكنهم بعد ان وضعونا في هذه الأقفاص، ظنوا أنهم يتسلون بنا، ولكن الحقيقة، لا نحن حصلنا على السعادة، ولا هم فقدوا الأمل بالحصول عليها!
[22] إسراف
تابعت السحلية، بصوت مرتبك، تخبر زميلتها، إنهما، في البركة، يحصلان على الطعام، والماء، والعناية الطبية، والأمان التام ....
فقالت لها زميلتها، وقد شعرت بما يشغلها:
ـ فلماذا الحزن، والقلق، إذا...؟
ـ أنا لا اعترض على هذه الرفاهية، التي كنا نحصل عليها، بجهد شاق، في البرية...، بل الإسراف فيها!
[23] ترف
ما الذي يجري لنا، في هذه الحديقة...، كذلك سألت السلحفاة زميلتها، وهي تراقب، من وراء المشبكات الحديدية، كيف يتم توزيع الطعام، على الجميع، من الأسود والنمور والتماسيح، مرورا ً بالثعالب والذئاب وبنات أوى، وصولا ً إلى الغزلان والأرانب والطيور...، ثم العناية بالنظافة، والوضع الصحي، والبيئي، تماما ً كأننا في مستشفى، أو في الفردوس!
ـ هل تعترضين، يا زميلتي، ان هذه العناية الباذخة قد تؤدي بنا إلى الترف، والى الهلاك، في نهاية المطاف...؟
ـ لا.
ـ ما الذي يشغل بالك إذا ً، ويقلقك...؟
ـ لو تعلم الناس هذا النظام الذي تتوفر فيه هذه العدالة..، لكنا أكثر سعادة!
فقالت الأخرى بصوت مرح:
ـ مع إننا لا ننتج شيئا ً يذكر، كما ينتج النحل، وكما تنتج الخراف، والأبقار، إلا ان عنايتهم بنا تدفع عنهم تهمة الشراسة، والعدوانية، وما يقال عن وسائلهم الشريرة في سفك الدماء!
ـ هذا صحيح...، لكنني أتساءل: لماذا لا يطبق الناس هذه النظام...، فلا يموت بعضهم جوعا ً، ولا يموت البعض الآخر بسبب التخمة، والإفراط في البذخ؟!
[24] محنة
للمرة الألف أخبرتك، تابع الذئب يقول لقرينته ذات اللون الرمادي، بصوت متوتر:
ـ أنا لم أقع في الفخ، ولا في شباك الصيادين...، فالصحراء مترامية الأطراف، وجحورها وحفرها ووديانها لا تحصى..
ـ أنا اعرف ذلك..، ولكن ماذا تريد ان تقول...؟
ـ لقد أصبحت، بعد تم القبض عليكم، وحيدا ً، فلم اعد احتمل فراقكم، والعيش بمعزل عنكم!
أجابت:
ـ أنا قلت للجميع: انك ستأتي طواعية! وتشاركنا حياتنا الجميلة!
ـ آ ......، حقا ً إنها جميلة، وباذخة، ولا خطر فيها...، ولكن هذا هو ـ تحديدا ً ـ يجعلني لا اصدق: ما الذي يخبأه الإنسان لنا...؟!
[25] ذكاء
وخاطب السنجاب الأسد، بصوت شارد:
ـ طالما قلت لك، يا سيدي، عندما كنا في الغابة: يا للغرابة ان يولد مخلوق ذكي، مثلك، وسط حشد من الأغبياء...، فكنت تقول لي: لا تتعجل!
وسكت السنجاب، فخاطبه الأسد:
ـ ها أنت تعتقد جيدا ً لولا وجود هؤلاء الأغبياء، لكان لذكائي فائدة...! ولكن عليك ان تدرك،، في الوقت نفسه، ان الأغبياء لم يفلحوا بعمل يستحق الذكر، ولا ذكائي كان له معنى!
ـ من ....، أيها الأسد الذكي الذي ولد في حشد من الأغبياء، يلام على هذه النهاية؟
ـ لا احد! فالجميع شركاء ليس في حصول ما حصل، وليس في بلوغ هذه النهاية، بل في استحالة حصول خاتمة مختلفة، أو أخرى!
ـ لكن ...، يا سيدي، هل البشر أذكى منا؟
ـ في نهاية المطاف، لا احد ينتصر على احد، ففي الغابة، طالما بالت الثعالب علينا، عند الهرم، وهنا، في هذه الحديقة الجميلة، طالما سمعنا الناس يرددون: كلب أجرب على قيد الحياة، خير من أسد أسير!
[26] ديمقراطية/1
خاطب الغزال النمر، بصوت لا يخلو من الشماتة:
ـ هذه هي النهاية ...، النمر أسير بجوار الحمير، والثعالب، والثيران، والغزلان ...، مكتفيا ًباستعادة أحلام العودة إلى الغابة!
ـ لا ....، أيها الغزال الأنيق، الناعم، الطري، فانا وجدت من يؤدي ذلك الدور بتوفير الطعام لي...، كما كان يحصل في الغابة، بل وأكثر ...!
ـ ملعون، أيها النمر...، كم تبدو ذكيا ً، وشاطرا ً، وقد استأجرت من ينوب عنك في اقتراف الإثم!
ـ ربما ...، لكن لولا الديمقراطية، التي سمحت لك بالكلام، أيها الغزال الظريف، لعرفت إنني مازالت ولدت مفترسا ً، حتى بكلماتي!
[27] ديمقراطية/2
مكثت اللبوة تغازل الأسد، حتى بعد ولادتها، فخاطبها الأسد بصوت رقيق:
ـ هذه هي فوائد الذكاء المكتسب، وربما المستحدث...، ففي الغابة كنت مضطرا ً لافتراس الجراء، أولادك، كي لا تهجريني، وتتوقفي عن ملاحقتي بغزلك، من اجل الإنجاب ...، لكن ـ هنا ـ وبعد ان ابعدوا الجراء عنا، أولادي، فلم يعد لديك مسوغا ً للحزن عليهم!
[28] ديمقراطية/3
خاطب الدب باقي حيوانات الحديقة:
ـ هذه هي الديمقراطية...، التي كنا نحلم بها، فهنا يستطيع الأرنب، مثل الأسد، ومثل النمر، ومثل الذئب، ومثل النعامة، ومثل البلبل، ومثل الكلب ... أن يرفع صوته، ويتحدث بطلاقة، ويقول كل ما يدور رأسه، من غير خوف، أو معاقبة، أو قتل...، بل ولا حتى من تأنيب الضمير!
أجابت زوجته بصوت خفيض:
ـ ليس عليك ان تشكر الديمقراطية، يا زوجي الغالي، بل الأقفاص التي عزلتنا!
وراحت تتمتم مع نفسها:
ـ لا الحياة آمنة في الغابة، ولا سماع أنين الأسود، هنا، يتركنا نشعر بالهناء!
عاد الدب إلى إكمال موعظته، وكان يقف فوق مرتفع يطل على الجميع:
ـ فانا لا اعتقد، رغم شكوى البعض منكم، ان ديمقراطيتنا ستنتهي بكارثة...، كما آلت حياتنا في البراري، والمستنقعات، والغابات له...، وحشرنا في هذا المكان!
لكزته زوجته هامسة:
ـ أنا لم اطلب منك ان تفرط بالحديث عن المستقبل...، حد انك رحت تشتم أصلك، وتجهل انك انحدرت من عفن المستنقعات!
[29[ ديناصور
مد الفار رأسه من ثقب في المشبك الحديدي، وخاطب الأسد:
ـ سيدي...، بعد ان تجولت في الحديقة، بحريتي، لم اعثر على وجود للديناصور ...، معنا، فهل عجزوا عن إرغامه كي يكون معنا ليتمتع بالرفاهية، والسعادة، والعناية التي منحوها لنا...؟!
ـ يا نذل...، لو كنت اعرف من أين تأتي بهذه الأفكار، لرشحتك ان تكون قائدا ً لنا!
ـ لا اعتقد ان إجابتك حاذقة كي تتملص من الرد المطلوب..!
ـ يا ملعون ...، أنت تعرف ان الديناصورات تعرضت للانقراض، قبل ملايين السنين، فهل باستطاعة البشر نبشر الماضي، للعثور على ديناصور..، أم اكتفوا بعرض هياكلها في المتاحف، ووضعها في أقفاص من زجاج!
ـ من أخبرك بذلك...؟
ـ المستقبل!
ـ إذا كنت، يا سيدي، تتمتع بمثل هذا الذكاء، فلماذا وقعت في الأسر، ولم تنج من كمائن الصيادين...؟
ـ فكرت طويلا ً في الأمر ...، فأدركت، إن الإنسان لن يترك مكانا ً آمنا ً لنا ...، لا في البرية، ولا في الغابات...، فقلت لنفسي: آن لك ان تستسلم بشرف!
[30] الفيل والنملة
سأل الفيل نمله رآها في الطريق:
ـ أراك حزينة، شاردة الذهن، حيرى...؟
أجابت النملة بصوت خفيض:
ـ خرجت ابحث عن طعام لصغاري...، فوجدتك تسد الدرب علي ّ.
ـ آ ....، آسف، تفضلي بالمرور .
لكن الفيل لم يخبرها، بأنه، هو الآخر، خرج يبحث عن طعام لصغاره، وانه اكتشف كمينا ً كاد يودي بحياته، وانه لا يمتلك إلا أن يرجع إلى بيته من غير طعام، بدل أن يهلك برصاص الصيادين.!
[31] أمل
همست الحمامة في آذن الصقر:
ـ انظر، أيها الصقر، الدب يرقص مع الثعلب، والأفعى تتسلق رقبة الزرافة، الغزال تلعب النرد مع الذئب، مرحة، والنمر يداعب صغار الماعز، بمسرة، الضفادع غير مكترثة للسحالي، والتمساح يحاور الحمل...، وكأن أنيابها شذبت، وهذبت مخالبها أيضا ً!
ـ لا يا صديقتي الحمامة، لم تشذب الأنياب، ولم تهذب المخالب، إنما وجودهم داخل هذه الأقفاص هو من أغلق أفواههم!
ـ إلى الأبد؟
ـ أرجوك ِ، أيتها الحمامة الوديعة، لا تتكلمي مثل الناس، كي تخدعيني أو تخدعي نفسك...، أو تستغفليني أو تتغافلي، فأنت تعرفين ان الصيادين أسرونا، وسلبوا اغز ما نمتلك، وهو حريتنا، من اجل أهداف لا نعرف شيئا ً عنها.
ـ وهل سيدوم هذا إلى الأبد؟
ـ قلت لا تتكلمين كالبشر!
ـ لكن ليس لدينا إلا هذا الأمل الذي لا يجمعنا معهم، وقد رضخنا له جميعا ً!
ـ أنا مثلك لا امتلك إلا تأمل المشهد، من وراء الأقفاص، بعد ان لم تعد لدينا إلا هذه الحرية!
[32]الحفيد وجده
نظر الشبل إلى جده، فرآه شارد الذهن، في قنوط، وغير راغب في الكلام، بعد ان انزوى في ركن القفص الفولاذي، بعيدا ً عن أنظار الزائرين...، أقترب منه، وسأله:
ـ أيها الأسد المعظم، كأنك في ورطة؟
قال الجد الهرم بصوت واهن، مرتجف:
ـ لقد أمضيت شبابي في البرية، وفي الغابات...، وأنا اختار فرائسي، إن كانت من الغزلان، أو الثيران، أو حتى لو كانت من جرابيع الصحراء، أو الماعز الجبلي، أو من الجاموس ...، أما الآن فانا لم اعد أميز بين لحم الشاة عن لحم الحمار...، ولم اعد افرق بين أوقات الليل عن أوقات النهار...، فانا مقيد بهذه المسافة داخل هذا القفص، وأصبحت بلا عمل، عدا تأمل من ينظر لنا بسخرية، وشماتة، وتندر...، وكأن البشر يقولون لنا: مضى زمنكم، وولى مجدكم إلى الأبد! فلم يعد لوجودي قيمة، ولم تعد لكلماتي معنى...، فانا لا استطيع الهرب إلى البرية، وفي الوقت نفسه، يا حفيدي العزيز، علي ّ ان أؤدي دوري في السيرك، مثل القرود، والدببة، ومثل القطط والنمور والكلاب...، فهل يسرك هذا، وقد أصبحت هزأة، وفائضا ً حتى مع نفسي؟
ـ ولكن، يا جدي، الم تستطع البقاء في الغابة، والهرب من الصيادين...؟
ـ وهل تركوا، هؤلاء الأشرار، لأنفسهم رغبات سوى الاستيلاء على السماء، بعد الاستيلاء على الغابات، والبحار، والبراري...!
ثم ـ بعد صمت ـ أضاف:
ـ أنت تعرف ان أجدادك مازالوا أحرارا ً، وطلقاء، في الغابات وفي البراري...، ولكن ...، كلما فكرت بين تلك الحرية، وبين القيود هنا، أدرك ان النهايات شبيهة بمقدماتها...، فلا الحرية هناك حرية، ولا القيد هنا قيدا ً!
ـ أرجوك، يا جدي الحكيم، هذا كلام صعب ...، فانا ولدت في هذه الحديقة، ولا اعرف شيئا ً عن الحرية، ولا عن القيود!
ـ اقترب مني.
اقترب الشبل منه، قال الجد:
ـ أنت مثل معظم الناس الذين ولدوا في المدينة...، فهم أحرار بالهيمنة على قيودهم، وهم عبيد في ممارسة حريتهم! أما نحن فليس لدينا إلا ان نمضي حياتنا لتسلية الآخرين، وإشباع فضولهم، وربما دهشتهم أحيانا ً! ولهذا تراني، مثل بعض الناس، احلم كأنني أعيش في مكان آخر، بعيدا ً عن هذه الأقفاص!
فسأل الحفيد جده الأسد بفضول:
ـ أتحلم بالخلود؟
ـ هذه هي أوهام البشر....، يتسلون بنا، بعد ان استولوا على أرضنا، وغاباتنا، وأسرونا، وقيدونا داخل هذا المكان، ثم فرضوا علينا شروطهم: متى نستيقظ، ومتى ننام، متى نتغذى، ومتى نتناسل...،وأخيرا ً دربونا على الرقص أمام الناس ...، كأنهم هذبوا مخالبنا، وشذبوا أنيابنا، وجعلونا مثل أبناء المدن...، احدنا يغوي الآخر بالكلمات!
ـ الآن فهم لماذا اعتزلت، ولماذا انزويت في هذا الركن بعيدا ً عن الأنظار!
رد الجد:
ـ لا ...، لست أنا هو من انزوى، وترك الدنيا، يا حفيدي، بل هم من استبدل مصائرنا، بمصائر أخرى، وحولونا إلى عبيد من اجل نزواتهم، ورغباتهم، وهذا كل ما في الأمر!
بعد صمت، سأل الشبل جده الأسد:
ـ وهؤلاء الأشرار، من يتحكم بمصائرهم؟
ـ آ .........، هذا هو السؤال الذي لا نجد إجابة عليه، إلا بعد الموت!
[33] محنة
ـ غريب يا أمي...، ابن الغزال يشبه أمه، وابن الفيل لا يشبه ابن الأسد، السمكة ليس لها جناح، والطائر لا يغوص في الماء...، لكن أنا ولدت مثلك، يا ماما، لا أجيد الطيران، ولا الجري، ولا العوم، ولا حتى الغطس في ماء البركة ...
ـ اسكت يا حماري الصغير ...، فانا طالما حلمت لو كان أبي أسدا ً، ولو كانت أمي غزالة، أبي من النمور وأمي من الذئاب ...، لكن ما جدوى الحلم، ومصائر الجميع، في نهاية المطاف، تامة النهايات!
ـ لم افهم قصدك يا أماه!
ـ لأنك حمار!
ـ لا تشتميني، فأنا لم اختر ان أولد حمارا ً...، كما لم اقدر على استبدال صنفي بأي صنف آخر، فانا لست مسؤولا ً عن ذلك!
فسألته بصوت مرتبك:
ـ أتحلم أن تكون دبا ً، أم تمساحا ً، أم فيلا ً ...؟
ـ لا .....، تلك كائنات شرسة، مؤذية، لها أنياب حادة ولها مخالب توجع....، لكنني طالما حلمت بالطيران في الأعالي!
ـ وما ان تستيقظ، يا ولدي، حتى تكتشف انك، مثلي، ولدت لتحمل أوزار الناس، وأحيانا ً، تصبح وليمة للضواري!
[34] ثمن
استدعاه المدير، ذات صباح، فراوده شعور ما بوجود مكيدة، فقال الثعلب مع نفسه، انه يتوجب ألا يبدو ذكيا ً بإفراط، فيتم استغلاله ، وان لا يتظاهر بالبلادة فينكشف سره. قال المدير مرحبا ً:
ـ تفضل بالجلوس، أيها الصديق العزيز!
وانتظر الثعلب ما سيقوله المدير، بعد ان لوح بملفات كانت مخبأة بجواره في الخزانة الحديدية:
ـ فهي تتضمن شكاوى ضدك ...،فثمة من أكد انك سطوت على بيت الشيخ ك، وافترست ديكه، ودجاجاته، كما سطوت على بيت الأرملة ن...، ومنزل الحاج ص...، ولم ينج منك حتى بيت الأيتام، وبيوت العبادة، والمشفى...
رفع الثعلب ذيله قليلا ً، ومد رأسه إلى الأمام، مبتسما ً:
ـ وأنا اعتقد ان هناك ملفات أخرى...، ضدي، ولكن، اخبرني أيها السيد المدير، ما المطلوب مني ان اعمله؟
فأجاب المدير باستغراب، وتندر:
ـ ومن قال انك مكلف بتنفيذ أوامر جديدة!
ـ فلماذا تم استدعائي وأنا مركون في زاويتي المنسية، في أطراف الحديقة؟
ـ كي نحررك، لأننا نسعى لحصول على أمر إطلاق سراحك!
لم يستطع الثعلب تجنب الضحك، إنما ضبط نفسه، وخفض من صوته، متسائلا ً:
ـ ومن قال إنني سعيت للعودة إلى البساتين، هل كي تلاحقني الكلاب، بحجة إنني من الخارجين على القانون...؟
ـ للمرة الأولى، في حياتي، أكاد لا اصدق انك أذكى مما كانوا يقولون عنك....
فتساءل الثعلب:
ـ أيها المدير اشعر بالآسف انك مازالت منشغلا ً بالإشاعات، وبتقارير المخبرين، وتصدقها، بعد ان أسرتم حيوانات الغابات، والبراري، والبحار...، فأرجوك اخبرني بماذا تريد ..؟
ـ نعم لدي ّ..
صمت المدير لحظات، وقال متابعا ً:
ـ إن رغبت بالحصول على الحرية، فعليك ان تتعاون معنا!
ـ غريب! انك تستدرجني إلى الخيانة!
ـ لا، بل للتعاون معنا، من اجل إنقاذ باقي أفراد عشيرتك واهلك من الثعالب...، فبدل ان تؤذيها الكلاب، وبدل ان تهلك جوعا ً، ان تدعوها للسكن معك في هذه الحديقة، بعد ان خصصنا لكم مساحة كافية من الأرض!
ـ آ ........، أيها المدير الشاطر، لكن لو أطلقت سراحي فما الذي سيضمن عودتي إلى العبودية؟
ـ أنت اذكي من ان تسأل مثل هذا السؤال...، ليس لأنك ستكون زعيما ً فحسب، بل ستضمن مستقبل أحفادك أيضا ً!
همس الثعلب بصوت خفيض:
ـ اخبرني، أيها المدير الشاطر: عرش من دام، كي يدوم عرشي؟
ورفع ذيله، مبتسما ً، ووقف عند الباب:
ـ مع إنني اقدر مدى الضرر الذي سيلحق بي، والأذى، ومع معرفتي التامة بأنكم لن تدعوني حيا ً، إلا ان تعاوني معكم سيكون اشد مرارة، واكبر إساءة، تلحق ليس بنا، نحن الثعالب، بل بسمعة هذه الحديقة أيها المدير الشاطر، ومستقبلها!
[35] إضراب
ـ آن لنا ان نعلن الإضراب العام عن الطعام ..
كذلك تابع طائر النورس خطابه وهو يحرض باقي الطيور:
ـ فالعودة إلى ضفاف الأنهار، والى الحقول الشاسعة، والى البراري الفسيحة...، سيخلصنا من قيود هذا السجن!
فسأله البلبل:
ـ ومن يضمن إنهم لن يتركونا نموت جوعا ً، أو إنهم سيبيعوننا في الأسواق، أو يجرون علينا تجاربهم في المختبرات...، أو يصنعون منا وجبات طعام للحيوانات المفترسة؟
أجاب النورس:
ـ حتى الحكماء الذين أرسلتهم الآلهة لهداية البشر، أما يقتلون، وأما يشردون، وأما يسجنون...، فهل ترغب بثمن بخس للحرية؟!
ـ ملعون ....، أيها النورس، أصبحت تتحدث مثل الناس، الكل يخدع الكل باسم الحرية، وبشعار التحرير، ولا احد فكر بملايين الضحايا وهم يدفعون الثمن، من اجل غايات لا نعرف شيئا ً عنها!
ـ إذا ً عليك أن تدفع ثمن عبوديتك، وحدك، ولا تحبط من هممنا في إعلان الإضراب! فإذا كنا خسرنا ماضينا، وحاضرنا، فنحن لا نريد خسارة مستقبلنا!
ـ جميل، ولكن قل لي أين تدربت على هذا الكلام، وأنت تعرف إن البرية لم تعد آمنة، بعد أن استولى عليها البشر؟
ـ كأنك تقول ما أحلى مذاق الموت من غير حرية، في سجننا، هنا، ولا تريد أن تقول: ما أكرم من يكون فداء ً لها!
[36] الحرب
همست البقرة السمينة في إذن الثور، شريكها في الزريبة، عند تناول وجبة طرية من الأعشاب:
ـ سمعت، أيها العزيز، إن الحرب الكونية الثالثة ستندلع...، بعد التمهيد لها، طوال السنوات الماضية!
قال الثور بلا مبالاة:
ـ يا سيدتي البقرة البدينة، وهل استطيع منع وقوعها؟
ـ لا!
ـ وهل ثمة جدوى من الاعتراض، أو التذمر، أو الأسى؟
ـ لا!
ـ وهل لو مت من اجل عدم وقوعها معنى ما في الأمر؟
ـ لا!
ـ إذا ً....، أيتها البقرة العزيزة، دعينا نحيا، كما قدر لنا، وكما هو مقدر للغزلان، والأسود، والفيلة، والحمير، والضفادع، وللآخرين شركاؤنا البشر!
ـ سيدي الثور، كلماتك تؤكد إن الحرب واقعة لا محالة!
فقتال متندرا ً:
ـ بل أنا أراها قد انتهت أيضا ً!
ـ كيف؟
ـ إيمانك بوقوعها يجعلها واقعة لا محالة، والعكس صحيح تماما ً!
ـ اخبرني يا ثوري الغالي، ما الصواب، فانا فكري اضطرب كثيرا ً؟
ـ أن تشاطريني التفكير بالعثور على حل مناسب، لا يقول باستحالة وقوعها، من ناحية، والعمل كأنها وقعت ووضعت أوزارها، من ناحية ثانية!
ثم راح يضحك، فسألته:
ـ ما المضحك في الأمر؟
ـ سأفترض إننا نجونا منها، إن وقعت، ولكن من يضمن سلامتنا، إن لم تقع، إنهم سيطلقون سراحنا، وينتهي زمن الذبح، بعد أن أصبح شركاؤنا يرفعون شعار اذبح قبل أن يصلك الدور!
[37] موت ذئب
عندما راوده الشعور بان أيامه في الحديقة قد بدأت بالنفاد، جمعّ الذئب العجوز قواه، استعدادا ً للبوح بكلماته الأخيرة، فلعلها ـ دار بباله ـ ان تكون مفيدة لأفراد أسرته، ومستقبلهم، لولا انه وجد الأمر برمته غدا قبض ريح، فدار بباله أيضا، ان السنوات التي أمضاها في البرية، وهو يكافح من اجل البقاء على قيد الحياة، لا تقارن بما حصل عليه بعد الوقوع في الأسر، والامتيازات التي حصل عليها، وتعرفه ـ عن قرب ـ على ما لا يحصى من الفصائل والأنواع المختلفة، وهي تنعم بالأمن والرخاء والرفاهية...، فاعترف لنفسه، انه لا معنى للأرض التي كان نفوذه قد فرض هيمنته عليها، ولا لغياب السلطة في الحديقة، له معنى إزاء ما كانت تؤول له النهايات في الصحارى، حتى تندر من هؤلاء الذين كانوا يتصورون الأمور بوصفها راسخة وغير قابلة للدحض. وها هو وجد نفسه يتخلى عن فكرة الاعتراف وإسداء المواعظ ما دامت حياته، في الماضي، و خلال سنوات الأسر، مضت كأنها لم تحدث إلا وكأنها ومضات تخللتها بقع رمادية بلغت ذروتها عندما اعترف لشريكته ـ في البرية وفي الحياة وراء القضبان ـ انه لا يمتلك إلا أن يجد زاوية يضع رأسه فيها وينام إلى الأبد: فانا غير مسؤول أو قلق لو حدث أن بعثوني من الموت، بعد ذلك!
[38] الحرب
ـ لن تفلت، أيها الجربوع، فالحديقة محاطة بالأسلاك، ومحصنة بالسواتر، وفي الشارع مازالت المواجهات محتدمة بين الفصائل المختلفة...، ثم لماذا تفكر بالهرب؟
ـ سنموت جوعا ً، هنا، بعد ان هرب الجميع، وتركونا نواجه قدرنا!
ـ آ ...، اقدر رغبتك، لكن بدل ان تسحقك الحرب، وأنت لا تعرف من معك، وأنت لا تعرف مع من أنت، فتهلك في الحالات كلها.
ـ ها، ها، كأنك تقول إنهم يعرفون لماذا يذبح احدهم الآخر.
ـ لا، لم اقل ذلك، بل قلت: عليك ان تمكث في مكانك، وتحتمي بجحرك، مثلي، حتى تنتهي هذه الحرب اللعينة.
ـ تقصد ...، حتى نموت!
ـ يا صديقي، وهل كنا ولدنا كي نعيش إلى الأبد؟
ـ إذا ً....، دعني أعود إلى البرية، فلعلي أجد من احتمي به، بعد ان أصبحت حديقتنا مقبرة! فالواحد بالألف، للنجاة، لا يقارن بـ999 من حتمية الموت قبل نهاية هذه الحرب!
[39] أمل
ـ يا صديقي الدب، أنا سمعت المدير يطالب السلطات بحقوقنا.
ـ أنا سمعت أيضا ً، ومنذ سنوات، هذا النداء!
ـ المهم، هناك من يطالب ..، وهناك من يعد بتلبية الطلب، فهناك الأمل، فما الجدوى من البكاء على غابة لا وجود لها؟
ـ آ ......، سنوات طويلة أمضيناها بانتظار العمل في السيرك، في هذه المدينة، فأضعنا الغابة، وأضاعتنا المدينة، لتطلب مني ألا أولول أو أنوح على خاتمة أعدت لنا حتى قبل ان نولد في هذه الحياة!
[40] عواء
ـ أيها الذئب....، لماذا لم تعد تعوي، كما كنت تفعل في البرية؟
ـ لأنك، يا عزيزي، لم تعد تسمع!
ـ أكنت تعوي كي أسمعك؟
ـ لا! بل كي اعرف لماذا أغلقت فمك إلى الأبد!
ـ أنا لم أغلقه...، لكنك لم تعد تصغي إلى صمتي!
ـ ها ......، لا خاسر ولا أكثر خسارة، فانا وأنت شركاء في اللعبة.
ـ أية لعبة؟
ـ التي كنا نظن إننا نلعبها؛ اللعبة التي لا وجود لها، والتي علينا ان نكملها حتى النهاية!
[41] حرية
قال الأرنب للحمار، الذي انتخب زعيما ً في الاستفتاء الأخير:
ـ للأسف، مكثت تعاملني بوصفي أرنبا ً...، والحقيقة، أنا ولدت حمارا ً، ثم أصبحت حملا ً، وبقرة، وبعدها نبتت لي قرون، فصرت ثورا ً...، ثم استيقظت أخيرا ً كي أجد نفسي أصبحت أرنبا ً...، فانا اجهل متى تفترسني الذئاب، أو الكلاب، أو حتى بنات أوى...، تخيل!
قال الزعيم:
ـ لولا الديمقراطية...، أكنت تستطيع ان تتكلم بحرية، ولا احد يقطع رأسك؟
ـ لا ! لا أبدا ً...، فلولا الديمقراطية لكنت اجهل إلى الأبد كم مرة مت، وكم مرة سأولد كي أموت!
[42] ومضات
قال الأرنب لجاره:
ـ الصيادون...، تخيّل، لم يتركونا أبدا ً ...، في السابق كانوا يقتلوننا، من اجل فرائنا، وجلودنا، ولحمونا...، أما الآن، فصاروا يدرسوننا، ويتباهون بقدراتهم على إقامة عصر ما بعد الصيد!
ـ تقصد ...، إنهم مازالوا يحلمون ..
ـ نعم، ويحلمون ابعد من الأحلام، فإذا كنا اليوم لا نمتلك إلا مساحة ضيقة من الأرض، في هذه الحديقة...، فان أحلامهم بالاستيلاء على الفضاءات مازالت قائمة!
فأجاب الآخر بحزن عميق:
ـ في المدى البعيد، يا صديقي، الكل أثير، وومضات تتخللها بقع رمادية، وإلا لدامت جمهورية النمل، أو إمبراطورية النوارس، أو دولة العصافير!
[43] مستقبل
عندما شاهد الأسد الفئران تتنزه، وتلهو، طليقة فوق العشب، لم يخف حشرجة كادت تمنعه من التنفس، فقال لمن كان يقف بجواره، خلف القضبان:
ـ في الأزمنة القديمة، كانوا يلعبون، ويرقصون، لكن برعايتنا! أما الآن، فقد أصبحوا لا يكترثون حتى لوجودنا!
قال الأخر بلا مبالاة:
ـ إنها ملهاة بدأت في البراري، والغابات، والمستنقعات، والوديان...،ولا اعتقد إنها ستدوم، إلى الأبد، في هذه الحديقة، لا لهم، ولا لنا...!
ـ حسمتها، هكذا ...، ببساطة؟
ـ لا، المستقبل هو من حسمها، شرط ان لا تنخدع بالأوهام، والتمويهات، والأكاذيب!
[44] التمساح والظبية
ـ قتلوا الجميع، جدي وجدتي، الأب والأم، ولم يبق، من الأولاد والبنات، إلا أنا ...، فقد أصابوني بجرح بالغ، فأسروني...، وها هم يشرفون على علاجي، وتخفيف آلامي...
وأضاف التمساح يخاطب الظبية الواقفة بجواره:
ـ بل سمعت إنهم سيأتون برفيقة لي للتخفيف من عزلتي...!
ضحكت الظبية:
ـ لكن ليس للانتقام، والعودة إلى عاداتكم القديمة.
ـ انتقم من من...، هل من الذين يشرفون على صحتي، وغذائي، ورفاهيتي؟
لم تقل الظبية له: اسكت، بل قالت:
ـ حتى انك لم تعد تتذكر ماذا فعلتم بنا؟
فأجاب التمساح بمرح:
ـ وهل ابقوا لنا ذاكرة...، يا أيتها الظبية الجميلة!
[45] حلم
قال النمر للدب، وهما يستعدان لأداء رقصة البلابل، أمام آلاف المشاهدين، وأمام عدسات المصورين:
ـ هناك، في البرية، كنا نتدرب على الجري، والمباهاة بحدة أنيابنا، وقوة مخالبنا...، عندما كان شعارنا: اقض على عدوك قبل ان يقض عليك، فمن لم يكن معنا، فلا يستحق إلا السحق!
فقال النمر:
ـ دعنا نؤدي أدوارنا، فنقوم بتسلية الناس، بأعمالنا البهلوانية، وفي الوقت نفسه، نتسلى بحضورهم هذا العجيب...، فأنت لا تعرف الآن من يتسلى بالآخر، أو عليه ...، على خلاف أزمنتنا الأولى: لا تعرف من يقتل من، عندما ساد قانون: حرب الجميع ضد الجميع! وشريعة: افترس جارك قبل ان يفترسك!
ضحك الدب:
ـ كأنك لا تريد ان تتطرق إلى الحروب المشتعلة بين الناس اليوم...؟
ـ آه يا صديقي، في الماضي كنا نقول: أنياب من اشد فتكا ً، الأسد أم التمساح أم النمر، وكنا نقول: مخالب من أقسى أهي مخالب الصقر أم قبضات فم الحوت....، أما الآن فلا أنت ولا أنا أدى رقصة البلابل إلا ونحن مازلنا نتدرب على القفز قليلا ً فوق الأرض!
ـ آ ...، هذا صحيح، للأسف.
قال الدب كمن يحدث نفسه:
ـ آ ...، طالما حلمت بالطيران.
فقال النمر بصوت وقور:
ـ عندما لا تستطيع التحليق عاليا ً، أيها الدب، فما عليك ان تستيقظ من الحلم!
[46] حرية
ـ أخبرني، يا سيدي، هل خُدعنا..؟
سأل الغزال الذئب، وهو يراه وحيدا ً يقبع خلف القضبان:
ـ لا! لا احد خدع احد!
فقال الغزال:
ـ ها أنا أتجول طليقا ً في هذه الحديقة، حتى لم اعد أشم رائحة الخوف، ولا البرد، ولا الموت...، ولا حتى بالذنب!
رفع الذئب رأسه قليلا ً وهو يتأمل الغزال، ليسأله:
ـ لا تشعر حتى بالذنب؟
ـ نعم، لكن ليس لأنك أصبحت أسيرا ً، وليس لأننا طلقاء...، بل لأن حياتنا أصبحت مثل الحلم، لا تعرف متى بدأت ومتى ستنتهي!
ـ وما الخطأ في الأمر..؟
ـ ان نستيقظ، في ذات يوم، ونراك طليقا ً، ليتم اصطيادنا ووضعنا خلف هذه القضبان!
ـ أتعرف أيها الغزال بماذا أفكر...؟
ـ نعم!
ـ بماذا؟
ـ ان لا يمتد بك زمن هذا الكابوس طويلا ً!
ـ لا.
ـ بماذا كنت تفكر إذا ً...؟
ـ لم أكن أفكر، ولم أكن احلم أيضا ً...، بل كنت أتساءل: كيف روّضت الكلاب وصارت تحميكم منا، وهي لا تكف عن التلويح بمعاقبتنا!
ـ الكلاب ....، أتراها ـ هي الأخرى ـ خُدعت ..؟
ـ المشكلة لا احد يريد الاعتراف بذلك...، ولا الذين أوقعونا في كمائنهم...، ولا حتى الذين يشرفون على حجزنا، وترويضنا، والتسلية بنا، بل في الذين يعتقدون إنهم وحدهم على صواب.
فقال الغزال:
ـ لا تكترث...، الجميع، سجناء هنا، وأكثرهم عبودية، كما ترى، هم الأحرار!
ـ لم افهم؟
ـ أنت ترغب بالعودة إلى البرية...، وهذا وحده يمدك بالصبر، وبالانتظار...، أما أنا، بعد ان منحت لي هذه الحرية، فماذا افعل بها؟
[47] ادوار
ـ هل تتخيل، يا صديقي الفيل، كيف أصبحت ترقص، بمهارة، وخفة، والناس يصفقون لك؟
ـ وأنت، يا صديقي النمر، تحظى بالإعجاب نفسه، فما ارشق جسدك، وهو يجذب أنظارهم!
قال النمر:
ـ بل حتى القطط، والقردة، والكلاب البرية، ومعنا هؤلاء البنات، والفتيان، يلعبون بمهارة فوق الحبال، ويجتازون الأقواس النارية!
صمت الفيل برهة، وأجاب متمتا ً:
ـ هذا مثال جيد للانتقال من الغابة إلى السيرك...، بدل حياتنا التي أمضيناها احدنا يفترس الآخر، ويهرب منه...، فها هنا أصبحنا كائنات ظريفة!
لم يجب النمر، فسأله الفيل:
ـ هل عدت تحلم بالعودة إلى الغابة، تحلم بالبرد، والبحث عن فريسة، وبالخوف من الوقوع في كمائن الصيادين، أو ان تمزق باقي الضواري جسدك الجميل؟
لم يجب النمر أيضا ً، فتابع الفيل:
ـ أم مازلت تفكر بزحف الإنسان على أراضينا، واحتلالها، وأسرنا، وتدمير أوكارنا؟
ـ لا! أنا لا أفكر في ما مضى، ولكنني لم اعد نمرا ً، كما كنت، وهذا كل ما في الأمر!
فقال الفيل حالا ً:
ـ ولا الإنسان مكث إنسانا ً أيضا ً!
ـ آ ...، ماذا قلت، فكلماتك بددت حزني ...؟
ـ لم اقل شيئا ً، بل ادعوك، أيها النمر الجميل، ان تثير إعجابي، وإعجاب هذه الملايين وهي تراقب وثباتك السحرية!
ـ شكرا ً، أيها الفيل الحكيم، وأنا انتظر ان أراك تحلق، حتى لو قليلا ً بعيدا ً عن الأرض!
[48] غياب
بعينين شاردتين، راقب الذئب كيف سحبوا جسدها من القفص، ووضعوه في العربة، ثم أوصدوا الباب الحديدي عليه. لم يقدر على فتح فمه، ولا حتى ان ينطق بكلمة وداع. كل ما فعله انه حشر جسده في زاوية مظلمة، وترك رأسه يستقر فوق التراب. فانا الآن لا أتذكر إلا كيف سقطنا في الكمين، الواحد بعد الآخر، أولا جدي ومن ثم جدتي، وبعد ذلك سقطت أمي الحبيبة مضرجة بدمها، والدي وحده توارى، وأشقائي قتلوا...، أنا هو من وقع في الشباك، ونقل ليوضع في القفص، أنا الوحيد الذي نجا، بعد هرب ولدي، من الموت. وأنت؟
ـ مثلك....
تذكرها تقول:
ـ رأيت المشهد ذاته كاملا ً!
سنوات لا يتذكر عددها، خلت، وأعقبتها سنوات.
سمع صوت الباب الحديدي يئز، أتراها تتألم، دار بباله، وهو يشاهد عمال الحديقة يدفعون بجسد جديد إلى داخل القفص. لم يرفع رأسه، ولا هي اقتربت.
سنوات أخرى مضت، تلتها سنوات، عندما رآها تجرجر جسدها وتذهب إلى المكان ذاته الذي قبع فيه، رآها تحدق في عينيه، من غير صوت، كأنها كانت تبحث عن كلمة، ولم تجدها، فتركت فمها منغلقا ً.
عندما همّ بالنهوض، أحس انه أصبح جزءا ً من الأرض، فراها تقترب منه:
ـ اعرف ...!
ذلك لأنه قرأ في عينيها قصة تماثل القصة التي حدثت، وأصبحت من الماضي. فأومأ لها ان تجلس بمحاذاته، ريثما لا تجد شيئا ً تنشغل به، عداه، وريثما لا يجد سواها، كي ينشغل بها، سواها، قبل أن تكون ساعة الغياب قد حانت. لأنه لا احد يقدر ان يؤكد، إن كانت المصادفات وحدها لها المغزى ذاته، الذي لا يمكن دحضه!
[49] ذكاء
قال الثعلب لشريكته القابعة معه في القفص:
ـ غريب أمر الناس، كلما ازدادوا قوة، وثراء ً، ومكرا ً، وذكاء ً، ازدادوا قسوة، وخساسة، وجورا ً!
ضحكت بفم نصف مفتوح:
ـ لسنا اقل قسوة، ومكرا ً، وجورا ً منهم!
ـ آ ....، يا ملعونة، حتى اقل الكائنات ذكاء ً، ومكرا ً، وبطشا ً...، لديها ما تتناهى به وتفتخر!
[50] كمين
سأل الأسد الحمار، من خلف قضبان القفص:
ـ وأنت ...، أيها الحمار، كيف وقعت في الأسر؟
ـ لا ...، أنا لم اشترك في الحرب، ولم أتورط في الدخول فيها.
فقال الأسد:
ـ ولا أنا.
فسأل الحمار الأسد:
ـ وأنت كيف وقعت في الأسر، كيف اصطادوك، لتشاركني هذا المصير؟
ـ أنا كنت أتتبع أصداء خطاك، وأتتبع رائحتك...، وأنت تتنزه في الغابة...، حتى أدركت، بعد فوات الأوان، إنهم جعلوا منك كمينا ً لي! فاصطادوني!
ضحك الحمار، وقال للأسد:
ـ القضية مازالت قائمة ...، فبدل أن تفترسني في الغابة، سيقدمون لحمي وليمة لك، هنا، في هذه الحديقة!
ـ مسكين...، أيها الحمار، أمضيت حياتك كلها تحمل أثقالهم، وتجر عرباتهم، وتحرث أرضهم، ثم بعد ذلك، يصنعون منك وليم لنا، أو يتركوك تموت كما تموت الكلاب السائبة!
عاد الحمار إلى الضحك بصوت أعلى، وبلا مبالاة:
ـ وتضحك، أيها الحمار، أيضا ً؟
ـ هذا هو الفارق بيننا، أيها الأسد العظيم، أنا أدركت الحكاية قبل أن تبدأ، لكنك لم تدركها حتى بعد أن تكون قد انتهت!
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)